تفسير سورة الطور

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الطور من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة، أن عذابه واقع بأعدائه وأنه لا دافع له عنهم، والطور هو الجبل الذي يكون فيها أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً، إنما يقال له جبل، ﴿ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ ﴾ قيل : هو اللوح المحفوظ، وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة، التي تقرأ على الناس جهاراً، ولهذا قال :﴿ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * والبيت المعمور ﴾، ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال في حديث الإسراء :« ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم » يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وهو كعبة أهل السماء السابعة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة، والله أعلم. وقال ابن عباس : البيت المعمور هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه، وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف، وقال قتادة والسدي :« ذكرنا لنا أن رسول الله ﷺ قال يوماً لأصحابه :» هل تدرون ما البيت المعمور؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم « » وقوله تعالى :﴿ والسقف المرفوع ﴾ عن علي قال : يعني السماء، ثم تلا :﴿ وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ]، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي واختاره ابن جرير، وقال الربيع بن أَنَس : هو العرش يعني أنه سقف لجميع المخلوقات، وقوله تعالى :﴿ والبحر المسجور ﴾ قال الربيع بن أَنَس : هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها، وقال الجمهور : هو هذا البحر، واختلف في معنى قوله :﴿ المسجور ﴾ فقال بعضهم : المراد أنه يوقد يوم القيامة ناراً كقوله، ﴿ وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ٦ ] أي أضرمت فتصير ناراً تتأجج محيطة بأهل الموقف، وروي عن علي وابن عباس : وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع، وكذلك البحار يوم القيامة، وعن سعيد بن جبير :﴿ والبحر المسجور ﴾ يعني المرسل، وقال قتادة : المسجور المملوء، واختاره ابن جرير، وقيل : المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها، قاله ابن عباس وبه يقول السدي وغيره، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب، عن رسول الله ﷺ قال :
2417
« ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عزّ وجلّ ».
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ﴾ هذا هو القسم عليه أي لواقع بالمكافرين، ﴿ مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ أي ليس له دافع يدفعه عنهم، إذا أراد الله بهم ذلك، قال الحافظ ابن أبي الدنيا : خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ :﴿ والطور ﴾ - حتى بلغ - ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ ﴾ قال : قسم ورب الكعبة حق، فنزل عن حماره، واستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه. وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً ﴾ قال ابن عباس : تتحرك تحريكاً، وقال مجاهد : تدور دوراً، وقال الضحّاك : استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض، وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة، قال وأنشد أبو عبيدة بيت الأعشى فقال :
كأنَّ مِشيَتها من بيت جارتها مَوْرُ السحابة لا رَيْثُ ولا عجل
﴿ وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً ﴾ أي تذهب فتصير هباء منبثاً وتنسف نسفاً، ﴿ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله، ﴿ الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ﴾ أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزواً ولعباً ﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ ﴾ أي يدفعون ويساقون ﴿ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ﴾، قال مجاهد والسدي : يدفعون فيها دفعاً ﴿ هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعاً وتوبيخاً، ﴿ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصلوها ﴾ أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته، ﴿ فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ ﴾، أي سواء صبرتهم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها، ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ أي لا يظلم الله أحداً بل يجازي كلاً بعمله.
2418
أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال :﴿ إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ﴾ وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال، ﴿ فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ﴾ أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، ﴿ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم ﴾ أي وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها، مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾، كقوله تعالى :﴿ كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية ﴾ [ الحاقة : ٢٤ ] أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً، وقوله تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ﴾ قال ابن عباس : السرور في الحجال، وفي الحديث :« إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه » وعن ثابت قال :« بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه، وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم، فإذا حانت منه نظرة، فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك فيقلن : قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً » ومعنى ﴿ مَّصْفُوفَةٍ ﴾ أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله :﴿ على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٧، الصافات : ٤٤ ]، ﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وقال مجاهد ﴿ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا.
يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه، ولطفه بخلقه وإحسانه، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان، يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك، ولهذا قال :﴿ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾، قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينه، ثم قرأ ﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾. وروى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله الله تعالى :﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ﴾، قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً، وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس أظنه عن النبي ﷺ قال :« إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به »، وقرأ ابن عباس ﴿ والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ ﴾ ألآية، هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء، فقد قال رسول الله ﷺ :« إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذه؟ فيقول؛ باستغفار ولدك لك ». وعن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ :« إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ».
وقوله تعالى :﴿ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾ لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك، أخبر عن مقام العدل، وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد، فقال تعالى :﴿ كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ ﴾ أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس، سواء كان أباً أو ابناً، كما قال تعالى :﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين ﴾ [ المدثر : ٣٨-٤١ ]، وقوله :﴿ وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ ﴾ أي وألحقانهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى، وقوله :﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً ﴾ أي تعاطون فيها كأساً أي من الخمر، قاله الضحّاك :﴿ لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾ أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ، أي هذيان، ولا إثم، أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا.
