تفسير سورة الصافات

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الصافات مكية

سُورَةُ الصَّافَّاتِ
مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥)
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الصافات هي الطير إذا صفت أجنحتها بين السماء والأرض.
وذكر عن ابن مسعود قال: الصافات والزاجرات والتاليات كلهم الملائكة، قال: الملائكة الصافات اصطفت الملائكة صفًّا لعبادة اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وتسبيحه، وكذلك ذكر عن ابن عَبَّاسٍ وغيره إلا أن غيره يفسر الزاجرات والتاليات أي ملائكة هم؟ ولسنا نذكر عن ابن مسعود وابن عَبَّاسٍ التفسير.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الزاجرات): هم الملائكة الذين يزجرون السحاب والأمطار، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) هم الملائكة يتلون القرآن والوحي على الرسل والأنبياء، عليهم السلام.
وقال قتادة: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) أقسم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بخلق ممن خلق، قال: (وَالصَّافَّاتِ): الملائكة صفوف في السماء، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) ما ذكر اللَّه في القرآن من زواجر عن المعاصي والمساوي، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا) قال: ما يتلى عليكم في القرآن من أخبار الرسل - عليهم السلام - وأنباء الأمم التي كانت قبلكم.
وجائز أن يكون (وَالصَّافَّاتِ): هم الملائكة الذي يصلون لله - عَزَّ وَجَلَّ - صفوفًا على ما ذكروا، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا): هم الملائكة الموكلون بأرزاق الخلق وسوقها إليهم يسوقون إليهم سوقًا، (فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا): هم الملائكة الموكلون بالتسبيح والتحميد وجميع الأذكار.
ثم وجه القسم بالملائكة الذين ذكر - واللَّه أعلم -: أنه عَزَّ وَجَلَّ قد عظم شأن الملائكة وأمرهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة حتى قالوا: (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ
نَذِيرًا)، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ)، وقول فرعون: (أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ)، وقولهم: (لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا)، وما وصفهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: أنهم (لا يعصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ...) الآية، (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) الآية، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ...) الآية، عظم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أمر الملائكة عليهم وأعظم، شأنهم في قلوب أُولَئِكَ الكفرة وصدقهم عندهم؛ لذلك أقسم بهم على وحدانيته بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤) على هذا وقع القسم.
ثم أخبر عن صنع ذلك الواحد الذي هو إلهكم وإله الخلق جميعًا، وذكر نعته، فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥)
يخبر عن وحدانيته وتفرده حيث أنشأ السماوات وأنشأ الأرض وما ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بعد ما بينهما، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما، ولو كان فعل عدد لمنع اتصال منافع بعض ببعض على ما يكون من فعل ذوي عدد وغلبة بعض على بعض، فإذا لم يمتنع ذلك، بل اتصل بعض ببعض؛ دل أنه فعل واحد لا شريك له.
ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق؛ لما عظم قدر السماء في قلوبهم؛ لنزول ما ينزل منها من الأمطار والبركات وغيرها، والأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق؛ ولذلك يخرج ذكرهما - واللَّه أعلم - فيما ذكر حيث قال فيهما: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، فلعظم قدرهما في قلوبهم ودوامهما عندهم خرج ذكرهما، وإن كانتا تفنيان ولا تدومان أبدًا، واللَّه أعلم.
ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) قال بعض المعتزلة - وهو جعفر بن حرب -: فإن قال لنا قائل من قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا): إنه رب أعمالنا وأفعالنا، فنقول له: إن أردت أنه رب أعمالنا وأفعالنا فبلى، ثم قال: فيقال لهم: أتقولون: إنه خالق الكفر وخالق الشر ونحوه، وفي أفعال الخلق الكفر والشر ونحوه؟!
قيل له: لا يقال ذلك على الإطلاق: إنه خالق الكفر وخالق شر، وإن كان يقال في الجملة: خالق أفعال الخلق، ورب كل شيء، وخالق كل شيء؛ لأن ذكره على الجملة يخرج على تعظيم ذلك الشيء؛ نحو ما يقال: رب مُحَمَّد، ورب البيت، إنما هو لتعظيم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتعظيم ذلك البيت خاصة؛ فعلى ذلك وصفنا إياه بالجملة أنه خالق أفعال
الآية ٥ فقال :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشرق ﴾ يخبر عن وحدانيته وتفرّده حين١ أنشأ السماوات، وما ذكر، وجعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض على بُعد ما بينهما، ومنافع المشارق متصلة بمنافع المغارب على بعد ما بينهما.
ولو كان فعل عدد لمنع بعض اتصال منافع بعض ببعض على ما يكون من فعل ذوي عدد وغلبة بعض على بعض. فإذ لم يمتنع ذلك، بل اتصل بعض ببعض دل أنه فعل واحد، لا شريك له.
ثم تخصيص ذكر السماوات والأرض وما ذكر دون غيره من الخلائق لما عظّم قدر السماء في قلوبهم لنزول ما ينزل من الأمطار والبركات وغيرها، [ وعظّم قدر ]٢ الأرض بخروج ما يخرج منها من الأنزال والأرزاق، ولذلك يخرّج ذكرهما، والله أعلم، في ما ذكر حين٣ قال فيهما :﴿ ما دامت السماوات والأرض ﴾ [ هود : ١٠٧ ] يعظّم قدرهما في قلوبهم ودوامهما عندهم٤، وإن كانت تفنيان، ولا تدومان أبدا، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ قال أحد٥ المعتزلة، وهو جعفر بن حرب : فإن قال لنا قائل :[ إن المراد ]٦ من قوله عز وجل :﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ أنه رب أعمالنا وأفعالنا، فنقول٧ له : إن أردت أنه رب أعمالنا وأفعالنا فبلى.
ثم قال : فيقال لهم : أتقولون : إنه خالق الكفر وخالق الشر، وإن كان يقال في الجملة :[ إنه ]٨ خالق أفعال الخلق، ورب كل شيء، وخالق كل شيء، لأن ذكره يخرّج على تعظيم ذلك الشيء نحو ما يقال : رب محمد، ، ورب البيت، إنما هو تعظيم محمد صلى الله عليه وسلم، وتعظيم ذلك البيت خاصة.
فعلى ذلك وصفنا إياه بالجملة : أنه خالق أفعال العباد وخالق كل شيء، يخرّج على وصف البيت بالعظمة والجلال وعلى الإشارة [ إلى شيء من الأشياء والتنصيص عليه ]٩ على تعظيم ذلك الشيء خاصة.
لذلك جاز أن يوصف أنه خالق أفعال العباد لما ذكرنا أنه يخرّج على المدح والتعظيم وعلى الإشارة على المذمّة له وتعظيم ذمّ ذلك الشيء. لذلك افترقا. والله الموفّق.
ثم يقال لهم : قولكم : إنه مالك لها، وليس بخالق، هل يقال لأحد : إنه مالك كذا، وما ينشئ ذلك، أو لم١٠ يملّكه ؟
فإن ثبت أنه مالك الأعمال والأفعال ثبت أنه خالقها، إذ لا يقال :[ مالك ]١١ كذا إلا [ لقدرته ]١٢ على ذلك أو لما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ورب المشرق ﴾ قال بعض أهل التأويل : إن للشمس ثلاث مئة وستين مشرقا، تطلع كل يوم من كوّة. وكذلك يقولون في المغارب : إنها تغرب كل يوم في كوّة. لكن يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب بين الشمس والقمر والنجوم والكواكب [ وعلى ذلك ]١٣ يخرّج قوله :﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾ [ الرحمان : ١٧ ].
وأما أهل التأويل فإنهم يقولون : مشرق [ الشتاء ]١٤ والصيف، وكذل مغربهما.
١ قي الأصل وم: حيث..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: خرج ذكرهما..
٥ في الأصل وم: بعض..
٦ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: قيل..
٨ ساقطة من الأصل وم..
٩ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: التي تبني منها والتخصيص..
١٠ في الأصل وم: لتمليك من..
١١ من م، ساقطة من الأصل..
١٢ في الأصل وم: للقدرة..
١٣ في الأصل وم: وغيرها..
١٤ من م، ساقطة من الأصل..
العباد وخالق كل شيء يخرج على وصف البيت بالعظمة والجلال، وعلى الإشارة التي تبنى منها، والتخصيص على تعظيم ذلك الشيء خاصة؛ لذلك جاز أن يوصف أنه خالق أفعال العباد جملة؛ لما ذكرنا أنه يخرج على المدح والتعظيم وعلى الإشارة على المنة له في تعظيم ذلك الشيء؛ لذلك افترقا، واللَّه الموفق.
ثم يقال لهم: قولكم: إنه مالك لها وليس بخالق هل يقال لأحد: إنه مالك كذا إلا لما ينشئ ذلك أو لتمليك من يملكه، فإذا ثبت أنه مالك الأعمال والأفعال ثبت أنه خالقها؛ إذ لا يقال: مالك كذا إلا للقدرة على ذلك أو لما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَبُّ الْمَشَارِقِ).
قال بعض أهل التأويل: إن للشمس ثلاثمائة وستين مشرقا تطلع كل يوم من كوة، وكذلك يقولون في المغارب: إنها تغرب كل يوم من كوة، لكن يشبه أن يكون أراد بالمشارق والمغارب كل شيء يشرق وكل شيء غارب من الشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).
وأما أهل التأويل فإنهم يقولون: مشرق الشتاء والصيف وكذلك مغربهما.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ).
ليس أن هذه السماء التي نراها ونعاينها هي سماء الدنيا وغيرها سماء الآخرة، ولكن سماها سماء الدنيا لدنوها من أهل الأرض وقربها منهم، وأهل الأرض هم الجن والإنس، ولهما جرى الخطاب في ذلك وفي غيره؛ وعلى ذلك قول أهل التأويل: إنها إنما سميت: سماء الدنيا؛ لدنوها من أهلها، ولقربها منهم، واللَّه أعلم.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) أخبر أنه - عَزَّ وَجَلَّ - زينها بزينة الكواكب، وزينة الكواكب نفسها أضافها إلى نفسها وهي الزينة لها لا غير، فهو - واللَّه أعلم - كأنه قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) وهي الكواكب، أو قال: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ) فسئل ما هي؟ فقال: الكواكب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧)
قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ)، وحفظه إياها ما ذكر في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا)، قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: قوله: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) كانوا يَشَفَعُون ولَا يَسَّمَّعُونَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون بينهم من أمر اللَّه وهم الملأ الأعلى.
ومن يقول: إنهم كانوا لا يسمعون يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حيث قالوا: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا)، أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر؛ دل أنهم كانوا يستمعون.
فَإِنْ قِيلَ: كيف يوفق بين هذه الآية وبين قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا... إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) استئنى الخطفة، وقال هاهنا: (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا...)، كذا ثم الخطفة إلا أن يكون على التمثيل، أي: موضع يخطف، أو على حقيقة الخطفة وهي الاستلاب والأخذ على السرعة، والله أعلم.
لكن يشبه أن يكون الآية التي قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا). في المؤمنين منهم؛ ألا ترى أنهم قالوا: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ)، وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من الشياطين الذين يستمعون، واللَّه أعلم.
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ...) الآية، دلالة إثبات الرسالة لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا ويستمعون من أخبار الملائكة وحديثهم فيما يتراجعون فيما بينهم من أمر اللَّه في الأرض، ثم يخبرون الكهنة بذلك، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون غدًا كذا وفي يوم كذا وكذا وأنه انقطع ذلك بالوحي ويمنعون، فقالت الجن ذلك وأخبرت عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون، فصدقوه على ما أخبر من صنيعهم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف صار ذلك آية له، وإنما أخبر عن قول الجن هم، وبه ظهر ذلك
547
ومنه عرف؟!
قيل: هكذا لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: فإذا ولوا الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا عما ولوا من حفظها وحرسها وامتحنوا حتى أمكن أُولَئِكَ من الاستماع والاختطاف وما ذكر؟
قيل: جائز أن يشتغلوا هم بأعمال ويمتحنون بأمور أخر سوى ذلك، فيمكن ذلك لهم ما ذكر، واللَّه أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: كيف كانت صنعة الشياطين من الاستماع منهم والخطف، وقد رأت وعاينت ما أصاب من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق؟
قيل: إن الشياطين عادتهم طلب الغفلة في كل وقت، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك، واللَّه أعلم.
ثم جائز أن يستدل بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ...) الآية، يقول علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم فلانًا، فناداه من حيث لا يستمع: لا يحنث، وإذا ناداه من حيث يسمع حنث وإن لم يسمع؛ لما ذكر (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ)، ومعلوم أنهم كانوا يقصدون من الأرض إلى الملأ الأعلى، لكن لا يسمعون، ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع؛ دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى).
الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة، ويحتمل الجماعة؛ لأن الملأ هو اسم للشيئين: للجماعة منهم، واسم لأهل الشرف والمنزلة.
ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة؛ وما سبب ذلك؛ أن تكون تلك الأخبار وما يريد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إحداثه في الأرض مكتوبًا في كتاب ينظرون فيه فيعلمونه، أو ليتحدث الملائكة فيما بينهم بذلك فيستمع هَؤُلَاءِ منهم ذلك، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم؛ وما يشبه ذلك، واللَّه أعلم.
وفيه أن الجن تفهم كلام الملائكة وإن اختلفت جواهرهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
548
الآيتان ٨ و٩ وحفظه إياها ما ذكر في قوله عز وجل :﴿ لا يسَّمّعون إلى الملأ الأعلى ويُقذفون من كل جانب ﴾ ﴿ دحورا ولهم عذاب واصب ﴾.
قال ابن عباس وغيره : قوله :﴿ لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ﴾ كانوا يتسمّعون، ولا يسمعون. وقال بعضهم : كانوا لا يسمعون أخبار الملائكة وحديثهم في ما يتراجعون في ما بينهم من أمر الله وهم الملأ الأعلى.
[ ومنهم ]١ من يقول : إنهم كانوا لا يسمعون. يذهب إلى ما ذكر في سورة الجن حين٢ قالوا :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ﴾ ﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾ [ الجن : ٨ و٩ ] أخبروا أن من يستمع الآن يجد له ما ذكر. دل أنهم كانوا يتسمّعون.
فإن قيل : كيف يوفّق بين هذه الآية وبين قوله عز وجل :﴿ ويقذفون من كل جانب ﴾ ﴿ دحورا ولهم عذاب واصب ﴾.
١ في الأصل وم: و..
٢ في الأصل وم: حيث..
الآية ١٠ ﴿ إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ﴾ [ قيل :]١ استثنى الخطفة، وقال هناك٢ :﴿ فمن يستمع الآن يجد له ﴾ كذا [ الجن : ٩ ].
ثم الخطفة إما٣ أن تكون على التمثيل أي موضع الخطف [ وإما ]٤ على حقيقة الخطفة، وهي الاستلاب والأخذ على السرعة، والله أعلم.
لكن يشبه أن تكون الآية التي [ ذكرها عز وجل في سورة الجن ]٥ :﴿ وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ﴾ ﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾ [ الآيتان : ٨ و٩ ] في المؤمنين منهم.
ألا ترى أنهم قالوا :﴿ وأنا سمعنا الهدى آمنا به ﴾ ؟ [ الجن : ١٣ ].
وأما ما ذكر في سورة الصافات فهو في الكفار منهم والمردة ﴿ إلا من خطف الخطفة ﴾ من الشياطين الذين يستمعون، والله أعلم.
ثم [ في ]٦ قوله عز وجل :﴿ وأنا لمسنا السماء ﴾ ثم قوله عز وجل ﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن ﴾ دلالة إثبات الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يخبرهم أن الجن يصعدون إلى السماء الدنيا، ويسمعون من أخبار الملائكة وحديثهم في ما يتراجعون في ما بينهم من أمر الله في الأرض، ثم يخبرهم الكهنة بذلك، فيخبر الكهنة أهل الأرض عن ذلك أنه يكون كذا كذا وفي يوم كذا وكذا، وأنه انقطع ذلك الوحي، ويُمنعون، فقالت الجن ذلك، وأخبرهم عن أنفسهم أنهم كذلك كانوا يفعلون، فصدّقوه على صنيعهم.
فإن قيل : كيف صار ذلك آية له، وإنما أخبر عن قول الجن لهم، وبه ظهر ذلك، ومنه عرف ؟ قيل : هكذا [ كان ]٧ لكن انقطاع الكهنة من بعد وحديثهم يدل على أن ذلك قد كان، ثم انقطع ذلك بالرسالة والوحي، والله أعلم.
فإن قيل : فإذا وُلّي الملائكة حفظ السماء وحرسها كيف أغفلوا ما دلّوا ن حفظها وحرسها، وامتُحنوا حتى تمكن أولئك من الاستماع والاختطاف وما ذكر ؟ قيل : جائز أن يشتغلوا، ويمتحنوا بأمور سوى ذلك، فيمكّن ذلك لهم ما ذكر، والله أعلم.
فإن قيل : كيف كانت صفة الشياطين من الاستماع منهم والخطف، وقد بدت [ وعانت مما أصابها ]٨ من فعل ذلك من القذف والرمي والاحتراق ؟ قيل : إن الشياطين، عادتهم طلب الفعل في كل وقت، فجائز أن يكونوا فعلوا ذلك لما كانوا يظنون، ويقع عندهم أنهم في غفلة وسهو من أمورهم، وإن كانوا يعلمون ما يصيب من فعل ذلك، والله أعلم.
ثم جائز أن يستدل بقوله عز وجل ﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ﴾ الآية [ الجن : ٩ ] لقول علمائنا في من حلف : ألا يكلم فلانا، فناداه من حيث لا يسمعه٩، لا يحنث. وإذا ناداه من حيث يسمعه حنث، وإن لم يسمعه لما ذكر :﴿ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ﴾ الآية. ومعلوم أنهم كانوا يقعدون من الأرض إلى الملأ الأعلى لكن لا يسمعون. ثم لم يذكر ذلك منهم إلا في المكان الذي يسمع، دل أنه على ما ذكرنا من الدلالة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى ﴾ الأشراف منهم وأهل المنزلة والكرامة، ويحتمل الجماعة، لأن الملأ، هو اسم للشيئين : للجماعة منهم، واسم لأهل الشرف والمنزلة والكرامة.
ثم لا ندري كيف سماع الجن من الملائكة، وما سبب ذلك [ إلا ]١٠ أن تكون تلك الأخبار وما يريد الله عز وجل إحداثه في الأرض مكتوبا في كتاب، ينظرون فيه، فيعلمونه، أو يتحدث الملائكة في ما بينهم بذلك، فيستمع هؤلاء منهم ذلك، أو كيف جهة سماعهم ذلك منهم، وما يشبه ذلك، والله أعلم.
وفيه أن الجن يفهم كلام الملائكة، وإن اختلفت جوارحهم، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل وم: ههنا..
٣ في الأصل وم: إلا..
٤ في الأصل وم: أو..
٥ في الأصل وم: عز وجل..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل و م: وعاينت ما أصاب..
٩ في الأصل وم: يسمع..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا... (١١)
قيل: هي السماوات والأرض والجبال، وقيل: الملائكة، وأكثرهم قالوا: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا)، أي: السماوات والأرض؛ كقوله - عز وجل -: (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ...) الآية، يقول - واللَّه أعلم -: سلهم أن خلقهم وإعادتهم أشد وأكبر وأعظم من خلق السماوات والأرض؛ وإذا أقررتم أنتم بقدرته على خلق السماوات والأرض كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم بعد ما متم، وكنتم ترابًا ورفاتًا؟! واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُم) ونحو ذلك مما أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - رسوله أن يسألهم ويستفتيهم يخرج من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على وجوه:
أحدها: على التقرير عندهم والتنبيه لهم.
أو على التعيير لهم والتوبيخ.
أو على التعليم حجة الحجاج والمناظرة فيما بينهم وبين خصومهم، وهكذا كل سؤال واستفتاء كان من خبير عليم لمن دونه يخرج على هذه الوجوه، وكل سؤال واستفتاء كان من الجهّال لخبير عليم يخرج على استرشاد وطلب الصواب.
وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ) و (سَلْهُم) (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ...) الآية، و (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (قُلْ...) كذا - هذا كله يخرج على التقرير والتنبيه، وعلى تعليم الكل حجة الحجاج والمناظرة لا على الأمر؛ لأنه لو كان على الأمر، لكان لا يقول ذلك المأمور بالتبليغ: سل، ولا قل، ولا لمميء من ذلك، ولكن يبلغ إليه رسالته وأمره أنه يقول لكم: أن افعلوا كذا ولا تفعلوا؛ فدل أن ذلك الأمر للكل في أمر أنفسهم: أن قولوا لهم، وأن افعلوا بهم كذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا...) الآية.
549
أمره أن يستفتيهم، ولم يذكر أنهم ما أفتوه؛ ولا أجابوه أو لا؟ ولا قال لهم: إنهم لو أجابوك وأفتوك بكذا فقل لهم كذا أو أجبهم بكذا؛ فجائز أن يكون الجواب ما ذكرنا: أنكم لو لم تشاهدوا خلق ما ذكر من السماوات والأرض وغيرها سوى خلق أنفسكم ثم شاهدتم خلقنا أعني ما ذكرنا من السماوات والأرض والجبال وغيرها - هل تنكرون قدرته على خلق ما شهدتم وعاينتم: أنه لم يخلقها إلا هو، كيف أنكرتم قدرته على إعادتكم وبعثكم؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ).
فذكر - واللَّه أعلم - ضعفهم وشدة ما خلق من سواهم أنكم تعلمون ضعف أنفسكم وعجزها، وشدة من سواكم وقوتها وصلابتها، ثم إنها مع شدتها وقوتها وصلابتها أخضع لله وأطوع منكم نحو ما ذكر من طاعتها له وخضوعها؛ حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) ونحو ذلك مما يكثر، واللَّه أعلم.
أو أن يذكر لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) بدء خلقهم وأصله الذي خلقوا هم منه، إنكم إنما عرفتم ابتداء خلقكم وأصلكم الذي منه خلقتم أنه تراب أو طين بإخبار الرسل، ويقول لهم: وأنتم يا أهل مكة ممن لا يؤمنون بالرسل، فكيف صدقتم الرسل بما أخبروا من أصلهم وبدء خلقكم، ولم تصدقوهم بما يخبرونكم من إعادتكم وبعثكم بعد موتكم؟! فإذا صدقتموهم في ذلك لزمكم التصديق لهم في كل ما يخبرون ويقولون، واللَّه أعلم.
أو يقول: إنه أنشأ من تلك النفس الواحدة التي خلقها من تراب من الخلق ما لو تركهم جميعًا لم يفنهم ولم يمتهم، لامتلأت الدنيا منها، فمن قدر على إنشاء ما تمتلئ الدنيا منه من نفس واحدة لا يحتمل أن يعجزه شيء من البعث والإعادة وغير ذلك، واللَّه أعلم.
أو أن يقول في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ)، أي: قد أنشأ من تلك النفس ومن ذلك الأصل قرنا وقرنا بعد قرن بعد إفناء كل قرن أنشأ قرنًا آخر؛ فلا يحتمل أن يكون المقصود من إنشائهم الإنشاء ثم الإفناء والنقض، خاصة لا عاقبة تقصد بالإنشاء والإفناء؛ إذ في الشاهد من كان مقصوده في البناء الفناء والنقض خاصة كان غير حكيم، فإذا عرفتم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنه حكيم؛ فلا يحتمل أن يكون مراده من إنشائكم وإفنائكم ذلك خاصة لا غير وذلك مزيل الحكمة، ويوجب السفه، تعالى اللَّه عن ذلك وجميع ما يصفه الملاحدة علوًّا كبيرًا.
550
أو أن يقول: إنكم عرفتم أنه إنما أنشاكم من تلك النفس التي أنشأها من تراب أو طين على اتفاق منكم، فإذا متم وفنيتم صرتم ترابًا أو طينًا، فكيف أنكرتم إعادته إياكم من تراب أو طين، وقد أقررتم أن أصلكم تراب أو طين - واللَّه أعلم - على الوجوه التي ذكرنا يجوز أن يخرج.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)
بالنصب يحتمل وجوهًا:
أحدها: عجبتَ منهم إنكارهم ما أنكروا بعد كثرة قيام الآيات والحجج عليهم في ذلك وهم ينكرون ويسخرون.
أو يقول: عجبت ويسخرون؛ لما أنك بزعمهم لعظيم ما ينزل بهم من العذاب والشدائد وما يستقبلهم من الأمور المهمة وهم يسخرون، واللَّه أعلم.
أو يقول: بل عجبت لما تدعوهم أنت إلى ما به نجاتهم وفلاحهم وهم يسخرون، ونخو ذلك يحتمل، واللَّه أعلم بما كان يعببه.
وفي بعض الحروف: (بل عجبتُ) بالرفع، وكذلك ذكر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرؤه بالرفع: (بل عجبتُ) فإن ثبت ذلك وصح إضافة العجب إلى الله فهو في الشاهد وإن كان لظهور عظيم مما قالوا خفيا عليهم مستترًا، عند ذلك يقع لهم العجبُ فهو في اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وإن كان لا يحتمل أن يخفى عليه شيء، فذلك لعظيم ما كان منهم من الإنكار من قدرته على الإنشاء والجحود في ذلك؛ فيكون ما ذكر من حرف العجب منه كناية عن الإنكار والدفع لقولهم، وذلك كما أضاف الامتحان إلى نفسه وإن كان في الشاهد لا يستعمل إلا في استظهار ما خفي عليهم واستتر منهم، فهو من الله يخرج على الأمر والنهي - أعني الامتحان - وإن كان في الشاهد بين الخلق لا يكون إلا لما ذكرنا، فعدى ذلك جائز إضافة العجب إلى اللَّه على إرادة الإنكار منه عليهم والدفع لقولهم، واللَّه أعلم.
ومن الناس من أنكر هذه القراءة وقال: لا يجوز إضافة التعجب إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لما هو لم يزل عالمًا بما كان ويكون، وهو في الشاهد إنما يكون لظهور عظيم من الأمر قد جهلوه، لكن هذا وإن كان في الخلق ما ذكر فهو من اللَّه على غير ذلك، على ما ذكرنا من إضافة الامتحان إليه والابتلاء وإن كان بين الخلق لما ذكرنا، وقد ظهرت إضافته إليه بقوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) وهو يخرج على الإنكار عليهم والرد على تعظيم إنكار ما قالوا وأنكروا، واللَّه أعلم.
ومن أن ناس من قال في قوله عَزَّ وَجَلَّ: (بَلْ عَجِبْتَ) فيما أضافه إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -:
أي عجبت من هذا القرآن حين أعطاك إياه ويسخر منه أُولَئِكَ الكفرة.
ويحتمل معنى آخر، وهو أن يقال: إن قوله عَزَّ وَجَلَّ: (بَلْ عَجِبْتَ) أي: جعلت ما أنزلت عليك من القرآن والوحي أمرًا عجبًا، أو أن يقال: كان إنكارهم رسالتك وتكذيبهم الآيات أمرًا عجبًا وهم يسخرون، ونحوه، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣)
ابن عَبَّاسٍ يقول: وإذا وُعِظوا لا يتعظون، والموعظة والتذكير واحد.
وقتادة يقول: (وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ) أي: لا ينتفعون بالموعظة على ما ذكرنا في قوله: قوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، أي: لا ينتفعون بتلك الحواس، وإن كانت لهم تلك، كمن لا حاسة له. فعلى ذلك قول قتادة.
وجائز أن يكون على مرادفة التذكير ما نسوا من الآيات والحجج، يقول: إنهم وإن ذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه لا يتذكرون، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) هذه الآيات وأمثالها ذكرها - واللَّه أعلم - لقوم علم اللَّه أنهم لا يؤمنون أبدًا، (لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ...) إلى آخر ما ذكر؛ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم... الآيات، ويذكر سفههم.
ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم، وجعله آيات من القرآن تتلى أبدًا وجهان من الحكمة:
أحدهما: صير ذلك آية لرسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لأنه معلوم أنهم كانوا على ما أخبر عنهم من العناد والسفه وعلى أن ختموا وقبضوا، دل أنه باللَّه عرف ذلك وبوحيه علم، واللَّه أعلم.
والثاني: يخبر - واللَّه أعلم - على ما رأى سلفنا من سفه أُولَئِكَ وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء؛ لئلا يضيق صدرنا في سفه من تسفه علينا من أهل الفساد والفسق، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه، ولا لأذى المؤذي ولا سوء يقال، بل يجب علينا أن نتأسى بسلفنا ونقتدي بهم، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أُولَئِكَ من الأذى والسفه، وإن عاندوا أو كابروا وظهر منهم كل فسق وسوء على ما فعل أُولَئِكَ، واحتملوا منهم ما كرهوا، فنحمل عن سفهائنا مثله - واللَّه أعلم - وإلا لو لم يكن في ذكر سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة كان لا معنى لذكر سفه أُولَئِكَ وعنادهم.
وجائز أن يكون الشيء سفهًا باطلًا في نفسه ويكون حكمة ودليلًا لغيره - واللَّه أعلم - على ما قال بعض الناس: إن الكذب نفسه يجوز أن يكون دليل الصدق، وكلام السفه
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ وإذا رأوا آية يستسخرون ﴾ هذه الآيات وأمثالها ذكرها، والله أعلم، لقوم، علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا :﴿ بل عجبت ويسخرون ﴾ ﴿ وإذا ذُكّروا لا يذكرون ﴾ ﴿ وإذا رأوا آية يستسخرون ﴾ ﴿ وقالوا إن هذا إلا سحر مبين ﴾ [ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا أءنا لمبعوثون ﴾ ﴿ أوَ آباؤنا الأولون ﴾ ]١ يخبر عن عنادهم ومكابرتهم الآيات، ويذكر سفههم.
ثم في ذكر ما ذكر من عنادهم وسفههم وجعله آيات القرآن تتلى أبدا وجهان من الحكمة :
أحدهما : صيّر ذلك آية لرسالته صلى الله عليه وسلم لأنه معلوم أنهم كانوا على [ ما ]٢ أخبر منهم من العناد والسّفه، وعلى ذلك ختموا، وقُبضوا. دل أنه بالله عرف ذلك، وبوحيه علم، والله أعلم.
والثاني : يخبر، والله أعلم، على ما رأى سلفُنا من سفه أولئك وعنادهم وما قاسوا منهم وما لحق بهم من الأذى والضرر والسوء لئلا يضيق صدرنا من سفه من تسفّه علينا من أهل الفساد والفسق، وألا نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفه السفيه ولا لأذى المؤذي ولا لسوء٣ يقال.
بل يجب علينا أن نتأسّى بسلفنا، ونقتدي بهم، وإذا أصابنا منهم ما أصاب أولئك من الأذى والسّفه، وإن عاندوا، وكابروا، وظهر٤ منهم كل فسق وسوء على ما فعل أولئك، واحتملوا منهم ما كرهوا، نحمل من سفهائنا مثله، والله أعلم، ولو٥ لم يكن في ذكر٦ سفههم وعنادهم ما ذكرنا من الحكمة لكان لا معنى لذكر سفه أولئك وعنادهم.
وجائز /٤٥١-أ أن يكون الشيء سفها باطلا في نفسه، ويكون حكمة دليلا لغيره، والله أعلم، على ما قال بعض الناس : إن الكذب نفسه، يحسبون أن يكون دليل الصدق، وكلام السفه والباطل دليل الصدق والحكمة، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإذا رأوا آية يستسخرون ﴾ أي وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يسخرون، ويستهزئون، يخبر عن سفههم أنهم، وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد، ولكن سؤال عناد وهُزء كقوله عز وجل :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ﴾ ﴿ لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا ﴾ [ الحجر : ١٤ و١٥ ] وكقوله :﴿ ولو أننا نزّلنا إليهم الملائكة وكلّمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قُبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ﴾ [ الأنعام : ١١١ ].
١ في الأصل و م: إلى آخر ما ذكر..
٢ ساقطة من الأصل وم.
٣. في الأصل و م: سوء..
٤ في الأصل و م: وظهروا..
٥ في الأصل وم: وإلا..
٦ أدرج بعدها في الأصل وم: من..
والباطل دليل الصدق والحكمة، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي: وإذا أنزل عليهم آية على سؤال منهم يستسخرون ويستهزئون، يخبر عن سفههم أنهم وإن سألوا الآيات فإنهم لا يسألون سؤال استرشاد ولكن سؤال عناد وهزء؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا)، وكقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) كان هذا تلقينًا لأُولَئِكَ الكفرة الرؤساء من الشيطان اللعين حتى يموهوا على أتباعهم عندما ظهر، وكثير من الآيات؛ لما كانوا يعلمون أن لا كل أحد يعرف السحر ويتهيأ إتيانه وفعله؛ يلبسون بذلك على أتباعهم ليقع عندهم أنها السحر لا الآية، واللَّه أعلم. ولو كان ذلك سحرًا حقيقة لكان من آيات الرسالة، فكيف إذا كان آية لما كانوا يعلمون أنه لم يختلف إلى أحد ممن له صرفة بالسحر قط؟! فدل أنه بالله عرف ذلك، على ما ذكرنا: أن ما أنبأ وأخبر عن أنباء الأمم الخالية وأخبارهم يدل على رسالته؛ لما علموا أنه لم يختلف إلى أحد ممن له الصرفة بتلك الأنباء والأخبار ولا ينظر في كتبهم ليعرف ذلك، ثم أخبر على ما كان في كتبهم، دل أنه باللَّه عرف ذلك وبوحى منه إليه علم، فعلى ذلك لو كان سحرًا فكيف إذا كانت آية عظيمة معجزة؟!
وقال الزجاج: حرف العجب إنما يكون عند ظهور العجب من الأمر وعبرة عظيمة، فأما ما أضيف إلى اللَّه فهو على الإنكار منه والرد على من أنكر عظيمًا من الأمر ظاهرًا، أو كلام نحوه، واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ) قيل: دائم؛ كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا)، أي دائمًا، وقيل: (عَذَابٌ وَاصِبٌ) أي: شديد.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (مِنْ طِينٍ لَازِبٍ) قيل: ملتزق، وقيل ملتصق الذي يلتصق باليد إذا لمس.
وقوله: (دُحُورًا) قيل: طردًا، وهو مطرود.
وقوله: (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) قيل: مضيء، وقيل: هوى بضوئه.
ثم قوله: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يسخرون، وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَسْتَسْخِرُونَ): يطلبون من أتباعهم السخرية - يعني: القادة - على الآية. واللَّه أعلم.
وقوله عَزَّ وَجَلَّ: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ
الآيات ١٦ و١٧ و١٨ وقوله تعالى :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون ﴾ ﴿ أوَ آباؤنا الأولون ﴾ ﴿ قل نعم وأنتم داخرون ﴾ قد ذكرنا أنهم يقولون ذلك، وما تقدم على العناد والتّعنُّت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدا، وإن بيّن لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم. لذلك اكتفى بقوله :﴿ قل نعم وأنتم داخرون ﴾ قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك، ولم يذكر شيئا من الحجاج سوى قوله :﴿ نعم ﴾ [ وقوله :]١ ﴿ وأنتم داخرون ﴾ أي صاغرون ذليلون كقوله عز وجل ﴿ وترهقهم ذلّة ﴾ [ يونس : ٢٧ ] والله أعلم.
١ من م، في الأصل: قوله..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:الآيات ١٦ و١٧ و١٨ وقوله تعالى :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون ﴾ ﴿ أوَ آباؤنا الأولون ﴾ ﴿ قل نعم وأنتم داخرون ﴾ قد ذكرنا أنهم يقولون ذلك، وما تقدم على العناد والتّعنُّت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدا، وإن بيّن لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم. لذلك اكتفى بقوله :﴿ قل نعم وأنتم داخرون ﴾ قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك، ولم يذكر شيئا من الحجاج سوى قوله :﴿ نعم ﴾ [ وقوله :]١ ﴿ وأنتم داخرون ﴾ أي صاغرون ذليلون كقوله عز وجل ﴿ وترهقهم ذلّة ﴾ [ يونس : ٢٧ ] والله أعلم.
١ من م، في الأصل: قوله..

