تفسير سورة المزّمّل

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة المزّمّل
مكيّة وهى عشرون اية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ التزمل من تزمل تيابه إذا تلفف بها فادغم التاء فى الزاء ومثله المدثر تدثر بثوبه اما القطع كان هذا الخطاب للنبى صلى الله عليه واله وسلم فى أول الوحى قبل تبليغ الرسالة ثم خوطب بعده بالنبي والرسول وقد تزمل رسول الله - ﷺ - ثيابه فى بدو الوحى خوفا منه لهيبته عن جابر انه سمع رسول الله ﷺ يحدث عن فطرة الوحى فبينا انا امشى سمعت صوتا فرفعت السماء بصرى فاذا الملك الذي جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا حتى هويت الى الأرض فجئت أهلي فقلت زملونى فانزل الله تعالى يايّها المدثر الى قوله فاهجر ثم حمى الوحى وتتابع متفق عليه وفى حديث عائشة فى الصحيحين فى حديث طويل انه ﷺ دخل على خديجة فقال زملونى زملونى فزملوه حتى ذهب عنه الروع وسنذكر هذا الحديث ان شاء الله تعالى فى سورة اقرأ باسم ربك واخرج البزار والطبراني بسند ضعيف عن جابر قال اجتمعت قريش فى دار الندوة فقالت سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه قالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر فبلغ النبي ﷺ فتزمل فى ثيابه وتدثر فيها فاتاه جبرئيل فقال يايها المزمل يايها المدثر.
قُمِ اى صل عبر عنها بالقيام تسمية الشيء باسم جزئه وركنه وهذا يقتضى كون القيام ركنا للصلوة وعليه انعقد الإجماع اللَّيْلَ ظرف زمان وحذف حرف الجر يدل على الاستيعاب كما يقال صمت شهرا بخلاف صمت فى الشهر إِلَّا قَلِيلًا بهذا الاستثناء بقي الحكم بقيام بعض الليل ولما كان الاستثناء مبهما طرق الإبهام فى المستثنى منه فصار المحكوم به مجملا لا بد له من بيان فبينه الله تعالى بقوله.
نِصْفَهُ فهو بدل من الليل المستثنى منه القليل بدل الكل فان الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فتقدير الكلام قم بعض الليل اى نصفه وقيل هو بدل من القليل وبيان له
وببيان المستثنى تبين الباقي ويزول الإبهام وحينئذ تقدير الكلام قم الليل الا نصفه والمعنى واحد واطلاق القليل على النصف بالنسبة الى الكل ولان عدم القيام اى النوم فى نصف الليل قليل من النوم المعتاد فان الله تعالى جعل الليل لتسكنوا فيه ولانه إذا قام نصف الليل للتهجد بقي نصف الاخر وفيه صلوة المغرب والعشاء وحوائج البشر من الاكل والشرب والخلاء فلم يبق لاجل النوم الا قليل من النصف وقيل نصفه بدل من الليل والاستثناء منه اى من النصف وتقديره قم نصف الليل الا قليلا فحينئذ يلزم الاستثناء من النصف قبل ذكره مع ان كلمة نصفه حينئذ بدل البعض من الليل وحكم بدل البعض فى القصر حكم الاستثناء فمقتضى الكلام تقديم القصر بالاستثناء على القصر بالبدل وايضا يلزم حينئذ كون الكلام مجملا بعد البيان أَوِ انْقُصْ عطف على قم الليل مِنْهُ اى من النصف الباقي بعد الاستثناء قَلِيلًا اى زمانا قليلا او نقصانا قليلا وذلك ان يكون القيام اكثر من نصف النصف اى الربع.
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اى على النصف ما شئت فالمامور به فى هذه الاية القيام اكثر من الربع ولو ساعة والظاهر ان الأمر بالقيام فى هذه الاية للوجوب كما هو مقتضى الأمر فى الأصل فمقتضى الكلام البغوي وهو المستفاد من قول عائشة وغيرها ان قيام الليل بهذه الاية كان واجبا على النبي ﷺ وعلى أمته ثم نسخ قال البغوي كان النبي ﷺ وأصحابه يقومون على هذه المقادير فكان الرجل لا يدرى متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة ان لا يحفظ القدر الواجب واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله تعالى وخفف عنهم ونسخها بقوله فاقرءوا ما تيسر منه وكان بين أول السورة وآخرها سنة عن سعيد بن هشام قال انطلقت الى عائشة فقلت يا أم المؤمنين انبئينى عن خلق رسول الله ﷺ قالت الست تقرأ القران قلت بلى قالت فان خلق نبى الله كان القران قلت فقيام رسول الله ﷺ يا أم المؤمنين قالت الست تقرأ يايها المزمل قلت بلى قالت فان الله افترض القيام فى أول هذه السورة فقام رسول الله ﷺ وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وامسك الله تعالى خاتمتها اثنى عشر شهرا فى السماء ثم انزل التخفيف فى اخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة رواه ابو داود والنسائي والبغوي وكذا اخرج الحاكم واخرج ابن جرير مثله عن ابن عباس وغيره قال مقاتل وابن كيسان كان هذا بمكة قبل ان يفرض الصلوات الخمس ثم نسخ ذلك بالصلوة الخمس والظاهر عندى ان الوجوب
103
كان مختصا بالنبي صلى الله عليه واله وسلم بدليل قوله تعالى ان ربك يعلم انك تقوم ادنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك فان كلمة من للتبعيض صريح فى ان الصحابة بعضهم كانوا يقومون دون بعض فان قيل لو كان وجوبه مختصا بالنبي ﷺ فكيف يصح تعليل التخفيف لقوله تعالى علم ان سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقتلون فى سبيل الله فان هذه الاية تقتضى رعاية حال الامة وضعفهم قلنا خفف الله سبحانه عن النبي ﷺ لرعاية ضعف الامة واعذارهم لان الناس بما واظب عليه النبي ﷺ مسنون للامة مطلوب الإتيان منهم من غير إيجاب بل بحيث يلام تاركه قال الله تعالى ولكم فى رسول الله أسوة حسنة لمن كان يؤمن بالله واليوم الاخر وما قيل ان المسنون ما واظب عليه النبي ﷺ على سبيل التطوع احترازا عن صوم الوصال ونحوه فليس بشئ لان الأصل التأسي والاقتداء مطلقا فلا يترك الا إذا كان ذلك الأمر ممنوعا محرما او مكروها فى حق الامة كصوم الوصال ووصل النكاح فوق الاربعة وغير ذلك ولا وجه لتخصيص التأسي بما واظب النبي ﷺ على سبيل التطوع وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ط عطف على قم الليل وما قيل الترتيل مندوب اجماعا فعطفه على القيام يقتضى كون الأمر بالقيام ايضا للندب فليس بشئ عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ يقال لصاحب القران اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا فان منزلتك عند اخر آية تقرءها رواه احمد والترمذي وابو داود والنسائي والترتيل عبارة عن إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة كذا فى الصراح وفى القاموس نحوه وعن ابن عباس معناه بينه بيانا وعن الحسن نحوه وقال مجاهد ترتيل فيه ترسلا عن قتادة قال سئل عن انس رض كيف كانت قراءة النبي ﷺ فقال كانت مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد ببسم الله ويمد بالرحمن يمد بالرحيم رواه البخاري قلت معنى قوله يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم انه يظهر فيه الالف من الله بعد اللام ومن الرحمن بعد الميم بقدر حركة واما مد الرحيم فيجوز فيه المد بقدر الحركتين واربع وست عند الوقف وفى الوصل لا يجوز الا بقدر حركة اجمع عليه القراء وعن أم سلمة انها سئل عن قراءة النبي ﷺ فاذا هى
تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا رواه الترمذي وابو داود والنسائي وعنهما قالت كان رسول الله ﷺ يقطع قراءته يقول الحمد لله رب العلمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف رواه الترمذي قلت ويتضمن الترتيل تحسين الصوت بالقرآن عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ما اذن الله لشئ ما اذن لنبى يتغنى
104
بالقران متفق عليه وفى رواية عنه ما اذن الله ما اذن لنبى حسن الصوت بالقران يجهر به متفق عليه وعنه قال قال رسول الله ﷺ ليس منا من لم يتغن بالقران رواه البخاري وليس المراد الا تحسين الصوت كما خرج به فى بعض الروايات دون إخراجه على وجه الغناء فانه حرام ممنوع عن حذيفة قال قال رسول الله ﷺ اقرؤا القران بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون اهل العشق ولحون اهل الكتابين وسيجئ بعدي قوم يرجعون بالقران ترجيع الغناء والنوح لا يتجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شانهم رواه البيهقي فى شعب (فائدة) والحكمة فى الترتيل التدبر فى معانى القران والألفاظ بموعظة والخوف عند اية الوعيد والرجاء عند اية الوعد ونحو ذلك روى البغوي عن ابن مسعود رض قال لا تنثروه نثر الدقل ولا تهزوه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن بهم أحدكم اخر السورة وعن حذيفة رض قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه واله وسلم صلوة الليل فما مر باية فيها ذكر الجنة الا وقف وسال الله الجنة وما مر باية فيها ذكر النار الا وقف وتعوذ من النار وعن عبيد المليكي وكانت له صحبة قال قال رسول الله ﷺ يا اهل القران لا تتوسدوا القران واتلوه حق تلاوته اناء الليل والنهار وأفشوه وتغنوه وتدبروا ما فيه لعلكم تفلحون ولا تعجلوا هرابه فان له ثوابا رواه البيهقي فى الشعب وعن سهل بن عبد الساعدي قال بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله ﷺ فقال الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار وفيكم الأحمر والأسود والأبيض اقرؤا القران قبل ان يأتي أقوام يقرأونه يقيمون حروفه كما يقام السهم ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون اجره ولا يتاجلونه.
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا قيل المراد بالقول الثقيل الأمر بقيام الليل فانه ثقيل شاق على النفس فهذه الجملة على هذا التأويل تذئيل وتأكيد لما سبق والسين حينئذ للتاكيد دون الاستقبال وقيل المراد به القران قال محمد بن كعب القرآن ثقيل على المنافقين قلت فهو نظير قوله تعالى كبر على المشركين ما تدعوهم وقال الحسن بن الفضل ثقيل فى الميزان قلت نظير قوله ﷺ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان جيبتان الى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم متفق عليه عن ابى هريرة وقال مقاتل ثقيل لما فيه من الأمر والنهى والحدود كذا قال قتادة وقال ابو العالية ثقيل بالوعد والوعيد وحاصل هذه الأقوال انه لما فيه من التكاليف الشاقة
105
والوعد والوعيد وذكر القيامة ثقيل على المكلفين لا سيما على الرسول ﷺ إذ كان عليه ان يتحملها ويحملها أمته ومن ثم قال رسول الله ﷺ شيبتنى سورة هود وأخواتها رواه الطبراني عن عتبة ابن عامر وعن ابى جحيفة يعنى لما فيه من قوله تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك او لما فيه من ذكر القيامة وعذاب الأمم الماضية يدل عليه ما رواه الحاكم عن ابى بكر بلفظ شيبتنى سورة هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت رواه الترمذي عن ابن عباس والحاكم عن ابى بكر وابن مردويه عن سعد ونحوه عن انس رض رواه عبد الله بن احمد بلفظ شيبتنى هود وأخواتها لما فيها ذكر يوم القيمة وقصص الأمم وقيل ثقيل على أتأمل فيه لافتقاره الى مزيد تصفيته للسر وتجريد للنظر لزرانته ومتانته معناه وهذا أوفق لما سبق وما لحق فان الترتيل لاجل التدبر والتفهم وناشئة الليل أشد لمواطاة القلب اللسان وقيل ثقيل على باطن الصوفي وعظيمة فان الخالق العظيم المتعالي يتجلى على قلب المخلوق يحقر السافل كذا قال الفراء حيث قال ثقيل ليس بالخفيف ولا بالسفساف لانه كلام ربنا قال الشيخ الاجل الأكرم الهادي سبيل اليقين محبوب رب العالمين سيف الملة والدين ابد الآبدين ان علامة انكشاف حقيقة القران ورود ثقل عظيم على باطن السالك ومن ثم قال الله تعالى سنلقى عليك قولا ثقيلا قلت ويؤيده هذا المعرفة قوله تعالى لو أنزلنا هذا القران على جبل لرايته خاشعا متصدعا من خشية الله وهذا معنى ما قيل