ﰡ
[الجزء الثاني]
تفسير سورة آل عمرانبسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مدنيّة، بإجماع في ما علمت.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)قولُه جَلَّتْ قدرته: الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الأبْرَعُ في نَظْمِ الآيةِ أنّ يكون: اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ كلاماً مبتدأً جزماً جملةً رادةً على نصارَى نَجْرَانَ الذين وفَدُوا علَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَحَاجُّوهُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وقالوا: إِنَّهُ اللَّهُ على مَا هُوَ معلومٌ في السِّيَرِ، فنزل فيهم صَدْر هذه السورةِ إِلى نيِّفٍ «١» وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم صلّى الله عليه وسلّم إلى الابتهال.
وقد تقدَّم تفسيرُ قوله: الْحَيُّ الْقَيُّومُ في آية الكرسيِّ، والآيةُ هناك إِخبارٌ لجميعِ الناسِ، وكُرِّرتْ هنا إخباراً بحجج هؤلاءِ النصارى، ويردُّ عليهم إِذ هذه الصفاتُ لا يمكنهم ادعاؤها لعيسى- عليه السلام- لأنهم إِذ يقولُون: إِنه صُلِبَ، فذلك مَوْتٌ في معتقَدِهِمْ، وإِذْ من البيِّن أنَّه ليس بقَيُّومٍ.
وقراءة الجمهور «القَيُّوم»، وقرىء خارجَ السَّبْعِ: «القَيَّامُ» و «القَيِّمُ» «٢»، وهذا كلُّه مِنْ: قَامَ بالأَمْرِ يقُومُ به، إِذا اضطلع بحفْظِهِ، وبجميعِ ما يحتاجُ إليه في وجوده، فالله تعالى
ينظر: «لسان العرب» (٤٥٨٠) (نوف).
(٢) قرأ «الحيّ القيّام» كل من عمر، وعثمان، وابن مسعود، والنخعي، والأعمش، وأصحاب عبد الله، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، وأبي رجاء بخلاف، ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ «الحيّ القيّم» علقمة بن قيس. كما في «مختصر الشواذ» (ص ٢٥)، و «المحتسب» (١/ ١٥١)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٣٩٧).
ت: وقد تقدَّم ما نقلْناه في هذا الاِسم الشريفِ أنه اسمُ اللَّهِ الأعظمُ، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب الترمذيِّ عَنْ أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنَّهُ كَانَ إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ، قَالَ:
«يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، بِرَحْمَتِكَ أسْتَغِيثُ»، قَالَ الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحُ الإِسناد «١». اهـ.
قال صاحب «سلاح المؤمن» : وعنْ عليٍّ- رضي اللَّه عنه-، قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَاتَلْتُ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، ثمَّ جئْتُ إلى رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أنظر ما صنع فجئت، فإذا هو ب سَاجِدٌ يَقُولُ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ»، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى القِتَالِ/، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ لاَ يَزِيدُ على ذَلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ ذَلِكَ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ» رواه النِّسائِيُّ، والحاكمُ في «المستدرك»، واللفظ للنسائِيِّ «٢».
وعن أسماء بنتِ يَزيد «٣» - رضي الله عنها- أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «اسم اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لاَّ إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ:
الم اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» رواه أبو داود، واللفظُ له، والترمذيُّ، وابن ماجة «٤»، وقال التّرمذيّ: هذا حديث حسن صحيح.
(٢) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦/ ١٥٦- ١٥٧)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب الاستنصار عند اللقاء، حديث (١٠٤٤٧). والحاكم (١/ ٢٢٢)، من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن إسماعيل بن عون بن عبيد الله بن أبي رافع، عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه محمد بن عمر بن علي عن علي به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي، فقال: ابن موهب اختلف قولهم فيه، وإسماعيل فيه جهالة.
(٣) هي: أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث.. أم سلمة، الأنصارية، الأوسية، الأشهلية. خطيبة النساء.
قال ابن حجر في «الإصابة» : روت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عدة أحاديث، وعند أبي داود بسند حسن عنها قالت:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تقتلوا أولادكم سرا إنه ليدرك الفارس فيدعثره عن فرسه».
ينظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (٧/ ١٨، ١٩)، «الإصابة» (٨/ ١٢)، «الثقات» (٣/ ٢٣)، «الاستيعاب» (٤/ ١٧٨٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٢٤٥)، «أعلام النساء» (١/ ٥٣)، «حلية الأولياء» (٢/ ٧٦)، «خلاصة تذهيب تهذيب الكمال» (٣/ ٣٧٥)، «الكاشف» (٣/ ٦٤)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٧٨)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٣٩٩)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٥٨٩)، «بقي بن مخلد» (٤٢).
(٤) أخرجه أبو داود (١/ ٤٧٠)، كتاب «الصلاة»، باب الدعاء، حديث (١٤٩٦)، والترمذي (٥/ ٥١٧)، كتاب «الدعوات»، حديث (٣٤٧٨)، وابن ماجة (٢/ ١٢٦٧)، كتاب «الدعاء»، باب اسم الله الأعظم، -
وقوله: بِالْحَقِّ: يحتملُ معنيَيْنِ:
أحدهما: أنْ يكون المعنى: ضُمِّنَ الحقائقَ في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه.
والثانِي: أنْ يكون المعنى: أنه نَزَّلَ الكتابَ باستحقاق أنْ يُنَزَّل لما فيه من المصلحةِ الشاملة، وليس ذلك على أنه واجبٌ على اللَّه تعالى أنْ يفعله.
ت: أي: إِذْ لا يجبُ عَلَى اللَّه سبحانه فعْلٌ قال ع «٢» : فالباءِ، في هذا المعنى: على حدِّ قوله: سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة: ١١٦]. وقيل: معنى: بِالْحَقِّ: أيْ: مِمَّا اختلف فيه أهْلُ الكتابِ، واضطرب فيه هؤلاءِ النصارَى الوافِدُونَ.
قال ع «٣» : وهذا داخلٌ في المعنى الأول.
وقوله: مُصَدِّقاً: حالٌ مؤكِّدة لأنه لا يمكن أنْ يكون غير مصدِّقٍ، لما بين يديه من كتب الله سبحانه، ولِما بَيْنَ يَدَيْهِ: هي التوراةُ والإِنجيلُ وسائرُ كُتُبِ اللَّه التي تُلُقِّيَتْ من شرعنا.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلُ: يعني: من قبل القرآن.
وقوله: هُدىً لِلنَّاسِ: معناه: دُعَاءٌ، والنَّاسُ: بنو إِسرائيل في هذا الموضع، وإن
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وشهر بن حوشب صدوق، كثير الإرسال والأوهام.
ينظر: «التقريب» (١/ ٣٥٥).
(١) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٢٦٧)، كتاب «الدعاء»، باب اسم الله الأعظم، حديث (٣٨٥٦). والطبراني في «الكبير» (٨/ ٢١٤)، من طريق عيسى بن موسى، عن غيلان بن أنس، عن القاسم، عن أبي أمامة مرفوعا.
قال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٠٤) : هذا إسناد فيه مقال غيلان لم أر من جرحه، ولا من وثّقه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٣٩٧).
(٣) ينظر: المصدر السابق.
معناه: غالبٌ، والنقمة والاِنتقام: معاقبةُ المذْنِبِ بمبالغةٍ في ذلك.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥ الى ٧]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ: هذه الآية خَبَرٌ عن علْمِ اللَّه تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفةٌ لَمْ تكُنْ لعيسى، ولا لأحدٍ من المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تَصْويره للبَشَرِ في أرحامِ الأمَّهاتِ، وهذا أمر لا ينكرُهُ عاقلٌ، ولا ينكر أنَّ عيسى وسائر البَشَر لا يقْدِرُونَ عليه، ولا ينكر أنَّ عيسى من المصوَّرِينَ كغيره من سائرِ البَشَر، فهذه الآية تعظيمٌ للَّه جلَّتْ قُدْرته في ضِمْنِها الرَّدُّ على نصارى نَجْران، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ: وعيد، وشرح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كيفيَّة التصْويرِ في الحديثِ الَّذي رواه ابنُ مَسْعُودٍ وغيره «أنَّ النُّطْفَةَ، إِذَا وَقَعَتْ فِي الرَّحِمِ، مَكَثَتْ نُطْفَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ تَكُونُ عَلَقَةً أَرْبَعِينَ يَوْماً، ثُمَّ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إلَيْهَا مَلَكاً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَذَكَرْ/ أَمْ أنثى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ... » الحديث بطوله على اختلاف ألفاظه «١»، وفي مسندِ ابن «سِنْجَر» حديثٌ «أنَّ اللَّهَ سُبْحَانه يَخْلُقُ عِظَامَ الجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ، وَلَحْمَهُ وَشَحْمَهُ وَسَائِرَ ذَلِكَ مِنْ مَنِيِّ المَرْأَةِ»، وَصَوَّرَ: بناءُ مبالغةٍ من صَارَ يَصُورُ، إِذا أمال وثنى إلى حالٍ مَّا، فلما كان التصويرُ إمالةً إلى حال، وإِثباتاً فيها، جاء بناؤه على المُبَالغة، والكتابُ في هذه الآية: القرآن، بإِجماع، والمُحْكَمَاتُ:
المفصَّلات المبيَّنات الثابتَاتُ الأحكامِ، والمُتَشَابِهَاتُ: هي التي تحتاجُ إِلى نظر وتأويلٍ، ويظهر فيها ببَادِي النَّظَرِ: إِما تَعَارُضٌ مع أخرى، وإما مع العَقْل إِلى غير ذلك من أنواع التشابه، فهذا الشَّبَه الذي من أجله تُوصَفُ بمتشابهات، إِنما هو بينها وبيْنَ المعانِي الفاسدة الَّتي يظنُّها أهْلُ الزيغِ، ومَنْ لم يُنْعِمِ النظَرَ، وهذا نحوُ الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«الحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ» «٢»، أي: يكون الشيء حراما في نفسه،
(٢) ورد ذلك من حديث النعمان بن بشير، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله. -
باب اجتناب الشبهات في الكسب. والترمذي (٣/ ٥١١) في البيوع: باب ما جاء في ترك الشبهات (١٢٠٥). وابن ماجة (٢/ ١٣١٨) في الفتن، باب الوقوف عند الشبهات (٣٩٨٤)، وأحمد (٤/ ٢٦٩، ٢٧٠)، والدارمي (٢/ ٢٤٥) في البيوع، باب في الحلال بين، والحرام بين. والحميدي (٩١٨)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ٣٢٤)، والبيهقي (٥/ ٢٦٤) في البيوع: باب طلب الحلال، واجتناب الشهوات، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٢٦٩- ٢٧٠)، والسهمي في «تاريخ جرجان» (ص ٣١٧).
والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٤/ ٢٠٧) في البيوع: باب الاتقاء عن الشبهات (٢٠٢٤)، من طرق عن الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وإذا فسدت فسد الجسد كله. إلا وهي القلب».
وأخرجه أحمد (٤/ ٢٦٧)، ثنا هاشم بن القاسم، ثنا شيبان، عن عاصم، عن خيثمة. والشعبي عن النعمان مرفوعا بنحوه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث عمار بن ياسر، فأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (١٦٥٣). والطبراني في «الكبير»، و «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (٤/ ٧٦)، من طريق موسى بن عبيدة، أخبرني سعد بن إبراهيم عمن أخبره، عن عمار بن ياسر رفعه: «إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما شبهات. من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن يوقع فيهن يوشك أن يواقع الكبائر، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى».
وقال الهيثمي (٤/ ٧٦، ١٠/ ٢٩٦) : فيه موسى بن عبيدة، وهو متروك. وقال الحافظ في «المطالب» (١٢٥٤) : إسناده ضعيف.
وأما حديث ابن عباس، فأخرجه الطبراني في «الكبير» (١٠/ ٤٠٤) برقم (١٠٨٢٤)، من طريق الوليد بن شجاع، حدثني أبي، ثنا سابق الجزري أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب أخبره عن عبد الرحمن بن الحارث، عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك شبهات. فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه، كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام».
قال الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٩٧) فيه سابق الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وأما حديث جابر، فأخرجه الخطيب في «التاريخ» (٦/ ٧٠)، من طريق سعيد بن زكريا المدائني، حدثنا الزبير بن-
أن المُحْكَمَاتِ هي الَّتِي فيهن حُجَّةُ الربِّ، وعصمةُ العبادِ، ودفْعُ الخصومِ والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمَّا وضعْنَ عليه، والمُتَشَابِهَاتُ: لها تصريفٌ وتحريفٌ، وتأويلٌ ابتلى اللَّه فيهنَّ العباد «٣»، قال ابن الحاجِبِ في «منتهَى الوُصُولِ» : مسألةٌ في القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فالمُحُكَمُ:
المتَّضِح المعنى، قال الرهوني: يعني نَصًّا كان أو ظَاهِراً، والمُتَشَابَهُ: مقابله إمَّا للاشتراك مثل: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨]، أو للإجمالِ مثلُ: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: ٢٣٧] وما ظاهره التّشبيه مثل: مِنْ رُوحِي [ص: ٧٢]، وأَيْدِينا [يس: ٧١]، وبِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وبِيَمِينِهِ [الزمر: ٦٧]، ويَسْتَهْزِئُ [البقرة: ١٥]، ومَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: ٥٤] ونحوه، والظاهرُ: الوقْفُ على: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لأن الخطاب بما لا يُفْهَمُ بعيدٌ. انتهى.
قال الرهونيُّ: وسمِّي ما ذكر «مُتَشَابِهاً» لاشتباهه على السامِعِ، قال الرهونيُّ:
والحقُّ الوقْفُ على: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وهو المرويُّ عن جماعة منهم: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ عمر، وابنْ مسعودٍ، ومالكٌ، وغيرهم، وفي مُصْحَفِ أُبِيٍّ: «وما يعلم تأويلَهُ إلاَّ اللَّه ويقول الراسخونَ [في العلْمِ] «٤» آمنا بِه» «٥». اهـ.
وقوله تعالى: هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، أي: معظم الكتاب، وعُمْدة ما فيه: إذ المُحْكَم في آياتِ اللَّه كثيرٌ قد فُصِّلَ، ولم يفرَّطْ في شيء منه، قال يَحْيَى بْنُ يعمر «٦» : كما يقال
ثم قال: أخبرنا أحمد بن أبي جعفر أخبرنا محمد بن عدي البصري- في كتابه- حدثنا أبو عبيد محمد بن علي الآجري قال: سألت أبا داود عن سعيد بن زكريا المدائني فقال: سألت يحيى عنه فقال:
ليس بشيء.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠١).
(٢) محمد بن جعفر بن الزّبير بن العوّام الأسدي، عن عمه عروة، وابن عمه عبّاد بن عبد الله، وعنه عبيد الله بن أبي جعفر، وابن إسحاق، وجماعة، وثقه النسائي.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٣٨٨).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ١٧٤) برقم (٦٥٨٤)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٦٩)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٠١).
(٤) سقط في: أ.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١/ ١٨٣) برقم (٦٦٢٤) وعبد الرزاق (١/ ١١٦).
(٦) يحيى بن يعمر القيسي، الجدلي العدواني البصري، عن أبي ذر وأبي هريرة، وعلي، وعمّار، وعائشة، -
قال ع «١» : وكما يقالُ: أمُّ الرَّأْس لمجتمع الشؤونِ، فجميع المحكَمِ هو أم الكتابِ، ومعنى الآية الإِنْحَاءُ على أهل الزيْغِ، والمذمَّةُ لهم، والإِشارة بذلك أولاً إلى نصارى نَجْرَانَ، وإلى اليهودِ الذين كانوا معاصِرِينَ لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، فإِنهم كانوا يعترضُون معانِيَ القُرآن، ثم يعم بعد ذلك كلِّ زائغ، فذكر تعالى أنه نزّل الكتاب/ على نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم إِفضالاً منه، ونعمةً وأنَّ مُحْكَمَه وبَيِّنَهُ الَّذي لا اعتراض فيه هو معظمه، والغالِبُ فيه وأنَّ متشابهه الذي يحتملُ التَّأْوِيلَ، ويحتاجُ إِلى التفهُّم هو أقلُّه، ثم إِن أهل الزيغ يتركُونَ المحكَمَ الذي فيه غُنْيَتهم، ويتبعونَ المتشَابِه ابتغاء الفِتْنَةِ، وأنْ يفسدوا ذاتَ البَيْن، ويردوا النَّاس إِلى زيغهم.
م: قال أبو البقاءِ: وَأُخَرُ: معطوف على آياتٌ، ومُتَشابِهاتٌ: نعت ل أُخَرُ.
وقوله تعالى: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ: يعمُّ كل طائفةٍ من كافرٍ وزنديق وجاهل صاحب بدعة، والزيغ: الميل، وابْتِغاءَ: نصبٌ على المفعولِ من أجله، ومعناه: طلبُ الفِتْنَة، قال الربيع: الفِتْنَة هنا الشرْكُ، وقال مجاهدٌ: الفتْنَةُ: الشبهاتُ، واللَّبْسُ على المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويلِهِ، والتأويل هو مَرَدُّ الكلامِ، وَمَرْجِعُهُ، والشيء الذي يقفُ علَيْه من المعانِي، وهو من: آلَ يَئولُ، إذا رجع، فالمعنى: وطَلَبَ تأويلِهِ على مَنَازِعِهِمُ الفاسدَةِ، هذا في ما له تأويلٌ حسنٌ، وإن كان ممَّا لا يتأوَّل، بل يوقَفُ فيه، كالكلامِ في معنَى الرُّوح ونحوه، فنَفْسُ طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، أي: وما يعلم تأويله على الكَمَال إلا اللَّه سبحانه.
واختلف في قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، فرأَتْ فرقةٌ أنَّ رفْعَ الراسخين هو بالعطْفِ على اسْمِ اللَّهِ (عَزَّ وجلَّ) وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولونَ: آمَنَّا بِهِ، وقالتْ طائفةٌ أخرى: والراسخُونَ: رفْع بالابتداء، وهو مقطوعٌ من الكلامِ الأول، وخبره «يَقُولُونَ»، والمنفَردُ بعلْم المتشابه هو اللَّه وحده.
قال أبو داود: لم يسمع من عائشة، وثقه أبو حامد، توفي قبل التسعين «بخراسان».
ينظر: «الخلاصة» (٣/ ١٦٤- ١٦٥).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠١).
فقالَ: «مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسَانُهُ، / واستقام بِهِ قَلْبُهُ، وعَفَّ بَطْنُهُ، فَذَلِكَ الرَّاسِخُ فِي العِلْمِ» قال ابنُ رُشْدٍ: ويشهد لصحَّة هذا قولُ اللَّهِ (عز وجل) : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] لأنه كَلاَمٌ يدُلُّ عَلى أنَّ مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّه، فَلَيْسَ بعالمٍ. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضْلِ العلْمِ آثارٌ كثيرةٌ، فمن أحسنها: ما رواه أبو عُمَرَ بْنُ عبدِ البَرِّ بسنده، عن معاذِ بنِ جَبلٍ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَعَلَّمُوا العِلْمَ فَإِنَّ تَعْلِيمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سُبُلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وهو الأنيسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الغُرْبَةِ، وَالمُحْدِّثُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاَحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزِّيْنُ عِنْدَ الأَخِلاَّءِ، وَيَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَاماً فَيَجْعَلُهُمْ فِي الخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، ويقتدى بِفِعَالِهِمْ، وينتهى إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلّتهم،
(٢) أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ١٧٧- ١٧٨) رقم (٧٦٥٨)، من طريق عبد الله بن يزيد بن آدم، حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٦/ ٣٢٧)، وقال: وفيه عبد الله بن يزيد، وهو ضعيف.
وقوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا: فيه ضميرٌ عائدٌ على كتاب اللَّه مُحْكَمِهِ ومتشَابِهِهِ، والتقديرُ: كلُّه من عنْدِ ربِّنا.
ثم قال تعالى: وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ، أي: ما يقول هذا، ويؤمن ويقفُ حيثُ وُقِّفَ، ويدع اتباع المتشابهِ إلاَّ ذُو لُبٍّ، وهو العقْلُ و «أُولُو» : جمع: «ذو».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨ الى ١١]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
وقوله تعالى: رَبَّنا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا... الآية: لمَّا ذكر اللَّه سبحانه أهلَ الزيْغِ، وذكَرَ نقيضهم، وظهر ما بَيْن الحالَتَيْنِ، عقَّب ذلك بأنْ علَّم عباده الدعاء إلَيْه في ألاَّ يكونوا من الطائفَةِ الذميمَةِ الَّتي ذُكِرَتْ، وهم أهلْ الزيْغِ، ويحتمل أنْ يكون هذا من تمام قول الراسخين، وتُزِغْ: معناه: تمل قلوبنا عن الهدى والحقّ، ومِنْ لَدُنْكَ: معناه: من عِنْدِكَ تَفَضُّلاً، لا عن سَبَبٍ منَّا، ولاَ عَمَلٍ، وفي هذا استسلامٌ وتطارُحٌ، والمرادُ: هَبْ لنا نعيماً صادراً عن الرحمة.
وقوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ: إِقرار بالبَعْثِ ليومِ القيامة،
(٢) ينظر: المصدر السابق.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعادَ، يحتمل: أنْ يكون إِخباراً منه سبحانه لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، ويحتملُ: أنْ يكون حكايةً مِنْ قول/ الداعين، ففي ذلك إِقرارٌ بصفة ذاتِ اللَّه تعالى، والميعادُ: من الوَعْد.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً... الآية: الإِشارة بالآيةِ إلى معاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يفْخَرُون بأموالهم وأبنائهم، وهي بَعْدُ متناوِلَةٌ كلَّ كافرٍ، والوَقُود بفتحِ الواوِ: كلُّ ما يحترق في النار من حَطَبٍ ونحوه، والدَّأْبُ، والدَّأَبُ بسكون الهمزة وفتحها: مصدرُ: دَأَبَ يَدْأَبُ، إذا لازم فعل شيءٍ، ودام عليه مجتهداً فيه، ويقال للعادة دَأْبٌ، والمعنى في الآية: تشبيهُ هؤلاء في لزومهم الكُفْر ودوامِهِم عليه بأولئك المتقدِّمين، وآخر الآية يقتضي الوعيدَ بأنْ يصيب هؤلاءِ ما أصَابَ أولئك، والكافُ في قوله: كَدَأْبِ في موضعِ رفعٍ، والتقدير: دَأْبُهُمْ كَدَأْبِ، والضمير في قَبْلِهِمْ عائد على آلِ فِرْعَوْنَ، ويحتمل: على معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار.
وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا: يحتمل: أنْ يريد المتلوَّة، ويحتمل أن يريد العلاماتِ المنصوبَةَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ... الآية: اختلف في تعيين هؤلاء الذين أمر صلّى الله عليه وسلّم بالقَوْل لهم:
فقيل: هم جميعُ معاصريه أمر أنْ يقول لهم هذا الذي فيه إعلامٌ بغَيْب، فوقع بحَمْدِ اللَّه كذلك، فغُلِبُوا، وصار مَنْ مات منهم على الكُفْرِ إلى جهنم.
وتظاهرتْ رواياتٌ عن ابن عبَّاس وغيره بأنَّ المراد يهودُ المدينةِ، لما قَدِمَ رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم من غزوة بَدْرٍ، جمعهم، وقال: «يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً»، فقالوا: يَا مُحَمَّدُ، لاَ تَغُرَّنَّكَ نَفْسُكَ أَنْ قَتَلْتَ نَفَراً مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا أَغْمَاراً لاَ يَعْرِفُونَ القِتَالَ، إِنَّكَ لَوْ قَاتَلْتَنَا، لَعَرَفْتَ أَنَّا نحْنُ النَّاسُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ هذه الآية» «١»
وقوله تعالى: وَبِئْسَ الْمِهادُ: يعني: جهنَّم هذا ظاهر الآية، وقال مجاهدٌ:
المعنى: بِئْسَ ما مهدوا لأنفسهم «١».
قال ع «٢» : فكان المعنى: وبئس فعْلُهُم الذي أدَّاهم إِلى جهنَّم.
وقوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ... الآيةُ تحتملُ أنْ يخاطب بها المؤمنون تثبيتاً لنفوسهم، وتشجيعاً لها، وأن يُخَاطَبَ بها جميعُ الكُفَّار، وأنْ يخاطب بها يهودُ المدينةِ، وبكلِّ احتمال منْها قد قال قومٌ، وقرىء شاذًّا: «تَروْنَهُمْ» بضم التاء «٣» فكأن معناها أنَّ اعتقادَ التضْعيف في جَمْعِ الكفَّار إنما كان تخميناً وظَنًّا لا يقيناً، وذلك أنَّ «أرى» بضم الهمزة: تقولها فيما بَقِيَ عندك فيه نَظَرٌ، وأرى بفتح الهمزةِ: تقولها في ما قد صَحَّ نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفَتْحِ «٤»، وهو صحيحٌ، والمراد بالفئتَيْنِ: جماعةُ المؤمنين، وجماعةُ الكفَّار ببَدْرٍ.
قال ع «٥» : ولا خلاف أن الإِشارة بهاتين الفئَتَيْنِ هي إلى يوم بدر ويُؤَيِّدُ:
معناه يقوّي من «الأيد»، وهو القوّة.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٦)، وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وفاته أن يعزوه إلى أبي داود.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ١٩٢) برقم (٦٦٦٨)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٧٤)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٠٦).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠٦).
(٣) وقرأ بها أبان عن عاصم، وأبو عبد الرحمن السلمي، كما في «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠٦)، و «البحر المحيط» (٢/ ٤١١). وقد نسبها ابن جني في «المحتسب» (١/ ١٥٤) إلى ابن عباس، وطلحة بن مصرف، وقال: قراءة حسنة.
(٤) أبو الفتح عثمان بن يزيد بن جني، من حذاق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف- تلمذ على أبي علي الفارسي، من تصانيفه «الخصائص»، «سر صناعة الإعراب»، «المحتسب»، «اللمع» مات سنة ٣٩٢ هـ.
ينظر: «بغية الوعاة» (٢/ ١٣٢).
(٥) ينظر «المحرر الوجيز» (١/ ٤٠٧).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤ الى ١٧]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ... الآيةُ: هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ، والشهواتُ ذميمةٌ، واتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مهلكة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ» «١»، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا، فمَنْ واقعها، خلص إِلى النَّار، قلْتُ: وقد جاءت إحاديثٌ/ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير، فعلَيْكَ بتحصيله، فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ: البخاريِّ، ومسلمٍ، وأبي داود، والتِّرمذيِّ، والنَّسائِيِّ، وابنِ مَاجَة، فهذه أصول الإِسلام، ثم مِنْ غيرها كصحيح ابن حِبَّانَ، وصحيح الحاكمِ، أعني: «المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ»، وأَبِي عَوَانَةَ، وابْنِ خُزَيْمَةَ، والدَّارِمِيِّ، وَالمُوَطَّإِ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر، ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نقل الأحاديث:
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وله شاهد من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (١١/ ٣٢٧) كتاب «الرقاق»، باب حجبت النار بالشهوات، حديث (٦٤٨٧)، ومسلم (٤/ ٢١٧٤)، كتاب «الجنة»، حديث (١/ ٢٨٢٣)، وأحمد (٢/ ٢٦٠)، وابن حبان (٧١٩). كلهم من طريق أبي الزِّنَادِ، عن الأعرج، عن أبي هريرة به.
وعند البخاري: «حجبت» بدلا من «حفت».
وأخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» (٥٦٧)، من طريق مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث صالح بن حسان، وسمعت محمدا يقول:
صالح بن حسان منكر الحديث.
وقال البيهقي: تفرد به صالح بن حسان، وليس بالقوي، ورواه الحسن بن حماد، عن إبراهيم بن عيينة، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ورواه أبو يحيى الحماني، عن صالح عن عروة، وقيل: عنه، عن صالح، عن هشام بن عروة.
أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد.
وقد تعقبه الذهبي فقال: الوراق عدم.
وفي كلامهما نظر، أما تصحيحه فليس بصحيح كما مر، وكما سيأتي. أما تعليله بالوراق فقد توبع كما سيأتي لتنحصر العلة في صالح بن حسان.
فأخرجه الترمذي (٤/ ٢٤٥)، كتاب «اللباس»، باب ما جاء في ترقيع الثوب حديث (١٧٨٠)، وابن السني في «القناعة» برقم (٥٥)، وابن عدي في «الكامل» (٤/ ١٣٧٠). وابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٣٩- ١٤٠)، من طريق أبي يحيى الحماني، عن صالح بن حسان، عن عروة، عن عائشة به.
وقال ابن عدي: وقد رواه بعضهم عن أبي يحيى الحماني، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. ومن قال: عن صالح عن عروة. أصح.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، قال يحيى بن معين: صالح بن حسان ليس حديثه بشيء، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات والحديث أخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (١/ ٨٩)، من طريق حفص بن غياث، عن صالح، عن عروة، عن عائشة.
وأخرجه ابن السني في «القناعة» رقم (٥٦)، من طريق إبراهيم بن عيينة، عن صالح بن حسان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به.
والحديث ذكره الهندي في «الكنز» (٣/ ٧٣٠- ٧٣١) رقم (٨٥٩٨). وزاد نسبته إلى ابن الأعرابي في «الزهد»، والحديث ضعفه المنذري في «الترغيب» (٤/ ٦٤).
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ٤٧٤- ٤٧٥)، كتاب «الترجل»، حديث (٤١٦١)، من طريق عبد الله بن أبي أمامة، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبي أمامة به.
وقال أبو داود: هو أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري.
وقوله: الْمُقَنْطَرَةِ، قال الطبريُّ «٢» : معناه: المُضَعَّفة، وقال الربيعُ: المالُ الكثيرُ بعْضُه على بعض «٣».
ص: الْمُقَنْطَرَةِ: مُفَعْلَلَة، أو مُفَنْعَلَة مِن القنطار، ومعناه: المجتمعة.
م: أبو البقاء: ومِنَ الذَّهَبِ: في موضعِ الحالِ من الْمُقَنْطَرَةِ اهـ.
وقوله: الْمُسَوَّمَةِ: قال مجاهدٌ: معناه المُطَهَّمة الحِسَان «٤»، وقال ابن عبَّاس وغيره: معناه: الراعيَةُ «٥»، وقيل: المُعَدَّة، وَالْأَنْعامِ: الأصنافُ الأربعةُ: الإِبلُ، والبَقَرُ، والضَّأْنُ، والمَعْز.
ص: والأنعامُ: واحدُها نَعَمٌ، والنَّعَمُ: الإِبل فقَطْ، وإِذا جُمِعَ، انطلق على الإِبلِ والبقرِ والغنمِ. اهـ.
وَالْحَرْثِ: هنا اسمٌ لكلِّ ما يُحْرَثُ من حَبٍّ وغيره، والمَتَاعُ: ما يستمتعُ به، وينتفع مدّة ما منحصرة، والْمَآبِ: المَرْجِعُ، فمعنى الآية: تقليلُ أمر الدُّنيا وتحقيرُها، والترغيبُ في حُسْن المَرْجِع إِلى اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ... الآية: في هذه الآية تَسْلِيَةٌ عن الدنيا، وتقويةٌ لنفوسِ تاركيها ذَكَر تعالى حالَ الدُّنْيا، وكَيْف استقر تزيينُ شهواتها، ثم جاء بالإِنباءِ بخَيْرٍ من ذلك هَازًّا للنفُوس، وجامعاً لها لتَسْمَعَ هذا النبأَ المستغْرَبَ النافع لمن عقل، وأنبّىء: معناه: أخبر.
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٢٠١).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٠١) برقم (٦٧٢٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٩)، وعزاه لابن جرير. [.....]
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٠٣) برقم (٦٧٣٦)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٧٧) بنحوه، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٠٢) برقم (٦٧٣١)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٠٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٩)، وعزاه لابن أبي حاتم.
وباقي الآية بيِّن، وقد تقدَّم في سورة البقرة بيانُهُ.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا... الآية: «الَّذِينَ» : بدلٌ من «الَّذِينَ اتقوا»، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودِينَ بالجَنَّات، والصَّبْرُ في هذه الآية: معناه: على الطَّاعاتِ، وعن المعاصي والشهواتِ، والصِّدْقُ:
معناه: في الأقوالِ والأفعالِ، والقُنُوتُ: الطاعةُ والدعاءُ أيضاً، وبكلِّ ذلك يتصف المتَّقِي، والإِنْفَاقُ: معناه: في سبِيلِ اللَّه ومَظَانِّ الأجر، والاِستغفارُ: طلبُ المَغْفرة من اللَّه سبحانه، وخصَّ تعالى السَّحَر لما فيه من الفَضْل حسْبَما وَرَدَ فيه مِنْ صحيحِ الأحاديثِ كحديث النُّزُول: «هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، فَأَغْفِرَ لَهُ» »
، إِلى غير ذلك ممَّا ورد في فَضْله.
قلت: تنبيهٌ: قال القرطبيُّ في «تذكرته»، وقد جاء حديثُ النزولِ مفسَّراً مبيَّناً في ما خرَّجه النسائِيُّ عن أبي هُرَيْرة، وأبي سَعِيدٍ، قَالاَ: قَالَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُمْهِلُ حتى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّل، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِياً يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ يعطى»، صحّحه أبو محمّد عبد الحقّ «٤». اهـ.
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٧/ ١٧٤).
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٢٩)، كتاب «التهجد»، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، حديث (١١٤٥) ومسلم (١/ ٥٢٢) كتاب «صلاة المسافرين»، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل حديث (١٦٨، ١٦٩/ ٧٥٨) وأبو داود (١/ ٤٢٠)، كتاب «الصلاة»، باب أي الليل أفضل؟، حديث (١٣١٥) والترمذي (٥/ ٥٢٦)، كتاب «الدعوات»، باب (٧٩) حديث (٣٤٩٨) وأحمد (٢/ ٤٨٧) والبيهقي (٣/ ٢) من حديث أبي هريرة.
(٤) ينظر الحديث السابق.
قَالَ: «إِنَّ نُزُولَ اللَّهِ تعالى إِلَى الشَّيْءِ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ» «٢». اهـ.
والسَّحَر: آخرُ الليل، قال نافِعٌ: «كان ابْنُ عُمَرَ يُحْيِي الليْلَ صلاةً، ثم يقولُ: يا نَافِعُ، أسْحَرْنَا، فأقول: لاَ، فَيُعَاوِدُ الصَّلاة، ثم يسأل، فَإِذا قُلْتُ: نَعَمْ، قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ».
قال ع «٣» : وحقيقةُ السَّحَرِ في هذه الأحكامِ الشرعيَّة من الاستغفار المحمودِ، وسُحُورِ الصَّائِمِ، ومِنْ يَمِين لَوْ وَقَعَتْ، إنما هي مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخر إلى الفجر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
توفي سنة (٣١) ب «المدينة».
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٤٨٠)، «الإصابة» (٤/ ١٧٦)، «الاستيعاب» (٢/ ٨٤٤)، «الاستبصار» (١١٤، ١٢٦)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٥٣)، «عنوان النجابة» (١٣١)، «الرياض المستطابة» (١٧٦)، «الأعلام» (٣/ ٣٢١)، «التاريخ الكبير» (٥/ ٢٣٩)، «التاريخ الصغير» (١/ ٥٠)، «العبر» (١/ ٣٣)، «الكاشف» (٢/ ١٧٩)، «بقي بن مخلد» (٥٣)، «تاريخ الإسلام» (٣/ ٢٢١)، «الرياض النضرة» (٢/ ٣٧٦)، «البداية والنهاية» (٧/ ١٦٣)، «سير أعلام النبلاء» (١/ ٦٨)، «شذرات الذهب» (١/ ٢٥، ٣٨، ٦٢)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٥٢٤)، «تهذيب الكمال» (٢/ ٨٠٩)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٩٤)، «العقد الثمين» (٥/ ٣٩٦).
(٢) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٢/ ٢٤٦). وقال الذهبي في «الميزان» (٥٠٨٣) : إسناد مظلم، ومتن مختلق، وقال ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (١/ ١٣٨) : وفيه عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البقال، وبحر بن كنيز السقا، وعبد الكريم بن روح. قال الذهبي في «تلخيص الموضوعات» : هم ظلمات متروكون.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤١٢).
وأسند أبو عُمَرَ بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» عن غالبٍ القَطَّان، قَالَ: كُنْتُ أختلِفُ إِلى الأَعْمَشِ، فرأيته ليلةً قَامَ يتهجَّد من الليل، وقرأ بهذه الآية: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ قال الأعمش: وأنا أشْهَدُ بما شَهِدَ اللَّه به، وأسْتَوْدِعُ اللَّهَ هذه الشهادةَ، فقلْتُ للأعمش: إِني سمعتُكَ تقرأُ هذه الآية تردِّدها، فما بَلَغَكَ فيها؟ قال: حدَّثني أبو وَائِلٍ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: عَبْدِي عهدَ إلَيَّ، وَأَنَا أَحَقُّ مِنْ وفى بِالعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي/ الجَنَّةَ» «١». اهـ.
وقرأ جميعُ القرَّاء «أَنَّهُ» بفتح الهمزةِ وبكَسْرها من قوله: إِنَّ الدِّينَ على استئناف الكلامِ، وقرأ الكِسَائيُّ وحْده: «أَنَّ الدِّينَ» بفتح الهمزةِ بَدَلاً من «أَنَّهُ» الأولى، وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ: عطْفٌ على اسم الله، قال الفَخْر «٢» : المراد بِأُولِي العِلْمِ هنا:
الذينَ عَرَفُوا اللَّه بالدَّلاَلة القطعيَّة لأن الشهادة، إنما تكونُ مقبولةً، إِذا كان الإِخبار مقروناً بالعلْمِ، وهذا يدلُّ أنَّ هذه الدرجةَ الشريفَةَ لَيْسَتْ إِلا للعلماء بالأُصُولِ، وتكرَّرت «لا إِله إِلا اللَّه» هنا، وفائدةُ هذا التكرير الإِعلامُ بأنَّ المسلم يجبُ أنْ يكون أَبداً في تكرير هذه الكلمة، فإِنَّ أشرفَ كلمةٍ يذكرها الإِنسان هي هذه الكلمةُ، وإذا كان في أكثر الأوقات مُشْتَغِلاً بذكْرِها، وبتكريرها، كان مُشْتَغِلاً بأعظمِ أنواعِ العباداتِ، فكان من التكريرِ في هذه الآيةِ حضُّ العبادِ على تكريرها. اهـ.
وصحّ في البخاريّ، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ من قال:
وقال العقيلي في ترجمة عمار: لا يتابع على حديثه، ولا يعرف إلا به.
وقال الذهبي في «الميزان» (٣/ ٣٣٠) : الآفة من عمر فإنه متهم بالوضع. وأقرّه الحافظ في «اللسان» (٤/ ٢٧٣).
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٧/ ١٧٩).
«مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً دَخَلَ الجَنَّةَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا إخْلاَصُهَا؟ قَالَ: أَنْ تَحْجِزَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ» «٣»، خرَّجه الترمذيُّ الحَكِيمُ في «نَوَادِرِ الأصول» اهـ من «التّذكرة».
وقائِماً: حالٌ من اسمِهِ تعالى في قوله: شَهِدَ اللَّهُ، أو من قوله: إِلَّا هُوَ، والقسط: العَدْل، وقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ... الآية: الدِّينُ في هذه الآية: الطاعةُ والمِلَّة، والمعنى: أنَّ الدين المَقْبُول أو النافع هو الإِسلام، والإِسلام في هذه الآية هو الإِيمانُ والطَّاعات، قاله أبو العالية «٤» وعليه جمهور المتكلِّمين، وحديثُ:
«بُنِيَ الإِسْلاَمُ على خَمْسٍ» «٥»، وحديثُ مجيء جبريل يعلّم النّاس................
كتاب «الرقاق»، باب صفة الجنة والنار، حديث (٦٥٧٠).
(٢) هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج. أبو عمر. وقيل: أبو سعد، وقيل: أبو سعيد. الأنصاري، الخزرجي. سكن «الكوفة»، وابتنى بها دارا في «كندة».
روى حديثا كثيرا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، روي عنه من وجوه أنه شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبع عشرة غزوة، واستصغر يوم أحد، وكان يتيما في حجر عبد الله بن رواحة، وسار معه إلى مؤتة، ويقال: إن أول مشاهده «المريسيع». شهد مع علي «صفين»، وهو معدود في خاصة أصحابه.
توفي ب «الكوفة» سنة (٦٦)، وقيل: (٦٨).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٢٧٦)، «الإصابة» (٣/ ٢١)، «الثقات» (٣/ ١٣٩)، «الاستيعاب» (٢/ ٥٣٥)، «الاستبصار» (١١)، «الأعلام» (٣/ ٥٦)، «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ١٩٦)، «الطبقات الكبرى» (١/ ١٨، ٢/ ٦٥)، «در السحابة» (٧٧٠)، «الرياض المستطابة» (٨٧)، «بقي بن مخلد» (٤٨).
(٣) ذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٢/ ٣٩١) رقم (٢٢٥٣)، وعزاه للطبراني في «الكبير»، و «الأوسط»، وضعفه.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢١)، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط»، و «الكبير»، وفي إسناده محمد بن عبد الرّحمن بن عزوان، وهو وضاع. [.....]
(٤) ذكره ابن عطية في « «تفسيره» » (٣/ ٤١٣).
(٥) أخرجه البخاري (١/ ٦٤) كتاب «الإيمان»، باب دعاؤكم إيمانكم حديث (٨)، ومسلم (١/ ٤٥) كتاب «الإيمان»، باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام، حديث (١٩/ ١٦)، والترمذي (٥/ ٥) كتاب «الإيمان»، باب ما جاء في «بني الإسلام على خمس»، حديث (٢٦٠٩)، والنسائي (٨/ ١٠٧- ١٠٨) كتاب «الإيمان»، باب على كم بني الإسلام، وأحمد (٢/ ١٢٠، ١٤٣)، والحميدي (٢/ ٣٠٨) رقم (٧٠٣)، وابن خزيمة (٣٠٨، ٣٠٩)، وأبو يعلى (١٠/ ١٦٤) رقم (٥٧٨٨)، وابن حبان (١٥٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٦٢)، والبيهقي (٤/ ٨١) كتاب «الزكاة»، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٦٤- بتحقيقنا) من طرق عن ابن عمر به.
وقال الترمذي: هذ حديث حسن صحيح. -
وقال الهيثمي في «المجمع» (١/ ٥٠) : وإسناد أحمد صحيح.