دَاخِرُونَ)
قد ذكرنا: أنهم يقولون ذلك وما تقدم على العناد والتعنت وعلم منهم أنهم لا يؤمنون أبدًا وإن بين لهم جهة الإحياء والقدرة عليهم؛ لذلك اكتفى بقوله: (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) قد ذكرنا أنهم كانوا يقولون ذلك، ولم يذكر شيئًا من الحجاج سوى قوله: (نَعَمْ).
وقوله: (وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ).
أي: صاغرون ذليلون؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ... (١٩)
يحتمل قدر زجرة واحدة، يخبر عن سرعة قيامها ومرورها.
ويحتمل على حقيقة الزجرة، لكن يخبر عن خفة ذلك وهوانه عليه؛ كقوله: (كُن فَيَكُونُ)، من غير أن كان منه كاف ونون أو شيء من ذلك، لكنه أخف كلام على الألسن يؤدي به المعنى، ويفهم به المراد من ذلك؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ) إخبارًا عن خفة ذلك عليه وهوانه، من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سببًا من ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ).
يحتمل قوله: (يَنْظُرُونَ) إلى ماذا يؤمرون؟ وعن ماذا ينهون؟ لأن الذي أصابهم في
الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا، فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر عنه ينظرون إلى ماذا يؤمرون وينهون عنه؟ واللَّه أعلم.
أو ينظرون كالمتحيرين؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ويكذبونه، فإذا عاينوا تحيروا وتاهوا وضجروا، وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئًا أو كذبه، ثم أخبر به وأعلم حتى تيقن عنده ما أنكر تحير وضجر؛ فعلى ذلك هَؤُلَاءِ لما أنكروا في الدنيا وكذبوه ثم عاينوا ذلك وتيقنوا به - تحيروا وضجروا به، ينظرون نظر المتحير الضجر، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
هذا كلام يقال عند الوقوع في الهلاك.
وقوله: (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ) أي: يوم الحساب ويوم الجزاء، وكذلك قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).
ويحتمل: هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدِّين دينه، والدِّين المطلق هو دين اللَّه، وكذلك السبيل المطلق هو سبيل اللَّه، أي: هذا يوم الدِّين الذي ينفع من كان معه دين اللَّه، وكذا السبيل المطلق هو سبيل اللَّه.
الآية ١٩ وقوله تعالى :﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾ يحتمل قدر زجرة واحدة، يخبر عن ساعة قيامها ومرورها. ويحتمل على حقيقة الزّجرة. لكن يخبر عن خفّة ذلك وهونه عليه كقوله :﴿ كن فيكون ﴾ [ البقرة : ١١٧ و. . ] من غير أن كان منه كاف أو نون أو شيء من ذلك، لكنه أخف كلام على الألسن، يؤدّى به المعنى، ويفهم به المراد من ذلك.
فعلى ذلك جائز أن يكون قوله :﴿ زجرة واحدة ﴾ إخبارا١ عن خفّة ذلك عليه وهونه من غير أن جعل الزجرة سبب الإحياء أو سببا من ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإذا هم ينظرون ﴾ يحتمل قوله :﴿ ينظرون ﴾ إلى ماذا يُؤمرون ؟ وعن ماذا يُنهَون ؟ لأن الذي أصابهم في الآخرة إنما كان لتركهم الأمر في الدنيا. فإذا عاينوا ما كانوا يوعدون في الدنيا بتركهم الأمر به، ينظرون إلى ماذا يؤمرون، وينهون عنه ؟ والله أعلم، أو ينظرون كالمتحوّزين لأنهم كانوا ينكرون البعث، ويكذّبونه. فإذا عاينوا تحيّزوا، وتاهوا، وضجِروا. وهكذا الأمر المتعارف في الخلق أن من أنكر شيئا، أو كذّبه، ثم أُخبر به، وأُعلم حتى تيقّنه٢، وتحقق عنده ما أنكر تحيّز، وزُجِر.
فعلى ذلك هؤلاء لما أنكروا ذلك في الدنيا، وكذّبوه، ثم عاينوا ذلك، وتيقّنوه٣، تحيّزوا، وضجروا به، ينظرون نظر المتحيّز الضّجِر، والله أعلم.
١ في الأصل وم: إخبار..
٢ في الأصل و: تيقن به..
٣ في الأصل و م: تيقنوا به..
الآية ٢٠ وقوله تعالى :﴿ وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين ﴾ هذا كلام : يقال عند الوقوع في الهلاك. وقوله :﴿ هذا يوم الدين ﴾ أي يوم الحساب ويوم الجزاء. وكذلك قوله :﴿ مالك يوم الدين ﴾ [ الفاتحة : ٣ ].
ويحتمل :﴿ هذا يوم الدين ﴾ أي هذا يوم الذي ينفع كل من معه الدين دينه. والدين المطلق، هو دين الله، وكذلك السبيل المطلق، هو سبيل الله، أي ﴿ هذا يوم الدين ﴾ أي هذا يوم الدين الذي ينفع من كان معه دين الله. وكذا السبيل المطلق، هو سبيل الله.
وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
قوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي: يوم القضاء والحكم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، أي: يقضي بينهم (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله؛ (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي؛ يفصل ويفرق بينهم، أي: بين الكفار وأهل الإيمان، وبين الخبيث والطيب؛ كقوله - تعالى -: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا...) الآية، وقوله: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)، وقوله: (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)
فالزوج: هو اسم لشكله واسم لضده اسم لهما جميعًا. يحتمل قوله: (وَأَزْوَاجَهُمْ) أي: أشكالهم وقرناؤهم من الجن والإنس والشياطين، يأمر الملائكة أن تجمع بين من كانوا يجتمعون في هذه الدنيا ويستحبون الاجتماع معهم أن يجمعوا في عذاب الآخرة، على ما كانوا يستحبون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا ويجتمعون على ذلك؛ فعلى ذلك يجمع بين أُولَئِكَ وبين قرنائهم جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب؛ كقوله: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)؛ وكقوله: (وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)، ونحوه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) كقوله: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا)، ونحوه، واللَّه أعلم.
وقال قتادة وغيره: (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ)، أي: يدان لبعض الناس من بعض في المظالم والحقوق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)
يحتمل الوقف للحساب.
ويحتمل (مَسْئُولُونَ) أي: محاسبون.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: " إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفًا، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عامًا، ثم تلا هذه الآية ".
ويحتمل ليس السؤال عما فعلوا، ولكن يسألون لماذا فعلوا؟
ويحتمل الوقوف فتنوا إلى بعضهم بعضًا، والمخاصمة فيما بينهم والمراجعة؛ كقوله: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ...) كذا، (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ...)
الآية ٢٢ وقوله تعالى :﴿ احشروا الذي ظلموا وأزواجهم ﴾ فالزوج اسم لشكله لضده واسم لهما جميعا.
يحتمل قوله :﴿ وأزواجهم ﴾ أي أشكالهم وقرناءهم من الجن والإنس والشياطين. يأمر الملائكة [ أن يجمعوا ]١ بين من كانوا٢ يجتمعون في هذه الدنيا، ويستحبون الاجتماع معهم، أن يجمعوا في عذاب الآخرة على ما كانوا يستحبّون الاجتماع في الملاهي والطرب في هذه الدنيا، ويجتمعون على ذلك.
فعلى ذلك تجمع بين أولئك وبين قرنائهم جهنم، ويقرن بعضهم إلى بعض في العذاب كقوله :﴿ ومن يعشُ عن ذكر الرحمان نُقيّض له شيطانا فهو له قرين ﴾ [ الزخرف : ٣٦ ] وكقوله :﴿ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون ﴾ ﴿ وفي الحميم ثم في النار يُسجرون ﴾ [ غافر : ٧١ و٧٢ ] ونحوه.
١ في الأصل: أي يجمع، في م: أن يجمع..
٢ في الأصل وم: كان..
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾ كقوله :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زُمرًا ﴾ [ الزمر : ٧١ ] ونحوه، والله أعلم.
وقال قتادة وغيره :﴿ هذا يوم الدين ﴾ أي يُدان بعض الناس من بعض في المظالم والحقوق.
الآية ٢٤ وقوله عز وجل :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ﴾ يحتمل الوقف للحساب، ويحتمل ﴿ مسئولون ﴾ أي محاسبون.
وعن ابن عباس [ أنه ]١ قال : إن دون الحساب يوم القيامة كذا كذا موقفا، في كل موقف يوقفون مقدار كذا عاما، ثم تلا هذه الآية.
[ ولا ]٢ يحتمل السؤال عما فعلوا، ولكن يسألون لماذا فعلوا ؟ ويحتمل الوقوف [ ما فتن ]٣ بعضهم بعضا والمخاصمة في ما بينهم والمراجعة كقوله :﴿ وقالت أُخراهم لأولاهم ﴾ كذا ﴿ وقالت أولاهم لأخراهم ﴾ [ الأعراف : ٣٨ و٣٩ ] على ما أخبر أنه يجري في ما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل وم: و..
٣ في الأصل وم: فتنوا إلى..
كذا؛ على ما أخبر أنه يجري فيما بينهم من الخصومة ومراجعة القول واللائمة.
وقوله: (مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥)
أي: ما لكم لا تنصرون؛ أي: ما لكم لا ينصركم الأصنام التي عبدتموها في الدنيا رجاء النصر والشفاعة؛ كقوله: (هَؤُلَاءِ شُفَعاؤنَا عَندَ اللَّهِ)، وقوله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى).
فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة؛ كقوله: (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) أي: خاضعون ذليلون لله، لما علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه، فعند ذلك يستسلمون له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يستسلمون في عذابه.
* * *
قوله تعالى: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٧) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩)
وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الجن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أقبلت الإنس على الشياطين، فقالوا لهم: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الخير والطاعة؛ فتسهوننا وتشغلوننا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الدِّين والتوحيد من حيث يحترس، وهو الأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من قبل الحق ونحوه.
فرد عليهم أُولَئِكَ: (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
الآية ٢٦ فيخبر عن إياسهم من نصر ما عبدوا على رجاء النصر لهم والشفاعة بقوله١ :﴿ بل هم اليوم مستسلمون ﴾ /٤٥١-ب/ أي خاضعون، ذليلون لله لمّا علموا ألا يكون النصر والعون إلا منه. فعند ذلك يستسلمون له. وقال بعضهم : يستسلمون في عذابه.
١ في الأصل وم: كقوله..
الآية ٢٧ وقوله تعالى :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ قال بعضهم : أقبلت الإنس على الجن. وقال بعضهم : أقبلت الإنس على الشياطين.
الآية ٢٨ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ﴾ قال بعضهم : من قبل الخير والطاعة، فتسهوننا، وتشطوننا عنه.
وقال بعضهم : من قبل الدين والتوحيد من حيث يُحترس، وهو الأول، وقال بعضهم : من قبل الحق٢ ونحوه.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من م، في الأصل: الجن..
الآية ٢٩ فردّ عليهم أولئك ﴿ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ﴾ يقولون : إنكم١ تركتم الإيمان بأنفسكم وباختياركم، لا إنا منعناكم منعا عنه.
١ في الأصل وم: إن..
يقولون: إنكم تركتم الإيمان بأنفسكم وباختياركم لا إنا منعناكم منعا عنه.
وقالوا: (وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (٣٠)
أي: ما كان لنا عنيكم من حجة أو برهان ألزمناكم به، بل أطعتمونا طوعًا واستجبتم لنا فيما دعوناكم، فهذه المناظرة والمجادلة فيما ينهم كمناظرة إبليس في موضع آخر حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ)، أي: دعوتكم بلا حجة ولا برهان فاستجبتم لي؛ فعلى ذلك يقول هَؤُلَاءِ: (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) باختياركم ترك الإيمان بلا سلطان ولا حجة كان عليكم، وكمناظرة القادة مع الأتباع حيث قال: (وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، ونحوه، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) أي: من جهة القوة، أي: إنكم على الحق وإنكم مؤمنون ونحو ذلك.
ويحتمل لا على حقيقة اليمين، ولكن تأتوننا من كل جهة؛ كقوله: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ...) الآية، أي: من كل جهة لا على حقيقة ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقد ذكرنا أن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ) أن قوله: (سُلْطَانٍ) أي: لم يكن لاتباعكم إيانا وطاعتكم لنا حجة أو برهان أقمناه عليكم فيما دعوناكم إليه، وإنما كان اتباعًا من غير أن ألزمناكم؛ فلا تلومونا ولكن لوموا أنفسكم.
(بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ).
أي: بطغيانكم اتبعتمونا لا بما ذكرتم، واللَّه أعلم.
ثم قالوا: (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١)
يشبه أن يكون هذا قول الأكابر منهم والمتبوعين للأصاغر والأتباع منهم: أن حق علينا قول ربنا؛ قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: وجب علينا وعليكم عذاب ربنا.
ويشبه أن يكون القول الذي أخبروا أنه حق عليهم هو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
وقوله: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢)
الآية ٣١ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ فحقّ علينا قول ربنا إنا لذائقون ﴾ يشبه أن يكون هذا قول الأكابر منهم والمتبوعين للأصاغر والأتباع منهم : أن حق علينا قول ربنا. قال بعضهم : أي وجب علينا وعليكم عذاب ربنا.
ويشبه أن يكون القول الذي أخبروا أنه الحق عليهم، هو قوله عز وجل :﴿ لأملأن جهنم من الجِنّة والناس أجمعين ﴾ [ هود : ١١٩ و السجدة : ١٣ ] والله أعلم.
١ في الأصل وم: ثم قالوا..
الآية ٣٢ وقوله تعالى :﴿ فأغويناكم إنا كنا غاوين ﴾ يحتمل أن تكون هذه المعاتبة التي ذكرت كانت بين الأتباع والمتبوعين من الإنس كقوله عز وجل :﴿ وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا ﴾ كذا [ وكقوله :]١ ﴿ قال الذين استكبروا للذين استُضعفوا ﴾ كذا [ سبأ : ٣٣ و٣٢ ] وقوله :﴿ ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم ﴾ كذا [ الأعراف : ٣٨ ].
ويشبه أن يكون بين الإنس والشياطين.
ثم قوله :﴿ فأغويناكم ﴾ حين اخترتم الغواية والضلالة، وعرفتم أنا لسنا على الهدى، ولم نقم عليكم الحجة، فاتبعتمونا على علم منكم أنا على الغواية، فأغويناكم حينئذ. والإغواء الإضلال، والغواية الضلال.
١ في الأصل و م: و..
يحتمل أن تكون هذه المعاتبة التي ذكرت كانت بين الأتباع والمتبوعين من الإنس؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) كذا، (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا...) كذا؛ وكقوله: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ...) كذا.
ويشبه أن يكون بين الإنس والشياطين.
ثم قوله: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ).
حين اخترتم الغواية والضلال، أو عرفتم أنا لسنا على الهدى ولم نقم عليكم الحجة، فاتبعتمونا على علم منكم أنا على الغواية فأغويناكم حينئذ، والإغواء: الإضلال، والغواية: الضلال.
وقوله: (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣)
أخبر أنهم جميعًا: الأتباع، والمتبوعون يشتركون في العذاب، ليس أن يشتركوا في نوع من العذاب، ولكن يجمعون جميعًا، ثم لهم العذاب على قدر عصيانهم وجرمهم.
وقوله: (إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
قال أبو بكر الأصم: المجرم: هو الوثاب في المعصية، القادح فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
أي: كانوا إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يستكبرون.
ثم يحتمل قوله: (يَسْتَكْبِرُونَ) لا على هذه الكلمة، ولكن يستكبرون على اتباع القائلين لهم: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)؛ وكقولهم: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا)، كانوا يأنفون ويستكبرون على اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لذلك قالوا ما قالوا.
وجائز أن يكون ما ذكر من استكبارهم استكبارًا على هذه الكلمة حقيقة، فيخرج استكبارهم عليها؛ إنكارًا لهذه الكلمة وجحوذا لها بقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، واللَّه أعلم.
(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦)
يشبه أن يكون على الإنكار لها؛ لما ذكر من قولهم على أثر ذلك وهو ما قال: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ).
ثم جمعوا في هذا متضادين؛ لأن الشاعر هو الذي يبلغ في العلم غايته، والمجنون هو الذي يبلغ في الجهل غايته، ثم جمعوا بينهما في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وكذلك قولهم:
الآية ٣٤ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نفعل بالمجرمين ﴾ قال أبو بكر الأصمّ : المجرم هو الوثّاب في المعصية الفادح فيها، والله أعلم.
الآية ٣٥ وقوله تعالى :﴿ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ﴾ أي كانوا إذا قيل لهم : قولوا ﴿ لا إله إلا الله ﴾ ثم يحتمل قوله :﴿ يستكبرون ﴾ لا على هذه الكلمة، ولكن يستكبرون على أتباع القائلين :﴿ لا إله إلا الله ﴾ كقولهم :﴿ لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] وكقولهم :﴿ أأُنزل عليه الذِّكر من بيننا ﴾ [ ص : ٨ ] كانوا يأنفون، ويستكبرون على أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك قالوا ما قالوا.
وجائز أن يكون ما ذكر من استكبارهم استكبارا على هذه الكلمة حقيقة، فيخرّج استكبارهم عليها إنكارا لهذه الكلمة وجحودا لها بقولهم :﴿ أجعل الآهلة إلها واحدا ﴾ [ ص : ٥ ] والله أعلم.
الآية ٣٦ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ﴾ ثم جمعوا في هذا متضادّين، لأن الشاعر، هو الذي [ يبلغ ]٢ في العلم غايته، والمجنون، هو الذي يبلغ في الجهل غايته. ثم جمعوا بينهما في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك قولهم : ساحر، ومجنون : الساحر، هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته، والمجنون [ هو الذي يبلغ في الجهل غايته ]٣. دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنّت.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل و م: في الجهل..
(سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) والساحر هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته، والجنون في الجهل؛ دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧)
الحق: قَالَ بَعْضُهُمْ: بالحق الذي لله عليهم وما لبعضهم على بإض، وأصل الحق: أنه كل ما يحمد على فعله، وكل ما يذم عليه فهو باطل.
(وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ): أخبر أنه صدق إخوانه من المرسلين، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: (وَالصَّافَّاتِ): هي الطيور التي صفت بين السماء والأرض، (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) من الزجر يقال: زجرت الإبل زجرا إن صحت بها؛ فهو اسم الصياح، (فَالتَّالِيَاتِ) كما تقول: تلوت القرآن، أي: قرأت، وتلوت: تبعت، والتالي: التابع، والقذف والرمي (وَيُقْذَفُونَ) أي: يرمون، و (دُحُورًا): أي مباعدة؛ دحرته، أي: باعدته وطردته، (وَاصِبٌ)، أي: [دائب]، (خَطِفَ الْخَطْفَةَ) أي: استلب الشيء، والخطفة: الاستلاب السريع، (فَأَتْبَعَهُ)، أي: اتبعه، (شِهَابٌ ثَاقِبٌ): الشهاب: الكوكب، والثاقب: الشديد الضوء والحر؛ يقال: ثقبت النار، أي: التهبت واشتد حرها، وأثقبتها، أي: أوقدتها، سخرت واستسخرت كقولهم: قر واستقر؛ واحد، وسخر به وسخر به بالتشديد وسَخَّرتُ فلانا، أي: استعملته بغير أجر، (مُسْتَسْلِمُونَ)، أي: قد ذلوا وأعطوا بأيديهم؛ يقال: استسلم الرجل إذا أعطى بيده، وأسلمته: تركته لم أعنه ولم أنصره، (وَأَزْوَاجَهُمْ): أشكالهم، تقول العرب: زوجت، أي: إذا قرنت واحدا بآخر، وهم قرناؤهم من الشياطين، (كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ)، أي: تخدعوننا وتمنعوننا عن طاعة اللَّه، واللَّه أعلم. وزوج الشيء: شكله، ويقال لضده؛ فهو اسم لهما جميعًا.
وقوله. (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ).
يحتمل ما ذكرنا: أنه على الإضمار: أنه إذا قيل لهم: قولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يستكبرون.
ويحتمل وجهًا آخر: أنهم إذا قيل لهم: اتركوا عبادة الأصنام، واصرفوا عبادتكم إلى الإله الذي هو في الحقيقة إله، وهو المالك لجر النفع ولدفع الضر، وهو اللَّه جل وعلا؛ ويدل لهذا قولهم: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) أي: نترك عبادة آلهتنا لقول شاعر مجنون، واللَّه أعلم.
ذكر أن نفرًا من رؤساء قريش أتوا إلى أبي طالب فقالوا: ما يريد منا ابن أخيك مُحَمَّد؟ فدعا به فقال: ما تريد منهم يا ابن أخي؟ فقال له: " يا عم، إنما أريد منهم كلمة يملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم "، وفي بعض القصة أنه قال لهم: " أريد منكم كلمة يدين لكم بها العرب ويؤدي إليكم بها العجم الجزية "، فقالوا: وما هي؟ فقال: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،
وأني رسول اللَّه "، فقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)، وذكر أنهم قالوا: (أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ).
ويحتمل ما ذكرنا فيما تقدم، واللَّه أعلم.
والآية فيمن يقر بالصانع ليس فيمن ينكر الصانع رأسًا من نحو الدهرية وغيرها؛ حيث نفى الألوهية لمن دونه وأثبتها لله - عَزَّ وَجَلَّ - بقوله: (لَآ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ولو كان ذلك مع أهل الدهر، لكان لا معنى لنفي الألوهية لغيره، بل يحتاج إلى تثبيتها فحسب؛ فدل أن الآية فيمن يقر بالصانع، لكنه يشرك غيره فيها وهم مشركو العرب وغيرهم، واللَّه أعلم.
ثم أخبر عن رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدقه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ) وهو كل آياته: من التوحيد، والإسلام، والرسالة، وكل فعل يحمد فاعله عليه ولا يذم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ).
الذين كانوا قبله في جميع ما جاءوا به من الحق.
(إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨)
بالتكذيب والرد لذلك كله.
(وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩).
* * *
قوله تعالى: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (٦١)
ثم استثنى المؤمنين حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)؛ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم، وإلا لو كانوا مستثنين من قوله: (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أو لا؛ يكون لهذا حق الاستثناء من الأول، ولكن الابتداء ذلك جائز في اللغة سائغ في اللسان، واللَّه أعلم.
ثم بين ما أعد للمخلصين فقال: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١)
فَإِنْ قِيلَ: كيف يجمع بين قوله: (يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)، وبين قوله: (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ)؟! قَالَ بَعْضُهُمْ من أهل التأويل: يعني المعلوم حين يشتهونه يؤتون به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:الآيات ٣٨ و٣٩ و٤٠ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ إنكم لذائقوا العذاب الأليم ﴾ بالتكذيب والرّد لذلك كله ﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ ثم استثنى المؤمنين حين٢ قال عز وجل :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم. و ﴿ إلا [ عباد الله المخلصين ﴾ ]٣ مستثنى من قوله :﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ أو لا يكون لهذا حق الاستثناء من الأول. ولكن [ يكون على ]٤ الابتداء. وذلك٥ جائز في اللغة سائغ في اللسان، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: حيث..
٣ في الأصل وم: لو كانوا..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ الواو ساقطة من الأصل وم..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٨:الآيات ٣٨ و٣٩ و٤٠ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ إنكم لذائقوا العذاب الأليم ﴾ بالتكذيب والرّد لذلك كله ﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ ثم استثنى المؤمنين حين٢ قال عز وجل :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ فإنهم لا يذوقون العذاب الأليم. و ﴿ إلا [ عباد الله المخلصين ﴾ ]٣ مستثنى من قوله :﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ أو لا يكون لهذا حق الاستثناء من الأول. ولكن [ يكون على ]٤ الابتداء. وذلك٥ جائز في اللغة سائغ في اللسان، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: حيث..
٣ في الأصل وم: لو كانوا..
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ الواو ساقطة من الأصل وم..

