تفسير سورة الحديد

الدر المصون
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿للَّهِ﴾ : يجوزُ في هذه اللامِ وجهان، أحدهما: أنها مزيدةٌ كهي في «نَصَحْتُ لزيدٍ» و «شكرْتُ له» إذ يقال: سَبَّحْت الله تعالى. قال تعالى: ﴿وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦]. والثاني: أَنْ تكونَ للتعليلِ، أي: أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى.
قوله: ﴿لَهُ مُلْكُ﴾ : جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ.
قوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها. والثاني: أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو له مُلك. والثالث: أنها حالٌ من الضمير في «له» فالعامل فيها الاستقرارُ، ولم يُذْكَرْ مفعولا الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط.
قوله: ﴿هُوَ الأول والآخر﴾ : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى الواوِ؟ قلت: الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين
235
الظهورِ والخَفاءِ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأُوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين».
236
وقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ ﴾ قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ.
قوله: ﴿تُرْجَعُ الأمور﴾ : قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً للفاعل، والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن. وقال الشيخ هنا: «وقرأ الجمهور» تُرْجَعُ «مبنياً للمفعول. والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنياً للفاعل» وهذا عجيبٌ منه، وقد وقع له مِثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه. /
وقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ﴾ قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ.
قوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ﴾ : مبتدأ وخبرٌ، وحالٌ، أي: أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟
وقوله: ﴿والرسول يَدْعُوكُمْ﴾ جملةٌ حاليةٌ من «يُؤمِنون». قال الزمخشري: «فهما حالان متداخلان و» لِتُؤْمنوا «متعلِّقٌ ب» يَدْعو «أي: يدعوكم للإِيمان كقولك: دَعَوْتُه لكذا. ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ، أي: يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ. وفيه بُعْدٌ.
قوله: ﴿وَقَدْ أَخَذَ﴾ حالٌ أيضاً. وقرأ العامَّةُ»
أَخَذَ «مبنياً للفاعلِ،
236
وهو اللهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه. وأبو عمرو» أُخِذ «مبنياً للمفعول، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به. و» ميثاقَكم «منصوبٌ في قراءة العامةِ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ. و» إنْ كنتم «جوابُه محذوفٌ تقديرُه: فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ. وقيل: تقديرُه: إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما، فهذا هو الموجِبُ. وقدَّره ابنُ عطية:» إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ. وقد تقدَّمَتْ قراءتا «يُنَزَّل» تخفيفاً وتشديداً في البقرة. وزيد بن علي «أَنْزَل» ماضياً.
237
قوله: ﴿أَلاَّ تُنفِقُواْ﴾ كقوله ﴿وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ﴾ [البقرة: ٢٤٦] فالأصلُ: في أن لا تُنْفِقُوا، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ. وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة.
قوله: ﴿وَللَّهِ مِيرَاثُ﴾ جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه، أي: وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم.
قوله: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق﴾ في فاعل «يَسْتوي» وجهان،
237
أظهرُهما: أنه مِنْ أَنْفَق، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ، فقدَّره الزمخشري: «لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة» وقَدَّره أبو البقاء «ومَنْ لم يُنْفِق» قال: «ودلَّ على المحذوفِ قولُه: ﴿مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح﴾ والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ. والثاني: أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ، أي: لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح، ومنه ما وَقَعَ بعدَه، فهذان النوعان متفاوتان. وعلى هذا فتكون» مَنْ «مبتدأ و» أولئك «مبتدأٌ ثانٍ و» أَعظَمُ «خبرُه، والجملةُ خبرُ» مَنْ «وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه:» منكم «ولو أعربَ هذا القائلُ» منكم «خبراً مقدماً، و» مَنْ «مبتدأ مؤخراً. والتقدير: مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً، ولكنه سها عن لفظةِ» منكم «.