(١) أخرجه أحمد (٣/ ٣٣٠)، والترمذي (١/ ٢٨١- ٢٨٣)، كتاب «الصلاة»، باب ما جاء في مواقيت الصلاة، الحديث (١٥٠)، والنسائي (١/ ٢٥٥)، كتاب «الصلاة»، باب آخر وقت العصر، والدارقطني (١/ ٢٥٧)، كتاب «الصلاة»، باب إمامة جبرائيل، الحديث (٣)، والحاكم (١/ ١٩٥)، كتاب «الصلاة»، والبيهقي (١/ ٣٦٨)، كتاب «الصلاة»، باب وقت المغرب، من حديث وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاءه جبريل (عليه السلام) فقال له: قم فصله، فصلى الظهر حين زالت الشمس، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله، فصلى العصر حين صار كل شيء مثله، ثم جاءه المغرب فقال: قم فصله، فصلى المغرب حين وجبت الشمس، ثم جاءه العشاء فقال: قم فصله، فصلى العشاء حين غاب الشفق، ثم جاء الفجر فقال: قم فصله، فصلى الفجر حين برق الفجر، أو قال سطع الفجر، ثم جاءه من الغد للظهر فقال: فصله فصلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم جاءه العصر فقال: قم فصله فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم جاءه المغرب وقتا واحدا لم يزل عنه، ثم جاءه العشاء حين ذهب نصف الليل، أو قال ثلث الليل، فصلى العشاء، ثم جاءه الفجر حين أسفر جدا، فقال: قم فصله، فصلى الفجر، ثم قال: ما بين هذين الوقتين وقت».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
حديث جابر في المواقيت:
قد رواه عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، نحو حديث وهب بن كيسان، عن جابر، وقال محمد- يعني البخاري-: أصح شيء في المواقيت، حديث جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح مشهور. ووافقه الذهبي، وقال الزيلعي (١/ ٢٢٢) وقال ابن القطان:
هذا الحديث يجب أن يكون مرسلا لأن جابرا لم يذكر من حدثه بذلك، وجابر لم يشاهد ذلك صبيحة الإسراء لما علم أنه أنصاري، إنما صحب بالمدينة، ولا يلزم ذلك في حديث أبي هريرة، وابن عباس، فإنهما رويا إمامة جبريل من قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وتعقبه ابن دقيق العيد كما في «نصب الراية» (١/ ٢٢٣) فقال: وهذا المرسل غير ضار، فمن أبعد البعد أن يكون جابر سمعه من تابعي عن صحابي، وقد اشتهر أن مراسيل الصحابة مقبولة، وجهالة عينهم غير ضارة.
قلت: وقد صرح جابر بأن هذا من كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كما في «سنن الترمذي». فقال: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمني جبريل».. فذكر الحديث.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو مسعود الأنصاري، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري وأنس.
حديث ابن عباس: -
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان، وابن خزيمة فقد روياه في صحيحيهما كما في «نصب الراية» (١/ ٢٢١).
لكن قال الزيلعي في «نصب الراية» (١/ ٢٢١) : وعبد الرّحمن بن الحارث هذا تكلم فيه أحمد، وقال:
متروك الحديث، هكذا حكاه ابن الجوزي في «كتاب الضعفاء»، ولينه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم الرازي، ووثقه ابن سعد، وابن حبان. قال في «الإمام» : ورواه أبو بكر بن خزيمة في «صحيحه»، وقال ابن عبد البر في «التمهيد» : وقد تكلم بعض الناس في حديث ابن عباس هذا بكلام لا وجه له، ورواته كلهم مشهورون بالعلم.
وقد أخرجه عبد الرزاق عن الثوري، وابن أبي سبرة، عن عبد الرّحمن بن الحارث بإسناده، وأخرجه أيضا عن العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن عباس نحوه، قال الشيخ:
وكأنه اكتفى بشهرة العلم مع عدم الحرج الثابت، وأكد هذه الرواية بمتابعة ابن أبي سبرة، عن عبد الرّحمن، ومتابعة العمري، عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، وهي متابعة حسنة. اهـ.
حديث أبي هريرة:
أخرجه النسائي (١/ ٢٨٨)، والدارقطني (١/ ٢٥٨)، والحاكم (١/ ١٩٤)، والبيهقي (١/ ٣٦٩) بلفظ:
«هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم»، فصلى الصبح حين طلع الفجر... بنحو الحديث الأول.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
حديث أبي مسعود الأنصاري:
أخرجه أبو داود (٣٩٤)، والدارقطني (١/ ٢٥٧)، والحاكم (١/ ١٩٤)، والبيهقي (١/ ٣٦٣).
وقال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.
حديث عمرو بن حزم:
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف»، كما في «نصب الراية» (١/ ٢٢٥)، وعنه إسحاق بن راهويه في مسنده.
حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه أحمد (٣/ ٣٠)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٨٨).
حديث أنس:
أخرجه الدارقطني (١/ ٢٥٧)، من طريق قتادة عنه.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢١٣) برقم (٦٧٦٤) وذكره ابن عطية (١/ ٤١٣).
(٢) الرّبيع بن أنس الكندي، أو الحنفي، البصري، عن أنس، والحسن، وأرسل عن أم سلمة. وعنه سليمان-
يحتمل أنْ يراد بها: مَجِيءُ القيامةِ والحِسَابِ إذ كل آت قريبٌ، ويحتمل أنْ يراد بسُرْعَةِ الحِسَابِ: أنَّ اللَّه تعالى بإِحاطته بكلِّ شَيْءٍ عِلْماً لا يحتاجُ إلى عَدٍّ ولا فكْرة قاله مجاهد «٢».
وقوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ... الآية: الضميرُ في حَاجُّوكَ لليهودِ، ولنصارى نَجْرَانَ، والمعنى: إنْ جادَلُوك وتعنَّتوا بالأقاويلِ المزوَّرة والمغالطاتِ، فأسند إلى ما كُلِّفْتَ من الإِيمانِ، والتبليغِ، وعلى اللَّه نَصْرُكَ.
وقوله: وَجْهِيَ: يحتمل أنْ يراد به المَقْصِدُ، أي: جعلتُ مقصدي للَّه، ويحتمل أنْ يراد به الذاتُ، أي: أَسْلَمْتُ شخْصي وَذاتِي للَّه، وأسلَمْتُ في هذا الموضعِ بمعنى:
دَفَعْتُ، وأمضَيْتُ، وليستْ بمعنى دَخَلْتُ في السِّلْم/ لأنَّ تلك لا تتعدى، ومَنِ اتبعني:
في موضع رفعٍ عطْفاً على الضميرِ في «أَسْلَمْتُ»، والَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ، في هذا الموضعِ: يجمعُ اليهودَ والنصارى باتفاق، والأميُّونَ: الذين لا يكتبون، وهم العَرَبُ في هذه الآية، وقوله: أَأَسْلَمْتُمْ: تقرير في ضمنه الأمر، وقال الزّجّاج: أَأَسْلَمْتُمْ:
تهدّد، وهو حسن، والْبَلاغُ: مَصْدَرُ بَلَغَ بتخفيف عَيْنِ الفعل.
وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعدٌ للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ... الآية: هذه الآية نزلت في اليهود
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢١٣) برقم (٦٧٦٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٤١٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٢) وعزاه لابن جرير.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢١٤) برقم (٦٧٦٨) بنحوه.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ...
الآية: قال ابن عبَّاس: نزَلَتْ هذه الآية بسبب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخَلَ بيْتَ المِدْرَاسِ على جماعةٍ من يَهُود، فدعاهمْ إِلى اللَّه تعالى، فقال له نُعَيْمُ بْنُ عَمْرٍو، والحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ: على أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، فقالَ رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: أنا على ملّة إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا، فَقَالَ لَهُمُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فَهَلُمُّوا إِلَى التَّوْرَاةِ، فَهِيَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ، فَأَبَيَا عَلَيْهِ، وَنَزَلَتِ الآيةُ «٣».
قال ع «٤» : فالكتابُ في قوله: مِنَ الْكِتابِ: اسمُ جنس، والكتابُ في قوله: إِلى كِتابِ اللَّهِ هو التوراةُ، وقال قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ: هو القرآن «٥»، ورجَّح الطبريُّ الأولَ «٦».
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا: الإشارة فيه إٍلى التولِّي والإِعراض، أي: إِنما تولَّوْا، وأعرضوا لاغترارهم بأقوالهم، وافترائهم، ثم قال تعالى خطابا لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم،
أحد العشرة المشهور لهم بالجنة، وشهد بدرا وأحدا. وسائر المشاهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية. توفي في طاعون «عمواس» سنة (١٨).
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٦/ ٢٠٥)، «الإصابة» (٧/ ١٢٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٨٥)، «بقي بن مخلد» (١٥١)، «الاستيعاب» (٤/ ١٧١٠)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٤٤٨)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ١٥٩)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٢٣)، «العقد الثمين» (٨/ ٦٩)، «مقاتل الطالبين» (٥٧).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢١٦) برقم (٦٧٧٧)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٣)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢١٧) برقم (٦٧٧٨) عن ابن عباس.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٤)، وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤١٦). [.....]
(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣١٢)، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٤١٦).
(٦) ينظر الطبري (٣/ ٢١٩).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
وقوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ... الآية: هو سبحانه وتعالى مالكُ الملكِ كلِّه مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرفُ ملكٍ يؤتيه عباده سعادةُ الآخرة، رُوِيَ أنَّ الآية نزلَتْ بسبب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشَّر أُمَّتَه بفتح مُلْك فارس وغيره، فقالَتِ اليهودُ والمنافقُونَ: هَيْهَاتَ، وكذَّبوا بذلك.
ومذهب البصريِّين أن الأصل في «اللَّهُمَّ» : يَا أَللَّهُ، فعوِّض من ياء النداءِ ميماً مشدَّدة.
و «مالك» : نصْبٌ على النداء، وخص تعالى الخَيْر بالذكْر، وهو تعالى بيده كلُّ شيء إِذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكأنَّ المعنى: بِيَدِكَ الخَيْرُ فأجزِلْ حظِّي منه، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب «التِّرْمذيِّ» وغيره، عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه) أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم/ قَالَ: «مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ» «٢»، ورواه الحاكمُ أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» من طرق كثيرةٍ، وزاد فيه في بعْضِ طرقه: «وبنى لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ» قال الحاكمُ: وفي الباب، عن جابر،
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٤٩١)، كتاب «الدعوات»، باب ما يقول إذا دخل السوق، حديث (٣٤٢٨)، (٣٤٢٩)، وابن ماجة (٢/ ٧٥٢)، كتاب «التجارات»، باب الأسواق ودخولها، حديث (٢٢٣٥)، والحاكم (١/ ٥٣٩) من حديث عمر بن الخطاب.
وقال ابن عبَّاس وغيره في معنى قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ... الآية: إنه ما ينتقصُ من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقصُ من الليلِ، فيزيدُ في النَّهار دَأَباً كلَّ فَصْلٍ من السنة «٢»، وتحتملُ ألفاظُ الآية أنْ يدخل فيها تعاقُبُ الليلِ والنهارِ كأن زوالَ أحدهما وُلُوجٌ في الآخر.
واختلف في معنى قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... الآيةَ:
فقال الحسَنُ: معناهُ: يُخْرِجُ المؤمِنَ من الكافر، والكافِرَ من المؤمن «٣»، وروي نحْوَه، عن سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ «٤»، وروى الزُّهْرِيُّ، أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا سَمِعَ نَغْمَةَ «٥» خَالِدَةَ بِنْتِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ» فأُخْبِرَ بِهَا، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ»، وكَانَتِ امرأة صَالِحَةً، وكَانَ أَبُوهَا كَافِراً «٦»، والمرادُ على هذا:
موتُ قلبِ الكافرِ، وحياةُ قَلْب المؤمن.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٢٢) برقم (٦٧٩٢) وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٨٤) ونسبه للجمهور، وذكره ابن عطية (١/ ٤١٧).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٢٥) برقم (٦٨١٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٢٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٧)، وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ عن الحسن.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٢٥) برقم (٦٨١٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٧)، وعزاه لابن مردويه.
(٥) ذكر هذا الحديث الطبري (٦٨٢١) بلفظ «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النّعمة، فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب! وأيّ خالاتي هذه؟ قالت:
خالدة ابنة الأسود بن عبد يغوث. قال: سبحانه الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ! وكَانَتِ امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا. وقد علق عليه الشيخ أحمد شاكر قائلا:
قوله: «حسنة النعمة»، في المطبوعة: «النغمة» بالغين المعجمة، وهو خطأ، والنعمة (بفتح النون وسكون: العين) المسرة والفرح والترفه، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة: «حسنة الهيئة».
هذا ما قاله العلامة أحمد شاكر، إلا أن الرواية الواردة في الأصول عندنا «لما سمع نغمة» تشعر بترجيح المعجمة أو لعل الحديث ذكر مع اختلاف في ألفاظه.
(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٣٠٨- شاكر)، وعبد الرزاق في «تفسيره» (١/ ١١٧- ١١٨) عن الزهري مرسلا، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٧)، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
فقال ابن مسعود: هي النُّطْفة، تخْرُج من الرجُلِ، وهي ميتة، وهو حيٌّ، ويخرج الرجلُ منْها، وهي ميتة «١».
وقال عكرمة: هو إِخراج الدَّجَاجة، وهي حية، مِن البَيْضَة، وهي ميتة، وإِخراج البيضة، وهي ميتة من الدَّجَاجة، وهي حية «٢».
وروى السُّدِّيُّ، عن أبي مالكٍ، قال: هي الحبَّة تَخْرُجُ من السنبلةِ، والسنبلةُ تخرجُ من الحبَّة، وكذلك النَّوَاة «٣».
وقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ... الآية: هذا النهْيُ عن الاِتخاذِ، إِنما هو عن إِظهار اللُّطْفِ للكفَّار، والميلِ إِليهم، فأما أنْ يتخذوا بالقَلْب، فلا يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عامٌّ في جميع الأعصار.
واختلف في سَبَب نزولها، فقال ابنُ عَبَّاس: في كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف وغيره، قد بطنوا بنَفَرٍ من الأنصار، ليفتنُوهم عن دِينِهِمْ، فنزلَتْ في ذلك الآيةُ «٤»، وقال قومٌ: نزلَتْ في قصَّة حاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وكتابِه إلى أهْل مكَّة «٥»، والآيةُ عامَّة في جميع هذا.
وقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ: معناه: في شيءٍ مَرْضِيٍّ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا» «٦»، ثم أباح سبحانه إِظهار اتخاذهم بشرط الاِتقاءِ، فأما إِبطانه، فلا يصحُّ أن يتصف به مؤمنٌ في حالٍ.
وقوله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ... إلى آخر الآية: وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير بالآخرة.
(٢) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (٣/ ٢٢٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٢٩١)، وابن عطية (١/ ٤١٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٧) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن عكرمة.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤١٨).
(٤) ذكره ابن عطية (١/ ٤١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٢٨). [.....]
(٥) ذكره ابن عطية (١/ ٤١٩).
(٦) تقدم تخريجه.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ... الآية: الضميرُ في «تُخْفُوا» هو للمؤمنين الذين نُهُوا عن الكافرين، والمعنى: إِنكم إِن أبطنتم الحرْصَ على إِظهار موالاتهم، فإِن اللَّه يعلم ذلك، وَيَكْرَهُهُ منكم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
وقوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْنِي» :«يَوْم» : نصْبٌ بمحذوفٍ، تقديره: اذكُروا أو احذروا، ولا يصحُّ أنْ يكون ظرفًا ل «يحذِّركم» كما زعم بعضُهم لأن التحذير في الدنيا وَقعَ لا في الآخرة. اهـ.
وقوله تعالى: وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ، يحتمل أنْ تكون «مَا» معطوفةً على «مَا» الأولى، فهي في موضعِ نَصْب، ويكون «تَوَدُّ» في موضعِ الحالِ، وإِليه ذهب الطبريُّ «٢» وغيره، ويحتملُ أنْ تكون «مَا» رُفِعَ بالاِبتدَاء، والخبر في قوله: «تَوَدُّ». وما بعده، والأَمَدُ:
الغايةُ المحْدُودة من المكانِ أو الزَّمَان.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يحتمل أنْ يكون إشارةً إِلى أنَّ تحذيره رأْفَةٌ منه سبحانه بعباده، ويحتملُ أنْ يكونَ ابتداء إِعلام بهذه الصفَةِ، فمقتضى ذلك: التأنيسُ لئلا يفرطَ الوعيدُ على نَفْس مؤمن، فسبحانه ما أرحمه بعباده!.
وعن مَنْصُورِ بْنِ عَمَّار «٣» أنه قال: أعقلُ النّاس محسن خائف، وأجهل النّاس مسيء
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٢٣٠).
(٣) منصور بن عمّار بن كثير الواعظ، البليغ الصّالح، الرّبّاني، أبو السّريّ السّلمي، الخراساني، وقيل:
البصري، كان عديم النظير في الموعظة والتّذكير، روى عن اللّيث، وابن لهيعة، ومعروف الخيّاط، وهقل بن زياد، والمنكدر بن محمد، وبشير بن طلحة وجماعة، ولم يكن بالمتضلّع من الحديث.
قال أبو حاتم: صاحب مواعظ، ليس بالقوي.
وقال ابن عدي: حديثه منكر.
وقال الدّارقطني: يروي عن ضعفاء أحاديث لا يتابع عليها. -
اتل عَلَيَّ، يا مَنْصُورُ، شَيْئاً منْ كتابِ اللَّهِ، فتلا عليه: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً... الآيَةَ، فَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ: قَتَلْتَنِي، يَا مَنْصُورُ، ثُمَّ غُشِيَ عَلَيْهِ. اهـ.
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي... الآية: قال الشيخُ العارفُ باللَّه ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه) : مِنْ علامةِ السعادةِ للشخْصِ: أنْ يكون مُعْتَنِياً بمعرفة السُّنَّة في جميعِ تصرُّفاته، والذي يكونُ كذلك هو دائمٌ في عبادة في كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفَضْلِ حتى حُكِيَ عن بعضهم أنه لم يأكُلِ البطِّيخَ سنين لَمَّا لَمْ يبلُغْه كيفيَّةُ السُّنَّة في أَكْله، وكيف لاَ، واللَّه سبحانه يَقُولُ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ والاِتباعية الكاملةُ إِنما تصحُّ بأنْ تكون عامَّة في كلِّ الأشياء، يعني: إِلا ما خصَّصه به الدليلُ، جعلنا اللَّه من أهْلها في الدَّارَيْن. انتهى.
قال ع «٢» : قال الحَسَنُ بْنُ أَبِي الحَسَنِ، وابنُ جريج: إنّ قوما على عهد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نُحِبُّ رَبَّنَا، فنزلَتْ هذه الآية، وقيل: أمر صلّى الله عليه وسلّم أنْ يقولَ هذا القولَ لنصارى نَجْرَان.
قال ع «٣» : ويحتملُ أنْ تكون الآيةُ عامَّة لأهل الكتاب اليهود والنصارى لأنهم كانوا يدَّعُون أنَّهم يحبُّون اللَّه، ويحبهم.
قال عِيَاضٌ: اعلم أَنَّ مَنْ أَحبَّ شيئاً، آثره، وآثر موافقته، وإِلا لم يكن صادقاً في حُبِّه، وكان مدَّعياً، فالصادق في حبّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مَنْ تظهر علاماتُ ذلك عليه، وأولُها الاِقتداءُ به، واتباع سنَّته، واتباع أقوالِهِ وأفعالِهِ، والتأدُّبُ بآدابه في عُسره ويُسْره قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي... الآية، قال عياض: روي في الحديث، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «مَنِ استمسك بِحَدِيثِي، وَفَهِمَهُ وَحَفِظَهُ، جاء مع القرآن، ومن
(١) عبد الملك بن مروان بن الحكم، الأموي، القرشي، أبو الوليد: من أعاظم الخلفاء ودهاتهم، نشأ في «المدينة» فقيها واسع العلم، متعبدا، ناسكا، وشهد يوم الدار مع أبيه، نقش خاتمه «آمنت بالله مخلصا» توفي ب «دمشق» سنة ٨٦ هـ. انظر: «ابن الأثير» (٤/ ١٩٨)، و «الطبري» (٨/ ٥٦)، و «الأعلام» (٤/ ١٦٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٢١- ٤٢٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٢٢).
قال عياض: ومن علامات محبّته صلّى الله عليه وسلّم: زُهْدُ مدَّعيها في الدُّنْيا، وإِيثاره الفَقْر، واتصافه فيه ففي حديثِ أبي سَعِيدٍ: «إِنَّ الفَقْرَ إلى مَنْ يُحِبُّنِي مِنْكُمْ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى الوَادِي، أَوِ الجَبَل إلى أَسْفَلِهِ» «٣»، وفي حديثِ عبدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ «٤» :«قال رجُلٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إٍنِّي أُحِبُّكَ، فَقَالَ: انظر مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ لأُحِبُّكَ» ثَلاَثَ مَرَّات قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي، فَأَعِدَّ لِلفَقْرِ تَجْفَافاً»، ثم ذكر نَحْوَ حديثِ أبِي سَعِيدٍ بمعناه «٥» اهـ من «الشّفا».
(٢) أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٢/ ٧٣٩) من طريق الحسن بن قتيبة عن عبد الخالق بن المنذر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا.
وذكره الذهبي في «الميزان» (١/ ٥١٩) في ترجمة الحسن، وقال: هالك. قال الدارقطني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف.
(٣) أخرجه أحمد (٣/ ٤٢) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٤) هو: عبد الله بن مغفل بن عبد غنم المزني. قال البخاري: له صحبة، سكن «البصرة»، وهو أحد البكائين في غزوة «تبوك»، وشهد بيعة الشجرة، ثبت ذلك في الصحيح، وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس ب «البصرة». وهو أول من دخل مدينة «تستر» قال ابن الأثير: روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. وروى عنه: الحسن البصري، وأبو العالية، ومطرف، ويزيد بن عبد الله بن الشخير، وعقبة بن صهبان.. وغيرهم.
توفي ب «البصرة» سنة (٥٩ هـ)، وقيل: سنة (٦٠ هـ).
تنظر ترجمته في: «الثقات» (٣/ ٢٣٦)، «أسد الغابة» (٣/ ٣٩٨)، «الاستبصار» (٢٢٥)، «الجرح والتعديل» (٥/ ١٤٩)، «التحفة اللطيفة» (٢/ ٢٣)، «الإصابة» (٤/ ١٣٢)، «تقريب التهذيب» (١/ ٤٥٣)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ٤٢)، «بقي بن مخلد» (٧٥)، «التاريخ الصغير» (١/ ١٢٨)، «التعديل والتجريح» (٧٧٦)، «الخلاصة» (٢/ ١٠٣)، «الاستيعاب» (٣، ٤/ ٩٩٦).
(٥) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٧٦- ٥٧٧) كتاب «الزهد»، باب ما جاء في فضل الفقر، حديث (٢٣٥٠) من طريق أبي الوازع عن عبد الله بن مغفل به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأبو الوازع الراسبي اسمه جابر بن عمرو، وهو بصري. [.....]
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً... الآية: لما مضى صدْرٌ مِنْ مُحَاجَّةِ نصارى نَجْرَانَ، والردُّ عليهم وبيانُ فسادِ ما هُمْ عليه، جاءَتْ هذه الآياتُ مُعْلِمَةً بصورةِ الأمر الذي قد ضَلُّوا فيه، ومُنْبِئَةً عن حقيقته، كيف كانَتْ، فبدأ تعالى بذكْرِ فضْل آدم ومَنْ ذُكِرَ بعده، ثم خَصَّ امرأة عِمْرَانَ بالذكْرِ لأنَّ القصْدَ وصْفُ قصَّة القَوْم إِلى أنْ يبيِّن أمر عيسى (عليه السلام)، وكيف كان، وانصرف «نُوحٌ»، مع عُجْمَتِهِ وتعريفِهِ لخفَّة الاِسم كَهُودٍ وَلُوطٍ، قال الفَخْرُ «٢» هنا: اعلم أنَّ المخلوقاتِ على قسمَيْنِ: مكلَّفٍ، وغيْرِ مكلَّفٍ، واتفقوا على أنَّ المكلَّف أفْضَلُ من غير المكلَّفِ، واتفقوا على أنَّ أصنافَ المكلَّفين أربعةٌ:
الملائكةُ، والإِنْسُ، والْجِنُّ، والشَّيَاطِين.
ت: تأمَّلْه جَعَلَ الشياطين قسيماً للجِنِّ. اهـ.
والآلُ في اللغة: الأَهْلُ، والقَرَابَة، ويقال للأَتْبَاعِ، وأهل الطَّاعة: آل، والآلُ في الآيةِ: يحتملُ الوجهَيْنِ، فَإِنْ أُريدَ بالآلِ: القَرَابَةُ، فالتقديرُ أنَّ اللَّهَ اصطفى هؤلاءِ على عَالِمِي زمانِهِمْ، أو على العَالَمِينَ جميعاً بأن يقدّر نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من آل إِبراهيم، وإِن أُرِيدَ بالآلِ: الأَتْبَاعُ، فيستقيم دخول أمّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم في الآلِ لأنها على ملَّةِ إِبراهيم.
وقوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ، أي: متشابهينَ في الدِّين، والحالِ، وعِمْرَانُ/ هو رجلٌ من بني إِسرائيل، وامرأة عِمْرَانَ اسمها حَنَّةُ، ومعنى: نَذَرْتُ:
جعلْتُ لكَ ما في بطْنِي محرَّراً، أي: حَبِيساً على خدْمةِ بَيْتِكَ، محرَّراً من كلِّ خدمةً وشُغْلٍ من أشغال الدنيا، والبَيْتُ الذي نَذَرَتْهُ له هو بَيْتُ المَقْدِسِ، فَتَقَبَّلْ مِنِّي، أي: ارض عنّي
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١٨).
إشارة إلى نيّتها.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)
وقوله تعالى: فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ:
الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ، وقولها: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى، تريد في امتناع نَذْرها إِذ الأنثى تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره»
، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثى كالذَّكَر، وفي قولها: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ ونحوُهُ قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ باسم أَبِي إِبْرَاهِيمَ» «٢»، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي «٣» : ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء «٤»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٨٠٧)، كتاب «الفضائل»، باب رحمته بالصبيان والعيال، حديث (٦٢/ ٢٣١٥)، وأبو داود (٢/ ٢١٠)، كتاب «الجنائز»، باب في البكاء على الميت، حديث (٣١٢٦)، وأحمد (٣/ ١٩٤)، وابن حبان (٢٩٠٢)، والبيهقي (٤/ ٦٩) كلهم من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس به.
(٣) ينظر: «حلية الأبرار» (ص ٣٢١).
(٤) هو: عويمر بن عامر بن مالك بن زيد بن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج..
وقيل: اسمه: عامر بن مالك، و «عويمر» لقب. أبو الدرداء.
قال ابن الأثير في «الأسد» : تأخر إسلامه قليلا، كان آخر أهل داره إسلاما، وحسن إسلامه، وكان فقيها عاقلا حكيما. آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينه وبين سلمان الفارسي، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «وعويمر حكيم أمتي» شهد ما بعد «أحد» من المشاهد. قلت: وهو صحابي مشهور بالزهد والورع والحكمة، ولا يتسع المقام للحديث عنه.
وفاته قبل مقتل عثمان بسنتين.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٦/ ٩٧)، «الإصابة» (٧/ ٥٨)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ١٦٣)، «الاستيعاب» (٤/ ١٦٤٦)، «بقي بن مخلد» (٢١)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٤١٩)، «تهذيب التهذيب» -
وفي الحديثِ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: «كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مريم ابنة عمران، وابنها فإنّ أمّها
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٠٥)، كتاب «الأدب»، باب في تغيير الأسماء، حديث (٤٩٤٨)، وأحمد (٥/ ١٩٤)، والدارمي (٢/ ٢٩٤)، كتاب «الاستئذان»، باب في حسن الأسماء، وابن حبان (٥٨١٨)، والبيهقي (٩/ ٣٠٦)، كتاب «الضحايا»، باب ما يستحب أن يسمى به. وأبو نعيم في «الحلية» (٥/ ١٥٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٣٨٢- بتحقيقنا) كلهم من طريق عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي عن أبي الدرداء مرفوعا.
وقال البيهقي: هذا مرسل ابن أبي زكريا لم يسمع من أبي الدرداء.
قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» (ص ١١٣) رقم (٤١٠) : سمعت أبي يقول: عبد الله بن أبي زكريا لم يسمع أبا الدرداء. اهـ.
وأشار إلى هذا الانقطاع أيضا الحافظ المنذري في «الترغيب» (٢/ ٦٩٧).
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٦٨٢)، كتاب «الأدب»، باب النهي عن التكني بأبي القاسم، حديث (٢/ ٢١٣٢)، وأبو داود (٢/ ٧٠٥)، كتاب «الأدب» باب في تغيير الأسماء، حديث (٤٩٤٩)، والترمذي (٥/ ١٣٢) كتاب «الأدب»، باب ما جاء ما يستحب من الأسماء، حديث (٢٨٣٣)، وابن ماجة (٢/ ١٢٢٩)، كتاب «الأدب»، باب ما يستحب من الأسماء، حديث (٣٧٢٨)، والبيهقي (٩/ ٣٠٦)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٣٨٦، ٣٨٧- بتحقيقنا) من حديث ابن عمر مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وللحديث شاهد من حديث أنس: أخرجه أبو يعلى (٥/ ١٦٤) رقم (٢٧٧٨) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أحب الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن، والحارث».
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨/ ٥٢) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه إسماعيل بن مسلم المكي، وهو ضعيف اهـ.
وذكره أيضا الحافظ في «المطالب العالية» (٢٨٠٢)، وعزاه لأبي يعلى، وقال: له شاهد من حديث ابن عمر في صحيح مسلم.
(٣) أخرجه أبو داود (٤/ ٢٨٧- ٢٨٨)، كتاب «الأدب»، باب تغيير الأسماء، حديث (٤٩٥٠)، والنسائي (٦/ ٢١٨)، كتاب «الخيل»، باب ما يستحب من شية الخيل، من حديث أبي وهب الجشمي.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وهذه الرواية ذكرها السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٤) وزاد نسبتها إلى عبد بن حميد.
وأخرجه البخاري (٨/ ٦٠) كتاب «التفسير»، باب وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، حديث (٤٥٤٨) و (٦/ ٥٤١) كتاب «أحاديث الأنبياء»، باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ
، حديث (٣٤٣١)، ومسلم (٤/ ١٨٣٨) كتاب «الفضائل»، باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث (١٤٦/ ٢٣٦٦)، وأحمد (٢/ ٢٣٣، ٢٧٤- ٢٧٥)، والطبري في «تفسيره» (٦/ ٣٣٩- شاكر) رقم (٦٨٩١)، وابن حبان (٦٢٣٥- الإحسان)، والواحدي في «الوسيط» (١/ ٤٣١- بتحقيقنا)، والبغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٢٩٥) كلهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به.
وأخرجه الطبري (٦/ ٣٤٣- شاكر) رقم (٦٨٩٩)، وأبو يعلى (١٠/ ٣٧٦) رقم (٥٩٧١) من طريقين عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (٦/ ٣٨٨- ٣٨٩) كتاب «بدء الخلق»، باب صفة إبليس وجنوده، حديث (٣٢٨٦)، والحميدي (٢/ ٤٥٠) رقم (١٠٤٢)، كلاهما من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.
وأخرجه مسلم (٤/ ١٨٣٨)، كتاب «الفضائل»، باب فضائل عيسى عليه السلام، حديث (١٤٧/ ٢٣٦٦)، والطبري في «تفسيره» (٦/ ٣٣٨- شاكر) كلاهما من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس سليمان مولى أبي هريرة حدثه عن أبي هريرة به.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٤)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «حلية الأبرار» (ص ٣١٨).
(٣) هي: فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الزهراء، سيدة نساء العالمين ما عدا مريم بنت عمران. أمها: خديجة بنت خويلد بن وهب.. كنيتها: أم أبيها.
هي أول من غطي نعشها في الإسلام، ثم بعدها زينب بنت جحش، كانت أحب الناس إلى رسول الله، وأول آل بيته لحوقا به بعد موته، وقد كتبت في سيرتها المؤلفات الكثيرة، ولا يتسع المقام لذكر شيء منها. توفيت لثلاث خلون من رمضان سنة (١١) هـ وكان عمرها (٢٩) سنة.
تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (٧/ ٢٢٠)، «الإصابة» (٨/ ١٥٧)، «الثقات» (٣/ ٣٣٤)، «بقي بن مخلد» (١٣٧)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٢٩٤)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٦٠٩)، «تهذيب التهذيب» (١٢/ ٤٤٠)، «تهذيب الكمال» (٣/ ١٦٩١)، «أعلام النساء» (٤/ ١٠٨)، «السمط الثمين» (١٧١)، «الدر المنثور» (٣٥٩)، «الاستيعاب» (٤/ ١٨٩٣)، «حلية الأولياء» (٢/ ٢٩).
وقوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ: إخبار منه سبحانه لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسنى لها الأمَلَ في ذلك.
وقوله سبحانه: وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ/.
ص: بِقَبُولٍ مصدر على غير الصَّدْرِ، والجاري على: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قبل قبولا، ونَباتاً: مصدرٌ منصوبٌ ب «أَنْبَتَهَا» على غير الصَّدْر. انتهى.
وقوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها «٢» ويعضد هذا القول قوله صلّى الله عليه وسلّم في يحيى وعيسى: «ابنا الخَالَةِ»، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ «٣» لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر.
وقوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً: المِحْرَابُ:
المَبْنَى الحَسَنُ، ومِحْرَابُ القَصْر: أشرف ما فيه ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المصلى وهو موقِفُ الإِمامِ: مِحْرَاب، ومعنى رِزْقاً، أيْ: طعاما يتغذّى به، لم يَعْهَدْهُ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ «٤»، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال: ثِمَار الجَنَّة «٥»، وقوله: أَنَّى:
معناه: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وقولها: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ دليلٌ على أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ، قال الزَّجَّاج. وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ٩١] وقولها: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ: تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ، وأنَّه خبر من الله تعالى لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، والله
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٤٢) برقم (٦٨٩٩)، وذكره السيوطي في «تفسيره»، وعزاه لابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة.
(٣) استهم الرجلان: تقارعا، والاستهام: المغالبة بالقرعة. ينظر: «لسان العرب» (٢١٣٥) (سهم) بتصرف.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٤٤) برقم (٦٩٢٢)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٨٨)، وابن عطية (١/ ٤٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٣٦)، وعزاه لابن جرير.
(٥) ذكره ابن عطية (١/ ٤٢٦).
وقوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ... الآية: هُنَالِكَ في كلامِ العربِ: إِشارةٌ إِلى مكانٍ أو زمانٍ فيه بُعْدٌ، ومعنى هذه الآية: إِنَّ في الوقْتِ الذي رأى زكريَّاء رزْقَ اللَّهِ لمَرْيَمَ ومكانَتَها مِنَ اللَّه، وفَكَّر في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أَنْ أَسَنَّتْ، وأن اللَّه تعالى تقَبَّلها، وجعَلَها من الصالحاتِ، تحرَّك أملُهُ لطَلَبِ الولدِ، وقَوِيَ رجاؤه، وذلك منْه على حالِ سِنٍّ وَوَهْنِ عَظْمٍ، واشتعال شَيْب، فدعا ربَّه أنْ يَهَبَ له ذريَّةً طيِّبَةً يرثه، والذُّرِّيَّةُ: اسم جنسٍ، يقع على واحد فصاعدًا كما أن الوَلَدَ: اسمُ جنسٍ كذلك، وطَيِّبة: معناه: سَلِيمَة في الخَلْق والدِّين، تَقِيَّة، ثم قال تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ [آل عمران: ٣٩]، وترك محذوف كثير
حديث أنس:
أخرجه الترمذي (٣/ ٦٢٣) : كتاب «الأحكام»، باب ما جاء في قبول الهدية وإجابة الدعوة، حديث (١٣٣٨) وفي الشمائل رقم (٣٣٨)، وأحمد (٣/ ٢٠٩)، وابن حبان (١٠٦٥- موارد) وأبو الشيخ في «أخلاق النبيّ» (ص ٢٣٤)، والبيهقي (٦/ ١٦٩) كتاب «الهبات»، باب التحريض على الهبة والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٦) كلهم من طريق قتادة عن أنس مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصححه ابن حبان.
وللحديث طريق آخر عن أنس بلفظ: يا معشر الأنصار تهادوا فإن الهدية تحل السخيمة وتورث المودة، فو الله لو أهدي إلى كراع لقبلت ولو دعيت إلى ذراع لأجبت» قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ١٤٩)، رواه الطبراني في «الأوسط» والبزار بنحوه وفيه عائذ بن شريح وهو ضعيف.
حديث ابن عباس:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (١١/ ١٢٠) رقم (١١٢٣٦) من طريق عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس مرفوعا: «لو دعيت إلى كراع لأجبت».
وقال الهيثمي في «المجمع» (٣/ ٥٦) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن سعد وابن حبان وقال يخطىء وضعفه جماعة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
وقوله تعالى: فَنادَتْهُ عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع/ به، وينهى إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به، فلم يكُنْ هذا من الملائكةِ إِخباراً على عرف الوحْيِ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ.
وقوله تعالى: وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، يعني: ب «المِحْرَابِ» في هذا الموضعِ: موقفَ الإِمامِ من المسجدِ، ويَحْيَى: اسم سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ، ومُصَدِّقاً نصْبٌ على الحال، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
قال ع «١» : وسَمَّى اللَّه تعالى عيسى كلمةً، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالى، وهي «كُنْ»، لا بسبب إِنسان.
وقوله تعالى: وَسَيِّداً: قال قتادة: أيْ: واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ «٢».
قال ع «٣» : مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ، وقد تحصَّل العلْم ليحيى- عليه السلام- بقوله: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وتحصَّل التقى بباقِي الآية، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاعتمال في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ، وتفصيلُهُ أن يقالَ: بذل الندى، وهذا هو الكَرَمُ، وكَفُّ الأذى، وهنا
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٥٣) برقم (٦٩٦١) وذكره ابن عطية (١/ ٤٢٩).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٢٩).
قال ع «٢» : أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى- عليه السلام-.
وقوله تعالى: وَحَصُوراً أصل هذه اللفظة: الحَبْسُ والمَنْعُ، ومنه: حصر العدو.
قال ع «٣» : وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين على أنَّ هذه الصفة ليحيى- عليه السلام- إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكى مكِّيٌّ من قول من قَالَ: إِنه الحُصُور عن الذنوب، وذهب بَعْضُ العلماءِ إلى أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ، قالوا: وهذه أمْدَحُ له، قال الإِمام الفَخْر «٤» : وهذا القولُ هو اختيار المحقِّقين أنه لا يأتِي النِّساء، لا للعَجْز، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد.
قلْتُ: قال عِيَاضٌ: اعلم أنَّ ثناء اللَّه تعالى على يحيى- عليه السلام- بأنه حَصُورٌ، ليس كما قال بعضْهم: إِنه كان هَيُوباً «٥» أو لا ذَكَرَ لَهُ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين، ونُقَّادُ العلماء، وقالوا: هذه نقيصةٌ وعَيْب، ولا تليقُ بالأنبياء- عليهم السلام-، وإِنما معناه: معصومٌ من الذُّنُوب، أي: لا يأتيها كأنه حُصِرَ عنها «٦»، وقيل: مانعاً نفسه من الشهوات، وقيل: ليستْ له شهوةٌ في النساءِ كفَايَةً من اللَّه له لكونها مشغلة في كثير من
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٣٠).
(٣) ينظر: المصدر السابق.
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٣٣).
(٥) الهيوب: الجبان الذي يهاب الناس، والمقصود هنا أنه كان يهاب من إتيان النساء، وهذا لا يليق بأنبياء الله سبحانه، كما علق القاضي عياض.
ويقال أيضا: الهيوب: المحجم عن الشيء، وهذا أيضا مما لا يليق وصفه الأنبياء به. ينظر «لسان العرب» (هيب) (حصر).
(٦) حصر عنها: منع. [.....]
وباقي الآية بيِّن.
ورُوِيَ مِنْ صلاحه/- عليه السلام- أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه حتى اتخذ الدمع في وجهه أخدودا.
ص: ومِنَ الصَّالِحِينَ، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحاً من الصَّالحين، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ. اهـ.
قلت: والثاني أحْسَنُ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ، فتأمَّله.
وقوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ... الآية: ذهب الطَّبَرِيُّ «٢» وغيره إِلي أنَّ زكريَّا لَمَّا رأى حال نَفْسه، وحال امرأته، وأنها ليستْ بحالِ نسلٍ، سأل عن الوَجْه الذي به يكونُ الغلامُ، أتبدلُ المرأةُ خِلْقَتَهَا أمْ كيْفَ يكُون؟
قال ع «٣» : وهذا تأويلٌ حسن لائقٌ بزكريَّا- عليه السلام-.
وأَنَّى: معناها: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وحسن في الآية بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ من حيثُ هي عبارةُ وَاهِنٍ منفعلٍ.
وقوله: كَذلِكَ، أي: كهذه القُدْرةِ المستغْرَبَةِ قُدْرَةُ اللَّهِ، ويحتمل أن تكون الإِشارة بذلك إلى حال زكريَّا، وحالِ امرأتِهِ كأنه قال: رَبِّ، على أيِّ وجه يكونُ لنا غلامٌ، ونحن بحالِ كذا، فقال له: كما أَنْتُمَا يكونُ لكُمَا الغلامُ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويل في قوله:
كَذلِكَ.
وقوله: اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ: جملةٌ مبيّنة مقرِّرة في النفْسِ وقوعَ هذا الأمْر المستغْرَبِ.
وقوله: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، أي: علامة، قالَتْ فرقة من المفسِّرين لم يكن
(٢) ينظر «تفسير الطبري» (٣/ ٢٥٦- ٢٥٧).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٣١).
وقوله تعالى: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ... الآية: قال الطبريُّ وغيره: لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس، وكان يَقْدِرُ على ذكر اللَّه، ثم استثنى الرَّمْز، وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ، والكلام المرادُ في الآية: إِنما هو النطْقُ باللِّسَان، لا الإِعلام بما في النَّفْس، والرَّمْزُ في اللغة: حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ كانت الحركةُ من عَيْنٍ، أو حاجبٍ، أو شَفَةٍ، أو يدٍ، أو عُودٍ، أو غيرِ ذلك، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره: رُمُوز.
وأَمَرَهُ تعالى بالذِّكْر لربه كثيراً لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ، قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ: لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر، لرخَّص لزكريَّاء- عليه السلام- حيث قال: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً، لكنه قال له: اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً «١» قال الإِمام الفَخْر «٢» : وفي الآية تأويلان:
أحدهما: أنَّ اللَّه تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته شُكْراً للَّه على هذه النِّعْمة، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه:
أحدها: أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات.
وثانيها: أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صحّة البنية من المعجزاتِ.
وثالثها: أن إِخباره بأنه متى حصلَتْ تلْكَ الحالةُ، فقَدْ حصل الولد، ثم إِنَّ الأمر خرج على وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات.
والتأويل الثَّاني: أن المراد منه الذكْر بالقَلْب وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالى عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً، فإِذا امتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالى/، سكَتُوا باللِّسَان، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب ولذلك قالوا: «مَنْ عَرَفَ اللَّه، كَلَّ لِسَانُهُ»، فكان زكريَّاء- عليه السلام- أمر بالسُّكُوت باللّسان واستحضار معاني
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٣٦).
وقوله تعالى: وَسَبِّحْ: معناه: قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وقال قومٌ: معناه صَلِّ، والأول أصوبُ لأنه يناسب الذكْرَ، ويستغربُ مع امتناع الكلام مع النَّاسِ، والعَشِيُّ، في اللغة:
من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها، والإِبْكَارُ: مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس، يقال: أبكر الرجل وبكّر.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ: العامل في «إِذْ» :«اذكر» لأن هذه الآياتِ كلَّها إِنما هي إِخبارات بغَيْبٍ تدلُّ على نبوَّة نبيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، مَقْصِدُ ذِكْرها هو الأظهر في حِفْظِ رَوْنَقِ الكلام.
واصْطَفاكِ: معناه: تخيّرك لطاعته، وطَهَّرَكِ: معناه: من كُلِّ ما يَصِمُ النساء في خَلْقٍ، أو خُلُقٍ، أو دِينٍ قاله مجاهد وغيره «١»، وقولُ الزَّجَّاجِ: قد جاء في التفْسير أنَّ معناه: طَهَّرك من الحَيْض والنفاسِ- يحتاج إلى سند قويّ، وما أحفظه، والْعالَمِينَ يحتملُ عَالَمَ زَمانها.
