ﰡ
أمر اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم، ولم يشترط هنا في ذلك شرطًا، ولكنه بيّن هذا أن هذا الإيتاء المأمور به مشروط بشرطين :
الأول : بلوغ اليتامى.
والثاني : إيناس الرشد منهم، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ﴾. وتسميتهم يتامى في الموضعين، إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ، إذ لا يتم بعد البلوغ إجماعًا، ونظيره قوله تعالى :﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ﴾، يعني الذين كانوا سحرة، إذ لا سحر مع السجود للَّه.
وقال بعض العلماء : معنى إيتائهم أموالهم إجراء النفقة والكسوة زمن الولاية عليهم.
وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة أعطي ماله على كل حال ؛ لأنه يصير جدًا، ولا يخفى عدم اتجاهه، واللَّه تعالى أَعلم.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كبيرا ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن أكل أموال اليتامى حوب كبير، أي : إثم عظيم، ولم يبيّن مبلغ هذا الحوب من العظم، ولكنه بيّنه في موضع آخر وهو قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾.
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط، وهذا الجزاء، وعليه، ففي الآية نوع إجمال، والمعنى كما قالت أم المؤمنين، عائشة رضي اللَّه عنها : أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره، فإن كانت جميلة، تزوجها من غير أن يقسط في صداقها، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره ؛ لئلا يشاركه في مالها، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، أي : كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال، والجمال، فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها، والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة، وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين، عائشة، رضي اللَّه عنها، يبيّنه ويشهد له قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ في النّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ في يَتَامَى النّسَاء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ﴾، وقالت، رضي اللَّه عنها : إن المراد بما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في الْيَتَامَى ﴾ الآية، فتبين أنها يتامى النساء بدليل تصريحه بذلك في قوله :﴿ في يَتَامَى النّسَاء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ ﴾ الآية. فظهر من هذا أن المعنى : وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك ؛ لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه، وهذا هو أظهر الأقوال ؛ لدلالة القرآن عليه، وعليه فاليتامى جمع يتيمة على القلب، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم لما عرف أن جمع الفعلية فعائل، وهذا القلب يطرد في معتل اللام كقضية، ومطية، ونحو ذلك ويقصر على السماع فيما سوى ذلك.
قال ابن خويز منداد : يؤخذ من هذه الآية جواز اشتراء الوصي وبيعه من مال اليتيم لنفسه بغير محاباة، وللسلطان النظر فيما وقع من ذلك، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية أن الولي إذا أراد نكاح من هو وليها جاز أن يكون هو الناكح والمنكح وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وقاله من التابعين : الحسن وربيعة وهو قول الليث.
وقال زفر والشافعي : لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها ولي آخر أقرب منه أو مساو له.
وقال أحمد في إحدى الروايتين : يوكل رجلاً غيره فيزوجها منه، وروي هذا عن المغيرة بن شعبة، كما نقله القرطبي، وغيره.
وأخذ مالك بن أنس من تفسير عائشة لهذه الآية، كما ذكرنا الرد إلى صداق المثل فيما فسد من الصداق، أو وقع الغبن في مقداره ؛ لأن عائشة رضي اللَّه عنها، قالت :« ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق »، فدلّ على أن للصداق سنة معروفة لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم، وقد قال مالك : للناس مناكح عرفت لهم، وعرفوا لها يعني مهورًا وأكفاء.
ويؤخذ أيضًا من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية، وما قاله كثير من العلماء من أن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ، محتجين بأن قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ في النّسَاء ﴾، اسم ينطلق على الكبار دون الصغار، فهو ظاهر السقوط ؛ لأن اللَّه صرح بأنهن يتامى، بقوله :﴿ في يَتَامَى النّسَاء ﴾، وهذا الاسم أيضًا قد يطلق على الصغار، كما في قوله تعالى :﴿ يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾، وهن إذ ذاك رضيعات فالظاهر المتبادر من الآية جواز نكاح اليتيمة مع الإقساط في الصداق، وغيره من الحقوق.
ودلّت السنّة على أنها لا تجبر، فلا تزوج إلا برضاها، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء.
تنبيه : قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في الْيَتَامَى ﴾، ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة، اثنتين، أو ثلاثًا، أو أربعًا، كمن خاف فدلّ على أن الآية نزلت جوابًا لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك. ا ه منه بلفظه.
قال مقيده عفا اللَّه عنه الذي يظهر في الآية على ما فسرتها به عائشة، وارتضاه القرطبي، وغير واحد من المحققين ودلّ عليه القرآن : أن لها مفهومًا معتبرً ؛ لأن معناها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن، ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن، بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن وهو واضح كما ترى، إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن، أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات، ولا إشكال في ذلك، واللَّه أعلم.
وقال بعض العلماء : معنى الآية ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في الْيَتَامَى ﴾، أي : إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى، فاخشوا أيضًا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن، وعدم القيام بحقوقهن، فقللوا عدد المنكوحات ولا تزيدوا على أربع، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة ؛ لأن المرأة شبيهة باليتيم، لضعف كل واحد منهما وعدم قدرته على المدافعة عن حقه فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها.
وقال بعض العلماء : كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ولا يتحرجون من الزنا، فقيل لهم في الآية : إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنا، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولا تقربوا الزنا. وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر واللَّه تعالى أعلم.
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضًا : أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة، وأنه يجوز نكاح أربع ويحرم الزيادة عليها، كما دل على ذلك أيضًا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال، وقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان بن سلمة :« اختر منهن أربعًا وفارق سائرهن ». وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة والخوف في الآية، قال بعض العلماء : معناه الخشية، وقال بعض العلماء : معناه العلم، أي : وإن علمتم ألاّ تقسطوا الآية. ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم. قول أبي محجن الثقفي :
إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة | تروي عظامي في الممات عروقها |
ولا تدفنني بالفلاة فإنني | أخاف إذا ما مت ألا أذوقها |
تنبيه : عبّر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله :﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ ﴾، ولم يقل من طاب ؛ لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات. أي : ما طاب لكم من بكر أو ثيب، أو ما طاب لكم لكونه حلالاً، وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل " بما " كقولك ما زيد في الاستفهام تعنى أفاضل ؟.
وقال بعض العلماء : عبر عنهن " بمَا " إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض، واللَّه تعالى أعلم.
لم يبيّن هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون، ولكنه بيّنه في آيات المواريث كقوله :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ ﴾، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ ﴾.
لم يبيّن هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة. ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى :﴿ الرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوالِهِمْ ﴾ ؛ لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائمًا، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائمًا، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبرًا لنقصة المترقبة ظاهرة جدًا.
قوله تعالى :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ﴾ الآية.
صرّح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثًا فصاعدًا، فلهن الثلثان وقوله :﴿ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾ يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك، وصرّح بأن الواحدة لها النصف، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضًا، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال.
وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له، وأن للبنتين الثلثين أيضًا. الأول : قوله تعالى :﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْنِ ﴾، إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلاً، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر. واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلاً : إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين ؛ لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط ؛ لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقًا، فلا دور لانفكاك الجهة، واعترضه بعضهم أيضًا بأن للابن مع البنتين النصف، فيدل على أن فرضهما النصف، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه، استحقتا أكثر من ذلك ؛ لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف، بعدما كانت معه تأخذ الثلث، ويزيده إيضاحًا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى.
فبهذا يظهر أنه جلّ وعلا، أشار إلى ميراث البنتين بقوله :﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْنِ ﴾، كما بيّنا، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات، وحكم الواحدة منهنّ بقوله :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ﴾، ومما يزيده إيضاحًا، أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله :﴿ فَإِن كُنَّ ﴾، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر. الموضع الثاني : هو قوله تعالى في الأختين :﴿ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ ﴾ ؛ لأن البنت أمس رحمًا، وأقوى سببًا في الميراث من الأخت بلا نزاع.
فإذا صرح تعالى : بأن للأختين الثلثين، علم أن البنتين كذلك من باب أولى، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب، أعني : مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس، خلافًا للشافعي وقوم، كما علم في الأصول فاللَّه تبارك وتعالى لمّا بيّن أن للأختين الثلثين، أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى.
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات، أفهم أيضًا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين ؛ لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه، ويزيد ما ذكرنا إيضاحًا ما أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، عن جابر رضي اللَّه عنه، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت : يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أُحد، وإن عمهما أخذ مالهما، ولم يدع لهما مالاً، ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله عليه وسلم :« يقضي اللَّه تعالى، في ذلك »، فنزلت آية الميراث فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عمهما، فقال :« أعط ابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فهو لك ».