قوله: ﴿وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم»
وكلاً «بألفٍ، وابنُ عامر برفعِه، وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه ارتفعَ على الابتداءِ، والجملة بعدَه خبرٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: وعده اللهُ. ومثلُه:
238
٤٢٣١ - قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
برفع» كلُّه «، أي: لم أَصْنَعْه. والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه:
٤٢٣٢ - وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ
وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ»
كلاً «أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ، وهذا لم أَرَه لغيره. وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه: ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ [المائدة: ٥٠] ولم يُرْوَ قولُه:» كلُّه لم أصنَع «إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول:» كلَّه لم أصنعِ «مفعولاً مقدَّماً. قال أهل البيان: لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ، فإن الأولَ أبلغُ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام:
«كل ذلك لم يكنْ»
ولو قال: «لم يكن كلُّ ذلك» لكان سَلْباً للعُموم، والمقصودُ عمومُ السَّلْب.
والثاني: أن يكونَ «كل» خبَر مبتدأ محذوفٍ، و ﴿وَعَدَ الله الحسنى﴾ صفةٌ لما قبله، والعائدُ محذوف، أي: وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى. فإن قيل: الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه. فالجوابُ: أنَّ
239
حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ. ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه:
٤٢٣٣ - وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا
أي أصابوه، ومثله كثيرٌ. وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ «وكلٌّ» بدون ألف، فقد وافق كلٌّ مصحفَه. و «الحُسْنى» مفعولٌ ثانٍ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ/ على عامِله.
240
قوله: ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ﴾ : قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً، واختلافُ القرَّاءِ فيه في سورةِ البقرة. وقال ابن عطية هنا: «الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ». وقرأ عاصم «فيضاعِفَه» بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام. وفي ذلك قَلَقٌ، قال أبو علي: «لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلاً مردوداً على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى، كأنَّ قولَه ﴿مَّن ذَا الذي يُقْرِض﴾ بمنزلةِ قولِه أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ» انتهى. وهذا الذي قالَه أبو علي ممنوعٌ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ
240
نحو: «أين بيتُك فأزورَك» ومثلُ ذلك: «مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له» و «متى تسير فأرافِقك» و «كيف تكونُ فأصْحَبَكَ» فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال، لا عن الفعل. وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب: أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه.
241
قوله: ﴿يَوْمَ تَرَى﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في «لهم أجرٌ»، أي: استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم. الثاني: أنه مضمرٌ، أي: اذكرْ فيكون مفعولاً به. الثالث: أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه. الرابع: أنَّ العاملَ فيه «يَسْعى»، أي: يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم، هذا أصلُه. الخامس: أنَّ العاملَ فيه «فيضاعفَه» قالهما أبو البقاء.
قوله: ﴿يسعى﴾ حالٌ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلاً في «يوم» و «بين أيديهم» ظرفٌ للسَّعْي، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «نورُهم».
قوله: ﴿وَبِأَيْمَانِهِم﴾، أي: وفي جهةِ أيمانهم. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين. وقيل: الباءُ بمعنى «عن»، أي: عن جميعِ جهاتِهم، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ. وقرأ أبو حيوة وسهلُ بن شعيب بكسرِها. وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه.
241
والباءُ سببيةٌ، أي: يسعى كائناً وكائناً بسبب إيمانهم. وقال أبو البقاء تقديرُه: وبإيمانِهم استحقُّوه، أو بإيمانهم يُقال لهم: بُشْراكم.
قوله: ﴿بُشْرَاكُمُ﴾ مبتدأٌ، و «اليومَ» ظرفٌ. و «جناتٌ» خبرهُ على حذفِ مضافٍ، أي: دخولُ جناتٍ. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مقدر، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم. وقال مكي: «وأجاز الفراءُ نصبَ» جنات «على الحال ويكون» اليومَ «خبرَ» بُشْراكم «قال: وكونُ» جنات «حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل. وأجاز أَنْ يكونَ» بُشْراكم «في موضع نصبٍ على: يُبَشِّرونهم بالبُشرى، وتُنْصَبُ» جنات «بالبُشْرى. وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم» انتهى. وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل، ولا يجوزُ صناعةً، كيف تكون «جنات» حالاً وماذا صاحبُ الحال؟.