الآية ٤١ ثم بيّن ما أعدّ للمخلصين، فقال :﴿ أولئك لهم رزق معلوم ﴾ فإن قيل : كيف يجمع بين قوله :﴿ يرزقون فيها بغير حساب ﴾ [ غافر : ٤٠ ] وبين قوله :﴿ لهم رزق معلوم ﴾ ؟
قال بعضهم من أهل التأويل : يعني المعلوم حين يشتهونه يؤتونه. ويحتمل أن يكون للكثير الذي لا يُحسب، ولا يعدّ لكثرته، هو في نفسه معلوم محدود١، وأن يريد بالمعلوم أنه صار ما وُعدوا في الدنيا لهم في الآخرة معلوما معروفا عند الوصول إليه، كان ذلك لهم موعودا، فإذا وصلوا إليه صار معلوما محدودا.
١ في الأصل وم: محدودا..
ويحتمل أن يكون للكثير الذي لا يحسب ولا يعد؛ لكثرته هو في نفسه معلوم محدود.
أو أن يريد بالمعلوم: أنه صار ما وعدوا في الدنيا لهم في الآخرة معلومًا معروفًا عند الوصول إليه كان ذلك لهم موعودًا، فإذا وصلوا إليه، صار معلومًا محدودًا.
وقوله: (فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢)
أي: معظمون مشرفون.
وقوله: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)
يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون ويختارون في الدنيا من الجلوس على السرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك، والكأس: قيل: كل إناء أو قدح فيه شراب فهو كأس.
وقوله: (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ).
المعين قَالَ بَعْضُهُمْ: هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمور أهل الجنة تجري في الأنهار؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعين: هو الظاهر الذي يقع البصر عليه؛ كقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ)، أي: [ظاهر].
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء؛ لأن البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة ويرى، فأما في غيره من الألوان فإنه قلما يظهر وقلما يرى إلا بجهد، أو ذكر أنها بيضاء لأن البيضاء من الألوان المستحسن الطباع كلها؛ وهو المختار عندنا.
قال الزجاج: إن الخمر لذة للنفس الروحانية لا للجسدانية؛ ألا ترى أن الخمر يشربها الناس وتظهر كراهة ذلك في وجوههم من العبوسة وغيرها، ثم مع هذا يعودون ويشربون دل أنها لذة لا لهذه النفس الجسدانية، ولكن للنفس الروحانية أو كلام نحوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)
و (يُنزَفُونَ) بنصب الياء وكسر الزاء، ورفعها ونصب الزاء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا فِيهَا غَوْلٌ) أي: لا آفة ولا صد ولا أذى، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) من قرأها (يُنْزَفُونَ) برفع الياء ونصب الزاء يقول: لا تنزف الخمر
الآيات ٤٣ و٤٤ و٤٥ : وقوله تعالى :﴿ في جنات النعيم ﴾ ﴿ على سرر متقابلين ﴾ ﴿ يطاف عليهم بكأس من معين ﴾ يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون، ويختارون، في الدنيا من الجلوس على السّرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك والكاس : قيل : كل إناء وقدح، فيه شراب، فهو كأس.
وقوله تعالى :﴿ بكأس من معين ﴾ المعين : قال بعضهم : هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمورا أهل الجنة تجري في الأنهار كقوله :﴿ وأنهار من خمر لذة للشاربين ﴾ [ محمد : ١٥ ] وقال بعضهم : المعين : هو الظاهر الذي يقع البصر عليه كقوله :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾ [ الملك : ٣٠ ] أي ظاهرا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:الآيات ٤٣ و٤٤ و٤٥ : وقوله تعالى :﴿ في جنات النعيم ﴾ ﴿ على سرر متقابلين ﴾ ﴿ يطاف عليهم بكأس من معين ﴾ يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون، ويختارون، في الدنيا من الجلوس على السّرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك والكاس : قيل : كل إناء وقدح، فيه شراب، فهو كأس.
وقوله تعالى :﴿ بكأس من معين ﴾ المعين : قال بعضهم : هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمورا أهل الجنة تجري في الأنهار كقوله :﴿ وأنهار من خمر لذة للشاربين ﴾ [ محمد : ١٥ ] وقال بعضهم : المعين : هو الظاهر الذي يقع البصر عليه كقوله :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾ [ الملك : ٣٠ ] أي ظاهرا.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٣:الآيات ٤٣ و٤٤ و٤٥ : وقوله تعالى :﴿ في جنات النعيم ﴾ ﴿ على سرر متقابلين ﴾ ﴿ يطاف عليهم بكأس من معين ﴾ يخبر أن لهم في الجنة ما يستحبون، ويختارون، في الدنيا من الجلوس على السّرر على المواجهة والمقابلة والشرب على ذلك والكاس : قيل : كل إناء وقدح، فيه شراب، فهو كأس.
وقوله تعالى :﴿ بكأس من معين ﴾ المعين : قال بعضهم : هو الجاري، وكأنه يخبر أن خمورا أهل الجنة تجري في الأنهار كقوله :﴿ وأنهار من خمر لذة للشاربين ﴾ [ محمد : ١٥ ] وقال بعضهم : المعين : هو الظاهر الذي يقع البصر عليه كقوله :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾ [ الملك : ٣٠ ] أي ظاهرا.

الآية ٤٦ وقوله تعالى :﴿ بيضاء لذة للشاربين ﴾ ذكر أن خمورهم في الآخرة بيضاء، لأن [ في ]١ البياض يظهر كل ما فيه من الأذى والآفة، ويرى. فأما في غيره من الألوان فإنه قلّما يظهر، وقلّما يرى إلا بجهد. أو ذكر أنها بيضاء لأن البياض٢ من الألوان [ المستحسنة في ]٣ الطباع كلها، وهو المختار عندنا.
قال الزّجّاج : إن الخمر لذة للنفس الروحانية لا للجسدانية. ألا ترى أن الخمر يشربها الناس، وتظهر كراهة ذلك في وجودهم من العبوسة وغيرها. ثم مع هذا يعودون، ويشربون. دل أنها لذة لا لهذه النفس الجسدانية ولكن للنفس الروحانية، أو كلام نحوه، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: البيضاء..
٣ في الأصل و م: المستحسن..
الآية ٤٧ وقوله تعالى :﴿ لا فيها غَوْلٌ ولا هُم عنها يُنزَفون ﴾ وينزِفون١ : بنصب الياء وكسر الزاي، ورفعها ونصب الزاي.
وقوله تعالى :﴿ لا فيها غول ﴾ أي لا آفة فيها، ولا ضرر، ولا أذى، ﴿ ولا هم عنها يُنزَفون ﴾ من قرأها ينزفون برفع الياء ونصب الزاي فيقول : لا تنزف الخمر عقولهم، أي لا تذهب بها، أي لا يسكرون كما يُسكر بشرب خمور الدنيا. ومن قرأها : ينزِفون [ فيقول : يُفنون ]٢ شرابهم. وتأويل هذا٣ الكلام أن أهل الدنيا إذا أخذوا في الشرب لا يتركون شربهم إلا لإحدى٤ الخلّتين : إما لذهاب عقولهم، وذلك عند شدة شكرهم، وإما لفناء الشراب٥. لإحدى هاتين الخلّتين يتركون شربهم، فيخبر أن أهل الجنة لا تذهب عقولهم الخمر، ولا يُفنون شرابهم، ولا كان فيها آفة ولا ضرر، والله أعلم.
قال أبو عوسجة :﴿ معين ﴾ ظاهر لا يتحرك، ويقال : الجاري ﴿ لا فيها غول ﴾ أي سكر ولا ضرر. ولا يكون الاغتيال إلا من الخديعة. والغيل في الأولاد وهو٦ أن تُرضع المرأة ولدها، وفي بطنها آخر. والمَغُول٧ المُتلوِّن. ولذلك٨ سميت الغول غولا لأنها تتلوّن، والغيلان جميع ﴿ ينزفون ﴾ النزيف٩ السكران.
وقال القتبي :﴿ لا فيها غول ﴾ أي لا تغتال عقولهم، فتذهب بها. يقال : الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس.
والغول : العدو ﴿ ولا هم عنها يُنزفون ﴾ أي لا تذهب خمرهم، وتنقطع، وتذهب عقولهم. والخمر التي جعلها الله لأهل الجنة في الآخرة هي للذي لم يشربها في الدنيا، ولم يتناول منها، ولا تلذّذ بها، والله أعلم.
وقيل :﴿ لا فيها غول ﴾ أي غائلة، أي لا يَيْجَعُ منها الرأس ﴿ ولا هم عنها ينزفون ﴾ أي لا يسكرون، تنزف عقولهم، فتذهب [ بها ]١٠.
وفي قوله :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ بنصب اللام دلالة أنه قد كان من الله عز وجل لطف، به استوجبوا الإخلاص والخصوصية. وهو ينقض على المعتزلة قولهم.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ح٥/٢٣٥..
٢ في الأصل و م: أي يفنى..
٣ من م، في الأصل: هذه..
٤ من م، في الأصل: لأحد..
٥ في الأصل و م: الشرب..
٦ في الأصل وم: وهي..
٧ في الأصل و م: والمغلول..
٨ في الأصل و م: وكذلك..
٩ أدرج قبلها في الأصل وم: قال..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
عقولهم، أي: لا تذهب بها، أي: لا يسكرون كما يسكر بشرب خمور الدنيا. ومن قرأها (يَنْزِفُونَ) أي يعني شرابهم.
وتأويل هذا الكلام: أن أهل الدنيا إذا أخذوا في الشراب لا يتركون شربهم إلا لإحدى الخلتين: إما لذهاب عقولهم وذلك عند شدة سكرهم، وإما لفناء الشراب، لإحدى هاتين الخلتين يتركون شربهم، فيخبر أن أهل الجنة لا يذهب عقولهم الخمر ولا يُفْنون شرابهم، ولا كان فيها آفة ولا ضرر، واللَّه أعلم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: طاهر لا تحرك، ويقال: الجاري، (لَا فِيهَا غَولٌ) أي: سكر ولا ضرر، ولا يكون الاغتيال إلا من الخديعة والقتل في الأولاد، وهي أن ترضع المرأة ولدها وفي بطنها آخر، والغلول: التلوُّن، وكذلك سميت الغول غولا؛ لأنها تتلوَّن، والغيلان: جميع، (يُنْزَفُونَ) قال: النزيف: السكران.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (لَا فِيهَا غَوْلٌ) أي: لا تغتال عقولهم فيذهب بها، يقال: الخمر غول للحلم، والحرب غول للنفوس، والغول: العدو، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) أي: لا يذهب خمرهم وينقطع ولا يذهب عقولهم، والخمر التي جعلها اللَّه لأهل الجنة في الآخرة هي للذي لم يشربها في الدنيا ولم يتناول منها ولا تلذذ بها، واللَّه أعلم.
وقيل: (لَا فِيهَا غَوْلٌ)، أي: غائلة لها، أي: الصداع، أي: لا يتجع منها الرأس، (وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ) أي: لا يسكرون بنزف عقولهم فتذهب.
وفي قوله: (إلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخلَصِينَ) بنصب اللام دلالة: أنه قد كان من اللَّه - جل وعلا - لطف به استوجبوا الإخلاص والخصوصية، وهو ينقض على المعتزلة قولهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
أي: لا ينظرن إلى غير أزواجهن، جبل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - البشر على الغيرة، ولا يستحب الرجال أن ينظر أزواجهم إلى غيرهم، ولا النساء أن ينظر أزواجهن إلى غيرهن، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - عن أزواجهم في الجنة: أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن؛ حبًّا لأزواجهن وطلبًا لمرضاتهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (عِينٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: واسعات العيون في الجمال؛ لأن السعة في العين إذا جاوز الحد
فحش ولا يكون فيه جمال، ولكن يكون فيه قبح، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عِينٌ)، أي: حسان العيون، والعين جماعة: العيناء، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
أي: مستور، لا يصيبه مطر ولا ريح ولا غبار ولا شمس ولا شيء مما يصيب في الدنيا؛ كقوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ)، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ).
أي: قد [خبئ] وكن من الحر والبرد والمطر فلم يتغير؛ وهو مثل الأول.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بَيْضٌ مَكْنُونٌ): هو كبيض النعام الذي يكنه الريش من الريح وغيره، فهو أبيض إلى الصفرة فكأنه ينزف؛ فذاك المكنون.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: شبهن بالبياض الذي يكون بين القشر وبين اللحا وهو أبيض شيء يكون، واللَّه أعلم بذلك، لكن فيه وصفهن بالجمال والبهاء والحب لأزواجهن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البيض المكنون: هو المصون، هو وصفهن بالصون والصيانة؛ كقوله: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)...) إلى آخر ما ذكر: في بعض القصة: أن رجلين شريكين كان لهما ثمانون ألف دينار، وذكر أنهما كانا أخوين ورثا ثمانين ألف دينار فاقتسما - وذكر أربعون ألف درهم - فعمد أحدهما إلى ماله فاشترى به قصورًا وبستانًا وفرشًا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله فأنفقه في طاعة اللَّه، وطلب مرضاته، وطلب [بعمده] الحياة الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن والآخر كافر طاغ، ثم أصاب الذي أنفقه في طاعة اللَّه وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال: لو أتيت صاحبي هذا لعله أن ينال منه بمعروف، فأتاه فسأله، فأبى أن يعطيه شيئًا، وقال له: ما شأنك وما فعلت بمالك؟ فأخبره بما فعله به، فقال له: (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) أي: محاسبون، فرجع فقضى لهما أن توفيا فنزلت فيهما: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ) وهو المؤمن حين أدخله اللَّه الجنة (إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث بعد الموت (أَإِذَا مِتْنَا
الآيات ٥٠ و٥١ و٥٢ و٥٣ وقوله تعالى :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ [ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ ]١ ذكر في بعض القصة أن رجلين شريكين، كان لهما ثمانية آلاف دينار، [ وذكر أنهما كانا أخوين، ورثا ثمانية آلاف٢ دينار ]٣ فاقتسما /٤٥٢-ب/ وذكر أربعون ألف درهم.
فعمد٤ أحدهما إلى ماله، فاشترى به قصورا وبستانا وفرشا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله، فأنفقه في طاعة الله وطلب مرضاته، وطلب بعمله [ النعمة ]٥ الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن، والآخر كافر طاغ.
ثم أصاب الذي [ أنفق ماله ]٦ في طاعة الله وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال : لو أتيت صاحبي هذا، [ لعلي أنال منه معروفا ]٧. فأتاه، فسأله، فأبى أن يعطيه شيئا، وقال له : ما شأنك ؟ وما فعلت بمالك ؟ فأخبره بما فعله به. فقال له :﴿ أءنك لمن المصدّقين ﴾ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي محاسبون.
فرجع، فقضى لهما أن يوفيا، فنزلت فيهما ﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو المؤمن حين أدخله الله الجنة ﴿ كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي لمحاسبون.
١ في الأصل و م: إلى آخر ما..
٢ في م: ألف..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل و م: فتعمد..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: أنفقه..
٧ في الأصل و م: لعله أن ينال منه بمعروف..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:الآيات ٥٠ و٥١ و٥٢ و٥٣ وقوله تعالى :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ [ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ ]١ ذكر في بعض القصة أن رجلين شريكين، كان لهما ثمانية آلاف دينار، [ وذكر أنهما كانا أخوين، ورثا ثمانية آلاف٢ دينار ]٣ فاقتسما /٤٥٢-ب/ وذكر أربعون ألف درهم.
فعمد٤ أحدهما إلى ماله، فاشترى به قصورا وبستانا وفرشا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله، فأنفقه في طاعة الله وطلب مرضاته، وطلب بعمله [ النعمة ]٥ الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن، والآخر كافر طاغ.
ثم أصاب الذي [ أنفق ماله ]٦ في طاعة الله وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال : لو أتيت صاحبي هذا، [ لعلي أنال منه معروفا ]٧. فأتاه، فسأله، فأبى أن يعطيه شيئا، وقال له : ما شأنك ؟ وما فعلت بمالك ؟ فأخبره بما فعله به. فقال له :﴿ أءنك لمن المصدّقين ﴾ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي محاسبون.
فرجع، فقضى لهما أن يوفيا، فنزلت فيهما ﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو المؤمن حين أدخله الله الجنة ﴿ كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي لمحاسبون.
١ في الأصل و م: إلى آخر ما..
٢ في م: ألف..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل و م: فتعمد..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: أنفقه..
٧ في الأصل و م: لعله أن ينال منه بمعروف..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:الآيات ٥٠ و٥١ و٥٢ و٥٣ وقوله تعالى :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ [ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ ]١ ذكر في بعض القصة أن رجلين شريكين، كان لهما ثمانية آلاف دينار، [ وذكر أنهما كانا أخوين، ورثا ثمانية آلاف٢ دينار ]٣ فاقتسما /٤٥٢-ب/ وذكر أربعون ألف درهم.
فعمد٤ أحدهما إلى ماله، فاشترى به قصورا وبستانا وفرشا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله، فأنفقه في طاعة الله وطلب مرضاته، وطلب بعمله [ النعمة ]٥ الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن، والآخر كافر طاغ.
ثم أصاب الذي [ أنفق ماله ]٦ في طاعة الله وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال : لو أتيت صاحبي هذا، [ لعلي أنال منه معروفا ]٧. فأتاه، فسأله، فأبى أن يعطيه شيئا، وقال له : ما شأنك ؟ وما فعلت بمالك ؟ فأخبره بما فعله به. فقال له :﴿ أءنك لمن المصدّقين ﴾ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي محاسبون.
فرجع، فقضى لهما أن يوفيا، فنزلت فيهما ﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو المؤمن حين أدخله الله الجنة ﴿ كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي لمحاسبون.
١ في الأصل و م: إلى آخر ما..
٢ في م: ألف..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل و م: فتعمد..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: أنفقه..
٧ في الأصل و م: لعله أن ينال منه بمعروف..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:الآيات ٥٠ و٥١ و٥٢ و٥٣ وقوله تعالى :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ [ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ ]١ ذكر في بعض القصة أن رجلين شريكين، كان لهما ثمانية آلاف دينار، [ وذكر أنهما كانا أخوين، ورثا ثمانية آلاف٢ دينار ]٣ فاقتسما /٤٥٢-ب/ وذكر أربعون ألف درهم.
فعمد٤ أحدهما إلى ماله، فاشترى به قصورا وبستانا وفرشا وجواري ونساء، فأنفقه في أمر الدنيا، وعمد الآخر إلى ماله، فأنفقه في طاعة الله وطلب مرضاته، وطلب بعمله [ النعمة ]٥ الدائمة في الآخرة، وهذا مؤمن، والآخر كافر طاغ.
ثم أصاب الذي [ أنفق ماله ]٦ في طاعة الله وطلب مرضاته حاجة شديدة، فقال : لو أتيت صاحبي هذا، [ لعلي أنال منه معروفا ]٧. فأتاه، فسأله، فأبى أن يعطيه شيئا، وقال له : ما شأنك ؟ وما فعلت بمالك ؟ فأخبره بما فعله به. فقال له :﴿ أءنك لمن المصدّقين ﴾ ﴿ أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي محاسبون.
فرجع، فقضى لهما أن يوفيا، فنزلت فيهما ﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ ﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو المؤمن حين أدخله الله الجنة ﴿ كان لي قرين ﴾ ﴿ يقول أءنك لمن المصدّقين ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون ﴾ أي لمحاسبون.
١ في الأصل و م: إلى آخر ما..
٢ في م: ألف..
٣ من م، ساقطة من الأصل..
٤ في الأصل و م: فتعمد..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: أنفقه..
٧ في الأصل و م: لعله أن ينال منه بمعروف..

وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)، أي: لمحاسبون (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) كأنه قال لأصحابه: هل أنتم مطلعون في النار لننظر ما حاله؟ ثم أخبر أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥) ذكر اطلاعه، ولم يذكر اطلاع أصحابه؛ فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه: أنه اطلع (فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، أي: وسط الجحيم، وإن كانوا جميعًا مطلعين إليه فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ)، و (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)، وإن كان خاطب إنسانًا فإنما خاطب به كل إنسان في نفسه؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إنما أخبر عن اطلاع كل منهم - واللَّه أعلم - وكانوا جميعًا مطلعين.
ثم في الآية شيئان عجيبان:
أحدهما: ما ذكر من اطلاع أهل الجنة على أهل النار أنها تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعضٍ فيرون.
أو تكون بعيدة منها، إلا أن إبصار أهل الجنة يكون أبعد وأبصر مما يكون في الدنيا، فجائز أن يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أبصار أهل الآخرة أبصر وأحدّ؛ حتى لا يحجبه ولا يمنعه بعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية، واللَّه أعلم.
والثاني: أن كيف يعرفه في النار مما يحرقه ويفني وجهه ولونه وجميع أعلامه وسيماه، لكن جائز أن يكون اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يعرفه بأعلام تجعل له؛ فيعرفه بتلك الأعلام، وذلك على اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - يسيرٌ هَيِّنٌ.
وأهل التأويل يقولون: يجعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لأهل الجنة كوى منها إذا أرادوا أن ينظر أحدهم إلى مَن في النار، فتح اللَّه له كوة ينظر إلى من شاء من مقعده إلى النار، فيزداد بذلك شكرا، وهو قوله: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ)، أي: في وسط الجحيم؛ كقوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَوَاءَ السَّبِيلِ)، أي: وسطه.
فقال: (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) أي: هممت لتغوين، وكذلك في حرف ابن مسعود: مكان (لَتُرْدِينِ): (لتُغْوِيَن).
وقال الكسائي: تاللَّه، وباللَّه، وواللَّه، واللَّه - بغير واو - لغات.
يخبر أن باللَّه يكون على الأسف مرجعهما إلى سفاهٍ يقول: لولا أن اللَّه أنعم على الهدى، ولولا أن اللَّه رحمني فهداني؛ المعنى واحد. يقول له: اترك دينك واتبعني، وقال: (لَتُرْدِينِ) أي: لتهلكني، يقال: رديت فلانًا، أي: أهلكته، والردى: الموت
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:الآيتان ٥٤ و٥٥ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ قال هل أنتم مُطّلِعون ﴾ كأنه قال لأصحابه : هل أنتم مطّلعون في النار ؟ [ لتنظروا حاله ]٢، ثم أخبر أنه اطلع ﴿ فرآه في سواء الجحيم ﴾.
ذكر اطلاعه، ولم يذكر اطلاع أصحابه. فجائز أن يكون أخبر عن اطلاع كل واحد منهم في نفسه أنه اطلع ﴿ فرآه في سواء الجحيم ﴾ أي وسط الجحيم. وإن كانوا جميعا مطّلعين إليه فيها، كقوله عز وجل :﴿ يا أيها الإنسان إنك كادح ﴾ [ الانشقاق : ٦ ] وقوله :﴿ يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم ﴾ [ الانفطار : ٦ ] وإن كان خاطب إنسانا فكأنه٣ خاطب به كل إنسان في نفسه.
فعلى ذلك جائز أن يكون قوله عز وجل ﴿ فاطّلع فرآه في سواء الجحيم ﴾ أنه٤ أخبر عن اطلاع كل منهم، والله أعلم، وكانوا جميعا مطّلِعين.
ثم في الآية شيئان٥ عجيبان :
أحدهما : ما ذكر من اطّلاع أهل الجنة على أهل النار [ أن النار ]٦ تكون قريبة من الجنة حتى ينظر بعضهم إلى بعض { فيروا كم[ ٧ تكون بعيدة منها. إلا أن أبصار أهل الجنة تكون أبعد وأبصر مما تكون في الدنيا.
فجائز أن يجعل الله عز وجل أبصار أهل الآخرة أبصر وأبعد حتى لا يمنعه بُعد المسافة والمكان عن النظر والرؤية، والله أعلم.
والثاني : أن يعرّفه في النار { والنار تحرقه، وتغير ]٨ وجهه ولونه، وجميع أعلامه، وسيماه.
لكن جائز أن يكون الله عز وجل يعرّفه بأعلام [ تجعل له ]٩ فيعرّفه بتلك الأعلام، وذلك على الله عز وجل يسير هيّن.
وأهل التأويل يقولون : يجعل الله عز وجل لأهل الجنة كوىً فيها : إذا أراد أن ينظر أحدهم إلى من في النار فتح الله له كوّة، ينظر إلى من يشاء من مقعده إلى النار، فيزداد بذلك شكرا، وهو قوله :﴿ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ﴾ أي في وسط الجحيم كقوله عز وجل ﴿ سواء السبيل ﴾ [ المائدة : ١٢ ] أي وسطه.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل: لنظر ماله، في م، لينظر ما حاله..
٣ في الأصل و م: فإنما..
٤ في الأصل و م: إنما..
٥ في الأصل و م: سببان..
٦ في الأصل و م: أنها..
٧ في الأصل و م: فيرون أن..
٨ في الأصل: والنار مما تحرقه وتفنى، في م، ما يحرقه ويفنى..
٩ من م، في الأصل: يجعله..


الآية ٥٦ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ قال تالله إن كدت لتُردينِ ﴾ أي هممت لتُغويني. وكذا في حرف ابن مسعود ﴿ لتُردين ﴾ لتغويني.
وقال الكسائي : تالله، و : بالله، و : والله بغير واو لغات. يخبر أن بالله يكون على الأسف مرجعها إلى سفاه : يقول : لولا أن الله أنعم عليّ بالهدى، ولولا أن الله رحمني، فهداني، المعنى واحد، يقول له : اترك دينك، واتبعني.
و ﴿ قال تالله إن كدت لتُردينِ ﴾ أي لتُهلِكني، يقال : رديت فلانا، أي أهلكته، والرّدى الموت والهلاك، وهو قول أبي عوسجة والقتبي.
وقوله تعالى :﴿ لمدينون ﴾ قال بعضهم : لمُحاسَبون، وقال أبو عوسجة والقتبي : لمجزيّون. والدين الجزاء.
وقال [ بعضهم ]٢ :﴿ بيض مكنون ﴾ أي مستور، لا يصيبه غبار ولا وسخ، وقوله :﴿ إن كدت لتدرين ﴾ أي هممت، وأردت أن تهلكني، وتغويني، لو أجبتك، واتبعتك، في ما دعوتني إليه، وسألتني.
١. ساقطة من الأصل و م..
٢ ساقطة من الأصل و م..
والهلاك؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ.
وقوله: (لَمَدِينُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لمحاسبون.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: لمجزيون، والدِّين: الجزاء.
وقال: (بَيْضٌ مَكْنُونٌ): مستور، لا يصيبه غبار ولا وسخ.
وقوله: (إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي: هممت، وأردت أن تهلكني وتغويني لو أجبتك واتبعتك فيما أدعوتني، إليه وسألتني.
ثم أخبر أنه (وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) معه، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن عليه هداية كل أحد ما لو منعه عنه كان جائرا في منع ذلك، وهذا الرجل أخبر أنه بنعمته ورحمته اهتدى ما اهتدى، وأنه لو لم يكن منه إليه نعمة، لكان من المحضرين فيها، فهو أعرف بربه من المعتزلة، وكذلك الشيطان وجميع الكفرة أعرف بنعمة ربهم من المعتزلة؛ لأنهم قالوا: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ)، (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، ومثله كثير في القرآن: أنهم جميعًا رأوا الهداية لهم من اللَّه نعمة ورحمة ولم يعط الكفرة ذلك، والمعتزلة يقولون: بل هدى كل كافر ومشرك لكنه لم يهتد، وأهل الجنة قالوا أيضًا: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)، وقالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا)، ومثله كثير في القرآن، واللَّه أعلم.
وقوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩)
يحتمل قوله: (أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) على الإيجاب والإلزام، ليس على الاستفهام، وسؤال بعضهم بعضًا: ألا نموت فيها ولا نعذب، وإذ لم نمت ولم نعذب فيها، فإذن كان ذلك فوزا عظيمًا؛ ولذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي: أن هذا استفهام تعيين وفي القرآن كثير مثله، وقال: قد يكون الاستفهام على التعجيب، ويكون على التعيين، ويكون على الجهالة، ويكون قوله: (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى) أي: بعد موتتنا الأولى؛ لأنه بعد إذاقتهم الموتة الأولى؛ فإنهم لا يذوقون ثانيًا.
الآيتان ٥٨ و٥٩ وقوله تعالى :﴿ أفما نحن بميّتين ﴾ ﴿ إلا موتتنا الأولى ﴾ يحتمل قوله أن يكون قوله :﴿ أفما نحن بميّتين ﴾ على الإيجاب والإلزام [ أي لا نموت إذا دخلنا الجنة. ويحتمل ]١ على الاستفهام وسؤال بعضهم بعضا : ألا نموت ؟ ولا نعذَّب ؟ وإذا لم نمت، ولم نعذَّب، فإذن كان [ فوزنا ]٢ فوزا عظيما.
وكذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي أن هذا استفهام يقين، وفي القرآن كثير مثله. وقال قد يكون الاستفهام على التعجيب، ويكون [ على اليقين، ويكون على ]٣ الجهالة. ويكون قوله :﴿ إلا موتتنا الأولى ﴾ [ إلا بمعنى بعد، إذ الموتة الأولى ]٤ قد مضت [ ولا يتصوّر تذوّقها ]٥ ثانيا.
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: ليس..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ من م، في الأصل: عن..
٤ في م: أي بعد موتتنا الأولى إلا بعد إذ موتة الأولى، ساقطة من الأصل..
٥ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: لا يذوقون..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٨:الآيتان ٥٨ و٥٩ وقوله تعالى :﴿ أفما نحن بميّتين ﴾ ﴿ إلا موتتنا الأولى ﴾ يحتمل قوله أن يكون قوله :﴿ أفما نحن بميّتين ﴾ على الإيجاب والإلزام [ أي لا نموت إذا دخلنا الجنة. ويحتمل ]١ على الاستفهام وسؤال بعضهم بعضا : ألا نموت ؟ ولا نعذَّب ؟ وإذا لم نمت، ولم نعذَّب، فإذن كان [ فوزنا ]٢ فوزا عظيما.
وكذلك ذكر أبو معاذ عن الكسائي أن هذا استفهام يقين، وفي القرآن كثير مثله. وقال قد يكون الاستفهام على التعجيب، ويكون [ على اليقين، ويكون على ]٣ الجهالة. ويكون قوله :﴿ إلا موتتنا الأولى ﴾ [ إلا بمعنى بعد، إذ الموتة الأولى ]٤ قد مضت [ ولا يتصوّر تذوّقها ]٥ ثانيا.
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: ليس..
٢ ساقطة من الأصل و م..
٣ من م، في الأصل: عن..
٤ في م: أي بعد موتتنا الأولى إلا بعد إذ موتة الأولى، ساقطة من الأصل..
٥ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: لا يذوقون..