وما روى عن ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، من أنه قال : للبنتين النصف ؛ لأن اللَّه تعالى، قال :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور، الأول : أنه مردود بمثله ؛ لأن اللَّه قال أيضًا :﴿ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ﴾، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلاً كونها واحدة شرطًا معلقًا عليه فرض النصف.
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف ؛ لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم، إلا ما قال فيه بعض العلماء : إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات، وإنما من صيغ الحصر والغاية، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط، قال في « مراقي السعود » مبينًا مراتب مفهوم المخالفة :
أعلاه لا يرشد إلا العلما *** فما لمنطوق بضعف انتمى
فالشرط فالوصف الذي يناسب *** فمطلق الوصف الذي يقارب
فعدد ثمت تقديم يلي *** وهو حجة على النهج الجلي
وقال صاحب « جمع الجوامع » ما نصه : مسألة الغاية قيل : منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط، فالصفة المناسبة، فمطلق الصفة غير العدد، فالعدد، فتقديم المعمول إلخ، وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله :﴿ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ﴾، أقوى من مفهوم الظرف في قوله :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾. الثاني : دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين. الثالث : تصريح النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث جابر المذكور آنفًا. الرابع : أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك.
قال الألوسي في « تفسيره » ما نصه : وفي « شرح الينبوع » نقلاً عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في « شرح فرائض الوسيط » : صح رجوع ابن عباس، رضي اللَّه عنهما، عن ذلك فصار إجماعًا. ا ه منه بلفظه.
تنبيهان
الأول : ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في « تفسيره » من أن المفهوم في قوله :﴿ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ﴾، مفهوم عدد غلط. والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم. قال في « نشر البنود على مراقي السعود » في شرح قوله :
وهي ظرف علة وعدد *** ومنه شرط غاية تعتمد
ما نصه : والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شيء بأداة شرط كإن وإذا، وقال في شرح هذا البيت أيضًا قبل هذا ما نصه : ومنها الشرط نحو :﴿ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ ﴾، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط، أي : فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو من تطهر صحت صلاته. اه منه بلفظه.
فكذلك قوله :﴿ وَإِن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النّصْفُ ﴾، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر، فإن قيل : كذلك المفهوم في قوله :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾ ؛ لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين :
الأول : أن حقيقة الشرط كونهن نساء. وقوله فوق اثنتين وصف زائد، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفًا كانت أو غيره.
الثاني : أنا لو سلمنا جدليًا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم.
الثاني : إن قيل : فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ فالجواب من وجهين :
الأول : هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله :﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنْثَيَيْنِ ﴾، كما تقدم وإذن قوله :﴿ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ﴾، تنصيص على حكم الثلاث فصاعدًا كما تقدم.
الثاني : أن لفظة ﴿ فوق ﴾ ذكرت لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ.
وأما ادعاء أن لفظة ﴿ فوق ﴾ زائدة وادعاء أن ﴿ فوق اثنتين ﴾ معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى، والقرآن ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم.
المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم، سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا، يرث الواحد منهم كل المال، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد، وقال في جماعتهم : وإن كانوا إخوة رجالاً ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين. وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب، كانوا أشقاء أو لأب. كما أجمعوا أن قوله :﴿ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً ﴾ الآية. أنها في إخوة الأم، وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم. والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع، كما قال الناظم :
ويسألونك عن الكلاله | هي انقطاع النسل لا محاله |
لا والد يبقى ولا مولود | فانقطع الأبناء والجدود |
واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس، والكل لإحاطته بالعدد ؛ لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه.
وقال بعض العلماء : أصلها من الكلال بمعنى الإعياء : لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء.
وقال بعض العلماء : أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميّت وراء ظهره، واختلف في إعراب قوله كلالة. فقال بعض العلماء : هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف، أي : يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء، واختاره الزجاج وهو الأظهر، وقيل : هي مفعول له، أي : يورث لأجل الكلالة أي القرابة، وقيل : هي خبر كان، ويورث صفة لرجل، أي : كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وقيل غير ذلك، واللَّه تعالى أعلم.
لم يبيّن هنا هل جعل لهن سبيلاً أو لا ؟ ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا ﴾ الآية. وقوله في الثيب :﴿ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من اللَّه واللَّه عزيز حكيم ﴾ لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة.
وروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن حكم الرجم مأخوذ أيضًا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة، وهي قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ وَهُم معرضون ٢٣ ﴾، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبيّ صلى الله عليه وسلم، فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن، دليل قرآني واضح على بقاء حكم الرجم، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد، قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح :« خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلاً » الحديث.
نهى اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب، ولم يبيّن ما المراد بنكاح الأب هل هو العقد أو الوطء، ولكنّه بيّن في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه.
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه، وإن لم يمسها الأب، وكذلك عقد الابن محرّم على الأب إجماعًا، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدًا به الجماع بعد العقد، وذلك في قوله :﴿ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ ؛ لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد، بل لا بد معه من الوطء، كما قال صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة القرظي :« لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك »، يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيِّب ؛ لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة.
ومن هنا قال بعض العلماء لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع، وقال بعضهم هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد ؛ لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس.
تنبيه : قال بعض العلماء : إن لفظة ﴿ مَا ﴾ من قوله :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ﴾، مصدرية وعليه فقوله :﴿ من النساء ﴾ متعلق بقوله :﴿ تَنكِحُواْ ﴾، لا بقوله :﴿ نكح ﴾ وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم، أي : لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد، وهذا القول هو اختيار ابن جرير، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن ﴿ مَا ﴾ موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء، كقوله تعالى :﴿ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ﴾، وقد قدمنا وجه ذلك ؛ لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال :« ارجعي إلى بيتك »، فنزلت :﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ﴾.
قال مقيّده عفا اللَّه عنه نكاح زوجات الآباء كان معروفًا عند العرب، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور، فقد تزوج أم عبيد اللَّه وكانت تحت الأسلت إبيه، وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت تحت أبيه أمية، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلاً إنه سبب نزول الآية، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده، فولدت له مسافرًا وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة، كما نقله القرطبي وغيره ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه :
ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر *** إذا منعت مني مليكة والخمر
فإن تك قد أمست بعيدًا مزارها *** فحيّ ابنة المري ما طلع الفجر
وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب، بقوله في ذكر مشاهير فزارة :
منظور الناكح مقتًا وحلف *** خمسين ما له على منع وقف
وقوله : وحلف إلخ قال شارحه : إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينًا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة، قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم :« ولدت من نكاح لا من سفاح »، قال : فدلّ على أن ذلك كان سائغًا لهم.
قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله :
وهند بنت مر أم حارثه *** شخيصه وأم عنز ثالثه
برة أختها عليها خلفا *** كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها *** عذرة التي الهوى يقتلها
وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه، خلافًا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة، فتزوجها بعد ابنه كنانة، وأن ذلك مضعف، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلاً ثوبًا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه، إلى أن نهاهم اللَّه عن ذلك بقوله :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النّسَاء كَرْهاً ﴾ الآية. وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله :
القول فيما اختلفوا واخترقوا *** ولم يقد إليه إلا النزق
ثم شرع يعدد مختلقاتهم، إلى أن قال :
وأن من ألقى على زوج أبيه *** ونحوه بعد التوى ثوبًا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء *** نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى *** ومهرها في النكحتين للردى
وأظهر الأقوال : في قوله تعالى :﴿ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾، أن الاستثناء منقطع، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم، والعلم عند اللَّه تعالى.
يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه، وهذا المفهوم صرّح به تعالى في قوله :﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَي لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وكان أمر الله مفعولا ٣٧ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْواهِكُمْ ﴾، وقوله :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ ﴾ الآية.
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه صلى الله عليه وسلم بأنه : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، والعلم عند اللَّه تعالى.
اعلم أولاً أن لفظ المحصنات أطلق في القرآن ثلاثة إطلاقات :
الأول : المحصنات العفائف، ومنه قوله تعالى :﴿ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ﴾، أي عفائف غير زانيات.
الثاني : المحصنات الحراير، ومنه قوله تعالى :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾، أي على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد.
الثالث : أن يراد بالإحصان التزوج، ومنه على التحقيق قوله تعالى :﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ﴾ الآية أي : فإذا تزوجن. وقول من قال من العلماء : إن المراد بالإحصان في قوله :﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ ﴾، الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية ؛ لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً ﴾ الآية.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصّه : والأظهر واللَّه أعلم أن المراد بالإحصان ها هنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدلّ عليه حيث يقول سبحانه وتعالى :﴿ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾، واللَّه أعلم. والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات، فتعين أن المراد بقوله :﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ ﴾، أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره. اه محل الغرض منه بلفظه.
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى :﴿ * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ الآية أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء، والقرآن يفهم منه ترجيح واحد معيّن منها.