242
وقوله: ﴿يَوْمَ يَقُولُ﴾ : بدلٌ مِنْ «يومَ ترى» أو معمولٌ ل «اذْكُر». وقال ابن عطية: «ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه ﴿ذلك هُوَ الفوز العظيم﴾ ويجيء معنى الفوز أفخم، كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ». قال الشيخ: «وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ» يومَ «معمولٌ للفوز. وهو لا يجوزُ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ
242
قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلا يجوزُ إعمالُه، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز، أي: الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ». قلت: وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال: «ويومَ ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ، أو هو بدلٌ من» اليوم «الأول».
قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ [الحديد: ١٢] نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ: بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار: دخولُ جنات، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «بُشْراكم» هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي. وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال: «خالدين نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم» والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ «بُشْراكم» هو العاملَ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه.
قوله: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾ اللامُ للتبليغ. و «انْظُرونا» قراءةُ العامَّةِ «انظرونا» أَمْراً من النظر. وحمزة «أَنْظِرونا» بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار، أي: انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم. والقراءةُ الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال: نَظَره بمعنى انتظره، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ، فيقول المنافقون:
243
انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم. ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصارُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ، وهذا أليقُ بقولِه ﴿نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ﴾ قال معناه الزمخشري. إلاَّ أنَّ الشيخ قال: إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر، إنما يتعدَّى ب «إلى» /.
قوله: ﴿وَرَآءَكُمْ﴾ فيه وجان، أظهرُهما: أنه منصوبٌ ب ارْجِعوا على معنى: ارْجِعوا إلى الموقفِ، إلى حيث أُعطِينا هذا النورَ فالتمِسوه هناك ممَّنْ نقتبس، أو ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نوراً بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نوراً آخرَ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ. والثاني: أنَّ «وراءكم» اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ، أي: ارْجِعوا ارْجعوا، قاله أبو البقاء، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفاً ل ارْجِعوا قال: لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء.
وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرْحُها.
قوله: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ﴾ العامَّةُ على بنائِه للمفعول. والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ «بسورٍ» وهو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ الظرفَ. وقال مكي: «الباءُ مزيدةٌ، أي: ضُرِب سورٌ» ثم قال: «والباءُ متعلِّقةٌ
244
بالمصدر، أي: ضرباً بسُور» وهذا متناقضٌ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ، والأصل «أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر»، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ. وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ.
والسُّور: البناءُ المحيطُ. وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ.
قوله: ﴿لَّهُ بَابٌ﴾ مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً ل سُوْر.
قوله: ﴿بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة﴾ هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعِ جرٍّ صفةً ثانيةً ل «سُوْر»، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً ل «بابٌ»، وهو أَوْلَى لقُرْبِه. والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ.
وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فَضَرَبَ» مبنياً للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ.
245
قوله: ﴿يُنَادُونَهُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «بَيْنهم» قاله أبو البقاء، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً، وهو الظاهرُ.
قوله: ﴿أَلَمْ نَكُن﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ مقدرٍ.
قوله: ﴿الغرور﴾ قراءةُ العامَّة بفتح الغَيْن، وهو صفةٌ على فَعول،
245
والمرادُ به الشيطانُ. وقرأ سماك بن حرب «الغُرور» بالضم، وهو مصدرٌ، وتقدَّم نظيرُه.
246
قوله: ﴿فاليوم﴾ : منصوبٌ ب «يُؤْخَذُ». ولا يُبالَى ب «لا» النافيةِ، وهو قولُ الجمهورِ. وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ. وقرأ ابن عامر «تُؤْخَذُ» بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية. والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ.
قوله: ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً، أي: ولايتكم، أي: ذاتُ وِلايتكم. وأَنْ يكونَ مكاناً، أي: مكانَ ولايتكم، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم، كقولك: هو مَوْلاه. وبئس المصيرُ، أي: هي.
قوله: ﴿أَن تَخْشَعَ﴾ : فاعلُ «يَأْنِ»، أي: ألم يَقْرُبْ خشوعُ قلوبِهم. واللامُ قال أبو البقاء: «للتبيين» فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: أَعْني الذينَ، ولا حاجةَ إليه. والعامة «أَلَمْ». والحسن وأبو السَّمَّال «ألَمَّا» وقد عَرَفْتَ الفرقَ بين الحرفين ممَّا تقدَّم. والعامَّةُ أيضاً «يَأْنِ» مضارعَ أنَى، أي: حان وقَرُبَ مثل: رمى يَرْمي. والحسن «يَئِنْ» مضارع آن بمعنى حانَ أيضاً مثل: باع يبيع.