الآيتان ٦٠ و٦١ وقوله تعالى :﴿ إن هذا لهو الفوز العظيم ﴾ ﴿ لمثل هذا فليعمل العاملون ﴾ أي لمثل هذه العاقبة التي أعطينا نحن، وظفر بها، يعمل العاملون، لا لمثل ما فيه صاحبه الذي في النار.
وقوله: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (٦١)
أي: لمثل هذه العاقبة التي أعطينا نحن وظفرنا بها، فليعمل العاملون، لا لمثل ما فيه صاحبه الذي في النار.
* * *
قوله تعالى: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
ثم قال: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ).
يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) من النزل والمقام، أي: المقام الذي نزلنا فيه نحن خير أم شجرة الزقوم.
ويحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا) أن يكون من الأنزال، أي: ما لنا من النعم العظام والمأكل والمشرب خير أم شجرة الزقوم؟
قَالَ بَعْضُهُمْ - أعني: بعض الكفار - عندما خوفوا بها: هل تدرون ما الزقوم؟ هو التمر والزبد، فقالوا: هذا الذي يخوفنا به مُحَمَّد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن محمدًا يدعي أن تكون الشجرة في النار، والنار من طبعها أن تحرق الشجر وتأكله، فكيف يكون في النار الشجرة؟! تكذيبًا منهم وإنكارًا لذلك، فأخبرهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عن تلك الشجرة وعن حالها فقال: (إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) أخبر أن تلك الشجرة خرجت من أصل الجحيم وأنشئت منها، والشجرة التي أنشئت من النار لا تأكلها النار ولا تحرقها وإنما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها، ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون نشوءه وبدؤه من كل شيء ألا يهلكه كونه في ذلك؛ كالسمك الذي يكون أصل نشوئه في الماء، لا يهلكه الماء وكذلك جميع دواب البحر وإن كان غيرها من الدواب في البرية يهلك فيه ويتلف؛ فعلى ذلك الشجرة المنشأة منها لا تهلكها النار ولا تحرقها، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها وتحرقها، واللَّه أعلم.
الآية ٦٢ قم قوله١ تعالى :﴿ أذلك خير نزلا أم شجرة الزّقوم ﴾ يحتمل قوله عز وجل ﴿ أذلك خير نزلا ﴾ من المنزل أو المقام، أي المقام الذي نزلنا فيه خير ﴿ أم شجرة الزقوم ﴾ ؟
ويحتمل قوله عز وجل :﴿ أذلك خير نزلا ﴾ أن يكون من الإنزال، أي مالنا من الطعام٢ والمأكل والمشرب خير ﴿ أم شجرة الزقوم ﴾ ؟
قال بعضهم، أعني بعض الكفار لبعض لما خُوّفوا بها : هل تدرون ما الزقوم ؟ هو التمر والزُّبد، فقالوا : بهذا الذي يخوّفنا به محمد.
وقال بعضهم : إن محمدا يخوّفنا بشجرة في النار [ والنار ]٣ من طبعها أن تحرق الشجر، وتأكله، فكيف تكون في النار شجرة ؟ تكذيبا منهم وإنكارا لها.
١ في الأصل و م: قال..
٢ في الأصل و م: العظام..
٣ من م، ساقطة من الأصل وم..
الآيات ٦٣ و٦٤ و٦٥ فبيّن الله عز وجل تلك الشجرة [ وأخبر ]١ عن حالها، فقال :﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ ﴿ إنها شجرة تخرج في أصل جهنم ﴾ ﴿ طلعها كأنه رءوس الشياطين ﴾ أخبر أن تلك الشجرة من أصل الجحيم، وأُنشئت، والشجرة التي أنشئت من النار، لا تأكلها النار، ولا تحرقها، كما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها.
ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون منشؤُه وبدؤُه من٢ شيء، لا يهلكه كونه في ذلك [ الشيء، كالسمك ]٣ الذي يكون أصل نشوئه في الماء، وكذلك جميع دواب البحر، وإن كان غيرها من الدواب في البرّية تهلك فيها، وتتلف.
فعلى ذلك الشجرة المنشأة [ في النار، لا تهلكها ]٤ النار، ولا تحرقها، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها، وتحرقها، والله أعلم.
والجحيم : قيل : هو معظم النار وغِلظها، يقال : جحمت النار، أي أعظمتها، يقال : نار جحيمة أي عظيمة.
وقوله تعالى :﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : إن نوعا من الحيات يسمَّين شياطين، لها رؤوس سود، قِباح، له عُرف كعرف الفرس. وطلع تلك الشجرة، وثمرتها لقبحها وسوادها كرؤوسي٥ تلك الحيات، والله أعلم.
وقال بعضهم : هو نوع من /٤٥٣-أ/ النبات في البادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح، شبّه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات.
وقال بعضهم : إن جبالا بمكة سود قباح، يستقبحها أهل مكة، سمّوها شياطين، شبّه ثمار تلك الشجرة وطلعها برؤوس تلك الجبال، والله أعلم.
وقال بعضهم : لا، ولكن حقيقة [ رؤوس ]٦ الشياطين، لأن الله عز وجل جعل الشياطين في قلوب أولئك الكفرة فضل بُغض وقبح ونفار منها، وإن يروها، ولم يعاينوها، فشبّه طلع تلك الشجرة برؤوس الشياطين لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة.
وفي ذلك آية عظيمة لرسالته صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم، ولا عرفوهم معاينة، وإنما عرفوهم بأخبار الرسل عليهم السلام مما استنكروها، واستقبحوها، وهم لا يؤمنون بالرسل عليهم السلام فإذا قبلوا أخبار رسل الله فيهم لزمهم أن يقبلوا قوله في الرسالة وفي جميع ما أخبر، والله أعلم.
وقوله تعالى :{ ﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ يحتمل قوله ﴿ فتنة ﴾ يعني به الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم، وهي شجرة الزقوم عذابا للظالمين كقوله :﴿ يوم هم على النار يُفتنون ﴾ أي يعذّبون ﴿ ذوقوا فتنتكم ﴾ أي عذابكم ﴿ هذا الذي كنتم به تستعجلون ﴾ [ الذاريات : ١٣ و١٤ ].
ويحتمل قوله :﴿ جعلناها ﴾ أي تلك الشجرة الزقوم ﴿ فتنة للظالمين ﴾ في الدنيا [ وجهين :
أحدهما : الفتنة ]٧ بها لهم هي إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا أن النار تحرق، وتأكل الشجر، فكيف يكون فيها شجر ؟ إنكارا وتكذيبا بها.
والثاني : ما ذكر بعضهم : أن الزّقوم، هو الزُّبد والتمر، صار ذلك فتنة لما ذكرنا وسببا لعذابهم، والله أعلم.
١ في الأصل و م: و..
٢ أدرج بعدها في الأصل و م: كل..
٣ في الأصل: السمك، في م: كالسمك..
٤ في الأصل: منها لا تهلكها، في م: منها لا يهلكه..
٥ في الأصل و م: برؤوس من..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل وم: وجهة الغصة..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:الآيات ٦٣ و٦٤ و٦٥ فبيّن الله عز وجل تلك الشجرة [ وأخبر ]١ عن حالها، فقال :﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ ﴿ إنها شجرة تخرج في أصل جهنم ﴾ ﴿ طلعها كأنه رءوس الشياطين ﴾ أخبر أن تلك الشجرة من أصل الجحيم، وأُنشئت، والشجرة التي أنشئت من النار، لا تأكلها النار، ولا تحرقها، كما تأكل غيرها من الأشجار التي لم تنشأ منها.
ومثل هذا جائز أن يكون الشيء الذي يكون منشؤُه وبدؤُه من٢ شيء، لا يهلكه كونه في ذلك [ الشيء، كالسمك ]٣ الذي يكون أصل نشوئه في الماء، وكذلك جميع دواب البحر، وإن كان غيرها من الدواب في البرّية تهلك فيها، وتتلف.
فعلى ذلك الشجرة المنشأة [ في النار، لا تهلكها ]٤ النار، ولا تحرقها، وإن كان غيرها من الأشجار تأكلها، وتحرقها، والله أعلم.
والجحيم : قيل : هو معظم النار وغِلظها، يقال : جحمت النار، أي أعظمتها، يقال : نار جحيمة أي عظيمة.
وقوله تعالى :﴿ طلعها كأنه رؤوس الشياطين ﴾ اختلف فيه :
قال بعضهم : إن نوعا من الحيات يسمَّين شياطين، لها رؤوس سود، قِباح، له عُرف كعرف الفرس. وطلع تلك الشجرة، وثمرتها لقبحها وسوادها كرؤوسي٥ تلك الحيات، والله أعلم.
وقال بعضهم : هو نوع من /٤٥٣-أ/ النبات في البادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح، شبّه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات.
وقال بعضهم : إن جبالا بمكة سود قباح، يستقبحها أهل مكة، سمّوها شياطين، شبّه ثمار تلك الشجرة وطلعها برؤوس تلك الجبال، والله أعلم.
وقال بعضهم : لا، ولكن حقيقة [ رؤوس ]٦ الشياطين، لأن الله عز وجل جعل الشياطين في قلوب أولئك الكفرة فضل بُغض وقبح ونفار منها، وإن يروها، ولم يعاينوها، فشبّه طلع تلك الشجرة برؤوس الشياطين لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة.
وفي ذلك آية عظيمة لرسالته صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم، ولا عرفوهم معاينة، وإنما عرفوهم بأخبار الرسل عليهم السلام مما استنكروها، واستقبحوها، وهم لا يؤمنون بالرسل عليهم السلام فإذا قبلوا أخبار رسل الله فيهم لزمهم أن يقبلوا قوله في الرسالة وفي جميع ما أخبر، والله أعلم.
وقوله تعالى :{ ﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ يحتمل قوله ﴿ فتنة ﴾ يعني به الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم، وهي شجرة الزقوم عذابا للظالمين كقوله :﴿ يوم هم على النار يُفتنون ﴾ أي يعذّبون ﴿ ذوقوا فتنتكم ﴾ أي عذابكم ﴿ هذا الذي كنتم به تستعجلون ﴾ [ الذاريات : ١٣ و١٤ ].
ويحتمل قوله :﴿ جعلناها ﴾ أي تلك الشجرة الزقوم ﴿ فتنة للظالمين ﴾ في الدنيا [ وجهين :
أحدهما : الفتنة ]٧ بها لهم هي إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا أن النار تحرق، وتأكل الشجر، فكيف يكون فيها شجر ؟ إنكارا وتكذيبا بها.
والثاني : ما ذكر بعضهم : أن الزّقوم، هو الزُّبد والتمر، صار ذلك فتنة لما ذكرنا وسببا لعذابهم، والله أعلم.
١ في الأصل و م: و..
٢ أدرج بعدها في الأصل و م: كل..
٣ في الأصل: السمك، في م: كالسمك..
٤ في الأصل: منها لا تهلكها، في م: منها لا يهلكه..
٥ في الأصل و م: برؤوس من..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ في الأصل وم: وجهة الغصة..

والجحيم: قيل: هو معظم النار وغلظها، يقال: أجحمت النار، أي: أعظمتها، يقال: نار جحيمة، أي: عظيمة.
وقوله: (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥)
اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن نوعًا من الحيَّات يسمين: شياطين، لها رءوس سود قباح، لها عرف كعرف الفرس، وأشبه، طلع تلك الشجرة وثمرتها لقبحها وسوادها برءوس من تلك الحيات، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو نوع من النبات بالبادية يستقبحه الناس أشد الاستقباح، شبه طلع تلك الشجرة وثمرتها بذلك النبات.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن جبالا بمكة سود قباح يستقبحها أهل مكة سموها: شياطين، شبه ثمار تلك الشجرة وطلعها برءوس تلك الجبال، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لا ولكن حقيقة رءوس الشياطين؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - جعل للشياطين في قلوب أُولَئِكَ الكفرة فضل بغض وقبح والنفار منها وإن لم يروها ولم يعاينوها، فشبه طلع تلك الشجرة برءوس الشياطين؛ لفضل إنكارهم وبغضهم إياها حقيقة، وفي ذلك آية عظيمة لرسالته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لم يروا الشياطين ببصرهم ولا عرفوهم معاينة، وإنَّمَا عرفوهم بأخبار الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وبها استنكروها واستقبحوها وهم قوم لا يؤمنون بالرسل - عليهم السلام - فإذا قبلوا أخبار رسل الله فيهم، لزمهم أن يقبلوا قولهم في الرسالة وفي جميع ما أخبروا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ):
يحتمل قوله: (فِتْنَةً)، يعني به: الشجرة التي أنشئت من أصل الجحيم، وهي شجرة الزقوم أجعلها، عذابًا للظالمين، يعني به: الشجرة؛ كقوله: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ)، أي: يعذبون، (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي: عذابكم، (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ).
ويحتمل قوله: (جَعَلْنَاهَا)، أي: تلك الشجرة: الزقوم، (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) في الدنيا وجهة القصة بها لهم: هو إنكارهم إياها من الجهة التي ذكروا: أن النار تحرق وتأكل
الشجر، فكيف يكون فيها شجر؟! إنكارًا لها وتكذيبًا بها.
والثاني: ما ذكر بعضهم: أن الزقوم هو الزبد والتمر، صار ذلك فتنة لهم؛ لما ذكرنا وسببًا لعذابهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا... (٦٦)
أي: من الشجرة الزقوم، ذكر أنها تخرج من أصل الجحيم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ).
جائز أن يشدد اللَّه عليهم الجوع حتى يأكلوا منها فيملئون بطونهم منها؛ كقوله - عز وجل -: (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ)، وهي الإبل التي تملأ بطونها من المسايم، لا يغني ذلك الشرب وهو الحميم، ولا يدفع عنهم العطش الذي يكون بهم؛ فعلى ذلك ما جعل طعامهم من تلك الشجرة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ. طَعَامُ الْأَثِيمِ...) الآية، إنهم وإن ملئوا بطونهم فإن ذلك لا يدفع عنهم الجوع؛ كقوله: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)، واللَّه أعلم.
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا... (٦٧)
وفي حرف عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ).
أي: ثم إن لهم على تلك الشجرة التي جعل طعامهم منها خلطًا من حميم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨)
أي: ثم إن مردهم، أي: ثم إنهم يردون إلى الجحيم لا أنهم يرجعون بأنفسهم، ولكن يردون فيها؛ كقوله: (ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ)، هم لا يدخلون فيها ولكن يدفعون فيها؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، والجحيم: هو معظم النار على ما ذكرنا، يقال: نار جاحمة، أي: عظيمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩)
أي: وجدوا آباءهم ضالين.
(فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
الآية ٦٧ وقوله تعالى :﴿ ثم إن لهم عليها لشَوْبًا من حميم ﴾ أي ثم إن تلك الشجرة التي جعل طعامهم منها خلطا من حميم.
الآية ٦٨ وقوله تعالى :﴿ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم ﴾ أي إن مردّهم، أي ثم إنهم يُردّون إلى الجحيم لا أنهم يرجعون بأنفسهم، ولكن يردّون فيها كقوله :﴿ فادخلوا أبواب جهنم ﴾ [ النحل : ٢٩ ] هم لا يدخلون فيها، ولكن يُدفعون فيها كقوله عز وجل :﴿ يوم يُدعون إلى نار جهنم دعًّا ﴾ [ الطور : ١٣ ].
[ وفي حرف ابن مسعود رضي الله عنه : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ]١ والجحيم، هو معظم النار على ما ذكرنا، يقال : نار جاحمة أي عظيمة.
الآية ٦٩ [ وقوله عز وجل ]٢ :﴿ إنهم ألْفَوا آباءهم ضالين ﴾ أي وجدوا آباءهم ضالّين.
١ أدرجت هذه العبارة في الأصل وم بعد: ﴿لا يسمن ولا يغني من جوع﴾ والله أعلم..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
الآية ٧٠ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ فهم على آثارهم يُهرَعون ﴾ فيه أن ما ذكر من العذاب للأتباع منهم لا للمتبوعين. ولم يذكر عذاب المتبوعين في الآية حين٢ قال :﴿ إنهم ألفوا آباءهم ضالين ﴾ ﴿ فهم على آثارهم يُهرَعون ﴾ قال بعضهم : يسرعون، وهو شبه الهرولة والإسراع، وهو قول القتبي وأبي عوسجة. وقال بعضهم : يُهرعون أي يسعون، وهما واحد.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: حيث..
فيه أن ما ذكر من العذاب للأتباع منهم لا للمتبوعين، ولم يذكر عذاب المتبوعين في الآية حيث قال: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون وهو شبه الهرولة، والإهراع: هو الإسراع؛ وهو قول الْقُتَبِيّ وأبي عَوْسَجَةَ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يُهْرَعُونَ) أي: يسعون؛ وهما واحد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١)
يقول - واللَّه أعلم -: ولقد ضل قبل قومك يا مُحَمَّد من الأولين أكثرهم من الأمم الخالية من لدن آدم فهلم جزا إلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وعلى آدم ومن بينهما من النبيين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢)
أي: لقد أرسلنا في الذين ضلوا قبل قومك منذرين ينذرونهم، ما من قوم إلا بعث إليهم نذير كما أرسلناك إلى قومك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
يقول - واللَّه أعلم -: انظر كيف صنعنا بمن أنذرنا بالعاقبة فلم يؤمن ولم يقبل ولم ينفعه النذارة.
(إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
استثنى المخلصين منهم، وهم الذين نفعتهم النذارة وقبلوها؛ فنجوا مما ذكر من عذابهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أنه سماهم المخلصين؛ لما اصطفاهم اللَّه وأخلصهم لعبادته.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ...) الآية.
قَالَ بَعْضُهُمْ: حين دعا ربه فقال - عليه السلام -: (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ)، فكأنه إنما دعا ربه بالهلاك على قومه، فأجاب اللَّه دعاءه، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ...)، إلى آخر ما ذكر.
الآية ٧٢ وقوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا فيهم منذرين ﴾ أي لقد أرسلنا في الذين ضلوا قبل قومك منذرين ينذرونهم، ما من قوم إلا بُعث إليهم نذير كما أرسلنا قومك.
الآية ٧٣ وقوله تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ يقول، والله أعلم : انظر كيف صنعنا بمن أنذرنا بالعاقبة، فلم يؤمن، ولم يقبل، ولم تنفعه النذارة.
الآية ٧٤ [ وقوله تعالى ]١ :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ استثنى المخلصين منهم، وهم الذين نفعتهم النذارة، وقبلوها، فنجوا مما ذكر من عذابهم، والله أعلم. ويحتمل أنه٢ سماهم المخلصين لما اصطفاهم، وأخلصهم لعبادته.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: أنهم..
الآية ٧٥ وقوله تعالى :﴿ ولقد نادانا نوح فلنِعم المجيبون ﴾ قال بعضهم : حين دعا ربه، فقال :﴿ أني مغلوب فانتصر ﴾ [ القمر : ١٠ ] فكأنه دعا ربه بالهلاك على قومه، فأجاب الله دعاءه، وهو ما قال عز وجل ﴿ ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر ﴾ إلى آخر ما ذكر ﴿ ولقد تركناها آية فهل من مدّكر ﴾ [ القمر : ١١ -١٥ ]١.
ثم [ بيّن تعالى ]٢ أن الرسل عليهم السلام هم مخصوصون بأمرين٣ من بين غيرهم من الناس :
أحدهما : أن ليس لهم الدعاء على قلوبهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من الله عز وجل بالدعاء عليهم. فنوح عليه السلام إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.
والثاني : لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من الله عز وجل على ذلك. ولذلك جاء العتاب ليونس عليه السلام والتعبير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بهم بلا إذن كان من ربه حين٤ قال عز وجل :﴿ وذا النون إذ ذهب مُغاضبًا فظن أن لن نقدر عليه ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ].
هما خصلتان٥ لهم خاصة، صلوات الله عليهم، وأما لغيرهم من أهل الدين فلهم أن يدعوا على الفَجَرة والفَسقة منهم باللعن والهلاك، فلهم أن يفرّوا منهم، وأن يخرجوا من بين أظهرهم لفسقهم وفجورهم، وكان هذا يعدّ من صالح الأعمال لهم.
وقوله تعالى :﴿ فلنِعم المجيبون ﴾ وهو رب، تبارك، وتعالى، ذكر المجيبين على الجماعة أنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك في ما بينهم.
ثم كل فعل، يضاف إلى الله تعالى، [ مما يُنسَب إلى غيره في الجملة ]٦ فإنه يزاد فيه شيء٧، يكون فاصلا بينه٨ وبين فعل غيره [ دفعا لوهم المشابهة والشركة عن قلوب الناس كما يقال : إنه عالم لا كالعلماء ونحو ]٩ ما قال عز وجل في موضع آخر :﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ [ هود : ٤٥ ] [ ونحو قوله :[ فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : ١٤ ] ]١٠. مما يُكثر ذلك، لأنه قادر على وفاء ما وعد، وأخبر، وإنجاز ذلك، لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق، لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: أمر..
٣ في الأصل وم: بهما..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ من م، في الأصل: فضلتان..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: فيه غيره أو ينسب..
٧ في الأصل وم: شيئا..
٨ أدرج قبلها في الأصل و م: وذلك..
٩ من نسخة الحرم المكي، في الأصل نحو، في م: ونحو قوله: عالم لا كالعلماء ونحوه، مدرجة بعد ﴿وأنت أحكم الحاكمين﴾..
١٠ من نسخة المكي، ساقطة من الأصل وم..
ثمة أمران الرسل - عليهم السلام - هم مخصوصون بهما من بين غيرهم من الناس: أحدهما: أن ليس لهم الدعاء على قومهم بالهلاك وسؤال العذاب عليهم إلا بعد مجيء الإذن لهم من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالدعاء عليهم، فنوح - عليه السلام - إنما دعا ربه بإنزال الهلاك عليهم بالإذن من ربه.
والثاني: لم يكن لهم الخروج من بين أظهرهم عند نزول العذاب بهم إلا بإذن من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ذلك؛ ولذلك جاء العتاب ليونس - عليه السلام - والتعيير لما خرج من بينهم عند نزول العذاب بلا إذن كان من ربه حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ...) الآية، هما خصلتان لهم خاصة صلوات اللَّه عليهم، وأما لغيرهم من أهل الدِّين فلهم أن يدعوا على الفجرة والفسقة منهم باللعن والهلاك، فلهم أن يفروا منهم، وأن يخرجوا من بين أظهرهم؛ لفسقهم وفجورهم، وكان هذا يعد من صالح الأعمال لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ).
وهو الرب - تبارك وتعالى - ذكر المجيب على الجماعة: إنا نفعل كذا، وفعلنا كذا، وهو كلام الملوك فيما بينهم، ثم كل فعل يضاف إلى اللَّه - تعالى - يشاركه فيه غيره أو ينسب يزاد فيه شيء يكون فاصلا، وذلك يينه وبين فعل غيره؛ نحو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ - في موضع آخر: (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، ونحو قوله: (عَالِم)، لا كالعلماء ونحوه مما يكثر ذلك؛ لأنه قادر على وفاء ما وعد وأخبر وإنجاز ذلك لا يعجزه شيء، وغيره من الخلائق لعلهم لا يقدرون على وفاء ذلك والقيام بإنجاز ما وعدوا؛ لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
يحتمل نجاته من الكرب العظيم هو دعاؤه قومه إلى توحيد اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - تسعمائة وخمسين سنة، وما قاساه منهم من أنواع الأذى من التكذيب وغيره، فأنجاه اللَّه من كرب ذلك حين أهلكهم.
ويحتمل: (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو القول الشديد وهو الغرق، أغرق قومه وأنجاه منه، سماه: عظيمًا؛ لشدة ما أصابهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧)
أي: جعلنا ذرية نوح - عليه السلام - من بين سائر ولد آدم وذريتهم هم الباقين، وأهلكنا غيرهم؛ ولذلك كان بقاء نسله إلى يومنا هذا وهلك نسل غيره، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)
الآية ٧٧ وقوله تعالى :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ أي جعلنا ذرّية نوح عليه السلام من بين سائر ولد آدم وذرياتهم، وأهلك غيرهم. ولذلك كان بقي نسله إلى يومنا هذا، وهلك نسل غيره، والله أعلم.
الآيتان ٧٨ و٧٩ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على إثره من السلام حين١ قال عز وجل ﴿ سلام /٤٥٣-ب/ على نوح في العالمين ﴾ أي أبقينا [ على نوح ]٢ السلام الحسن في الآخرين حتى يُثنوا عليه جميعا [ ويصدّقوه، ويقولوا ]٣ فيه خيرا وحسنا، والله أعلم.
ويحتمل ما قاله بعضهم :﴿ سلام على نوح في العالمين ﴾ [ أي يسلّم عليه ]٤ جميع العالمين في جميع الأوقات كما سلّم عيسى على نفسه حين٥ قال :﴿ والسلام على يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيا ﴾ [ مريم : ٣٣ ] وما سلّم [ الله تعالى بنفسه ]٦ على يحيى عليه السلام حين٧ قال :﴿ وسلام عليه يوم وُلد ويوم يموت ويم يُبعث حيا ﴾ [ مريم : ١٥ ].
ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي [ كل ]٨ يوم في الأوقات كلها، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: ويصدقون ويقولون..
٤ في الأصل وم: إليه..
٥ في الأصل وم: حيث..
٦ ساقطة من الأصل وم.
٧. في الأصل وم: حيث.
٨. ساقطة من الأصل وم.
يشبه أن يكون ما ذكر أنه ترك في الآخرين ما ذكر على أثره من السلام حيث قال - عز وجل -: (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) أي: أبقينا عليه الثناء الحسن في الآخرين حتى يثنوا عليه جميعًا ويصدقوه ويقولوا فيه خيرًا وحسنًا، واللَّه أعلم.
ويحتمل ما قَالَ بَعْضُهُمْ: سلام اللَّه على نوح في العالمين، وسلم إليه جميع العالمين في جميع الأوقات، كما سلم عيسى على نفسه حيث قال: (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)، وما سلم على يحيى - عليه السلام - حيث قال: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)، ذكر السلام عليهما في أوقات ثلاثة وفي نوح في الأوقات كلها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠)
أي: إنا هكذا نجزي كل محسن، فجزاه اللَّه بإحسانه إلينا الحسن في العالمين، رغب الناس في الإحسان: إما إلى الخلق، وإما إلى أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)
وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له وهو من أولي العزم من الرسل، لكن يحتمل ذكره إياه أنه من المؤمنين وجوهًا:
أحدها: أنه من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة وقبل أن يبعث رسولا، أي: لم يصر مؤمنًا وقت الرسالة، ولكن كان لم يزل مؤمنًا قبل الرسالة.
والثاني: أنه من عبادنا المؤمنين بك يا مُحَمَّد؛ يذكر هذا ليسر به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويفرح عليه، والرسل - عليهم السلام - جميعًا يؤمن بعضهم ببعض.
والثالث: أنه كان من عبادنا المؤمنين المحققين الموفين، أي: وفاء ما اعتقد بلسانه، وهكذا كان الرسل كلهم موفين ما اعتقدوا وأعطوا بلسانهم، وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه، لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا بل يقع - ربما - في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا
الآية ٨٠ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ أي إنا هكذا نجزي كل محسن، فجزاء الله بإحسانه إلينا [ الثناء ]١ الحسن في العالمين. رغّب الناس في الإحسان إما إلى الخلق وإما إلى أنفسهم، والله أعلم.
١. ساقطة من الأصل وم..
الآية ٨١ وقوله تعالى :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ وليس في ذكره أنه من المؤمنين كثير منفعة له، وهو من أولي العزم من الرسل. لكن يحتمل ذكره إياه من المؤمنين وجوها :
أحدها :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ قبل الرسالة أي١ قبل أن يُبعث رسولا أي لم يصر مؤمنا قبل الرسالة.
والثاني :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ بك يا محمد. يذكر هذا ليُبشّر به صلى الله عليه وسلم نوح عليه السلام والرسل عليهم السلام، فيؤمن٢ بعضهم ببعض.
والثالث : أنهم كلَّهم من عبادنا المحقّقين الموقنين بقلوبهم٣ ما اعتقدوا بلسانهم٤. وهكذا كان الرسل كلهم موقنين ما اعتقدوا، وأعطوا بلسانهم. وهكذا يعتقد كل مؤمن في أصل إيمانه واعتقاده ألا يعصي ربه، وألا يخالفه في شيء من أموره ونواهيه. لكنه لا يفي ما اعتقده فعلا، بل يقع ربما في معاصيه وفي مخالفة أمره ونهيه، والله أعلم.
١ في الأصل وم: و..
٢ الفاء ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: أي وفاء..
٤ في الأصل وم: بلسانه..
الآيات ٨٢ و٨٣ و٨٤ وقوله تعالى :﴿ ثم أغرقنا الآخرين ﴾ ﴿ وإن من شيعته لإبراهيم ﴾ ﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ أي إبراهيم عليه السلام من شيعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : على دينه ومنهاجه. وقال بضعهم : من شيعة نوح، أي إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام على ما تقدم [ من ]١ ذكر نوح عليه السلام حين٢ قال :﴿ ولقد نادانا نوح ﴾ [ الصافات : ٧٥ ] إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه. [ وقال ]٣ :﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ من جميع ما يمنعه من الإجابة لربه في ما دعاه والصبر على ما امتحنه، وابتلاه، والله أعلم. وعلى ذلك سمّاه الله عز وجل في كتابه الكريم :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] جميع ما أمر به، وامتحن به، والله أعلم.
وجائز أن يكون ذلك في الآخرة، يقول :﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ كقوله عز وجل :﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ [ البقرة : ١٣٠ ] أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قبله، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل و م: وقيل لذكرها..
لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣)
أي: إبراهيم - عليه السلام - من شيعة نبينا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يقول على دينه ومنهاجه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من شيعة نوح، أي: إبراهيم من شيعة نوح - عليهما السلام - على ما تقدم ذكر نوح - عليه الصلاة والسلام - حيث قال: (نَادَانَا نُوحٌ...) إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه.
وقيل: لذكرها (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) عن جميع ما يمنعه من الإجابة لربه فيما دعاه، والصبر على ما امتحنه وابتلاه، واللَّه أعلم.
وعلى ذلك سماه اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه الكريم: (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى)، جميع ما أمر به وامتحن به، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون ذلك في الآخرة يقول: (جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قلبه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ) قد اختلف سؤال إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - بقوله مرة: قال لهم (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، ومرة قال: (مَاذَا تَعْبُدُونَ)، ثم ذكر في غير هذا الموضع إجابتهم إياه حيث قالوا: (نَعْبُدُ أَصْنَامًا)، وما قالوا: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، ولم يذكر هاهنا شيئًا قالوه له، ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليعلم أن تغيير الحروف والألفاظ لا يغير المعنى، وكذلك جميع القصص التي ذكرت في الفرآن يذكرها مكررة معادة مختلفة الألفاظ والحروف والقصة واحدة؛ ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦)
يقول - واللَّه أعلم -: إفكا أي: كذبًا تمسككم بالأصنام التي تعبدونها من دونه، يقول: كذبًا ذلك، ليست بآلهة دون اللَّه وعبادته.
أو يقول: إفكا، أي: كذبًا الآلهة التي اتخذتموها آلهة دون اللَّه، يريدون أن
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٢:الآيات ٨٢ و٨٣ و٨٤ وقوله تعالى :﴿ ثم أغرقنا الآخرين ﴾ ﴿ وإن من شيعته لإبراهيم ﴾ ﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ أي إبراهيم عليه السلام من شيعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : على دينه ومنهاجه. وقال بضعهم : من شيعة نوح، أي إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام على ما تقدم [ من ]١ ذكر نوح عليه السلام حين٢ قال :﴿ ولقد نادانا نوح ﴾ [ الصافات : ٧٥ ] إلى آخر ذلك أن إبراهيم من شيعته على دينه ومنهاجه. [ وقال ]٣ :﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ من جميع ما يمنعه من الإجابة لربه في ما دعاه والصبر على ما امتحنه، وابتلاه، والله أعلم. وعلى ذلك سمّاه الله عز وجل في كتابه الكريم :﴿ وإبراهيم الذي وفّى ﴾ [ النجم : ٣٧ ] جميع ما أمر به، وامتحن به، والله أعلم.
وجائز أن يكون ذلك في الآخرة، يقول :﴿ إذ جاء ربه بقلب سليم ﴾ كقوله عز وجل :﴿ ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾ [ البقرة : ١٣٠ ] أخبر أنه في الآخرة يكون من الصالحين وذلك سلامة قبله، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل و م: وقيل لذكرها..