قال ع «٢» : وسائغ أنْ يتأوَّل عموم الاِصطفاء على العَالَمِينَ، وقد قال بعضُ الناس: إِن مريم نَبِيَّةٌ من أَجْلِ مخاطَبَةِ الملائكةِ لها، وجمهورُ النَّاسِ على أنها لم تنبّإ امرأة، واقْنُتِي معناه: اعبدي، وأَطِيعِي قاله الحَسَن وغيره «٣»، ويحتمل أنْ يكون معناه:
أطِيلِي القيامَ في الصَّلاة، وهذا هو قولُ الجمهورِ، وهو المناسبُ في المعنى لقوله:
وَاسْجُدِي، وروى مجاهدٌ أنها لما خوطِبَتْ بهذا، قامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها، وروى الأوزاعيُّ: حتى سَالَ الدَّمُ والقَيْحُ من قَدَمَيْهَا، وروي أنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ، تنزلُ على رَأْسِهَا تظُنُّها جَمَاداً.
واختلف المتأوِّلون، لِمَ قُدِّمَ السُّجودُ على الركوع.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٣٤).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٢٦٥) برقم (٧٠٤٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٣٤).
وقال ص: قوله: وَارْكَعِي، الواو: لا ترتّب، فلا يسأل، لِمَ قُدِّم السجود، إِلا من جهة علْمِ البيانِ، وجوابه أنه قدّم لأنه أقربُ ما يكونُ العَبْدُ فيه مِنْ ربِّه، فكان أشْرَفَ، وقيل: كان مقدّما في شرعهم. اهـ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨)
وقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ... الآية: هذه المخاطبة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والإِشارة بذلك إِلى ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصصِ، والأنباء: الأخبار، والغَيْبُ: ما غَاب عن مدارك الإِنسان، ونُوحِيهِ: معناه: نُلْقِيهِ في نَفْسِك في خفاءٍ، وَحَدُّ الوَحْيِِ: إِلقاء المعنى في النَّفْس في خفاءٍ، فمنه بالمَلَكِ، ومنه بالإِلهام، ومنه بالإِشارة، ومنه بالكِتَابِ.
وفي هذه الآية بيان لنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إِذ جاءهم بغُيُوب/ لا يعلمها إِلا مَنْ شاهدها، وهو لَمْ يَكُنْ لديهم، أوْ مَنْ قرأها في كتبهم، وهو صلّى الله عليه وسلّم أُمِّيٌّ من قومٍ أُمِّيِّينَ، أوْ:
من أعلمه الله بها، وهو ذاك صلّى الله عليه وسلّم، ولَدَيْهِمْ: معناه: عندهم ومَعَهُمْ.
وقوله: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ... الآية: جمهورُ العلماء على أنه استهام لأخذِها والمنافَسَةِ فيها، فروي أنهم أَلْقَوْا أقلامَهُمُ الَّتي كانوا يَكْتُبُونَ بها التوراةَ في النَّهْرِ، فروي أنَّ قَلَمَ زكريَّا صاعد الجرية، ومضَتْ أقلام الآخَرِينَ، وقيل غير هذا، قُلْتُ: ولفظ ابْنِ العربيّ في «الأحكام» قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فَجَرَتِ الأَقْلاَمُ وَعَلاَ قَلَمُ زَكَرِيَّا» «١» اهـ، وإِذا ثبت الحديث،
ويَخْتَصِمُونَ: معناه: يتراجَعُونَ القَوْلَ الجهيرَ في أمْرها.
وفي هذه الآية استعمال القُرْعَةِ، والقُرعَةُ سُنَّة، «وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إذا سافر، أقرع بين نسائه» «١» وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ، لاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» «٢».
واختلف أيضاً، هل الملائكةُ هنا عبارةٌ عن جِبْرِيلَ وحْده أوْ عن جماعةٍ من الملائكة؟
ووَجِيهاً: نصبٌ على الحال، وهو من الوَجْهِ، أيْ: له وجْهٌ ومنزلةٌ عند اللَّه، وقال البخاريُّ: وجيهاً: شَريفاً اهـ.
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: معناه: مِنَ اللَّه تعالى، وكلامه في المَهْدِ: آيةٌ دالَّة على براءة أُمِّه، وأَخبر تعالى عنه أنَّه أيضًا يكلِّم الناس كَهْلاً، وفائدةُ ذلك أنَّه إِخبار لها بحَيَاتِهِ إلى سِنِّ الكهولة، قال جمهورُ النَّاس: الكَهْلُ الذي بَلَغَ سِنَّ الكهولةِ، وقال مجاهد: الكَهْلُ:
الحليمُ قال ع «٣» : وهذا تفسيرٌ للكُهُولة بعَرضٍ مصاحِبٍ لها في الأغلب، واختلف النَّاسُ في حَدِّ الكهولة، فقيل: الكَهْلُ ابن أَرْبَعِينَ، وقيل: ابنُ خَمْسَةٍ وثلاثينَ، وقيل: ابن ثلاثةٍ وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثينَ، هذا حدُّ أَوَّلِهَا، وأمَّا آخرها، فاثنان وخمسونَ، ثم يدْخُلُ سنُّ الشيخوخة.
وقولُ مَرْيَمَ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ: استفهام عن جهة حَمْلها، واستغراب للحَمْلِ على بَكَارتها، و «يَمْسَسْ» : معناه: يَطَأ ويُجَامِع.
ص: والبَشَر يُطْلَقُ على الواحِدِ والجمع. اهـ.
(٢) تقدم.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٣٧).
«يَفْعَلُ»، وجاءت هنا: «يَخْلُقُ» من حيث إِنَّ أمر زكريَّا داخلٌ في الإِمكان الذي يتعارَفُ، وإنْ قَلَّ، وقصَّة مريم لا تتعارَفُ البتَّة، فلفظ الخَلْق أقربُ إِلى الاِختراعِ، وأدَلُّ عليه.
وقوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً: معناه: إِذا أراد إِيجاده، والأمر واحدُ الأمور، وهو مَصْدَرٌ سُمِّيَ به، والضميرُ في «لَهُ» عائدٌ على الأمْر والقول على جهة المخاطبة.
وقوله: كُنْ: خطابٌ للمَقْضِيِّ.
وقوله: فَيَكُونُ بالرفع: خطابٌ للمُخْبَر.
وقوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ... الآية: الكِتَابُ هنا: هو الخَطُّ باليد، وهو مصدر: كَتَبَ يَكْتُبُ قاله جمهور المفسّرين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
وقوله: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، أي: ويجعله رسولاً، وكانت رسالةُ عيسى- عليه السلام- إلى بني إِسرائيل مبيِّناً حُكْمَ التوراة، ونَادِباً إِلى العَمَل بها، ومُحَلِّلاً أشياءَ ممَّا حرم فيها كَالثُّرُوبِ ولُحُومِ الإِبل، وأشياء من الحِيتَانِ والطَّيْر/، ومن أول القول لِمَرْيم إِلى قوله: إِسْرائِيلَ: خطابٌ لمريم، ومن قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إِلى قوله:
مُسْتَقِيمٌ: يحتملُ أنْ يكون خطاباً لمريم على معنى: يَكُونُ من قوله لِبَنِي إِسرائيل كَيْتَ وَكَيْتَ، ويكون في آخر الكلام محذوفٌ يدُلُّ عليه الظاهرُ، تقديره: فجاء عيسى بني إِسرائيل رسولاً، فقال لهم ما تقدَّم ذكْرُهُ، ويحتملُ أنْ يكون المحذوفُ مقدَّراً في صَدْرِ الكلامِ بعد قوله: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، فيكون تقديره: فجاء عيسى كما بَشَّر اللَّهُ رسولاً إلى بني إِسرائيل بأنِّي قد جئتكم، ويكون قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ليس بخِطَابٍ لِمَرْيَمَ، والأول أظهر.
وقوله: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ... الآية: قرأ نافعٌ: «إِنِّي أَخْلُقُ» بكسر الهمزة، وقرأ باقي السَّبْعة بفَتْحها، فوجه قراءةِ نافعٍ إِمَّا القَطْعُ والاستئناف، وإِما أنه فسَّر الآية بقوله:
إِنِّي، كما فسر المَثَلَ في قوله: كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: ٥٩] ووجْه قراءة الباقين البَدَلُ
ص: كَهَيْئَةِ: الهيئةُ: الشَّكْل والصُّورة، وهو مصدر: هَاءَ الشَّيْءُ يَهِيىءُ هَيْئَةً، وَهَيَّأَ، إِذا ترتَّب واستقر على حالٍ مَّا، وتعدِّيه بالتضْعيف، قال تعالى: وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً [الكهف: ١٦] اهـ.
وقرأ نافعٌ وحْده: «فَيَكُونُ طَائِراً» بالإِفراد أي: يكون طائراً من الطيورِ، وقرأ الباقونَ: «فَيَكُونُ طَيْراً» بالجمع وكذلك في «سورة المائدة» والطير: اسمُ جمعٍ، وليس من أبنيةِ الجُمُوع، وإِنما البنَاءُ في جَمْعِ طائرٍ: أَطْيارٌ، وجَمْعُ الجَمْعِ: طُيُورٌ.
وقوله: فَأَنْفُخُ فِيهِ، ذكَّر الضميرَ لأنه يحتملُ أنْ يعود على الطِّينِ المهيّأ، ويحتملُ أنْ يريد: فأنفُخُ في المذكور، وأنَّثَ الضميرَ في «سورة المائدة» لأنه يحتمل أنْ يعود على الهيئة، أوْ على تأنيثِ لَفْظ الجَمَاعة، وكَوْنُ عيسى يخلُقُ بيده، وينفُخُ بِفِيهِ، إِنما هو ليبيِّن تلبُّسه بالمعجزةِ، وأنها جاءَتْ من قِبَلِهِ، وأمَّا الإِيجاد من العَدَمِ، وخَلْقُ الحياةِ في ذلك الطِّينِ، فمِنَ اللَّهِ تعالى وحده، لا شريك له.
ورُوِيَ في قَصَصٍ هذه الآية، أنَّ عيسى- عليه السلام- كانَ يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَيُّ الطَّيْرِ أَشَدُّ خِلْقَةً، وَأَصْعَبُ أنْ يحكى؟ فيَقُولُونَ: الخُفَّاشُ لأَنَّهُ طَائِرٌ لاَ رِيشَ لَهُ، فَكَانَ يَصْنَعُ مِنَ الطِّينِ خَفَافِيشَ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهَا فَتَطِيرُ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَمُعَايَنَتِهِمْ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: «هَذَا سَاحِرٌ» أُبْرِئُ معناه: أزيل المرض، والْأَكْمَهَ: هو الَّذِي يُولَدُ أعمى مضمومَ العَيْنَيْنِ قاله ابن عَبَّاسٍ وقتادة «١»، قال ع «٢» : والأَكْمَهُ في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى- عليه السلام- يبرىءُ بدعائِهِ، ومَسْحِ يدِهِ على كل عاهة، ولكنَّ الاحتجاج على بني إِسرائيل في معنى النبوَّة لا يقومُ إِلاَّ بالإِبراء من العِلَلِ التي لا يُبْرِىءُ منها طبيبٌ بوجْهٍ، ورُوِيَ في إِحيائه الموتى أنه كان يَضْرِبُ بعَصَاهُ الميِّتَ، أو القَبْرَ، أو الجُمْجُمَةَ فَيَحْيَى الإِنسانُ، ويكلِّمه بإِذن اللَّه، وفي قصص الإِحياء أحاديثُ كثيرةٌ لا يوقَفُ على صحَّتها، وآياتُ عيسى- عليه السلام- إِنما تَجْرِي فيما يُعَارِضُ الطِّبَّ لأن علْمَ الطِّبِّ كان شَرَفَ النَّاس في ذلك/ الزّمان،
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٠). [.....]
وقوله: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ... الآية: قال مجاهدٌ وغيره: كان عيسى- عليه السلام- مِنْ لَدُنْ طفوليَّته، وهو في الكُتَّابِ، يخبرُ الصِّبْيان بما يفعل آباؤهم في منازِلِهِمْ، وبما يُؤْكَلُ من الطعامِ، ويُدَّخَرُ، وكذلك إلى أنْ نُبِّئى، فكان يقول لكلِّ من سأله عن هذا المعنى: أَكَلْتَ البارحةَ كَذَا، وادخرت كذا «١»، وقال قتادةُ:
معنَى الآية: إِنما هو في نزول المائدةِ علَيْهم، وذلك أنَّها لما نزلَتْ، أخذ عليهم عَهْدَ أنْ يَأْكُلُوا ولا يَخْبَأَ أَحدٌ شيئاً، ولا يدَّخره ولا يَحْمِله إلى بيته، فَخَانُوا، وجعلوا يُخَبِّئُون، فكان عيسى- عليه السلام- يُخْبِرُ كلَّ أحدٍ عمَّا أكل، وعمَّا ادخر في بَيْته من ذلك، وعوقبوا على ذلك «٢».
وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: تحذيرٌ، ودعاءٌ إِلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
وقوله: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ: إشارةٌ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ، لأن ألفاظه جمعتِ الإِيمان والطَّاعاتِ، والصِّرَاطُ: الطريقُ، والمُسْتَقِيم: الذي لا اعوجاج فيه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
وقوله تعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ... الآية: قبل هذه الآية محذوفٌ، به يتمُّ اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى كما بَشَّر اللَّه به، فقالَ جميعَ ما ذُكِرَ لبنِي إسرائيل، فَلَمَّا أَحَسَّ، ومعنى: أَحَسَّ: عَلِمَ من جهة الحَوَاسِّ بما سَمِعَ من أقوالهم في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدَّة عدَاوتِهِم، وإعراضهم، قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وقوله: إِلَى اللَّهِ: يحتمل معنيين:
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٧٩) برقم (٧١٠٤)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٤٠).
والثاني: أنْ يكون التقديرُ: مَنْ يضيفُ نُصْرته إلى نصرة اللَّهِ لِي، فإلى دَالَّة على الغاية في كِلاَ التقديرَيْن، وليس يُبَاحُ أنْ يُقَالَ: «إلى» بمعنى «مع» كما غلط في ذلك بَعْضُ الفقهاءِ في تَأْويلِ قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: ٦]، فقال: «إلى» بمعنى «مَعَ»، وهذه عُجْمَة.
والحواريُّون قَوْمٌ مرَّ بهم عيسى صلّى الله عليه وسلّم، فدَعَاهم إلى نصرِهِ واتباع ملَّته، فأجَابوه، وقَامُوا بذلك خَيْرَ قيامٍ، وصَبَرُوا في ذاتِ اللَّه، واختلف، لِمَ قِيلَ لهم حواريُّون؟ فقال ابنُ جُبَيْرٍ:
لبياضِ ثيابِهِمْ «١»، وقال أبو أرْطاةَ: لأنَّهم كانوا قَصَّارِينَ يَحُورُونَ الثِّياب، أيْ: يبيِّضونها «٢»، وقال قتادة: الحواريُّون: أصفياء الأنبياء الَّذِينَ تَصْلُحُ لهم الخلافةُ «٣»، وقال الضَّحَّاك نحوه «٤»، قال ع «٥» : وهذا القولُ تقريرُ حالِ القومِ، وليس بتَفْسِيرِ اللَّفْظَة، وعلى هذا الحدّ شبه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ابن عَمَّتِهِ بِهِمْ في قوله: «وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ».
والأقوال الأَوَلُ هي تفسيرُ اللفظة إذ هي من الحَوَر/، وهو البَيَاضُ، حَوَّرْتُ الثَّوْبَ: بَيَّضْته ومنْه الحُوَاري، وقد تسمِّي العرب النِّسَاءَ السَّاكِنَاتِ في الأمْصَارِ:
الحَوَارِيَّاتِ لغلبة البَيَاض علَيْهِنَّ ومنه قول أبي جلدة اليشكريّ «٦» :[الطويل]
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٢٨٥) برقم (٧١٢١) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٢).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨٥) برقم (٧١٢٢)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٠٦)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٢).
(٦) أبو جلدة بن عبيد الله اليشكري، من بني عدي بن جشم، من يشكر، شاعر نعته ابن قتيبة ب «الخبيث»، كان مولعا بالشراب، من أهل «الكوفة». خرج مع ابن الأشعث (عبد الرّحمن بن محمد) وقتله الحجاج، وقيل: مات في طريق «مكة». له شعر وأخبار، وكان يهاجي زيادا الأعجم، وفي حماسة ابن الشجري قصيدة له في تحريض أهل العراق على الثورة بعد قيام ابن الأشعث على الحجاج. ينظر:
«الأعلام» (٢/ ١٣٣).
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا | وَلاَ تَبْكِنَا إلاَّ الْكِلاَبُ النَّوَابِحُ «١» |
اشهد لَنَا عنْدَ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ خطَاباً لله تعالى كقوله صلّى الله عليه وسلّم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ:
«اللَّهُمَّ، اشهد»، وقولهم: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يريدون: الإنجيل، وآياتِ عيسى، فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، أي: في عِدَادِ مَنْ شهد بالحَقِّ مِنْ مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل الكافرِينَ بعيسى- عليه السلام-، فقال: وَمَكَرُوا، يريدُ في تحيُّلهم في قتله بزعمهم فهذا هو مَكْرُهُمْ، فجازاهم اللَّه تعالى بأنْ طرح شَبَهَ عيسى على أحد الحواريِّين في قول الجمهور، أو على يهوديٍّ منهم كَانَ جَاسُوساً، وأعقبَ بَنِي إسرائيل مذلَّةً وهَوَاناً في الدُّنيا والآخرة، فهذه العُقُوبة هي التي سَمَّاها اللَّه تعالى مَكْراً في قوله:
وَمَكَرَ اللَّهُ، وذلك مَهْيَعٌ «٢» أنْ تسمَّى العقوبةُ باسم الذنب.
وقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ: معناه: فاعلُ حقٍّ في ذلك، وذكر أبو القَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في «تحبيره»، قال: سُئِلَ مَيْمُونٌ، أحسبه: ابن مِهْرَانَ «٣» عن قولِهِ تعالى:
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ فقال: تخليتُهُ إياهم، مع مَكْرهم هو مَكْرُهُ بهم. اهـ. ونحوه عن الجُنَيْدِ «٤»، قال الفَرَّاء: المَكْرُ من المخْلُوقِ الْخِبُّ والحِيلَة، ومِنَ الإله الاِسْتِدْرَاجُ، قال الله
(٢) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط، وهو مفعل من التهيع، وهو الانبساط.
ينظر: «لسان العرب» (٤٧٣٨) (هيع).
(٣) ميمون بن مهران الرقي، أبو أيوب: فقيه من القضاة، كان مولى لامرأة ب «الكوفة»، وأعتقته، فنشأ فيها، ثم استوطن الرقة (من بلاد الجزيرة الفراتية) فكان عالم الجزيرة، وسيدها، واستعمله عمر بن عبد العزيز على خراجها وقضائها، وكان على مقدمة الجند الشامي، مع معاوية بن هشام بن عبد الملك، لما عبر البحر غازيا إلى «قبرس»، سنة ١٠٨ هـ، وكان ثقة في الحديث، كثير العبادة.
توفي سنة (١١٧) هـ. ينظر «الأعلام» (٧/ ٣٤٢).
(٤) الجنيد بن محمد بن الجنيد البغدادي الخزاز، أبو القاسم: صوفي من العلماء بالدين. مولده ومنشؤه ووفاته ببغداد، أصل أبيه من «نهاوند» وعرف بالخزاز لأنه كان يعمل الخز. قال أحد معاصريه: ما رأت-
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
وقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ... الاية: اختلف في هذا التِّوفِّي.
فقال الرَّبيع: هي وفاةُ نَوْمٍ «١»، وقال الحَسَن وغيره: هو توفِّي قَبْضٍ وتَحْصِيلٍ، أي:
قابضك منَ الأرْضِ، ومحصِّلك في السماءِ «٢» وقال ابنُ عبَّاس: هي وفاةُ مَوْتٍ «٣»، ونحوه لمالك في «العَتَبِيَّة»، وقال وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ: توفَّاه اللَّه بالمَوْتِ ثلاثَ ساعاتٍ، ورفعه فيها، ثُمَّ أحياه بعد ذلك «٤»، وقال الفَرَّاء: هي وفاةُ مَوْتٍ «٥»، ولكنَّ المعنى: إني متوفِّيك في آخر أمْرِكَ عنْد نزولِكَ وقَتْلِك الدَّجَّال، ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخير.
قال ع «٦» : وأجمعتِ الأمة على ما تضمَّنه الحديثُ المتواتر «٧» منْ أنَّ عيسى- عليه
ينظر: «وفيات الأعيان» (١/ ١١٧)، و «حلية» (١٠/ ٢٥٥)، و «صفة الصفوة» (٢/ ٢٣٥)، و «تاريخ بغداد» (٧/ ٢٤١)، و «طبقات السبكي» (٢/ ٢٨)، و «طبقات الحنابلة» (٨٩)، «الأعلام» (٢/ ١٤١).
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨٨) برقم (٧١٢٩) وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٩٧)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٠٨)، وابن عطية (١/ ٤٤٢). [.....]
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨٨) برقم (٧١٣١) بنحوه، وذكره ابن عطية (١/ ٤٤٤).
(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٣٩٦)، وابن عطية (١/ ٤٤٤).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٨٩) برقم (٧١٣٨)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٠٨)، وابن عطية (١/ ٤٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٤).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٤).
(٧) والحديث المتواتر هو ما رواه جمع يحيل العقل تواطؤهم على الكذب عادة من أمر حسّيّ، أو حصول الكذب منهم اتّفاقا، ويعتبر ذلك في جميع الطّبقات إن تعدّدت. -
١- أن يكون رواته عددا كثيرا.
٢- أن يحيل العقل تواطؤهم على الكذب، أو أن يحصل الكذب منهم اتّفاقا عادة.
٣- أن يرووا ذلك عن مثلهم من الابتداء إلى الانتهاء في كون العقل يمنع من تواطؤهم على الكذب، أو حصوله منهم اتّفاقا عادة.
٤- أن يكون مستند انتهائهم الإدراك الحسّيّ بأن يكون آخر ما يئول إليه الطريق ويتم عنده الإسناد- أمر حسيّ مدرك بإحدى الحواسّ الخمس الظاهرة من الذوق، واللّمس، والشم، والسّمع، والبصر.
ثم إنه من المتّفق عليه عند العلماء، وأرباب النّظر أنّ القرآن الكريم لا تجوز الرّواية فيه بالمعنى، بل أجمعوا على وجوب روايته لفظة لفظة، وعلى أسلوبه، وترتيبه، ولهذا كان تواتره اللفظي لا يشكّ فيه أدنى عاقل، أو صاحب حسّ، وأما سنّة رسول الله، فقد أجازوا روايتها بالمعنى لذلك لم تتّحد ألفاظها، ولا أسلوبها، ولا ترتيبها.
فإذن يكون الحديث متواترا تواترا لفظيّا، أو معنويّا، إذا تعددت الرّواية بألفاظ مترادفة، وأساليب مختلفة في التّمام والنقص، والتقديم والتّأخير في الواقعة الواحدة، حتى بلغت مبلغ التّواتر.
ومن ناحية أخرى، فإذا تعدّدت الوقائع، واتفقت على معنى واحد، دلّت عليه تارة بالتّضمّن، وتارة بالالتزام حتّى بلغ القدر المشترك في تلك الوقائع المتعددة مبلغ التّواتر فإنه حينئذ يكون متواترا تواترا معنويا، لا خلاف في ذلك.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٢٣١)، «البرهان» لإمام الحرمين (١/ ٥٦٦)، «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٢/ ١٤)، «نهاية السول» للأسنوي (٣/ ٥٤)، «منهاج العقول» للبدخشي (٢/ ٢٩٦)، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٩٥)، «التحصيل من المحصول» للأرموي (٢/ ٩٥)، «المنخول» للغزالي (٢٣١)، «المستصفى» له (١/ ١٣٢)، «حاشية البناني» (٢/ ١١٩)، «الإبهاج» لابن السبكي (٢/ ٢٦٣)، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٣/ ٢٠٦).
(١) أخرجه البخاري (٤/ ٤٨٣) في البيوع: باب قتل الخنزير (٢٢٢٢)، (٥/ ١٤٤) في المظالم: باب كسر الصليب وقتل الخنزير (٢٤٧٦) و (٦/ ٥٦٦) في أحاديث الأنبياء: باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام (٣٤٤٨)، ومسلم في الإيمان: باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم (٢٤٢- ١٥٥)، (٢٤٣-... )، وأبو داود (٢/ ٥٢٠) في الملاحم: باب ذكر خروج الدجال (٤٣٢٤)، والترمذي (٤/ ٤٣٩) في الفتن باب ما جاء في نزول عيسى ابن مريم عليه السلام (٢٢٣٣)، وابن ماجة (٢/ ١٣٦٣) في الفتن: باب فتنة الدجال، وخروج عيسى ابن مريم... (٤٠٧٨)، وأحمد (٢/ ٢٧٢، ٢٩٠، ٣٩٤، ٤٠٦، ٤٣٧، ٤٨٢، ٥٣٨). وعبد الرزاق (٢٠٨٤٠، ٢٠٨٤٤، ٢٠٨٤٥)، والحميدي (٢/ ٤٦٨) برقم (١٠٩٧، ١٠٩٨)، وأبو يعلى في «مسنده» (٥٨٧٧) من طرق عن أبي هريرة رفعه: «لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد».
وقوله تعالى: وَرافِعُكَ إِلَيَّ عبارةٌ عَنْ نَقْلِهِ من سُفْلٍ إلى عُلْو، وإضافه اللَّه سبحانه إضافةُ تشريفٍ، وإلا فمعلومٌ أنه سبحانه غَيْرُ متحيِّزٍ في جهةٍ، وَمُطَهِّرُكَ، أي: مِنْ:
دعاوى الكَفَرَةِ ومعاشَرَتِهِمْ.
وقوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ... الآية: قال جمهورُ المفسِّرين بعموم اللفظ/ في المتّبعين، فتدخل في ذلك أمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنها مُتَّبِعَةٌ لعيسى قاله قتادة وغيره «٢» وكذلك قالوا بعموم اللفظِ في الكَافِرِينَ، فمقتضَى الآيَةِ إعلامُ عيسى- عليه السلام- أنَّ أهْلَ الإيمانِ به، كما يجب، هم فوق الذين كَفَرُوا بالحُجَّة، والبُرْهَان، والعِزِّ والغَلَبَةِ، ويظْهَرُ منْ عبارة ابن جُرَيْج وغيره أنَّ المراد المتبعون لَهُ في وقْتِ استنصاره، وهم الحواريُّون «٣».
وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ خَطَابٌ لعيسى، والمرادُ: الإخبار بالقيامة، والحَشْرِ، وباقي الآيةِ بيِّن، وتوفيةُ الأجور هي قَسْم المَنَازِلِ في الجَنَّة، فذلك هو بحَسَب الأعمال، وأما نَفْسُ دخولِ الجَنَّةَ، فبرحْمَةِ اللَّه وتفضُّله سبحانه.
وقوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ... الآية: «ذَلِكَ» : إشارة إلى ما تقدّم من الأنباء، ونَتْلُوهُ: معناه: نسرده، ومِنَ الْآياتِ: ظاهره آيات القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ: من المعجزاتِ والمُسْتَغْرَبَاتِ أن تأتيهم بهذه الغُيُوبِ من قبلنا، وبسبب تلاوتنا، والذِّكْرِ: ما ينزلُ من عند اللَّه. قال ابن عبّاس: الذّكر: القرآن، والْحَكِيمِ: الذي قد كمل في حكمته «٤».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٥).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٤٤٥).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٢٩٣) برقم (٧١٥٥)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٤٦).
وقوله تعالى: ثُمَّ قالَ ترتيبٌ للأخبار لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، المعنى: خَلَقَهُ من تُرَابٍ، ثم كان مِنْ أمره في الأزَلِ أنْ قال له: كُنْ وقْتَ كذا.
وقوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، أي: هذا هو الحقّ، والْمُمْتَرِينَ: هم الشاكّون، ونهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في عبارةٍ اقتضت ذَمَّ الممترين وهذا يدلُّ على أنَّ المراد بالامتراء غَيْرُهُ ونُهِيَ عن الامتراء، مع بُعْده عنه على جهة التثْبِيتِ والدَّوام على حاله.
وقوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ، أي: في عيسى، ويحتملُ في الحقِّ، والعِلْمُ الذي أشير إلَيْه بالمجيء هو ما تضمَّنته هذه الآياتُ المتقدِّمة.
وقوله: فَقُلْ تَعالَوْا: استدعاء للمباهلة «٢»، وتَعالَوْا: تَفَاعَلُوا من العُلُوِّ، وهي كلمةٌ قُصِدَ بها أولاً تحسينُ الأدَب مع المدعوِّ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوّه، وللبهيمة، ونَبْتَهِلْ: معناه: نَلْتَعِن، ويقال: عَلَيْهِمْ بهلة اللَّه، والابتهال: الجِدُّ في الدُّعاء بالبهلة، روى محمَّد بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ وغيره: «إن رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، لما دَعَا نصارى نَجْرَانَ إلى المباهلة، قالوا: دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتِكَ بما نَفْعَلُ، فَذَهَبُوا إلَى العَاقِب، وهو ذُو رَأْيِهِمْ، فَقَالُوا: يَا عَبْدَ المَسِيحِ، مَا ترى، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النصارى، وَاللَّهِ، لَقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ محمَّداً النَّبيُّ المُرْسَلُ، ولَقَدْ جَاءَكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لاَعَنَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيًّا، فَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلاَ نَبَتَ/ صَغِيرُهُمْ، وَأَنَّهُ الاستئصال إنْ فَعَلْتُمْ، فَإنْ أَبَيْتُمْ إلاَّ إلْفَ دِينِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ عيْهِ مِنَ القَوْلِ في صاحبكم، فوادعوا الرّجل،
(٢) المباهلة: الملاعنة، يقال: باهلت فلانا، أي: لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
ينظر: «لسان العرب» (٣٧٥). [.....]
قال ع «٢» : وفي ترك النصارَى الملاعَنَةَ لعلمهم بنبوّة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم شاهد عظيم على صحّة نبوّته صلّى الله عليه وسلّم عندهم، ودعاءُ النِّساء والأبناء أهَزُّ للنفوسِ، وأدعى لرحمة اللَّه للمُحِقِّين، أو لغضبه على المُبْطِلِينَ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
وقوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ... الآية: هذا خبرٌ من اللَّه تعالى، جزمٌ مؤكَّد، فَصَل به بين المختَصِمَيْن، والإشارةُ بهذا هي إلى ما تقدَّم في أمر عيسى- عليه السلام-، والقصص معناه الإخبار.
وقال ص: إِنَّ هذا لَهُوَ: هذا، إشارةً إلى القرآن. اهـ.
واختلف المفسِّرون من المُرَاد بأهْلِ الكِتَابِ هنا.
فروى قتادة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنهم يهودُ المدينَة «٣».
وقال ابنُ زَيْدٍ وغيره: المرادُ نصارى نجران «٤».
قال ع «٥» : والذي يظهر لي أنَّ الآية نزلَتْ في وَفْد نَجْرَان، لكن لفظُ الآية يعمُّهم، وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، وكذا
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٨).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠٠) برقم (٧١٨٧) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٧١)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠٠) برقم (٧١٩٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٤٨).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٨).
وقوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ هو في موضعِ خفضٍ على البَدَلِ مِنْ كَلِمَةٍ، أو في موضعِ رفعٍ بمعنى هِيَ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّه، واتخاذُ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتبَ، أشدُّها: اعتقادهم الألوهيَّة، وعبادتهم لهم كَعُزَيْرٍ، وعيسى، ومريمَ، وأدنى ذلك: طاعتهم لأساقفتهم في كلِّ ما أَمَرُوا بِهِ مِنَ الكُفْر والمعاصِي، والتزامهم طاعتهم شرعاً.
م: فَإِنْ تَوَلَّوْا: أبو البقاءِ: تَوَلَّوْا: فعلٌ ماضٍ، ولا يجوزُ أنْ يكون التقديرُ:
«تَتَوَلَّوا» لفساد المعنى لأنَّ قوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا خطابٌ للمؤمنين، وتَوَلَّوْا للمشركينَ. اهـ.
وقوله: فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ... الآية: قال ابن عبّاس
قال أبو منصور:... تقع على الحرف الواحد من حروف الهجاء، وتقع على لفظة مؤلفة من جماعة حروف ذات معنى، وتقع على قصيدة بكمالها وخطبة بأسرها. ينظر: «لسان العرب» (٣٩٢٢).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠١) برقم (٧١٩٣) وذكره ابن عطية (١/ ٤٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٧١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن قتادة.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٤٩)،
(٤) ينظر المصدر السابق.
وقوله تعالى: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا... الآية: أخبر اللَّه تعالى في هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم- عليه السلام-، ونفى عنه اليهوديَّةَ والنصرانيَّةَ، والإشراكَ، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً أن أَوْلَى النَّاسِ بإبراهيم هم القومُ الَّذين اتبعوه، فيدخلُ في ذلك كُلُّ من اتبع الحنيفيةَ في الفترات وهذَا النَّبِيُّ: يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه بعث بالحنيفيّة السّمحة، والَّذِينَ آمَنُوا: يعني: بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، وسائرِ الأنبياء على ما يجبُ ثم أخبر سبحانه أنه وليُّ المؤمنين وعداً منْهُ لهم بالنَّصْر في الدنيا والنعيم في الآخرة روى عبد الله بن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيلُ رَبِّي إبْرَاهِيمُ»، ثِمَّ قَرَأَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ... الآية «٤».
(٢) ينظر: «الطبري» (٣/ ٣٠٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥١).
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٢٣)، كتاب «التفسير»، باب من سورة آل عمران، حديث (٢٩٩٥)، والطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٩٨- شاكر) رقم (٧٢١٦)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ٤٤٤)، والبزار كما في «تفسير ابن كثير» (١/ ٣٧٢) كلهم من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود به.
وأخرجه الحاكم (٢/ ٢٩٢) من طريق محمد بن عبيد الطنافسي عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وأخرجه الحاكم (٢/ ٥٥٣) من طريق الواقدي عن سفيان به.
وذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٦٣) رقم (١٦٧٧) من طريق روح بن عبادة عن سفيان بهذا-
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٩ الى ٧١]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)وقوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ، قال مَكِّيٌّ: قِيلَ: إن هذه الآية عُنِيَ بها قُرَيْظَةُ، والنَّضِيرُ، وبَنُو قَيْنُقَاع، ونصارى نَجْرَانَ.
ص: قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ: وَدَّ: بمعنى تمنى، ويستعملُ معها: «أَنْ، ولَوْ»، ورُبَّمَا جمع بينهما نَحْوُ: «وَدِدتُّ أَنْ لَوْ فَعَلَ»، ومصدره الوَدَادَةُ، والاسْم منه الوُدُّ، وبمعنى: أَحَبَّ، فيتعدى كتَعَدِّي أَحَبَّ، ومصدره: مَوَدَّة، والاسم منه وُدٌّ، وقد يتداخَلاَنِ في الاسم والمصدر اه.
وقوله تعالى: وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ: إعلامٌ بأن سوء فعلهم عائدٌ عليهم، وأنهم ببعدهم عن الإسلام هم الضالُّون، ثم أَعْلَمَ تعالى أنهم لا يشعُرُونَ بذلك، أي: لا يتفطَّنون، ثم وقفهم تعالى موبِّخاً لهم على لسان نبيِّه، والمعنى: قُلْ لهم، يا محمَّدُ: لأيِّ سببٍ تكفرون بآياتِ اللَّه التي هي آياتُ القرآن، وأنتم تَشْهَدُونَ أنَّ أمره وَصِفَةَ محمّد في
وقد خالفهم ابن مهدي ويحيى القطان وأبو نعيم ووكيع، فرووه عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن مسعود، فأخرجه أحمد (١/ ٤٢٩- ٤٣٠) من طريق عبد الرّحمن بن مهدي عن سفيان به.
وأخرجه (١/ ٤٠٠- ٤٠١) من طريق وكيع عن سفيان به. والترمذي (٥/ ٢٢٤) من طريق وكيع أيضا.
وأخرجه الترمذي (٥/ ٢٢٣) كتاب «التفسير»، باب من سورة آل عمران، حديث (٢٩٩٥)، والطبري في «تفسيره» (٦/ ٤٩٩- شاكر) رقم (٧٢١٧)، والحاكم (٢/ ٥٥٣) كلهم من طريق أبي نعيم عن سفيان به.
وقال الترمذي: هذا أصح من حديث أبي الضحى عن مسروق، وأبو الضحى اسمه مسلم بن صبيح.
وأخرجه الخطيب (٤/ ٢٢٢) من طريق معاوية بن هشام عن سفيان به.
وقد رجح الترمذي رواية أبي الضحى عن ابن مسعود، وكذلك رجحه أبو زرعة وأبو حاتم.
فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٦٣) رقم (١٦٧٧) : سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه أبو أحمد الزبيري وروح بن عبادة عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةٌ مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وَلِيِّي منهم وخليلي أبي إبراهيم»، ثم قرأ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ. فقالا جميعا: هذا خطأ رواه المتقنون من أصحاب الثوري عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلا مسروق. اهـ.
وقد رجح الشيخ أحمد شاكر الطريقين في «تعليقه على الطبري» بكلام متين، فلينظر. [.....]
ويحتملُ أنْ يريد بالآياتِ ما ظَهَرَ على يده صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات.
قُلْتُ: ويحتملُ الجميع من الآيات المتلوّة والمعجزات التي شاهدوها منه صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ص: وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ: جملةٌ حاليَّةٌ، ومفعول «تَشْهَدُونَ» : محذوفٌ، أي: أنها آيات اللَّه، أو ما يدلُّ على صحَّتها من كتابكم، أوْ بمثلها من آيات الأنبياء. اهـ.
وقوله: لِمَ تَلْبِسُونَ: معناه: تَخْلِطُونَ: تَقُولُ: لَبَسْتُ الأَمْرَ بفتح الباءِ: بمعنى خَلَطْتُهُ ومنه قوله تعالى: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام: ٩].
وفي قوله: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ توقيفٌ علَى العنادِ ظاهرٌ.
وباقى الآية تقدّم بيانه في «سورة البقرة».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
وقوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ... الآية/ أخبر اللَّه سبحانه في هذه الآيةِ أنَّ طائفة من اليهودِ مِنْ أحبارهم ذهَبَتْ إلى خديعة المسلمين بهذا المَنْزَع، قال قتادة وغيره: قال بَعْضُ الأحبار: لنظهر الإيمان بمحمَّد صَدْر النَّهار ثم لنكْفُر به آخر النهار، فسيقول المُسْلِمُون عنْد ذلك: ما بَالُ هؤلاءِ كَانُوا مَعَنا ثم انصرفوا عَنَّا، ما ذاك إِلاَّ لأنهم انكشفت لهم حقيقةٌ في الأمر، فيشكُّون، ولعلَّهم يَرْجِعُون عن الإِيمان «٢» بمحمَّد، قال الإِمام الفَخْر «٣» : وفي إِخبار اللَّه تعالى عن تواطئهم على هذه الحِيلَةِ من الفائدة وجوه:
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٠٨) برقم (٧٢٢٠) بنحوه، وذكره الماوردي (١/ ٤٠١)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣١٥)، وابن عطية (١/ ٤٥٣)، وابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣٧٣).
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٨٤).
الثاني: أنه تعالى، لما أطْلَعَ المؤمنينَ على تواطئهم على هذه الحيلة، لَمْ يحصل لهذه الحيلة أثرٌ في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإِعلام، لأمكن تأثيرها في قَلْب من ضَعُفَ إِيمانه.
الثالث: أنَّ القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة، صار ذلكَ رَادِعاً لهم عن الإِقدام على أمثالها من الحِيَلِ والتَّلْبِيسِ اهـ.
وذكر تعالى عن هذه الطائفةِ مِنْ أَهْل الكتابِ أنهم قالوا: وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، ولا خلافَ أن هذا القول هو مِنْ كلام الطائفةِ، واختلف النَّاسُ في قوله تعالى:
أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، فقال مجاهد وغيره مِنْ أهل التأويل: الكلامُ كلُّه من قول الطائفة لأتْباعهم «١».
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضٌ بَيْن الكلامَيْن قال ع «٢» : والكلامُ على هذا التأويل يحتملُ معانِيَ:
أحدها: ولا تصدِّقوا وتؤْمنوا إلاَّ لمن جاء بِمِثْلِ دينِكُمْ حذاراً أنْ يؤتى أحدٌ من النبوَّة والكرامة مِثْلَ ما أوتيتم، وحِذَاراً أنْ يحاجُّوكم بتصديقِكُمْ إيَّاهم عنْدَ ربِّكم، إذا لم تستمرُّوا عليه، وهذا القولُ على هذا المعنى ثمرةُ الحَسَدِ والكُفْر، مع المعرفة بصحّة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ الكلام أنْ يكون معناه: ولا تُؤْمنوا بمحمَّد، وتُقِرُّوا بنبوَّته إذ قد علمتم صحَّتها إلا لليهود الّذين هم منكم، وأَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ: صفَةٌ لحالِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمعنى: تستَّروا بإقراركم أن قَدْ أوتيَ مِثْلَ ما أوتيتم، أو فإنهم (يعنون العربَ) يحاجُّونكم بالإقرار عند ربِّكم.
وقرأ ابنُ كَثيرٍ وحْده مِنْ بَيْنِ السبعة: «آنْ يُؤتى» بالمد: على جهة الاستفهام الَّذي هو تقريرٌ «٣»، وفسر أبو عليٍّ قراءة ابن كثيرٍ على أنَّ الكلام كلّه من قول الطائفة إلّا
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٤).
(٣) قال الأزهري: ومن قرأ بالمد فهو استفهام معناه الإنكار، وذلك أن أحبار اليهود قالوا لذويهم: أيؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ أي: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. -
تُصدِّقون أو تعترفُون أو تذكِّرونه لغيركم، ونحو هذا ممَّا يدلُّ عليه الكلام.
قال ع «١» : ويكونُ «يحاجُّوكم» على هذا معطوفاً على: «أنْ يؤتى». قال أبو عَلِيٍّ: ويجوز أنْ يكون موضع «أنْ» نَصْباً، فيكونُ المعنَى: أتشيعونَ أو تَذكُرُون أنْ يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ، ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: ٧٦]، فعلى كلا الوجهَيْن/ معنَى الآية توبيخٌ من الأحبارِ للأْتباعِ على تصديقهم بأنّ محمّدا صلّى الله عليه وسلّم نَبِيٌّ مبعوثٌ.
قال ع «٢» : ويكون قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ في تأويل نصْب «أنْ» بمعنى:
أو تريدونَ أنْ يحاجُّوكم.
وقال السُّدِّيُّ وغيره: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية: هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله لأمَّته «٣».
وحكَى الزَّجَّاج «٤» وغيره أنَّ المعنى: قُلْ إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحدٌ مِثْلَ ما أوتيتم.