قال بعض العلماء : المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات، أي حرّمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تَسَرٍّ شرعي، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في «الموطأ ».
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات في الآية الحرائر، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع، وأحلّ لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء، وعليه فالاستثناء منقطع.
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات : المتزوجات، وعليه فمعنى الآية وحرّمت عليكم المتزوجات ؛ لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح، وهو الذي يدلّ القرآن لصحته ؛ لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح، وملك اليمين لم يرد في القرآن إلا بمعنى الملك بالرق، كقوله :﴿ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ ﴾، وقوله :﴿ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ٥ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾، في الموضعين، فجعل ملك اليمين قسمًا آخر غير الزوجية. وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر ؛ لأن المعنى عليه : وحرّمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى.
وصرّح ابن القيم رحمه الله بأن هذا القول مردود لفظًا ومعنى، فظهر أن سياق الآية يدلّ على المعنى الذي اخترنا، كما دلّت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا، ويؤيده سبب النزول ؛ لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في «صحيحه » والإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : أصبنا سبيًا من سبي أوطاس ولهنّ أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ ﴾، فاستحللنا فروجهن.
وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر، ونظير هذا التفسير الصحيح قول الفرزدق :
وذات حليل أنكحتها رماحنا | حلال لمن يبني بها لم تطلق |
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق، ما نصه : وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقًا لها ؛ لأن المشتري نائب عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة، وباعها مسلوبة عنه، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في «الصحيحين » وغيرهما، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث، بل خيّرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء، ما خيّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلما خيّرها دلّ على بقاء النكاح، وأن المراد من الآية المسبيات فقط، واللَّه أعلم. اه منه بلفظه.
فإن قيل : إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح ؛ لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة، بخلاف الرجل، وملك اليمين أقوى من ملك النكاح، كما قال بهذا جماعة، ولا يرد على هذا القول حديث بريرة، فالجواب هو ما حرره ابن القيّم، وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها، فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها، وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع، فإذا حققت ذلك، علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات، إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار، فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء، لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا، وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي اللَّه عنها متزوجة برجل اسمه مسافع، فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة. قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي اللَّه عنها :
وقد سباها في غزاة المصطلق | من بعلها مسافع بالمنزلق |
قوله تعالى :﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ الآية.
يعني : كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب اللَّه كقوله تعالى :﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ الآية. فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملاً، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله :﴿ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ ﴾ الآية. وقوله :﴿ وَآتُواْ النّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ﴾، وقوله :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا ﴾ الآية. فالآية في عقد النكاح، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها، فإن قيل التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة ؛ لأن الصداق لا يسمى أجرًا، فالجواب أن القرآن جاء في تسمية الصداق أجرًا في موضع لا نزاع فيه ؛ لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرّح به تعالى في قوله :﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ﴾ الآية. صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرًا، وذلك الموضع هو قوله تعالى :﴿ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، أي : مهورهن بلا نزاع، ومثله قوله تعالى :﴿ لهم وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ الآية. أي : مهورهن فاتّضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة، فإن قيل : كان ابن عباس وأُبي بن كعب، وسعيد بن جبير، والسدي يقرأون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، وهذا يدلّ على أن الآية في نكاح المتعة، فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرآنا ؛ لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن، ولم يثبت كونه قرآنا لا يستدل به على شيء ؛ لأنه باطل من أصله ؛ لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرآن فبطل كونه قرآنا ظهر بطلانه من أصله.
الثاني : أنا لو مشينا على أنه يحتج به، كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك، فهو معارض بأقوى منه ؛ لأن جمهور العلماء على خلافه ؛ ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة، وصرح صلى الله عليه وسلم بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة، كما ثبت في « صحيح » مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني رضي اللَّه عنه أنه غزا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. فقال :« يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء، وإن اللَّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا ».
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع : ولا تعارض في ذلك ؛ لإمكان أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك يوم فتح مكة، وفي حجة الوداع أيضًا والجمع واجب إذا أمكن، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث.
الثالث : أّنا لو سلمنا تسليمًا جدليًا أن الآية تدلّ على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح، والآخرة يوم فتح مكة، كما ثبت في الصحيح أيضًا.
وقال بعض العلماء : نسخت مرة واحدة يوم الفتح، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلي
ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها، ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله :﴿ مّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ﴾، فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ﴾، فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كنّ كتابيات، وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه فأجاز نكاح الأمة الكافرة، وأجاز نكاح الإماء لمن عنده طول ينكح به الحرائر ؛ لأنه لا يعتبر مفهوم المخالفة كما عرف في أصوله رحمه اللَّه.
أما وطء الأمة الكافرة بملك اليمين، فإنها إن كانت كتابية فجمهور العلماء على إباحة وطئها بالملك، لعموم قوله تعالى :﴿ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ الآية. ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم. وأما إن كانت الأمة المملوكة له مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم ؛ فجمهور العلماء على منع وطئها بملك اليمين.
قال ابن عبد البر : وعليه جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء، وما خالفه فهو شذوذ لا يعد خلافًا، ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس.
قال مقيده عفا اللَّه عنه الذي يظهر من جهة الدليل واللَّه تعالى أعلم، جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية ؛ لأن أكثر السبايا في عصره صلى الله عليه وسلم من كفار العرب وهم عبدة أوثان، ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن ولو كان حرامًا لبيّنه، بل قال صلى الله عليه وسلم :« لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة »، ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطًا لقاله وقد أخذ الصحابة سبايا فارس وهن مجوس، ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن.
قال ابن القيّم رحمه الله في «زاد المعاد »، ما نصه : ودلّ هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين، فإن سبايا أوطاس لم يكنّ كتابيات، ولم يشترط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وطئهن إسلامهن، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا، وكنَّ عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهنّ عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد، فإنهنّ لم يكرهن على الإسلام، ولم يكن لهنّ من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعًا، فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن، وهذا مذهب طاوس وغيره، وقواه صاحب «المغني » فيه ورجح أدلته، وباللَّه التوفيق. اه كلام ابن القيم رحمه الله بلفظه وهو واضح جدًا.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾.
لم يبيّن هنا هذا العذاب الذي على المحصنات وهن الحرائر الذي نصفه على الإماء، ولكنه بيّن في موضع آخر أنه جلد مائة بقوله :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ ﴾، فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين، فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى :﴿ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾، وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص ؛ لأنه لا فارق البتة بين الحرة والأمة إلا الرق، فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد، وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس، بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسًا، والخلاف في كونه قياسًا معروف في الأصول.
أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر، فلم يدخل في المراد بالآية.
تنبيه : قد علمت مما تقدم أن التحقيق في معنى أحصن أن المراد به تزوجن، وذلك هو معناه على كلتا القراءتين قراءته بالبناة للفاعل والمفعول، خلافًا لما اختاره ابن جرير من أن معنى قراءة ﴿ أحصن ﴾ بفتح الهمزة والصاد مبنيًا للفاعل أسلمن، وأن معنى ﴿ أُحْصِنَّ ﴾ بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيًا للمفعول زوجن، وعليه فيفهم من مفهوم الشرط في قوله :﴿ فَإِذَا أُحْصِنَّ ﴾ الآية. أن الأمة التي لم تتزوج لا حدّ عليها إذا زنت ؛ لأنه تعالى علق حدّها في الآية بالإحصان، وتمسك بمفهوم هذه الآية ابن عباس، وطاوس، وعطاء، وابن جريج، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي في رواية فقالوا : لا حدّ على مملوكة حتى تتزوج، والجواب عن هذا واللَّه أعلم أن مفهوم هذه الآية فيه إجمال وقد بيّنته السنة الصحيحة، وإيضاحه أن تعليق جلد الخمسين المذكور في الآية على إحصان الأمة، يفهم منه أن الأمة التي لم تحصن ليست كذلك فقط، فيحتمل أنها لا تجلد ويحتمل أنها تجلد أكثر من ذلك أو أقل أو ترجم إلى غير ذلك من المحتملات، ولكن السنة الصحيحة دلت على أن غير المحصنة من الإماء كذلك، لا فرق بينها وبين المحصنة، والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع توهم أنها ترجم كالحرة، فقد أخرج الشيخان في «صحيحيهما » عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي اللَّه عنهما قالا : سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال :« إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير ».
قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة، أو الرابعة، وحمل الجلد في الحديث على التأديب غير ظاهر، لاسيما وفي بعض الروايات التصريح بالحد، فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه، والظاهر أن السائل ما سأله إلا لأنه أشكل عليه مفهوم هذه الآية فالحديث نص في محل النزاع، ولو كان جلد غير المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لبيّنه صلى الله عليه وسلم.