246
قوله: ﴿وَمَا نَزَلَ﴾ قرأ نافع وحفص «نَزَل» مخففاً مبنياً للفاعلِ. وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنه مشدَّدٌ. والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمروٍ في روايةٍ «نُزِّلَ» مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. وعبد الله «أَنْزَل» مبنياً للفاعلِ هو الله تعالى. و «ما» في «ما نَزَلَ» مخففاً يتعيَّنُ أَنْ تكونَ اسميةً. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً؛ لئلا يَخْلو الفعلُ من الفاعل، وما عداها يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي. فإن قلتَ: وقراءةُ الجحدريِّ ومَنْ معه ينبغي أَنْ تكونَ فيها اسميةً، لئلا يخلوَ الفعلُ مِنْ مرفوعٍ. فالجواب: أنَّ الجارَّ وهو قولُه «من الحق» يقوم مَقامَ الفاعل.
والعامَّةُ على الغيبة في «ولا يَكونوا» جَرْياً على ما تقدَّم. وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بالتاء مِنْ فوقُ على سبيل الالتفات. ثم هذا يُحْتمل أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على «تَخْشَعَ» كما في قراءةِ الغَيْبة وأَنْ يكونَ نهياً، فتكونَ «لا» ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها. ويجوزُ أَنْ يكونَ نهياً في قراءة الغَيْبة أيضاً، ويكونُ ذلك انتقالاً إلى نهيِ أولئك المؤمنين عن كونِهم مُشْبِهين لمَنْ تَقَدَّمهم نحو: لا يَقُمْ زيدٌ.
قوله: ﴿الأمد﴾ العامَّةُ على تخفيف الدال بمعنى العامَّة كقولك: أَمَدُ فلانٍ، أي: غايتُه. وابن كثير في روايةٍ بتشديدِها وهو الزمنُ الطويلُ.
247
قوله: ﴿المصدقين والمصدقات﴾ : خَفَّفَ الصاد
247
منها ابنُ كثير وأبو بكر، وثَقَّلها باقي السبعة. فقراءةُ ابنِ كثيرٍ من التصديق، أي: صَدَّقوا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به كقولِه تعالى: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: ٣٣]، وقراءةُ الباقين من الصدقة وهو مناسِبٌ لقولِه «وأَقْرَضوا» والأصل: المُتَصَدِّقين والمتُصدِّقات فَأَدْغَمَ، وبها قرأ أُبَيٌ. وقد يُرَجَّحُ الأولُ. بأنَّ الإِقراضَ مُغْنٍ عن ذِكْرِ الصدقة.
قوله ﴿وَأَقْرَضُواْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على اسم الفاعلِ في «المُصَّدِّقين» لأنَّه لمَّا وقع صلةً لأل حَلَّ مَحَلَّ الفعلِ، فكَأنَّه قيل: إن الذين صَدَّقوا وأَقْرضوا، وعليه جمهورُ المُعربين. وإليه ذهب الفارِسيُّ والزمخشري وأبو البقاء. وهو فاسدٌ لأنه يَلْزَمُ الفصلُ بين أَبْعاضِ الصلة بأجنبي. ألا ترى أنَّ «المُصَّدِّقات» عطفٌ على «المصَّدِّقين» قبل تمام الصلةِ، ولا يجوز أن يكونَ عطفاً على المُصَّدِّقاتِ لتغايُرِ الضمائرِ تذكيراً وتأنيثاً.
الثاني: أنه معترضٌ بين اسم «إنَّّ» وخبرها وهو «يُضاعَفُ». قال أبو البقاء: «وإنما قيل ذلك لئلاَّ يُعْطفَ الماضي على اسم الفاعل» ولا أَدْري ما هذا المانعُ؟ لأنَّ اسمَ الفاعلِ متى وقع صلةً لأل صَلَحَ للأزمنةِ الثلاثة، ولو مَنَع بما ذكَرْتُه من الفصلِ بالأجنبي لأصابَ، ولكن خَفي عليه كما خَفي على مَنْ هو أكبرُ منه: الفارسيُّ والزمخشريُّ.