ثقيل تلقيه رواه مسلم عن عبادة بن الصامت قال كان النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك وتربد وجهه وفى رواية نكس راسه ونكس أصحابه رؤسهم فلما اتلى عنه رفع رأسه وفى الصحيحين عن عائشة ان الحارث بن هشام سال رسول الله ﷺ قال يا رسول الله كيف يأتيك الوحى فقال رسول الله ﷺ أحيانا تأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد على فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فاعى ما يقول قالت عائشة ولقد رايته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وان جبينه ليتفصد عرقا متفق عليه ويحتمل ان يقال انه ثقيل لما فيه من الأمر بالتوجه الى الخلق لاجل الدعوة والتبليغ والإرشاد والتكميل بقوله تعالى قم فانذر وقوله وانذر عشيرتك الأقربين بعد ما كان متوجها الى الله تعالى مشتغلا به تعالى حيث كان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو تعبد الليالى ذوات العدد وقيل ان ينزع الى اهله ويتزود لذلك ثم يرجع الى خديجة فيتزود لمثلها كذا فى الصحيحين فى حديث عائشة ودرجة الإرشاد والتكميل وان كان أفضل من درجة الاستكمال
106
والخلوة لكنه قد يكون عند الصوفي على خلاف الطبع فيثقل عليه ويزعمه الصوفي فى بادى الرأي ان هذا أحط مرتبة من التوجه الى الله تعالى والخلوة به ولهذا قيل الولاية به أفضل من النبوة يعنى ولاية النبي أفضل من نبوة ذلك النبي زعما من القائل ان فى الولاية التوجه الى الله سبحانه وفى النبوة التوجه الى الخلق وقال المجدد الف ثانى رضى الله عنه ليس هذا القول مبنيا على التحقيق بل النبوة مطلقا أفضل من الولاية وهى عبارة عند الصوفية عن السير فى الذات والولاية عن السير فى الصفات
وشتان ما بينهما والتوجه الى الله سبحانه تعالى يسمى فى الاصطلاح بالعروج والى الخلق يسمى بالنزول وكلاهما يعترضان للصوفى فى كلا السيرين غير ان النازل فى مقام الولاية وان كان له توجها الى الخلق لكنه لم يبلغ فى العروج غاية فهو ملتفت الى الأعالي طمعا لغاية الكمال والنازل فى مقام النبوة لا يكون نازلا الا بعد ما يبلغ الكتاب فى الكمال اجله فهو بكلية يتوجهه الى الخلق للتكميل على مراد الله سبحانه تعالى وان كانت على خلاف مراده وطبعه فهو أفضل وأكمل وهذا الجهاد باق ما دامت هذه النشأة الثانية الباقية وبعد فراغ منها يتادى باملهم الى الرفيق الأعلى فحينئذ يتوجه بكليته الى الدرجات العلى بأجره واجر من اهتدى به على سبيل الأكمل والا وفى والله تعالى اعلم وجملة انا سنلقى اما تذئيل وتأكيد لما سبق كما ذكرنا او معترضة لبيان الحكمة فى الأمر بقيام الليل فان فى القيام تمرين النفس على المشفة ومشق مخالفات الطبع او لان الصلاة كانت قرة للنبى ﷺ حيث قال جعلت قرة عينى فى الصلاة رواه احمد والنسائي والبيهقي عن انس وقال أقم الصلاة يا بلال أرحنا به رواه ابو داود عن رجل صحابى عن خزاعة فحينئذ يكون فى التهجد تحصيل ما يعالج به ثقل التوجه الى الخلق او لان لقيام الليل تأثير التأثر نفسه لشريعة فى نفوس الامة كى يجيبوا دعوته حين يستمعوا قوله كما أجاب الجن دعوته حين يستمعوا القران او لان لقيام الليل مدخل فى قيامه مقام الشفاعة لانه حيث قال الله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى ان يبعثك ربك مقاما محمودا.
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ اى قيام الليل مصدر جاء على فاعلة كعافية بمعنى العفو كذا قال الأزهري وقالت عائشة الناشية قيام الليل بعد النوم فهو بمعنى التهجد وقال ابن كيسان هى القيام من اخر الليل وقال سعيد بن جبير وابن زيد اى ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش نشأ فلان اى قام وقال عكرمة هى القيام من أول الليل قال البغوي روى عن على بن الحسين رضى الله تعالى عنهما انه كان يصلى بين المغرب والعشاء الاخرة يقول
هذا ناشية الليل والظاهر ان هذين القولين لا يلائمان هذا المقام فانه ﷺ كان مامور القيام اخر الليل وقال الحسن كل الصلاة بعد العشاء الاخرة فهى ناشية وقيل صفة الفاعل بمعناه والمراد النفس التي تنشأ من مضجعها الى العبادة من نشأ من مكانه إذا نهض ساعات الليل كلها وكل ساعة منه ناشية لانها منشئ اى مبتداء ومنه نشأت السخابة وأبدت فكل ما حدث بالليل وبدأ فقد نشأ وهو ناشئ والجمع ناشية وقال ابن ابى مليكة سالت عن ابن عباس رض وابن الزبير عنها فقالا الليل كلها ناشية فالاضافة حينئذ بيانية هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً قرأ ابن عامر وابو عمرو بكسر الواو وفتح الطاء والمد بمعنى الموافقة اى هى أشد موافقة للقلب مع اللسان فان ذلك يكون بالليل اكثر منه بالنهار وقرأ الجمهور بفتح الواو وسكون الطاء اى أشد ثقلا من صلوة النهار لان الليل للنوم والراحة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام اللهم اشدد وطأتك على مضر وإذا اعتاد المرء باشد العبادات ثقلا هان عليه مشقة سائر التكاليف وكلما هو أشد وأثقل على النفس مع مراعات السنة كان اكثر ثوابا وأثقل فى الميزان وأشد تأثيرا فى النفوس وقال ابن عباس رض كانت صلوتهم أول الليل هى أشد وطأ بمعنى أجدر ان يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لان الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ وقال قتادة اثبت فى الخير واحفظ للقرأة وقال الفراء اثبت وطأ للقيام وأسهل للمصلى من ساعات النهار لان النهار خلق لتصرف العباد والليل للخلوة والعبادة وقيل أشد نشاطا فان من كان أشد على النفس ثقلا كان ألذّ للصوفى وقال ابن زيد افرغ له قلبا من النهار لانه لا تعرض له بالليل حوائج وموانع وقال الحسن أشد وطأ فى الخير وامنع من الشيطان وَأَقْوَمُ قِيلًا ط اثبت قراءة واضح قولا لهداة وسكون الأصوات.