وبهذا تعلم أن الأقوال المخالفة لهذا لا يعّول عليها، كقول ابن عباس ومن وافقه المتقدم آنفًا، وكالقول بأن غير المحصنة تجلد مائة، وهو المشهور عن داود بن علي الظاهري، ولا يخفى بعده وكالقول بأن الأمة المحصنة ترجم وغير المحصنة تجلد خمسين، وهو قول أبي ثور، ولا يخفى شدة بعده والعلم عند اللَّه تعالى.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء، ولم يبيّن هل يحصل من الرجال نشوز أو لا ؟ ولكنه بيّن في موضع آخر أن النشوز أيضًا قد يحصل من الرجال، وهو قوله تعالى :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً ﴾ الآية، وأصل النشوز في اللغة الارتفاع، فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها، وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج، وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضًا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها، والعلم عند اللَّه تعالى.
لم يبيّن في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة، ولا أكثره ولكنه بيّن في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها، وهو قوله :﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾.
وبيّن في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء اللَّه، وهو قوله :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ﴾ الآية كما تقدم.
على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض، فيكونوا ترابًا مثلها على أظهر الأقوال، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُراباً ٤٠ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ٤٢ ﴾.
بيّن في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٦٥ ﴾، فلا يتنافى قوله :﴿ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ٤٢ ﴾، مع قوله عنهم :﴿ وَاللَّهِ رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ٢٣ ﴾، وقوله عنهم أيضًا :﴿ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء ٢٨ ﴾، وقوله عنهم :﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾، للبيان الذي ذكرنا والعلم عند اللَّه تعالى.
بيّن تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله، حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله :﴿ حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضًا.
وذكر في موضع آخر أنهم كثير، وأنهم يتمنون ردة المسلمين، وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى :﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لهم الحق ﴾.
وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين، وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله :﴿ وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ٦٩ ﴾.
لم يبيّن هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت، ولكنه بيّن في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه اللَّه قردًا غضبًا عليه ملعون بلا شك، وذلك قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ في السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾، وقوله :﴿ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ١٦٦ ﴾، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله :﴿ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذَلكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ﴾، لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، كما قاله الألوسي في «تفسيره » وهو ظاهر واللعنة في اللغة : الطرد والإبعاد، والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين، ومنه قول الشاعر :
ذعرت به القطا ونفيت عنه | مقام الذئب كالرجل اللعين |
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثمًا عظيمًا.
وذكر في مواضع أُخر : أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك، فإن تاب غفر له كقوله :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ الآية، فإن الاستثناء راجع لقوله :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا آخَرَ ﴾، وما عطف عليه ؛ لأن معنى الكل جُمع في قوله :﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلكَ يَلْقَ أَثَاماً ٦٨ ﴾الآية. وقوله :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾. وذكر في موضع آخر : أن من أشرك باللَّه قد ضلّ ضلالاً بعيدًا عن الحق، وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضًا :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بعيدا ١١٦ ﴾، وصرّح بأن من أشرك باللَّه فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله :﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾، وقوله :﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين ٥٠ ﴾.
وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص، وهو قوله :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ ٣١ ﴾، وصرّح في موضع آخر : بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررًا له :﴿ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ١٣ ﴾.
وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء، إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك، وهو قوله :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ ٨٢ ﴾، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أن معنى بظلم بشرك.
أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين ﴾، وبقوله :﴿ انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ٥٠ ﴾، وصرّح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شيء وأنجسه بقوله :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى ٣٢ ﴾، ولم يبيّن هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم.
ولكنّه بيّن ذلك في مواضع أُخر، كقوله عنهم :﴿ نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾، وقوله :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم، وهي قوله :﴿ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا ﴾، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود، وهي قوله :﴿ وَظِلّ مَّمْدُودٍ ٣٠ ﴾، وبيّن في موضع آخر أنها ظلال متعددة، وهو قوله :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في ظِلَالٍ وَعُيُونٍ ٤١ ﴾ الآية.
وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله :﴿ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ في ظِلَالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ٥٦ ﴾، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله :﴿ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ ٢٩ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ٣٠ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ٣١ ﴾، وقوله :﴿ وَأَصْحَابُ الشّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشّمَالِ ٤١ في سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ٤٢ وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ ٤٣ لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ ٤٤ ﴾.
أمر اللَّه في هذه الآية الكريمة، بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالى قال :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾، وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله :﴿ وما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيء فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ الآية، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخًا للمتحاكمين إلى غير كتاب اللَّه وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم مبيّنًا أن الشيطان أضلهم ضلالاً بعيدًا عن الحق بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ١٠ ﴾، وأشار إلى أنه لا يؤمنْ أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾.
ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان ؛ لأن الإيمان باللَّه هو العروة الوثقى، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان باللَّه ؛ لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان باللَّه أو ركن منه، كما هو صريح قوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ﴾ الآية.
تنبيه : استدل منكرو القياس بهذه الآية الكريمة، أعني قوله تعالى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ الآية، على بطلان القياس قالوا : لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية ؛ لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة، بل قال بعضهم الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فالمراد بإطاعة اللَّه العمل بالكتاب وبإطاعة الرسول العمل بالسنّة، وبالرد إليهما القياس ؛ لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئًا وراء ذلك.
وقد علم من قوله تعالى :﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ ﴾ أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه، وهو الإجماع قاله الألوسي في «تفسيره ».
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل اللَّه، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم يصدون عن ذلك صدودًا أي : يعرضون إعراضًا.
وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم لووا رؤوسهم، وصدوا واستكبروا، وهو قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ٥ ﴾.
أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرًا وباطنًا ويسلمه تسليمًا كليًا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، وبيّن في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي، والانقياد التام ظاهرًا وباطنًا لما حكم به صلى الله عليه وسلم، وهي قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي : من قتل الأعداء لهم، أو جراح أصابتهم، أو نحو ذلك يقولون إن عدم حضورهم معهم من نعم اللَّه عليهم.
وذكر في مواضع أُخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين، كقوله تعالى :﴿ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا ﴾، وقوله :﴿ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ٥٠ ﴾.
وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم، كقوله تعالى :﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾، وقوله :﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرًا عظيمًا سواء أقتل في سبيل اللَّه، أم غلب عدوه، وظفر به.
وبيّن في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى، وهو قوله :﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ﴾، والحسنى صيغة تفضيل ؛ لأنها تأنيث الأحسن.
قوله تعالى :﴿ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه المؤمنين، ما هو، وصرّح في موضع آخر بأنه القتال، وهو قوله :﴿ حَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾، وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية :﴿ فَقَاتِلْ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، وقوله في آخرها :﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية.
أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله اللَّه وصرّح فيها بأن من أضله اللَّه لا يوجد سبيل إلى هداه، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم ٤١ ﴾، وقوله :﴿ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ ﴾، ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى اللَّه تعالى : أن يهديه ولا يضله، فإن من هداه اللَّه لا يضل، ومن أضله لا هادي له، ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون :﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرًا عظيمًا، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض، ولكنه بيّن ذلك في موضع آخر وهو قوله :﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾، وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ﴾، يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد.
وهذا المفهوم صرّح به النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال :« إن بالمدينة أقوامًا ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه »، قالوا وهم بالمدينة يا رسول اللَّه ؟ قال :« نعم حبسهم العذر »، وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد | سرتم جسومًا، وسرنا نحن أرواحا |
إنا أقمنا على عذر وعن قدر | ومن أقام على عذر فقد راحا |
قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله :﴿ أَن تَقْصُرُواْ ﴾ في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى وكصلاتهم إيماء رجالاً وركبانًا وغير متوجهين إلى القبلة، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها.
وقوله تعالى :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ﴾، ويزيده إيضاحًا أنه قال هنا :﴿ فَإِذَا اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاةَ ﴾، وقال في آية البقرة :﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ ؛ لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف.
وعلى هذا التفسير الذي دلّ له القرآن، فشرط الخوف في قوله :﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها، بل صلوها على أكمل الهيئات، كما صرح به في قوله :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ فأقيموا الصَّلاةَ ﴾، وصرّح باشتراط الخوف أيضًا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله :﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا ﴾، ثم قال :﴿ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم ﴾ الآية. يعني : فإنه أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها، على أكمل هيئة وأتمها، وخير ما يبيّن القرآن القرآن، ويدلّ على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف وقوله اللَّه تعالى :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كانوا لكم عدوا مبينا ١٠١ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ١٠٢ ﴾، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولاً، وبالسنة فعلاً، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، ويؤيّده أيضًا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن، كما وقع في حجة الوداع وغيرها، وكما قال صلى الله عليه وسلم لأهل مكة :« أتموا فإنا قوم سفر ».
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية : مجاهد، والضحاك، والسدي، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي. ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :« فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، في السفر والحضر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر ».