248
الثالث: أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ لدلالةِ الأول عليه كأنه قيل: والذين أَقْرضوا كقولِه:
٤٢٣٤ - أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءُ
أي: ومَنْ ينصُرُه واختاره الشيخ: وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه في أوائلِ هذا التصنيفِ.
قوله ﴿يُضَاعَفُ لَهُمْ﴾ القائم مقامَ الفاعلِ فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ أنَّه الجارُّ بعده. والثاني: أنَّه ضميرُ التصديقِ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ، أي: ثوابُ التصديق.
249
قوله: ﴿والذين آمَنُوا﴾ :[مبتدأ] و «أولئك» مبتدأ ثان و «هم» يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ ثالثاً و «الصِّدِّيقون» خبرُه، وهو مع خبرِه خبرُ الثاني، والثاني وخبرُهُ خبرُ الأول. ويجوزُ أَنْ يكون «هم» فصلاً فأولئك وخبرُه خبرُ الأول.
قوله ﴿والشهدآء﴾ يجوز فيه وجهان: أنه معطوفٌ على ما قبلَه، ويكون الوقفُ على الشهداء تاماً. أخبر عن الذين آمنوا أنهم صِدِّيقون شهداءُ. فإنْ قيل: الشهداءُ مخصوصون بأوصافٍ أُخَرَ زائدةٍ على ذلك كالسبعَةِ المذكورين. أجيب: بأنَّ تَخْصِيصَهم بالذِّكْر لشَرَفِهم على غيرِهم لا للحَصْر.
249
والثاني: أنه مبتدأٌ، وفي خبرِه وجهان، أحدهما: أنه الظرفُ بعده. والثاني: أنه قولُه «لهم أَجْرهُم» إمَّا الجملةُ، وإمَّا الجارُّ وحدَه، والمرفوع فاعلٌ به. والوقفُ لا يَخْفَى على ما ذكَرْتُه من الإِعراب.
والصِّدِّيقُ: مثالُ مبالغةٍ، ولا يجيءُ إلاَّ من ثلاثيٍ غالباً. قال بعضُهم: وقد جاء «مِسِّيك» مِنْ أمَسْك. وهو غَلَطٌ لأنه يقال: مَسَك ثلاثياً فمِسِّيك منه.
250
قوله: ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ﴾ : العامَّةُ على تنوين «تَفاخُرٌ» موصوفٌ بالظرفِ أو عاملٌ فيه، والسُّلميُّ أضافه إليه.
قوله: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ يجوزُ أنَّ يكونَ في موضعِ نصبٍ حالاً من الضمير في «لَعِبٌ» لأنه بمعنى الوصفِ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ذلك كمثَل. وجَوَّزَ ابن عطية أَنْ يكونَ في موضعِ رفع صفةً لِما تقدَّم. ولم يُبَيِّنْه مكي فقال: «نعت ل تَفاخُر». وفيه نظرٌ لتخصيصه له مِنْ بين ما تقدَّم. وجَوَّزَ أَنْ يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا.
وقُرِىء «مُصْفارَّاً» مِنْ اصفارَّ وهي أبلغُ مِنْ اصْفَرَّ.
قوله: ﴿وَفِي الآخرة﴾ خبرٌ مقدمٌ وما بعده مبتدأ. أخبر أنَّ في الآخرةِ عذاباً شديداً، ومغفرةً منه ورضواناً، وهذا معنىً حسنٌ، وهو أنه قابل
250
العذابَ بشيئين: بالمغفرة والرضوان فهو من باب «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين».
251
قوله: ﴿عَرْضُهَا كَعَرْضِ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ. والجملةُ صفةٌ لجنة وكذلك «أُعِدَّتْ». ويجوزُ أَنْ يكونَ «أَعِدَّتْ» مستأنفةٌ.
قوله: ﴿مِن مُّصِيبَةٍ﴾ : فاعلُ «أصاب». و «مِنْ» مزيدةٌ لوجودِ/ الشرطين. وذَكَّر فعلَها لأنَّ التأنيث مجازيُّ.