2420
قال ابن عباس : اللغو الباطل، والتأثيم الكذب، وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون؛ وقال قتادة : كان ذلك في الدنيا مع الشيطان، فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال :﴿ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ﴾ [ الصافات : ٤٦-٤٧ ] وقال :﴿ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ ﴾ [ الواقعة : ١٩ ]. وقال هاهنا :﴿ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ ﴾. وقوله تعالى :﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ ﴾ إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم، كما قال تعالى :﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ ﴾ [ الواقعة : ١٧-١٨ ]. وقوله تعالى :﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ أي أقلبوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم، ﴿ قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ﴾ أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه ﴿ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم ﴾ أي فتصدق علينا وأجازنا مما نخاف، ﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ﴾ أي نتضرع غليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا ﴿ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ﴾، عن أنَس قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا، فيتحدثان، فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عزّ و جلّ فغفر لنا » وعن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية :﴿ فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم ﴾ فقالت : اللهم منّ علينا، وقنا عذاب السموم، إنك أنت البر الرحيم : قيل للأعمش : في الصلاة؟ قال : نعم.
2421
يقول تعالى آمراً رسوله ﷺ بأن يبلغ رسالته إلى عباده، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال :﴿ فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾، أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش، والكاهن الذي يأتيه الرِئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء، ﴿ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾ وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس. ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول ﷺ :﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ ؟ أي قوارع الدهر، والنمنون الموت، يقولون : ننتظره ونصبر عليه يأتيه الموت فنستريح منه. قال الله تعالى :﴿ قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين ﴾ أي انتظروا، فإني منتظر معكم وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى لله عليه وسلم قال قائل منهم : احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ( زهير ) و ( النابغة ) إنما هو كأحدهم، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم :﴿ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون ﴾ ؟ ثم قال تعالى :﴿ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ ﴾ أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة، التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور ﴿ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك، وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن، قال تعالى :﴿ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة :﴿ فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ﴾ أي إن كانوا صاقدين في قولهم، تقوله وافتراه : فليأتوا بمثل ما جاء به محد ﷺ من هذا القرآن، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض، من الجن والإنس ما جاءوا بمثله ولا بسورة من مثله.
هذا المقام في إثبات الربوبية، وتوحيد الألوهية، فقال تعالى :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون ﴾ ؟ أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم، بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً، روى البخاري، عن جبير بن مطعم قال : سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية :﴿ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون * أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون ﴾ ؟ كاد قلبي أن يطير. ثم قال تعالى :﴿ أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ ﴾ ؟ أي أهم خلقوا السماوات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له، ﴿ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون ﴾ ؟ أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن ﴿ أَمْ هُمُ المصيطرون ﴾ أي المحاسبون للخلائق، بل الله عزّ ودلّ هو المالك المتصرف الفعال لما يريد. وقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ ﴾ ؟ أي مرقاة إلى الملأ الأعلى، ﴿ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة. على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال، ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات، واختيارهم لأنفسهم الكذور على الإناث، وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال :﴿ أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون ﴾ ؟! وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد، ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً ﴾ ؟ أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله، أي لست تسألهم على ذلك شيئاً، ﴿ فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ﴾ أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه، ويثقلهم ويشق عليهم. ﴿ أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾ أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله، ﴿ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون ﴾، يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول، وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه، فكيدهم إما يرجع وباله على أنفسهم، فالذين كفروا هم المكيدون، ﴿ أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله. ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون، ويشركون، فقال :﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس ﴿ وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً ﴾ أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ولما أيقنوا، بل يقولون هذا ﴿ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴾ أي متراكم، وهذا كقوله :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾ [ الحجر : ١٤-١٥ ]، وقال الله تعالى ﴿ فَذَرْهُمْ ﴾ أي دعهم يا محمد ﴿ حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾ وذلك يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾ أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا، لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً، ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾. ثم قال تعالى :﴿ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ ﴾ أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى :﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ السجدة : ٢١ ]، ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب، لعلهم يرجعون وينيبون، فلا يفهمون ما يراد بهم، بل إذا جلي عنهم مما كانوا عليه فيه، عادوا إلى أسوأ ما كانوا كما جاء في بعض الأحاديث :« إن المنافق إذا مرض وعوفي، مثله في ذلك كمثل البعير لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه » وقوله تعالى :﴿ واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ أي اصبر على اذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأة منا وتحت كلاءتنا، والله يعصمك من الناس، وقوله تعالى :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ أي إلى الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وروى مسلم في « صحيحه » عن عمر أنه كان يقول : هذا ابتداء الصلاة، وقال أبو الجوزاء :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ أي من نومك من فراشك، واختاره ابن جرير، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد، عن عبادة بن الصامت عن رسول الله ﷺ قال :« من تعارّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال ثم دعا - أستجب له، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته » وقال مجاهد :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ قال من كل مجلس، وقال الثوري ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ﴾ قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك، وهذا القول كفارة المجالس، وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال :« من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك »
2424
وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ ﴾ أي أذكره وأعبده بالتلاوة والصلاة في الليل، كما قال تعالى :﴿ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ [ الإسراء : ٧٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَإِدْبَارَ النجوم ﴾ قد تقدم عن ابن عباس : أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة، لحديث :« لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل، يعني ركعتي الفجر » وقد ثبت في « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله ﷺ على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر، وفي لفظ لمسلم :« ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ».
2425
Icon