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا ط والسبح سرعة الذهاب ومنه السباحة فى الماء يعنى ان لك بالنهار ذهابا فى مهامك ولدعوة الخلق وتبليغ الاحكام واشتغالا بها فعليك بالتهجد فان الليل افرغ لها فهذا بمنزلة التعليل لما سبق- (فصل فى فضائل صلوة الليل) عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ينزل ربنا كل ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخر يقول من يدعونى فاستجيب من يسألنى فأعطيه من يستغفر لى فاغفر له متفق عليه وفى رواية لمسلم ثم يبسط يديه ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم وعن جابر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان فى الليل ساعة
لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا من امر الدنيا والاخرة الا أعطاه إياه وذلك رواه مسلم وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ أحب الصلاة الى الله صلوة داود وأحب الصيام الى الله صيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ويصوم يوما ويفطر يوما متفق عليه وعن ابى امامة قال قال رسول الله ﷺ عليكم بقيام الليل فانه داب الصالحين قبلكم وهو قربة لكم الى ربكم ومكفر للسيات ومنهيات للاثم رواه الترمذي وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ ثلثة يضحك الله عليهم الرجل إذا قام بالليل يصلى والقوم إذا صفوا فى الصلاة وإذا صفوا فى قتال العدو رواه البغوي فى شرح السنة وعن عمرو بن عيينة قال قال رسول الله ﷺ اقرب ما يكون الرب الى العبد فى جوف الليل الاخر فان استطعت ان تكون ممن يذكر الله فى تلك الساعة فكن رواه الترمذي وقال الحسن صحيح وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ اشرف أمتي حملة القران واصحاب الليل رواه البغوي فى الشعب.
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ عطف على قم الليل والمراد به دوام الذكر ليلا ونهارا بحيث لا يطرق اليه النتور ولا يلحقه الذهول وذا لا يتصور باللسان فان كل ما كان باللسان والجوارح من التسبيح والتحميد والصلاة والقراءة ونحو ذلك يتطرق اليه فتور النية فليس هو الا ذكر القلب وهو حقيقة الذكر فان الذكر عبارة عن طرد الغفلة كما يقتضيه المقابلة فى قوله ﷺ ذكر الله فى الغافلين بمنزلة الصابر فى الغارمين فكل صلوة وتسبيح وقراءة كان عن قلب لاه فلا يعتد به ويل للمصلين الذين هم عن صلوتهم ساهون وانما قلنا ان المراد دوام الذكر لان العطف يقتضى المغايرة ومطلق الذكر يتضمنه قيام الليل وترتيل القران وحمل الكلام عليه اولى منه على التأكيد وقيل معناه ان قل بسم الله الرحمن الرحيم عند ابتداء تلاوة القران (مسئلة) اجمعوا على قراءة البسملة فى أول الفاتحة وأول كل سورة ابتدأ القاري القراءة بها ولم يصلها بما قبلها سنة واختلفوا فى التسمية بين السورتين فكان ابن كثير وقالون وعاصم يبسملون بين كل سورتين فى جميع القران ما خلا الأنفال وبراءة فانه لا خلاف فى ترك البسملة هناك والباقون لا يبسملون بين السور فاصحاب حمزة يصلون اخر كل سورة باول الاخرى والمختار من مذهب ورش وعن ابى عمرو وابن عامر السكتة من غير قطع واما عند الابتداء بما بين السورة فالقارى فيه مخير بين التسمية وتركها فى مذهب الجميع هذا فى القراءة خارج الصلاة واما إذا قرأه فى الصلاة
109
فقال الشافعي هى اية من الفاتحة ومن كل سورة فيجب قراءتها مع الفاتحة ويسن قرأتها مع غيرها ويبسمل جهرا وقال الائمة الثلاثة ليست هى جزأ من شىء من السور قال ابو حنيفة رض هى اية من القران نزلت للفصل فلا يقرأ البسملة وعند مالك رض فى الصلاة أصلا ولا مع الفاتحة ولا مع غيرها وعند ابى حنيفة رض واحمد رض يسن قرأتها مع الفاتحة سرا ولا يقرأ مع غيرها من السور وفى رواية عن محمد رض يستحب ان يقرأ سرا مع كل سورة وقد ذكرنا فى تفسير سورة الفاتحة الحجة على انها ليست من الفاتحة ولا من شىء من السور وان النبي ﷺ والخلفاء الراشدين لم يجهروا بها فى الصلاة وقد ذكر الشافعية فى الجهر بالتسمية تسعة أحاديث رواه دار قطنى والخطيب أورد كلها ابن الجوزي وقال ابن الجوزي قال الدار قطنى كلما روى عن النبي ﷺ فى الجهر بالتسمية فليس بصحيح فاما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف وقد روى ابو داود ان النبي ﷺ كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة يدعى رحمن اليمامة فقال اهل مكة انما يدعوا محمد الله يمامة فامر الله رسوله فاخفاها حتى مات وهذا يدل على ان يجهر بها وعدم الجهر بالبسملة مروى عن ابى بكر وعمر وعثمن وعلى وابن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن مغفل وابن الزبير وابن عباس ومن كبار التابعين منهم الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وابراهيم وقتادة وعمرو بن عبد العزيز والأعمش والثوري وانما يرون