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد اللَّه بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : " فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيهفليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ".
وأصرح من ذلك دلالة على هذا، ما رواه الإمام أحمد، حدّثنا وكيع وسفيان وعبد الرحمان عن زبيد اليامي، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن عمر رضي اللَّه عنه قال :« صلاة السفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ».
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه » من طرق عن زبيد اليامي به، وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر، وقد جاء مصرّحًا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب أن شاء اللَّه تعالى، وإن كان يحيى بن معين، وأبو حاتم، والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه.
وعلى هذا أيضًا فقال : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصليّ، من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن الثقة عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمان عن كعب بن عجرة عن عمر، فاللَّه أعلم.
وقد روى مسلم في «صحيحه »، وأبو داود والنسائي، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد اللَّه اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد اللَّه بن عباس قال :« فرض اللَّه الصلاة على لسان نبيّكم محمّد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة فكما يصلّى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلّى في السفر ».
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه، فهذا ثابت عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها ؛ لأنها أخبرت « أن أصل الصلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع »، كما قاله ابن عباس، واللَّه أعلم.
ولكن اتّفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي اللَّه عنه واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات :
الأولى : أنه معارض بالإجماع.
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى «بالقبس ». قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع.
الثانية : أنها هي خالفته، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي اللَّه عنها كانت تتم في السفر، قالوا : ومخالفتها لروايتها توهن الحديث.
الثالثة : إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم.
الرابعة : أن غيرها من الصحابة خالفها كعمر وابن عباس وجبير بن مطعم فقالوا :« إن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة »، وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس.
الخامسة : دعوى أنه مضطرب ؛ لأنه رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت :« فرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الصلاة ركعتين »، وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت :« فرض اللَّه الصلاة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين » الحديث. قالوا : فهذا اضطراب.
السادسة : أنه ليس على ظاهره ؛ لأن المغرب، والصبح لم يزد فيهما، ولم ينقص.
السابعة : أنه من قول عائشة لا مرفوع.
الثامنة : قول إمام الحرمين : لو صح لنقل متواترًا.
قال مقيده عفا اللَّه عنه وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها ؛ لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه.
وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت : وهذا لا يصح، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع.
وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضًا ظاهرة السقوط ؛ لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور، وقد بينّاه في سورة البقرة في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق.
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد، والنية، واحتجوا بحديث :« لا تختلفوا على إمامكم » وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم.
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس، فجوابه ما قدمناه آنفًا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس.
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط ؛ لأنه ليس فيه اضطراب أصلاً، ومعنى فرض اللَّه وفرض رسول اللَّه واحد ؛ لأن اللَّه هو الشارع والرسول هو المبيّن، فإذا قيل فرض رسول اللَّه كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن اللَّه فلا ينافي أن اللَّه هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾، ونظيره حديث :«إن إبراهيم حرّم مكة » مع حديث :« إن مكة حرّمها اللَّه » الحديث.
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضًا ؛ لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي. قالت :« فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين، فلما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن زِيدَ في صلاة الحضر ركعتان ركعتان، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب ؛ لأنها وتر النهار » وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور « إلا المغرب فإنها كانت ثلاثًا ».
وهذه الروايات تبيّن أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط ؛ لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع،
ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبيّ صلى الله عليه وسلم في زمنها معه، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل.
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترًا فهو ظاهر السقوط ؛ لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر رضي اللَّه عنهم فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر، وابن عباس، وعائشة قال ما نصه :
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تقصروا من الصلاة ﴾ قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال :﴿ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الآية. ولهذا قال بعدها :﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ ﴾ الآية. فبيّن المقصود من القصر ها هنا، وذكر صفته وكيفيته. اه محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدًا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير.
وعلى هذا القول، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرآن، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أُخر : أحدها : أن معنى ﴿ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفًا من
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابًا، أي : شيئًا مكتوبًا عليهم واجبًا حتمًا موقوتًا، أي : له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات، ولكنه أشار لها في مواضع أُخر كقوله :﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ وَقرآن الْفَجْرِ إِنَّ قرآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ٧٨ ﴾، فأشار بقوله :﴿ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر ؛ وأشار بقوله :﴿ إِلَى غَسَقِ الَّليْلِ ﴾ وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء ؛ وأشار بقوله :﴿ وَقرآن الْفَجْرِ ﴾ إلى صلاة الصبح، وعبّر عنها بالقرآن بمعنى القراءة ؛ لأنها ركن فيها من التعبير عن الشيء باسم بعضه.
وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحًا كليًا، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء.
قوله تعالى :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ١٨ ﴾، قالوا : المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة، وأشار بقوله :﴿ حِينَ تُمْسُونَ ﴾ إلى صلاة المغرب والعشاء، وبقوله :﴿ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ١٧ ﴾ إلى صلاة الصبح، وبقوله :﴿ وَعَشِيّاً ﴾ إلى صلاة العصر، وبقوله :﴿ وَحِينَ تُظْهِرُونَ ١٨ ﴾ إلى صلاة الظهر. وقوله تعالى :﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّليْلِ ﴾، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي : في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء.
وقال ابن كثير : يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس، وكان الواجب قبلها صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وقيام الليل، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، والمراد بزلف من الليل قيام الليل.
قال مقيده عفا اللَّه عنه الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير رحمه اللَّه بعيد ؛ لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلّتها المبيّنة لها من السنة، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولاً وآخرًا، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنّة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى :﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾، فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق.
وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين كان : النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس الحديث، ومعنى تدحض : تزول عن كبد السماء.
وفي رواية مسلم : حين تزول، وفي «الصحيحين » عن جابر رضي اللَّه عنه كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّى الظهر بالهاجرة، وفي «الصحيحين » من حديث أنس رضي اللَّه عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر، وفي حديث ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :« أمّني جبريل عند باب البيت مرّتين فصلّى بي الظهر حين زالت الشمس » الحديث، أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في « المستدرك »، وقال : هو حديث صحيح.
وقال الترمذي : حديث حسن، فإن قيل في إسناده عبد الرحمان بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة، وعبد الرحمان بن أبي الزناد، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم، فالجواب : أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزّاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه.
قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة، وصححه ابن العربي، وابن عبد البرّ ا ه، مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمان بن أبي الزناد بل سفيان، عن عبد الرحمان بن الحارث المذكور، عن حكيم بن حكيم المذكور، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمان بن أبي الزناد، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر، وقال : إن الكلام في إسناده لا وجه له ا ه، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود، وابن خزيمة، والبيهقي، وعن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « جاءه جبريل، عليه السلام، فقال له :« قم فصله »، فصلّى الظهر حين زالت الشمس » الحديث، أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم.
وقال الترمذي : قال محمد : يعني البخاري، حديث جابر، أصحّ شيء في المواقيت.
قال عبد الحقّ : يعني في إمامة جبريل، وهو ظاهر، وعن بريدة رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « سأله رجل عن وقت الصلاة، فقال :« صلّ معنا هذين اليومين »، فلمّا زالت الشمس أمر بلالاً رضي اللَّه عنه فأذّن ثم أمره فأقام الظهر ». الحديث أخرجه مسلم في « صحيحه »، وعن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه « أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة، إلى أن قال : ثم أمره، فأقام بالظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول : قد انتصف النهار، وهو كان أعلم منهم » الحديث، رواه مسلم أيضًا، والأحاديث في الباب كثيرة جدًا.
وأما الإجماع، فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال الشمس عن كبد السماء، كما هو ضروري من دين الإسلام.
وأما آخر وقت صلاة الظهر، فالظاهر من أدلة السنة فيه، أنه عندما يصير ظلّ كلّ شيء مثله من غير اعتبار ظلّ الزوال، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفًا، أنه في اليوم الأول صلّى العصر عندما صار ظلّ كل شيء مثله في إمامة جبريل، وذلك عند انتهاء وقت الظهر، وأصرح شيء في ذلك ما أخرجه مسلم في« صحيحه » عن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر »، وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر، فقد ذهب وقت الظهر، والرواية المشهور عن مالك رحمه اللَّه تعالى أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلّة، هو وقت الظهر الاختياري، وأن وقتها الضروري يمتدّ بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس.