الآيتان ٨٥ و٨٦ وقوله تعالى :﴿ إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ﴾ ﴿ أئِفكًا آهلة دون الله تريدون ﴾ فقد اختلف سؤال إبراهيم، صلوات الله عليه، [ لأبيه وقومه ]١ : مرة قال لهم :﴿ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ [ الأنبياء : ٥٢ ] ومرة قال :﴿ ماذا تعبدون ﴾ [ الصافات : ٨٥ ].
ثم ذكر في غير [ هذين الموضعين ]٢ إجابتهم إياه حين٣ ﴿ قالوا نعبد أصناما فنظلّ لها عاكفين ﴾ [ الشعراء : ٧١ ] ﴿ وقالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ﴾ [ الأنبياء : ٥٣ ] ولم يذكر ههنا شيئا، قالوه له.
ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليُعلم أن تغيير الألفاظ وتبديل الحروف لا يغيّر المعنى. وكذلك جميع القصص التي ذكرت في القرآن، ذكرها٤ مكرّرة معادة مختلفة الألفاظ والحروف، والقصة واحدة، ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ أئفكا آهلة دون الله تريدون ﴾ يقول، والله أعلم :﴿ أئفكا ﴾ أي أكذبا تسميتكم٥ الأصنام التي تعبدونها من دون الله، يقول :[ كذب، تلك ]٦ ليست بآهلة، دون الله تعبدونها٧. أو يقول :﴿ أئفكا ﴾ أي أكذبا : الآهلة التي اتخذتموها آهلة دون الله : تريدون أن تتخذوا آهلة، وهو قريب [ من ]٨ الأول.
١ في الأصل و م: بقوله..
٢ في الأصل و م: هذا الموضع..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل و م: يذكرها..
٥ في الأصل و م: متمسككم..
٦ في الأصل و م: كذبا ذلك..
٧ في الأصل و م: عبادته..
٨ ساقطة من الأصل و م..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٥:الآيتان ٨٥ و٨٦ وقوله تعالى :﴿ إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون ﴾ ﴿ أئِفكًا آهلة دون الله تريدون ﴾ فقد اختلف سؤال إبراهيم، صلوات الله عليه، [ لأبيه وقومه ]١ : مرة قال لهم :﴿ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ [ الأنبياء : ٥٢ ] ومرة قال :﴿ ماذا تعبدون ﴾ [ الصافات : ٨٥ ].
ثم ذكر في غير [ هذين الموضعين ]٢ إجابتهم إياه حين٣ ﴿ قالوا نعبد أصناما فنظلّ لها عاكفين ﴾ [ الشعراء : ٧١ ] ﴿ وقالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ﴾ [ الأنبياء : ٥٣ ] ولم يذكر ههنا شيئا، قالوه له.
ثم معلوم أنه لا بهذا اللسان أجابوه بما أجابوه، ثم ذكره على اختلاف الألفاظ والحروف ليُعلم أن تغيير الألفاظ وتبديل الحروف لا يغيّر المعنى. وكذلك جميع القصص التي ذكرت في القرآن، ذكرها٤ مكرّرة معادة مختلفة الألفاظ والحروف، والقصة واحدة، ليدل أن المأخوذ والمقصود من الكلام معناه لا لفظه وحروفه، والله أعلم.
ثم قوله عز وجل :﴿ أئفكا آهلة دون الله تريدون ﴾ يقول، والله أعلم :﴿ أئفكا ﴾ أي أكذبا تسميتكم٥ الأصنام التي تعبدونها من دون الله، يقول :[ كذب، تلك ]٦ ليست بآهلة، دون الله تعبدونها٧. أو يقول :﴿ أئفكا ﴾ أي أكذبا : الآهلة التي اتخذتموها آهلة دون الله : تريدون أن تتخذوا آهلة، وهو قريب [ من ]٨ الأول.
١ في الأصل و م: بقوله..
٢ في الأصل و م: هذا الموضع..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل و م: يذكرها..
٥ في الأصل و م: متمسككم..
٦ في الأصل و م: كذبا ذلك..
٧ في الأصل و م: عبادته..
٨ ساقطة من الأصل و م..

يتخذوا آلهة وهو قريب من الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧)
يقول - واللَّه أعلم -: فما ظنكم برب العالمين أن يفعل بكم إذا اتخذتم دونه آلهة، وصرفتم العبادة والشكر عنه إلى من دونه، وقد تعلمون أنه هو المنعم عليكم هذه النعم، وهو أسدى إليكم هذا الإحسان وهو تعالى أداها إليكم.
أو يقول: فما ظنكم برب العالمين أنه يرحمكم ويفعل بكم خيرًا في الآخرة بعد تسميتكم الأصنام: آلهة، وعبادتكم إياها دون اللَّه، بعد علمكم: أنه هو خالقكم، وهو سخر لكم جميع ما في الدنيا وهو أنشأها لكم، فما تظنون به أن يفعل بكم: أن يرحمكم ويسوق إليكم خيرًا؟! أي: لا تظنوا به ذلك، ولكن ظنوا جزاء صنيعكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
أي: سأسقم، وذلك جائز في اللغة؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) للحال؛ فعلى ذلك قول إبراهيم - عليه السلام -: (إِنِّي سَقِيمٌ) أي: سأسقم.
أو يقول: (إِنِّي سَقِيمٌ) وهو صادق؛ إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض وإن قل، فعلى ذلك قول إبراهيم، عليه السلام.
وقول من قال: إن إبراهيم - عليه السلام - كذب ثلاثًا: أحدها: هذا (إِنِّي سَقِيمٌ) فذلك [وخش من القول سمج]، لا جائز أن ينسب الكذب إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو من أنبيائه لا يقع قط في وجه من الوجوه، ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: (إِنِّي سَقِيمٌ) ليخلفوه ويتركوه؛ ليكسر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت، ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم؛ لأن قومه كانوا يعملون بالنجوم ويستعملونها وعلم النجوم، فإن كان ذلك، فهو - واللَّه أعلم - أراد أن يرى من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحجة عند ذلك وهو ما ذكر في قوله: (هَذَا رَبِّي)، و (هَذَا أَكْبَرُ)، ونحوه، قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه؛ ليكون إلزام الحجة عليهم والصرف عما هم عليه أهون وأيسر؛ إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخلق أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين أنه إذا أظهر من نفسه الموافقة له كان ذلك أهون عليه.
الآيتان ٨٨ و٨٩ وقوله تعالى :﴿ فنظر نظرة في النجوم ﴾ ﴿ فقال إني سقيم ﴾ أي سأسقم، وذلك جائز في اللغة كقوله : عز وجل ﴿ { إنك ميّت وإنهم ميّتون ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] للحال. فعلى ذلك قول إبراهيم عليه السام ﴿ إني سقيم ﴾ [ على حقيقته ]١ وهو صادق، إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض، وإن قلّ. فعلى ذلك قول إبراهيم عليه السلام وقول من قال : إن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاثا :
أحدها : هذا ﴿ إني سقيم ﴾ وذلك وحش من القول سمج، لا جائز أن يُنسَب الكذب إلى رسول [ من رسل الله ]٢ تعالى [ أو نبي ]٣ من أنبيائه عليهم السلام ولا٤ يقع قط في وجه من الوجوه.
ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم ﴿ فقال إني سقيم ﴾ ليخلّفوه، ويتركوه، ليكسّر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت.
ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم لأن قومه كانوا يعلمون٥ بالنجوم، ويستعملون علم النجوم. فإن كان ذلك فهو، والله أعلم، أراد أن يري من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحُجّة عند ذلك، وهو ما ذكر في قوله :﴿ هذا ربي ﴾ وقوله ﴿ هذا أكبر ﴾ [ الأنعام : ٧٦ و٧٨ ] نحوه.
قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه، ليكون إلزام الحجة عليهم. والصرف عما هم عليه أهون وأيسر، إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخَلق : أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين لو٦ أظهر من نفسه الموافقة له [ في ذلك، ثم رام صرفه ومنعه عن ذلك كان على ذلك أقدر وأملك من أن يُرِي له المخالفة ]٧.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: الله عز وجل..
٣ في الأصل و م: وهو..
٤ الواو ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل و م: يعملون..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: أنه إذا..
٧ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: عليهم ﴿ضربا باليمين﴾ أي ضربهم ضربا باليمين..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٨:الآيتان ٨٨ و٨٩ وقوله تعالى :﴿ فنظر نظرة في النجوم ﴾ ﴿ فقال إني سقيم ﴾ أي سأسقم، وذلك جائز في اللغة كقوله : عز وجل ﴿ { إنك ميّت وإنهم ميّتون ﴾ [ الزمر : ٣٠ ] للحال. فعلى ذلك قول إبراهيم عليه السام ﴿ إني سقيم ﴾ [ على حقيقته ]١ وهو صادق، إذ ليس من الخلق أحد إلا وبه سقم ومرض، وإن قلّ. فعلى ذلك قول إبراهيم عليه السلام وقول من قال : إن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاثا :
أحدها : هذا ﴿ إني سقيم ﴾ وذلك وحش من القول سمج، لا جائز أن يُنسَب الكذب إلى رسول [ من رسل الله ]٢ تعالى [ أو نبي ]٣ من أنبيائه عليهم السلام ولا٤ يقع قط في وجه من الوجوه.
ويذكر أهل التأويل أن قومه أرادوا أن يخرجوا بإبراهيم إلى عيدهم، فنظر إبراهيم نظرة في النجوم ﴿ فقال إني سقيم ﴾ ليخلّفوه، ويتركوه، ليكسّر أصنامهم التي يعبدونها على ما فعل من الكسر والنحت.
ويذكرون أنه إنما نظر في النجوم لأن قومه كانوا يعلمون٥ بالنجوم، ويستعملون علم النجوم. فإن كان ذلك فهو، والله أعلم، أراد أن يري من نفسه الموافقة لهم ليلزمهم الحُجّة عند ذلك، وهو ما ذكر في قوله :﴿ هذا ربي ﴾ وقوله ﴿ هذا أكبر ﴾ [ الأنعام : ٧٦ و٧٨ ] نحوه.
قال ذلك على إظهار الموافقة لهم من نفسه، ليكون إلزام الحجة عليهم. والصرف عما هم عليه أهون وأيسر، إذ هكذا الأمر بالمعروف في الخَلق : أن من أراد أن يصرف آخر عن مذهب أو دين لو٦ أظهر من نفسه الموافقة له [ في ذلك، ثم رام صرفه ومنعه عن ذلك كان على ذلك أقدر وأملك من أن يُرِي له المخالفة ]٧.
١ ساقطة من الأصل و م..
٢ في الأصل و م: الله عز وجل..
٣ في الأصل و م: وهو..
٤ الواو ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل و م: يعملون..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: أنه إذا..
٧ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: عليهم ﴿ضربا باليمين﴾ أي ضربهم ضربا باليمين..

الآية ٩٠ [ وقوله تعالى :﴿ فتولّوا عنه مدبرين ﴾ أي أعرضوا عنه ذاهبين إلى حاجاتهم وحيث يريدون أن يذهبوا، والله أعلم ]١.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ)، عليهم ضربًا باليمين أي: ضربهم ضربًا باليمين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١)
أي: فراغ إلى ما اتخذوا هم، وسموها آلهة، ذكرها على ما عندهم وعلى ما اتخذوها هم وإلا لم يكونوا آلهة، وكذلك قول موسى: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا) أي: انظر إلى إلهك الذي هو عندك، وإلا لم يكن هو إلهًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ).
كأن طعامًا كان موضوعًا بين يديها؛ لذلك قال: ألا تأكلون؟!
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢)
بحوائجكم، أو يشبه أن يكون قوله: (مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ): أنه من فعل بها ما فعل؛ كقوله: (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (٦٢) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، عمن فعل بهم هذا، سفه قومه في عبادتهم الأصنام، وهي لا تأكل ولا تنطق ولا تملك دفع من قصد بها ضررا، فكيف تطمعون شفاعتها لكم في الآخرة وهي لا تملك ما ذكر؟! واللَّه أعلم؛ وهو كقوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ). وقوله: (فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) أي: مال ورجع عليهم.
وقوله: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: ضربًا مألوفًا ليمينه التي كانت منه حيث قال: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ) بالقوة، وقد يعبر باليمين عن القوة كما يعبر باليد عن القوة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ضَرْبًا بِالْيَمِينِ)، أي: بيده اليمنى نفسها، على ما يعمل المرء أكثر أعماله باليمين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
ظاهر هذا أنهم أقبلوا إليه وقت ما كسرها وفعل بها ما فعل، لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم إليه كان بعد ما خرج من عندها وغاب وكان بعد ذلك بزمان؛ ألا ترى أنهم قالوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) الآية، ولو كانوا أقبلوا إليه مزفين وهو عندها حاضر لم
الآية ٩٢ وقال١ :﴿ ما لكم لا تنطقون ﴾ بحوائجكم. ويشبه أن يكون قوله :﴿ ما لكم لا تنطقون ﴾ أنه من فعل بها ما فعل كقوله :﴿ قالوا من فعل هذا بآلهتنا ﴾ ﴿ قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ﴾ ﴿ قالوا بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ﴾ [ الأنبياء : ٥٩ و٦٢ و٦٣ ] عن من فعل بهم هذا. سفّه قومه في عبادتهم الأصنام، وهي لا تأكل، ولا تنطق، ولا تملك دفع من قصد بها ضررا. كي تطمعون شفاعتها لكم في الآخرة. وهي لا تملك ما ذكر، والله أعلم.
وهو كقوله :﴿ هل يسمعونكم إذ تدعون ﴾ ﴿ أو ينعوكم أو يضروكم ﴾ [ الشعراء : ٧٢ و٧٣ ].
١ في الأصل وم: وقوله..
الآية ٩٣ وقوله تعالى :﴿ فراغ عليهم ضربا باليمين ﴾ أي مال، ورجع عليهم. وقوله :﴿ ضربا باليمين ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم ﴿ ضربا باليمين ﴾ وفاء١ ليمينه التي كانت منه حين٢ قال :﴿ وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولّوا مدبرين ﴾ [ الأنبياء : ٥٧ ] والله أعلم.
وقال بعضهم :﴿ ضربا باليمين ﴾ بالقوة. وقد يعبَّر /٤٥٤-أ/ باليمين عن القوة كما يعبّر باليد عن القوة.
وقال بعضهم :﴿ ضربا باليمين ﴾ أي باليد اليمنى نفسها٣ على ما يعمل المرء [ أكثر ]٤ أعماله باليمين.
١ في الأصل و م: مألوفا..
٢ في الأصل و م: حيث..
٣ في الأصل و م: نفسه..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
الآية ٩٤ وقوله تعالى :﴿ فأقبلوا إليه يزِفّون ﴾ ظاهر هذا أنهم أقبلوا عليه وقت ما كسرها، وفعل بها ما فعل. لكن في آية أخرى ما يدل أن إقبالهم عليه كان بعد ما خرج من عندها، وغاب. وكان بعد ذلك بزمان.
ألا ترى أنهم ﴿ قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين ﴾ ﴿ قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ﴾ ؟ [ الأنبياء : ٥٩ و٦٠ ] ولو كانوا أقبلوا عليه يزفّون، وهو عندها حاضر [ لم يحتاجوا إلى ]١ أن يقولوا :﴿ من فعل هذا بآلهتنا ﴾ بل يقولون : إن إبراهيم فعل ذلك بها، ولا كان لقول إبراهيم ﴿ بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ﴾ [ الأنبياء : ٦٣ ] معنى، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ يزفّون ﴾ قال بعضهم : يمشون إليه. وقال بعضهم : يسرعون، وهو قول أبي عوسجة.
وأصل الزّفيف كأنه المشي بسرعة على ما يسرع في المشي المرء إذا أصابه شيء أو فُعل به أمر، والله أعلم.
١ في الأصل وم: يحتجوا على..
يحتاجوا إلى أن يقولوا: (مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا)، بل يقولون: إن إبراهيم فعل ذلك بها، ولا كان لقول إبراهيم: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ)، معنى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَزِفُّونَ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: يمشون إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: يسرعون؛ وهو قول أبي عَوْسَجَةَ. وأصل التزفيف: كأنه المشي فيه سرعة، على ما يسرع المرء في المشي إذا أصابه شيء أو فعل به أمر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥)
يسفههم بعبادتهم ما ينحتون بأيديهم ويتخذونها بأنفسهم، على علم منهم أنها لا تملك نفعًا ولا ضرًّا، والذي نحتها أولى بالعبادة له أي: أولى بأن يعبد - إن كان يجوز العبادة لمن دونه - من ذلك المنحوت؛ إذ هو يملك شيئًا من النفع والضر والمنحوت لا، فإذا لم تعبدوا الناحت لها والمتخذ وهو أقرب وأنفع، فكيف تعبدون ذلك المنحوت الذي لا يملك شيئا وتركتم عبادة الذي خلقكم وخلق أعمالكم؟!
ثم من أصحابنا من احتج على المعتزلة بهذه الآية في خلق أفعال العباد؛ يقولون: أخبر - عليه السلام - عن خلق أنفسهم وعن خلق أعمالهم حيث قال: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) لكنهم يقولون: ليس فيه دلالة خلق أفعالهم؛ ألا ترى أنه قال عليه السلام: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) وهم لا يعبدون النحت إنما يعبدون ذلك المنحوت؛ فعلى ذلك لم يخلق أفعالهم وأعمالهم، ولكن خلق ذلك المعمول نفسه، وانله أعلم.
لكن الاحتجاج عليهم من وجه آخر في ذلك كأنه أقرب وأولى وهو أن صير ذلك المعمول خلقا لله تعالى بقوله: (خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)؛ لأنهم إنما يعبدون ذلك المعمول وهو، مخلوق لله دل أن عملهم الذي عملوا به مخلوق؛ لذلك قلنا: إن فيه دلالة خلق أعمالهم، واللَّه أعلم ووهو كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) إنما صار التواب والمتطهر محبوبًا لحبه التوبة والتطهر، وصار المعتدي غير محبوب لبغضه الاعتداء، فعلى ذلك المعمول صار مخلوقًا بخلقه عمله، واللَّه أعلم.
الآية ٩٦ ﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ لكنهم يقولون : ليس فيه دلالة خلق أفعالهم١. ألا ترى أنه قال عليه السلام ﴿ أتعبدون ما تنحتون ﴾ وهم لا يعبدون النحت، إنما يعبدون ذلك المنحوت. فعلى ذلك لم يخلق أفعالهم وأعمالهم. ولكن خلق المعمول نفسه، والله أعلم.
لكن الاحتجاج عليهم من وجه آخر في ذلك كأنه أقرب وأولى، وهو أن صيّر ذلك المعمول خلقا [ لنفسه حين٢ أضافه إلى نفسه بقوله ]٣ :﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ [ أي معمولكم ]٤ لأنهم إنما يعبدون ذلك المعمول : خلق الله.
دلّ أن عملهم الذي عملوا به مخلوق. لذلك قلنا : إن فيه دلالة خلق أعمالهم، والله أعلم. وهو كقوله :﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾ [ البقرة : ٢٢٢ ] إنما صار التوّاب والمتطهّر [ محبوب الله ]٥ لحُبّه التوبة والتطهّر، وصار المعتدي غير محبوب لحبّه٦ الاعتداء. فعلى ذلك : المعمول صار مخلوقا بخلقه عمله، والله أعلم.
١ في الأصل وم: الأفعال..
٢ في نسخة الحرم المكي حيث..
٣ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: لله تعالى بقولكم..
٤ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٥ في الأصل و م: محبوبا..
٦ في الأصل و م: لبغضه..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
كأنه قَالَ بَعْضُهُمْ لبعض: ابنوا له بنيانا ليجمع فيه الحطب فتعظم فيه النار فيصير جحيمًا، ثم ألقوا إبراهيم في الجحيم، والجحيم قد ذكرنا أنه معظم النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨)
أي: هالكين، يقولون: ما تأخر اللَّه بعد ذلك حتى أهلكهم.
ويشبه أن يكون ما ذكرنا واللَّه أعلم، فإذا أرادوا إهلاك إبراهيم - عليه السلام - فصاروا من الهالكين، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي وذلك في الآخرة.
ويحتمل: ذاهب إلى ما أمرني ربي، أو إلى ما أذن لي، أي: وقد أمر بالهجرة إلى الأم من مكة.
أو ذاهب إلى ما فيه رضاء ربي، أو طاعة ربي ونحو ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَهْدِينِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: سينجيني مما رأيت من قومي.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني الطريق، وذلك جائز نحو قول موسى - عليه السلام -: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ)، لما توجه إلى مدين؛ فعلى ذلك جائز قول إبراهيم: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي) أي: ذاهب إلى أمر ربي، أي: متوجه إلى ما أمر ني ربي أن أتوجه سيهديني ذلك الطريق، واللَّه أعلم.
الآية ٩٨ وقوله تعالى :﴿ فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين ﴾ أي الهالكين. يقولون : ما أنظرهم الله بعد ذلك حتى أهلكهم. ويشبه أن يكون ما ذكرنا، والله أعلم.
الآية ٩٩ وقوله تعالى :﴿ وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدينِ ﴾ قال بعضهم : ذاهب إلى ربي بقلبي وعملي ونيتي، وذلك في الآخرة.
ويحتمل :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾ أو إلى ما أذن لي [ وقد أمره[ ١ بالهجرة إلى مكة، أو ﴿ ذاهب إلى ﴾ ما فيه رضى ربي أو طاعة ربي ونحو ذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ سيهدين ﴾ قال بعضهم : سيُنجيني مما رأيت من قومي، وقال بعضهم : سيهديني الطريق. وذلك جائز قول موسى عليه السلام :﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾ [ القصص : ٢٢ ] لما توجّه إلى مدين. فعلى ذلك جائز قول إبراهيم عليه السلام :﴿ إني ذاهب إلى ربي ﴾ أي ذاهب إلى أمر ربي أي متوجه إلى ما أمرني ربي أن أتوجه ﴿ سيهدين ﴾ ذلك الطريق، والله أعلم.
وقال بعضهم :﴿ سيهيدنِ ﴾ لدينه. وذلك من٢ هاجر من الخلق ليعلّم٣ دينه. وقد ذكر في حرف حفصة : أني مهاجر إلى ربي سيهديني، والله أعلم.
١ في الأصل و م: أي وقد أمر..
٢ أدرج قبلها في الأصل وم: أي..
٣ أدرج قبلها في الأصل وم: أي..
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سيهديني لدينه وذلك أول ما هاجر من الخلق، أي: ليعلم دينه، وقد ذكر في حرف حفصة: (إني مهاجر إلى ربي سيهدين)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
كأنه قال: رب هب لي غلامًا واجعله من الصالحين، دليل ذلك ما ذكر له من البشارة بالغلام، فدلت البشارة له بالغلام على أثر ذلك على أن سؤاله كان سؤال الغلام.
ثم فيه دليل جواز سؤال الولد الذكر ربَّه، لكنه يسأله بشرط الصلاح والطيب كما سأل الأنبياء وسأله إبراهيم - عليه السلام: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)، وقال زكريا - عليه السلام -: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، وما ذكر وحكي عنهمِ مدحًا لهم وثناء عليهم حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، يجب على من يسأل ربه الولد أن يسأله على هذه الشرائط التي سالته الأنبياء - عليهم السلام - فيكون سؤالهم الولد على ذلك سؤالا لله - عَزَّ وَجَلَّ - وما يصلح لقيامه لأمره وعبادته، فأما أن يسأله إياه لذة لنفسه وسرورًا له في الدنيا فلا.
ثم يحتمل قوله: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ...)، إلى آخر ما ذكر وجهين:
أحدهما: أي: هب لنا من أزواجنا وذريتنا ما تقر به أعيننا.
أو هب لنا من أزواجنا من الولد والذرية ما تقر به أعيننا على ما سأل زكريا - عليه السلام - حيث قال: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً).
ثم فيه دلالة أن الولد هبة اللَّه لهم وعطاء لهم؛ ولذلك قال: (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً)، (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم - واللَّه أعلم - نعني: ما صار الولد هبة من اللَّه.
وقوله: (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
يصير حليمًا إذا بلغ مبلغ الامتحان بالأعمال والأمر والنهي، أي: بشرناه بغلام حليم يحلم فيما امتحن إذا بلغ مبلغًا يمتحن فيه، قال قتادة: " إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لم يذكر أحدا ولا وصفه بالحلم سوى إبراهيم وولده الذي بشر به "، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ... (١٠٢)
أي: بلغ بحيث يقدر أن يسعى معه إلى حيث أمر هو أن يسعى ويمشي معه وهي
الآية ١٠١ ﴿ فبشّرناه بغلام حليم ﴾ يصير حليما إذا بلغ مبلغ الامتحان بالأعمال والأمر والنهي، أي بشرناه بغلام حليم، يحلم في ما امتُحن إذا بلغ مبلغا يمتحن فيه.
قال قتادة : إن الله عز وجل لم يذكر أحدا، ولا وصفه بالحلم سوى إبراهيم وولده الذي بشّر به، والله أعلم.
الآية ١٠٢ وقوله تعالى :﴿ فلما بلغ معه السعي ﴾ أي بلغ بحيث يقدر أن يسعى معه إلى حيث أُمر أن يسعى، ويمشي معه، وهي الهجرة.
وقال بعضهم :﴿ فلما بلغ معه السعي ﴾ أي بلغ بحيث يعمل، ويمتحن.
[ وقوله تعالى ]١ :﴿ قال يا بُنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك ﴾ وقد عرف حُرمة ذبح بني آدم ﴿ فانظر ماذا ترى ﴾ وقرئ بالنصب والرفع جميعا٢، فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل عليهم السلام على حق تخرج كالأمر المصرّح.
ألا ترى أنه لما قال له :﴿ إني أرى في المنام إني أذبحك ﴾ وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم قال له ولده ﴿ افعل ما تُؤمر ﴾ ولو لم يكن أمرا لم يقل :﴿ افعل ما تُؤمر ﴾ ولا قال له إبراهيم :﴿ إني أرى في المنام أني أذبحك ﴾ وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه والعمل به، والله أعلم.
ثم قوله لأبيه :﴿ افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ دلالة أن لا كل مأمور بأمر من الله، شاء الله أن يفعل ما أمره حين٣ أخبر ﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾.
وقد ذكرنا أن إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بالذبح. فإذا أُمر هو بالذبح أُمر هذا أن يصبر على الذبح، ولا يجزع. ثم أخبر أنه يصبر إن شاء الله. دل أن لا كل مأمور لله بأمر، شاء منه أن يفعل ذلك [ ولكن شاء أن يفعل ذلك ]٤ ممن علم أنه يختار ذلك الفعل /٤٥٤-ب/ ويفعله، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يسأل٥ ذلك منه [ وعلى ذلك ]٦ قول موسى عليه السلام :﴿ ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ﴾ [ الكهف : ٦٩ ].
وهذا على المعتزلة لقولهم : إن الله تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به، لكنه تركه لما لم يشأ هو، والله أعلم. وقد بيّنا قولهم في غير موضع، والله أعلم.
١ في الأصل وم: عندنا..
٢ انظر معجم القراءات القرآنية ج٥/٢٤٢..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: يشاء..
٦ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: الفعل وكذلك..
الهجرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ)، أي: بلغ بحيث يعمل ويمتحن عندنا.
قال له: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى).
وترى بالنصب والرفع جميعًا - فيه دلالة أن رؤيا الأنبياء والرسل - عليهم السلام - على حق تخرج كالأمر المصرح؛ ألا ترى أنه لما قال له: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبع بني آدم وقتلهم قال له ولده: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولو لم يكن أمرًا لم يقل: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، ولا قال له إبراهيم: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقد عرف حرمة ذبح بني آدم وقتلهم الذي لا يسع الإقدام عليه، واللَّه أعلم.
ثم في قوله لأبيه: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) دلالة أن لا كل مأمور بأمر من اللَّه شاء اللَّه أن يفعل ما أمره؛ حيث أخبر أنه سيجده من الصابرين إن شاء اللَّه، وقد ذكرنا أن إبراهيم - عليه السلام - كان مأمورًا بالذبح، فإذا أمر هو بالذبح أمر هذا أن يصبر على الذبح ولا يجزع، ثم أخبر أنه يصبر إن شاء اللَّه دل أن لا كل مأمور لله بأمر شاء منه أن يفعل ذلك، ولكن شاء أن يفعل ذلك ممن علم منه أنه يختار ذلك الفعل ويفعله، ومن علم منه أنه لا يفعل ذلك لا يجوز أن يشاء منه ذلك الفعل؛ وكذلك قول موسى - عليه السلام -: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، وهذا على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه تعالى إذا أمر أحدا بأمر شاء أن يفعل ما أمره به، لكنه تركه لما لم يشأ هو، واللَّه أعلم. وقد بينا فساد قولهم في غير موضع، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
يحتمل قوله: (أَسْلَمَا) أي: استسلما لأمر اللَّه فيما أمرهما: هذا بالذبح، وهذا بالبذل والطاعة في ذلك.
أو أسلم هذا ابنه وهذا نفسه لله - عَزَّ وَجَلَّ - وأصله: أسلما أنفسهما لأمر الله وإطاعته في ذلك.
وقوله: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، أي: صرعه، وكبه على وجهه، فيه أنه لم يضجعه كما يضجع المرء ما يريد أن يذبحه من الشياه وغيرها، ولكنه أضجعه على وجهه، فهو - واللَّه أعلم - لما أراد أن ينفذ أمر اللَّه ويقدر على أداء ما أمر به، فلعله لو أضجعه على ما يضجع غيره من الذبح نظر كل واحد منهما إلى وجه الآخر، فيرحمه هذا بترك ذبحه وهذا ينظر في
وجهه في جزع ويترك طاعته.
أو على ما قال أهل التأويل: إن ولده قال لإبراهيم - عليه السلام -: كذا، ففعل ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا... (١٠٥) يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم: إن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - إذا أمر أحدًا بأمر يجوز ذلك الفعل منه وأراد أن يفعل ما أمره به، ونحن نقول: يجوز أن يريد غير الذي أمره به، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه ويختاره حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)، ولم يكن منه حقيقة ذبح الولد وقد أمره بذبحه، فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به، لكان لا يصدقه في الوفاء بالرؤيا، ولم يكن ذلك منه حقيقة.
لكنهم يقولون: إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد فكان ما أراد، ومذاهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا.
لكن نقول: إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش؛ دليله وجوه: أحدها: قول إبراهيم حيث قال: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، وقول ولده - عليهما السلام -: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، لو لم يجعل الأمر من اللَّه له بالذبح أمرًا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكان يجهلهما في قولهما: أمر اللَّه، وفي تسميتهما ما سميا، ولم يجهلهما في ذلك، فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون، واللَّه أعلم.
والثاني: أن إبراهيم وولده - عليهما السلام - قد مدحا وأثنى عليهما بالصنيع الذي صنعا: هذا بإضجاعه إياه للذبح، وهذا لبذله نفسه له والطاعة له في ذلك، فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك لم يكن لهما في ذلك الصنيع فضل مدح ولا فضل ثناء ومنقبة؛ إذ لكل أحد إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له، فإذا مُدحا وأثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة، حتى سمي هذا: ذبيح اللَّه، وهذا: فداء اللَّه؛ حيث قال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)، فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش لا ذبح الولد لم يكن الكبش فداء منه؛ إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه، دل على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
لكنه إذا أضجعه وتله للجبين على ما ذكر صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:الآيتان ١٠٤ و١٠٥ وقوله تعالى :﴿ وناديناه أن يا إبراهيم ﴾ ﴿ قد صدّقت الرؤيا ﴾ يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم : إن الله عز وجل إذا أمر أحدا يجوز ذلك الفعل منه، وأراد أن يفعل ما أمر به.
ونحن نقول : يجوز أن يريد غير الذي أمر به، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه، ويختاره، حين١ قال عز وجل ﴿ يا إبراهيم ﴾ ﴿ قد صدّقت الرؤيا ﴾ ولم يكن منه بحقيقة ذبح الولد، وقد أمره بذبحه.
فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به لكان لا يصدّقه في الوفاء بالرؤيا. ولم يكن ذلك منه حقيقة.
لكنهم يقولون : إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد، فكان ما أراد، ومذهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا.
لكن نقول : إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش. دليله [ في وجهين :
أحدهما :]٢ قول إبراهيم عليه السلام حين٣ قال :﴿ إني أرى في المنام أني أذبحك ﴾ وقال٤ ولده :﴿ يا أبت افعل ما تؤمر ﴾ لو لم يجعل الأمر من الله له بالذبح أمرا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكنا نُجهّلهما في قولهما أوامر٥ الله وفي تسميتهما ما يسميان، فلا نجهّلهما في ذلك. فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون، والله أعلم.
والثاني : أن إبراهيم وولده عليهما السلام قد مُدحا، وأثني عليهما بالصنيع الذي صنعا : هذا بإضجاعه إياه وهذا بالبذل له نفسه له [ والطاعة له ]٦ في ذلك.
فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك له [ لم ]٧ يكن لهما في الصنيع فضل مدح، ولا فضل ثناء ومنقبة، إذ لأحدهما٨ إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له. فإذا مدحا، وأُثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا، وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة حتى سمّي هذا ذبيح الله وهذا وفيّ الله حين٩ قال الله عز وجل ﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ [ الصافات : ١٠٧ ].
فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش فداه عنه، إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه. دل على ما ذكرنا، والله أعلم.
لكنه إذا أضجعه ﴿ وتلّه للجبين ﴾ على [ ما ذكرنا ]١٠ صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين أمر الله عز وجل على [ ما ]١١ ذكر في القصة أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها، فلم تقطع. فمن أُمر بأمر، ثم مُنع عما أُمر به، وحيل بينه وبين ما أمر به، لم يصر تاركا للأمر، ولا كان موصوفا بالترك له. لذلك كان ما ذكر، والله أعلم.
ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية [ في مسائل ]١٢ لأصحابنا :