قوله ﴿فِي الأرض﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب أصاب، وأَنْ يتَعلَّقَ بنفسِ «مصيبةٍ»، وأَنْ يتَعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمصيبة وعلى هذا فيَصْلُح أَنْ يُحْكَمَ على موضِعه بالجرِّ نظراً إلى لفظِ موصوفِه وبالرفعِ نظراً إلى مَحَلِّه، إذ هو فاعلٌ. والمُصيبة غَلَبَتْ في الشر. وقيل: المرادُ بها جميعُ الحوادثِ مِنْ خيرٍ وشرٍ، وعلى الأول يُقال: لِمَ ذُكِرَتْ دون الخير؟ وأجيب: بأنه إنَّما خَصَّصها بالذِّكْرِ لأنها أهمُّ على البشر.
قوله ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ حال مِنْ «مصيبة»، وجاز ذلك وإنْ كانت نكرةً لتخصُّصِها: إمَّا بالعملِ أو بالصفةِ، أي: إلاَّ مكتوبةً.
قوله ﴿مِّن قَبْلِ﴾ نعتٌ ل كتاب، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به قاله أبو البقاء؛ لأنه هنا اسمٌ للمكتوبِ، وليس بمصدرٍ. والضمير في «نَبْرَأَها» الظاهرُ عَوْدُه على المصيبة. وقيل: على الأنفس. وقيل: على الأرض أو على جميع ذلك، قاله المهدويُّ، وهو حسنٌ.
قوله: ﴿لِّكَيْلاَ﴾ : هذه اللامُ متعلقةٌ بقولِه «ما أصابَ»، أي: أَخبْرَناكم بذلك لكيلاَ يَحْصُلَ لكم الحزنُ المُقْنِط أو الفرحُ المُطْغي، فأمَّا دون ذلك فالإِنسانُ غيرُ مؤاخذٍ به. و «كي» هنا ناصبةٌ بنفسِها فهي مصدريةٌ فقط لدخولِ لام الجرِّ عليها، وقرأ أبو عمرو «بما أتاكم» مقصوراً من الإِتْيان، أي: بما جاءكم. وباقي السبعة «آتاكم» ممدوداً من الإِيتاء أي: بما أعطاكم اللَّهُ إياه. وقرأ عبد الله «أُوْتيتم».
قوله: ﴿الذين يَبْخَلُونَ﴾ : قد تقدَّم مثلُ هذا في سورة النساء، وتكلمتُ عليه بما يَكْفي، فلا معنى لإِعادته.
قوله ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني﴾ قرأ نافع وابن عامر «فإن الله الغنيُّ» بإسقاطِ «هو» وهو ساقطٌ في مصاحف المدينةِ والشام. والباقون بإثباتِه وهو ثابتٌ في مصاحفِهم، فقد وافق كلٌّ مصحَفه. قال أبو علي: «مَنْ أثبت» هو «يَحْسُنْ أَنْ يكونَ فصلاً، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ ابتداءً؛ لأنَّ الابتداءَ لا يَسُوغ حَذْفُه» يعني أنه تُرَجَّحُ فصليَّتُه بحذفه في القراءةِ الأخرى، إذ لو كان مبتدأً لضَعُف حَذْفُه، لا سيما إذا صَلَحَ ما بعده أَنْ يكونَ خبراً لِما قبله، ألا تراك لو قلت: «إنَّ زيداً هو القائمُ» لم يَحْسُنْ
252
حَذْفُ «هو» لصلاحيةِ «القائمُ» خبراً ل «إنَّ» : وهذا كما قالوا في الصلة: إنه يُحْذَفُ العائدُ المرفوعُ بالابتداء بشروطٍ منها: أن لا يكونَ ما بعدَه صالحاً للصلة نحو: «جاء الذي هو في الدار» أو «هو قائم أبوه» لعدمِ الدلالةِ. إلاَّ أنَّ للمنازعِ أن ينازعَ أبا عليٍ ويقول: لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى، وكم مِنْ قراءتَيْنِ تغاير معناهما كقراءتَيْ: ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] و «وضَعَتْ»، إلاَّ أنَّ توافُقَ القراءتَيْن في معنىً واحدٍ أَوْلى، هذا ما لا نزاعَ فيه.