ومعنى الآية على قول السدِّيِّ: أيْ: لم يعط أحدٌ مثْلَ حظِّكم، وإلاَّ فليحاجَّكم مَنِ ادعى سوى ذلك، أو يكون المعنى: أو يحاجُّونكم على معنى الازدراء باليَهُود كأنه قال:
أو هَلْ لهم أنْ يحاجُّوكم، أو يخاصمُوكُمْ فيما وهبَكُم اللَّه، وفضَّلكم به، وقال قتادةُ والرَّبيع: الكلام كله من قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ إلى آخر الآية هو مما أمر به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يقوله للطائفة.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٥).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٥٥).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٣١٢) برقم (٧٢٤٨)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٥٦)، والسيوطي (٢/ ٧٦)، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(٤) «معاني القرآن» (١/ ٤٣٠).
قلْتُ: وقد أطالوا الكلامَ هنا، وفيما ذكرناه كفايةٌ.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ في الآية تكذيبٌ لليهود في قولهم: لَنْ يُؤْتِيَ اللَّهُ أحداً مِثْلَ ما أتى بني إسرائيل من النبوَّة والشَّرف، وباقي الآية تقدَّم تفسير نظيره.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
وقوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ... الآية: أخبر تعالى عن أهْل الكتاب أنهم قسْمَانِ في الأمانةِ، ومَقْصِدُ الآية ذمُّ الخَوَنَةِ منْهم، والتفنيدُ لرأيهم وكَذِبِهِمْ على اللَّه في استحلالهم أموالَ العَرَبِ. قال الفَخْرَ «٢» وفي الآية ثلاثةُ أقوال:
الأول: أنَّ أهل الأمانةِ منهم الَّذين أسْلَمُوا، أمَّا الذين بَقُوا عَلَى اليهوديَّة، فهم مصرُّون عَلَى الخيَانَة لأن مذهبهم أنَّه يحلُّ لهم قَتْلُ كلِّ من خالفهم في الدِّينِ، وأَخْذُ ماله.
الثَّاني: أنَّ أهل الأمانة منهم هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهودُ.
الثالث: قال ابنُ عَبَّاس: أوْدَعَ رجلٌ عبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ أَلْفاً ومِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ مِنْ ذَهَبٍ، فأدَّى إلَيْه، وأودَعَ آخَرُ فِنْحَاصاً اليهوديَّ ديناراً، فخانه، فنزلَتِ الآية. اهـ «٣».
قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامِهِ» «٤» : قال الطبريُّ «٥» : وفائدةُ هذه الآية النهي عن ائتمانهم
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٨٨).
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣١٧). [.....]
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٢٧٥).
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣١٥) بنحوه.
أنها في المالِ نصٌّ، وفي الدِّينِ تنبيهٌ، فأفادَتِ المعنيين بهذَيْنِ الوجهَيْنِ. قال ابنُ العربيِّ:
فالأمانةُ عظيمةُ القَدْرِ في الدِّينِ، ومن عظيمِ قَدْرها أنها تقفُ على جَنَبَتَيِ الصِّراطِ لا يُمَكَّنُ من الجواز إلا مَنْ حفظها، ولهذا وجَبَ علَيْكَ أن تؤدِّيها إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك، فتقابل المعْصِيَةَ بالمَعْصية وكذلك لا يجوزُ أنْ تَغْدُرَ مَنْ غَدَرَكِ. قال البخاريُّ:
باب إثْمِ الغَادِرِ للْبَرِّ والفَاجِرِ. اهـ.
والقِنْطَارُ في هذه الآية: مثالٌ للمالِ الكَثيرِ، يَدْخُلُ فيه أكثر من القِنْطَارِ وأقلُّ، وأَمَّا الدينار، فيحتملُ أنْ يكون كذلك مثالاً لما قَلَّ، ويحتملُ أنْ يريد أنَّ منهم طبقةً لا تخون إلا في دينار فما زاد، ولم يُعْنَ/ لذكْرِ الخائنَين في أقَلَّ إذ هم طَغَامٌ حُثَالَةٌ، ودَامَ: معناه:
ثبت.
وقوله: قائِماً: يحتملُ معنيين: قال قتادة، ومجاهد، والزَّجَّاج «١» : معناه: قَائِماً على اقتضاءِ حَقِّك «٢»، يريدون بأنواع الاقتضاءِ من الحَفْزِ والمُرَافَعَةِ إلى الحاكِمِ مِنْ غَيْر مراعاة لهيئة هذا الدِّائِم.
وقال السُّدِّيُّ وغيره: معنى قَائِماً: على رأسه «٣».
وقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ... الآية: الإشارة ب «ذَلِكَ» إلى كونهم لا يؤدُّون الأمانة، أي: يقولون نحن من أهل الكتاب، والعرب أُمِّيُّونَ أَصْحَابُ أوثانٍ، فأموالهم لنا حلالٌ، متى قَدَرْنا على شيْءٍ منها، لا حُجَّة عَلَيْنَا في ذلك، ولا سبيلَ لمعترضٍ.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ذمٌّ لبني إسرائيل بأنهم يَكْذِبُونَ علَى اللَّه سبحانه في غير مَا شَيْءٍ، وهم عالمون بمواضع الصّدق.
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٣١٥) برقم (٧٢٥٨)، (٧٢٥٩) عن قتادة، وبرقم (٧٢٦٠) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (١/ ٤٥٨)، والسيوطي (٢/ ٧٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٣١٦) برقم (٧٢٦٢)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٥٨)، والسيوطي (٢/ ٧٧)، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
ثم ردَّ اللَّه تعالى في صَدْر قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا بقوله: بَلى أي: عليهم سبيلٌ، وحُجَّةٌ، وتِبَاعَةٌ، ثُمَّ أخبر على جهة الشرط أنَّ مَنْ أوفى بالعَهْد، واتقى عقُوبةَ اللَّهِ في نَقْضه، فإنه محبوبٌ عند اللَّه.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ... الآية: آية وعيدٍ لمن فعل هذه الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخُلُ فيها الكُفْر فما دونه من جَحْد الحَقِّ وخَتْرِ «١» المواثيقِ، وكلٌّ يأخذ من وعيدها بحَسَب جريمتِهِ.
قال ابنُ العربِيِّ في «أحكامه» «٢» : وقد اختلف الناسُ في سَبَب نزول هذه الآيةِ، والذي يصحُّ من ذلك: أنَّ عبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ حَلَفَ يَمِينَ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امرئ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ:
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا... الآية، قال: فجاء الأشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ كَانَتْ لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابن عَمٍّ لِي، وفِي رِوَايَةٍ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ اليهود أرض، فجحدني، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ»، قُلْتُ: إذَن يَحْلِفَ، يَا رسول الله، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وذَكَرَ الحديث «٣». اهـ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ... الآية: يَلْوُونَ: معناه:
يحرِّفون ويتحيَّلون لتبديل المعانِي من جهة اشتباه الألفاظ، واشتراكها، وتشعّب
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٢٧٧- ٢٧٨).
(٣) أخرجه البخاري (٥/ ٢٨٠)، كتاب «الشهادات»، باب اليمين على المدعى عليه، حديث (٢٦٦٩، ٢٦٧٠)، ومسلم (١/ ١٢٢- ١٢٣) كتاب «الإيمان»، باب من اقتطع حق امرئ مسلم بيمين فاجرة، حديث (٢٢٠/ ١٣٨)، وأبو داود (٤/ ٤١) كتاب «الأقضية»، باب إذا كان المدعى عليه ذميا، حديث (٣٦٢١)، والترمذي (٥/ ٢٢٤) كتاب «التفسير» باب (٤) حديث (٢٩٩٦)، وابن ماجة (٢/ ٧٧٨) كتاب «الأحكام»، باب البينة على المدعي، حديث (٢٣٢٢).
والحميدي (١/ ٥٣) رقم (٩٥)، والطيالسي (١/ ٢٤٦) رقم (١٢١٦)، وأبو عوانة (١/ ٣٨- ٣٩) باب بيان الأعمال التي يستوجب فاعلها عذاب الله، وأبو يعلى (٩/ ٥٠- ٥١) رقم (٥١١٤)، والبيهقي (١٠/ ١٧٨) كلهم من طريق أبي وائل عن ابن مسعودٍ قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان» فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك.
وقوله: وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: نفْيٌ أنْ يكون منزَّلاً من عند اللَّه كما ادعوا، وهو من عند اللَّه، بالخَلْق، والاختراع، والإيجاد، ومنهم بالتكسّب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
وقوله تعالى: مَا كانَ لِبَشَرٍ... الآية: معناه: النفْيُ التامُّ لأنا نقطع أنَّ اللَّه لا يؤتي النبوّة للكذبة والمدّعين، والْكِتابَ هنا اسم جنس، والْحُكْمَ: بمعنى الحكمة ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحُكْماً» «١» وقال الفَخْر «٢» : هنا اتفق أهْلُ اللغة والتفْسير على أنَّ هذا الحكم هو العلْم، قال تعالى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: ١٢] يعني: العلم والفهم. اهـ.
«وثُمَّ» : في قوله: ثُمَّ يَقُولَ: معطيةٌ تعظيمِ الذنْبِ في القولِ بعد مُهْلة من هذا الإنعام، وقوله: عِباداً: جمع «عَبْدٍ»، ومن جموعه عَبِيد، وعِبِدَّى.
قال ع «٣» : والذي أستقْرَيْتُ/ في لفظة العِبَادِ، أنه جَمْعُ عَبْدٍ، متى سيقَتِ اللفظةُ في مضمارِ الترفيعِ، والدلالةِ على الطاعة، دون أنْ يقترن بها معنى التَّحْقير، وتصغير الشأن، وأما العبيد، فيستعمل في التحقير.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ٩٨).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦١).
قلتُ: وقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ [الفرقان: ١٧] ونحوه يوضِّحه. اهـ.
ومعنى الآيةِ: ما كان لأحَدٍ من النَّاسِ أنْ يَقُولَ: اعبدوني، واجعلوني إلَهاً، قال النَّقَّاشُ وغيره: وهذه الإِشارة إلى عيسى- عليه السلام-، والآية رادَّة على النصارى، وقال ابنُ عَبَّاس وجماعةٌ من المفسّرين: بل الإشارة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسببُ نزولِ الآيةِ أنَّ أبا رافِعٍ القُرَظِيَّ قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ اجتمعت الأحبارُ من يهودَ، والوَفْدُ مِنْ نصارى نَجْرَانَ: يَا مُحَمَّدُ، إنَّمَا تُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَكَ وَنَتَّخِذَكَ إلَهاً، كَمَا عَبَدَتِ النصارى عيسى، فَقَالَ الرَّئِيسُ مِنْ نصارى نَجْرَانَ: أَوَ ذَاكَ تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ، وَإلَيْهِ تَدْعُونَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَعَاذَ اللَّهِ! مَا بِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَلاَ إلَيْهِ دَعَوْتُ»، فنزلَتِ الآية، قال بعْضُ العلماءِ: أرادَتِ الأحبار أن تلزم هذا القول محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا تلا علَيْهِمْ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: ٣١] وإنَّما معنى الآيةِ: فاتبعوني فيما أدْعُوكُمْ إليه مِنْ طاعة اللَّهِ، فحرَّفوها بتأوُّلهم، وهذا مِنْ نوع لَيِّهِمُ الكتابَ بألسنتهم، قال الفَخْر «١» وقال ابنُ عبَّاس: إن الآية نزَلَتْ بسبب قولِ النَّصَارَى:
المَسِيحُ ابن اللَّهِ، وقولِ اليهود: عُزَيْرٌ ابن اللَّه «٢» وقيل: إن رجلاً من المسلِمِينَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلاَ نَسْجُدُ لَكَ؟ فَقَالَ- عليه السلام-: «مَا يَنْبَغِي السُّجُودُ إلاَّ لِلَّهِ» «٣». قيلَ:
وقوله تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ يقوِّي هذا التأويل. اهـ.
وقوله تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ... الآيةَ: المعنى: ولكنْ يقول: كونُوا ربانيِّين، وهو جَمْعُ رَبَّانِيٍّ، قال قومٌ: منْسُوبٌ إلَى الرَّبِّ من حيثُ هو عَالِمٌ ما علمه، عَامِلٌ بطاعته، معلِّم للناس ما أُمِرَ به، وزِيدَتْ فيه النُّونُ مبالغةً، وقال قومٌ: منسوبٌ إلى الرّبَّان، وهو معلِّم الناس، مأخوذ من: رَبِّ يَرُبُّ، إِذا أصلح، وربى، والنُّون أيضا زائدة
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٢٣) برقم (٧٢٩٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٢٠)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٢)، وابن كثير في «تفسيره» (١/ ٣٧٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٢)، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.
(٣) أخرجه ابن حبان (١٢٩١- موارد) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (١١٥٩)، والبيهقي (٧/ ٢٩١)، مختصرا. [.....]
قال ع «٢» : فجملةُ ما يُقَالُ في الرَّبَّانِيِّ: أنه العالمُ بالرَّبِّ والشرعِ، المصيبُ في التقديرِ من الأقوال والأفعال الَّتي يحاولُها في النَّاس، وقوله: بِما كُنْتُمْ: معناه: بسَبَبِ كونكُمْ عالمينَ دارِسِينَ، ف «مَا» : مصدريةٌ، وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم»، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: العِلْمُ عِلْمَانِ، علْمٌ فِي القَلْب، فَذَلِكَ العِلْمُ النَّافِعُ، وعِلْمٌ في اللسان، فذلك حُجَّة اللَّه (عزَّ وجَلَّ) على ابن آدَمَ «٣»، ومِنْ حديثِ ابن وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «هَلاَكُ أُمَّتِي عَالِمٌ فَاجِرٌ، وعَابِدٌ جَاهِلٌ، وَشَرُّ الشِّرَارِ جَبَّارُ العُلَمَاءِ، وَخَيْرُ الخِيَارِ خِيَارُ العُلَمَاءِ» «٤». اهـ.
أحدهما: أنه منسوب إلى الرّبّ، والألف والنون فيه زائدتان في النسب دلالة على المبالغة، كرقباني، وشعراني، ولحياني للغليظ الرقبة، والكثير الشعر، والطويل اللحية، ولا تفرد هذه الزيادة عن النسب، أمّا إذا نسبوا إلى الرقبة، والشعر، واللحية من غير مبالغة قالوا: رقبي وشعري ولحوي، هذا معنى قول سيبويه.
والثاني: أنه منسوب إلى ربّان، والربّان هو المعلّم للخير ومن يسوس الناس ويعرّفهم أمر دينهم، فالألف والنون دالّتان على زيادة الوصف كهي في عطشان، وريّان، وجوعان، ووسنان، وتكون النسبة على هذا في الوصف نحو أحمريّ، قال:
أطربا وأنت قنّسريّ... والدّهر بالإنسان دوّاريّ
وقال سيبويه: «زادوا ألفا ونونا في الرّباني أرادوا تخصيصا بعلم الرب دون غيره من العلوم، وهذا كما قالوا: شعراني، ولحياني، ورقباني» وفي التفسير: «كونوا فقهاء علماء»، ولمّا مات ابن عباس قال محمد ابن الحنفية: «مات اليوم ربّانيّ هذه الأمة».
ينظر: «الكتاب» (٢/ ٨٩) و «الدر المصون» (٢/ ١٤٧- ١٤٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦٢).
(٣) أخرجه الدارمي (١/ ١٠٢)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (١٣/ ٢٣٥)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١١٥٠)، عن الحسن عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.
وأخرجه الخطيب (٤/ ٣٤٦)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» رقم (٨٨). من طريق الحسن عن جابر مرفوعا.
وأخرجه ابن الجوزي في «العلل» (٨٩)، من طريق أبي الصلت الهروي، عن يوسف بن عطية الصفار، عن قتادة، عن الحسن، عن أنس مرفوعا.
والحديث ضعيف.
(٤) ذكره ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١١٦٢) من حديث ابن وهب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقرأ نافع وغيره: «وَلاَ يَأْمُرُكُمْ» برفع الراء: على القَطْع «١» قال سِيبَوَيْهِ: المعنى لا يأمركم اللَّه، وقال ابْنُ جُرَيْجٍ وغيره: المعنى: ولا يأمركم هذا البَشَر الذي أُوتِيَ هذه النعَمَ، وهو محمّد صلّى الله عليه وسلّم «٢»، وأما قراءةُ مَنْ نَصَب الراء، وهو حمزةُ وغيره، فهي عَطْفٌ على قوله:
أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ، المعنى: ولا له أنْ يأمركم قاله أبُو عَلِيٍّ وغيره «٣»، وهو الصوابُ، لا ما قاله الطَّبَرِيُّ «٤» من أنَّها عطْفٌ على قوله: ثُمَّ/ يَقُولَ، والأربابُ في هذه الآية:
بمعنى الآلهة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٥]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
وقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ: المعنى: واذكر يا محمَّد إذْ، فيحتملُ أن يكون أخذ هذا الميثاق حين أَخرج بني آدم مِنْ ظَهْر آدم نَسَماً، ويحتملُ أنْ يكون هذا الأخْذُ على كلِّ نبيٍّ في زمنه، ووقت بعثه، والمعنى: إنَّ اللَّه تعالى أخذ ميثاقَ كُلِّ نبيٍّ بأنه ملتزمٌ هو ومن آمَنَ به الإيمانَ بمَنْ أتى بعده من الرُّسُل، والنّصر له، وقال ابن عبّاس: إنما
(٢) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (٣/ ٣٢٧) برقم (٧٣٢٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٢١)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (٢/ ٨٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٣).
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٢٧).
وقرأ حمزةُ: «لِمَا» بكسر اللام «٤»، وهي لامُ الجَرِّ، والتقديرُ لأجْلِ ما آتيناكم إذْ أنتم القادَةُ والرءوس، ومَنْ كان بهذه الحال، فهو الذي يُؤْخَذُ ميثاقُهُ، و «ما» في هذه القراءةِ بمعنَى «الَّذِي»، والعائدُ إلَيْها من الصِّلَة، تقديره: آتيناكموه، و «مِنْ» : لبيان الجنس، وثُمَّ جاءَكُمْ... الآية: جملةٌ معطوفةٌ على الصِّلة، ولا بُدَّ في هذه الجملة مِنْ ضميرٍ يعودُ على الموصُول، وإنما حذف تخفيفاً لطول الكلام، وتقديره عند سيبويه: رَسُولٌ بِهِ مصَدِّقٌ لِمَا معَكُمْ، واللامُ فِي: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ هي اللامُ المتلقِّية للقَسَمِ الذي تضمَّنه أخْذُ الميثاقِ، وفصل بَيْن القَسَم والمُقْسَم عليه بالجارِّ والمجرورِ، وذلك جائِزٌ، وقرأ سائِرُ السَّبْعة «لَمَا» بفتح اللام، وذلك يتخرَّج على وجهين:
أَحدهما: أنْ تكون «مَا» موصولةً في مَوْضع رفع بالابتداء، واللاَّمُ لامُ الابتداء، وهي متلقِّية لما أُجْرِيَ مُجْرَى القَسَم من قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ، وخَبَرُ الابتداءِ قولُهُ: لَتُؤْمِنُنَّ، ولَتُؤْمِنُنَّ: متعلِّق بقَسَمٍ محذوفٍ، فالمعنى: واللَّهِ، لَتُؤْمِنُنَّ، قاله أبو عَلِيٍّ «٥» وهو متَّجِه بأنَّ الحَلِفَ يقع مرَّتين.
والوجْهُ الثاني: أنْ تكونَ «ما» للجزاءِ شرْطاً، فتكون في موضع نصبٍ بالفعلِ الذي
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٣٠) برقم (٧٣٢٦)، وذكره الماوردي في «تفسيره» بنحوه (١/ ٤٠٦)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٢٢)، وابن عطية (١/ ٤٦٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٤).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٣٠) برقم (٧٣٢٩)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٠٦)، وابن عطية (١/ ٤٦٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) ينظر: «السبعة» (٢١٣)، و «الكشف» (١/ ٣٥١)، و «الحجة» (٣/ ٦٢)، و «إعراب القراءات» (١/ ١١٦)، و «شرح الطيبة» (٤/ ١٦١)، و «معاني القراءات» (٢٦٥)، و «شرح شعلة» (٣٢٠)، و «إتحاف» (١/ ٤٨٣)، و «العنوان» (٨٠).
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٤).
«لَتُؤْمِنُنَّ».
وقرأ نافعٌ وحْده: «آتَيْنَاكُمْ»، بالنُّون، وقرأ الباقون: «آتَيْتُكُمْ» بالتاء «١»، ورَسُول في هذه الآية: اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرين هو نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي... هذه الآية: هي وصْفُ توقيفِ الأنبياء- عليهم السلام- على إِقرارهم بهذا الميثاق، والتزامهم له، وَأَخَذْتُمْ في هذه الآية: عبارةٌ عمَّا تحصَّل لهم من إيتاء الكُتُبِ والحِكْمة، فَمِنْ حيْثُ أخذ عليهم، أخذوا هم أيضًا، وقال الطَّبَرِيُّ «٢» : أَخَذْتُمْ في هذه الآية: معناه: قَبِلْتُمْ، والإصْر: العَهْد لا تَفْسِير له في هذا الموضع إلا ذَلِكَ «٣».
وقوله تعالى: فَاشْهَدُوا يحتملُ معنَيَيْنِ:
أحدهما: فاشهدوا/ على أممكم المؤمنينِ بكُمْ، وعلى أنْفُسِكُمْ بالتزام هذا العَهْد، قاله الطَّبَرِيُّ، وجماعة «٤».
والمعنى الثاني: بُثوا الأمْرَ عنْد أممكم، واشهدوا به، وشهادةُ اللَّهِ على هذا التأويل هي إعطاء المُعْجَزَاتِ، وإقرارُ نبوّاتهم، هذا قول الزّجّاج وغيره «٥».
ينظر: «حجة القراءات» (١٦٨)، و «السبعة» (٢١٤)، و «الحجة» (٣/ ٦٩)، و «معاني القراءات» (١/ ٢٦٥)، و «إعراب القراءات» (١/ ١١٦)، و «شرح شعلة» (٣١٩)، و «العنوان» (٨٠)، و «إتحاف فضلاء البشر» (١/ ٤٨٤). [.....]
(٢) ينظر: «الطبري» (٣/ ٣٣٢).
(٣) وأصل الإصر: الثّقل والشّدّ. والإصر- أيضا-: الذنب. والإصر- أيضا-: والأصر ما عطفك على شيء.
ينظر: «لسان العرب» (٨٦، ٨٧).
(٤) ينظر: «الطبري» (٣/ ٣٣٣).
(٥) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٣٧).
وتبغون: معناه: تَطْلُبُونَ.
قال النوويِّ: ورُوِّينَا في كتاب ابن السُّنِّيِّ، عن السَّيِّدِ الجليلِ المُجْمَعِ على جلالته وحِفْظِهِ ودِيَانَتِهِ وَوَرَعِهِ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ دِينَارٍ البَصْرِيِّ الشَّافِعِيِّ المشهور «٤» أنه قَالَ: لَيس رجُلٌ يكونُ على دابَّة صَعْبَةٍ، فيقول في أذنها: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ، إلا وقَفَتْ بإذن اللَّه تعالى.
وروِّينَا في كتاب ابن السّنّيّ، عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «إذَا انفلتت دَابَّةُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ فلاة، فليناد: يا عباد الله، احبسوا، يَا عِبَادَ اللَّهِ، احبسوا، فَإنَّ للَّهِ عَزَّ وجَلَّ فِي الأَرْضِ حَاضِراً سَيَحْبِسُهَا «٥».
قال النَّوويُّ «٦» : حكى لِي بعُضْ شُيُوخِنا أَنَّهُ انفلتت لَهُ دابّة أظنّها بغلة، وكان يعرف
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢/ ٣٣٣) برقم (٧٣٣٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٦).
(٣) وهي رواية حفص عن عاصم، وحجتهما أن الخطاب قد انقضى بالفصل بينه وبين ذلك بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ... الآية، ثم إن المعنى حينئذ: اليهود.
ينظر: «السبعة» (٢١٤)، و «الكشف» (١/ ٢٥٣)، و «العنوان» (٨٠)، و «الحجة للقراء السبعة» (٣/ ٦٩)، و «حجة القراءات» (١٧٠)، و «شرح شعلة» (٣٢٠)، و «شرح الطيبة» (٤/ ١٦٢)، و «إتحاف» (١/ ٤٨٤)، و «معاني القراءات» (١/ ٢٦٧).
(٤) يونس بن عبيد بن دينار الإمام القدوة، الحجة، أبو عبد الله العبدي، مولاهم البصري، من صغار التابعين وفضلائهم.
رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وعكرمة، قال علي بن المديني: له نحو مائتي حديث، وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، وقال أحمد وابن معين والناس: ثقة.
ينظر: «السير» (٦/ ٢٨٨)، «طبقات ابن سعد» (٧/ ٢٦٠)، «الكامل» (٥/ ٤٨٧)، «حلية الأولياء» (٣/ ١٥- ٢٧).
(٥) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة»، حديث (٥٤٢).
(٦) ينظر: «حلية الأبرار» (ص ٢٥٧).
وأَسْلَمَ: معناه: استسلم، عند الجمهور.
واختلفوا في معنى قوله: طَوْعاً وَكَرْهاً، فقال مجاهد: هذه الآيةُ كقوله تعالى:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥] فالمعنى: أنَّ إقرار كلِّ كافرٍ بالصانعِ هو إسلامٌ كرهاً «١»، ونحوه لأبي العالية، وعبارته: كُلُّ آدمِيِّ، فقد أقرَّ على نفسه بأنَّ اللَّه رَبِّي، وأنا عبده، فمَنْ أشرك في عبادته، فهو الذي أسلم كرهاً، ومن أخلَص، فهو الذي أسلم طَوْعاً «٢».
قال ع «٣» : والمعنى في هذه الآية يفهم كلُّ ناظر أنَّ الكره خاصٌّ بأهل الأرض.
وقوله سبحانه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ: توقيفٌ لمعاصرِي نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من الأحبار والكفّار.
قوله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ... الآية: المعنى قل يا محمّد، أنت وأمّتك: آمَنَّا بِاللَّهِ... الآية، وقد تقدَّم بيانها في «البقرة»، ثم حكم تعالى في قوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ... الآيةَ بأنه لا يقبل من آدمي دِيناً غير دين الإسلام، وهو الَّذي وافَقَ في معتقداته دِينَ كُلِّ مَنْ سمي من الأنبياء- عليهم السلام-، وهو الحنيفيَّة السَّمْحة، وقال بعض المفسِّرين: إن مَنْ يَبْتَغِ... الآيةَ، نزلَتْ في الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ «٤»، قُلْتُ: وعلى تقدير صحَّة هذا القول، فهي تتناولُ بعمومها من سواه إلى يوم القيامة.
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٤٦٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٦). وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦٧).
(٤) الحارث بن سويد بن الصامت الأنصاري الأوسي، ووقع لابن عبد البر الحارث بن سويد، ويقال: ابن مسلم المخزومي، ارتدّ ولحق بالكفار فنزلت: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً.
ينظر: «الإصابة» (١/ ٦٧١- ٦٧٢)، «أسد الغابة» ت (٨٩٩). [.....]
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)وقوله تعالى: / كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ... الآيات: قال ابنُ عَبَّاس: نَزَلَتْ هذه الآياتُ من قوله: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ في الحارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ الأنْصَارِيِّ، كان مُسْلِماً، ثم ارتد وَلحِقَ بالشرك، ثم نَدِمَ، فأرْسَلَ إلى قومه أن سلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فنزلَتِ الآياتُ إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا، فأرسلَ إلَيْهِ قومُهُ، فأسْلَمَ «١»، قال مجاهدٌ: وحَسُنَ إسْلاَمُهُ «٢»، وقال ابنُ عَبَّاسٍ أيضًا والحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: نَزلَتْ في اليهود والنّصارى، شهدوا ببعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وآمنوا به، فلَمَّا جاء من العَرَب، حَسَدُوه، وكَفَرُوا «٣» به، ورجَّحه الطبري «٤».
وقال النقِّاش: نزلَتْ في طُعَيْمَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ «٥».
قال ع «٦» : وكُلُّ مَنْ ذُكِرَ، فألفاظ الآيةِ تعمُّه.
وقوله تعالى: كَيْفَ: سؤالٌ عن حال لكنَّه سؤال توقيفٍ على جهة الاستبعادِ للأمْر، فالمعنى أنهم لشدَّة هذه الجرائِمِ يبعد أنْ يهديَهُم اللَّه جميعًا، وباقي الآيةِ بيِّن.
قال الفَخْر «٧» : واستعظم تعالى كُفْرَ هؤلاء المرتدِّين بَعْدَ حصولِ هذه الخِصَالِ الثَّلاث لأن مثل هذا الكُفْر يكونُ كالمعانَدَة والجُحُود وهذا يدلُّ على أنَّ زَلَّة العالِمِ أقبح من زلّة الجاهل. اهـ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣)
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٨).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٨)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وعن الحسن، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٢٠).
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٦٨).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦٨).
(٧) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١١٢).
قال ع «٢» : وعلى هذا الترتيبِ يَدْخُلُ في الآية: المرتدُّون اللاحقون بقُرَيْش، وغيرُهم. وقال مجاهد: معنى قوله: ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً، أي: أتموا على كُفْرهم، وبلغوا المَوْت «٣» به.
قال ع «٤» : فيدخُلُ في هذا القولِ: اليهودُ، والمرتدُّون، وقال السُّدِّيُّ نحوه «٥»، ثم أخبر تعالى أنَّ توبة هؤلاءِ لَنْ تقبَل، وقد قررت الشريعةُ أنَّ توبة كلِّ كافر تقبل، فلا بُدَّ في هذه الآيةِ مِنْ تخصيصٍ تُحْمَلُ عليه، ويصحُّ به نَفْيُ قبولِ التَّوبة، فقال الحسن وغيره:
المعنى: لَنْ تُقْبَلَ توبتُهم عنْدَ الغَرْغَرَةِ والمعاينة، وقال أبو العاليَةِ: المعنى: لَنْ تُقْبَلَ توبتْهم مِنْ تلك الذُّنُوبِ الَّتي أصابُوها مع إقامتهم على كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم «٦».
قال ع «٧» : وتحتملُ الآية عنْدي أنْ تكونَ إشارةً إلى قومٍ بأعيانهم من المرتدِّين، وهم الذين أشار إلَيْهم بقوله سبحانه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً [آل عمران: ٨٦]، فأخبر عنهم أنَّه لا
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٦٩).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٧٠)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ٨٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٠).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٤٢) برقم (٧٣٨١)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٨٨)، وعزاه لابن جرير.
(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٧٠).
(٧) ينظر: المصدر السابق. [.....]
قال ع «٢» : وهذا قولٌ حسَنٌ، وقال قوم: الواو زائدةٌ، وهذا قولٌ مردودٌ، ويحتملُ المعنى نفْيَ القَبُول على كلِّ وجه، ثم خص مِنْ تلك الوجوهِ أليقها وأحراها بالقَبُول، وباقي الآية وعيدٌ بَيِّن، عافانا اللَّه من عقابِهِ، وخَتَمَ لنا بما خَتَمَ به للصَّالحين من عباده/.
وقوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ... الآية: خطابٌ لجميعِ المؤمنين، فتحتملُ الآية أنْ يريد لَنْ تنالوا بِرَّ اللَّه بكُمْ، أي: رحمتَهُ ولُطْفَه، ويحتملُ أنْ يريد لَنْ تنالوا درجَةَ الكمالِ مِنْ فعْلِ البِرِّ حتى تكونُوا أبراراً إلاَّ بالإنفاقِ المُنْضَافِ إلى سائر أعمالكم.
قال ص: قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ: «مِنْ» : للتبعيضِ تدلُّ عليه قراءةُ عبْد اللَّهِ:
«بَعْضِ مَا تُحِبُّونَ» «٣» اهـ.
قال الغَزَّالِيُّ: قال نافعٌ: كانَ ابْنُ عُمَرَ مريضاً، فاشتهى سَمَكَةً طَرِيَّةً، فحملتْ إلَيْه على رغيفٍ، فقام سائلٌ بالبابِ، فأمر بدفعها إلَيْه، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أيّما امرئ اشتهى شَهْوَةً، فَرَدَّ شَهْوَتَهُ، وآثَرَ على نَفْسِهِ غفر الله له» «٤» اهـ من «الإحياء».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٠).
(٣) ينظر: «الكشاف» (١/ ٣٨٥)، و «البحر المحيط» (٢/ ٥٤٦)، و «الدر المصون» (٢/ ١٦٦).
(٤) ذكره الهندي في «الكنز» (٤٣١١٢)، وعزاه للدار قطني في الأفراد، وأبي الشيخ في «الثواب».
وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ٢٥٧) : أخرجه ابن حبان في «الضعفاء»، وأبو الشيخ في «الثواب» من حديث ابن عمر بسند ضعيف. اهـ.
والحديث أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ١٣٨)، من طريق عمرو بن خالد، عن حبيب بن أبي ثابت، عن نافع، عن ابن عمر به.
وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، والمتهم به عمرو بن خالد، قال وكيع: كان في جوارنا يضع الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يروي موضوعات كذبه أحمد، ويحيى.
واعلم أن جهلة المتزهدين بنوا على مثل هذا الحديث الواهي، فتركوا كل ما تشتهيه النفس، فعذبوا أنفسهم لمجاهدتها في ترك كل ما يشتهى من المباحات، وذلك غلط لأن للنفس حقّا، ومتى ترك كل ما-
قال الفَخْر «٣» : والصحيحُ أنَّ هذه الآية في إيتاء المالِ على طريق النَّدْب، لا أنها في الزكاة الواجِبَةِ. اهـ.
وقوله سبحانه: وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ شرطٌ وجوابٌ فيه وعْد، أي: عليمٌ مُجَازٍ به، وإن قَلَّ.
وقوله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ... الآية إخبار بمغيّب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لا يعلمه إلا اللَّه، وعُلَماءُ أهْلِ الكِتَابِ، وحِلاَّ: معناه: حَلاَلاً، والآيةُ ردُّ على اليهودِ في زَعْمهم أنَّ كُلَّ ما حَرَّموه على أنفسهم أنه بأمر اللَّه تعالى في التوراة، فأكذبهم اللَّه تعالى بهذه الآية، وقوله سبحانه: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ، أي: فهو محرَّم عليهم في التَّوْراة، لا هذه الزوائد التي افتروها.
وقال الفَخْر «٤» : قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ، المعنى: أنَّ قَبْلَ نُزُولِ التوراةِ كان حَلاَلاً لبني إسرائيل كُلُّ أنواعِ المطْعُوماتِ سوى ما حرَّمه إسرائيلُ على نفسه، فأما بعد نزولِ التوراةِ، فلم يَبْقَ الأمرُ كذلك، بل حَرَّم اللَّه عليهمْ أنواعاً كثيرةً بسبب بَغْيِهِمْ، وذلك هو عَيْنُ النَّسْخِ الذي هُمْ له منكرون. اهـ.
وأما في معناها ينكمد برد أغراضها إذ نيل أغراضها يقوي حاستها، فلا ينبغي أن يترك من أغراضها، إلا ما خاف من تناوله، إما الملائم أو التثبط عن الطاعة، أو فوات خيرها، وإنما المنع من ترك شهواتها على الإطلاق. وأما إذا اشتهت شيئا من فضول العيش، فآثرت به، فالثواب حاصل، وذلك داخل في قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: ٩٢].
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧١).
(٢) ذكره ابن عطية (١/ ٤٧١).
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١١٨).
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١٢٣).
اللَّهُمَّ، نَعَمْ» «٢».
قال ع «٣» : وظاهرُ الأحاديثِ والتفاسيرِ في هذا الأمْرِ أنَّ يعقوبَ- عليه السلام- حَرَّم لُحوم الإبلِ وألْبَانَهَا، وهو يحبُّها تقرُّباً بذلك إذْ ترك الترفُّه والتنعُّم من القُرَبِ، وهذا هو الزهْدُ في الدُّنْيا، وإليه نَحَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ (رضي اللَّه عنه) بقوله: «إيَّاكُمْ وهذه المَجَازِرَ فإنَّ لها ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الخَمْرِ» ومِنْ ذلك قولُ أبِي حَازِمٍ الزاهِدِ، وقدْ مَرَّ بسُوقِ الفَاكِهَةِ، / فرأى مَحَاسِنَهَا، فقَالَ: مَوْعِدُكَ الجَنَّةُ، إنْ شاء الله.
وقوله عز وجلّ: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ... الآية: قال الزَّجَّاج «٤» : وفي هذا تعجيز لهم، وإقامة للحجة عليهم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
وقوله سبحانه: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
، أي: مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ، وقيامُ الحُجَّة، فهو الظَّالِمُ.
وقوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ، أي: الأمر كما وصَفَ سبحانه، لا كما تَكْذُبونَ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم، فاتبعوا ملَّته على ما ذكر الله.
(٢) رواه الطبري (٧٤٠٢) عن ابن عباس، وزاد السيوطي في «الدر» (٢/ ٩٢) فعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وأخرجه الطبري (٧٤٠٠) عن الضحّاك.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٣).
(٤) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٤٤).
قال ابن العربيِّ في «أحكامِهِ» «٢» وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً، قيل: بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك، وقيل: ثوابُ قاصِدِيهِ، وقيل: أمْنُ الوَحْش فيه، وقيل: عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته، قال ابنُ العربيِّ «٣» : والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة وذلك بجميعه موجودٌ فيه. اهـ.
قال مالكٌ في سماعِ ابن القاسِمِ من «العتبية» : بَكَّة موضعُ البَيْت، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ، قال ابن القاسِمِ: يريد القَرْيَةَ «٤»، قلتُ: قال ابنُ رُشْدٍ في «البيان» «٥» : أرى مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ لأنه قال تعالى في بَكَّة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مَكَّة» وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح: ٢٤] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البَيْتَ. اهـ.
وقوله سبحانه: فِيهِ، أي: في البيت آياتٌ بَيِّناتٌ، قال ع «٦» : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ الله من الآيات وخصّا بالذكر لعظمهما، ومَقامُ إِبْراهِيمَ: هو الحَجَرُ المعروفُ قاله الجمهور، وقال قوم: البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم، وقال قومٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم، والضميرُ في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عائدٌ على البَيْت في قول الجمهور، وعائد على الحرم
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٢٨٣٠).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٢/ ٢٨٣- ٢٨٤).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٧٤).
(٥) صاحب «البيان» هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي. وكتاب «البيان» هو كتاب «البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل»، وهي مستخرجة العتبي المسماة «العتبية»، وهو كتاب عظيم نيف على عشرين مجلدا.
ينظر: «شجرة النور» (١/ ١٢٩)، و «هدية العارفين» (٢/ ٨٥)، و «الديباج المذهب» (٢/ ٢٤٨).
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٧٥).
وقوله: كانَ آمِناً قال الحَسَنُ وغيره: هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ، أَمِنَ، فلا يُعْرَضُ له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه، وقال يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: معنى الآية: ومَنْ دخل البيتَ، كان آمناً من النَّار، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد، قال: كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً، فقلْتُ: يا رَبِّ، إنّك قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمماذا هو آمنٌ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني، وهو يقولُ: مِنَ النَّارِ، فنظَرْتُ، وتأمَّلت، فما كان في المكان أحد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «١» : وقول بعضهم: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار- لا يصحُّ حمله على عمومه، ولكنه ثَبَتَ أنَّ مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ «٢»، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجنّة «٣». قال ذلك كلّه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهـ.
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٣٨٢)، كتاب «الحج»، باب فضل الحج المبرور، حديث (١٥٢١)، (٤/ ٢٥)، كتاب «المحصر»، باب قوله الله تعالى: فَلا رَفَثَ، حديث (١٨١٩)، وباب قول الله (عز وجل) :
وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، حديث (١٨٢٠). ومسلم (٢/ ٩٨٣)، كتاب «الحج»، باب في فضل الحج والعمرة، حديث (٤٣٨/ ١٣٥٠). والنسائي (٥/ ١٤)، كتاب «الحج»، باب فضل الحج.
والترمذي (٣/ ١٧٦)، كتاب «الحج»، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، حديث (٨١). وابن ماجة (٢/ ٩٦٤- ٩٦٥)، كتاب «المناسك»، باب فضل الحج والعمرة، حديث (٢٨٨٩). وأحمد (٢/ ٢٤٨، ٤١٠، ٤٨٤)، والطيالسي (١/ ٢٠٢- منحة) رقم (٩٧٥). والدارمي (٢/ ٣١)، كتاب «المناسك»، باب في فضل الحج والعمرة، وأبو يعلى (١١/ ٦١) رقم (٦١٩٨). وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ٣١٦). وابن خزيمة (٤/ ١٣١) رقم (٢٥١٤)، وابن حبان رقم (٣٧٠٢- الإحسان). والبيهقي (٥/ ٦٧)، كتاب «الحج»، باب لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١١/ ٢٢٢)، والحميدي (٢/ ٤٤٠) رقم (١٠٠٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٤/ ٤- بتحقيقنا). كلهم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
(٣) أخرجه البخاري (٣/ ٦٩٨) في العمرة: باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها (١٧٧٣)، ومسلم (٢/ ٩٨٣) في الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (٤٣٧- ١٣٤٩)، والنسائي (٥/ ١١٥) في الحج: باب فضل العمرة. والترمذي (٣/ ٢٧٢) في الحج، باب ما ذكر في فضل العمرة (٩٣٣). وابن ماجة (١/ ٩٦٤) في المناسك: باب فضل الحج والعمرة (٢٨٨٨). وأحمد (٢/ ٢٤٦، ٢٦١، ٢٦٢)، والدارمي (٢/ ٣١) في المناسك: باب في فضل الحج والعمرة، من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة مرفوعا: «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «مَنْ» : في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من «النَّاس»، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ، وقال الكسائيُّ وغيره: هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداء، والجوابُ محذوفٌ، تقديره: فَعَلَيْهِ الحِجُّ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله:
وَمَنْ كَفَرَ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجَّ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا «٣»، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه:
مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ، ولا غَيْرِ ذلك، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ على نفسه، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ، وقال: لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى. هذا أنْبَلُ الأقوال، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائدٌ على البيت، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، قال ابن عبَّاس وغيره:
المعنى: مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه «٤»، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأَ هذه الآيةَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ تَرَكَهُ، كَفَرَ، فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من تركه، لا
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٣٦٦).
(٣) أخرجه الدارمي (٢/ ٢٩)، كتاب «الحج»، باب من مات ولم يحج. وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ٢٥١)، من طريق شريك، عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة مرفوعا.
ومن هذا الوجه أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢/ ٢١٠- بتحقيقنا)، وقال: لا يصح. وأعله بالمغيرة بن عبد الرّحمن، قال يحيى: ليس بشيء. وفيه ليث، وقد ضعفه ابن عيينة، وتركه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وابن مهدي، وأحمد.
قلت: ولا وجه لإعلاله بالمغيرة لأنه توبع على هذا الحديث، تابعه الدارمي، ومحمد بن أسلم، عن أبي نعيم في «الحلية».
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٦٧)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١١)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٣٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
ومعنى قوله تعالى: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ: الوعيدُ لِمَنْ كفر، والقَصْدُ بالكلامِ: فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم، ولكن عمَّم اللفظ ليَبْرَعَ المعنى، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه، وعظيم سلطانه، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربّ سواه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ١٠١]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
وقوله عزّ وجلّ: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ. هذه الآياتُ: توبيخٌ لليهود المعاصرين للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والكتابُ: التوراةُ، وآياتُ اللَّه يحتملُ أنْ يريدَ بها القُرآن، ويحتملُ العلاماتِ الظاهرةَ على يَدَيِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠١)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٨٠). [.....]
(٣) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١٣٥).
(٤) أخرجه الطبري (٧/ ٤٩- ٥٠) برقم (٧٥١٦)، وسعيد بن منصور رقم (٥١٥). كلاهما من طريق جويبر عن الضحاك به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠١)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.