إحداها :

في المرأة إذا أسلمت [ نفسها لزوجها، ولم يكن هنالك ]١٣ ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع، صارت موفية مسلّمة ما على نفسها إلى زوجها، فاستوجبت بذلك كمال الصداق، ولزمتها العدة، إذ لا تملك سوى ما فعلت، وإن لم يجامعها زوجها.
[ والثانية ]١٤ : في من عنده أمانة، إذا سلّمها إلى صاحبها، وصيّرها بحال يقدر على أخذها وقبضها، يصير مسلِّما خارجا منها يوما، وإن لم يقبضها الآخر، ولم تقع في يده.
[ والثالثة ]١٥ : في البائع إذا سلّم المبيع إلى المشتري، وخلّى بينه وبين ذلك، يصير مسلِّما إليه خارجا من ضمان ذلك وعهدته، وإن لم يقبضه المشتري.
ونحوها١٦ من المسائل مما يكثر إحصاؤها إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل.
وقوله تعالى :﴿ وناديناه أن يا إبراهيم ﴾ ﴿ قد صدّقت الرؤيا ﴾ لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش، ففيه حجة لقول أصحابنا حين١٧ قال أبو حنيفة، رحمه الله : إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش لما أخبر أنه قد قد صدّق الرؤيا بذبح الكبش. فعلى ذلك يصير هذا موجبا على نفسه ذبح كبش، لا غير، والله أعلم.
وإن كان قوله :﴿ قد صدّقت الرؤيا ﴾ قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمها نفسه منزلة إتيان غير ذلك، لا أنه ترك ذلك.
١ في الأصل و م: حيث..
٢ في الأصل و م: وجوه أحدها..
٣ في الأصل و م: حيث..
٤ في الأصل وم: وقول..
٥ في الأصل وم: وأمر..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل وم: لكل أحد..
٩ في الأصل وم: حيث..
١٠ في الأصل وم: ذكر..
١١ من م، ساقطة من الأصل..
١٢ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: لمسائل..
١٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
١٤ في الأصل وم: و..
١٥ في الأصل وم: و..
١٦ في الأصل و م: ونحوه..
١٧ في الأصل وم: حيث..

أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - على ما ذكر في القصة: أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها فلم تقطع، فمن أمر بأمر ثم منع عما أمره به وحيل بينه وبين ما أمر به، لم يصر تاركًا للأمر، ولا كان موصوفًا بالترك له، لذلك كان ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية لمسائل لأصحابنا:
إحداها: في المرأة إذا أسلمت نفسها للزوج وهناك ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع صارت موفية مسلمة ما على نفسها إلى زوجها، فاستوجبت بذلك كمال الصداق ولزمتها العدة؛ إذ لا تملك سوى ما فعلت وإن لم يجامعها زوجها.
وفيمن عنده أمانة إذا سلمها إلى صاحبها وصيرها بحال يقدر على أخذها وقبضها يصير مسلمًا إليه مؤديًا خارجًا منها موفيا، وإن لم يقبض الآخر ولم تقع في يده.
وفي البائع إذا سلم المبيع إلى المشتري وخلى بينه وبين ذلك يصير مسلمًا إليه خارجًا من ضمان ذلك وعهدته وإن لم يقبضه المشتري، ونحوه من المسائل مما يكثر إحصاؤها؛ إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا).
لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش، ففيه حجة لقول أصحابنا حيث قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش؛ لما أخبر أنه قد صدق الرؤيا بذبح الكبش؛ فعلى ذلك يصير هذا موجبًا على نفسه ذبح كبش لا غير، والله أعلم، وإن كان قوله: (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا) قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك، ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمهما نفسه منزلة إتيان عين ذلك؛ إذ منع عن ذلك لا أنه ترك ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) إن الأمر بذبح الولد الذي أمر به إبراهيم محنة عظيمة.
ويقول بعض أهل التأويل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ)، أي: النعمة العظيمة، أي: في الفداء الذي فدى لإبراهيم - عليه السلام - نعمة عظيمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
وهو الكبش، قال بعض أهل التأويل: سماه: عظيمًا؛ لأنه كان يرعى في الجنة
الآية ١٠٧ وقوله تعالى :﴿ وفديناه بذبح عظيم ﴾ وهو الكبش. قال بعض أهل التأويل : سماه عظيما لأنه كان يرعى في الجنة أربعين خريفا. ويقول بعضهم : كان ذلك الكبش في نفسه عظيما.
أربعين خريفًا.
ويقول بعضهم: كان ذلك الكبش في نفسه عظيمًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨)
قال أهل التأويل: أي: تركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن.
ويجوز أن يكون قوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ذلك السلام الذي ذكر على أثره حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) ترك ذلك فينا؛ لنسلم عليه وعلى جميع المرسلين؛ كقوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ)، قد أمرنا أن نثني ونسلم على جميع الأنبياء والمرسلين؛ وكقوله: " اللهم صلى على مُحَمَّد وعلى آل مُحَمَّد " ويكون سلام الأنبياء - عليهم السلام - بعضهم إلى بعض كما كان بعضهم من شيعة البعض.
أو أن يكون ذلك السلام من اللَّه لهم أمنًا من كل خوف وسلامة عن كل خبث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠)
أي: كذلك نجزي كل محسن أن يترك له السلام والثناء الحسن في الآخرين، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) يحتمل هذا وجوهًا:
أحدها: أنه كان من عبادنا المؤمنين قبل أن يُوحى إليه وقبل أن يبعث رسولا.
ويحتمل أنه من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان في قوله وفعله ووفاء ما عليه.
أو أنه كان من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والأنبياء جميعًا بعضهم يصدق بعضا ويؤمن به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢)
كان سال ربه الولد يقول: (هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) فاستجاب اللَّه دعاءه وبشره بما ذكر،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٨:الآيتان ١٠٨ و١٠٩ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ قال أهل التأويل : أي تركنا عليه في الآخرين الثناء الحسن.
ويجوز أن يكون قوله :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ ذلك السلام الذي ذكر على إثره حيث قال عز وجل :﴿ سلام على إبراهيم ﴾ ترك ذلك فينا لنسلّم عليه وعلى جميع المرسلين كقوله تعالى :﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ ﴿ وسلام على المرسلين ﴾ [ الصافات : ١٨٠ و١٨١ ] [ وكقوله عليه السلام ]١ :( قد أُمرنا أن نثني، ونسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره : ١٢/١١٦ ] وكقوله :( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ) [ البخاري ٣٣٧٠ ] ويكون الأنبياء عليه السلام [ يُسلّم ]٢ بعضهم على بعض كما كان بعضهم من شيعة بعض، أو أن يكون ذلك السلام من الله لهم أمنا من كل خوف وسلامة من كل خُبث.
١ في الأصل و م: كقوله..
٢ ساقطة من الأصل و م..

الآية ١١٠ وقوله تعالى :﴿ كذلك نجزي المحسنين ﴾ أي كذلك نجزي كل محسن أي نترك له السلام والثناء الحسن في الآخرين، والله أعلم.
الآية ١١١ وقوله تعالى :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ يحتمل هذا وجوها :
أحدها :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ قبل أن نوحي إليه ومقبل أن نبعثه١ رسولا.
[ والثاني٢ ] ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ الذين حقّقوا الإيمان في قول وفعل وفاء ما عليه.
[ والثالث ]٣ :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء جميعا بعضهم يصدّق بعضا، ويؤمن به، والله أعلم.
١ في الأصل و م: نبعث..
٢ في الأصل و م: ويحتمل..
٣ في الأصل و م: أو..
الآية ١١٢ وقوله تعالى :﴿ وبشّرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ﴾ كان سأل ربه الولد بقوله :﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ [ الصافات : ١٠٠ ].
فاستجاب الله دعاءه، وبشّره بما ذكر، ثم أخبر أنه نبي من الصالحين.
يحتمل قوله تعالى :﴿ نبيا من الصالحين ﴾ /٤٥٥-أ/ أي نبيا من السلف كقوله تعالى :﴿ وألحقني بالصالحين ﴾ [ يوسف : ١٠١ ] أي نبيا نُصيّره، ونجعله من الأنبياء كقوله عز وجل :﴿ هذا نذير من النذر الأولى ﴾ [ النجم : ٥٦ ].
ويحتمل أن تكون البشارة في ولادة١ الولد الذي سأل ربه، ويحتمل أن بشّره٢ بنبوته، أو بشّره٣ بهما بالولادة وبالنبوّة جميعا، والله أعلم.
١ في الأصل و م: الولادة..
٢ في الأصل و م: بشر لهما..
٣ في الأصل و م: بشر لهما..
ثم أخبر أنه نبي من الصالحين.
يحتمل قوله - تعالى -: (نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ): نبيا من السلف؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، أي: نبيا نصيره ونجعله من الأنبياء؛ كقوله - عز وجل -: (هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى).
ويحتمل أن تكون البشارة في الولادة أي: في الولد الذي سأل ربه.
ويحتمل أن بشر له بنبوته، أو بشر لهما بهما بالولادة وبالنبوة جميعًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ... (١١٣)
البركة هي اسم كل خير لا يزال على الزيادة والنماء.
أو يقول: إن البركة شيء من أعطى كان لا تبعة عليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).
(مُحْسِنٌ) أي: مؤمن مصدق (وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ)، أي: كافر، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، فقال إبراهيم - عليه السلام -: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، أخبر أن في ذريته من لا ينال عهده كما ذكر هاهنا: أن في ذريته محسنًا وهو مؤمن وظالم لنفسه مبين، أي: كافر ظاهر مبين.
أو أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحْسِنٌ) إلى نفسه، أو محسن إلى الناس، وهو إسحاق، وإن ثبت ما روي أن رجلا سأل فقال: يا رسول اللَّه، أي الناس أكرمهم حسبًا؟ قال: " يوسف صديق اللَّه ابن يعقوب إسرائيل اللَّه ابن إسحاق ذبيح اللَّه ابن إبراهيم خليل اللَّه " فهو ذاك، وإلا فلا حاجة لنا إلى معرفة ذلك أنه فلان أو فلان؛ إذ لو كان لنا إلى بيان ذلك حاجة لبين وأزال الإشكال واختلاف الناس في ذلك والتكلم فيه فضل وتكلف؛ إذ لا يحتمل أن يكون بالناس حاجة إلى معرفة ذلك وبيانه، ثم لا يبين لهم ولا يعرف ذلك، فدل ترك التنازع لذلك على أن لا حاجة لهم إلى ذلك، واللَّه أعلم.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ والْقُتَبِيّ: الذبح: الكبش واسم ما يذبح، والذبح بنصب الذال مصدر ذبحت؛ هذا قول الْقُتَبِيّ.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الذَّبح بالنصب هو الفعل وهما واحد.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البلاء المبين: الإحسان المبين العظيم.
* * *
قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ).
يحتمل ما ذكر من المنة عليهما الرسالة والنبوة التي أعطاهما، والآيات والحجج التي أعطاهما وخصهما بهما والذي أبقى لهما الذكر والثناء الحسن عليهم في الآخرين؛ لقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ. سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ)، وإنما أوجب عليهم ذكر المنن والنعم التي خصهم بها وفضلهم من بين غيرهم، وأما أن يوجب عليهم ذكر كل ما من عليهم وأنعم عليهم، فذلك ليس في وسع أحد القيام بذكر جميع ما من عليهم وأنعم والشكر لها، وإنَّمَا يجب القيام بذكر ما خصوا بها ظاهرًا وإن كان في الجملة أخذ عليهم أن يروا جعل النعم والمنن من اللَّه جل وعز فضلا منه وإنعامًا لا حقا عليه بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) ما خصوا به من الرسالة والنبوة والآيات والحجج التي وقعت لهم الخصوص، فأما في كل ما من عليهم وأنعم فلا على ما ذكرنا: أن ليس في وسع أحد القيام بشكر أحد نعمه في عمره وإن طال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)
قال عامة أهل التأويل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، أي: من الغرق، ولكن جائز أن يكون (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) والذي نجاهم منه ما ذكر من قتل الرجال واستحياء النساء، حيث قال: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ...) الآية، وما استعبدوهم واستخدموهم، أنجاهم اللَّه من ذلك الذل وأنواع البلايا والشدائد التي كانت عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ...)، أخبر أنهم كانوا مستضعفين، فأنجاهم اللَّه من ذلك كله، وهو الكرب العظيم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦)
الآية ١١٥ وقوله تعالى :﴿ ونجّيناهما وقومهما من الكرب العظيم ﴾ أي من الغرق. ولكن جائز أن يكون ﴿ من الكرب العظيم ﴾ الذي نجّاهم منه ما ذكر من قتل الرجال واستحياء النساء حين١ قال :﴿ يقاتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ الآية [ الأعراف : ١٤١ ] وما استعبدوهم، واستخدموهم، نجّاهم الله من ذلك الذُّل وأنواع البلايا والشدائد التي كانت عليهم كقوله عز وجل ﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] فأنجاهم الله من ذلك كله، وهو الكرب العظيم.
١ في الأصل وم: حيث..
الآية ١١٦ وقوله تعالى :﴿ ونصرناهم فكانوا هم الغالبين ﴾ يحتمل قوله :﴿ ونصرناهم ﴾ بالحجج والآيات التي أعطاهم، أو ﴿ ونصرناهم ﴾ حين١ أنجاهم، وأهلك فرعون والقِبْط، والله أعلم.
١ في الأصل وم: حيث..
يحتمل قوله: (وَنَصَرْنَاهُمْ) بالحجج والآيات التي أعطاهم.
أو (وَنَصَرْنَاهُمْ) حيث أنجاهم وأهلك فرعون والقبط، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) التوراة.
ثم يحتمل قوله: (الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ) وجهين:
أحدهما: استبان لكل من عقل ونظر أنه من عند اللَّه نزل؛ لأن التوراة نزلت ظاهرًا في الألواح ليست كالقرآن لا يعرف أنه من عند اللَّه نزل إلا بعد التأمل والنظر؛ لأنه نزل في الأوقات الخالية التي لم يطلع عليه أحد سرا عن ظهر القلب.
والثاني: أنه استبان لكل من نظر فيها ما لهم وما عليهم وما يؤتى وما يتقى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨)
يحتمل الصراط الذي من سلكه أفضاه إلى مقصوده، وبلغه إلى الصراط المستقيم؛ لما بالحجج والبراهين قام لا بهوى الأنفس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠)
هو ما ذكرنا فيما تقدم: أنه أبقى لهما الثناء الحسن في الآخرين، وهو السلام الذي ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١)
أي: إنا كذلك نبقي ونترك لكل محسن الثناء الحسن في الآخرين كما تركنا لهَؤُلَاءِ، وهو المعروف في الناس: أن كل محسن صالح وإن مات فإنه يذكر بالخير بعده ويثنون عليه بالثناء الحسن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢)
يحتمل الوجوه التي ذكرنا فيما تقدم:
من عبادنا المؤمنين قبل الرسالة.
أو من عبادنا المؤمنين بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
أو من عبادنا المؤمنين الذين حققوا الإيمان قولا وفعلا، والقيام بوفاء ما وجب بعقد الإيمان وعهدته، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١)
الآية ١١٨ وقوله تعالى :﴿ وهديناهما الصراط المستقيم ﴾ الذي من سلكه أمضاه إلى مقصوده، وبلغه إلى الصراط المستقيم لما بالحجج والبراهين قام، لا بهوى الأنفس.
الآيتان ١١٩ و١٢٠ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليهما في الآخرين ﴾ ﴿ سلام على موسى وهارون ﴾ هو ما ذكرنا في ما تقدم أنه أبقى لهم الثناء الحسن في الآخرين، وهو السلام الذي ذكر، والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٩:الآيتان ١١٩ و١٢٠ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليهما في الآخرين ﴾ ﴿ سلام على موسى وهارون ﴾ هو ما ذكرنا في ما تقدم أنه أبقى لهم الثناء الحسن في الآخرين، وهو السلام الذي ذكر، والله أعلم.
الآية ١٢١ وقوله عز وجل :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ أي إنا كذلك نبقي، ونترك لكل مُحسن الثناء الحسن في الآخرين كما تركنا لهؤلاء، وهو المعروف في الناس أن كل محسن صالح، وإن مات فإنه يُذكر بالخير بعده، ويثنى١ عليه بالثناء الحسن، والله أعلم.
١ في الأصل وم: ويثنون..
الآية ١٢٢ وقوله تعالى :﴿ إنهما من عبادنا المؤمنين ﴾ يحتمل الوجوه التي ذكرنا في ما تقدم ﴿ من عبادنا المؤمنين ﴾ [ قبل الرسالة، و ]١ ﴿ من عبادنا المؤمنين ﴾ بمحمد صلى الله عليه وسلم و ﴿ من عبادنا المؤمنين ﴾ الذين حقّقوا الإيمان قولا وفعلا والقيام بوفاء ما وجب بعقد الإيمان وعهدته، والله أعلم.
١ من م، ساقطة من الأصل..
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
هذا ينقض على الباطنية مذهبهم؛ لأنهم يقولون: إن الرسل - عليهم السلام - ستة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومُحَمَّد - صلوات اللَّه عليهم - وما سواهم أئمة، وفي الآية إخبار أن إلياس كان من المرسلين، هذا كله ينقض قولهم ويرد مذهبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) عبادة غير اللَّه.
أو يقول: (أَلَا تَتَّقُونَ): ألا تخشون ولا تخافونه في ترككم عبادته واشتغالكم بعبادة غيره.
أو (أَلَا تَتَّقُونَ) نقمة اللَّه في مخالفتكم أمره ونهيه، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥)
قال بعض أهل التأويل: البعل هاهنا الرب بلسان قومه، وذكر عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما -: " أنه سئل عن قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) قال: فقال رجل: من يعرف الآثار، فقال أعرابي: بعلها، أي: ربها، فقال ابن عَبَّاسٍ: كفاني الأعرابي جوابها ".
لكن لا يحتمل أن يكون المراد من قوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا) أي: رَبًّا، إلا أن يكون ذكر أنه بلسان قومه، في قول: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا): رَبًّا تعلمون أنه لا يضر ولا ينفع، وتذرون عبادة من تعلمون أنه يضر وينفع، أو تختارون عبادة من تعلمون أنه لا يملك الضر ولا النفع على عبادة من تعلمون أنه يملك ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: السيد هاهنا، وكذلك يقول في قوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا)، أي: سيدي. وقَالَ بَعْضُهُمْ: البعل: هو اسم الصنم هاهنا، يقول: أتعبدون صنمًا وتذرون أحسن الخالقين، وأصل البعل: الزوج، كأنه يقول لهم: أتدعون من له أزواج وأشكال، وتذرون عبادة من لا زوج له ولا أشكال، واللَّه الموفق.
وقال ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أول هذه يماني وآخرها مضري وهو قوله:
الآية ١٢٤ وقوله تعالى :﴿ إذ قال لقومه ألا تتّقون ﴾ عبادة [ غير الله ]١ أو يقول :﴿ ألا تتقون ﴾ ألا تخشون الله، ولا تخافونه في ترككم عبادته واشتغالكم بعبادة غيره. أو ﴿ ألا تتقون ﴾ نقمة الله في مخالفتكم أمره ونهيه، والله أعلم.
١ من م، في الأصل: غيرهم..
الآية ١٢٥ وقوله تعالى :﴿ أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ﴾ قال بعض أهل التأويل البعل ههنا الرّب بلسان قوم.
وذكر ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن قوله عز وجل ﴿ أتدعون بعلا ﴾ قال : قال رجل : من يعرف الآثار ؟ قال الأعرابي : بعلها، أي ربها، فقال ابن عباس : كفاني الأعرابي جوابها.
لكن لا يحتمل المراد من قوله :﴿ أتدعون بعلا ﴾ أي ربا إلا أن يكون ذكره١ أنه بلسان قوم، فيقول ﴿ أتدعون بعلا ﴾ ربا تعلمون أنه لا يضر، ولا ينفع ﴿ وتذرون ﴾ عبادة من تعلمون أنه يملك ذلك ؟
وقال بعضهم : البعل السيد ههنا، وكذلك يقول في قوله :﴿ وهذا بعلي شيخا ﴾ [ هود : ٧٢ ] سيدي.
وقال بعضهم : البعل هو اسم الصنم ههنا، يقول : أتعبدون صنما ﴿ وتذرون أحسن الخالقين ﴾ ؟
وأصل البعل الزوج : كأنه يقول لهم : أتدعون من له أزواج وأشكال، وتذرون من لا أزواج ولا أشكال ؟ والله الموفّق.
وقال ابن عباس رضي الله عنه أول هذه [ الآية ]٢ يمانيّ، وآخرها مصري، وهو قوله :﴿ وتذرون أحسن الخالقين ﴾ يسمّون كل صانع خالقا. والخَلق هو التقدير في اللغة، يضاف إلى الخلق على المجاز، وإن كانت حقيقة التقدير لله عز وجل ذكر على ما عبدهم /٤٥٥-ب/ لا على حقيقة الخلق، والله أعلم.
ثم يحتمل قوله :﴿ أحسن الخالقين ﴾ أي أحكم وأتقن على ما ذكر :﴿ وأنت أحكم الحاكمين ﴾ [ هود : ٤٥ ] أي جعل في كل شيء شهادة وحدانيته٣ وربوبيته، أو ﴿ أحسن الخالقين ﴾ لما ذكر أنه خلقهم، وخلق آباءهم الأولين.
١ في الأصل و م: ذكر..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: وحدانية الله..
(وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) يسمون كل صانع: خالقًا، والخلق: هو التقدير في اللغة يضاف إلى الخلق على المجاز وإن كان حقيقة التقدير لله - عَزَّ وَجَلَّ - ذكر على ما عندهم لا على حقيقة الخلق، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ)، أي: أحكم وأتقن؛ على ما ذكر: وهو (أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، أي: جعل في كل شيء أثر شهادة وحدانية اللَّه وربوبيته.
أو (أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ) لما ذكر أنه خلفهم وخلق آباءهم الأولين، وأنه ربهم ورب الخلائق، فقالوا: من أحسن الخالقين؛ فعند ذلك أذكر، ما ذكر ونعته: (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) ثم أخبر عنهم أنهم كذبوه مع ما ذكر لهم، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) ولم يذكر في ماذا؟ لكن فيه بيان أنهم لمحضرون النار والعذاب؛ لأن أهل اللذات هم المحضرون أنفسهم وأهل العذاب يحضرون كرهًا لا بأنفسهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ)، وقوله: (وَيَصْلَى سَعِيرًا)، ونحوه، ثم استثنى العباد المخلصين منهما أنهم لا يحضرون النار.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠)
هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن ومن أهلك إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم وإياكم وتكذيب مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فينزل بكم كما نزل بأُولَئِكَ.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
وقال - عَزَّ وَجَلََّ -: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
أي: على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون أنهم إنما أهلكوا بالتكذيب للرسل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨)
وتعتبرون وتمتنعون عن تكذيبه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى
الآية ١٢٧ ثم أخبر عنهم أنهم كذّبوه مع ما ذكر لهم، وهو ما قال عز وجل ﴿ فكذّبوه فإنهم لمُحضرون ﴾. ولم يذكر في ماذا ؟ لكن فيه بيان أنهم إنما يحضرون النار والعذاب، لأن أهل اللذات هم المحضرون أنفسهم العذاب، يحضرون كرها لا بأنفسهم كقوله تعالى :﴿ يوم يدعّون إلى نار جهنم دعًّا ﴾ [ الطور : ١٣ ] وقوله :﴿ يوم يُسحبون في النار على وجوههم ﴾ [ القمر : ٤٨ ] وقوله :﴿ ويصلى سعيرا ﴾ [ الانشقاق : ١٢ ] ونحوه.
الآية ١٢٨ ثم استثنى العباد المخلصين ﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ منهم أنهم لا يُحضرون النار.
الآيتان ١٢٩ و١٣٠ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ ﴿ سلام على آل ياسين ﴾ هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن.
[ قرأ بعض القراء : سلام على آل ياسين بهمزة مفتوحة ممدودة مكسورة اللام. وقرأ الباقون ﴿ إل ياسين ﴾ بكسر الهمزة وسكون اللام١. فله وجهان :
أحدهما : أن يكون ﴿ إل ياسين ﴾ جمع إلياس، ومعناه سلام على إلياس وأمته المؤمنين كقوله : رأيت المحمّدين، يريد محمدا وأمته.
والثاني : أن يكون إلياس بلُغتين : إلياس وإلياسين كما يقال : ميكال وميكائيل. فيكون على هذا الوجه السلام على إلياسين، فيكون موافقا لما جاء في القرآن الكريم من السلام على الأنبياء والرسل وآلهم.
وعلى القراءة الثانية يكون السلام على آل ياسين وقومه، فكأن هذا القراءة أحق، ومن قرأ على آل ياسين جعل الأول اسما وياسين مضافا إليه، وآل الرجل أتباعه وقومه. فيكون المراد منه آل إلياس، فيكون السلام على آل إلياس، وإن لم يذكر في ما سبق من الأنبياء عليهم السلام على آلهم.
ويحتمل أن يكون المراد بالآل سائر الأنبياء، لأن الأنبياء بعضهم من آل بعض، فإن الآل، هو الشيعة وأهل النصر، فيكون على هذا التأويل السلام على جميع الأنبياء.
وعن ابن عباس أنه قرأ : سلام على آل ياسين وقال : أراد بالآل : آل محمد عليه السلام وياسين محمدا عليه السلام وعلى ذلك قوله :﴿ يس ﴾ ﴿ والقرآن الحكيم ﴾ فذكر سائر الأنبياء في ما تقدم بالسلام، وذكر ههنا محمدا وآله، والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود : سلام على إدريس وفي بعض الحروف، إدراسين. وقد روي أن إلياس هو إدريس النبي عليه السلام وله اسمان. وإدراسين كأنها لغة في إدريس.
وعن ابن مسعود أنه قرأ : وإن إدريس لمن المرسلين مكان قوله ﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ﴾.
١ انظر غريب القرآن على حروف المعجم /١٣١ و١٣٢ ومعجم القراءات القرآنية ج٥/٢٤٦..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٩:الآيتان ١٢٩ و١٣٠ وقوله تعالى :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ ﴿ سلام على آل ياسين ﴾ هو ما ذكرنا أنه أبقى لهم الثناء الحسن.
[ قرأ بعض القراء : سلام على آل ياسين بهمزة مفتوحة ممدودة مكسورة اللام. وقرأ الباقون ﴿ إل ياسين ﴾ بكسر الهمزة وسكون اللام١. فله وجهان :
أحدهما : أن يكون ﴿ إل ياسين ﴾ جمع إلياس، ومعناه سلام على إلياس وأمته المؤمنين كقوله : رأيت المحمّدين، يريد محمدا وأمته.
والثاني : أن يكون إلياس بلُغتين : إلياس وإلياسين كما يقال : ميكال وميكائيل. فيكون على هذا الوجه السلام على إلياسين، فيكون موافقا لما جاء في القرآن الكريم من السلام على الأنبياء والرسل وآلهم.
وعلى القراءة الثانية يكون السلام على آل ياسين وقومه، فكأن هذا القراءة أحق، ومن قرأ على آل ياسين جعل الأول اسما وياسين مضافا إليه، وآل الرجل أتباعه وقومه. فيكون المراد منه آل إلياس، فيكون السلام على آل إلياس، وإن لم يذكر في ما سبق من الأنبياء عليهم السلام على آلهم.
ويحتمل أن يكون المراد بالآل سائر الأنبياء، لأن الأنبياء بعضهم من آل بعض، فإن الآل، هو الشيعة وأهل النصر، فيكون على هذا التأويل السلام على جميع الأنبياء.
وعن ابن عباس أنه قرأ : سلام على آل ياسين وقال : أراد بالآل : آل محمد عليه السلام وياسين محمدا عليه السلام وعلى ذلك قوله :﴿ يس ﴾ ﴿ والقرآن الحكيم ﴾ فذكر سائر الأنبياء في ما تقدم بالسلام، وذكر ههنا محمدا وآله، والله أعلم.
وفي حرف ابن مسعود : سلام على إدريس وفي بعض الحروف، إدراسين. وقد روي أن إلياس هو إدريس النبي عليه السلام وله اسمان. وإدراسين كأنها لغة في إدريس.
وعن ابن مسعود أنه قرأ : وإن إدريس لمن المرسلين مكان قوله ﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ﴾.
١ انظر غريب القرآن على حروف المعجم /١٣١ و١٣٢ ومعجم القراءات القرآنية ج٥/٢٤٦..

الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣١:الآيات ١٣١ -١٣٨ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ ﴿ وإن لوطا لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾ ﴿ إلا عجوزا في الغابرين ﴾ ﴿ ثم دمّرنا الآخرين ﴾ ﴿ وإنكم لتُمرّون عليهم مصبحين ﴾ ﴿ وبالليل أفلا تعقلون ﴾ يذكّر أهل مكة، ويعظهم بما نزل بالمكذبين من الأمم الماضية من العذاب والهلاك. إن من أهلك [ منهم ]١ إنما أهلك بتكذيب الرسل وعنادهم، ومن نجا منهم إنما نجا بتصديقهم والإجابة لهم. وإياكم وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بكم كما نزل بأولئك.
وقوله٢ عز وجل :﴿ وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي على من هلك من مكذبي الرسل بالليل والنهار، فتعلمون إنهم لمن المرسلين. هذا ينقض على الباطنية [ أيضا ]٣ قولهم الذي٤ قالوا : إن الرسل ليسوا إلا ستة. لا يعدّون يونس ولوطا عليه السلام منهم، فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله عز وجل :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ وهم يقولون : ليس من المرسلين، وبالله العصمة.
١ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل و م: وقال..
٣ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل: اخلى، في م: حتى..

مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨)
وقوله: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩)
هذا ينقض على الباطنية قولهم حين قالوا: إن الرسل ليس إلا ستة لا يعدون يونس ولوطا - عليهم السلام - منهم فيخالفون ظاهر الآية، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وهم يقولون: ليس من المرسلين، وباللَّه العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)
ذكر هاهنا الإباق، وفي سورة الأنبياء الذهاب، وهو قوله: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا). فمن الناس من يجعل هذا غير الأول - يعني: إباقه الذي ذكر وذهابه - لكن جائز أن يكون ذكر الإباق وذكر الذهاب وإن كان في رأى العين في ظاهر اللفظ مختلفًا فهما في المعنى واحد، فيكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ أَبَقَ) من قومه بدينه؛ ليسلم له، أو أبق لخوف على نفسه من قومه، أو أبق على ما أوعد قومه من نزول العذاب بهم إذا لم يؤمنوا به، وكان الرسل - صلوات اللَّه عليهم - يخرجون من بين أظهر قومهم إذا خافوا نزول العذاب بهم، إلا أن يونس خرج من بينهم قبل أن يأتيه الإذن من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بالخروج من بينهم؛ لذلك جاء العتاب له والتعيير، لا لما يقوله عامة أهل التأويل من الخرافات التي يذكرونها وينسبون إليه ما لا يجوز نسبة ذلك إلى أجهل الناس بربه وأخسهم، فضلا أن يجوز نسبة ذلك إلى نبي من أنبيائه ورسول من رسله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
ذكر في القصة أنه - عليه السلام - لما أبق إلى سفينة فركبها أراد أن يعبر البحر، فجعلت تكفو وتقف وكادت أن تغرق، فقال القوم بعضهم لبعض: إن فيكم لرجلاً مذنبًا ذنبًا عظيمًا، وكانوا يعرفون ذلك من عادتها من قبل كانت إذا ركبها مذنب تغرق وتتسرب في الماء، فلم يعرفوا من هو ذلك؟ فاستهموا مرارا فساهم يونس في كل مرة، فلما رأى ذلك يونس - عليه السلام - قال لهم: يا قوم ألقوني في البحر حتى لا تغرقوا جميعًا، فأبوا وقالوا: لا نلقي نبيا من أنبياء اللَّه في البحر، فألقى هو نفسه فيه، فالتقمه الحوت على ما أخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - حيث قال: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ).
ثم قوله: (فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) قال: فكان من المغلوبين في القرعة والاستهام، أي: خرجت القرعة عليه، و (الْمُدْحَضِينَ): هو الذي لا حجة له فيما يريد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
قَالَ بَعْضُهُمْ: (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي: [مُذْنِبٌ].
(١) في المطبوع هكذا [عجيب] والتصويب من تفاسير عدة. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٩:الآيتان ١٣٩ -١٤٠ وقوله تعالى :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾ ﴿ إذ أَبَقَ إلى الفلك المشحون ﴾ ذكر ههنا الأباق وفي سورة الأنبياء الذهاب، وهو قوله :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ ] فمن الناس من يجعل هذا غير الأول، يعني [ الأباق غير الذهاب ]١.
لكن جائز أن يكون ذكر الأباق، وذكر الذهاب، وإن كان في رأي العين في ظاهر اللفظ مختلفا. فهما في المعنى واحد، فيكون قوله تعالى :﴿ إذ أبق ﴾ من قومه بدينه ليسلم له، أو أبق لخوف على نفسه من قومه، أو أبق على ما أوعد قومه من نزول العذاب بهم إذا لم يؤمنوا به. وكان الرسل، صلوات الله عليهم، يخرجون من بين أظهر قومهم إذا خافوا نزول العذاب بهم إلا يونس خرج من بينهم قبل أن يأتيه الإذن من الله عز وجل بالخروج من بينهم.
لذلك صار وقت، جاء العتاب له والتعبير، لما يقوله عامة أهل التأويل من الخرافات التي يذكرون، وينسبون إليه ما لا يجوز نسبة ذلك إلى أجهل الناس بربه وأخسّهم فضلا [ من ]٢ أن تجوز نسبة ذلك إلى نبي من أنبيائه ورسول من رسله.
١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: أباقة الذي ذكروا ذهابه..
٢ ساقطة من الأصل وم..

الآية ١٤١ وقوله تعالى :﴿ فساهم فكان من المُدحَضين ﴾ ذكر في القصة أنه عليه السلام لما أبق إلى سفينة، فركبها، أراد أن يعبُر البحر، فجعلت تكفأ، وتقف، وكادت١ تغرق، فقال القوم بعضهم لبعض : إن فيكم رجلا مذنبا [ ذنبا ]٢ عظيما، وكانوا يعرفون من عادتها من قبل [ أنها ]٣ كانت إذا ركبها مذنب [ تفعل ذلك، وتغرق ]٤ وتسرب في الماء. فلم يعرفوا من هو ذلك [ المذنب ]٥ فاستهاموا مرارا، فساهم يونس في كل مرة. فلما رأى ذلك يونس عليه السلام قال لهم : يا قوم ألقوني في البحر حتى لا تغرقوا جميعا، فأبوا، وقالوا : لا نلقي [ نبيا ]٦ من أنبياء الله في البحر، فألقى هو نفسه فيه، ﴿ فالتقمه الحوت وهو مُليم ﴾.
ثم قوله :﴿ فساهم فكان من المدحضين ﴾ قال [ بعضهم :]٧ فكان من المغلوبين في القرعة والاستهام، أي خرجت القرعة عليه، والمُدحَض٨ هو الذي لا حجة له في ما يريد، والله أعلم.
١ الواو ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: يغرق..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ من م، ساقطة من الأصل..
٧ ساقطة من الأصل وم..
٨ في الأصل و م: المدحضين..
الآية ١٤٢ وقوله تعالى :﴿ قالتقمه الحوت وهو مليم ﴾ قال بعضهم : هو مليم، أي مذنب. وقال بعضهم : من الملامة، أي كان يلوم نفسه في ما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من الله، والله أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: مليم من الملامة، أي: كان يلوم نفسه فيما صنع من الخروج من بينهم بلا إذن من اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
يحتمل قوله: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) لربه قبل ذلك ومن المصلين له، وإلا للبث في بطنه إلى ما ذكر؛ ولذلك قيل: من عمل لله - تعالى - في حال الرخاء، نفعه اللَّه بذلك في حال الشدة ويرفعه إذا عثر، واللَّه أعلم.
قيل في الحكمة: إن العمل الصالح رفع صاحبه إذا عثر وإذا صرع وجد متكئًا، والله أعلم.
ويحتمل (كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)، أي: صار من المسبحين في بطن الحوت، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)
العراء: قيل: هي الأرض الصحراء التي لا شجر فيها ولا نبت ولا ركز.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العراء: الأرض التي لا ظل فيها، والمدحض: المغلوب، ومليم: أي: أتى أمرًا يلام عليه.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: العراء: هي الأرض التي لا يواري فيها شجر ولا غيره، كأنه من عري الشيء، واللَّه أعلم. البعل: الزوج.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ سَقِيمٌ).
ذكر أن الحوت لما نبذه بالعراء لم يكن به شعر ولا جلد ولا ظفر ولا سن سقيم من السقم وهو المرض، أي: مريض لما مسه بطن الحوت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي شجرة الفرع، أنبت عليه ليأكل منها، ويستظل بها.
ْوقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شجرة تنبسط على وجه الأرض مما يتسع أطرافه إذا مد وأصله واحد، فهو يقطين، من نحو البطيخ والعرجون وغيرهما.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٣:الآيتان ١٤٣ و١٤٤ وقوله عز وجل :﴿ فلولا أنه كان من المُسبّحين ﴾ ﴿ للبِث في بطنه إلى يوم يُبعثون ﴾ يحتمل قوله :﴿ فلولا أنه كان من المسبّحين ﴾ لربه قبل ذلك ومن المصلين له ﴿ للبِث في بطنه إلى [ { يوم يبعثون ﴾ ]١ ولذلك قيل : من [ عمل لله ]٢ تعالى في حال الرخاء نفعه الله بذلك في حال البلاء، ويرفعه إذا عثر، والله أعلم.
قيل في الحكمة : إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر، وإذا وجد متكأ، والله أعلم.
ويحتمل ﴿ فلولا أنه كان من المسبّحين ﴾ في بطن الحوت، وهو قوله :﴿ فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ ﴿ فاستجبنا له ونجّيناه من الغم ﴾ [ الأنبياء : ٨٧ و٨٨ ] والله أعلم.
١ في الأصل و م: ما ذكر..
٢ في الأصل وم: عامل الله..