253
قوله: ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من «الحديد».
قوله: ﴿مَّعَهُمُ﴾ حالٌ مقدرة، أي: صائراً معهم، وإنَّما احتَجْنا إلى ذلك لأنَّ الرسلَ لم يُنْزَلوا، ومقتضى الكلامِ أن يَصْحبوا الكتابَ في النزولِ. وأمَّا الزمخشريُّ فإنه فَسَّرَ الرسلَ بالملائكةِ الذين يَجيئون بالوحيِ إلى الأنبياءِ فالمعيَّةُ متحققةٌ.
قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ عطفٌ على قولِه «ليقومَ الناسُ»، أي: لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنا وفَعَلْنا كيتَ وكيتَ ليقومَ الناسُ وليعلَمَ اللَّهُ. وقال الشيخ: «علةٌ لإِنزالِ الكتابِ والميزانِ والحديدِ»، والأول أظهرُ لأنَّ نصرةَ اللَّهِ ورسلِه مناسبة للإِرسال.
قوله ﴿وَرُسُلَهُ﴾ عطفٌ على مفعولِ «يَنْصُرُه»، أي: وينصُرُ رسُلَه. قال
253
أبو البقاء: «ولا يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على» مَنْ «لئلا يُفْصَلَ به بين الجارِّ وهو» بالغَيْب «وبينَ ما يتعلَّق به وهو» يَنْصُرُ «. قلت: وجَعْلُه العلةَ ما ذكرَه مِنْ الفصلِ بين الجارِّ وما يتعلَّق به مَنْ يُوْهِمُ أَنَّ معناه صحيحٌ لولا هذا المانعُ، وليسَ كذلك إذ يصيرُ التقديرُ: وليعلمَ اللَّهُ مَنْ ينصرُه بالغيبِ. ولِيَعْلَمَ رَسُلَه. وهذا معنىً لا يَصِحُّ البتة فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ ذلك. و» بالغيب «حالٌ وقد تقدم مثلُه أولَ البقرة.
254
قوله: ﴿فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ﴾ : الضميرُ يجوزُ عَوْدُه على الذُّرِّيَّة، وهو أَوْلَى لتقدُّم ذِكْرِه لفظاً. وقيل: يعودُ على المُرْسَل إليهم لدلالة «أَرْسَلْنا» والمرسلين عليهم.
قوله: ﴿الإنجيل﴾ : قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران. قال الزمخشري: «أَمْرُه أهونُ/ مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب». وقال أبو الفتح: «هو مثالٌ لا نظيرَ له».
قوله: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها﴾ في انتصابِها وجهان، أحدهما: أنها
254
معطوفةٌ على «رأْفَةً ورحمةً». و «جَعَلَ» إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر، و «ابْتدعوها» على هذا صفةٌ ل «رَهْبانية» وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه. وجوابُه ما تَقَدَّم: مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها. وقال أيضاً: «وقيل: هو معطوفٌ عليها، وابتدعوها نعتٌ له. والمعنى: فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها، ولهذا قال: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله﴾.
والوجه الثاني: أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ. وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون: ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه. والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في»
الأحكام «.
ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و»
رهبانيةً «نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال. وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ
255
أولاً اشتراطَ ذلك، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ» سورةً أنزَلْناها «بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه. ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ. ومِنْ ذلك قولُه:
٤٢٣٥ - عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله:
٤٢٣٦ - تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك. وقرأ الحسن»
رَآفة «بزنة فَعالة. والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم:» الخَشْيان «مِنْ خَشِي. وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء. قال الزمخشري:» كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان «.
قال الشيخ: «والأَوْلَى أََنْ يكونَ منسوباً
256
إلى رَهْبان يعني بالفتح وغُيِّر؛ لأنَّ النسبَ بابُ تغيير، ولو كان منسوباً لرُهبان الجمع لرُدَّ إلى مفردِه، إلاَّ إنْ كان قد صار كالعَلَم فإنه يُنْسَبُ إليه كالأَنْصار».