(٥) ينظر: «مفاتيح الغيب» (٨/ ١٣٥).
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وما بعدهما إلى قوله: وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: ١٠٥]، نزلَتْ بسبب رَجْلٍ من اليهودِ، حاول الإغراء بَيْن الأوس والخَزْرَج، قال ابنُ إسْحَاق: حدَّثني الثِّقَةُ عَنْ زَيْدِ بنِ أسْلَم، قال: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ اليَهُودِيُّ، وكان شَيْخاً قَدْ عَسَا فِي الجَاهِلِيَّةِ عَظِيمَ الكُفْر، شَدِيدَ الضِّغْن على المُسْلمين/، والحَسَدِ لهم على نَفَرٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ، وَهُمْ في مَجْلِسٍ يتحدَّثُونَ، فغَاظَهُ مَا رآه مِنْ جماعَتِهِمْ وصَلاَحِ بَيْنِهِمْ بَعْدَ مَا كَانَ بينَهُمْ مِنَ العَدَاوَةِ، فَقَالَ:
قَدِ اجتمع مَلأ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ البِلاَدِ، واللَّهِ، مَا لَنَا مَعَهُمْ، إذَا اجتمع مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَر فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ، فَقَالَ: اعمد إلَيْهِمْ، واجلس مَعَهُمْ، وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثَ، وَمَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ أَيَّامِ حَرْبِهِمْ، وَأَنْشِدْهُمْ مَا قَالُوهُ مِنَ الشِّعْرِ فِي ذَلِكَ، فَفَعَلَ الفتى، فَتَكَلَّمَ القَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَفَاخَرُوا، وَتَنَازَعُوا حتى تَوَاثَبَ رَجُلاَنِ مِنَ الحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكَبِ أوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ مِنَ الأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْر مِنَ الخَزْرَجِ، فَتَقَاوَلاَ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إنْ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ، رَدَدْنَاهَا الآنَ جَذَعَةً، فَغَضِبَ الفَرِيقَانِ، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلاَحَ السِّلاَح! مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ، يُرِيدُونَ: الحَرَّةَ، فَخَرَجُوا إليها وتحاوز النَّاسُ على دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الجاهليّة، وبلغ ذلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ المُهَاجرِينَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، اللَّه اللَّه، أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ «٢»، وَوَعَظَهُمْ، فَعَرَفَ القَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَأَلْقُوا السِّلاَحَ، وَبَكَوْا، وَعَانَقَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مِنَ الأَوْسِ وَالخَزْرَجِ، وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَاسِ بْنِ قيسٍ، وما صَنَعَ هذه الآيات.
وقال الحَسَنُ وغيره: نزلَتْ في أحْبَار اليَهُود الَّذِينَ يَصُدُّون المُسْلِمِينَ عَنِ الإسلام، ويَقُولُون: إن محمَّداً ليس بالموصُوفِ في كتابنا «٣».
قال ع «٤» : ولا شَكَّ في وقوعِ هَذيْن الشيئَيْن، وما شاكَلَهما مِنْ أفعال اليهودِ وأقوالِهِمْ، فَنَزَلَتِ الآياتُ في جميعِ ذلك، ومعنى «تَبْغُونَ» أي: تطلبون لها الاعوجاجَ
(٢) ينظر: «السيرة النبوية» (٢/ ١٩٧- ١٩٨). والحديث أخرجه الطبري (٤/ ١٦) بسنده.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٧٥).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨١).
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ... الآية: خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، والإشارة بذلك وقْتَ نزوله إلى الأوْسِ والخَزْرَجِ بسبب نَائِرَةِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ.
قال ص: قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ، ردَّ: بمعنى صَيَّر، فيتعدى إلى مفعولَيْنِ الأول: الكافُ، والثاني: الكافِرِينَ كقوله: [الوافر]
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السّود بيضا | وردّ وجوههنّ البيض سودا «١» |
ويَعْتَصِمْ: معناه: يتمسَّك، وعُصِمَ الشَّيءُ، إذا مُنِعَ وحُمِيَ ومنه: قوله:
يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: ٤٣] وباقي الآية بيّن.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ، قال ابن مسعود: «حَقَّ تُقَاتِهِ» : هو أنْ يُطَاع فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَر فلا ينسى، وأنْ يُشْكَر فلا يكفر «٢»، وكذلك عبّر
رمى الحدثان نسوة آل حرب | بمقدار سهرن له سمودا |
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٧٥) برقم (٧٥٣٤: ٧٥٤١)، وذكره البغوي في «معالم التنزيل» (١/ ٣٣٢- ٣٣٣)، وابن عطية (١/ ٤٨٣)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ١٠٥)، وعزاه لابن المبارك في «الزهد»، وعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في «الناسخ»، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]، وبقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: ٢٨٦] وقالت جماعة: لاَ نَسْخَ هنا، وإنَّما المعنى: اتقوا اللَّهَ حَقَّ تقاته فِي ما استطعتم، وهذا هو الصحيحُ، وخرَّج الترمذيُّ، عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، وهي: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي الدُّنْيَا، لأفْسَدَتْ على أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ، فَكيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ؟» قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه ابنُ ماجة أيضاً «٢» اهـ.
وقوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: معناه: دُومُوا على الإسلام حتى يوافيكم المَوْتُ، وأنتم علَيْه، والحَبْلُ في هذه الآيةِ مستعارٌ، قال ابنُ مسعودٍ: حبْلُ اللَّهِ الجماعةُ، وروى أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ افترقوا على إحدى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثنين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ واحدة،
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٣١٨- ٣١٩)، و «تهذيب الكمال» (١/ ٤٠٣)، و «تهذيب التهذيب» (٣/ ٢٤٢)، و «الكاشف» (١/ ٣٠٤)، و «طبقات ابن سعد» (٦/ ١٠، ٩٦، ١١٨)، و «سير الأعلام» (٤/ ٢٥٨)، و «الثقات» (٤/ ٢٢٤).
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٧٠٦- ٧٠٧)، كتاب «صفة جهنم»، باب ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (٢٥٨٥). وابن ماجة (٢/ ١٤٤٦)، كتاب «الزهد»، باب صفة النار، حديث (٤٣٢٥)، والنسائي في «التفسير» (١/ ٣١٦)، رقم (٩٠)، وأحمد (١/ ٣٠١، ٣٣٨)، والطيالسي (٢/ ١٦- منحة) رقم (١٩٥)، وابن حبان (٢٦١١- موارد)، والحاكم (٢/ ٢٩٤، ٤٥١- ٤٥٢). والبيهقي في «البعث والنشور» رقم (٥٩٦)، والطبراني في «الكبير» (١١/ ٦٨)، رقم (١١٠٦٨)، وفي «الصغير» (٢/ ٥١). كلهم من طريق شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ٦٠). وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر.
وقد جاء هذا الحديث موقوفا على ابن عباس: أخرجه أحمد (١/ ٣٣٨)، وابن أبي شيبة (١٣/ ١٦١) رقم (١٥٩٩١). والبيهقي في «البعث والنشور» (٥٩٧)، من طريق الأعمش، عن أبي يحيى القتات، عن ابن عباس موقوفا، وأبو يحيى القتات، قال الحافظ: ليّن الحديث.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً»، وقال قتادةُ وغيره: حبْلُ اللَّهِ الَّذي أمر بالاعتصام به: هو القُرآن «٢»، ورواه أبو سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٣»، وقال ابنُ زَيْدٍ: هو الإسلام «٤»، وقيل غير هذا ممَّا هو كلُّه قريبٌ بعضُهُ مِنْ بعض.
وقوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا: يريد: التفرُّقَ الَّذي لا يتأتى معه الائُتلافُ، كالتفرُّقِ بالفتن، والافتراقِ في العقائد، وأما الافتراقُ في مسائل الفروعِ والفِقْه، فلَيْسَ بداخلٍ في هذه الآيةِ، بل ذلك هو الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «خلاف أمّتي رحمة» «٥»، وقد اختلفت الصّحابة
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٢٣٩) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٧٨)، وذكره الماوردي بنحوه في «تفسيره» (١/ ٤١٢)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٣٣)، وابن عطية (١/ ٤٨٣).
(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠٧)، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن جرير. [.....]
(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١٤)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٨٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٠٨).
(٥) قال السخاوي في «المقاصد» (ص ٢٦- ٢٧) : أخرجه البيهقي في «المدخل» من حديث سليمان ابن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مهما أوتيتم من كتاب الله، فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة»، ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني، والديلمي في مسنده بلفظه سواء، وجويبر ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقد عزاه الزركشي إلى كتاب «الحجة» لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولا صحابيه، وكذا عزاه العراقي لآدم بن أبي إياس في كتاب «العلم والحكم» بدون بيان بلفظ: «اختلاف أصحابي رحمة لأمتي» قال: وهو مرسل ضعيف، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في رسالته الأشعرية بغير إسناد، وفي «المدخل» له من حديث سفيان عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد قال:
اختلاف أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم رحمة لعباد الله. ومن حديث قتادة أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ما سرني لو أن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة. ومن حديث الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد قال: أهل العلم أهل توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا إذا علم هذا. وقد قرأت بخط شيخنا: إنه (يعني هذا الحديث) حديث مشهور على الألسنة، وقد أورده ابن الحاجب في «المختصر» في مباحث القياس بلفظ: «اختلاف أمتي رحمة للناس»، وكثر السؤال عنه، وزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له، لكن ذكره الخطابي في «غريب الحديث» مستطردا، وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ماجن والآخر ملحد، وهما إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ، وقالا جميعا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم تشاغل الخطابي برد هذا الكلام، ولم يقع في كلامه شفاء في عزو الحديث، ولكنه أشعر بأن له أصلا عنده، ثم ذكر شيخنا شيئا مما تقدم في عزوه.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ...
الآية: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الخطاب إنما هو للأوس والخَزْرَج كما تقدَّم، وكانَتِ العداوةُ قد دامَتْ بين الحَيَّيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً حتى رفَعَها اللَّه بالإسلام، فجاء النَّفَر الستَّةُ من الأنْصَارِ إلى مكَّة حُجَّاجاً، فعرض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نَفْسَهُ علَيْهم، وتَلاَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ مَعَ قَبَائِلِ العَرَبِ، فَآمَنُوا بِهِ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ قَدِمْتَ بَلَدَنَا على مَا بَيْنَنَا مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ، خِفْنَا أَلاَّ يَتِمَّ مَا نُرِيدُهُ بِكَ، وَلَكِنْ نَمْضِي نَحُنُ، وَنُشِيعُ أَمْرَكَ، وَنُدَاخِلُ النَّاسَ، وَمَوْعِدُنَا وَإيَّاكَ العَامُ القَابِلُ، فَمَضَوْا، وَفَعَلُوا، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فِي العَامِ القَابِلِ، فَكَانَتِ العَقَبَةُ الثَّانِيَةُ، وَكَانُوا اثني عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَوَّلِينَ، ثُمَّ جَاءُوا مِنَ العَامِ الثَّالِثِ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبة الكبرى، حَضَرَهَا سَبْعُونَ، وَفِيهِمُ اثنا عَشَرَ نَقِيباً.
ووصْفُ القصَّة مستوعبٌ في السِّيرِ، ويسَّر اللَّه تعالى الأنصار للإسلام بوجْهَيْن:
أحدهما: أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ: يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنصار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال بعضُهم لبعضٍ: هذا، واللَّهِ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ.
والوجْهُ الآخرُ: الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم، وأفْنَتْ سراتهم، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم، فكان الأمر كما رَجَوْا، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة، وذَكَّرهم/ بها قال الفَخْر «١» : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً، فلما أكرمهم اللَّه [سبحانه] «٢» بالإسلام، صاروا إخواناً في اللَّه متراحِمِينَ.
واعلم أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا، كان معادياً لأكثر الخَلْق، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المولى سبحانه، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر، ولهذا قيل: إن العارف، إذا أَمَرَ، أَمَرَ برفْقٍ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر، وكيف، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر. اهـ.
وقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ عبارة عن الاستمرار.
(٢) سقط من أ.
قلْتُ: وفيما ادَّعاه نَظَرٌ، وهي شهادةٌ على نَفْيٍ. وكلامٍ.
ع «٣» : واضحٍ من جهة المعنى، والشَّفَا: حَرْفُ كلِّ جِرْمٍ له مهوى كالحفرة، والبِئْر، والجُرُفِ، والسَّقْفِ، والجِدَار، ونحوه، ويضافُ في الاستعمالِ إلى الأعلى كقوله: شَفا جُرُفٍ [التوبة: ١٠٩]، وإلى الأسفلِ كقوله: شَفا حُفْرَةٍ فشبَّه اللَّه كفرهم الذي كانوا عليه بالشَّفَا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنّم دأبا، فأنقذهم اللَّه منها بالإسلام.
وقوله تعالى: فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها، أي: مِنَ النَّار، ويحتمل من الحُفْرة، والأول أحسن، قال العراقيّ: أنقذكم، أي: خلَّصكم. اهـ.
وقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: أَمْرَ اللَّه سبحانه الأمَّةَ بأنْ يكونَ منْها علماءُ يَفْعَلُونَ هذه الأفعالَ على وجوهها، ويحْفَظُونَ قوانينَها، ويكون سائِرُ الأمَّة مُتَّبِعِينَ لأولئك، إذ هذه الأفعالُ لا تكُونُ إلاَّ بعلْمٍ واسعٍ، وقد عَلِمَ اللَّه سبحانه أنّ الكلّ
[الصافات: ١٣٧] وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنّه مصبح» لأنّ القين- وهو الحدّاد- ربما قلّت صناعته في أحياء العرب فيقول: أنا غدا مسافر، ليأتوه الناس بحوائجهم فيقيم ويترك السفر، فأخرجوه مثلا لمن يقول قولا ويخالفه، فالمعنى أنه مقيم في الصباح، وتكون بمعنى «صار» عملا ومعنى كقوله:
١٣٧٩- فأصبحوا كأنّهم ورق جف | ف فألوت به الصّبا والدّبور |
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨٤).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨٥).
وذهب الزَّجَّاج «٢» وغيرُ واحدٍ إلى أنَّ المعنى: ولتكونوا كلُّكم أمةً يدْعُونَ، و «مِنْ» : لبيانِ الجنْس، ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأنْ يَدْعُوا جميعَ العَالَمِ إلى الخَيْر، فيَدْعُون الكُفَّار إلى الإسلامِ، والعُصَاةَ إلى الطاعةِ، ويكونُ كلُّ واحدٍ في هذه الأمور على منزلته من العلْمِ والقدرةِ، وروى الليثُ بْنُ سَعْدٍ «٣»، قال: حدَّثني محمَّدُ بْنُ عَجْلاَن «٤»، أنَّ وَافِداً النَّضْرِيَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ:
«لَيُؤْتَيَنَّ بِرِجَالٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ، وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ لِمَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّهِ، يَكُونُونَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: هُمُ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، وَيُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ، وَيَمْشُونَ فِي الأَرْضِ نُصْحاً، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ، فَكَيْفَ يُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ؟! قَالَ: يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا أَطَاعُوهُمْ، أَحَبَّهُمُ اللَّهُ تعالى» «٥» اهـ من «التذكرة» «٦» للقرطبيّ.
(٢) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٥٢).
(٣) ليث بن سعد بن عبد الرّحمن الفهمي، مولاهم، الإمام، عالم «مصر» وفقيهها ورئيسها، عن سعيد المقبري، وعطاء، ونافع، وقتادة، والزهري وصفوان بن سليم، وخلائق. وعنه ابن عجلان، وابن لهيعة، وهشيم، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وابن وهب، وأمم. قال ابن بكير: هو أفقه من مالك. وقال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما وجبت عليه زكاة قط. وثقه أحمد وابن معين والناس. قال ابن بكير: ولد سنة أربع وتسعين، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة.
ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ٣٧١).
(٤) محمد بن عجلان القرشي، أبو عبد الله المدني، أحد العلماء العاملين. عن أنس، وأبي حازم، والأعرج، وعكرمة، وطائفة. وعنه عبد الوهاب بن بخت، ومنصور، وشعبة، والثوري، ومالك، وخلق. وثقه أحمد وابن معين. وذكره البخاري في الضعفاء. حمل به ثلاث سنين. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. روى له البخاري تعليقا، ومسلم متابعة.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٤٣٨)، و «تهذيب الكمال» (٣/ ١٢٤٢)، و «الكاشف» (٣/ ٧٧)، و «تقريب التهذيب» (٢/ ١٩٠)، و «لسان الميزان» (٧/ ٣٦٨).
(٥) أخرجه العقيلي (٤/ ٣٣١)، وابن عدي في «الكامل» (٧/ ٩٢- ٩٣)، من طريق الليث بن سعد، عن جابر بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال.
وأسند العقيلي عن البخاري قوله: واقد بن سلامة النضري لم يصح حديثه.
وذكره العقيلي، وابن الجارود في «الضعفاء»، وقال الحافظ في «اللسان» : ضعفوه.
ينظر: «لسان الميزان» (٦/ ٢١٥).
(٦) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (٢/ ٦٢٠).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
(٢) «الفرض» و «الواجب» عند غير الحنفية لفظان مترادفان اصطلاحا على مفهوم واحد، هو الفعل الذي طلبه الشارع من المكلف طلبا جازما، سواء كان الطلب بدليل قطعي كالكتاب والسنة المتواترة، أو كان بدليل ظني كخبر الآحاد، ومن هنا يمكن أن نقول:
ينقسم الواجب باعتبار فاعله إلى فرض عين، وفرض كفاية، وفرض الكفاية:
هو الفعل الذي طلب الشارع حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله. ومعناه: أن فرض الكفاية هو الفعل المطلوب حصوله في الجملة، أي من غير نظر بالإصالة إلى الفاعل، وإنما المنظور إليه أولا وبالذات إنما هو الفعل. أما الفاعل، فلا ينظر إليه إلا تبعا للفعل ضرورة توقف حصوله على فاعل. ولذا كان فعل البعض كافيا في تحصيل المقصود منه والخروج عن عهدته، ومن هنا سمي «فرض كفاية».
(٣) أخرجه مسلم (١/ ٦٩) في الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، (٧٨- ٧٩) (٤٩)، وأبو داود (١/ ٣٦٦) في الصلاة: باب الخطبة يوم العيد (١١٤٠)، و (٢/ ٥٢٦)، في الملاحم: باب الأمر والنهي (٤٣٤٠)، والترمذي (٤/ ٤٠٧- ٤٠٨) في الفتن: باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب (٢١٧٢)، والنسائي (٨/ ١١١- ١١٢) في الإيمان: باب تفاضل أهل الإيمان، وابن ماجة (٢/ ٤٠٦)، في إقامة الصلاة: باب ما جاء في صلاة العيدين (١٢٧٥)، وأحمد (٣/ ٢٠، ٤٩، ٥٢- ٥٣)، والبيهقي (٣/ ٢٩٦- ٢٩٧)، (٦/ ٩٤- ٩٥)، (٧/ ٢٦٦)، (١٠/ ٩٠) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا به.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٨٦)، و «البحر المحيط» (٣/ ٢٤).
قلتُ: وروى أبو داوُدَ في سُنَنِهِ، عن معاويةَ بْنِ أبي سُفْيَان، قال: قَالَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«إنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افترقوا على ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَإنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ، وَهِيَ الجَمَاعَةُ» «٣»، وروى أبو هريرة نحوه، ولم يَذْكُرِ النَّار «٤» اهـ.
وقوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... الآية: بياضُ الوُجُوهِ: عبارةٌ عن إشراقِها واستنارتها وبِشْرِها برحمة اللَّهِ قاله الزَّجَّاج «٥» وغيره.
وقوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ: تقريرٌ وتوبيخٌ متعلِّق بمحذوف، تقديره: فيقالُ لهم:
أكفرتم، وفي هذا المَحْذُوفِ جوابُ «أمَّا»، وهذا هو فحوَى الخطَابِ، وهو أنْ يكون في
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٨٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٤٨٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١١٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٠٨)، كتاب «السنة»، باب شرح السنة، حديث (٤٥٩٧)، وأحمد (٤/ ١٠٢).
والطيالسي (٢/ ٢١١- منحة) برقم (٢٧٥٤)، والدارمي (٢/ ٢٤١)، كتاب «السير»، باب في افتراق هذه الأمة، والحاكم (١/ ١٢٨) من حديث معاوية.
وصححه الحاكم.
(٤) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٠٨)، كتاب «السنة»، باب شرح السنة، حديث (٤٥٩٦)، والترمذي (٥/ ٢٥)، كتاب «الإيمان»، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، حديث (٢٦٤٠)، وابن ماجة (٢/ ١٣٢١)، كتاب «الفتن»، باب افتراق الأمم (٣٩٩١)، والحاكم (١/ ١٢٨)، وابن حبان (١٨٣٤)، من حديث أبي هريرة.
وقال الترمذي: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم. ووافقه الذهبي.
والحديث صححه ابن حبان.
(٥) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٥٣).
وقوله تعالى: بَعْدَ إِيمانِكُمْ يقتضي أنَّ لهؤلاء المذكورين إيماناً متقدِّماً، واختلف أهل التأويل في تَعْيِينِهِمْ، فقال أُبيُّ بْنُ كَعْبٍ: هم جميعُ الكُفَّارِ، وإيمانهم هو إقرارهم يَوْمَ قِيلَ لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى «١» [الأعراف: ١٧٢] وقال أكثر المتأوِّلين: المراد أهل القبْلَة مِنْ هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسَنُ: الآية في المنافقين «٢»، وقال قتادة: هي في أهْل الرَّدة «٣»، وقال أبو أُمَامة: هي في الخَوَارج «٤».
وقوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ الإشارة ب «تِلْكَ» إلى هذه الآياتِ المتضمِّنة تعذيبَ الكُفَّار، وتَنْعِيمَ المؤمنين، ولَمَّا كان في هذا ذكْرُ التعذيبِ، أخبر سبحانه أنه لا يريدُ أنْ يقع منه ظُلْمٌ لأحدٍ من العبادِ، وإذا لم يردْ ذلك، فلا يوجد ألبتة لأنه لا يَقَعُ من شيء إلاَّ ما يريده سُبْحانه، وقوله: بِالْحَقِّ: معناه بالإخبار الحَقِّ، ويحتمل أنْ يكون المعنى: نَتْلُوهَا عَلَيْكَ مضمَّنة الأفعال التي هِيَ حَقٌّ في نفسها من كرامةِ قومٍ، وتعذيبِ آخرينَ، ولما كان للذِّهْنِ أنْ يقف هنا في الوَجْه الذي به خَصَّ اللَّه قومًا بعملٍ يرحمهم مِنْ أجله، وآخرين بعملٍ يعذِّبهم عليه، ذكر سبحانه الحُجَّة القاطعة في مِلْكِهِ جميعَ المخلوقاتِ، وأنَّ الحَقَّ أَلاَّ يعترض علَيْه وذلك في قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ... الآية/.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٠ الى ١١٢]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٨٧) برقم (٧٦٠٣)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١٠)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٨٧).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٨٦) برقم (٧٥٩٩)، وابن عطية، في «تفسيره» (١/ ٤٨٧)، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (٢/ ١١٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٨٧) برقم (٧٦٠١)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٤٠)، وابن عطية (١/ ٤٨٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١١٢)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
فقيل: نزلَتْ في الصحابة، وقال الحسَنُ بْنُ أبي الحَسَن وجماعةٌ مِنْ أَهْل العلْمِ:
الآيةُ خطَابٌ لجميع الأمة بأنهم خير أمة أخرجَتْ للنَّاس «١» ويؤيِّد هذا التأويلَ كونُهم شهداءَ عَلَى النَّاس. وأمَّا قوله: «كُنْتُمْ» على صيغة المُضِيِّ فإنها التي بمعنَى الدَّوامِ كما قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب: ٧٣] وقال قوم: المعنى: كنتم فِي عِلْمِ اللَّه، وهذه الخَيْريَّة التي خَصَّ اللَّه بها هذه الأمَّة، إنما يأخذ بحَظِّه منها مَنْ عمل بهذه الشُّروط مِنَ الأمر بالمعروفِ، والنَّهْيِ عن المنكر، والإيمانِ باللَّه ممَّا جاء في فَضْل هذه الأمَّة ما خرَّجه مُسْلِمٌ في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ القِيَامةِ» وفي رواية: «السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة» وفي رواية: «نَحْنُ الآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالأَوَّلُونَ يَوْمَ القيامة، المقتضي لَهُمْ قَبْلَ الخَلاَئِقِ»، وفي رواية: «المَقْضِيُّ بَيْنَهُمْ» «٢». اهـ.
وخرَّج ابن مَاجَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «نَحْنُ آخرُ الأُمَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُحَاسَبَ، يقال: أين الأمّة الأمّيّة ونبيّها، فَنَحْنُ الآخرُونَ الأَوَّلُونَ» «٣»، وفي روايةٍ عن ابن عَبَّاس: «فتُفَرِّجُ لَنَا الأَمَمُ عَنْ طَرِيقَنَا، فَنَمْضِي غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الطُّهُورِ، فَتَقُولُ الأُمَمُ:
كَادَتْ هَذِهِ الأَمَّةُ أَنْ تَكُونَ أَنْبِيَاءَ كُلُّهَا» «٤»، وخَرَّجهُ أيضاً أبو داود الطَّيَالِسِيُّ في مسنده بمعناه. اهـ من «التذكرة» «٥».
ورَوَى أبو داودَ في سننِه، قال: حدَّثنا عثمانُ بنُ أبي شيبة، عن أبيه، عن أبي
(٢) أخرجه مسلم (٢/ ٥٨٥)، كتاب «الجمعة»، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، حديث (١٩/ ٨٨٥). [.....]
(٣) أخرجه ابن ماجة (٢/ ١٤٣٤)، كتاب «الزهد»، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٤٢٩٠).
وقال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ٣١٧) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(٤) أخرجه أحمد في «مسنده» (١/ ٢٨٢).
(٥) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ٣٧٧).
وقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وما بعده: أحوالٌ في موضعِ نصبٍ.
وفي الحديثِ: «خَيْرُ النَّاسِ أتُقَاهُمْ لِلَّهِ، وَآمَرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ» «٢»، رواه البغويُّ في «منتخبه». اهـ من «الكوكب الدري».
وقوله سبحانه: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ: تنبيهٌ على حال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ وأخيهِ، وثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ، وغيْرِهِمْ مِمَّنْ آمَنَ.
وقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، أي: إلا أَذًى بالألسنة فَقَطْ، وأخبر سبحانه في قوله: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ، بخبر غَيْب، صحَّحه الوجود، فهي من آيات نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وفائدةُ الخَبَرِ هي في قولِهِ: ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ، أي: لا تكونُ حَرْبُ اليهودِ معكم سِجَالاً، وخص الأدبار بالذِّكْر دون الظَّهْرِ، تَخْسِيساً للفَارِّ، وهكذا هو حيثُ تصرَّفَ.
وقوله تعالى: ضُرِبَتْ: معناه: أُثْبِتَتْ بشدَّةٍ وإلزامٍ، وهذا وصْفُ حالٍ تقرَّرت على اليهودِ في أقطار الأرْضِ قبل مَجِيء الإسلام، وثُقِفُوا: معناه أُخِذُوا بحالِ المذْنِبِ المستحِقِّ الإهلاك، وقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ في الكلامِ محذوفٌ يدركُهُ فهُمْ السامعِ، تقديره: فلا نجاة لهم مِنَ القَتْلِ أو الاستئصال إلاَّ بحَبْلٍ، وهو العَهْدُ.
وقوله: ذلِكَ إشارةٌ إلى الغَضَب، وضَرْب الذلَّة والمَسْكَنَة، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره.
وسقط في السند عند المؤلف كثير، والمسعودي، وسعيد بن أبي بردة.
(٢) أخرجه أحمد (٦/ ٤٣١- ٤٣٢)، من حديث درة بنت أبي لهب.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٧/ ٢٦٦) : رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤)وقوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً... الآية: قال ابنُ عَبَّاس (رضي اللَّه عنهما) : لمَّا أسلم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ، وثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ/، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، ومَنْ أَسْلَمَ من اليهود معهم، قال الكُفَّار من أحْبَارِ اليهودِ: مَا آمن بمحمَّد إلاَّ شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا خِيَاراً، ما تَرَكُوا دِينَ آبائِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ: لَيْسُوا سَواءً... الآية «١»، وقالَ مثلَهُ قتادةُ، وابنُ جُرَيْجٍ «٢»، وهو أصح التأويلات في الآية.
واختلفَ في قوله: قائِمَةٌ، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: معناه: قائمةٌ على كتابِ اللَّهِ، وحُدُودِهِ مهتديةٌ «٣»، وقال السُّدِّيُّ: القائمةُ: القانِتَةُ المُطيعةُ «٤»، وهذا كلُّه يرجع إلى معنى وَاحِدٍ، ويحتمل أنْ يراد ب قائِمَةٌ: وَصْفُ حال التالين في آناء الليلِ، ومَنْ كانت حاله هذه، فلا محالة أنه معتدلٌ عَلَى أمر الله، وآياتِ اللَّهِ في هذه الآيةِ: هي كُتُبُهُ، والآناءُ: السَّاعاتُ، واحِدها إنْيٌ بكسر الهمزة، وسكونِ النون، وحكم هذه الآية لا يتَّفقُ في شَخْص شَخْصٍ بأنْ يكون كلُّ واحدٍ يصلِّي جميعَ ساعاتِ الليلِ، وإنما يقوم هذا الحُكْمُ من جماعةِ الأمَّة إذ بعضُ الناسِ يَقُومُ أول الليلِ، وبعضهم آخِرَهُ، وبعضُهُم بَعْدَ هَجْعَةٍ، ثم يعودُ إلى نَوْمِهِ، فيأتي مِنْ مجموعِ ذلك في المُدُنِ والجَمَاعَاتِ عِمَارةُ آناء الليلِ بالقيامِ، وهكذا كان صَدْرُ هذه الأمَّة، وعُرْفُ النَّاسِ القيامُ في أول الثُّلُثِ الآخرِ مِنَ الليلِ، أو قبله بشَيْء، وحينئذٍ: كان يقوم الأكثر، والقيام طولَ الليلِ قليلٌ، وقد كان في الصالِحِينَ مَنْ يلتزمه، وقد ذكر اللَّه سبحانه القَصْدَ من ذَلِكَ في «سُورة المُزَّمِّلِ»، وقِيامُ الليلِ لقراءةِ العِلْمِ المبتغى به وجْهُ اللَّهِ داخلٌ في هذه الآيةِ، وهو أفضلُ من التنفُّل لِمَنْ يُرْجَى انتفاعُ المسلمِينَ بعلْمه، قُلْتُ: وقد تقدَّم في أوَّل السُّورة: ما جاء من التأويل في حديث النّزول،
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٩٩) برقم (٧٦٤٤)، (٧٦٤٥).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٣٩٩) برقم (٧٦٥١) وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤١٧).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٠٠) برقم (٧٦٥٢)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٤٩٢)، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (٢/ ١١٦)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
روى أبو هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَنْزِلُ رَبَّنَا تَبَارَكَ وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» «١» رواه الجماعةُ، أعني: الكتبَ الستَّة البخاريَّ، ومُسْلِماً، وأبا داوُدَ، والتِّرمذيَّ، والنَّسائيَّ، وابْنَ مَاجَة، وفي بعضِ الطُّرُق «٢» :«حتى يَطْلُعَ الفَجْرُ»، زاد ابْنُ ماجَة: «فَلِذَلِكَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الصَّلاَةَ آخِرَ اللَّيْلِ على أَوَّلِهِ».
وعن عمرو بْنِ عَبَسَة «٣» أَنَّهُ سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ العَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فإنِ استطعت أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ» «٤». رواه أبو داوُد، والتِّرمذيُّ، والنَّسَائِيُّ، والحَاكِمُ في «المستدرك»، واللفظُ للتِّرمذيِّ، وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ. اهـ من «السلاح».
وعن أبي أُمَامَةَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ، ودُبُرَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ» «٥»، رواه الترمذيُّ والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ، وفي روايةٍ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الآخِرَ أرجى»، أو نحو هذا. اهـ من «السلاح».
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) عمرو بن عبسة، السّلمي، أبو نجيح، صحابي مشهور. له ثمانية وأربعون حديثا. عنه أبو أمامة، وشر حبيل بن السّمط. قال الواقدي: أسلم ب «مكة» ثم رجع إلى بلاد قومه حتى مضت «بدر» و «أحد» و «الخندق» و «الحديبية» و «خيبر»، ثم قدم «المدينة». قال أبو سعيد: يقولون: إنه رابع أو خامس في الإسلام.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ٢٩٠)، و «تهذيب الكمال» (٢/ ١٠٤٠)، و «تهذيب التهذيب» (٨/ ٦٩) ت (١٠٧)، و «الجرح والتعديل» (٦/ ٢٤١)، و «الثقات» (٣/ ٢٦٩)، (٤/ ٢٥١)، و «أسد الغابة» (٤/ ٢٥١)، و «الاستيعاب» (٣/ ١١٩٣).
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٦٩- ٥٧٠)، كتاب «الدعوات» باب (١١٩)، حديث (٣٥٧٩)، والنسائي (١/ ٢٧٩- ٢٨٠) كتاب «الصلاة»، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، حديث (٥٧٢)، وابن خزيمة (٢/ ١٨٢).
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(٥) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٢٦- ٥٢٧)، كتاب «الدعوات»، باب (٧٩)، حديث (٣٤٩٩) من طريق عبد الرّحمن بن سابط عنه به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن. [.....]
قال ص: قوله: مِنَ الصَّالِحِينَ: «مِنْ» : للتبعيض، ابنُ عطية: ويحسُنُ أيضاً أنْ تكون لبيانِ الجنْس، وتعقِّب بأنه لم يتقدَّم شيء فيه إبهام، فيبين جنسه. اهـ.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
وقوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، أي: فلَنْ يعطى دونكم، فلا تثابُونَ عليه، وفي قوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: وعد ووعيد.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٧]
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
وقوله تعالى: ثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ...
الآية: وقع في الآية التشبيهُ بين شيئَيْن وشَيْئَيْن، وتَرَكَ مِنْ كلٍّ منهما ما دلَّ عليه الكلام، وهذه غايةُ الإيجازِ والبلاغةِ، وجمهور المفسّرين على أن نْفِقُونَ
يراد به الأموال التي كانُوا ينفقُونَها في التحنُّث، أي: يبطلها كفْرهم كما تبطل الريح الزرْعَ، والصِّرُّ: البَرْدُ الشديدُ المُحْرِقُ لكلِّ ما يهبّ عليه، والحرث: شامل للزرع والثمار.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» رقم (٢)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٤/ ١٤٨)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧/ ٢٦٣) رقم (١٠٢٥٠)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٢٧٦، ٢٧٧- بتحقيقنا) عن عمرو بن ميمون الأودي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.
والمرسل ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤/ ٤٤٣)، وعزاه لأحمد في «الزهد»، وقال:
بإسناد حسن.
الآية: مِنْ أَهْلِ العِلْم من يرى أنَّ كل مصائبِ الدنيا، فإنما هي بمعاصِي العبيدِ، وينتزع ذلك مِنْ غير ما آية في القرآن، فيستقيم على قوله أنَّ كلَّ حرثٍ تحرقُهُ ريحٌ، فإنما هو لِمَنْ قد ظلم نفْسَه، والضميرُ في قوله: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
للكفَّار الذين تقدَّم ضميرهم في نْفِقُونَ
، وليس هو للقوم ذوي الحرث.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطانَةً، أي: لا تتَّخذوا من الكفَّارِ، واليهودِ، والمنافقينَ أخلاَّء تأنَسُونَ بهم في الباطنِ، وتفاوضونهم في الآراء.
وقوله سبحانه: مِنْ دُونِكُمْ، يعني: مِنْ دُونِ المؤمنين.
وقوله سبحانه: لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبالًا: معناه: لا يقصِّرون لكم فيما فيه فسادٌ عليكم، تقُول: ما أَلَوْتُ فِي كَذَا، أيْ: ما قصَّرت، بل اجتهدت، والخبالُ: الفسادُ، قال ابن عبَّاس: كان رجالٌ من المؤمنين يواصِلُون رجالاً من اليهودِ للْحِلْفِ والجِوَارِ الذي كان بَيْنهم في الجاهليَّة، فنزلَتِ الآية في ذلك «١»، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً، وقتادة، والرَّبِيع، والسُّدِّيُّ:
نزلَتْ في المنافقين «٢».
قال ع «٣» : ويدخُلُ في هذه الآية استكتاب أهل الذِّمَّة، وتصريفُهم في البَيْع والشِّراء، ونَحْو ذلك، و «ما» في قوله: مَا عَنِتُّمْ: مصدريةٌ، فالمعنى: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، والعَنَتُ: المشقَّة والمكروه يلقاه المرءُ، وعَقَبَةٌ عَنُوتٌ، أي: شاقَّة.
قال ص: قال الزجَّاج «٤» : عَنَتَكُمْ، أي: مشقَّتَكُم، وقال ابنُ جرير «٥» : ضلالكم،
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٠٧، ٤٠٨) برقم (٧٦٨٠- ٧٦٨٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٤٩٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٤٩٦).
(٤) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٦٢).
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٠٨).
وقوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، أي: فهم فوق المستَتِر الَّذي تبدو البغضاءُ في عينيه، وخصَّ سبحانه الأفواه بالذكْرِ دون الألسنة إشارةً إلى تشدُّقهم وثَرْثَرَتِهِمْ في أقوالهم هذه، ثمَّ قال سبحانه للمؤمنين: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ تحْذيراً وتنبيهاً، وقد عَلِمَ سبحانه أنهم عقلاء، ولكن هذا هَزٌّ للنفوس، كما تقول: إنْ كُنْتَ رَجُلاً، فافعل كذا وكذا.
وقوله: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ: الضمير في «تُحِبُّونهم» للذين تقدَّم ذكْرُهم في قوله: بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، قال: ص: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ، قال أبو البقاء:
الكِتَاب، هنا: جنس، أيْ: بالكتب كلِّها. اهـ.
وقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ: عبارةٌ عن شدَّة الغيظِ، مع عدم القُدْرة على إنفاذه ومنه قولُ أبي طَالِبٍ: [الطويل]
................... يَعَضُّونَ غَيْظاً خَلْفَنَا بِالأَنَامِلِ «١»
وقوله سبحانه: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ قال فيه الطبريُّ «٢»، وكثيرٌ من المفسِّرين: هو دعاءٌ عليهم، وقال قومٌ: بل أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمَّتَه أنْ يواجهُوهم بهذا فعلَى/ هذا زال معْنَى الدعاء، وبَقِيَ معنى التقْرِيعِ.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ: وعيد وذات الصدور: ما تنطوي عليه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
وقد صالحوا قوما علينا أشحّة....................
وهو في ديوان أبي طالب (١٠١)، و «السيرة النبوية» (١/ ٢٧٢)، و «الروض الأنف» (٢/ ١٣)، و «البحر المحيط» (٣/ ٤٤)، و «الدر المصون» (٢/ ١٩٧).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤١٢، ٤١٣).
والكَيْد: الاحتيالُ بالأباطيل، وقوله تعالى: وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق: ١٦] من باب تسمية العقوبة باسم الذَّنْب.
وقوله تعالى: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ هذا ابتداءُ عتْبِ
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومكحول قد سمع من واثلة بن الأسقع، وأنس بن مالك، وأبي هند الداري، ويقال: إنه لم يسمع من أحد من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا من هؤلاء الثلاثة. اهـ.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث برد ومكحول، لم نكتبه إلا من حديث حفص بن غياث.
وقال ابن حبان: هذا لا أصل له من كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال في ترجمة القاسم: شيخ، يروي عن حفص بن غياث المناكير الكثيرة، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. اهـ.
وفيما قاله ابن حبان نظر فقد قال الحافظ في «التقريب» (٢/ ١١٥) : بصري صدوق، ضعفه ابن حبان بلا مستند.
قلت: وقد توبع القاسم على هذا الحديث: فأخرجه الترمذي (٤/ ٦٦٢) كتاب صفة القيامة: باب (٥٤) حديث (٢٥٠٦)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٩/ ٩٥- ٩٦)، وأبو الشيخ في «الأمثال» (٢٠٢)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٥/ ٣١٥) رقم (٦٧٧٧) كلهم من طريق عمر بن إسماعيل بن مجالد عن حفص بن غياث به.
ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٣/ ٢٢٤).
وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعمر بن إسماعيل لا يعد. وقال يحيى:
ليس بشيء، كذاب، رجل سوء، خبيث، وقال الدارقطني: متروك. اهـ.
وقال الحافظ في «التقريب» (٢/ ٥٢) : متروك.
وله متابع آخر: أخرجه المخلص في «فوائده» كما في «اللآلئ» (٢/ ٢٢٨) من طريق فهد بن حيان عن حفص بن غياث به.
وفهد بن حيان: قال البخاري: سكتوا عنه، وقال أيضا: يتكلمون فيه. وقال العجلي: ضعيف الحديث.
وذكره الدارقطني في «الضعفاء والمتروكين».
ينظر: «التاريخ الصغير» (٢/ ٣٣١، ٣٤٤)، و «الثقات» للعجلي (١١٥٧)، و «الضعفاء والمتروكين» للدار قطني (٤٣٦).
(٢) عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري، أخو خوّات بن جبير. -
هَذَا مختصرٌ من القصَّة يتركَّب عليه تفسيرُ الآياتِ، وأمْرِ أُحُدٍ مستوعَبٌ في السِّيَرِ، وليس هذا التعليقُ ممّا يقتضي ذكره، وتُبَوِّئُ: معناه: تُعَيِّنُ لهم مقاعدَ يتمكَّنون فيها، ويثْبُتُون، وقوله سبحانه: مَقاعِدَ: جمعُ مَقْعَدٍ، وهو مكانُ القعود، وهذا بمنزلة قولك:
مَوَاقِف، ولكنَّ لفظة القُعُود أدلُّ على الثبوتِ، ولا سيَّما أنَّ الرماة إنما كانوا قُعُوداً، وكذلك كانَتْ صفوفُ المسلمين أولاً والمُبَارِزَةُ والسَّرعَان «١» يَجُولُون.
قوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ، أي: ما تقولُ: وما يقالُ لك وقت المشاورة وغيره، وهَمَّتْ: معناه: أرادَتْ، ولم تَفْعَلْ، والفَشَل: في هذا الموضع: هو الجُبْن الذي كاد يلحق الطَّائفتين، ففي البُخَاريِّ وغيره، عَنْ جَابِرٍ، قال: نزلَتْ هذه الآيةُ فينا إذ همَّت طائفتان في بَنِي سَلِمَةَ وبَنِي حَارِثَةَ، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما «٢».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وقوله سبحانه:
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ | لمّا أمر الله سبحانه بالتوكّل |
ينظر: «الإصابة» (٤/ ٣١).
(١) سرعان الناس وسرعانهم: أوائلهم المستبقون إلى الأمر. ينظر: «لسان العرب» (١٩٩٥).
(٢) أخرجه البخاري رقم (٤٥٥٨). [.....]
وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ: معناه: قليلون، واسم الذُّلِّ في هذا الموضع:
مستعارٌ إذ نسبتهم إلى عدوِّهم، وإلى جميعِ الكفَّار في أقطار الأرض تَقْتَضِي عند المتأمِّل ذِلَّتَهُمْ، وأنهم مغلوبُونَ رَوَى ابن عمرو «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلاَثِمِائَةٍ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، إنَّهُمْ حُفَاةٌ، فاحملهم، اللَّهُمَّ إنَّهُمْ عُرَاةٌ، فاكسهم، اللَّهُمَّ، إنَّهُمْ جِيَاعٌ، فَأَشْبِعْهُمْ»، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فانقلبوا حِينَ انقلبوا، وَمَا فِيهِمْ رجُلٌ إلاَّ قَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أوْ جمَلَيْنِ، واكتسوا، وَشَبِعُوا» «١» رواه أبو داود، والحاكمُ في «المستدرك على الصَّحيحَيْن»، واللفظ له، وقال: صحيحٌ على شرط الشيخَيْن. اهـ من «السلاح».
وقوله سبحانه: إِذْ/ تَقُولُ: العاملُ في «إذ» فعلٌ مضمرٌ، ويحتملُ أنْ يكون العاملُ «نَصَرَكُمْ»، وعلى هذا قولُ الجمهورِ أَنَّ هذا القولَ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ ببَدْرٍ، قال ابنُ عبَّاس: لم تقاتِلِ الملائكةُ في يَوْمٍ من الأيامِ إلا يَوْمَ بَدْرٍ، وكانوا يكونون في سائرِ الأيام عدَداً ومَدداً لا يَضْرِبُون «٢»، قال الشَّعْبِيُّ: وهم يحضرون حروبَ المُسْلمين إلى يَوْمِ القيامة، وقال قتادة: أمد اللَّه المؤمنين يَوْمَ بَدْر بخَمْسَة آلاف «٣»، قال عِكْرِمَةُ: كان الوعْدُ يوْمَ بدرٍ، فلم يصْبروا يَوْمَ أُحُدٍ، ولا اتقوا، فلم يُمَدُّوا، ولَوْ مُدُّوا، لَمْ يهزموا «٤»، وقال الضَّحَّاك، وابنُ زيدٍ: إنما كان هذا الوعدُ والمقالة للمؤمنين يوم أحُدٍ، ففَرَّ الناس، ووَلَّوْا مدبرين، فلم يمدَّهم اللَّه، وإنما مُدَّوا يوم بدر بألفٍ من الملائكة مُرْدِفِينَ «٥»، والفَوْرُ: النهوضُ المُسْرِعُ إلى الشيء مأخوذ من فَوْرِ القِدْرِ، والماءِ ونحوِهِ ومنه: الفور في الحجّ والوضوء
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٢٢) برقم (٧٧٤٩)، وذكره ابن عطية (١/ ٥٠٣).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٢٣) برقم (٧٧٥٣)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٢٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٢٤) برقم (٧٧٥٨)، وذكر ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٢٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٠٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٢٤)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٩]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
وقوله سبحانه: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ: الضميرُ في جَعَلَهُ اللَّهُ: عائدٌ على الإنزال والإمداد، ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا بهِ، وتطمئنَّ به قلوبكم، وترون حِفَايَةَ اللَّه بكم، وإلا فالكثرةُ لا تُغْنِي شيئًا إلاَّ أنْ ينصر اللَّه، واللاَّمُ في قوله: لِيَقْطَعَ متعلِّقة بقوله: وَمَا النَّصْرُ، ويحتمل أنْ تكون متعلِّقة ب جَعَلَهُ فيكون قَطْع الطَّرف إشارةً إلى مَنْ قتل ببَدْرٍ على قول ابن إسحاق وغيره، أو إلى «٣» من قتل بأحد على ما قال السُّدِّيُّ «٤»، وقتل من المشركين ببَدْرٍ سبعون، وقُتِلَ منهم يوم أحد اثنان وعِشْرُونَ رجُلاً، والطرف الفريق.
وقوله سبحانه: أَوْ يَكْبِتَهُمْ: معناه يُخْزِيَهُمْ والكَبْتُ: الصرع لليَدَيْن.
وقال ص: الكَبْت: الهزيمة، وقيل: الصَّرْع لليدين اهـ.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٢/ ٢٤٩)، و «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ١٨٨)، و «الإصابة» (٣/ ٥)، و «الاستيعاب» (٢/ ٥١٠)، و «التاريخ الكبير» (٣/ ٤٠٩)، و «حلية الأولياء» (١/ ٨٠٩)، و «الكاشف» (١/ ٣٢٠)، و «الرياض المستطابة» (٧٤)، و «المصباح المضيء» (١/ ١١٤)، و «الرياض النضرة» (٢/ ٣٥١)، و «البداية والنهاية» (٧/ ٤٤٩)، و «بقي بن مخلد» (٨٤) و «الأنساب» (١/ ٢١٦)، و «صفة الصفوة» (١/ ٣٤٢)، و «سير أعلام النبلا» (١/ ٤١).
(٢) أخرجه سعيد بن منصور (٢/ ٣٦٠) رقم (٢٨٦١) عن عمير بن إسحاق عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٠٥).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٣٠) برقم (٧٧٩٩)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٢٢)، وابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٠٥).
قال الطبريُّ «٢» وغيره من المفسِّرين: أَوْ يَتُوبَ عطْفٌ على يَكْبِتَهُمْ والمعنى:
أوْ يَتُوبَ عليهم، فَيَسْلَمُونَ/ أو يُعَذِّبَهم، إنْ تَمَادَوْا على كفرهم فإنهم ظالمون، ثم أكَّد سبحانه معنى قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بذكْرِ الحُجَّةِ السَّاطعة في ذلك، وهي ملكه الأشياء، فقال سُبْحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، أي: فله سبحانه أنْ يفعل بحَقِّ ملكه ما يشاء، لا اعتراض علَيْه ولا معقِّب لحُكْمه، وذَكَر سبحانَهُ: أنَّ الغُفْران أو التَّعْذيب، إنما هو بمشيئَتِهِ، وبحَسَب السَّابق في علْمه، ثم رجى سبحانه في آخر ذلك تأنيسا للنّفوس.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً... الآية.
قال ع «٣» : هذا النهْيُ عن أَكْلِ الربا اعترَضَ أثناء قِصَّة أُحُدٍ، ولا أحفظ سببا في ذلك
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٣١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٠٦).
وقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ، أي: أنهم المقصودُ، والمراد الأوَّل، وقد يدخُلُها سواهم من العُصَاة، هذا مذْهَبُ أهل العلْمِ في هذه الآية، وحكَى الماوَرْدِيُّ «١» وغيره، عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن أَكَلَة الرِّبا، إنما توعَّدهم اللَّهُ بنارِ الكَفَرة، لا بنار العُصَاة.
وقوله سبحانه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، قال محمَّد بْنُ إسحاق:
هذه الآية من قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ هي ابتداءُ المعاتبةِ فِي أمر أُحُدٍ، وانهزام مَنْ فَرَّ، وزوال الرماة عن مراكزهم «٢».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وقوله تعالى: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، قرأ نافعٌ، وابنُ عامِرٍ: سارعوا بغَيْر «واوٍ» وكذلك هي في مصاحِفِ أهل المدينة والشام، وقرأ باقي السبعة بالواو، والمُسَارَعَة: المبادرةُ، وهي مفاعلة إذ الناس كأن كلَّ واحِدٍ يُسْرِعُ لِيَصِلَ قبل غيره، فَبَيْنَهُمْ في ذلك مُفَاعَلَةٌ أَلاَ ترى إلى قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
[البقرة: ١٤٨]، والمعنى: سارعوا بالطَّاعة، والتقوى، والتقرُّب إلى ربِّكم إلى حالٍ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ فيها، قلْتُ: وحقٌّ على مَنْ فَهِمَ كلامَ ربِّه أنْ يبادر ويُسَارع إلى ما ندبه إلَيْه ربُّه، وألاَّ يتهاوَنَ بترك الفضائِلِ الواردَةِ في الشّرع، قال النوويّ- رحمه الله-: اعلم أنه ينبغِي لِمَنْ بلغه شيْءٌ في فضائلِ الأعمال أنْ يعمل به، ولو مَرَّةً ليكون مِنْ أهله، ولا ينبغي أنْ يتركه جملةً، بل يأتي بما تيسَّر منه لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتّفق على صحّته: «وإذا
ومن تصانيفه: «الحاوي». قال الأسنوي: ولم يصنف مثله، والأحكام السلطانية والتفسير المعروف بالنكت والعيون وغيرها. مات سنة ٤٥٠.
انظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٣٠)، و «تاريخ بغداد» (١٢/ ١٠٢)، و «طبقات السبكي» (٣/ ٣٠٣).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٣٥) برقم (٧٨٢٨). [.....]
وقوله سبحانه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أي: كعرض السموات والأرض، قال ابنُ عبَّاس في تفسير الآية: تقرن السمواتُ والأرَضُونَ بعضها إلى بعض كما تبسطُ الثيابُ، فذلك عَرْضُ الجَنَّة ولا يَعْلَمُ طولَهَا إلا اللَّه سبحانه «٢» وفي الحديث الصحيح عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ بَيْنَ المِصْرَاعَيْنِ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَسَيَأْتِي عَلَيْهَا يَوْمٌ يَزْدَحِمُ النَّاسُ فِيهَا كَمَا تَزْدَحِمُ الإبِلُ، إذَا وَرَدَتْ خُمُصاً ظِمَاءً» «٣». وفي الصحيح:
«إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها» «٤» فهذا كلّه يقوّي
ومن طريق أبي الزناد أخرجه البغوي في «شرح السنة» (١/ ١٧٧- بتحقيقنا).
وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: فأخرجه مسلم (٢/ ٩٧٥) كتاب «الحج»، باب فرض الحج مرة في العمر، حديث (٤١٢/ ١٣٣٧)، والنسائي (٥/ ١١٠) كتاب «الحج»، باب وجوب الحج، وأحمد (٢/ ٤٤٧- ٤٤٨، ٤٥٧، ٤٦٧، ٥٠٨)، وابن خزيمة (٤/ ١٢٩) رقم (٢٥٠٨) من طريق محمد بن زياد عن أبي هريرة.
وأخرجه عبد الرزاق (١١/ ٢٢٠) رقم (٢٠٣٧٤)، ومسلم (٤/ ١٨٣١) كتاب «الفضائل»، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، (١٣١/ ١٣٣٧)، وأحمد (٢/ ٣١٣)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ١٧٦- بتحقيقنا) من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (٢/ ٢٤٧، ٤٢٨، ٥١٧)، والحميدي (٢/ ٤٧٧) رقم (١١٢٥)، وابن حبان (٢٠٩٧- الإحسان) من طريق محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (٤/ ١٨٣١) كتاب «الفضائل»، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (١٣١/ ١٣٣٧)، والترمذي (٥/ ٤٥- ٤٦) كتاب «العلم»، باب في الانتهاء عما نهى عنه سول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٢٦٧٩) من طريق همام بن المنبه عن أبي هريرة.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٣٦) برقم (٧٨٢٩)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٢٨)، وعزاه لابن جرير.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٤٩٥) كتاب «التفسير»، باب تفسير سورة الواقعة، حديث (٤٨٨١)، ومسلم (٤/ ٢١٧٥) كتاب «الجنة وصفة نعيمها»، باب أن في الجنة شجرة، حديث (٧/ ٢٨٢٦)، وأحمد (٢/ ٢٥٧، ٤١٨)، والحميدي (٢/ ٤٧٩) رقم (١١٣١)، وابن حبان (٧٤١١- الإحسان)، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (٤٠٣)، والبيهقي في «البعث» (٢٦٨)، وابن الجوزي في «مشيخته» (ص ١٨٣) كلهم من طريق-
قال ع «٢» : فهذه مخلوقاتٌ أعظم بكثير جدًّا من السمواتِ والأرضِ، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ مِنْ ذلك كلِّه، قلتُ: قال الفَخْر: «٣» وفي الآية وجْه ثانٍ أنَّ الجنَّة التي عرضُها مثْلُ عَرْضِ السمواتِ والأرضِ، إنما تكونُ للرَّجُل الواحدِ لأن الإنسان يَرْغَبُ فيما يكون مِلْكاً له، فلا بُدَّ أَنْ تصير الجَنَّة المملوكة لكلِّ أحد مقْدَارُها هكذا. اهـ.
وقُدْرَةُ اللَّه تعالى أوسع، وفَضْلُه أعظم، وفي «صحيح مسلم»، والترمذيِّ، مِنْ حديث المُغَيرة بْنِ شُعْبَة «٤» (رضي اللَّه عنه) :«في سُؤَال موسى رَبَّهُ عَنْ أدنى أَهْلِ الجنّة
وأخرجه البخاري (٦/ ٣٦٨) كتاب «بدء الخلق»، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، حديث (٣٢٥٢)، وأحمد (٢/ ٤٨٢) من طريق فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة به.
وأخرجه مسلم (٤/ ٢١٧٥) كتاب «الجنة وصفة نعيمها»، باب أن في الجنة شجرة، حديث (٦/ ٢٨٢٦)، والترمذي (٤/ ٥٧٩) كتاب «صفة الجنة»، باب ما جاء في صفة شجر الجنة، حديث (٢٥٢٣)، وأحمد (٢/ ٤٥٢)، والطبري في «تفسيره» (٢٧/ ١٨٣)، وابن أبي داود في «البعث» (٦٧)، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (٤٠١). من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة به.
وأخرجه ابن ماجة (٢/ ١٤٤٨) كتاب «الزهد»، باب صفة الجنة، حديث (٤٣٣٥)، وأحمد (٢/ ٤٣٨)، والدارمي (٢/ ٣٣٨) من طريق محمَّد بنِ عَمْرٍو عن أَبي سَلَمَةَ عن أبي هريرة.
وأخرجه الطيالسي (٢/ ٢٤٢- منحة) رقم (٢٨٣٣)، وأحمد (٢/ ٤٥٥، ٤٦٢)، والدارمي (٢/ ٣٣٨) كتاب «الرقاق»، باب في أشجار الجنة، والطبري (٢٧/ ١٨٣) من طريق شعبة عن أبي الضحاك عن أبي هريرة به.
(١) تقدم تخريجه.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٠٨).
(٣) ينظر: «الفخر الرازي» (٩/ ٦).
(٤) المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس.. أبو عبد الله. معروف ب «مغيرة الرأي».
قال ابن الأثير: أسلم عام الخندق، وشهد «الحديبية»، وله في صلحها كلام مع عروة بن مسعود..
وكان موصوفا بالدهاء، قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات. وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير. توفي ب «الكوفة» سنة (٥٠ هـ). -
وفي البخاريِّ من طريقِ ابْنِ مسعودٍ (رَضِيَ اللَّه عَنه) :«إنَّ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّة، وَآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَبْواً، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: ادخل الجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ، الجَنَّةُ ملأى، فَيَقُولُ لَهُ: إنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا عَشْرَ مَرَّاتٍ» «٢». اهـ.
وفي «جامع التِّرمذيِّ»، عن ابنِ عُمَرَ (رضي اللَّه عنهما)، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وَجْهِهِ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً... » «٣» الحديثَ، قال أبو عيسى، وقد روي هذا الحديث من غير وَجْهٍ، مرفوعًا وموقوفًا، وفي الصَّحيحِ ما معناه:
«إذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، تبقى فِيهَا فَضْلَةٌ، فَيُنْشِيءُ اللَّهُ لَهَا خَلْقاً»، أَوْ كما قال. اهـ.
قال ع «٤» : وخص العرض بالذِّكْر لأنه يدلُّ متى ما ذُكِرَ علَى الطُّولِ، والطُّولُ إذا ذكر لا يدُلُّ على قَدْر العَرْض، بل قد يكونُ الطَّويلُ يَسِيرَ العَرْضِ كالخَيْطِ ونحوه.
ثم وصف تعالى المتَّقِينَ الذين أعدَّتّ لهم الجنَّةُ بقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
(١) أخرجه مسلم (١/ ٥٨١، ٥٨٢- الأبي)، كتاب «الإيمان»، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، حديث (٣١٢/ ١٨٩)، والترمذي (٥/ ٣٤٧) كتاب «تفسير القرآن»، باب «ومن سورة السجدة»، حديث (٣١٩٨).
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٢) أخرجه البخاري (١٣/ ٤٨٢)، كتاب «التوحيد»، باب كلام الرب (عز وجل) يوم القيامة مع الأنبياء، حديث (٧٥١١).
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٨٨)، كتاب «صفة الجنة»، باب (١٧)، حديث (٢٥٥٣) من حديث ابن عمر.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٠٩). [.....]
أصْلُ الغضَبِ، وكثيراً ما يتلازمَانِ ولذلك فسَّر بعض الناس الغَيْظَ بالغَضَب، وليس تحريرُ الأمر كذلك، بل الغيظُ حالٌ للنفس، لا تظهر على الجوارح، والغضبُ حالٌ لها تظهر في الجوارحِ وفِعْلٍ مَّا ولا بدَّ ولهذا جاز إسناد الغَضَب إلى اللَّه سبحانه إذ هو عبارة عن أفعاله في المغْضُوب علَيْهم، ولا يسند إلَيْه تعالى الغَيْظُ.
ووردَتْ في كظْمِ الغيظ، ومِلْكِ النفْسِ عند الغضب أحاديثُ، وذلك من أعظم العباداتِ، وجهادِ النفسِ، ففي حديثِ أبِي هريرة (رضي الله عنه) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ قَالَ:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على إنْفَاذِهِ، مَلأَهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً»، إلى غير ذلك من الأحاديثَ، قُلْتُ: وروى أبو داوُدَ، والترمذيُّ عن معاذِ بْنِ أَنَس «٢» (رضي اللَّه عنه) أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً، وَهُوَ يَقْدِرُ على أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ على رُءُوسِ الخَلاَئِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، حتى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الحُورِ شَاءَ» «٣»، قَالَ أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ. اهـ.
وفي روايةٍ أخرى لأبي داود: «مَلأهُ اللَّهُ أَمْناً وإيمَاناً، وَمَنْ تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جمال،
(٢) هو: معاذ بن أنس، الجهني، حليف الأنصار.
قال أبو سعيد بن يونس: صحابي كان ب «مصر» و «الشام»، روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. وله رواية عن أبي الدرداء وكعب الأحبار. روى عنه ابنه سهل بن معاذ وحده. وذكر أبو أحمد العسكري ما يدل على أنه بقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٥/ ١٩٣)، والإصابة» (٦/ ١٠٦)، و «الثقات» (٣/ ٣٧٠)، و «الاستيعاب» (٣/ ١٤٠٢)، و «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٨٠)، و «بقي بن مخلد» (٩٣)، و «الكاشف» (٣/ ١٥٣)، و «الجرح والتعديل» (٨/ ٢٤٥)، و «تهذيب الكمال» (٣/ ١٣٣٨)، و «تهذيب التهذيب» (١٠/ ١٨٦).
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٦٢)، كتاب «الأدب»، باب من كظم غيظا، حديث (٤٧٧٧)، والترمذي (٤/ ٦٥٦) كتاب «صفة القيامة»، باب (٤٨)، حديث (٢٤٩٣)، وابن ماجة (٢/ ١٤٠٠) كتاب «الزهد»، باب الحلم، حديث (٤١٨٦)، وأحمد (٣/ ٤٤٠)، والبيهقي (٨/ ١٦١) كتاب قتال أهل البغي. كلهم من طريق سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه مرفوعا.
وقال الترمذي: حديث حسن.
والعَفْوُ عَنِ النَّاسِ: من أجلِّ ضروبِ فعْلِ الخَيْرِ، ثم قال سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، فعم أنواع البرِّ، وظَاهر الآية أنَّها مدْحٌ بفعل المندوب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ... الآية:
ذكر سبحانه في هذه الآيةِ صِنْفاً هو دُون الصِّنف الأول، فألحقهم بهم برَحْمته ومَنِّه، وهم التَّوَّابون، وروي في سَبَب نُزُول هاتَيْن الآيتَيْن أن الصحابَةَ (رضي اللَّه عنهم)، قَالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَّا حِينَ كَانَ المُذْنِبُ مِنْهُمْ يُصْبِحْ، وَعُقُوبَتُهُ مَكْتُوبَةٌ على بَابِ دَارِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ تَوْسِعَةً وَرَحْمَةً، وَعِوَضاً مِنْ ذَلِكَ الفِعْلِ بِبَنِي إسْرَائِيلَ» «٤».
ورُوِيَ أَنَّ إبليسَ بكى، حين نزَلَتْ هذه الآيةُ، والفاحشةُ لفظٌ يعمُّ جميع المعاصِي، وقد كثر استعماله في الزِّنا حتى فسر السُّدِّيُّ الفاحشَةَ هنا بالزِّنَا «٥»، وقال قومٌ: الفاحشة
(٢) محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي الشيباني، ابن القيسراني، أبو الفضل: رحالة مؤخر، من حفاظ الحديث، كان مولده ب «بيت المقدس» سنة ٤٤٨ هـ ووفاته ب «بغداد» ٥٠٧ هـ، له كتب كثيرة، منها: «تاريخ أهل الشام، ومعرفة الأئمة منهم والأعلام»، و «معجم البلاد»، و «صفوة التصوف».
ينظر: «الأعلام» (٦/ ١٧١)، و «وفيات الأعيان» (١/ ٤٨٦)، و «ميزان الاعتدال» (٣/ ٧٥)، و «لسان الميزان» (٥/ ٢٠٧).
(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ٧٣)، وقال رواه الطبراني في «الأوسط»، وفيه عبد السلام بن هلال، وهو ضعيف.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٣٧)، وعزاه لابن المنذر عن ابن مسعود.
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٣٩) برقم (٧٨٤٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٥١٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٣٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
قال النوويُّ: وَرُوِّينَا في سنن ابْنِ ماجة بإسنادٍ جيدٍ، عن عبد اللَّه بْنُ بُسْرٍ «١» (بضم الباء)، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ استغفارا كَثِيراً» «٢» انتهى من «الحلية».
وذَكَرُوا اللَّهَ: معناه: بالخَوْفِ من عقابِهِ، والحَيَاءِ منه إذ هو المُنْعِمُ المتطَوِّل، ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ اعتراضا موقِّفاً للنفْس، داعياً إلى اللَّه مرجِّياً في عفوه، إذا رجع إلَيْه، وجاء اسم «اللَّهِ» مرفوعًا بعد الاستثناء، والكلامُ موجَبٌ حملاً على المعنى إذ هو بمعنى، ومَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّه، وعن عليِّ بْنِ أبي طالبٍ (رضي اللَّه عنه)، قَالَ: حدَّثني أبو بكر رضي اللَّه عنه، وصَدَقَ أبو بكر، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْباً، ثُمَّ يَقُومُ، فَيَتَطَهَّرُ، ثُمَّ يُصَلِّي، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إلاَّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ثُمَّ قرأَ هذه الآيةَ:
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ | إلى آخر الآية» رواه أبو داود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن |
مات ب «حمص» سنة (٩٦) وله (١٠٠ سنة).
ينظر: «أسد الغابة» (٣/ ١٨٦)، و «الإصابة» (٤/ ٤٠)، و «الثقات» (٣/ ٢٣٢)، و «الاستيعاب» (٣/ ٨٧٤)، و «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٣٠٠)، و «الأعلام» (٤/ ٧٤)، و «الرياض المستطابة» (٢٠٥)، و «التاريخ الكبير» (٣/ ١٤)، و «الصغير» (٢/ ٧٦)، و «التاريخ» لابن معين (٢/ ٤٥)، و «الطبقات الكبرى» (٧/ ٤٦٣).
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٢٥٦)، كتاب «الأدب»، باب الاستغفار، حديث (٣٨١٨)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١١٨)، كتاب «عمل اليوم والليلة»، باب ثواب ذلك، حديث (١٠٢٨٩)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١/ ٤٤٠) رقم (٦٤٧) من طريق محمد بن عبد الرّحمن عن عبد الله بن بسر مرفوعا.
قال البوصيري في «الزوائد» (٣/ ١٩٦) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. اهـ.
وللحديث شاهد من حديث عائشة: أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١٠/ ٣٩٥)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٩/ ١١)، والبيهقي في «الشعب» (١/ ٤٤٠) رقم (٦٤٦) من طريق منصور بن صفية عن أمه عن عائشة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن سب الأموات، وقال: «طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا».
وقوله سبحانه: وَلَمْ يُصِرُّوا: الإصْرَارُ: هو المُقَامُ على الذّنب، واعتقاد العودة
وقال الترمذي: هذا حديث قد رواه شعبة وغير واحد عن عثمان بن المغيرة فرفعوه، ورواه مسعر وسفيان عن عثمان بن المغيرة فلم يرفعاه، وقد رواه بعضهم عن مسعر فأوقفه ورفعه بعضهم، ورواه سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة، فأوقفه، ولا نعرف لأسماء بن الحكم حديثا إلا هذا. اهـ.
والحديث صححه ابن حبان.
وكذلك الدارقطني فقد تكلم على هذا الحديث في «العلل» (١/ ١٧٦- ١٨٠) فقال: رواه عثمان بن المغيرة، ويكنى أبا المغيرة، وهو عثمان بن أبي زرعة، وهو عثمان الأعشى. رواه عن علي بن ربيعة الوالبي عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي بن أبي طالب.
حدث به عنه كذلك مسعر بن كدان وسفيان الثوري، وشعبة، وأبو عوانة، وشريك، وقيس، وإسرائيل، والحسن بن عمارة، فاتفقوا في إسناده إلا أن شعبة من بينهم شك في أسماء بن الحكم، فقال: عن أسماء أو أبي أسماء أو ابن أسماء، وخالفهم علي بن عابس، فرواه عن عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي، ووهم فيه قال ذلك عنه عبد الله بن وهب.
وخالفه عبيد الله بن يوسف الجبيري، فرواه عن علي بن عابس عن عثمان عن رجل عن علي.
وروى هذا الحديث أبو إسحاق السبيعي، واختلف عنه، فرواه عبد الوهاب بن الضحاك العرضي عن إسماعيل بن عياش عن أبان بن أبي عياش عن أبي إسحاق الهمداني قال: سمعت علي بن أبي طالب عن أبي بكر.
وخالفه عبد الوهاب بن نجدة عن إسماعيل فقال فيه: عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي عن أبي بكر.
وخالفهم موسى بن محمد بن عطاء، رواه عن إسماعيل بن عياش عن شعبة عن أبي إسحاق عن علي عن أبي بكر، لم يذكر بينهما أحدا، وموسى هذا متروك الحديث، مقدسي يعرف بأبي طاهر المقدسي، ورواه داود بن مهران الدباغ عن عمر بن يزيد قاضي المدائن عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي عن أبي بكر، وخالفه الفرج بن اليمان، رواه عمر بن يزيد عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن علي عن أبي بكر.
وروى هذا الحديث أبو المثنى سليمان بن يزيد، واختلف عنه، فحدث به عبد الله بن حمزة الزبيري عن عبد الله بن نافع الصائغ عن أبي المثنى عن المغيرة بن علي عن علي عن أبي بكر، ووهم فيه-
قال ص: قوله: وَنِعْمَ المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ، أي المغفرة والجنّة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤٣]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
وقوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ... الآية: الخطابُ للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكُمْ أنْ ظَهَرَ الكُفَّار المكذِّبون عليكم بِأُحُدٍ، فإن العاقبة للمتَّقين، وقديماً ما أدال اللَّه المُكَذِّبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيْفَ هلَك المكذِّبون بَعْدَ ذلك، فكذلك تكُونُ عاقبةُ هؤلاءِ، وقال النَّقَّاش: الخِطَابُ ب قَدْ خَلَتْ للكُفَّار.
قال ع «٣» : وذلك قَلِقٌ، وخَلَتْ: معناه: مضَتْ، والسُّنَن: الطرائِقُ.
وقال ابنُ زَيْد: سُنَنَ: معناه: أمثال «٤»، وهذا تفسيرٌ لا يخُصُّ اللفظة، وقوله:
فَانْظُروا هو عند الجمهورِ مِنْ نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.
وأحسنها إسنادا وأصحها ما رواه الثوري ومسعر ومن تابعهما عن عثمان بن المغيرة.
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٤٢) برقم (٧٨٦٣)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥١١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٣٩)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٤٣) برقم (٧٨٦٤)، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (١/ ٥١١). [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥١١).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٤٤) برقم (٧٨٧١)، وذكره ابن عطية (١/ ٥١٢).
وقال الفَخْر «٢» : يعني بقوله: هذا بَيانٌ ما تقدَّم من أمره سبحانه، ونَهْيِهِ، ووعدِهِ، ووعيدِهِ، وذكرِهِ لأنواع البيِّنات والآيات. انتهى.
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوَهَنِ، وهو الضَّعْف، وأنَّسهم بأنهم الأعلَوْنَ أصْحَابُ العاقبة، ومِنْ كَرَمِ الخُلُقِ ألاَّ يَهِنَ الإنسانُ في حربه، إذا كان مُحِقًّا، وإنما يحسن اللِّين في السّلم والرضى، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» «٣»، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إخبار بعُلُوِّ كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ.
قال ص: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: في موضِعِ نصبٍ على الحال.
وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: المقصدُ هزُّ النفوسِ، وإقامتها، ويترتَّب من ذلك الطَّعْنُ على من نجم في ذلك اليَوْم نِفَاقُهُ أو اضطرب يقينه، أي: لا يتحصَّل الوعد إلاَّ بالإيمان، فالزموه، ثم قال تعالى تسليةً للمؤمنين: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، والأُسْوَةُ مسلاة للبَشَر ومنه قول الخَنْسَاء: [الوافر]
وَلَوْلاَ كَثْرَةُ البَاكِينَ حَوْلِي | على إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي |
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِن | أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي «٤» |
وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ، أخبر سبحانه على جهة التسلية أنَّ
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٩/ ١١).
(٣) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٦/ ٢٧٢) رقم (٨١٢٧) من طريق يزيد بن عياض عن صفوان بن سليم عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال البيهقي: تفرد به يزيد بن عياض، وليس بالقوي، وروي من وجه آخر صحيح مرسلا.
ثم أخرجه عن مكحول برقم (٨١٢٨) مرسلا بلفظ «المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ استناخ على صخرة».
(٤) ينظر: «ديوان الخنساء» (٦٢).
(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٤٨)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٤٠)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
وقوله تعالى «١» : وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، تقديره: وليَعْلَم اللَّهُ الذين آمنوا فعل ذلك، والمعنى: ليظهر في الوجود إيمانُ الذين قَدْ علم اللَّه أزلاً أنهم يؤمنون وإلاَّ فقد علمهم في الأزَلِ، وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ: معناه أهْل فَوْز في سَبِيلِهِ، حسْبما وَرَدَ في فضائلِ الشهداءِ، وذَهَب كثيرٌ من العلماء إلى التَّعْبير عن إدَالَةِ المؤمنين بالنَّصْر، وعن إدالة الكفّار بالإدالة، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذلك حديثٌ «أنَّهُمْ يُدَالُونَ كَمَا تُنْصَرُونَ» والتمحيصُ: التنقيةُ، قال الخليل: التَّمْحِيصُ: التخليص من العَيْب، فتمحيصُ المؤمنينَ/ هو تنقيتُهم منَ الذُّنُوب، والمَحَقُ: الإذهاب شيْئاً فشيْئاً ومنه: مَحَاقُ القَمَر، وقوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ... الآية: حَسِبْتُم: معناه: ظَنَنْتُم، وهذه الآيةُ وما بعدها عَتْبٌ وتقريعٌ لطوائفَ مِنَ المؤمنين الَّذينَ وقَعَتْ منهم الهَنَوَاتُ المشْهورة في يَوْمِ أُحُدٍ، ثم خاطب اللَّه سبحانَهُ المؤمنين بقوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ، والسبب في ذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ في غزوةِ بَدْرٍ، يريدُ عِيرَ قُرَيْشٍ مبادراً، فلم يوعب النَّاس معه إذ كان الظنُّ أنه لا يلقى حَرْباً، فلَمَّا قضَى اللَّه ببَدْرٍ ما قضى، وفاز حاضِرُوها بالمَنْزِلة الرَّفيعةِ، كان المتخلِّفون من المؤمنين عنْها يتمنَّوْن حُضُور قتالِ الكُفَّار ليكونَ منْهُمْ في ذلك غَنَاء يُلْحِقُهُمْ عِنْدَ ربِّهم ونبيِّهم بمنزلةِ أهْل بَدْر، فلمَّا جاء أمْر أُحُدٍ، لم يَصْدُقْ كُلُّ المؤمنين، فعاتبهم اللَّه بهذه الآية، وألزمهم تمنِّيَ المَوْتِ من حيثُ تَمَنَّوْا أسبابه، وهو لقاءُ العَدُوِّ ومُضَارَبَتُهم، وإلاَّ فنَفْسُ قَتْل المُشْرِك للمُسْلِم لا يجُوزُ أنْ يتمنى من حيث هو قَتْلٌ، وإنما تتمنى لواحقه من الشهادةِ والتّنعيم، قُلْتُ:
وفي كلام ع «٢» : بعضُ إجمالٍ، وقد ترجم البخاريُّ تَمَنِّيَ الشهادةِ، ثم أسند عن أبي هريرة، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ المُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوَدِدتُّ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» وخرَّجه أيضًا مسلمٌ «٣»، وخرَّج البخاريُّ ومسلمٌ مِنْ حديث
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥١٥).
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ١٤٤)، كتاب «الجهاد»، باب الجعائل والحملان في السبيل، حديث (٢٩٧٢) -
فقد تبيَّن لك تمنِّي القَتْلِ في سبيل اللَّه بهذه النُّصُوصِ لما فيه من الكرامة.
وصَوَابُ كلام ع «٢» : أنْ يقول: وإِنما يتمنَّى القتلُ للواحقه من الشَّهادةِ والتنْعِيمِ.
وقوله سبحانه: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ:
تأكيدٌ للرؤية، وإخراجِها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٦]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)
وقوله تعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ... الآية: هذا استمرار في عتبهم، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم: المعنى أنَّ محمدًا- عليه السلام- رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك لأنه يَمُوتُ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ على عَقِبَيْهِ بقوله: فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لأن المعنى: فإنما يضرُّ نفسه، وإياها يوبق، ثم وعد الشاكِرِينَ، وهم الذين صدَقُوا، وصَبَرُوا، ومَضَوْا في دينهم، ووفّوا لله
(١) أخرجه البخاري (٦/ ١٨)، كتاب «الجهاد»، باب الحور العين وصفتهن، حديث (٢٧٩٥)، ومسلم (٣/ ١٤٩٨) كتاب «الإمارة»، باب فضل الشهادة، حديث (١٠٩/ ١٨٧٧)، والترمذي (٤/ ١٥١)، كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (١٦٤٣)، من طريق حميد عن أنس به.
وأخرجه البخاري (٦/ ٣٩) كتاب «الجهاد» باب تمني الجهاد، حديث (٢٨١٧)، ومسلم (٣/ ١٤٩٨)، كتاب «الإمارة»، باب فضل الشهادة، حديث (١٠٩/ ١٨٧٧) من طريق قتادة عن أنس به.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥١٥).
فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها... الآية، أي: نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له يبيِّن ذلك قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨]، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتى شيْئاً من الآخرة لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا، فلا نَصِيبَ له في الآخرة، والأعمال بالنيَّات، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها لا تمنع أنْ يؤتى نصيباً من الدنيا، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ: إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة «٤».
ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ، فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ... الآية: وفي «كَأَيِّنْ» لغاتٌ، فهذه اللغة أصلها «٥» لأنها كافُ التشبيه دخلت على «أيّ»، و «كأيّن» في
(٢) أنس بن النضر بن ضمضم الأنصاري، الخزرجي، عمّ أنس بن مالك خادم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ينظر: «الإصابة» (١/ ٢٨١).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٥٥) برقم (٧٩٣٧)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥١٦)، والسيوطي بنحوه في «الدر المنثور» (٢/ ١٤٥)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥١٨).
(٥) هذه اللفظة قيل: مركبة من كاف التشبيه ومن «أيّ»، وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من «كم» الخبرية، ومثلها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: «له عندي كذا كذا درهما» والأصل:
كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلمّا ركّبا حدث فيهما معنى التكثير، وكم الخبرية و «كأيّن» و «كذا» كلّها بمعنى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر ألا ترى أنّ «لولا» حدث لها معنى جديد. «وكأيّن» من حقّها على هذا أن يوقف عليها بغير نون لأنّ التنوين يحذف وقفا، إلا أنّ-
قال ع «٥» : فعلى هذا القول يتعلَّق قوله: «مَعَهُ» ب «قُتِلَ» ورجح الطبريّ «٦» القول الأوّل بدلالة نازلة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أنَّ المؤمنين إنما تخاذلوا يَوْم أحد، لما قِيلَ: قُتِلَ مُحَمَّد، فضرب المَثَل بنَبِيٍّ قُتِلَ، وترجيحُ الطبريِّ حسن ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم من قوله:
أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [آل عمران: ١٤٤] وحجة من قَرَأَ «قَاتَلَ» : أنها أعمُّ في المدح لأنه يدخل فيها مَنْ قتل، ومن بقي.
ووقف أبو عمرو وسورة بن مبارك- عن الكسائي- عليها: «كأي» من غير نون على القياس. واعتلّ الفارسي لوقف النون بأشياء طوّل بها، منها: أنّ الكلمة لمّا ركّبت خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغات خمس:
أحدها: «كأيّن» وهي الأصل.
والثانية: «كائن» بزنة «كاعن».
اللغة الثالثة: «كأين» بياء خفيفة بعد الهمزة على مثال: كعين.
اللغة الرابعة: «كيئن» بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة.
واللغة الخامسة: «كئن» على مثال كع، ونقلها الداني قراءة عن ابن محيصن.
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٢٢٤- ٢٢٥- ٢٢٦).
(١) وحجة من قرأ «قتل» : أن ذلك نزل معاتبة لمن أدبر عن القتال يوم أحد، إذ صاح صائحهم: قتل محمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما تراجعوا كان اعتذارهم أن قالوا: سمعنا «قتل محمد»، فنزلت.
انظر: «البحر المحيط» (٢/ ٥١٦)، و «الدر المصون» (٢/ ١٣٣).
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٦٠).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٥٢٠).
(٤) ذكره الماوردي في «النكت والعيون» (١/ ٤٢٨) عن الحسن، وذكره (أيضا) البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٦٠)، وابن عطية (١/ ٥٢٠).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٠).
(٦) ينظر: «تفسير الطبري» (٣/ ٤٦١).
رِبِّيُّونَ، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموعٌ كثيرةٌ، وهو الرِّبَّة «٢» (بكسر الراء)، وهي الجماعة الكثيرة، وروي عنِ ابن عَبَّاس والحسنِ بْنِ أبي الحَسَن وغيرهما: إنهم قالوا:
ربِّيونَ: معناه: علماء «٣» ويقوِّي هذا القولَ قراءةُ مَنْ قرأَ: رِبِّيُّونَ «٤» (بفتح الراء)، منسوبون إلى الرَّبِّ إما لأنهم مطيعُونَ له، أوْ مِنْ حيث إنهم علماء بما شَرَع.
وقوله سبحانه: وَمَا اسْتَكانُوا، ذهبتْ طائفةٌ من النحاة «٥» إلى أنَّه من السُّكُون، وذهَبَتْ طائفة إلى أنه مأخوذٌ مِنْ: «كَانَ، يَكُونُ»، وأصلُهُ: استكونوا، والمعنى: أنهم لم يَضْعُفوا، ولا كانوا/ قريباً من ذلكَ، قلْتُ: واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا، وكراهيةُ بَذْلِ النفوس لله، وبذل مهجها للقتل
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٦٢) برقم (٧٩٦٠)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٦٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (١/ ١٤٧)، وعزاه للعوفي.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٦٢) برقم (٧٩٦٣)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٢٨)، وابن عطية (١/ ٥٢١). [.....]
(٤) ورواها قتادة عن ابن عباس.
ينظر: «شواذ ابن خالويه» (ص ٢٩)، و «المحتسب» (١/ ١٧٣)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٠)، و «البحر المحيط» (٣/ ٨٠)، و «الدر المصون» (٢/ ٢٢٩)، و «القرطبي» (٤/ ١٤٨).
(٥) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه استفعل من الكون والكون: الذّلّ، وأصله: استكون، فنقلت حركة الواو على الكاف، ثم قلبت الواو ألفا. وقال الأزهريّ وأبو عليّ: «هو من قول العرب: «بات فلان بكينة سوء» على وزن «جفنة» أي: «بحالة سوء» فألفه على هذا من ياء، والأصل: استكين، ففعل بالياء ما فعل بأختها.
الثاني: قال الفراء: «وزنه افتعل من السكون، وإنما أشبعت الفتحة فتولد منها ألف».
وردّ على الفراء بأنّ هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمة نحو: استكان يستكين فهو مستكين ومستكان إليه استكانة، وبأنّ الإشباع لا يكون إلا في ضرورة. وكلاهما لا يلزمه: أمّا الإشباع، فواقع في القراءات السبع كما سيمرّ بك، وأمّا ثبوت الألف في تصاريف الكلمة، فلا يدلّ أيضا لأنّ الزائد قد يلزم ألا ترى أنّ الميم في تمندل وتمدرع زائدة، ومع ذلك هي ثابتة في جميع تصاريف الكلمة قالوا:
تمندل يتمندل تمندل تمندلا فهو متمندل ومتمندل به، وكذا تمدرع، وهما من النّدل والدّرع. وعبارة أبي البقاء أحسن في الردّ فإنه قال: «لأنّ الكلمة في جميع تصاريفها ثبتت عينها، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ».
ولم يذكر متعلّق الاستكانة والضعف فلم يقل «فما ضعفوا عن كذا، وما استكانوا لكذا» للعلم به أو للاقتصار على الفعلين نحو: كُلُوا وَاشْرَبُوا ليعمّ ما يصلح لهما.
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٢٢٩- ٢٣٠).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٧ الى ١٤٨]
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
وقوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا... الآية: هذه الآيةُ في ذكْر الرِّبِّيِّين، أي: هذا كان قولَهُم، لا ما قاله بعضُكم، يا أصْحَاب محمَّد: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: ١٥٤]، إلى غير ذلك ممَّا اقتضته تلْكَ الحَالُ مِن الأقوال، قُلْتُ: وهذه المقالَةُ ترجِّح القولَ الثانِيَ في تفْسير الرِّبِّيِّينَ إذ هذه المقالةُ إنما تَصْدُرُ من علماء عارفينَ باللَّه.
قال ع «٢» : واستغفار هؤلاءِ القَوْمِ الممْدُوحِينَ فِي هذا المَوْطِنِ يَنْحُو إلى أنهم رَأَوْا أَنَّ ما نزل مِنْ مصائبِ الدُّنْيا إنما هو بِذُنُوبٍ من البَشَرِ كما نزلَتْ قصَّة أُحُدٍ بعصيان من عصى، وقولهم: ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا: عبارتان عن معنًى قريبٍ بعضُهُ من بعضٍ جاء للتأكيد، ولتعمَّ مناحي الذنوبِ وكذلكَ فسَّره ابنُ عبَّاس وغيره «٣»، وقال الضَّحَّاك: الذنوبُ عامُّ، والإسرافُ في الأمر، أريدَ به الكبائرُ خاصَّة، فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا
وأخرجه أحمد (٥/ ٢٧٨)، وأبو نعيم في «الحلية» (١/ ١٨٢) من طريق أبي أسماء الرحبي عن ثوبان به.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٢).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٢٢).
قال الفَخْر «٢» : ولا شَكَّ أنَّ ثوابَ الآخِرَةِ هي الجَنَّة، وذلك غَيْرُ حاصلٍ في الحالِ، فيكون المرادُ أنَّه سبحانه، لَمَّا حكم لهم بحصولها في الآخرة، قام حُكْمُهُ لهُمْ بذلك مَقَامَ الحُصُول في الحالِ، ومحمل قوله: فَآتاهُمُ أنه سيؤتيهم.