خلاف هذا عن معاوية وعطاء وطاؤس ومجاهد كذا قال ابن الجوزي وَتَبَتَّلْ اى انقطع عما سواه إِلَيْهِ تعالى تَبْتِيلًا مصدر من غير بابه وضع موضع تبتلا لرعاية الفواصل والاشارة الى ان التبتل فى الغالب امر كسبى يحتاج الى تعمق واجتهاد فالتبتيل مقدم على التبتل ومن ثم قال الحسن فى تفسيرها اجتهد وقال ابن زيد التبتل رخص الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله فكانه قال تبتل قلبك عما سوى ربك تبتيلا فتبتل لله تعالى وليس المراد بالتبتل ترك الملاقاة بالناس او التقصير فى أداء حقوق العباد او قطع نحو ذلك مما امر الله به ان يوصل إذ لا رهبانية فى الدين وان لنفسك عليك حقا ولاهلك عليك حقا ولضيفك عليك حقا بل المراد به قطع العلاقة الحسية والعلمية عن القلب وهو معنى القلب قالت الصوفية العلية الطريق الذي نحن بصدده قطعه خطوتان الخطوة الاولى الانقطاع عن الخلق والثانية الوصول الى الحق وأحدهما لازم
للاخر ومن ثم ذكر الله سبحانه كلا الخطوتين بالعطف بالواو الذي هى للجمع وقدم قوله واذكر اسم ربك الذي هو عبارة عن
110
الوصول الى الحق على التبتل لانه هو المقصود بالتبتل وانما قلنا انه عبارة عن الوصول لان الذكر الذي لا يتطرق اليه الفتور ولا يستعقبه الذهول هو العلم الحضوري إذ لا يتصور ذلك فى العلم الحصولى بداهة والعلم الحضوري عبارة عن حضور نفس المعلوم عند العالم وذلك يعبر بدوام الحضور والوصول والاتصال والاتحاد والبقاء ونحو ذلك بألفاظ شتى وكانت الأوائل يعبرون عنها بالإخلاص قال ابن عباس وغيره فى تفسير هذه الاية أخلص الله إخلاصا وانما قال واذكر اسم ربك ولم يقل واذكر ربك لان الملازم للتبتل الذي هو المعبر بالفناء وانما هو علم الأسماء والصفات دون العلم المتعلق بالذات فانه بعد وراء الوراء ويحتمل ان يكون المراد بالذكر الذكر باللسان بموافقة القلب وبدوام الذكر الدوام العرفي بمعنى الإكثار بقدر الطاقة البشرية وذلك يفضى الى التبتل ووسيلة اليه بشرط الاجتباء عن الله تعالى كما يكون للانبياء والافراد من الأولياء او جذب من الشيخ وعلى هذا وجه التقديم على التبتل بأظهر تقدم طبعا واعلم ان على هذا التأويل فى قوله تعالى واذكر اسم ربك اشارة الى تكرير اسم الذات وفى قوله تعالى.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على قرأة الجر اشارة الى التصور احاطته تعالى بالممكنات ذكر النفي والإثبات وكلا التكريرين اساسان بطريقة ارباب كمالات الولايات وعلى هذا التأويل يثبت المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه اعنى قم الليل ورتل القران واذكر اسم ربك ويظهران كلا من الأمور الاربعة الصلاة وتلاوة القران وذكر اسم الذات والنفي والإثبات مدار لحصول مراتب القرب والدرجات غير ان الأولين لاهل الانتهاء والآخرين لاهل الابتداء وانما قدم الأولين على الآخرين لان المخاطب اولا هو النبي ﷺ وهو أكمل اهل الانتهاء والله تعالى اعلم رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قرأ نافع وابن كثير وابو عمرو وحفص بالرفع على انه خبر مبتداء محذوف اى هو رب المشرق والمغرب او مبتداء خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ الباقون بالجر على البدل من ربك وقيل بإضمار حرف القسم وجوابه لا اله الا هو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا الفاء للسببية فان كونه ربا لجميع المخلوقات وتوحده بالالوهية يقتضى ان يوكل اليه الأمور كلها وفى هذه الاية دفع توهم ان التبتل عن الخلق يوشك ان يخل فى أموره المعايشة فان الإنسان مدنى الطبع لا يستغنى بعضهم عن بعض فابطل هذا الوهم بانه تعالى رب المشرق والمغرب وما بينهما من العباد والبلاد وأفعالهم ومنافعهم والقلوب كلها بيده يصرفها
كيف يشاء لا اله الا هو لا يتصور النفع ولا الضرر من أحد الا باذنه وإرادته فاتخذه وكيلا حسبك عن غيره ونعم الوكيل عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ﷺ لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير فغدو خماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وابن ماجة وقال قال رسول الله ﷺ ان روح القدس نفث فى روعى ان نفسا لم تمت حتى تستكمل رزقها الا فاتقوا الله واجملوا فى الطلب رواه البغوي فى شرح السنة والبيهقي فى الشعب وعن ابى ذر عن النبي ﷺ قال الزهادة فى الدنيا ليس بتحريم الحلال واضاعة المال ولكن الزهادة فى الدنيا ان لا يكون بما فى يديك أوثق مما فى يد الله وان تكون فى ثواب المصيبة إذا أنت أصبت بها ارغب فيها لو انها أبقيت لك رواه الترمذي قال الشيخ الاجل امامنا وقبلتنا يعقوب الكرخي رض ان من أول السورة الى هذه الاية اشارة الى مقامات السلوك من الخلوة بالليل والاشتغال بالقران وذكر الرحمن ونفى ما سواه والتوكل به ثم أشار الى أعلى مقامات السلوك وهو ابصر على جفاء الأعداء فقال.