قوله: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا﴾ صفةٌ ل «رَهْبانيةً»، ويجوزُ أَنْ يكونَ استئناف إخبارٍ بذلك.
قوله: ﴿إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله﴾ فيه أوجه، أحدها: أنه استثناء متصلٌ ممَّا هو مفعولٌ من أجلِه. والمعنى: ما كَتَبْناها عليهم لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لابتغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ، ويكون «كتب» بمعنى قضى، فصار: كَتَبْناها عليهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ، وهذا قولُ مجاهد. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: ولم يذكُرْ غيرَه، أي: ولكنهم ابْتَدعوها. وإلى هذا ذهبَ قتادةُ وجماعةٌ، قالوا: معناه لم يَفْرِضْها عليهم ولكنهم ابتدعوها. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «كَتَبْنَاها» قاله مكيُّ وهو مُشْكِلٌ: كيف يكونُ بدلاً، وليس هو الأولَ ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه؟ وقد يُقال: إنه بدلُ اشتمالٍ، لأن الرهبانيةَ الخالصةَ المَرْعِيَّةَ حَقَّ الرِّعاية قد يكون فيها ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ، ويصير نظيرَ قولِك «الجاريةُ ما أحببتها إلاَّ أدبَها» فإلاَّ أدبَها بدلٌ من الضمير في «أَحْبَبْتُها» بدلُ اشتمالٍ، وهذا نهايةُ التمحُّلِ لصحةِ هذا القولِ واللَّهُ أعلمُ.
والضميرُ المرفوعُ في «رَعَوْها» عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ. والمعنى: أنهم لم يَدُوموا كلُّهم على رعايتها، وإنْ كان وُجِدَ هذا في بعضِهم. وقيل:
257
يعودُ على الملوكِ الذين حاربوهم. وقيل: على أحلافِهِم. و «حَقَّ» نصبٌ على المصدر.
258
قوله: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ﴾ : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ، إذ التقدير: إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا، لئلا يعلمَ. وفي «لا» هذه وجهان، أحدهما: / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في ﴿مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢]، و ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾ [يس: ٣١] على خِلافٍ في هاتين الآيتين. والتقدير: أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله، وهذا واضح بَيَّنٌ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً.
والثاني: أنها غيرُ مزيدةٍ. والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ، وكان قد قال قبلَ ذلك: «لا» زائدة والمعنى: ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم «وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه ﴿وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله﴾ ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير: ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه.
وقراءةُ العامَّةِ»
لئلا «بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ.
258
وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو: مِيَة وفِيَة، في: مئة وفئة. ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة» لِيَعْلَم «بإسقاطِها، وقراءةُ حطان ابن عبد الله» لأَنْ يعلمَ «بإظهار» أَنْ «. والجحدري أيضاً والحسن» لِيَنَّعَلَمَ «وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش» لِيَلاَّ «ثم أَدْغَمَ النون في الياء. قال الشيخ:» بغير غُنَّة كقراءة خلف ﴿أَن يَضْرِبَ﴾ [البقرة: ٢٦] بغيرِ غُنَّة «انتهى. فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ. وقوله:» بغير غنَّة «ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ.
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد»
لَيْلاً يَعْلَمَ «بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها. وتخريجُها: على أنَّ أصلَها: لأَنْ لا، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة، وأنشدوا:
259
بفتح اللام، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً، فصار اللفظُ» لَيْلا «كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ» أَنْ «هي المخففةُ لا الناصبةُ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي.
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب «لِيْلا»
بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل، وهي كالتي قبلها في التخريج. غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة. ورُوي عن ابن عباس «لكي يعلَمَ»، و «كي يعلم» وعن عبد الله «لكيلا» وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف.
وقرأ العامَّةُ ﴿أَنْ لا يَقْدِرُون﴾ بثوبت النون على أنَّ «أَنْ» هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ «أَنْ» هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ.
وقوله: ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ الظاهرُ أنه مستأنف. وقيل: هو خبرٌ ثانٍ عن الفضل. وقيل: هو الخبرُ وحدَه، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة.
260
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٤٢٣٧ - أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها... ................................