وقيل: ولا يمتنع أنْ تكون هذه الآية خاصَّةً بالشهداء، وأنه تعالى في حال نزول هذه الآية، كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة. انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: المنافقين الذين خَيَّبوا المسلمين، وقالوا في أمر أُحُد: لو كان محمَّد نبيًّا، لم ينهزم.
وقوله سبحانه: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ هذا تثبيتٌ لهم، وقوله سبحانه: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ سبب هذه الآيةِ أنه لما ارتحَلَ أبُو سُفْيان بالكفَّار، رجع النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينةِ، فتجهَّز، واتبع المشركِينَ، وكان مَعْبَدُ بْنُ أبي مَعْبَدٍ الخُزَاعِيُّ «٣» قد جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لَهُ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، لَقَدْ سَاءَنَا مَا أَصَابَكَ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَمِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم/، ثُمَّ رَكِبَ مَعْبَدٌ حتى لَحِقَ بِأَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا رأى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَداً، قَالَ: مَا وَرَاءَكَ، يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي أصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ قَدِ اجتمع مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ، ونَدِمُوا على مَا صَنَعُوا، قَالَ: وَيْلَك! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ، مَا أَرَاكَ أَنْ ترحل حتّى ترى نواصي الخيل، قال: فو الله، لقد
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٩/ ٢٤).
(٣) معبد بن أبي معبد الخزاعي. ذكره ابن منده، وذكر سيف في «الفتوح»، والطبري من طريق ابن المثنى بن حارثة لما توجه خالد بن الوليد إلى الشام قاسمه العساكر فكان معبد بن أبي معبد ممن بقي مع المثنى بن حارثة من الصحابة. ينظر: «الإصابة» (٦/ ١٣٣).
كَادَتْ تَهُدُّ مِنَ الأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي | إذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالجُرْدِ الأَبَابِيلِ «٢» |
تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لاَ تَنَابِلَةٍ | عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلاَ مِيلٍ مَعَازِيلِ «٣» |
فَظَلْتُ عَدْواً أَظُنُّ الأَرْضَ مَائِلَة | لَمَّا سَمَوْا بِرَئيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ «٤» |
وقوله سبحانه: بِما أَشْرَكُوا، هذه باءُ السَّبَبِ، والسُّلْطَانُ: الحُجَّة والبُرْهَان.
قال ص: قوله: وَبِئْسَ، المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: النار [انتهى].
فقلت:
ويل ابن حرب من لقائكم | إذا تغطمطت البطحاء بالجيل |
إني نذير لأهل البسل ضاحية | لكل ذي إربة منهم ومعقول |
من جيش أحمد لاوخش تنابلة | وليس يوصف ما أنذرت بالقيل |
(٣) تردى: تسرع. والتنابلة: القصار. والميل: جمع أميل، وهو الذي لا رمح أولا ترمى معه وقيل: هو الذي لا يثبت على السرج. والمعازيل: الذين لا سلاح معهم.
(٤) العدو: المشي السريع. وسموا: علوا وارتفعوا.
(٥) صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جدح. أبو وهب، وقيل: أبو أمية القرشي، الجمحي. روى عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن الحارث، وعامر بن مالك، وطاوس. قتل أبوه يوم بدر كافرا. وهرب هو يوم فتح «مكة» ثم عاد إليها بعد أن أخذ أمانا من النبيّ، وأعار النبيّ سلاحا يوم حنين، وحضرها مشركا، ثم أسلم، وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم، وكان من أشراف قريش في الجاهلية وأحد المطعمين.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (٣/ ٢٣)، و «الإصابة» (٣/ ٢٤٦)، و «الثقات» (٣/ ١٩١)، و «نقعة الصديان» (٣٠٠)، و «الاستيعاب» (٢/ ٧١٨)، و «الاستبصار» (٩٣، ١١٥)، و «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٦٦)، و «الطبقات الكبرى» (٥/ ٤٤٩)، و «سير النبلاء» (٢/ ٥٦٢)، و «المعرفة والتاريخ» (١/ ٣٠٩)، و «التاريخ الكبير» (٤/ ٣٠٤)، و «الجرح والتعديل» (٤/ ١٨٤٦)، و «الثقات» (٣/ ١٩١)، و «الكاشف» (٢/ ٢٩)، و «العبر» (١/ ٥٠)، و «الأعلام» (٣/ ٢٠٥)، و «تهذيب الكمال» (٢/ ٦٠٨)، و «تهذيب التهذيب» (٤/ ٤٢٤)، و «تقريب التهذيب» (١/ ٣٦٧).
(٦) ينظر: «الفخر الرازي» (٩/ ٢٧). [.....]
.
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، يحتملُ أنْ تكونَ «حتى» غايةً كأنه قال: إلى أنْ فشلتم، والأظهر الأقوى أنَّ «إذا» على بابها تحتاجُ إلى الجوابِ، ومَذْهَبُ الخَلِيلِ، وسِيبَوَيْهِ، وفُرْسَانِ الصِّنَاعة أنَّ الجوابَ محذوفٌ يدلُّ عليه المعنى، تقديرُهُ: انهزمتم، ونحوه، والفَشَل: استشعار العَجْزِ، وترْكُ الجِدِّ، والتَّنَازُعُ هو الَّذي وقَعَ بَيْنَ الرماةِ، وَعَصَيْتُمْ: عبارةٌ عن ذَهَابِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الرماة، وتأمَّل (رحمك اللَّه) ما يوجبه الركُونُ إلى الدنيا، وما يَنْشَأُ عنها من الضَّرَرِ، وإذا كان مَثَلُ هؤلاءِ السَّادة على رِفْعَتِهِمْ وعظيمِ منزلتهم، حَصَلَ لهم بسببها مَا حَصَلَ مِنَ الفَشَل والهزيمةِ، فكيف بأمثالنا، وقد حذَّرَ الله عز وجلّ ونبيُّه- عليه السلام- من الدُّنْيا وآفاتها بما لا يخفى على ذي لُبٍّ، وقد ذكرنا في هذا «المُخْتَصَرِ» جملةً كافيةً لمَنْ وفَّقه اللَّه، وشَرَح صدْره، وقد خرَّج البَغَوِيُّ في «المسند المنتخب» له، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أَنَّهُ قَالَ: «لاَ تُفْتَحُ الدُّنْيَا على أَحَدٍ إلاَّ أَلْقَتْ بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ القيامة» «٣». انتهى من «الكوكب الدري».
وقال علي: إنه استشهد باليمامة، وأسند ابن إسحاق من طريق يزيد بن السكن أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما التحم القتال ذبّ عنه مصعب بن عمير (يعني يوم أحد)، حتى قتل، وأبو دجانة سماك بن خرشة حتى كثرت فيه الجراحة. وقيل: إنه ممن شارك في قتل مسيلمة. ينظر: «الإصابة» (٧/ ٩٩- ١٠٠).
(٢) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، واسم أبي الأقلح: قيس بن عصمة بن النّعمان بن مالك بن أميّة بن صبيعة بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف، الأنصاريّ، جدّ عاصم بن عمرو بن الخطاب لأمّه، من السّابقين الأولين من الأنصار. ينظر: «الإصابة» (٣/ ٤٦٠).
(٣) أخرجه أحمد (١/ ١٦)، والبزار (٣٦٠٩- كشف) من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا.
وقال المنذري في «الترغيب» (٤/ ٨٣)، رواه أحمد بإسناد حسن، والبزار، وأبو يعلى.
وقال الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٣٦) : رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى في «الكبير»، وإسناده حسن.
«أبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فو الله، مَا الفَقْرَ أخشى عَلَيْكُم! وَلَكِنِّي أخشى أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُم كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»، أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ والترمذيُّ، واللفظ له، وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ «١». انتهى.
واعلم (رحمك اللَّه) أنَّ تيسير أسْبَابِ الدُّنْيا مع إعراضك عن أمر آخرتك، ليس ذلك من علاماتِ الفَلاَحِ وقد روى ابنُ المُبَارك في «رقائقه»، قال: أخبرنا ابْنُ لَهِيعَةَ «٢»، قال:
حدَّثني سعيدُ بنُ أَبِي سَعِيدٍ «٣» أنَّ رجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا؟
قَالَ: «إذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ حَسَنَةٍ، وَإذَا رَأَيْتَ كُلَّمَا طَلَبْتَ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ، وابتغيته، عُسِّرَ عَلَيْكَ، وَإذَا أَرَدتَّ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وابتغيته، يُسِّرَ لَكَ، فَأَنْتَ على حَالٍ قَبِيحَةٍ» «٤». انتهى، فتأمَّله راشداً، وقولَه: مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَّا تُحِبُّونَ، يعني:
هزيمةَ المشركين، قال الزُّبَيْر «٥» : واللَّه، لَقَدْ رأيتُنِي أنْظُرُ إلى خَدَمِ هنْدِ بنت عتبة «٦»،
(٢) عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي الغافقي، أبو عبد الرّحمن المصري، قاضيها وعالمها. عن عطاء، والأعرج، وعكرمة، وخلق. وعنه شعبة، وعمرو بن الحارث، والليث، وابن وهب، وخلق.
قال أحمد: احترقت كتبه وهو صحيح الكتاب. قال مسلم: تركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. قال يحيى بن بكير: مات سنة ١٧٤ هـ.
ينظر: «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ٩٢)، و «تهذيب الكمال» (٢/ ٧٢٧)، و «الكاشف» (٢/ ١٢٢)، و «ميزان الاعتدال» (٢/ ٤٧٥، ٤٨٣)، و «طبقات ابن سعد» (٧/ ٢٠٤).
(٣) سعيد بن أبي سعيد المقبري، أبو سعيد المدني، أرسل عن أم سلمة، وعن أبيه، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وأنس، وخلق. وعنه عمرو بن شعيب، وأيوب بن موسى، وعبيد الله بن عمر، والليث، وهو أثبت الناس فيه، قال ابن خراش: ثقة جليل، قال الواقدي: اختلط قبل موته بثلاث سنين. قال ابن سعد: مات سنة ثلاث وعشرين، وقال أبو عبيد: سنة خمس وعشرين ومائة.
ينظر: «تهذيب الكمال» (١/ ٤٩٠)، و «الثقات» (٤/ ٢٧٨)، و «الخلاصة» (١/ ٣٨٠)، و «لسان الميزان» (٧/ ٢٢٩).
(٤) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص ٢٩) رقم (٨٨) ووقع في «الزهد» :«شعيب بن أبي سعيد».
(٥) أخرجه الطبري (٣/ ٤٧٠) برقم (٨٠٠٨)، وذكره ابن عطية (١/ ٥٢٥).
(٦) هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّة، والدة معاوية بن أبي سفيان، شهدت أحدا، وفعلت ما فعلت بحمزة، ثم كانت تؤلّب على المسلمين إلى أن جاء الله بالفتح فأسلم زوجها ثم أسلمت هي يوم الفتح وقصّتهما (في قولها عند بيعة النساء: وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ فقالت: وهل تزني الحرّة؟) ينظر: «الإصابة» (٨/ ٣٤٦).
وقوله سبحانه: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا، يعني بهم الذين حَرَصُوا على الغنيمة، وكان المالُ همَّهم قاله ابنُ عَبَّاسٍ «١»، وسائرُ المفسِّرين، وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ مسْعود: ما كنتُ أرى أنّ أحدا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يريدُ الدنيا حتى نَزَلَ فينا يَوْمَ أُحُدٍ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا».
وقوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ إخبارٌ عن ثبوتِ مَنْ ثَبَتَ من الرُّماة، مع عبد اللَّه بن جُبَيْر امتثالا للأمْر حتى قُتِلُوا، ويدخلُ في هذا أنَسُ بْنُ النَّضْر، وكلُّ من جَدَّ ولم يضطرب من المؤمنين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٥]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
وقوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ العامل في إذ قوله: «عفا»، وقراءة «٣» الجمهور «تصعدون» (بضم التاء، وكسر العين) من: أصْعَدَ، ومعناه: ذَهَبَ في الأَرْضِ، والصعيدُ: وجهُ الأرض، ف «أَصْعَدَ» : معناه: دَخَلَ في الصَّعيد كما أنّ «أصبح» :
دخل في الصّباح.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٧٢) برقم (٨٠٢٣)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٦٢)، وابن عطية (١/ ٥٢٥)، والسيوطي في «تفسيره» (٢/ ١٥٢).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٢٥)، و «البحر المحيط» (٣/ ٨٩)، و «الدر المصون» (٢/ ٢٣٣).
«إلَيَّ، عِبَادَ اللَّهِ»، والناسُ يفرُّون، وفي قوله تعالى: فِي أُخْراكُمْ: مدح له صلّى الله عليه وسلّم فإن ذلك هو موقِفُ الأبطالِ في أعْقَابِ النَّاس ومنه قولُ الزُّبِيْرِ بْنِ باطا «٢» : ما فَعَل مقدِّمتُنا إذَا حَمَلْنا، وحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا وكذلك كان صلّى الله عليه وسلّم أشْجَعَ الناسِ ومنه قولُ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ «٣» /: كِنَّا إذا احمر البَأْسُ، اتقيناه برَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: فَأَثابَكُمْ: معناه: جازاكُمْ على صنيعكم، واختلف في معنى قوله تعالى: غَمًّا بِغَمٍّ، فقال قوم: المعنى: أثابكم غَمًّا بسبب الغمِّ الذي أدخلتموه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسائرِ المسلمينَ بفَشَلكم، وتَنَازُعِكم، وعِصْيَانكم. قال قتادة، ومجاهد:
الغَمُّ الأول: أنْ سَمِعُوا أَلاَ إنَّ محمّدا قد قتل، والثاني: القتل والجراح «٤».
وقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ، أي: من الغنيمة، ولا ما أصابكم، أي: من القَتْل والجِرَاحِ، وذُلِّ الانهزام، واللامُ من قوله: «لكَيْ لاَ» متعلِّقة ب «أثَابَكُمْ»، المعنى: لتعلموا أنَّ ما وقَعَ بكُمْ إنما هو بجنايَتِكُمْ، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادةُ البَشَر أنَّ جانِيَ الذنْبِ يَصْبِرُ للعقوبة، وأكْثَرُ قَلَقِ المعاقَبِ وحُزْنِهِ، إنما هو مع ظَنِّه البراءةَ بنَفْسه، ثم ذكر سبحانه أمْرَ النُّعَاس الذي أَمَّنَ به المؤمنِينَ، فغشي أهْل الإخلاص، قُلْتُ: وفي صحيح البخاريِّ»، عن أنسٍ أنَّ أبَا طَلْحَةَ قَالَ: غَشِينَا النُّعَاسُ، ونَحْنُ فِي مَصَافِّنَا يَوْمَ أحد، قال:
(٢) قال السهيلي: «هو الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، جد الزبير بن عبد الرّحمن المذكور في «الموطأ» في كتاب النكاح. واختلف في الزبير بن عبد الرّحمن فقيل: الزبير، بفتح الزاي وكسر الباء، كما سمي جده، وقيل: الزبير». [.....]
(٣) سلمة بن عمرو بن الأكوع، واسم الأكوع سنان بن عبد الله. وقيل: اسم أبيه وهب، وقيل غير ذلك.
أول مشاهده «الحديبية»، وكان من الشجعان، ويسبق الفرس عدوا، وبايع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عند الشّجرة على الموت.
ينظر: «طبقات ابن سعد» (٤/ ٣٠٥)، و «الإصابة» (٣/ ١٢٧)، و «أسد الغابة» (ت ٢١٧٩)، و «طبقات خليفة» (٦٨٩)، و «الخلاصة» (١٢٦)، و «تهذيب الأسماء واللغات» (١/ ١/ ٢٢٩)، و «تهذيب التهذيب» (٤/ ١٥٠).
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٧٩) برقم (٨٠٥٩)، (٨٠٦١)، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٢٦).
وقوله سبحانه: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ: معناه: يظنُّون أنَّ دين الإسلام ليس بحقٍّ، وأنَّ أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم يضمحلُّ.
قلْتُ: وقد وردَتْ أحاديثُ صِحَاحٌ في الترغيبِ في حُسْن الظَّنِّ باللَّه عزَّ وجلَّ، ففي «صحيح مسلم»، وغيره، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاكِياً عن اللَّه عزَّ وجلَّ يقولُ سبْحَانه: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي... » «٤» الحديثَ، وقال ابْنُ مَسْعود: واللَّه الَّذِي لاَ إله غيره، لا يُحْسِنُ أحَدٌ الظنَّ باللَّه عزَّ وجلَّ إلا أعطاه اللَّهُ ظنَّه، وذلك أنَّ الخَيْر بيده، وخرَّج أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيب بسنده، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مِنْ حُسْنِ عِبَادَةِ المَرْءِ حُسْنُ ظَنِّهِ» «٥» اهـ. وقوله:
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه الترمذي (٥/ ٢٢٩)، كتاب «التفسير»، باب ومن سورة آل عمران، حديث (٣٠٠٧)، وابن سعد في «الطبقات» (٣/ ٥٠٥)، وابن أبي شيبة (١٤/ ٤٠٦- ٤٠٧)، والطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٨٣- ٤٨٤) رقم (٨٠٧٤)، والحاكم (٢/ ٢٩٧)، والبيهقي في «الدلائل» (٣/ ٢٧٢)، وأبو نعيم في «الدلائل» ص (٣٦٧) كلهم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرجه ابن سعد (٣/ ٥٠٥)، والطبري في «تفسيره» (٣/ ٤٨٣) رقم (٨٠٧٣) من طريق حميد عن أنس.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٥٥)، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وللحديث شاهد من حديث الزبير بن العوام: أخرجه الترمذي (٥/ ٢٢٩) كتاب «التفسير»، باب ومن سورة آل عمران، حديث (٣٠٠٧) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير به بنحو حديث أنس.
(٢) ينظر الحديث السابق.
(٣) ينظر الحديث السابق.
(٤) تقدم تخريجه.
(٥) تقدم تخريجه.
وقوله «١» سبحانه: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراضٌ أثناء الكلامِ فصيحٌ، ومضمَّنه الردُّ عليهم، وقوله سبحانه: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ... الآية: أخبر تعالى عنهم على الجُمْلة دُونَ تَعْيين، وهذه كانَتْ سُنَّتَهُ في المنافقينَ، لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا هي مقالةٌ سُمِعَتْ من مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ المغموصِ «٢» عليه بالنِّفَاق، وباقي الآية بيِّن.
وقوله تعالى: وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ: اللام في «ليبتلي» متعلِّقة بفعلٍ متأخِّرٍ، تقديره: وليبتليَ وليمحِّصَ فعْلَ هذه الأمور الواقعة، والابتلاءُ هنا/ الاختبار.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ قال عُمَرُ (رضي اللَّه عنه) : المرادُ بهذه الآية جميعُ مَنْ تولى ذلك اليَوْمَ عن العدُوِّ «٣».
وقيل: نزلَتْ في الذين فرّوا إلى المدينة.
(٢) معتّب بن قشير بن مليل بن زيد بن العطاف بن ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن الأوس، الأنصاريّ، الأوسيّ.
ذكروه فيمن شهد العقبة. وقيل: إنه كان منافقا، وإنه الذي قال يَوْمَ أحُدٍ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: ١٥٤] وقيل: إنه تاب.
وقد ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا.
ينظر: «الإصابة» (٦/ ١٣٧)، و «أسد الغابة» ت (٥٠١٧)، و «الاستيعاب» ت (٢٤٨٥)، و «المؤتلف والمختلف» (٢١٩).
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٢٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١٥٧)، وعزاه لابن جرير عن كليب عنه به.
وقوله تعالى: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا: ظاهره عند جمهور المفسِّرين: أنه كانَتْ لهم ذنوبٌ عاقبهم اللَّه علَيْها بتَمْكين الشيطان من استزلالهم بوسوسَتِهِ وتخويفِهِ، والفَرَارُ مِنَ الزَّحْفِ «٢» من الكبائر بإجماعٍ فيما عَلِمْتُ، وقَدْ عده صلّى الله عليه وسلّم في السّبع الموبقات «٣».
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ...
الآية: نَهَى اللَّه المؤمنِينَ أنْ يكونوا مثل الكفَّار المنافقين في هذا المعتقَدِ الفاسِدِ الذي هو أنَّ من سافر في تجارةٍ ونحوها، ومَنْ قَاتَلَ فَقُتِلَ، لو قعد في بَيْته لعاش، ولم يَمُتْ في ذلك الوَقْتِ الذي عَرَّض فيه نَفْسه للسَّفَر أو للقِتَال، وهذا هو مُعْتَقَدُ المعتزلة في القَوْل بالأَجَلَيْنِ، أو نحو منه، وصرّح بهذا المقالة عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ المُنَافِقُ، وأصحابه قاله مجاهد
(٢) قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الأنفال:
١٥- ١٦] في هذه الآية ينهى الله المؤمنين عن الفرار من الكفار إذا التقوا بهم في القتال، وحكمة ذلك أن الفرار كبير المفسدة وخيم العاقبة لأن الفارّ يكون كالحجر يسقط من البناء. ، فيتداعى ويختل نظامه لهذا عدّ الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات، وقد توعد الله المقاتلين الذين يولون العدوّ ظهورهم، فقال: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ... الآية.
وفي الفرار من العدو عار يجعل الحياة بغيضة عند النفوس الأبيّة، قال يزيد بن المهلّب: «والله إني لأكره الحياة بعد الهزيمة».
وقال بعض العلماء: إن هذا النهي خاصّ بوقعة بدر. وبه قال نافع والحسن وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب، والضحاك، ونسب إلى أبي حنيفة كما حكاه القرطبي.
وقال الجمهور (وهو المروي عن ابن عبّاس) : إن تحريم الفرار من الصف عند الزحف باق إلى يوم القيامة في كلّ قتال يلتقي فيه المسلمون والكفار.
(٣) تقدم تخريجه.
وقوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ الإشارةُ ب «ذَلِكَ» إلى هذا المعتقد الَّذى جعله اللَّه حَسْرةً لهم لأن الذي يتيقن أنَّ كل قَتْل ومَوْت، إنما هو بأجَلٍ سابقٍ يجدُ برد اليأسِ والتسليمِ للَّه سبحانه على قلبه، والذي يَعْتَقِدُ أنَّ حميمه لو قعد في بَيْته، لم يَمْتُ، يتحسَّر ويتلهَّف وعلى هذا التأويل، مَشَى المتأوِّلونَ، وهو أظهرُ مَا في الآية، والتحسُّرُ: التلهُّفُ على الشيء، والغَمُّ به.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ توكيدٌ للنهيْ في قوله: لاَ تَكُونُوا ووعيدٌ لمن خالفه، ووَعْدٌ لمن امتثله.
وقوله سبحانه: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ اللامُ في وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ هي المؤذنةُ بمَجِيءِ القَسَمِ، واللامُ في قوله: لَمَغْفِرَةٌ هي المتلقِّية للقَسَمِ، والتقديرُ: واللَّهِ، لمغفرةٌ وترتَّب المَوْتُ قبل القَتْل في قوله تعالى: مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا مراعاةً لترتُّب الضَّرْب في الأرض والغَزْو، وقدَّم القَتْل هنا لأنَّه الأشرف الأهمُّ، ثم قدَّم المَوْتَ في قوله تعالى: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لأنها آية وعظٍ بالآخرةِ والحَشْرِ، وآيةُ تزهيدٍ في الدنْيَا والحَيَاةِ، وفي الآيةِ تحقيرٌ لأمر الدنيا، وحضٌّ على طَلَبِ الشهادةِ، والمعنى: إذا كان الحَشْر لا بُدَّ في كِلاَ الأمْرَيْن، فالمضيُّ إليه في حالِ شهادةٍ أولى وعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ «٢»، أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإنْ مَاتَ على فِرَاشِهِ»، رواه الجماعةُ إلاَّ البخاريَّ «٣»، وعن أنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(٢) سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم بن ثعلبة. قيل: أبو الوليد، وأبو ثابت، وأبو سعيد، وقيل: أبو سعد. أو أبو عبد الله. الأوسي. الأنصاري. بدري شهد المشاهد كلها مع رسول الله، وثبت يوم أحد، وكان يرمي بالنبل عن رسول الله. وصحب علي بن أبي طالب، واستخلفه عليّ على «المدينة» حين سار إلى «البصرة»، وشهد معه «صفين»، وولاه بلاد فارس. روى عنه ابناه أبو أمامة، وعبد الملك. وروى عنه عبيد بن السياق، وأبو وائل، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى. مات ب «الكوفة» سنة (٣٨ هـ).
وينظر: «أسد الغابة» (٢/ ٤٧٠)، و «الإصابة» (٣/ ١٣٩)، و «الثقات» (٣/ ١٦٩)، و «تجريد أسماء الصحابة» (١/ ٢٤٣)، و «الاستيعاب» (٢/ ٦٦٢)، و «بقي بن مخلد» (٧٨، ٩٠٣).
(٣) أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٧)، كتاب «الإمارة»، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، حديث (١٥٧/ ١٩٠٩)، وأبو داود (١/ ٤٧٦)، كتاب «الصلاة»، باب في الاستغفار، حديث (١٥٢٠)، والترمذي (٤/ ١٨٣)، كتاب «فضائل الجهاد»، باب ما جاء فيمن سأل الشهادة، حديث (١٦٥٣)، -
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
وقوله سبحانه: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ: معناه: فبرحمةٍ، قال القُشَيْريُّ في «التحبير» : واعلَمْ أنَّ اللَّه سبحانه يحبُّ من عباده مَنْ يرحم خَلْقه، ولا يرحم العبد إلاَّ إذا رحمه اللَّه سبحانَهُ، قال اللَّه تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ.
انتهى.
قال ع «٢» : ومعنى هذه الآيةِ التقريعُ لكلِّ مَنْ أخلَّ يومَ أُحُدٍ بمَرْكزه، أي: كانوا يستحقُّون الملام منْكَ، ولكنْ برحمةٍ منه سُبْحَانه/ لِنْتَ لهم، وجَعَلَكَ على خُلُقٍ عظيمٍ، وبعَثَكَ لتتميمِ محاسنِ الأخلاق، ولو كُنْتَ فظًّا غليظَ القَلْب، لانفضوا مِنْ حولك، وتفرَّقوا عَنْكَ، والفَظُّ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفته صلّى الله عليه وسلّم في الكُتُب المُنزَّلة: «لَيْسَ بِفَظٍّ ولا غَلِيظٍ وَلاَ صَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ» «٣»، والفَظَاظة: الجَفْوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، وغِلَظُ القَلْب: عبارةٌ عن تجهُّمِ الوجْهِ، وقلَّةِ الانفعالِ في الرغَائِبِ، وقلَّةِ الإشفاقِ والرَّحْمةِ، والانفضاضُ: افتراق الجموع.
وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ... الآية: أمر سبحانه نبيَّه- عليه السلام- بهذه الأوامر التي هِيَ بتدريجٍ بليغٍ، فأمره أنْ يعفو عَنْهم فيما له عليهم من حقّ، ثمّ
وقال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث عبد الرّحمن بن شريح.
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٧)، كتاب «الإمارة»، باب استحباب طلب الشهادة في سبيل الله تعالى، حديث (١٥٦/ ١٩٠٨) من حديث أنس بن مالك.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٣٣).
(٣) تقدم.
قال ع «١» : ومَنْ لا يستشيرُ أهل العِلْمِ والدِّين، فعَزْلُه واجبٌ، هذا ممَّا لا خلافَ فيه، وقد وردَتْ أحاديثُ كثيرةٌ في الاستشارة، ومُشَاورته- عليه السلام- إنما هي في أمور الحَرْب والبُعُوث ونحوه من أشخاصِ النَّوَازِلِ، فأما في حلالٍ، أو حرامٍ، أو حَدٍّ، فتلك قوانينُ شَرْعٍ، ما فرَّطنا في الكتابِ مِنْ شيء، والشورى مبنيَّة على اختلافِ «٢» الآراءِ، والمُسْتَشِيرُ ينظر في ذَلِكَ الخلافِ، ويتخيَّر، فإذا أرشده اللَّه إلى ما شاء منْهُ، عزم علَيْه، وأنفذه متوكِّلاً على اللَّه إذ هو غايةُ الاجتهادِ المَطْلُوب منه، وبهذا أمر اللَّه تعالى نبيَّه في هذه الآيةِ، وصِفَةُ المُسْتشارِ في الأحكامِ أنْ يكونَ عالماً ديِّناً، وقلَّما يكونُ ذلك إلاَّ في عاقلٍ، فقَدْ قال الحَسَنُ ابْنُ أبِي الحَسَنِ: ما كَمَلَ دِينُ امرئ لَمْ يَكْمَلْ عَقْلُهُ «٣».
قال ع «٤» : والتوكُّل على اللَّه سبحانه وتعالى مِنْ فروض الإيمانِ وفصولِهِ، ولكنَّه مقترنٌ بالجِدِّ في الطاعاتِ، والتَّشْميرِ والحَزَامَةِ بغايةِ الجُهْدِ، وليس الإلقاء باليدِ وما أشبهه
(٢) الشورى: مصدر بمعنى التشاور، يقال: تشاور القوم إذا اجتمعوا على الأمر ليستشير كل واحد منهم صاحبه، ويستخرج ما عنده من رأي، من قولهم: شرت الدابة: إذا عرضتها على مشتريها ليبلوها وينظر ما عندها، وبالعرض يعلم خيرها وشرها، فكذلك بالتشاور يعلم خير الأمور وشرها.
والشورى دعامة الحكومة الإسلامية، وعليها مدار انتظامها وحسن سلوكها وسعادتها، فأعدل الحكومات هي الحكومة الشورية، لذلك عنى الله (سبحانه وتعالى) بأمرها حتى قرر أصولها، في كثير من آيات الذكر الحكيم، وأمر بها رسوله المعصوم، قال تعالى: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: ٣٨]، فامتدحهم بأن أمرهم شورى بينهم وقرنوه بأصل الإيمان، وهو الاستجابة إلى الله، وبأقوى أركانه وهو الصلاة، وفي هذا تنويه بشأنها، وإعلاء من أمرها، وتنبيه على أنها من أصول الإسلام ودعائمه.
وقال تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ [آل عمران: ١٥٩].
روي عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: «قد علم الله أنه ما به إليهم من حاجة، ولكن أراد أن يستنّ به من بعده».
وقال البيضاوي في تفسيرها: عاملهم معاملة العفو والصفح فيما يختص بك، واطلب المغفرة لهم، واستظهر برأيهم، وشاورهم في أمر الحرب وفي كل ما تصح فيه المشاورة لتطييب نفوسهم ولتمهيد سنة المشاورة لأمتك.
ينظر: «الخلافة» لشيخنا عبد الفتاح الجوهري.
(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٣٤).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٣٤).
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ هذه غايةٌ في الرِّفْعة، وشَرَفِ المنزلةِ، وقد جاءت آثار صحيحةٌ في فَضْل التوكُّلِ وعظيمِ منزلةِ المتوكِّلين، ففي «صحيح مُسْلِمٍ» عن عمران بن حصين أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ، قَالُوا: مَنْ هُمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَرْقُونَ، وَلاَ يَستَرْقُونَ، وَلاَ يَتَطَيَّرُونَ، وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»، «١» وخَرَّج أبو عيسَى التِّرمذيُّ، عن أبي أُمَامَةَ، قَالَ: سمعتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِل الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعِينَ أَلْفاً لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ عَذَابَ، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفاً وَثَلاَثُ حَثَيَاتٍ مِنْ حَثَيَاتِ رَبِّي»، وخرَّجه ابن ماجة أيضاً «٢»، وخرَّج أبو بَكْرٍ البَزَّارُ، وأبو عَبْدِ اللَّهِ التِّرمذيُّ الحكيمُ، عنْ عبد الرحمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصديقِ (رضي اللَّه عنه)، قَالَ: قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَعْطَانِي سَبْعِينَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته قَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبْعِينَ الأَلْفَ سَبْعِينَ أَلْفاً، فقالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلاَّ استزدته، فَقَالَ: قَدِ استزدته، فَأَعْطَانِي هَكَذَا، وفَتَحَ أَبُو وَهْبٍ يَدَيْهِ، قَالَ أَبُو وَهْبٍ: قَالَ هِشَامٌ:
هَذَا مِنَ اللَّهِ لاَ يدرى، مَا عَدَدُهُ» «٣»، وخرَّج أبو نُعَيْمٍ، عن أنس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَعَدَنِي رَبِّي أَنْ يُدْخِلَ الجَنَّة/ مِنْ أُمَّتِي مِائَةَ أَلْفٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، قَالَ: وَهَكَذَا، وَأَشَارَ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنَا، فَقَالَ عُمَرُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ النَّاسَ الجَنَّةَ بحفنة واحدة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صدق عمر» «٤». اهـ من
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٢٦)، كتاب «صفة القيامة»، باب (١٢)، حديث (٢٤٣٧)، وابن ماجة (٢/ ١٤٣٣) كتاب «الزهد»، باب صفة أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٤٢٨٦)، وأحمد (٥/ ٢٦٨).
(٣) أخرجه البزار كما في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٤١٣- ٤١٤)، وقال الهيثمي: رواه أحمد، والبزار، والطبراني بنحوه، وفي أسانيدهم القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد، وموسى بن عبيد هذا هو مولى خالد بن عبد الله بن أسيد، ذكره ابن حبان في «الثقات». والقاسم بن مهران ذكره الذهبي في «الميزان»، وأنه لم يرو عنه إلا سليم بن عمرو النخعي، وليس كذلك، فقد روى عنه هذا الحديث هشام بن حسان، وباقي رجال إسناده محتج بهم في الصحيح.
(٤) أخرجه أحمد (٣/ ١٩٣)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٣٤٤- ٣٤٥) من طريق أبي هلال عن قتادة عن أنس مرفوعا.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث قتادة عن أنس (رضي الله عنه)، تفرد به أبو هلال، واسمه محمد بن سليم الراسبي، ثقة بصري. [.....]
وقوله تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أيْ: يترككم، والخذل الترك، والضميرُ في: مِنْ بَعْدِهِ يعودُ على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ على الخذل.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦١ الى ١٦٣]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
وقوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ، قرأ ابنُ كَثِيرٍ «٢»، وأبو عَمْرٍو، وعاصم: «أَنْ يَغُلَّ» بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: «أَنْ يُغَلَّ» بضم الياء، وفتح الغين، واللفظةُ بمعنى الخِيَانة في خَفَاءِ، تقولُ العربُ: أَغَلَّ الرَّجُلُ يُغِلُّ إغْلاَلاً، إذا خان، واختلفَ عَلَى القراءة الأولى، فقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: نزلَتْ بسبب قَطِيفَةٍ حَمْرَاءَ فُقِدَتْ من المغانمِ يَوْمَ بَدْرٍ، فقال بعضُ النَّاس: لعلَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم أَخَذَهَا «٣»، فقيلَ: كانت هذه المَقَالَةُ مِنْ مؤمِنٍ لم يَظُنَّ في ذلك حَرَجاً.
وقيل: كانَتْ من منافِقين، وقد رُوِيَ أن المفقود إنما كَانَ سَيْفاً، قال النَّقَّاش: ويقال:
إنما نزلَتْ لأن الرماة قالوا يوم أُحُدٍ: الغنيمةَ الغنيمةَ، فإنا نخشى أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ أَخَذ شيئاً، فهو له «٤»، وقال ابْنُ إسحاق: الآية إنما أنزلَتْ، إعلاماً بأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئاً مما أُمِرَ بتبليغه «٥».
وأمَّا على القراءة الثانيةِ، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحدٍ أنْ يغل النبيَّ، أيْ:
يخونه في الغنيمة لأنَّ المعاصِيَ تَعْظُمُ بحَضْرته لتعيين توقيره.
(٢) ينظر: «السبعة» (٢١٨)، و «الحجة» (٣/ ٩٤)، و «حجة القراءات» (١٧٩، ١٨٠)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٢٢)، و «العنوان» (٨١)، و «شرح شعلة» (٣٢٥)، و «إتحاف» (١/ ٤٩٣)، و «معاني القراءات» (١/ ٢٧٩).
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٢٣٠) كتاب «التفسير» باب ومن سورة آل عمران حديث (٣٠٠٩) وقال الترمذي:
هذا حديث حسن غريب.
(٤) ذكره ابن عطية (١/ ٥٣٥).
(٥) ذكره ابن عطية (١/ ٥٣٥).
وقوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ... الآية: وعيدٌ لِمَنْ يغل من الغنيمة، أو في زكاته بالفَضِيحَة يَوْمَ القيامة على رءوس الأَشهاد، قال القرطبيُّ في «تذكرته» «٢» : قال علماؤنا (رحمهم اللَّه) في قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ: إنّ ذلك على الحقيقة كما بيّنه صلّى الله عليه وسلّم، أي: يأتي به حاملاً له على ظهره ورقبته، معذَّباً بحمله وثِقَلِهِ، ومروَّعاً بصوته، وموبَّخاً بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا الْخَائِطَ وَالمَخِيطَ فَإنَّ الغُلُولَ عَارٌ ونَارٌ وشَنَارٌ على أَهْلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» «٣» رواه مالكٌ في «الموطَّأ»، قال أبو عُمَرَ في «التمهيد» : الشَّنَار: لَفْظَةٌ جامعةٌ لمعنَى العَارِ وَالنَّارِ، ومعناها الشَّيْن، والنَّار يريد أن الغلول شَيْنٌ وعارٌ ومنْقَصَة في الدُّنْيا، وعذابٌ في الآخرة. انتهى، وفي الباب أحاديثُ صحيحةٌ في الغُلُولِ، وفي مَنْعِ الزكاة.
وقوله سبحانه: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ، أي: الطاعة الكفيلة بِرضْوَان اللَّه.
قال ص: «أَفَمَنْ» : استفهام، معناه: النَّفْيُ، أي: ليس مَنِ اتبع مَا يَئُولُ به إلى رِضَا اللَّه تعالى عَنْه فباء برضَاه، كَمَنْ لم يَتَّبِعْ ذلك فباء بسَخَطه. انتهى.
وقوله سبحانه: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ قال ابنُ إسحاق وغيره: المراد بذلك الجَمْعَانِ المذكورانِ أهل الرِّضْوان، وأصحاب السَّخَط «٤»، / أيْ: لكلِّ صِنْفٍ منهم تَبَايُنٌ في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النَّار أيضاً، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ ما ظاهره: أن المراد بقوله: «هم»، إنما هو لمتبعي الرضْوان «٥»، أي: لهم درجاتٌ كريمةٌ عند ربهم، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: هُمْ ذَوْو دَرَجَاتٍ، والدرجاتُ: المنازلُ بعضها أعلى من بعض في المَسَافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآية وعد ووعيد.
(٢) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ٣٩٩).
(٣) أخرجه مالك (٢/ ٤٥٧- ٤٥٨)، كتاب «الجهاد»، باب ما جاء في الغلول، حديث (٢٢) عن عبد الرّحمن بن سعيد عن عمرو بن شعيب مرسلا.
وأخرجه أبو داود (٢/ ٧٠) (٢٦٩٤)، والنسائي (٦/ ٢٦٢- ٢٦٣)، وأحمد (٢/ ١٨٤)، والبيهقي (٦/ ٣٣٦- ٣٣٧) من طريق عمرو بن شُعَيْب عن أبيه عن جَدِّه موصولا.
(٤) ذكره ابن عطية (١/ ٥٣٦).
(٥) ذكره ابن عطية (١/ ٥٣٧).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٤ الى ١٦٥]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)وقوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ...
الآية: اللام في «لقد» : لام القسم، و «منّ» في هذه الآية: معناه: تطوَّل وتفضَّل سبحانه، وقد يقال: «مَنَّ» بمعنى كَدَّرَ مَعْرُوفَهُ بالذِّكْرِ، فهي لفظةٌ مشتركة، وقوله: مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أي: في الجنْسِ، واللسانِ، والمُجَاورةِ، فكونه مِنَ الجنْسِ يوجبُ الأنْسَ به، وكونُه بِلِسانِهِمْ يوجِبُ حُسْنَ التفهيم، وكونُه جَاراً ورَبِيًّا يوجِبُ التصديقَ والطُّمأنينة إذ قد خَبَرُوه وعَرَفُوا صِدْقَه وأمانته، ثم وقَف اللَّه سبْحانه المؤمنين عَلَى الخَطَإ في قَلَقِهِمْ للمُصِيبة الَّتي نزلَتْ بهم، وإعراضهم عمَّا نزل بالكفّار، فقال: أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ
، أي: يوم أُحُدٍ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها، أيْ: يوم بَدْر إذ قتل من الكُفَّار سبعون، وأسر سَبْعُون، هذا تفْسِيرُ ابنِ عَبَّاس «١»، والجمهورِ.
وقال الزَّجَّاج «٢» : وَاحِدُ المِثْلَيْن: هو قتْلُ السبعينَ يَوْمَ بَدْر، والثاني: هو قتل اثنين وعشرين يَوْمَ أحد، ولا مَدْخَل للأسرى لأنهم قد فدوا.
وأَنَّى: معناها: كَيْفَ، وَمِنْ أَيْنَ، قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ، أي: حين خالفتم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الرأْيِ حينَ رأى أنْ يقيمَ بالمَدينة، ويترك الكُفَّار بَشَّر مَحْبِسٍ، فأبيتم إلا الخُرُوجِ، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقالَتْ طائفة: هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ: إشارةٌ إلى عصيانِ الرُّمَاة، وتسبيبهم الهَزيمة عَلَى المؤمنين، وقال عليٌّ والحَسَن: بل ذلك لِمَا قَبِلُوا الفِدَاءَ يَوْمَ بدر «٣» وذلك أنَّ اللَّه سبحانه أخبرهم على لسانِ نبيِّه بَيْنَ قَتْل الأسرى أو يأخذوا الفِدَاءَ على أنْ يُقْتَلَ منْهم عدَّة الأسرى، فاختاروا أَخْذَ الفدَاءِ، ورَضُوا بالشَّهَادةِ، فقُتِلَ منهم يوْمَ أحدٍ سَبْعُونَ، قلْتُ: وهذا الحديثُ رواه الترمذيُّ عنْ عليٍّ (رضي اللَّه عنه)، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ أحمدُ بْنُ نَصْرٍ الدَّاوُودِيُّ: وعَنِ الضَّحَّاك: أَنَّى هذا، أي: بأيّ ذنب هذا؟
(٢) ينظر: «معاني القرآن» (١/ ٤٨٨).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٥٠٩) برقم (٨١٩٠) عن علي، وذكره ابن عطية (١/ ٥٣٨)، والسيوطي (٢/ ١٦٦)، وعزاه لابن أبي حاتم عن الحسن، ولابن أبي شيبة، والترمذي وحسنه، وابن مردويه عن علي.
انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
وقوله سبحانه: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ، يعني: يوم أُحُد.
وقوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، أيْ: ليعلم اللَّه المؤمن مِنَ المُنَافق، والإشارة بقوله سبحانه: نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ: هي إلى عَبْد اللَّه بن أبَيٍّ وأصحابه، حين انخزل بنَحْو ثُلُث النَّاسِ، فمشى في إثرهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَزَامٍ أبُو جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، فقَالَ لهم: اتقوا اللَّهَ، ولا تَتْرُكُوا نبيَّكم، وقاتلوا في سَبيلِ اللَّهِ، أو ادفعوا، ونحْوَ هذا من القولِ، فقال له ابْنُ أُبَيٍّ: ما أرى أَنْ يكُونَ قِتَالاً، ولو علمْنا أنْ يكُونَ قتَالٌ، لكنا معكم، فلما يَئِسَ منهم عبْدُ اللَّهِ، قال: اذهبوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، فَسَيْغُنِي اللَّهُ رَسُولَهُ عَنْكُمْ، ومضى مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فاستشهد.