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اى الكفار من الخرافات فانهم كانوا يقولون كاهن شاعر مجنون وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بان تجانبهم ولا تكافئهم وتكل أمرهم الى الله هذه الاية نسختها اية القتال.
وَذَرْنِي اى دعنى وَالْمُكَذِّبِينَ اى مع المكذبين فان الواو بمعنى مع ولا يجوز ان يكون للعطف والمعنى كل أمرهم الى فان لى غنية عنك فى مجازاتهم ولا يحزنك أقوالهم أُولِي النَّعْمَةِ ارباب النعمة يريد صناديد قريش وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا قليلا او امهالا قليلا الى ان يموتوا او يأتي امر الله بالقتال فيعذبهم الله بايديكم ويشف صدور قوم مومنين ويذهب غيظ قلوبهم قال مقاتل بن حسان نزلت فيمن هلكوا ببدر فلم يلبثوا الا يسيرا حتى قتلوا ببدر.
إِنَّ لَدَيْنا تعليل للامر أَنْكالًا النكل القيد الثقيل اخرج البيهقي عن الحسن قال الأنكال قيود من النار وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ غير مبالغة تأخذ بالحلق لا تنزل ولا تخرج اخرج ابن جرير وابن ابى الدنيا فى صفة النار والحاكم والبيهقي عن ابن عباس فى قوله تعالى وطعاما ذا غصة قال شجرة الزقوم واخرج عبد الله بن احمد عنه قال قال رسول الله ﷺ الضريع شىء يكون فى النار شبه الشوك امر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار إذا اطعم صاحبه لا يدخل البطن ولا يرفع الى الفم فيبقى بين ذلك لا يسمن ولا يغنى من جوع وَعَذاباً أَلِيماً اخرج ابن ابى الدنيا عن حذيفة مرفوعا انها
لتسقط عليهم اى على اهل النار حيات من النار وعقارب من نار ولو ان حية منها نفخت بالمشرق احرق من فى المغرب ولو ان عقربا منها ضربت اهل الدنيا احرقوا من آخرهم وانها لتسقط عليهم فيكون بين لحومهم وجلودهم واخرج مسلم عن ابى سعيد الخدري ان رسول الله ﷺ قال ان أهون اهل النار عذابا ابو طالب وهو منعل بنعلين يغلى منهما دماغه واخرج مسلم عن النعمان بن بشير ان أهون اهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلى منهما دماغه كغلى المرجل ما يرى ان أحدا أشد منه عذابا وانه لاهونهم عذابا واخرج الحاكم عن ابى هريرة نحوه.
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ظرف لما فى لدنيا أنكالا من معنى الفعل والظاهر ان رجفة الأرض والجبال يكون قبل النفخة الاولى وعذاب الكفار بالانكال والجحيم بعد البعث فوجه الظرفية ان يوم القيامة زمان ممتد مما قبل النفخة الاولى ان يدخل اهل الجنة الجنة واهل النار النار وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا عطف على ترجف اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس رض اى رملا سائلا قال الكلبي هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده.
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا اهل مكة رَسُولًا فى الكلام التفات فان فيما سبق من الكلام كان الخطاب مع النبي ﷺ وذكر الكفار فى قوله واصبر على ما يقولون إلخ الى الغيبة وهذا خطاب مع الكفار وذكر النبي ﷺ على الغيبة وفى هذا الكلام تأكيد لما سبق قال الله تعالى انا سنلقى عليك قولا ثقيلا ومضمون هذه الاية انا أرسلناك فمضمون الآيتين واحد- شاهِداً عَلَيْكُمْ بالاجابة او الامتناع كَما أَرْسَلْنا صفة لمصدر محذوف اى رسالا كارسالنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعنى موسى عليه السلام.
فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ موسى عليه السلام فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا شديدا ثقيلا بعد طعام وبيل اى ثقيل لا يستمرئ ومنه الوابل للمطر العظيم أغرقه الله تعالى فى البحر ثم ادخله فى النار فكذا يفعل بكم ان تعصوا رسولكم.
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يا اهل مكة برسولكم يَوْماً اى عذاب يوم حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه وأعرب باعرابه وظرف متعلق بتتقون اى كيف تتقون العذاب فى يوم ويحتمل ان يكون مفعولا لكفرتم اى كيف تتقون العذاب ان كفرتم يوما اى بيوم يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدة هوله وطول زمانه فانه هذا على الفرض او التمثيل وأصله ان بالهموم يضعف القوى يسرع الشيب وشيبا جمع أشيب كما ان بيضا جمع ابيض عن ابى سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير فى يديك
قال اخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قالوا يا رسول الله وأينا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا ومن يأجوج وماجوج الف ثم قال والذي نفسى بيده أرجو ان تكونوا ربع اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبرنا فقال ما أنتم فى الناس الا كالشعرة السوداء فى جلد ثور ابيض او كشعرة بيضاء فى جلد ثور اسود متفق عليه وهذه الجملة صفة ليوم والعائد ضمير الفاعل على المجاز كما فى قولهم صام نهاره والعائد محذوف لقديره يوما يجعل الله فيه الولدان شيبا.
السَّماءُ مع عظمتها وأحكامها مُنْفَطِرٌ منشق والتذكير على تاويل الشقف او إضمار كلمة شىء اى شىء منفطر بِهِ اى بذلك اليوم اى بشدته فكيف غير السماء الجملة صفة ثانية ليوما كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا هذه الجملة صفة ثالثة ليوما والوعد مصدر مضاف الى ضمير المفعول العائد الى اليوم او العائد محذوف والمصدر مضاف الى الفاعل اى كان وعد الله بالعذاب فيه مفعولا أورد الجملتين معطوفتين بغير العطف على طريقة الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان.