وروي نحوه عن عطاء، وطاوس، والظاهر أن حجّة أهل هذا القول الأدلّة الدالّة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقًا « فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر في الأول »، وعن ابن عباس أيضًا قال :« جمع النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف، ولا سفر » متفق عليه، وفي رواية لمسلم :« من غير خوف، ولا مطر » فاستدلوا بهذا على الاشتراك، وقالوا أيضًا : الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - الظاهر سقوط هذا الاستدلال، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس « فصلّى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلّى فيه العصر، في اليوم الأول » فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي -رحمه اللَّه- وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها، كما هو ظاهر اللفظ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت، في اليوم الأول ابتداء الصلاة، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضًا، فلا يلزم الاشتراك، ولا إشكال في ذلك ؛ لأن آخر وقت الظهر، هو أول وقت العصر، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي، ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى - رضي اللَّه عنه - « وصلّى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس »، فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبًا من وقت كون ظل الشخص مثله، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي.
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ ﴾ وقوله تعالى :﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾ فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل.
وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس، المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم « جمع بالمدينة من غير خوف، ولا سفر »، فيجاب عنه بأنه يتعيّن حمله على الجمع الصوري جمعًا بين الأدلة، وهو أنه صلّى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلّى فيه، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله، ومن صلّى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع، وليس ثم جمع في الحقيقة ؛ لأنه أدى كلاًّ من الصلاتين في وقتها المعين لها، كما هو ظاهر، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء اللَّه.
وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل، فهو ظاهر السقوط ؛ لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع، والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية.
وأما صلاة العصر، فقد دلّت نصوص السنة على أن لها وقتًا اختياريًا، ووقتًا ضروريًا، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه، ففي حديث ابن عباس المتقدم :« فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شيء مثله ».
وفي حديث جابر المتقدم أيضًا :« فصلّى العصر حين صار ظلّ كل شيء مثله »، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر، كما صرّحت به الأحاديث المذكورة وغيرها.
وقال الشافعي : أول وقت العصر إذا صار ظلّ كل شيء مثله، وزاد أدنى زيادة.
قال مقيده - عفا اللَّه عنه - إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرّحة بأن أوّل وقت العصر عندما يكون ظلّ الشيء مثله من غير حاجة إلى زيادة، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظلّ الشيء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما. وشذّ أبو حنيفة - رحمه اللَّه - من بين عامة العلماء فقال : يبقى وقت الظهر حتى يصير الظلّ مثلين، فإذا زاد على ذلك يسيرًا كان أول وقت العصر.
ونقل النووي في شرح المهذب عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال : لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة -رحمه اللَّه- وحجّته حديث ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوارة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أُوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين. فقال أهل الكتاب : أي ربنا، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا ونحن أكثر عملاً
نهى الله تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن، وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين، وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك، والمسلم يرجو من الله من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر فهو أحق بالصبر على الآلام منه، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله :﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ١٣٩ إن يمسسكم فرح فقد مس القوم قرح ﴾ وكقوله :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ٣٥ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبًا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾، وقوله :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علّم نبيّه صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلمه، وبيّن في مواضع أُخر أنه علّمه ذلك عن طريق هذا القرآن العظيم الذي أنزله عليه، كقوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نشاء من عبادنا ﴾ الآية. وقوله :﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ٣ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرًا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه.
ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه، وبيّن أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين، وهو قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ٩ إِنَّمَا النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بّإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ١٠ ﴾. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾، لم يبيّن هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا.
ولكنه أشار في مواضع أُخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا ﴾، فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدلّ على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر، وكقوله تعالى :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾.
وقال بعض العلماء : إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ﴾، يبيّنه.
قوله تعالى :﴿ وَالْعَصْرِ ١ إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ٣ ﴾، وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً ﴾، والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة، والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا، والعلم عند اللَّه تعالى.
المراد في هذه الآية. بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له، ونظيره قوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ ﴾ الآية. وقوله عن خليله إبراهيم مقررًا له :﴿ يا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ﴾، وقوله عن الملائكة بل كانوا يعبدون الجن الآية وقوله :﴿ وَكَذَلكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾، ولم يبيّن في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان، ولكنّه بيّن في آيات أُخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند اللَّه تعالى، كقوله :﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ١٢١ ﴾، وقوله :﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللَّهِ ﴾ الآية، فإن عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه لما قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : كيف اتخذوهم أربابًا ؟ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :« إنهم أحلوا لهم ما حرّم اللَّه، وحرّموا عليهم ما أحلّ اللَّه فاتبعوهم »، وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابًا. ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرًا له على ما جاءت به الرسل، فهو كافر باللَّه، عابد للشيطان، متّخذ الشيطان ربًّا، وإن سمّى أتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء ؛ لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها، كما هو معلوم.
بيّن هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض، بقوله :﴿ وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنّيَنَّهُمْ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ آذَانَ عَنْ الأنْعَامِ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾، والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق أذن البحيرة مثلاً وقطعها ليكون ذلك سمة وعلامة لكونها بحيرة أو سائبة، كما قاله قتادة والسدي وغيرهما، وقد أبطله تعالى بقوله :﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ الآية، والمراد ببحرها شقّ أذنها كما ذكرنا، والتبتيك في اللغة : التقطيع، ومنه قول زهير :
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها | طارت وفي كفه من ريشها بتك |
قوله تعالى :﴿ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾.
قال بعض العلماء : معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة الإسلام التي خلقهم اللَّه عليها، وهذا القول يبيّنه ويشهد له قوله تعالى :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾، إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة اللَّه التي خلقكم عليها بالكفر. فقوله :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾، خبر أريد به الإنشاء إيذانًا بأنه لا ينبغي ألا أن يمتثل، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة، ونظيره قوله تعالى :﴿ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ ﴾، أي : لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ويشهدا لهذا ما ثبت في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :« كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء »، وما رواه مسلم في « صحيحه » عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي، قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :« إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ».
وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق اللَّه خصاء الدواب، والقول بأن المراد به الوشم، فلا بيان في الآية المذكورة، وبكل من الأقوال المذكورة. قال جماعة من العلماء : وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه ؛ لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان، أما خصاء بني ءادم فهو حرام إجماعًا ؛ لأنه مثلة، وتعذيب وقطع عضو، وقطع نسل من غير موجب شرعي، ولا يخفى أن ذلك حرام.
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحي بالخصي، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره، ورخّص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز، وخصى عروة بن الزبير بغلاً له، ورخّص مالك في خصاء ذكور الغنم، وإنما جاز ذلك ؛ لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير اللَّه، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى، ومنهم من كره ذلك لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم :« إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ». قاله القرطبي، واختاره ابن المنذر قال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو : نماء خلق اللَّه، وكره ذلك عبد الملك بن مروان.
وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل.
وقال ابن المنذر : وفيه حديثان :
أحدهما : عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل ».
والآخر : حديث ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم « نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم »، والذي في « الموطأ » من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء، ويقول : فيه تمام الخلق.
قال أبو عمر، يعني في ترك الإخصاء : تمام الخلق، وروي نماء الخلق.
قال القرطبي : بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا قلت : " أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل، عن نافع، عن ابن عمر، قال : كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول :« لا تخصوا ما ينمي خلق اللَّه »، رواه عن الدارقطني شيخه قال : حدثنا عباس بن محمد، حدثنا قراد، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره. قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك ". اه. من القرطبي بلفظه، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق اللَّه الوشم، فهو يدلّ أيضًا على أن الوشم حرام.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنه قال : لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمنتمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه عزّ وجلّ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، يعني قوله تعالى :﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ ﴾.
وقالت طائفة من العلماء : المراد بتغيير خلق اللَّه في هذه الآية هو أن اللَّه تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة.
وقال الزجاج : إن اللَّه تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس، فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق اللَّه.
وما روي عن طاوس رحمه اللَّه من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود، ويقول : هذا من قول اللَّه تعالى :﴿ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله، فقد دلّت السنّة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي اللَّه عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة، وكانت حبشية سواء، ومن ذلك إنكاحه صلى الله عليه وسلم أُسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمان بن عوف من بني زهرة بن كلاب، وقد سها طاوس رحمه اللَّه مع علمه وجلالته عن هذا.
قال مقيده عفا اللَّه عنه ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكًا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلم إن لم يكن لها وليّ خاص مجبر. قالوا : والسوداء دنية مطلقًا ؛ لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء، والحق أن السوداء قد تكون شريفة، وقد تكون جميلة، وقد قال بعض الأدباء :
وسوداء الأديم تريك وجهًا | ترى ماء النعيم جرى عليه |
رآها ناظري فرنا إليها | وشكل الشيء منجذب إليه |
ولي حبشية سلبت فؤادي | ونفسي لا تتوق إلى سواها |
كان شروطها طرق ثلاث | تسير بها النفوس إلى هواها |
أشبهك المسك وأشبهته | قائمة في لونه قاعده |
لا شك إذ لونكما واحد | أنكما من طينة واحده |
وقوله :﴿ وَلأمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ ﴾، يدلّ على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك. أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربًا بذلك للأصنام فهو كفر باللَّه إجماعًا، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضًا أنه لا يجوز، ولذا أمرنا صلى الله عليه وسلم :« أن نستشرف العين، والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء ». أخرجه أحمد، وأصحاب السنن الأربع، والبزار، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث علي رضي اللَّه عنه وصححه الترمذي، وأعلّه الدارقطني، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن، والشرقاء مشقوقة الأذن طولاً، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقًا مستديرًا، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء.
قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ، أو جلّ الأذن قاله القرطبي، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن. فقال مالك، والشافعي : لا تجزئ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي، وجماعة الفقهاء، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية، والعلم عند اللَّه تعالى.
لم يبيّن هنا شيئًا من أمانيهم، ولا من أماني أهل الكتاب، ولكنّه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أُخر كقوله في أماني العرب الكاذبة :﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٣٥ ﴾، وقوله عنهم :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ٢٩ ﴾، ونحو ذلك من الآيات. وقوله في أماني أهل الكتاب :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ الآية، ونحو ذلك من الآيات.
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى باللَّه منكم، وقال المسلمون : نحن أولى باللَّه منكم، ونبيّنا خاتم النبيّين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فأنزل اللَّه :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ ﴾ الآية، لا ينافي ما ذكرنا ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينًا ممن أسلم وجهه للَّه في حال كونه محسنًا ؛ لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي، وصرّح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد استمسك بالعروة الوثقى، وهو قوله تعالى :﴿ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾، ومعنى إسلام وجهه للَّه إطاعته وإذعانه، وانقياده لَّله تعالى بامتثال أمره، واجتناب نهيه في حال كونه محسنًا، أي : مخلصًا عمله للَّه لا يشرك فيه به شيئًا مراقبًا فيه للّهِ كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فاللَّه تعالى يراه، والعرب تطلق إسلام الوجه، وتريد به الإذعان والانقياد التامّ، ومنه قول زيد بن نفيل العدويّ :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبًا زلالا |
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له الأرض تحمل صخرًا ثقالا |
لم يبيّن هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو، ولكنّه بيّنه في أول السورة وهو قوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَاء ﴾ الآية، كما قدّمناه عن أُمّ المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها فقوله هنا :﴿ وَمَا يُتْلَى ﴾، في محل رفع معطوفًا على الفاعل الذي هو لفظه الجلالة، وتقرير المعنى قل الله يفتيكم فيهن، ويفتيكم فيهن أيضًا :﴿ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ في يَتَامَى النّسَاء ﴾ الآية، وذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ في الْيَتَامَى ﴾ الآية، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله :﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهنّ وجمالهنّ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال، فلا يحلّ لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن، كما تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها.
وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو في أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معًا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها، وكذلك إسناد الإفتاء إلى اللَّه حقيقي، وإسناده إلى ما يتلى مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما.
وقال بعض العلماء : إن قوله :﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾، في محل جر معطوفًا على الضمير، وعليه فتقرير المعنى :﴿ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ﴾ ويفتيكم فيما يتلى عليكم، وهذا الوجه يضعفه أمران :
الأول : أن الغالب أن اللَّه يفتي بما يتلى في هذا الكتاب، ولا يفتي فيه لظهور أمره.
الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية، وأجازه ابن مالك مستدلاً بقراءة حمزة، والأرحام بالخفض عطفًا على الضمير من قوله : تساءلون به، وبوروده في الشعر كقوله :
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا | فاذهب فما بك والأيام من عجب |
نعلق في مثل السواري سيوفنا | وما بينها والكعب مهوى نفانف |
وقد رام آفاق السماء فلم يجد | له مصعدًا فيها ولا الأرض مقعدا |
أمر على الكتيبة لست أدري | أحتفي كان فيها أم سواها |
وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم رحمه الله جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض، وجعل منه قوله تعالى :﴿ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٦٤ ﴾، فقال إن قوله :﴿ وَمِنْ ﴾ في محل جر عطفًا على الضمير المجرور في قوله :﴿ حَسْبَكَ ﴾، وتقرير المعنى عليه حسبك الله. أي : كافيك، وكافي من اتبعك من المؤمنين، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله :﴿ وَمَنِ اتَّبَعَكَ ﴾، أن يكون منصوبًا معطوفًا على المحل ؛ لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا | فحسبك والضحاكَ سيف مهند |
وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله :﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ ﴾، آيات المواريث ؛ لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأنزل اللَّه آيات المواريث.
وعلى هذا القول، فالمبين لقوله :﴿ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ في الْكِتَابِ ﴾، هو قوله :﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أَوْلَادِكُمْ ﴾ الآيتين. وقوله في آخر السورة :﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ في الْكَلَالَةِ ﴾ الآية. والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر.
تنبيه
المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله :﴿ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ ﴾، أصله مجرور بحرف محذوف، وقد قدمنا الخلاف هل هو عن، وهو الأظهر، أو هو في وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفًا.
وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر :
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة | إليّ ولا دينٍ بها أنا طالبه |
بدا لي أني لست مدرك ما مضى | ولا سابقٍ شيئًا إذا كان جائيا |
مشائم ليسوا مصلحين عشيرة | ولا ناعب إلا ببين غرابها |
واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من «أن »، وأن وصلتهما عند الجمهور خلافًا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شيء عند أمن اللبس، وعقده ابن مالك في «الكافية » بقوله :
وابن سليمان اطراده رأي | إن لم يخف لبس كمن زيد نأى |
تمرون الديار ولن تعوجوا | كلامكم عليّ إذن حرام |
إذا قيل أي الناس شر قبيلة | أشارت كليب بالأكف الأصابع |
وقوله تعالى :﴿ وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط ﴾ الآية.
القسط : العدل، ولم يبيّن هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى، ولكنه أشار له في مواضع أُخر كقوله :﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾، وقوله :﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ٩ ﴾، وقوله :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى ﴾ الآية. ونحو ذلك من الآيات، فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح، أي : جعل شيئًا حاضرًا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها ؛ لأنها جبلت عليه.
وأشار في موضع آخر أنه لا يفلح أحدًا إلا إذا وقاه اللَّه شح نفسه وهو قوله تعالى :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ٩ ﴾، ومفهوم الشرط أن من لم يوقَ شحّ نفسه لم يفلح وهو كذلك، وقيده بعض العلماء بالشحّ المؤدي إلى منع الحقوق التي يلزمها الشرع، أو تقتضيها المروءة، وإذا بلغ الشحّ إلى ذلك، فهو بخل وهو رذيلة، والعلم عند اللَّه تعالى.
هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة، والميل الطبيعي ؛ لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ ٣ ﴾، أي : تجوروا في الحقوق الشرعية، والعرب تقول : عال يعول إذا جار ومال، وهو عائل، ومنه قول أبي طالب :
بميزان قسط لا يخيس شعيرة | له شاهد من نفسه غير عائل |
قالوا تبعنا رسول اللَّه واطرحوا | قول الرسول وعالوا في الموازين |
ثلاثة أنفس وثلاث ذود | لقد عال الزمان على عيالي |
وما يدري الفقير متى غناه | وما يدري الغني متى يعيل |
اللَّه نزل في الكتاب فريضة | لابن السبيل وللفقير العائل |
وقال الشافعي رحمه اللَّه معنى قوله :﴿ أَلاَّ تَعُولُواْ ٣ ﴾، أي : يكثر عيالكم من عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقول بعضهم : إنّ هذا لا يصح وإنّ المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل، فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له ؛ لأنّ الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية، ولأنّ عال بمعنى كثر عياله لغة حمير، ومنه قول الشاعر :
وأن الموت يأخذ كل حي | بلا شك وإن أمشى وعالا |
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إن افترقا أغنى اللَّه كل واحد منهما من سعته وفضله الواسع، وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما شرطا والآخر جزاء.
وقد ذكر أيضًا أن النكاح سبب للغنى، بقوله :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها، وأتي بغيرهم بدلاً منهم، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلاً منهم، وهو قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ من ذرية قوم آخرين ١٣٣ ﴾.
وذكر في موضع آخر أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرًا منهم، وهو قوله تعالى :﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم ٣٨ ﴾.
وذكر في موضع آخر أن ذلك هين عليه غير صعب، وهو قوله تعالى :﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ١٩ وَمَا ذَلكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ٢٠ ﴾، أي : ليس بممتنع ولا صعب.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جلّ وعلا.