وقوله تعالى: أَوِ ادْفَعُوا، قال ابنُ جُرَيْجٍ وغيره: معناه: كَثِّروا السوادَ، وإنْ لم تقاتِلُوا/، فيندفع القَوْم لكثرتِكُمْ «٢»، وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: «أو ادفعوا» : استدعاء للقتَالِ حميَّةً إذ ليسوا بأهْلٍ للقتال في سبيل اللَّه، والمعنى:
قاتلوا في سبيل اللَّه، أو قاتلوا دفاعاً عن الحَوْزَة ألا ترى أنَّ قُزْمَانَ قَالَ في ذلك اليَوْمِ:
واللَّهِ، ما قاتلْتُ إلاَّ على أحساب قَوْمِي، وقَوْلِ الأنصاريِّ يومئذ لَمَّا أرسلَتْ قُرَيْشٌ الظَّهْرَ في الزُّروع: أترعى زُرُوعَ بَنِي قيلة، ولمّا نضارب.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٢]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٣٥)، وابن عطية (١/ ٥٣٩).
ثم أخْبَرَ سبحانه عن الشهداءِ أنهم في الجنَّة أحياءٌ يرزقون، وعن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ عَلَى الشُّهَدَاءِ، فَيَقُولُ: يَا عِبَادِي، مَا تَشْتَهُونَ، فَأَزِيدَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا، لاَ فَوْقَ مَا أَعْطَيْتَنَا، هَذِهِ الجَنَّةُ نَأْكُلُ مِنْهَا حَيْثُ نَشَاءُ، لَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنَا إلَى الدُّنْيَا، فَنُقَاتِلَ فِي سَبِيلِكَ، فَنُقْتَلُ مَرَّةً أخرى، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّكُمْ لاَ تُرَدُّونَ» «١»، والأحاديثُ في فَضْل الشُّهَداء كثيرةٌ.
قال الفَخْر «٢» : والرواياتُ في هذا البابِ كأنَّها بلَغَتْ حدَّ التواتر، ثم قَالَ: قال بعْضُ المفسِّرين: أرواحُ الشُّهَدَاءِ أحياءٌ، وهي تركَعُ وتَسْجُدُ تَحْتَ العَرْشِ إلى يَوْمِ القِيامةِ. انتهى.
والعقيدةُ أنَّ الأرواحَ كلَّها أحياء، لا فرق بَيْن الشهداءِ وغيرهم في ذلك إلاَّ ما خَصَّص اللَّه به الشُّهداءَ مِنْ زيادَةِ المَزِيَّة والحياةِ الَّتِي ليْسَتْ بمكيَّفة، وفي «صحيح مسْلِمٍ»، عن مَسْرُوقٍ قال، سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فقال: أَمَّا أَنَا، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذلك، فقال، يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ... » «٣» الحديثَ إلى آخره اهـ.
ومن الآثار الصحيحةِ الدالَّة على فَضْلِ الشُّهداءِ ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ» أنه بلَغَهُ أنَّ عمرو بْنَ الجَمُوحِ «٤»، وعبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو الأنصارِيَّيْنِ ثُمَّ السُّلَمِيَّيْنِ كَانَا قد حفر السّيل
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٩/ ٧٣).
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة الأنصاري، السلمي.
من سادات الأنصار، واستشهد بأحد.
قال ابن إسحاق في «المغازي» : كان عمرو بن الجموح سيدا من سادات بني سلمة، وشريفا من أشرافهم وكان قد اتخذ في داره صنما من خشب يعظّمه، فلما أسلم فتيان بني سلمة منهم ابنه معاذ، -
ثم أسند عَنْ جابِرٍ قال: رأَيْتُ الشهداءَ يَخْرجُونَ على رِقَابِ الرجَالِ كأنهم رجَالٌ نُوَّمٌ حتى إذا أَصَابَتِ المِسْحَاةُ قَدَمَ حمزةَ (رضي اللَّه عنه) :«فانثعبت دَماً» انتهى.
وقوله سبحانه: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ... الآية: معناه: يُسَرُّونَ، ويَفْرَحُونَ، وذهَبَ قتادة وغيره إلى أنَّ استبشارهم هو أنهم يقولُونَ: إخواننا الذين تركْنَاهم خَلْفَنَا في الدنيا يُقَاتِلُونَ في سَبيل اللَّه مع نبيِّهم، فيستشهدُونَ، فينالُونَ مِنَ الكرامَةِ مِثْلَ ما نِلْنَا نَحْنُ، فيسرُّون لهم بذلك إذْ يحصُلُونَ لا خَوْفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ «١»، وذهب فريقٌ من العلماءِ إلى أَنَّ الإشارة في قوله: بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا، إلى جميع المؤمنين الَّذِينَ لم يلحقوا بهم في فَضْل الشهادة وذَلك لِمَا عايَنُوا من ثوابِ اللَّهِ، فهم فرحون لأنفسهم بما
تالله لو كنت إلها لم تكن | أنت وكلب وسط بئر في قرن |
(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٤١).
قُلْتُ: وخرَّج أبو عبد اللَّهِ الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ حَرْبٍ «١» صَاحِبُ ابن المبارَكِ في «رقائقه»، بسنده، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي «أنَّ الشُّهداءَ فِي قِبابٍ مِنْ حَرِيرٍ فِي رِياضٍ خُضْرٍ، عِنْدَهُمْ حُوتٌ وَثَوْرٌ، يَظَلُّ الحُوتُ يُسَبِّحُ فِى أَنْهَارِ الجَنَّةِ يَأْكُلُ مِنْ كُلِّ رائِحَةٍ فِي أَنْهَارِ الجَنَّةِ، فَإذَا أمسى وَكَزَهُ الثَّوْرُ بقَرْنِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ لَحْمَهُ، يَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ، وَيَبِيتُ الثَّوْرُ فِي أَفْنَاءِ الجَنَّةِ، فَإذَا أَصْبَحَ، غَدَا عَلَيْهِ الحُوتُ، فَوَكَزَهُ بِذَنَبِهِ، فَيُذْكِيهِ، فَيَأْكُلُونَ، فَيَجِدُونَ فِي لَحْمِهِ طَعْمَ كُلِّ رَائِحَةٍ فِي الجَنَّةِ، ثُمَّ يَعُودُونَ، وَيَنْظُرُونَ إلى مَنَازِلِهِمْ مِنَ الجَنَّةِ، وَيَدْعُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ... » الحديثَ. انتهى.
مختصرًا، وقد ذكره صاحب «التذكرة» مطوَّلاً.
وقرأ الكِسَائِيُّ: «وَإنَّ اللَّهَ» بكسر «٢» الهمزة على استئناف الإخبار، وقرأ باقي السبعة بالفتْحِ على أنَّ ذلك داخلٌ فيما يُسْتبشر به، وقوله: الَّذِينَ اسْتَجابُوا يحتملُ أنْ يكون صفَةً للمؤمنين على قراءة مَنْ كَسَر الألف من «إنَّ»، والأظهر أنَّ الذين ابتداءٌ، وخبره في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ... الآية، والمستجيبُونَ للَّه والرسولِ: هم الذين خرَجُوا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى حمراء الأسد في طلب قريش.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٣ الى ١٧٤]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
وقوله سبحانه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ... الآية:
«الذين» : صفةٌ للمحسنين، وهذا القولُ هو الذي قاله الركْبُ من عبد القيس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم
ينظر: «الخلاصة» (١/ ٢٢٤).
(٢) ينظر: «السبعة» (٢١٩)، و «الحجة» (٣/ ٩٨)، و «حجة القراءات» (١٨٢)، و «إعراب القراءات» (١/ ١٢٢)، و «العنوان» (٨١)، و «شرح الطيبة» (٤/ ١٧٨)، و «شرح شعلة» (٣٢٦)، و «إتحاف» (١/ ٤٩٤)، و «معاني القراءات» (١/ ٢٨٠).
انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٨]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
وقوله سبحانه: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ... الآية: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الرَّكْب عن رسالة أبِي سُفْيَان، ومِنْ جَزَعِ مَنْ جَزِعَ من الخَبَر.
وقرأ الجمهورُ «٢» :«يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ»، قالَ قوم: معناه: يخوِّف المنافقينَ، ومَنْ في قلبه مرضٌ، وحكى أبو الفَتْحِ بْنُ جِنِّي «٣»، عن ابن عَبَّاس أنه قرأ «يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ»، فهذه قراءةٌ ظهر فيها المفعولانِ، وهي مفسِّرة لقراءة الجَمَاعة، وفي قراءة أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:
«يُخَوِّفُكُمْ بِأَوْلِيَائِهِ»، وفِي كتاب «القَصْد إلى اللَّه تعالى» للمحاسِبِيِّ «٤»، قال: وكلما عَظُمَتْ هيبةُ اللَّه عزَّ وجلَّ في صدورِ الأولياء، لم يهابوا معه غيره حياءً منه عزَّ وجلّ أن يخافوا معه سواه. انتهى.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٤٤)، و «البحر المحيط» (٣/ ١٢٥)، و «الدر المصون» (٢/ ٢٦٣).
(٣) ينظر: «المحتسب» (١/ ١٧٧).
(٤) الحارث بن أسد، أبو عبد الله المحاسبي، قال ابن الصلاح: ذكره أبو منصور التميمي في الطبقة الأولى من الشافعية فيمن صحب الشافعي. قال ابن قاضي شهبة: أحد مشايخ الصوفية.
توفي سنة ٢٤٣ هـ.
ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٥٩)، و «طبقات الفقهاء» للعبادي (ص ٢٧)، و «ميزان الاعتدال» (١/ ١٩٩).
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٩ الى ١٨٠]
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
وقوله تعالى: مَّا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ، أيْ: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مُشْكِلاً أمرَهُم حتى يميز بعْضَهُم مِنْ بعض بما يظهره مِنْ هؤلاء وهؤلاء في «أُحُدٍ» من الأفعال والأقوال، هذا تفسيرُ مجاهد وغيره «١».
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ، أي: في أمر أُحُدٍ، وما كان من الهزيمة وأيضاً: فما كان اللَّه ليطلعكم على المنافقين تصريحاً وتسميةً لهم، ولكنْ بقرائنِ أفعالهم وأقوالهم.
قال الفَخْر «٢» : وذلك أنَّ سنة اللَّه جاريةٌ بأنَّه لا يُطْلِعُ عوامَّ الناس على غَيْبِهِ، أي: لا سبيلَ لكم إلى معرفة ذلك الإمتياز إلاَّ بامتحانات كما تقدَّم، فأمَّا معرفةُ ذلك على سبيلِ الإطلاعِ مِنَ الغَيْبِ، فهو من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ. انتهى.
وقال الزَّجَّاج «٣» وغيره: رُوِيَ أنَّ بعض الكُفَّار قال: لِمَ لا يكون جميعنا أنبياء،
(٢) ينظر: «مفاتيح الغيب» لفخر الدين الرازي (٩/ ٩٠).
(٣) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (١/ ٤٩٢).
«مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ شُجَاعاً أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ يَأْخُذُ بلَهْزَمَتَيْهِ، يَعْنِي: شِدْقَيهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلاَ هذه الآيةَ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ... «٢» الأية.
قلْتُ: واعلم أنه قد وردَتْ آثار صحيحةٌ بتعذيبِ العُصَاة بنَوْعٍ مَا عَصَوْا به كحديث:
«مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَهُوَ يَجَأُ نَفْسَهُ بِحَدِيدَتِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَالَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ بِالسُّمِّ، فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ في نار جهنّم» «٣»، ونحو ذلك.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ١٥٧)، وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» و «الكبير»، وإسناده جيد.
وله شاهد من حديث حجير بن بيان: ذكره الحافظ في «المطالب العالية» (٣/ ٣١٤) رقم (٣٥٦٨)، وعزاه لأبي بكر بن أبي شيبة.
(٢) أخرجه البخاري (٣/ ٣١٥)، كتاب «الزكاة»، باب إثم مانع الزكاة، حديث (١٤٠٣) من حديث أبي هريرة.
(٣) أخرجه البخاري (١٠/ ٢٥٨)، كتاب «الطب»، باب شرب السم والدواء.. ، حديث (٥٧٧٨)، ومسلم (١/ ١٠٣) كتاب «الإيمان»، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه، حديث (١٠٩/ ١٧٥)، وأبو داود (٢/ ٤٠٠) كتاب «الطب»، باب في الأدوية المكروهة، حديث (٣٨٧٢)، والترمذي (٤/ ٣٨٦) كتاب «الطب»، باب ما جاء فيمن قتل نفسه بسم أو غيره، حديث (٢٠٤٣، ٢٠٤٤)، والنسائي (٤/ ٦٦- ٦٧) كتاب «الجنائز»، باب ترك الصلاة على من قتل نفسه، وابن ماجة (٢/ ١١٤٥)، كتاب «الطب»، باب النهي عن الدواء الخبيث، حديث (٣٤٦٠)، وأحمد (٢/ ٢٥٤، ٤٧٨)، والدارمي (٢/ ١٩٢) كتاب «الديات»، باب التشديد على من قتل نفسه، وابن حبان (٥٩٨٦- الإحسان)، وابن منده في «الإيمان» (٦٢٧، ٦٢٨، ٦٢٩)، والبيهقي (٨/ ٢٣- ٢٤) كتاب «الجنايات»، باب التغليظ على من قتل نفسه، كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢٩١- ٢٩٢) وقال: رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير عبد الله بن جنادة، وهو ثقة.
حديث سلمان: -
قال ابنُ العَرَبِيِّ «١» في «أحكامه» : قال عُلَماؤنا: البُخْل: مَنْعُ الواجبِ، والشُّحُّ: منع المستحَبِّ، والصحيحُ المختارُ أنَّ هذه الآيةَ في الزكاة الواجبَة لأنَّ هذا وعيدٌ لمانعيها، والوعيدُ إذا اقترن بالفعْلِ المأمورِ به، أو المنهيِّ عنه، اقتضى الوجوبَ أو التحريمَ. انتهى.
وتعميمها في جميع أنْواع الواجب أحسن.
وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خطابٌ على ما يفهمه البشر، دَالٌّ على فناء الجميعِ، وأنه لا يبقى مَالِكٌ إلّا الله سبحانه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨١ الى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)
وقوله سبحانه: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ...
الآية: نزلَتْ بسبب فِنْحَاصٍ اليَهُودِيِّ وأشباهه كَحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وغيره، لمَّا نزلَتْ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد: ١١]، قالوا: يستقرضُنا ربُّنا، إنما يَسْتَقْرِضُ الفَقِيرُ الغَنِيَّ، وهذا مِنْ تحريف اليهودِ للتأويل علَى نحو ما صَنَعُوا في تَوْرَاتِهِمْ.
وقوله تعالى: قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا: دالٌّ على أنَّهم جماعةٌ.
وقوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا... الآية: وعيدٌ لهم، أي: سنُحْصِي عليهم قولَهُمْ، ويتصلُ ذلك بفعل آبائهم مِنْ قَتْل الأنبياءِ بغَيْر حَقٍّ.
وقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ أي: وبأنَّ الله ليس بظلّام للعبيد.
وتعقبه الذهبي فقال: الوراق تركه الدارقطني وغيره. وقال الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٩٢) : رواه الطبراني وفيه سعيد بن محمد الوراق، وهو متروك.
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (١/ ٣٠٣).
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً | وَلَكِنْ متى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ «٢» |
وزاد أبو البقاءِ وجْهاً آخر، وهو أنْ يكون على النَّسَبِ، أي: لا ينسب سبحانه إلى ظُلْمٍ، فيكون من باب بَزَّاز وعَطَّار. انتهى، قلتُ: وهذا القولُ أحْسَنُ ما قيل هنا، فمعنى وما ربُّكَ بظَلاَّم، أي: بذي ظلم.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
وقوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا... الآية: هذه المقالَةُ قالَتْها أحْبَارُ اليهودِ مدافعةً لأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: إنَّك لم تأْتِنَا بقُرْبان تأكله النار، فنَحْنُ قد عُهِدَ إلَيْنا ألاَّ نُؤْمِنَ لك.
«لخولة أطلال ببرقة ثهمد».
وقد شرحها كثيرون من العلماء. كان غير فاحش القول في شعره خاصة في الهجاء. توفي سنة ٦٠ قبل الهجرة.
انظر: «التبريزي» (٤/ ٨)، و «جمهرة أشعار العرب» (٣٢، ٨٣)، و «الأعلام» (٣/ ٢٢٥).
(٢) وهذا البيت من معلقة طرفة. وقد عابه المرزباني في كتاب «الموشح» وقال: المصراع الثاني غير مشاكل للأول.
ينظر: «ديوانه» (ص ٢٩) و «خزانة الأدب» (٩/ ٦٦، ٦٧، ٤٧١) و «الكتاب» (٣/ ٧٨) وبلا نسبة في «شرح شذور الذهب» (ص ٤٣٥) و «مغني اللبيب» (٢/ ٦٠٦).
والحلّال: مبالغة الحالّ، من الحلول، وهو النّزول. والأحسن أن يكون «فعّال» للنّسبة، أي لست بذي حلول. و (التّلاع) : جمع تلعة، وهو مجرى الماء من رءوس الجبال إلى الأودية. قال ابن الأنباريّ:
والتّلعة من الأضداد، تكون ما ارتفع، وما انخفض. والمراد هنا الثاني، وهو سيل ماء عظيم. و (أرفد) بكسر الفاء لأنه مضارع رفده رفدا من باب ضرب، أي أعطاه أو أعانه. والرّفد بالكسر اسم منه. وأرفده بالألف مثله. وترافدوا: تعاونوا. واسترفدته: طلبت رفده. قال الزوزني: المعنى: إنّي لست ممّن يستتر في التّلاع مخافة الضّيف أو غدر الأعداء إيّاي، ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي، إمّا في قرى الضيف، وإمّا في قتال الأعداء.
قال الفَخْر «١» : والمرادُ بِالْبَيِّناتِ المعجزاتُ. انتهى.
وَالزُّبُرِ: الكتابُ المكتوبُ، قال الزَّجَّاج «٢» : زَبَرْتُ: كَتَبْتُ.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ... الآية: وعظ فيه تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولأمته عن أمْرِ الدُّنْيا وأهلِها، ووَعْدٌ بالفلاحِ في الآخرةِ فبالفكْرة في المَوْت يَهُونُ أمر الكُفَّار وتكذيبُهم، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ، أي: على الكمالِ، ولا محَالَة أنَّ يوم القيامةِ تَقَعُ فيه توفية الأجور، وتوفية العقوبات، وزُحْزِحَ: معناه: أبعد، والمَكَانُ الزَّحْزَاحُ:
البعيدُ، وفازَ: معناه: نجا من خطره وخوفه، والْغُرُورِ: الخَدْعُ، والتَّرْجِيَةُ بالباطل والحياةِ الدنيا، وكُلُّ ما فيها من الأموالِ هي متاعٌ قليلٌ يخدَعُ المرء، ويمنِّيه الأباطيلَ وعلى هذا فسَّر الآيةَ جمهور المفسّرين، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»، ثم تَلاَ هذه الآيةَ، قُلْتُ: وأسند أبو بَكْر بْنُ الخَطِيبِ، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ:
«مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ قَطُّ إلاَّ التاط «٣» مِنْهَا بِخِصَالٍ ثَلاَثٍ: أَمَلٌ لاَ يَبْلُغُ مُنْتَهَاهُ، وَفَقْرٌ لاَ يُدْرِكُ غِنَاهُ، وشغل لا ينفكّ عناه» «٤». انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
وقوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، والمعنى: لتختبرنَّ ولتمتحننَّ في أموالكم بالمَصَائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله،
(٢) ينظر: «معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (١/ ٤٩٥).
(٣) يعني لصق بقلبه، ويقال للشيء، إذا لم يوافق صاحبه: ما يلتاط، ولا يلتاط هذا الأمر بصفرى، أي: لا يلزق بقلبي، وهو يفتعل من اللوط.
ينظر: «لسان العرب» (٤٠٩٩).
(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٣/ ٣٣٦).
وقوله: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... الآية: قال عِكْرِمَةُ وغَيْره: السبَبُ في نزولها أقوالُ فِنْحَاص «٣»، وقال الزُّهْريُّ «٤» وغيره: نزلَتْ بسبب كَعْب بن الأشْرفِ حتى بعث إلَيْه رسُولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم مَنْ قتله، والأذَى: اسمٌ جامعٌ في معنى الضَّرَر، وهو هنا يشملُ أقوالهم فيما يَخُصُّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه مِنْ سبٍّ، وأقوالهم في جِهَة اللَّه سبحانه، وأنبيائه، وندَبَ سبحانه إلى الصبْرِ والتقوى، وأخبر أنه مِنْ عَزْم الأمور، أي: مِنْ أشدِّها وأحسنها، والعَزْمُ: إمضاءُ الأَمْر المُرَوَّى المُنَقَّح، وليس ركوب الرأي دون رويّة عزما.
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ... الآية: توبيخ لمعاصري النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم هو مع ذلك خَبَرٌ عامٌّ لهم ولغيرهم، قال جمهورٌ من العلماء:
الآية عامَّةٌ في كلِّ من علَّمه اللَّه عِلْماً، وعلماءُ هذه الأمَّة داخلُونَ في هذا الميثاقِ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، فَكَتَمَهُ، أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» «٥»، والضميرُ في: لَتُبَيِّنُنَّهُ، وَلا تَكْتُمُونَهُ: عائدٌ على الْكِتابَ، والنَّبْذُ: الطَّرْح، وأظهر الأقوال في هذه الآيةِ أنَّها نزلَتْ في اليهودِ، وهم المعْنِيُّون، ثم كلِّ كاتمٍ من هذه الأمَّة يأخذ بحظِّه من هذه المَذَمَّةِ.
(٢) علي بن أحمد بن محمد، أبو الحسن الواحدي، كان فقيها إماما في النحو واللغة وغيرهما، وأما التفسير فهو إمام عصره فيه، أخذ التفسير عن أبي إسحاق الثعلبي، واللغة عن أبي الفضل العروضي صاحب أبي منصور الأزهري والنحو عن أبي الحسن القهندزي. صنف الوسيط، والبسيط والوجيز، ومنه أخذ الغزالي هذه الأسماء، وله «أسباب النزول»، وغير ذلك. مات سنة ٤٦٨.
ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (١/ ٢٥٦)، و «الأعلام» (٥/ ٥٩)، و «وفيات الأعيان» (٢/ ٤٦٤).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٥٤١) برقم (٨٣١٦)، وذكره ابن عطية (١/ ٥٥٠).
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٥٤٢) برقم (٨٣١٧)، وعبد الرزاق في «تفسيره» (١/ ١٤٢)، وذكره ابن عطية (١/ ٥٥١)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ١٨٩)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٥) تقدم تخريجه.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٨ الى ١٩٠]
لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠)وقوله سبحانه: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا... الآية: ذهبتْ جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما نزلَتْ في أهْل الكتاب أحبارِ/ اليهودِ، قال سعيدُ بن جُبَيْر «١» : الآية في اليهود، فَرِحُوا بما أعطَى اللَّه آل إبراهيم من النبوَّة والكتابِ، فهم يقولونَ: نحن على طريقهم، ويحبُّون أن يُحْمَدُوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم «٢»، وقراءةُ سعيدِ «٣» بنِ جُبَيْر: «بما أُوتُوا» بمعنى «أُعْطُوا» (بضم الهمزة والطاء) وعلى قراءته يَستقيمُ المعنَى الذي قال، والمفازةُ مَفْعَلَةٌ من فَازَ يَفُوزُ، إذا نَجَا، وباقي الآية بيِّن.
ثم دلَّ سبحانه على مواضِع النظرِ والعبرةِ، فقالَ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، أي: تَعَاقُب الليل والنَّهار إذ جعلهما سبحانه خِلْفِةً، ويدخل تحت اختلافهما قِصَرُ أحدِهِمَا وطولُ الآخَرِ، وبالعكْسِ، واختلافُهُما بالنُّور والظَّلام، والآياتُ: العلاماتُ الدالَّة على وحدانيَّتِهِ، وعظيمِ قُدْرته سُبْحانه.
قال الفَخْر «٤» : واعلم أنَّ المقصود من هذا الكتَابِ الكريمِ جَذْبُ القلوبِ والأرْوَاحِ عن الإشتغالِ بالخَلْقِ والإستغراقِ في معرفة الحقِّ، فلمَّا طال الكلامُ في تَقْرير الأحكامِ، والجوابِ عن شُبُهَاتِ المُبْطِلِين، عاد إلى إثارة القُلُوب بِذِكْرِ ما يدلُّ على التوحيدِ والكِبْرِيَاءِ والجَلاَل، وذِكْرِ الأدعية، فختم بهذه الآياتِ بنَحْو ما في «سورة البقرة». انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩١ الى ١٩٢]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢)
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٤٦) برقم (٨٣٣٧)، وذكره ابن عطية (١/ ٥٥٢)، وذكره السيوطي في «الدر» (٢/ ١٩٢)، وعزاه لابن جرير.
(٣) وقرأ بها علي فيما روي عنه.
ينظر: «الكشاف» (١/ ٤٥١)، و «مختصر الشواذ» (٣٠)، و «المحرر الوجيز» (١/ ٥٥٢).
(٤) ينظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (٩/ ١٠٩).
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَذْكُرُ اللَّهَ على كُلِّ أَحْيَانِهِ».
قلت: خرَّجه أبو داود «١»، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره.
وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة، أي: لا يضيِّعونها، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً، وعلى جُنُوبهم، ثم عَطَف على هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمةٍ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالى ومخلوقاتِهِ، والعِبَرُ التي بَثَّ. [المتقارب]
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ... تَدُلُّ على أَنَّهُ وَاحِدُ «٢»
قال الغَزَّالِيُّ: ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالى، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ. انتهى من «الإحياء».
ومَرَّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم على قومٍ يتفكَّرون في اللَّه، فَقَالَ: «تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ» «٣».
قال ع «٤» : وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
(٢) وقبله:
ولله في كل تحريكة... وفي كل تسكينة شاهد
البيت لأبي العتاهية في ديوانه (١٢٢)، و «المحتسب» (١/ ١٥٣).
(٣) أخرجه أبو القاسم الأصبهاني في «الترغيب والترهيب» (١/ ١٧٤)، وأبو الشيخ في «العظمة» (١/ ٢١٦) رقم (٥) عن ابن عباس مرفوعا.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٢/ ١١٠)، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في كتاب «التفكر»، والأصبهاني في «الترغيب والترهيب».
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٥٥).
وذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٨٣)، وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو رجاء الحبطي، واسمه محمد بن عبد الله، وهو كذاب.
(٢) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١/ ٥٠٩)، والبيهقي في «الشعب» (١/ ١١٨) كلاهما عن أبي الدرداء. كما أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» (١/ ٢٩٧- ٢٩٨) برقم (٤٢)، وذكره الديلمي في «مسند الفردوس» (٢/ ١١٠) برقم (٢٢١٦) عن ابن عباس، وفي طريق ابن عباس «ليث بن أبي سليم» وهو ضعيف. والأثر ذكره السيوطي في «الدر» (٢/ ١٩٥)، وعزاه لأبي الشيخ في «العظيمة». [.....]
(٣) سري بن المغلس السقطي، أبو الحسن: من كبار المتصوفة. بغدادي المولد والوفاة. وهو أول من تكلم في «بغداد» بلسان التوحيد وأحوال الصوفية، وكان إمام البغداديين وشيخهم في وقته. وهو خال الجنيد، وأستاذه. قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السريّ، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعا إلا في علة الموت. من كلامه: «من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز» توفي سنة ٢٥٣.
ينظر: «الأعلام» (٣/ ٨٢)، و «الوفيات» (١/ ٢٠٠)، و «صفة الصفوة» (٢/ ٢٠٩).
(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٥٥).
(٥) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (١/ ٥٥٥).
(٦) عبد الرّحمن بن سليمان بن أبي الجون العنسيّ الدمشقيّ، محدّث رحّال.
روى عن: ليث، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي خالد، والأعمش، وعمرو بن شراحيل الدّاراني.
وعنه: إسماعيل بن عيّاش من أقرانه، ومحمد بن عائذ، وأبو توبة الحلبي، وصفوان بن صالح، وهشام بن عمّار، وجماعة.
وثّقه دحيم وقال أبو حاتم: لا يحتج به. توفي سنة نيف وتسعين ومائة.
ينظر ترجمته في: «التاريخ الكبير» (٥/ ٢٨٩). ، و «ميزان الاعتدال» (٢/ ٥٦٧)، و «سير أعلام النبلاء» (١٠/ ١٨٦)، و «تهذيب التهذيب» (٦/ ١٨٨- ١٨٩).
قال ع «١» : وهذه نهايةُ الخَوْف، وخَيْرُ الأمور أوساطها، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة على هذا المنهاج، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويرجى نَفْعُه أفضَلُ من هذا، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا.
قال ع «٢» : وحدثني أبي (رحمه اللَّه)، عَنْ بعضِ علماءِ المَشْرق، قال: كنتُ بائتًا في مسجد الإقدامُ ب «مَصْرَ» فصلَّيْتُ العَتَمَةَ، فرأَيْتُ رجلاً قد اضطجع في كساءٍ له، حتى أصبح، وصلَّينا نَحْنُ تلك اللَّيْلَة، وسَهِرْنَا، فلَمَّا أُقِيمَتْ صلاةُ الصُّبْح، قام ذلك الرجُلُ، فاستقبل القبْلَةَ، وصلى مع النَّاس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلَمَّا فرغَتِ الصلاةُ، خرَجَ، فتبعْتُهُ لأعظَهُ، فلَمَّا دنوْتُ منه، سَمِعْتُهُ، وهو ينشد: [المنسوح]
مُنْسَجِنُ الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِر | مُنْتَبِهُ القَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ |
مُنْبَسِطٌ فِي الغُيُوبِ مُنْقَبُض | كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفاً ناكِرْ |
يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَر | فَهْوَ مَدَى اللَّيْلِ نَائِمٌ سَاهِرْ |
قال الفَخْر «٤» : ودلَّتِ الآية على أنَّ أعلى مراتب الصِّدِّيقين التفكُّر. انتهى.
وفي «العتبية» : قال مالكٌ: قيلَ لأمِّ الدَّرْداء: ما كان أَكْثَر شأن أبي الدَّرْداء؟ قَالَتْ:
كان أَكْثَرُ شَأْنِهِ التفكُّرَ. قال مالكٌ: وهو مِنَ الأعمال، وهو اليَقِينُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قال ابنُ رُشْدٍ: والتفكُّر مِنَ الأعمال كما قاله مالك (رحمه اللَّه)، وهو مِنْ أشرف الأعمال لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ أَلاَ ترى أنه لا يُثَابُ أحدٌ على عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه (عَزَّ وجَلَّ) في فعلها. انتهى من «البيان والتحصيل».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (١/ ٥٥٥).
(٣) وهذا الفعل غير مشروع لأنه يخالف الكتاب والسنة لأن التفكر الذي يجعل العبد يعبد الله (عز وجل) على غير نهجه، فباطل وغير مأجور عليه العبد.
(٤) ينظر: «تفسير الرازي» (١/ ١٢٢).
قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ: الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبار، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب، فإذا ذَهَبَتْ، فلا إضاءة له.
قُلْتُ: قال بعض المحقِّقين: وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر، عَلِم، وإذا عَلِمَ، عَمِلَ.
قال ابنُ عَبَّاد «٢» : قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ (رحمه اللَّه) : التفكُّر نعتُ كلِّ طالب، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ، ثم فِكْرُ الزاهدين: في فناءِ الدنيا، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً، وفِكْرُ العابدين: في جَميلِ الثوابِ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه، وفِكْرُ العارفين: في الآلاء والنعماء فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه. انتهى.
وقوله تعالى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذا باطِلًا، أي: يقولُونَ: يا ربَّنا على النداء، ما خلَقْتَ هذا باطلاً، يريد: لغير غايةٍ منصوبةٍ، بل خلقْتَهُ، وخلَقْتَ البشر لينظروا فيه فيوحِّدوك، ويعبدوك فَمَنْ فعل ذلك نَعَّمْتَهُ، ومَنْ ضَلَّ عن ذلك عَذَّبته، وقولهم:
سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك عمَّا/ يقول المُبْطِلُون، وقولهم: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، أي: فلا تفعلْ ذلك بِنَا، والخِزْيُ: الفضيحةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَة لقَدْرِ المرء.
قال أنَسُ بنُ مالكٍ، والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن، وابنُ جُرَيْج، وغيرهم: هذه إشارة إلى من يَخْلُدُ في النَّار، وأمَّا مَنْ يخرج منها بالشفاعةِ والأَمان، فليس بمُخْزًى، أي: وما أصابه
أخذ عن: أبي عمر الطّلمنكي، وابن عفيف، وأبي المطرّف القنازعي، ويونس بن مغيث.
قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة، عني بالحديث العناية التامة شرح «الصحيح» في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستقضي بحصن «لورقة». توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
تنظر ترجمته في: «ترتيب المدارك» (٤/ ٨٢٧)، و «الديباج المذهب» (٣/ ١٠٥- ١٠٦)، و «شجرة النور الذكية» (١/ ١١٥)، و «سير أعلام النبلاء» (١٨/ ٤٧).
(٢) محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي، الحميري، الرندي، أبو عبد الله، المعروف ب «ابن عباد» : متصوف باحث. من أهل «رندة» بالأندلس. تنقل بين «فاس» و «تلمسان» و «مراكش» و «سلا» و «طنجة»، واستقر خطيبا للقرويين ب «فاس». وتوفي بها. له كتب، منها «الرسائل الكبرى» في التوحيد والتصوف ومتشابه الآيات، و «غيث المواهب العلية بشرح الحكم العطائية»، و «كفاية المحتاج» و «الرسائل الصغرى».
ينظر: «الأعلام» (٥/ ٢٩٩).
وقوله سبحانه: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ: هو من قول الدّاعين.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٣ الى ١٩٤]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
وقوله سبحانه: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ... الآية: حكايةٌ عن أولي الألباب، قال أبو الدرداء «٢» : يرحم اللَّه المؤمنينَ ما زالُوا يقولُونَ: رَبَّنَا رَبَّنَا، حتَّى استجيب لهم، قال ابن جريج «٣» وغيره: المنادي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال محمَّد بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ: المنادِي كتابُ الله «٤»، وليس كلّهم رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وسمعه، وقولهم: مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ، معناه: على أَلْسِنَةِ رُسُلِكَ، وقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعادَ: إشارةٌ إلى قولِه تعالى: يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: ٨] فهذا وعده تعالى، وهو دالٌّ على أنَّ الخِزْيَ إنما هو مع الخلود.
قال ص: قال أبو البقاء: الميعاد مصدر بمعنى الوعد. انتهى.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٥ الى ١٩٨]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨)
(٢) ذكره ابن عطية الأندلسي في «تفسيره» «المحرر الوجيز» (١/ ٥٥٦).
(٣) أخرجه الطبري (٣/ ٥٣) برقم (٨٣٦٣- ٨٣٦٤)، عن ابن جريج وابن زيد، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٤٣)، والبغوي في «التفسير» (١/ ٣٨٦) عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وذكره ابن عطية (١/ ٥٥٦)، والسيوطي في «الدر» (٢/ ١٩٦)، عن ابن جريج وابن زيد، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٣/ ٥٥٣) برقم (٨٣٦١)، (٨٣٦٢)، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٤٢)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٨٦)، وابن عطية (١/ ٥٥٦). ، والسيوطي في «الدر» (٢/ ١٩٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخطيب في «المتفق والمفترق». [.....]
وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يعني: في الأجْرِ، وتقبُّلِ الأعمالِ، أي: أنَّ الرجَالَ والنساء في ذلك على حدٍّ واحدٍ، قال الفَخْر «٣» : قوله سبحانه: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، أي: شِبْهُ بَعْضٍ، أو مثلُ بعضٍ، والمعنى: أنه لا تفاوُتَ في الثواب بَيْن الذَّكَر والأنثى إذا استَوَوْا في الطَاعة وهذا يدُلُّ على أن الفَضْل في باب الدِّين، إنما هو بالأعمال، لا بِسِرِّ صفاتِ العامِلِينَ لأن كونهم ذكراً أو أنثى، أوْ مِنْ نَسَبٍ خسيسٍ أو شريفٍ- لا تأثير له في هذا الباب. انتهى.
وبَيَّن سبحانه حَالَ المهاجِرِينَ، ثم الآيةُ بَعْدُ تنسحبُ على كلِّ مَنْ أُوذِيَ في اللَّه، وهاجر أيضًا إلى اللَّه إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ: عبارةٌ فيها إلزامُ الذَّنْب للكفَّار، واللامُ في قوله: لَأُكَفِّرَنَّ: لامُ القَسَمِ، وثَواباً: مصدرٌ موكِّد، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ... الآية: نُزِّلَتْ: لاَ يَغُرَّنَّكَ في هذه الآيةِ مَنْزِلَةَ: «لا تَظُنَّ» أنَّ حال الكُفَّار حسنةٌ، والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمَّته، والتقلُّب: التصرُّف في التجاراتِ، والأرباحِ، والحروب، وسائر الآمال
(٢) ينظر: «تفسير الرازي» (٩/ ١٢).
(٣) ينظر: «تفسير الرازي» (٩/ ١٢٣).
.
وقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ يحتملُ أن يريد: خَيْرٌ مِمَّا هؤلاءِ فيه، من التقلُّب والتنعُّم، ويحتمل أنْ يريد: خَيْرٌ ممَّا هم فيه في الدّنيا، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم:
«الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤْمِنِ/، وَجَنَّةُ الكَافِرِ» «١» قال القاضِي ابْنُ الطَّيِّب: هذا بالإضافة إلى ما يصير إلَيْه كلُّ واحد منْهما في الآخرةِ، وقيل: المعنى أنها سِجْنُ المؤمن لأنها موضعُ تَعَبِهِ في الطاعة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ، قال جابر بن عبد اللَّه وغيره: هذه الآيةُ نَزَلَتْ بسبب أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ سُلْطَانِ الحبشة، آمن باللَّه، وبمحمَّد- عليه السلام-، وأصحمة «٢» : تفسيره بالعربيّة:
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وللحديث شواهد من حديث ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسلمان:
حديث ابن عمر:
أخرجه البزار (٣٦٥٤- كشف)، وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (٢/ ٣٤٠)، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (١٤٣)، والبيهقي في «الزهد الكبير» (٤٤٩، ٤٥٨)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٦/ ٤٠١) عن ابن عمر: والحديث ذكره الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٩٢) وقال: رواه البزار بسندين أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم.
حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه أحمد (٥/ ٦٨)، وابن أبي عاصم في «الزهد» رقم (١٤٤)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ١٧٧، ١٨٥)، وابن المبارك في «الزهد» (٥٩٨)، والحاكم (٤/ ٣١٥)، والبغوي في «شرح السنة» (٧/ ٣٢٦- بتحقيقنا).
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٥٩) برقم (٨٣٧٦)، وعبد الرزاق في «تفسيره» (١/ ١٤٤) عن قتادة، وذكره الماوردي في «تفسيره» (١/ ٤٤٤)، والبغوي في «تفسيره» (١/ ٣٨٨) عن ابن عباس، وجابر، وأنس، وقتادة، وذكره ابن عطية (١/ ٥٥٩)، وذكره السيوطي في «الدر» (٢/ ٢٠٠) عن جابر وغيره.
وقوله سبحانه: لاَ يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا: مدحٌ لهم، وذَمٌّ لسائر كفَّار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم مكاسبَ الدُّنْيا على آخرتهم، وعلى آياتِ اللَّهِ سُبْحانه، ثم خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات، وعنِ الشهواتِ، وأَمَرَ بالمصابرةِ، فقيل: معناه مصابرةُ الأعداء قاله زيدُ بْنُ أسلم «٣»، وقيل: معناه مصابَرَةَ وعْدِ اللَّهِ فِي النَّصْر قاله محمدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ «٤»، أي: لا تسأَمُوا وانتظروا الفرج، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم:
«انتظار الفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ» «٥».
قال الفَخْر «٦» : والمصابرةُ عبارةٌ عن تحمُّل المكارِهِ الواقعة بَيْن الإنسان، وبَيْن الغَيْر.
انتهى.
وقوله: وَرابِطُوا: معناه عند الجُمْهُور: رَابِطُوا أعداءكم الخَيْلَ، أي: ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، قلْتُ: وروى مسلمٌ في «صحيحه»، عن سلمان، قال: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جرى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّان» «٧»، وخَرَّجَ الترمذيُّ، عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ على عَمَلِهِ إلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ»، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسن
(٢) أخرجه الطبري (٣/ ٥٦٠) برقم (٨٣٨٤)، وذكره البغوي في «تفسيره» (١/ ٣٨٨)، والماوردي (١/ ٤٤٥)، وابن عطية (١/ ٥٥٩).
(٣) ذكره ابن عطية (١/ ٥٥٩).
(٤) ينظر المصدر السابق.
(٥) أخرجه القضاعي في «مسند الشهاب» رقم (٤٤، ٤٥) من حديث ابن عمرو ابن عباس.
(٦) ينظر: «مفاتيح الغيب» للرازي (٩/ ١٢٦).
(٧) أخرجه مسلم (٣/ ١٥٢٠) كتاب «الإمارة» باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل، حديث (١٦٣/ ١٩١٣) من حديث سلمان.
وجاء في فَضْل الرباطِ أحاديثُ كثيرةٌ يطُولُ ذكْرها.
قال صاحبُ «التَّذْكرة» : وروى أبيُّ بن كَعْب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان- أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ عند الله وأعظم أجرا»، أراه قال:
«من عِبَادَةِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا | » «٥» الحديثَ ذكره القرطبيُّ مسنداً. انتهى. |
قال الشيخُ زيْنُ الدينِ العِرَاقِيُّ في «اختصاره لغريب القرآن» لأبي حَيَّان: معنى: رابطوا:
وقال الترمذي: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرطِ مسلم، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه ابن حبان.
(٢) ينظر الحديث السابق. [.....]
(٣) أخرجه ابن ماجة (٢/ ٩٢٤)، كتاب «الجهاد»، باب فضل الرباط في سبيل الله، حديث (٢٧٦٧).
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣٩١)، هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(٤) تقدم تخريجه.
(٥) أخرجه ابن ماجة (٢/ ٩٢٤- ٩٢٥) كتاب «الجهاد»، باب فضل الرباط في سبيل الله، حديث (٢٧٦٨).
قال المنذري في «الترغيب» (٢/ ٢٠٣) : وآثار الوضع ظاهرة عليه. ولا عجب فراويه عمر بن صبح الخراساني.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣٩٢- ٣٩٣) : هذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن يعلى وشيخه عمر بن صبح، ومكحول لم يدرك أبي بن كعب، ومع ذلك فهو مدلس.
وروى ابنُ المبارك في «رقائقه»، أنَّ هذه الآيةَ: اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا، إنما نزلَتْ في انتظار الصَّلاةِ خَلْفَ الصلاة قاله أبو سَلَمَةَ بْنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ولم يكُنْ يومئذٍ عَدُوٌّ يرابَطُ فيه «١». انتهى.
وقوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ: ترجٍّ في حقِّ البَشَر، والحمد لله حقّ حمده.