إِنَّ هذِهِ الآيات نلقيه عليك تَذْكِرَةٌ تذكر العباد المبدأ والمعاد وتوضيح السبيل الموصل الى الله تعالى الى جوده والى انعامه ورضوانه والرشاد فَمَنْ شاءَ التذكر وسلوك السبيل الى ربه اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا الفاء للسببية اى ليس السبيل الى الله تعالى الا التذكرة فانه سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا وليس الحجاب بيننا إلا حجاب الغفلة وحجاب العظمة والكبرياء منه تعالى والى تلك الحجب أشار النبي ﷺ ان لله تعالى سبعون الف حجابا من نور وظلمة فحجب العظمة والكبرياء حجب نورانية قال الله تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري وحجب الغفلة العباد حجب ظلمانية لو كشف لاحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره من خلقه وكشف تلك الحجب يتيسر بالتذكير فان التذكير يذيل الغفلة ويستوجب المحبة للمعية كما قال رسول الله ﷺ المرء مع من أحبه فالمحبة يفضى المحب الى المحبوب بحيث لا تمنعه سرادقات العظمة والكبرياء وإحراق سبحات الوجه كناية عن الفناء والبقاء وان كان ذلك فى مرتبة العلم قيل الجملة مضمونها التحير وهو مجاز عن التهديد.
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى اى اقرب مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ قرأ هشام بسكون اللام والباقون بضمها وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قرأ ابن كثير والكوفيون بنصبهما
114
عطفا على ادنى يعنى تقوم اقرب من الثلثين وتقوم النصف وتقوم الثلث والباقون بجرهما يعنى اقرب من النصف ومن الثلث وهذه القراءة يدل على القيام اقل من الثلث فوق الربع وانما قلنا فوق الربع لما ذكرنا فيما قبل ان قوله تعالى او انقص منه قليلا يقتضى ان يكون القيام فوق الربع وَطائِفَةٌ عطف على فاعل تقوم مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ط اى جماعة أصحابك يقومون على ذلك المقدار اقتداء لسنتك كذا قال البيضاوي وقال البغوي فى تفسيره يعنى المؤمنين كانوا يقومون معه وهذا التأويل بعيد جدا فان الذين معه هم المؤمنون دون الكفار كما فى قوله نظر محمد رسول الله والذين معه فكلمة من للتبعيض يدل على ان القائمين كانوا بعض الصحابة دون كلهم وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عطف على ان ربك وفيه وضع المظهر موضع المضمر تقديره وهو يقدر الليل والنهار اى يعلم مقاديرهما كما هى وأنتم لا تعلمون كما هى قال البيضاوي تقديم اسم الله مبتداء مبنيا عليه يقدر يشعر بالاختصاص وهى مذهب عبد القاهر والزمخشري دون السكاكي عَلِمَ أَنْ مخففة واسمها ضمير الشان محذوف لَنْ تُحْصُوهُ اى تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ومن ثم ربط وجوب الصلاة الخمس بامور ظاهرة كطلوع الصبح والشمس وزوالها وغروبها وقدر الظل وغروب الشفق فَتابَ عَلَيْكُمْ اى رجع عليكم من التشديد الى التخفيف فاسقط عنك ذلك القدر كيلا يشق على أمتك التأسي به فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ط الفاء للسببية ومعناه صلوا ما تيسر من الصلاة بالليل عبر عن الصلاة بالقراءة هاهنا كما عبر بالقيام فيما سبق تسمية الكل باسم الجزء فهذه الاية يقتضى كون القراءة ركنا للصلوة كما تقتضى تلك الاية بركنية القيام وعلى هذا العقد الإجماع ايضا فهذه الآية نسخ قيام الليل ذلك المقدار وبقي مطلق القيام بالليل واجبا ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس فصار تطوعا بعد فريضة يدل على ذلك ما ذكر من قول عائشة رض وابن عباس رض ومقاتل وابن كيسان قلت على تقدير كون القيام بالليل واجبا فى الابتداء على النبي ﷺ وعلى أمته فكون ذلك منسوخا فى حق أمته امر مجمع عليه واما كونه منسوخا فى حق النبي ﷺ سواء كان فى الابتداء واجبا عليه خاصة او عليه وعلى أمته عامة فقد اختلف فيه فقيل لم ينسخ فى حق النبي ﷺ بل كان قيام الليل واجبا عليه ﷺ خاصة الى اخر عمره وقيل بل نسخ عنه ﷺ ايضا وكان عليه الصلاة نافلة وهو الصحيح المختار عندى ويدل عليه قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك فانه صريح فى كونه نافلة فان قيل معنى النافلة الزائدة يعنى زائدة فى الوجوب عليك لا على أمتك قلت لو كان كذلك يقال عليك فان صلة الوجوب تكون على
115
دون اللامم فان قيل فى وجه تخصيصه به عليه الصلاة والسلام فانها نافلة لجميع الناس غير ممنوعة عن أحد قلنا وجه التخصيص على ما روى عن مجاهد والحسن وابى امامة ان تسميتها نافلة فى حقه ﷺ خاصة باعتبار كونها عامة فى رفع الدرجات بخلاف غيره فانها فى حق غيره نافلة فى تكفير السيئات غالبا ويدل ايضا على كون قيام الليل تطوعا فى حق النبي ﷺ حديث المغيرة قال قام النبي ﷺ حتى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا وقد غفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا ولم يقل انها فريضة على خاصة وحديث ابن عمر رض قال كان رسول الله ﷺ يصلى فى السفر على راحلته حيث توجهت به يومى ايماء صلوة الليل الا الفرائض ويوتر على راحلته متفق عليه (مسئلة:) اختلفوا فى ان صلوة الليل فى حق الامة من سنن الهدى المؤكدات او من المستحبات فقيل هى مندوب فى حقنا وهذا قول من قال هى كانت فريضة على النبي ﷺ حتى مات قالوا الادلة القولية يفيد الندب والمواظبة الفعلية لم يكن على