وبيّن في موضع آخر أن العزة التي هي له وحده أعزّ بها رسوله، والمؤمنين، وهو قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، أي : وذلك بإعزاز اللَّه لهم والعزة الغلبة، ومنه قوله تعالى :﴿ وَعَزَّنِي في الْخِطَابِ ٢٣ ﴾، أي : غلبني في الخصام، ومن كلام العرب من عزَّ برَّ يعنون من غلب استلب، ومنه قول الخنساء :
كأن لم يكونوا حمى يختشى | إذ الناس إذ ذاك من عزيزاً |
هذا المنزل الذي أحال عليه هنا هو المذكور في سورة الأنعام، في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ في حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾، وقوله هنا :﴿ فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ ﴾، لم يبيّن فيه حكم ما إذا نسوا النهي حتى قعدوا معهم، ولكنه بيّنه في الأنعام بقوله :﴿ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٦٨ ﴾.
في معنى هذه الآية أوجه للعلماء : منها : أن المعنى ولن يجعل اللَّه للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلاً، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي اللَّه عنهم ويشهد له قوله في أول الآية :﴿ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ ﴾ الآية، وهو ظاهر.
قال ابن عطية : وبه قال جميع أهل التأويل، كما نقله عنه القرطبي، وضعفه ابن العربي زاعمًا أن آخر الآية غير مردود إلى أولها. ومنها : أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلاً، يمحوا به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم، كما ثبت في «صحيح مسلم » وغيره عنه صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان، أنه قال :« وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن اللَّه قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا »، ويدلّ لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ٤٧ ﴾، وقوله :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ﴾، إلى غير ذلك من الآيات.
ومنها : أن المعنى أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلاً إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر، ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم، كما قال تعالى :﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾.
قال ابن العربي : وهذا نفيس جدًا وهو راجع في المعنى إلى الأول ؛ لأنهم منصورون لو أطاعوا، والبلية جاءتهم من قبل أنفسهم في الأمرين. ومنها : أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلاً شرعًا، فإن وجد فهو بخلاف الشرع. ومنها : أن المراد بالسبيل الحجّة، أي : ولن يجعل لهم عليهم حجة، ويبيّنه قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ٣٣ ﴾، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة منع دوام ملك الكافر للعبد المسلم، والعلم عند اللَّه تعالى.
بيّن في هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء، ولا يذكرون اللَّه فيها إلا قليلاً، ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ﴾ الآية.
وقوله :﴿ فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ٤ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ٥ ﴾ الآية، ويفهم من مفهوم مخالفة هذه الآيات أن صلاة المؤمنين المخلصين ليست كذلك، وهذا المفهوم صرح به تعالى في آيات كثيرة بقوله :﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ١ الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ٢ ﴾، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَواتِهِمْ يُحَافِظُونَ ٩ ﴾، وقوله :﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالآصَالِ ٣٦ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار، عياذًا باللَّه تعالى.
وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشدّ العذاب، وهو قوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ٤٦ ﴾.
وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين، وهو قوله تعالى :﴿ قَالَ اللَّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ الْعَالَمِينَ ١١٥ ﴾، فهذه الآيات تبيّن أن أشدّ أهل النار عذابًا المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أصحاب المائدة، كما قاله ابن عمر رضي اللَّه عنهما والدرك بفتح الراء وإسكانها، لغتان معروفتان وقراءتان سبعيتان.
لم يبيّن هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلهًا، ولكنّه بّينه في سورة البقرة بقوله :﴿ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلكَمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ٥٤ ﴾.
لم يبيّن هنا هل امتثلوا هذا الأمر، فتركوا العدوان في السبت أو لا، ولكنه بيّن في مواضع أُخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت، كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ في السَّبْتِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَسْألْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ في السَّبْتِ ﴾ الآية.
لم يبيّن هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء، ولكنّه أشار في موضع آخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة، وأنها جاءت بولد لغير رشده في زعمهم الباطل لعنهم اللَّه وذلك في قوله :﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ٢٧ ﴾، يعنون ارتكاب الفاحشة، ﴿ يا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً ٢٨ ﴾، أي : زانية، فكيف تفجرين ووالداك ليسا كذلك، وفي القصة أنهم رموها بيوسف النجار وكان من الصالحين، والبهتان أشدّ الكذب الذي يتعجب منه.
لم يبيّن هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل، ولكنّه بيّنها في سورة طه بقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ١٣٤ ﴾، وأشار لها في سورة القصص بقوله :﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ٤٧ ﴾.
هذا الغلو الذي نهوا عنه هو وقول غير الحق هو قول بعضهم : إن عيسى ابن اللَّه، وقول بعضهم : هو اللَّه، وقول بعضهم : هو إله مع اللَّه سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوًّا كبيرًا، كما بيّنه قوله تعالى :﴿ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾، وقوله :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ﴾، وقوله :﴿ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ﴾، وأشار هنا إلى إبطال هذه المفتريات بقوله :﴿ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ﴾ الآية، وقوله :﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعاً ﴾.
وقال بعض العلماء : يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضًا، واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملا للتفريط والإفراط.
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط، وهو معنى قول مطرف بن عبد اللَّه : الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى، ولقد أجاد من قال :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد | كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
قوله تعالى :﴿ وكلمته ألقاها إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ﴾.
ليست لفظة «مِن » في هذه الآية للتبعيض، كما يزعمه النصارى افتراء على اللَّه، ولكن «مِن » هنا لابتداء الغاية، يعني : أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حيًّا من اللَّه تعالى ؛ لأنه هو الذي أحياه به، ويدلّ على أن من هنا لابتداء الغاية.
قوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ ﴾، أي : كائنًا مبدأ ذلك كله منه جلّ وعلا ويدلّ لما ذكرنا ما روي عن أُبيّ بن كعب، أنه قال :« خلق اللَّه أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق، ثم ردّها إلى صلب آدم، وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام ؛ فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم، فكان منه عيسى عليه السلام »، وهذه الإضافة للتفضيل ؛ لأن جميع الأرواح من خلقه جلّ وعلا، كقوله :﴿ وَطَهّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ﴾، وقوله :﴿ نَاقَةُ اللَّهِ ﴾ الآية. وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحًا ويضاف إلى اللَّه، فيقال : هذا روح من اللَّه، أي : من خلقه، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللَّه، فاستحقّ هذا الاسم، وقيل : سمي روحًا بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة الأنبياء والتحريم، والعرب تسمي النفخ روحًا ؛ لأنه ريح تخرج من الروح، ومنه قول ذي الرمة :
فقلت له :
ارفعها إليك وأحيها | بروحك واقتته لها قيتة قدرا |
وقال بعض العلماء : وروح منه : أي رحمة منه، وكان عيسى رحمة من اللَّه لمن اتبعه، قيل ومنه وأيده بروح منه، أي : برحمة منه، حكاه القرطبي أيضًا، وقيل، ﴿ رُوحُ مِنْهُ ﴾، أي : برهان منه وكان عيسى برهانًا وحجة على قومه، والعلم عند اللَّه تعالى.
المراد بهذا النور المبين القرآن العظيم ؛ لأنه يزيل ظلمات الجهل والشكّ كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل، وقد أوضح تعالى ذلك بقوله :﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ﴾، ونحو ذلك من الآيات.
صرّح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين يرثان الثلثين، والمراد بهما الأختان لغير أم، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء، ولم يبيّن هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعدًا، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن الأخوات لا يزدن على الثلثين، ولو بلغ عددهن ما بلغ، وهو قوله تعالى في البنات :﴿ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ﴾، ومعلوم أن البنات أمسّ رحمًا، وأقوى سببًا في الميراث من الأخوات، فإذا كن لا يزدن على الثلثين ولو كثرن فكذلك الأخوات من باب أولى، وأكثر علماء الأصول على أن فحوى الخطاب، أَعني : مفهوم الموافقة، الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق، من قبيل دلالة اللفظ، لا من قبيل القياس، خلافًا للشافعي وقوم، وكذلك المساوئ على التحقيق، فقوله تعالى :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ ﴾، يفهم منه من باب أولى حرمة ضربهما، وقوله :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرا يره ٧ ﴾ الآية. يفهم منه من باب أولى أن من عمل مثقال جبل يراه من خير وشر، وقوله :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مّنكُمْ ﴾، يفهم منه من باب أولى قبول شهادة الثلاثة والأربعة مثلاً من العدول، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء، يفهم منه من باب أولى النهي عن التضحية بالعمياء، وكذلك في المساوئ، فتحريم أكل مال اليتيم يفهم منه بالمساواة منع إحراقه وإغراقه، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، يفهم منه كذلك أيضًا النهي عن البول في إناء وصبه فيه، وقوله صلى الله عليه وسلم :« من أعتق شركًا له في عبد » الحديث. يفهم منه كذلك أن الأمة كذلك، ولا نزاع في هذا عند جماهير العلماء، وإنما خالف فيه بعض الظاهرية.
ومعلوم أن خلافهم في مثل هذا، لا أثر له، وبذلك تعلم أنه تعالى لما صرّح بأن البنات وإن كثرن ليس لهن غير الثلثين، علم أن الأخوات كذلك من باب أولى، والعلم عند اللَّه تعالى.