قوله تعالى :﴿ فنبذناه بالعراء وهو سقيم ﴾ : العراء : قيل : هي الأرض الصحراء التي لا شجر فيها، ولا نبت، ولا كرّ. وقال عوسجة : العراء الأرض التي لا ظل فيها، والمُدحض المغلوب، ومليم أي أتى أمرا يلام عليه.
وقال القتبي : العراء هي الأرض التي لا يرى فيها شجر ولا غيره، كأنه من عري الشيء، والله أعلم.
وقوله عز وجل :﴿ وهو سقيم ﴾ : ذكر أن الحوت لما نبذه بالعراء لم يكن به شعر ولا جلد ولا ظفر، ولا شيء، ويحتمل سقيم من السقم، وهو المرض، أي مريض لما مسّه ببطن الحوت، والله أعلم.
اقوله تعالى :﴿ وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ﴾ : قال بعضهم : هي شجرة القَرْع، أنبت عليه ليأكل منه، ويستظل بها، وقال بعضهم : كل شجرة تنبسط على وجه الأرض مما تتّسع أطرافها إذا مُدّت، وأصلها واحد، فهو يقطين من البطيخ والعُرجون وغيرهما، والأشبه أن تكون شجرة القرع لأنها أسرع الأشجار نبتا وامتدادا وارتفاعا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب، والوصول إلى الارتفاع بها أكلا واستظلالا بها ما لا يكون مثل ذلك في مثل تلك المدة من الأشجار، والله أعلم.
وعلى ذلك روي أنه قيل :( يا رسول الله إنك لتُحبّ القَرْع، قال : أجل، هي شجرة أخي يونس، وهي تزيد في العقل ) [ بنحوه البخاري ٢٠٩٢ ]، فهذا يدل إن ثبت أنها كانت شجرة القرع، والله أعلم.
ثم فيه لطف من الله عز وجل حين أنبت عليه شجرة في وقت لطيف، لا ينبث مثلها إلا بعد مدة طويلة ووقت مديد، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرفع ذلك، ويزول في وقت يسير في العُرف ليذكّره ما أنعم عليه، ويقوم بشكره، وهو كما ذكر في قصة صاحب موسى الحمار حين قال عز وجل :﴿ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ] أبقى طعامه وشرابه، وحفظه وقتا طويلا فلم يغير ما طبعه التغيّر في وقت يسير، وغيّر ما طبعه البقاء، لطفا منه. فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا وقت طويل، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفا منه لتذكير ما ذكرنا، والله أعلم.
والأشبه أن تكون شجرة القرع؛ لأنها أسرع الأشجار نبتًا وامتدادًا وارتفاعًا في السماء في مدة لطيفة ووقت قريب، والوصول إلى الانتفاع بها أكلا واستظلالا لها ما لا يكون مثل ذلك في مثل تلك المدة من الأشجار، واللَّه أعلم. وعلى ذلك روي أنه قيل: يا رسول، إنك لتحب القرع؟ قال: " أجل هي شجرة أخي يونس، وهو تزيد في العقل " فهذا يدل إن ثبت: أنها كانت شجرة القرع، واللَّه أعلم.
ثم فيه لطف من اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: حيث أنبت عليه شجرة في وقت لطيف، لا ينبت مثلها إلا بعد مدة غير لطيفة ووقت مديد، وأبقى عليه الضعف وقتا طويلا مما يرتفع ذلك ويزول في وقت يسير في العرف؛ ليذكره ما أنعم عليه ويقوم بشكره، وهو كما ذكر في قصة: صاحب الحمار حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)، أبقى طعامه وشرابه وحفظه وقتا طويلا غير متغير مما طبعه التغير في وقت يسير وغير ما طبعه البقاء لطفا منه، فعلى ذلك أنبت على يونس شجرة في وقت لطيف مما لا ينبت مثلها إلا في وقت طويل، وأبقى ذلك الضعف الذي كان به والسقم مما سبيله الزوال والارتفاع في وقت يسير لطفًا منه؛ لتذكير ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما ذكرنا أن حرف الاستفهام إذا أضيف إلى اللَّه فهو على التقدير والإيجاب ليس على حقيقة الاستفهام، فعلى ذلك حرف الشك: أي: مائة ألف بل يزيدون، أو يقول: ويزيدون؛ لما يتعالى عن الشك.
والثاني: قوله: (أَوْ يَزِيدُونَ) حتى يزيدوا؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، أي: حتى يسلموا.
أو كأنه وقت ما بعثه إليهم كانوا مائة ألف، ثم ازدادوا بعد ذلك، واللَّه أعلم.
والثالث: يزيدون مائة ألف أو يزيدون عند الناس، فمعناه: أن من نظر إليهم لا يظن دون مائة ألف، ولكن يظن مائة ألف وزيادة، واللَّه أعلم.
قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨)
قيل: آمنوا به فلم يهلكوا، ولكن أخر عنهم إلى وقت موت حتفهم.
وقال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا
﴿ فآمنوا فمتّعناهم إلى حين ﴾ : قيل : آمنوا به، فلم يهلكوا، ولكن أخّر عنهم العذاب إلى وقت موت حتفهم. كقوله في آية أخرى :﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ﴾ [ يونس : ٩٨ ] أخبر ههنا أنه لم ينفع قوما إيمانهم عند معاينتهم العذاب إلا قوم يونس، وكذلك ذكر عز وجل في آية أخرى أنه لم ينفع الإيمان عند معاينة العذاب حين قال عز وجل في آية أخرى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ [ غافر : ٨٥ ].
ثم لا يُدرى أنه إنما يقبل إيمان قوم يونس لأنهم آمنوا عند خروج يونس عليه السلام من بين أظهرهم قبل أن يقبل العذاب عليهم لما كانوا يعلمون أن الرسول متى ما خرج من بينهم بعد ما أوعدهم بالعذاب أن العذاب ينزل بهم، لا محالة، فآمنوا به قبل أن يعاينوا العذاب أو أن يكون العذاب قد أقبل عليهم، فعاينوه، فعند ذلك آمنوا. فإن كان الأول فهو بأنهم إنما آمنوا به عند خروجه منهم، فهو مستقيم، قبِل إيمانهم لأنهم لم يؤمنوا عند معاينتهم العذاب، ولكن إنما آمنوا قبل ذلك. وإن كان الثاني فجائز أن يكون قبِل إيمانهم، ونفعهم إيمانهم، وإن عاينوا العذاب، لما عرف، جل، وعلا، أن إيمانهم كان حقا، وهم صادقون في ذلك، محقّقون، لم يكونوا دافعين العذاب عن أنفسهم إلا بالإيمان حقيقة، والله أعلم.
آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ)، أخبر هاهنا أنه لم ينفع قومًا إيمانهم عند معاينتهم العذاب إلا قوم يونس، وكذلك ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: أنه لم ينفع الإيمان عند معاينة العذاب حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا)، ثم [لا يُدرَى] أنه إنما يقبل إيمان قوم يونس؛ لأنهم آمنوا عند خروج يونس - عليه السلام - من بين أظهرهم قبل أن يقبل العذاب عليهم، لما كانوا يعلمون أن الرسول متى ما خرج من بينهم بعد ما أوعدهم بالعذاب أن العذاب ينزل بهم لا محالة، فآمنوا به، وإن لم يعاينوا.
أو أن يكون العذاب قد أقبل عليهم فعاينوه عند معاينتهم فعند ذلك آمنوا.
فإن كان الأول فهو بأنهم إنما آمنوا به عند خروجه منهم فهو مستقيم قبل إيمانهم؛ لأنهم لم يؤمنوا عند معاينتهم العذاب، ولكن إنما آمنوا قبل ذلك.
وإن كان الثاني، فجائز أن يكون قبل إيمانهم ونفعهم إيمانهم وإن عاينوا العذاب؛ لما عرف - جل وعلا - أن إيمانهم كان حقا وهم صادقون في ذلك محققون، لم يكونوا دافعين العذاب عن أنفسهم إلا بإيمان حقيقة، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
وقوله: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ).
الاستفتاء والسؤال يخرج على أربعة أوجه:
إن كان الاستفتاء والسؤال من عليم خبير لأهل الجهل يكون تقريرًا وتنبيهًا إذا لم يكونوا أهل عناد، وإذا كانوا أهل عناد فهو تسفيه وتوبيخ لهم.
وإذا كان الاستفتاء من جاهل مصدق طالب رشد لعليم خبير، يكون استرشادًا وطلب الصواب.
وإذا كان من معاند مكابر، فهو يخرج على الاستهزاء به والسخرية؛ كقولهم: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، إنما قالوا ذلك استهزاء به.
ثم ما ذكر من الاستفتاء لهَؤُلَاءِ إنما يكون تسفيها منه لهم في قولهم: لله - عَزَّ وَجَلَّ - ولد، والملائكة بنات اللَّه سبحانه ونحوه من الفرية العظيمة التي لا فرية أعظم منها ولا
كذب أكبر منه؛ لأن درك الأشياء ومعرفتها إنما يكون في الشاهد بأحد وجوه ثلاثة:
أحدها: المشاهدة.
والثاني: الخبر.
والثالث: الاستدلال بما شاهدوا وعاينوا على ما غاب عنهم.
ثم معلوم عندهم - أي: عند هَؤُلَاءِ - أنهم لم يشاهدوا اللَّه حتى عرفوا له الولد، ولا كانوا يؤمنون بالرسل حتى يكون عندهم الخبر بما قالوا ونسبوا إليه من الولد وغيره؛ إذ الخبر إنما يوصل إليه بالرسل، وهم لا يؤمنون بهم، ولا كانوا شاهدوا ما يستدلون على ما قالوا فيه ونسبوا إليه حتى دلهم ذلك على ذلك، فسفههم في قولهم الذي قالوا فيه وما نسبوا إليه، وإنهم كَذَبة في ذلك؛ إذ أسباب العلم بالأشياء ما ذكرنا، ولم يكن لهم شيء من ذلك؛ ولذلك قال: (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢)
وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) يقول: أأختار لنفسي ما تأنفون أنتم عنه؟ وتنسبون إليه ما تستنكفون أنتم عنه؟ يسفههم في قولهم ونسبتهم إلى اللَّه ما قالوا فيه ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر، واللَّه أعلم.
وفيه تصبير رسول اللَّه على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع؛ لأنه علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم وقالوا فيه ما قالوا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤)
يحتمل قوله: (مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، أي: ما لكم تحكمون بلا حجة ولا علم؟
وقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥)
أن هذا الحكم جور وظلم عظيم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦)
أي: لكم حجة وبيان على ما تزعمون وتقولون في اللَّه سبحانه.
وقوله: (فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧)
أي: ائتوا بكتاب من عند اللَّه فيه ما تذكرون من الولد وغيره.
وقوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا... (١٥٨) قال عامة أهل التأويل: إن الجنة هم الملائكة؛ لقول أُولَئِكَ الكفرة: إن الملائكة بنات اللَّه، وما قالوا في قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)، أي: علمت الجن الذي
قال عز وجل :﴿ أصطفى البنات على البنين ﴾ ؟ يقول : أختار لنفسي ما تأنفون أنتم منه ؟ وتنسبون إليكم ما تستنكفون أنتم عنه ؟ يسفّههم في قولهم. ونسبتهم إلى الله ما قالوا فيه، ونسبوا إليه إلى آخر ما ذكر، والله أعلم.
وفيه تصبير رسول الله على أذاهم وتركهم الإيمان به والاتباع له، مع علمهم أنه خالقهم ورازقهم وقديم الإحسان إليهم قالوا فيه ما قالوا.
يحتمل قوله ﴿ ما لكم كيف تحكمون ﴾ أي مالكم تحكمون بلا حجة ولا علم ؟
قوله تعالى :﴿ أفلا تذكّرون ﴾ أن هذا الحكم جور وظلم ؟ كقوله :﴿ تلك إذا قسمة ضيزى ﴾ [ النجم : ٢٢ ].
قوله تعالى :﴿ أم لكم سلطان مبين ﴾ : أي ألكم الحجة وبيان على ما تزعُمون، وتقولون في الله، سبحانه.
قوله تعالى :﴿ فأتوا بكتابكم إن أنتم صادقين ﴾ أي ائتوا بكتاب من عند الله، فيه ما تذكرون من الولد وغيره.
قوله تعالى :﴿ وجعلوا بينه وبين الجِنّة نسبًا ﴾ : قال عامة أهل التأويل : إن الجِنّة هم الملائكة لقول أولئك الكفرة : إن الملائكة بنات الله وما قالوا في قوله :﴿ ولقد علمت الجِنّة إنهم لمُحضرون ﴾ أي علمت الجن الذين وصفوا له بنات إنهم لمحضرون النار وعذاب الله، ويحاسبون على قول مجاهد وغيره. ويحتمل الذين رأوا أولئك، أعني الأتباع، أنهم ملائكة الله تعالى، والله أعلم.
وصفوا له بنين إنهم لمحضرون النار وعذاب اللَّه، ويحاسبون، على قول مجاهد وغيره، والذين أُولَئِكَ -أعني الأتباع- أنهم ملائكة اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ).
قوله: (سُبْحَانَ اللَّهِ) نزه نفسه عما وصفه الذين تقدم ذكرهم، وتبرأ عن جميع ما قالوا فيه، ثم استثنى عَزَّ وَجَلَّ: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فلسنا ندري ما موضع الثنيا هاهنا على أثر ما ذكر من التنزيه لنفسه، يحتمل الاستثناء وجهين:
أحدهما: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أُولَئِكَ الكفرة من الولد وغيره إلا عبادنا المخلصين.
والثاني: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)، أي: من أخلص منهم وآمن فإنه غير بريء مما يصفه؛ لما يجوز أن يسلم منهم نفر فيصفونه بما يليق به؛ لأن المؤمن والمخلص لا يصف ربه إلا بما يليق به، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: " إلا عبادنا المخلصين " استثنى من قوله: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) للنار (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) فإنهم لا يحضرون النار والعذاب على سبق استثناء هَؤُلَاءِ الذين أخلصوا ممن يحضر فيما تقدم - واللَّه أعلم - وهو على التقديم والتأخير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) يقول - واللَّه أعلم -: إنكم وما تعبدون لا تملكون أن تفتنوهم وأن تضلوهم، إلا من هو في علم اللَّه أنه يختار الضلالة؛ مما يصليه النار، على حق المعونة لهم لا حقيقة الإضلال، وهو ما ذكر - عَزَّ وَجَلَّ - في آية أخرى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)، وما أخبر أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ): إلا من كتب عليه في اللوح: أنه يصلى الجحيم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إلا من قضي اللَّه عليه أنه يصلى النار.
وأصله ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وما يعبدون: الجنّ الذين عبدوا الجن، أو الملائكة، ويحتمل الأصنام التي عبدت؛ إذ
ثم استثنى عز وجل ﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾، فلسنا ندري ما موضع الثُّنيا ههنا على إثر ما ذكر من التنزيه لنفسه. ويحتمل الاستثناء وجهين :
أحدهما :﴿ سبحان الله عما يصفون ﴾ أي من أخلص منهم، وآمن، فإنه غير بريء مما يصفه هؤلاء لما يجوز أن يسلم منه نفر، فيصفونه بما يليق به، لأن المؤمن والمخلص لا يصف ربه إلا بما يليق به، والله أعلم.
والثاني : ما قال بعضهم :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ استثنى من قوله :﴿ ولقد علمت الجِنّة إنهم لمحضرون ﴾ النار ﴿ سبحان الله عما يصفون ﴾ ﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ فإنهم لا يُحضرون النار والعذاب على ما سبق استثناء هؤلاء الذين أخلصوا ممن يحضر في ما تقدم، والله أعلم، وهو على التقديم والتأخير.
قوله تعالى :﴿ فإنكم وما تعبدون ﴾ يحتمل الجن الذين عبدوا، ويحتمل الملائكة، ويحتمل الأصنام التي عُبدت، إذ قد ينسب إليهن الإضلال لقوله :﴿ رب إنهم أضللن كثير من الناس ﴾ [ إبراهيم : ٣٦ ] والله أعلم.
قد ينسب إليهن الإضلال؛ لقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)
يحتمل هذا منهم -أعني: الملائكة- وجهين:
أحدهما: قالوا ذلك لتبرئة أنفسهم عن أن يأمروا بالعبادة لهم، أي: لم نتفرغ نحن بعبادة هَؤُلَاءِ طرفة عين فكيف نأمر هَؤُلَاءِ بعبادتنا؛ كقولهم: (قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)، أي: نحن في طلب ولايتك فكيف نتفرغ لذلك، أو أن يقولوا: إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) أي ما أنتم بمضلين أحدًا من عبادي بإلهكم هذا الذي تعبدون إلا من تولاكم بعمل أهل النار، وذكر عن عمر بن عبد العزيز وعن الحسن أيضًا أنهما قالا في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) يقول: ما أنتم بمضلين بآلهتكم أحدًا إلا من قدر أنه يصلي الجحيم، وهو قريب مما ذكرنا، واللَّه أعلم.
(إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)
يحتمل مكان معلوم محدود لا يبرح عنه ولا يفارق.
ويحتمل (مَقَامٌ مَعْلُومٌ) أي: عبادة معلومة نحو ما ذكر حكيم بن حزام قال: بينما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا بما نحن فيه ولكن أمر آخر، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)
ثم قوله: (لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) بنصب اللام على ظاهر ما قالوا، يخبر أن يكون من المخلصين بكسر اللام، أي: لو كان كذا، فنحن نخلص له التوحيد والعبادة، لكن المخلص أن يخلصنا اللَّه لو كان كذا، واللَّه أعلم.
ثم أخبر أنهم كفروا ما آتاهم البيان وأن أُولَئِكَ المتقدمين إنما أهلكوا لما ذكر مُحَمَّد -
وقال بعضهم : قوله عز وجل :﴿ إلا من هو صال الجحيم ﴾ : إلا من كتب عليه في اللوح أنه يصلي الجحيم.
وقال بعضهم : إلا من قضى الله عليه أن يصلي النار. وأصله ما ذكرنا، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾ : يحتمل هذا منهم، أعني الملائكة، وجهين :
أحدهما : قالوا ذلك تبرئة لأنفسهم من أن يأمروا بالعبادة لهم، أي لم نتفرّغ نحن لعبادة هؤلاء طرفة عين، فكيف نأمر هؤلاء بعبادتنا ؟ كقولهم :﴿ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم ﴾ [ سبأ ٤١ ] أي نحن في طلب الصواب ولا شك، فكيف نتفرّغ لذلك ؟
والثاني : أن يقولوا : إن ولايتك التي واليتنا شغلتنا عن جميع ما ذكروا، والله أعلم.
ويحتمل قوله تعالى :﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾ : مكانا معلوما محدودا لا يبرح منه، ولا يفارقه، ويحتمل ﴿ مقام معلوم ﴾ أي عبادة معلومة نحو ما ( ذكر حكيم بن حزام : قال [ : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : هل تسمعون ما أسمع ؟ قلنا : يا رسول الله ما تسمع ؟ قال : أسمع أطيط السماء، وما تلام أن تئِطّ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد )[ الترمذي ٢٣١٢ ] والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وإنا لنحن الصّافون ﴾ : يحتمل :﴿ الصافون ﴾ أي يصلون صفوفا، لا يصلي أبناء آدم إلا صفوفا. ويحتمل ﴿ الصّافون ﴾ أي قائمون صفوفا وراكعون صفوفا وساجدون صفوفا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإنا لنحن المُسبّحون ﴾ يحتمل أي مصلّون على ما قال أهل التأويل، ويحتمل حقيقة التسبيح أي ينزّهون الله تعالى عما تقول فيه الملحدة، ويحتمل قوله :﴿ المسبّحون ﴾ أي عابدون ودائما وأبدا، والله أعلم
اختُلف فيه : قال بعضهم : إن أهل مكة كانوا يقولون قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم : قاتل الله اليهود والنصارى، كذّبوا أنبياءهم، لو أنهم ذكروا أنباءً من الأولين ﴿ لكنّا عباد الله المخلصين ﴾ قد قالوا ذلك، وأكذبوا القول فيه بالقسم بالله تعالى، أخبر الله عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] أي نفورا من ربهم والله أعلم.
وقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم أن ينزل بهم العذاب بعبادتهم الأصنام على ما نزل بالأولين من العذاب بعبادتهم الأصنام وتكذيبهم الرسل عليهم السلام فيقولون عند ذلك ﴿ لو أن عندنا ذِكرا من الأولين ﴾ أي خبرا من الأمم الماضية أنهم على ماذا أهلكوا ؟ لو علمنا أنهم أهلكوا بما يذكر محمد ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ فقصّ الله تعالى عليهم خبر الأولين أن العذاب إنما أنزل بهم بما ذكر محمد عليه السلام فلم يقبلوا، وكفروا به، عنادا منهم.
ويحتمل أن يكون هذا منهم احتجاجا : أن آباءنا قد عبدوا الأصنام، ففعلوا ما نحن فاعلون، ثم لم ينزل بهم العذاب.
فلو كان صنيعهم غير مرضيّ عند الله تعالى، وإن كانوا غير مأمورين به، ما تركهم على ذلك.
وهو كقوله :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] وقوله :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] ونحو ذلك من الاحتجاج والباطل.
فعلى ذلك يحتمل أن يكون قولهم الذي قالوا :﴿ لو أن عندنا ذكرا من الأولين ﴾ ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ أي لم يهلكوا بما نحن فيه، [ إنما يذكر ذلك لشيء ] آخر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٧: اختُلف فيه : قال بعضهم : إن أهل مكة كانوا يقولون قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم : قاتل الله اليهود والنصارى، كذّبوا أنبياءهم، لو أنهم ذكروا أنباءً من الأولين ﴿ لكنّا عباد الله المخلصين ﴾ قد قالوا ذلك، وأكذبوا القول فيه بالقسم بالله تعالى، أخبر الله عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] أي نفورا من ربهم والله أعلم.
وقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم أن ينزل بهم العذاب بعبادتهم الأصنام على ما نزل بالأولين من العذاب بعبادتهم الأصنام وتكذيبهم الرسل عليهم السلام فيقولون عند ذلك ﴿ لو أن عندنا ذِكرا من الأولين ﴾ أي خبرا من الأمم الماضية أنهم على ماذا أهلكوا ؟ لو علمنا أنهم أهلكوا بما يذكر محمد ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ فقصّ الله تعالى عليهم خبر الأولين أن العذاب إنما أنزل بهم بما ذكر محمد عليه السلام فلم يقبلوا، وكفروا به، عنادا منهم.
ويحتمل أن يكون هذا منهم احتجاجا : أن آباءنا قد عبدوا الأصنام، ففعلوا ما نحن فاعلون، ثم لم ينزل بهم العذاب.
فلو كان صنيعهم غير مرضيّ عند الله تعالى، وإن كانوا غير مأمورين به، ما تركهم على ذلك.
وهو كقوله :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] وقوله :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] ونحو ذلك من الاحتجاج والباطل.
فعلى ذلك يحتمل أن يكون قولهم الذي قالوا :﴿ لو أن عندنا ذكرا من الأولين ﴾ ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ أي لم يهلكوا بما نحن فيه، [ إنما يذكر ذلك لشيء ] آخر.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٧: اختُلف فيه : قال بعضهم : إن أهل مكة كانوا يقولون قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم : قاتل الله اليهود والنصارى، كذّبوا أنبياءهم، لو أنهم ذكروا أنباءً من الأولين ﴿ لكنّا عباد الله المخلصين ﴾ قد قالوا ذلك، وأكذبوا القول فيه بالقسم بالله تعالى، أخبر الله عنهم بقوله :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] أي نفورا من ربهم والله أعلم.
وقال بعضهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوعدهم أن ينزل بهم العذاب بعبادتهم الأصنام على ما نزل بالأولين من العذاب بعبادتهم الأصنام وتكذيبهم الرسل عليهم السلام فيقولون عند ذلك ﴿ لو أن عندنا ذِكرا من الأولين ﴾ أي خبرا من الأمم الماضية أنهم على ماذا أهلكوا ؟ لو علمنا أنهم أهلكوا بما يذكر محمد ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ فقصّ الله تعالى عليهم خبر الأولين أن العذاب إنما أنزل بهم بما ذكر محمد عليه السلام فلم يقبلوا، وكفروا به، عنادا منهم.
ويحتمل أن يكون هذا منهم احتجاجا : أن آباءنا قد عبدوا الأصنام، ففعلوا ما نحن فاعلون، ثم لم ينزل بهم العذاب.
فلو كان صنيعهم غير مرضيّ عند الله تعالى، وإن كانوا غير مأمورين به، ما تركهم على ذلك.
وهو كقوله :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] وقوله :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] ونحو ذلك من الاحتجاج والباطل.
فعلى ذلك يحتمل أن يكون قولهم الذي قالوا :﴿ لو أن عندنا ذكرا من الأولين ﴾ ﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ أي لم يهلكوا بما نحن فيه، [ إنما يذكر ذلك لشيء ] آخر.

عليه الصلاة والسلام - لكنهم عاندوه وكابروه وكفروا به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
علم عيان ومشاهدة؛ إذ عرفوا علم خبر بالحجة والآيات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ)، اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرسل - عليهم السلام - كانوا منصورين لم يغلب رسول قط فإنما قتل: الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلغون رسالة الرسل إلى قومهم ويخبرون عنهم، فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قتل أحد منهم؛ عصمهم اللَّه تعالى عن الناس وعما هموا بهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إنهم منصورون لما نصر العاقبة لهم؛ إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له وإن غلب في الابتداء.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) بالحجج والآيات والبراهين أنهم يغلبون بحججهم وآياتهم ويرفعون بها الشبه والتمويهات، واللَّه أعلم.
ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ)، وفي بعض القراءات: (قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا)، أخبر أنهم وإن قتلوا فإنهم لم يهنوا ولم يضعفوا، ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)، ثم أخبر أنه آتاهم اللَّه ذلك حيث قال: (فَآتَاهُمُ...)، كذا، واللَّه أعلم؛ دل أنه وإن غلبوا وقتلوا فهم المنصورون.
ثم قوله: (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ذكر (إِنَّهُمْ لَهُمُ) بحرفين ومعناهما واحد على التأكيد؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ)، وقوله: (إِنِّي أَنَا اللَّهُ)، وإن كان الواحد كافيًا، كما في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) أي: رسلنا أو أتباعنا وأولياؤنا هم الغالبون على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)
يحتمل أي: لا تكافئهم بأذاهم إياك إلى حين أو لا تقاتلهم، فكيفما كان ففيه وجهان من الدليل: أحدهما: دليل على رسالته حيث أخبر أنهم يكونون على الكفر إلى الحين الذي ذكر ويهلكون على ذلك حيث قال: (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ).
وقوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ﴾ ﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ ﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : إن الرسل عليهم السلام كانوا منصورين. لم يقتل رسول قط. فإنما قُتل الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلّغون رسالة الرسل إلى قومهم، ويخبرون عنهم. فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قُتل أحد منهم، عصمهم الله تعالى عن الناس، وعما هَمّوا بهم.
وقال بعضهم :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ لما نصر العاقبة لهم، إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له، وإن غُلب في الابتداء.
وقال بعضهم :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ بالحجج والآيات والبراهين. إنهم يغلبون بحججهم وآياتهم، ويرفعون بها الشّبه والتمويهات، والله أعلم.
ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله عز وجل :﴿ وكأيّن من نبي قاتل معه ربِّيُّون كثير ﴾ وفي بعض القراءات : قُتل معه ربِّيُّون كثير ﴿ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] أخبر أنهم، وإن قُتلوا، فإنهم لم يهنوا، ولم يضعفوا. ثم قال عز وجل ﴿ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أرمنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٧ ] ثم أخبر أنه آتاهم الله ذلك حين قال :﴿ فآتاهم الله [ ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ﴾ ] [ آل عمران : ١٤٨ ] والله أعلم.
دلّ، وإن غُلبوا، وقتلوا، فهم المنصورون.
ثم قوله :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ ذكر ﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ بحرفين، ومعناهما واحد على التأكيد كقوله : عز وجل :﴿ وإنا لنحن الصافّون ﴾ [ الصافات : ١٦٥ ] وقوله :﴿ إنني أنا الله ﴾ طه : ١٤، وإن كان الواحد كافيا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧١: وقوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ﴾ ﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ ﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ اختلف فيه : قال بعضهم : إن الرسل عليهم السلام كانوا منصورين. لم يقتل رسول قط. فإنما قُتل الأنبياء ورسل المرسلين الذين يبلّغون رسالة الرسل إلى قومهم، ويخبرون عنهم. فأما الرسل أنفسهم فهم لم يقتلوا ولا قُتل أحد منهم، عصمهم الله تعالى عن الناس، وعما هَمّوا بهم.
وقال بعضهم :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ لما نصر العاقبة لهم، إذ لم يكن رسول إلا وقد كانت العاقبة له، وإن غُلب في الابتداء.
وقال بعضهم :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ بالحجج والآيات والبراهين. إنهم يغلبون بحججهم وآياتهم، ويرفعون بها الشّبه والتمويهات، والله أعلم.
ويستدل صاحب التأويل الأول بقوله عز وجل :﴿ وكأيّن من نبي قاتل معه ربِّيُّون كثير ﴾ وفي بعض القراءات : قُتل معه ربِّيُّون كثير ﴿ فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] أخبر أنهم، وإن قُتلوا، فإنهم لم يهنوا، ولم يضعفوا. ثم قال عز وجل ﴿ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أرمنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾ [ آل عمران : ١٤٧ ] ثم أخبر أنه آتاهم الله ذلك حين قال :﴿ فآتاهم الله [ ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ﴾ ] [ آل عمران : ١٤٨ ] والله أعلم.
دلّ، وإن غُلبوا، وقتلوا، فهم المنصورون.
ثم قوله :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ ذكر ﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾ بحرفين، ومعناهما واحد على التأكيد كقوله : عز وجل :﴿ وإنا لنحن الصافّون ﴾ [ الصافات : ١٦٥ ] وقوله :﴿ إنني أنا الله ﴾ طه : ١٤، وإن كان الواحد كافيا.

وقوله تعالى :﴿ وإن وجندنا لهم الغالبون ﴾ أي رسلنا وأتباعنا وأولياؤنا، هم الغالبون على ما ذكرنا، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ فتولّ عنهم حتى حين ﴾ : يحتمل أي لا تكافئهم بأذاهم إياك إلى حين، أي لا تقاتلهم.
فكيف ما كان ففيه وجهان من الدلالة :
أحدهما : دليل على رسالته حين أخبر أنهم يكونون على الكفر إلى حين الذي ذكر، ويهلكون على ذلك حين قال :﴿ فتولّ عنهم حتى حين ﴾.
والثاني : فيه دليل حفظه إياه وعصمته مما كانوا يهُمّون به من القتل والإهلاك حين منعه من مقاتلتهم، ونهاه عن التعرض لهم إلى وقت معلوم على ما كان منهم من الهم بقتله وإهلاكه لو وجدوا السبيل إليه.
فدلّ أن الله عز وجل قد عصمه، وحفظه عنهم حين قال لهم ما قال حتى قال عز وجل :﴿ وأبصرهم فسوف يبصرون ﴾ كقوله :﴿ فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ﴾ [ هود : ٥٥ ].
والثاني: فيه دليل حفظه إياه وعصمته عما كانوا يهمون به من القتل والإهلاك؛ حيث منعه من مقاتلتهم ونهاه عن التعرض لهم إلى وقت، على المعلوم ما كان منهم من الهم بقتله وإهلاكه لو وجدوا السبيل إليه؛ فدل أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد عصمه وحفظه عنهم حين قال لهم ما قال حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ)؛ كقوله: (فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ).
قوله تعالى: [(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥)]
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ).
عيانًا ومشاهدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وأبصرهم العذاب إذا نزل بهم خير فسوف يبصرون وقوعًا.
ويحتمل قوله: (وَأَبْصِرْهُمْ) أي: عرفهم أن العذاب ينزل بهم فسوف يعرفون إذا نزل بهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦)
دل هذا أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب بهم - واللَّه أعلم - إنما يستعجلون العذاب استهزاء بالرسول - عليه السلام - وتكذيبًا له فيما يوعدهم أن العذاب ينزل بهم.
ثم قوله: (أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ) هو حرف التعجب أن كيف يستعجلون عذابي؟! ألم يعرفوا قدري وسلطاني في إنزال العذاب والإهلاك إذا أردت تعذيب قوم وإهلاكهم؟! أي: قدرت ذلك وملكت عليه.
ثم أخبر أنه إذا نزل العذاب بساحتهم يساء صباحهم، حيث قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ) يحتمل النزول بالساحة، أي: بقربهم.
ويحتمل النزول بالساحة: النزول بهم والوقوع عليهم؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ)، حتى يأتي وعد الله في نزوله بهم - واللَّه أعلم - يحتمل نزوله بساحتهم ما ذكرنا من نزوله بقربهم ووقوعه عليهم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) ساء صباحهم؛ لأن ذلك العذاب إذا حل بهم صيرهم معذبين في النار أبد الآبدين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: [(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨)]
قد ذكرنا هذا فيما تقدم.
وكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) ويقول بعضهم: أي: انظر فسوف ينظرون، لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ أفبعذابنا يستعجلون ﴾ : دل هذا أنهم كانوا يستعجلون نزول العذاب بهم، والله أعلم. إنما يستعجلون العذاب استهزاء بالرسول عليه السلام وتكذيبا له في ما يوعدهم أن العذاب ينزل بهم.
ثم قوله عز وجل ﴿ أفبعذابنا يستعجلون ﴾ هو حرف التعجيب، أي كيف يستعجلون عذابي ؟ ألم يعرفوا قدرتي وسلطاني في إنزال العذاب والإهلاك إذا أردت تعذيب قوم وإهلاكهم، فإني قدرت ذلك، وملكت عليه.
أخبر أنه إذا نزل العذاب بساحتهم ساء صباحهم، حيث قال عز وجل :﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين ﴾. ثم قوله عز وجل ﴿ فإذا نزل بساحتهم ﴾ يحتمل النزول بهم والوقوع عليهم كقوله عز وجل :﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله ﴾ [ الرعد : ٣١ ] في نزوله بهم، والله أعلم. يحتمل نزوله بساحتهم ما ذكرنا من نزوله بقربهم ووقوعه عليهم.
ثم قوله تعالى :﴿ فإذا نزل بساحتهم فساء صباحُ المنذرين ﴾ ساء صباحهم لأن ذلك العذاب إذا حل بهم صيّرهم معذَّبين في النار أبد الآبدين، والله أعلم.
قوله تعالى :﴿ وتولّ عنهم حتى حين ﴾ : هذا قد ذكرنا في ما تقدم. وكذلك قوله عز وجل :﴿ وأبصر فسوف يبصرون ﴾. ويقول بعضهم أي انظر فسوف ينظرون. لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٨: قوله تعالى :﴿ وتولّ عنهم حتى حين ﴾ : هذا قد ذكرنا في ما تقدم. وكذلك قوله عز وجل :﴿ وأبصر فسوف يبصرون ﴾. ويقول بعضهم أي انظر فسوف ينظرون. لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
قوله تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وهذه الأحرف الثلاثة جميع ما بينه من الحق على الخلق من التوحيد، وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها، وجميع ما عليهم من الثناء الحسن، والحمد له فيما أنعم عليهم وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين: أما حرف التوحيد فهو قوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه نفسه وبرأه عن جميع ما قالت الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله - عَزَّ وَجَلَّ - بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله.
وفي قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبِّ الْعِزَّةِ) وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه، فيرجى أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله بالعز له والقوة.
وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - عباده أن يثنوا على المرسلين جملة؛ وعلى ذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إذا سلمتم فسلموا على إخواني المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين ".
أما الثناء الحسن على اللَّه بكل ما أنعم عليهم وأحسن إليهم فهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢) فيرجى أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين، واللَّه أعلم.
وذكر عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "، واللَّه أعلم.
ورب العزة: قَالَ بَعْضُهُمْ: هو رب النعمة والقوة.
ويحتمل: رب العزة، أي: به يتعزز كل من يتعزز، وإليه يرجع كل عزيز؛ وكذلك كل من حمد أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى، واللَّه أعلم بحقيقة مراده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٠:قوله تعالى :﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ ﴿ وسلام على المرسلين ﴾ ﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ في هذه الأحرف الثلاثة جميع ما بيّنه الله تعالى من الحق على الخلق من التوحيد والثناء الحسن والحمد لنعمه وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها وجميع ما عليهم من الثناء الحسن والحمد له وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين.
أما حرف التوحيد فهو قوله تعالى ﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ نزّه نفسه، وبرّأه من جميع ما قال الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك. فيرجو أن يُثاب قائل هذا ثواب كل واصف الله عز وجل بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله.
وفي قوله :﴿ ربّ العزة ﴾ وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه، فيرجو أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله بالعزة والقوة.
وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله عز وجل :﴿ وسلام على المرسلين ﴾ أمر الله عز وجل عبادة أن يثنوا على المرسلين جملة. وعلى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على إخواني المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين ) [ بنحوه مسلم ٤٠٣ ].
أما الثناء الحسن على الله بكل ما أنعم عليهم، وأحسن إليهم فهو قوله عز وجل :﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ فيرجو أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين، والله أعلم.
وذُكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه :﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ ﴿ وسلام على المرسلين ﴾ ﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ربّ العزة ﴾ قال بعضهم : هو رب النعمة والقوة. ويحتمل ﴿ ربّ العزة ﴾ أي به يتعزّز كل من يتعزّز وإليه يرجع كل عزيز، وكذلك كل من حمد، أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى، والله أعلم بحقيقة مراده.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٠:قوله تعالى :﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ ﴿ وسلام على المرسلين ﴾ ﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ في هذه الأحرف الثلاثة جميع ما بيّنه الله تعالى من الحق على الخلق من التوحيد والثناء الحسن والحمد لنعمه وجميع ما عليهم من التفويض إليه في الأمور كلها وجميع ما عليهم من الثناء الحسن والحمد له وما ألزمهم من الثناء الحسن على جميع المرسلين.
أما حرف التوحيد فهو قوله تعالى ﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ نزّه نفسه، وبرّأه من جميع ما قال الملاحدة فيه مما لا يليق به من الولد والشريك والصاحبة وغير ذلك. فيرجو أن يُثاب قائل هذا ثواب كل واصف الله عز وجل بالبراءة له والتنزيه عن ذلك كله.
وفي قوله :﴿ ربّ العزة ﴾ وصف بالعزة والقوة وتفويض الأمر إليه، فيرجو أن يثاب قائل هذا ثواب كل واصف لله بالعزة والقوة.
وأما الثناء الحسن على المرسلين فهو قوله عز وجل :﴿ وسلام على المرسلين ﴾ أمر الله عز وجل عبادة أن يثنوا على المرسلين جملة. وعلى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سلّمتم عليّ فسلّموا على إخواني المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين ) [ بنحوه مسلم ٤٠٣ ].
أما الثناء الحسن على الله بكل ما أنعم عليهم، وأحسن إليهم فهو قوله عز وجل :﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ فيرجو أن يثاب قائل هذا وتاليه على المعرفة به مما فيه ثواب جميع القائلين به والتالين، والله أعلم.
وذُكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه :﴿ سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ﴾ ﴿ وسلام على المرسلين ﴾ ﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ربّ العزة ﴾ قال بعضهم : هو رب النعمة والقوة. ويحتمل ﴿ ربّ العزة ﴾ أي به يتعزّز كل من يتعزّز وإليه يرجع كل عزيز، وكذلك كل من حمد، أو أثنى على شيء فحقيقة ذلك الحمد والثناء راجع إليه تعالى، والله أعلم بحقيقة مراده.

Icon