سبيل التطوع والسنة ما واظب عليه النبي ﷺ من التطوع والمختار عندى انها من سنن الهدى كما ذكرنا ان مواظبته ﷺ كان على وجه التطوع وعلى تقدير تسليم كون المواظبة على سبيل الوجوب فمواظبته ﷺ اى وجه كان يقتضى كون الفعل مسنونا ما لم يكن ممنوعا فى حق غيره كصوم الوصال مثلا وممّا يدل على كونه سنة مؤكدة حديث ابن مسعود قال ذكر عند النبي ﷺ رجل فقيل له ما زال نائما حتى أصبح ما قام الى الصلاة قال ذلك رجل بال الشيطان فى اذنه او قال فى اذنيه متفق عليه فان ترك المندوب لا يستحق عليه اللوم والعتاب والله تعالى اعلم- وقيل المراد بقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران القران فى الصلاة الخمس وقال الحسن يعنى فى صلوة المغرب والعشاء قال البغوي قال قيس بن حازم صليت خلف ابن عباس رض بالبصرة فقرأ فى أول ركعته بالحمد وأول اية من البقرة ثم قام فى الثانية فقرأ بالحمد والاية الثانية من البقرة ثم ركع فلما انصرف اقبل علينا بوجهه فقال ان الله عز وجل يقول فاقرؤا ما تيسر منه ويحتمل ان يكون المراد منه فاقرؤا القران بعينه كيف ما تيسر لكم (مسئلة:) اختلفوا فى مقدار القراءة التي لا يجوز الصلاة الا بها ومقدار الواجب منها فى الصلاة فقال ابو حنيفة رض فى احدى الروايات عنه ان ما هو ركن للصلوة ولا يصح الصلاة الا به هو ادنى ما يطلق عليه اسم القران ولم يشبه قصد الخطاب واحد او نحوه ويقتضى هذه الروايات الجواز بدون الاية وبه جزم القدورى وفى رواية عنه وعن احمد هو اية تامة لا يجوز الصلاة بما دون ذلك واختاره صاحب الهداية وفى رواية عنه وبه قال ابو يوسف رض ومحمد رض انه ثلث آيات قصار مثل
116
سورة الكوثر او اية طويلة تساوى الثلث لكن يجب عند ابى حنيفة رض وصاحبيه قراءة الفاتحة وقدر سورة معه فان ترك شيئا منها يجب سجدة السهو ان كان ترك سهوا فان لم يسجد وترك عمدا يأثم ويجب عليه الاعادة من غير افتراض وقال مالك رض والشافعي رض واحمد رض لا يصح الصلاة الا بفاتحة الكتاب وسن عندهم ضم السورة ولا يجب احتجوا بقوله ﷺ لا صلوة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت ورواه الدار قطنى بلفظ لا يجوز صلوة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب وقال اسناده صحيح رواه ابن خزيمة وابن حبان بهذه اللفظ من حديث ابى هريرة رض وفيه قال الراوي قلت ان كنت خلف الامام قال فاخذ بيدي وقال اقرأ بها فى نفسك وروى مسلم واحمد عن ابى هريرة رض بلفظ من صلى صلوة لم يقرأ فيها بام القران فهى خداج هى خداج غير تمام فقلت يا أبا هريرة أحيانا أكون وراء الامام فقال اقرأ بها فى نفسك يا فارسى وروى الحاكم من طريق اشهب عن ابى عتبة عن ابى هريرة عن محمد بن الربيع عن عبادة مرفوعا أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضا عنها وبما ذكرنا من اختلاف ألفاظ الحديث ظهر لك اندفاع ما قيل ان معنى قوله لا صلوة الا بفاتحة الكتاب صلوة كاملة كما فى قوله عليه الصلاة والسلام لا صلوة لجار المسجد الا فى المسجد لان هذا التأويل لا يجرى فى اكثر ما ذكرنا من الألفاظ على ان متعلق الجار والمجرور الواقع خبر الا يقدر الا عاما اى لا صلوة كائنة وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة غير ان فى حديث لا صلوة الا فى المسجد لما قام الدليل عليه وهو الإجماع قلنا المراد هناك كون خاص اى كاملة فهو من باب حذف الخبر لا من باب وقوع الجار والمجرور خبرا وما مر فى تفسير سورة الفاتحة حديث قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين الحديث يدل على ان الصلاة لا يكون الا بفاتحة الكتاب وابو حنيفة رض أخذ بهذا الحديث قال بوجوب الفاتحة فى الصلاة ووجوب ضم السورة ايضا لما روى فى بعض الروايات لا صلوة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا رواه مسلم وابو داود وابن حبان وروى ابن ماجة عن ابى سعيد بلفظ لا صلوة لمن لم يقرأ
فى كل ركعة بالحمد وسورة فى فريضة او غيرها واسناده ضعيف ولابى داود من طريق همام عن قتادة عن ابى بصر عن ابى سعيد قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ان نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر واسناده صحيح ولم يقل ابو حنيفة رض بكون الفاتحة ركنا للصلوة بحيث لا يجوز الصلاة الا بها عملا بهذه الاية فاقرؤا ما تيسر من القرآن قال صاحب الهداية الزيادة على الكتاب القطعي غير الواحد لا يجوز لكنه يوجب العمل
117
فقلنا بوجوبهما والصحيح عندى ان الفاتحة وكذا ضم السورة ركن للصلوة لا يجوز الصلاة الا بهما والاستدلال بهذه الاية على نفى الركنية لا يصح لان الظاهر فى تاويل الاية كما ذكرنا ان المراد بالقراءة نفس الصلاة بالليل ومعنى قوله تعالى فتاب عليكم فاقرؤا ما تيسر انه خفف عنكم فى قيام الليل فصلوا ما تيسر لكم الصلاة فلا دلالة بهذه الاية على قدر القراءة وما لا بد منه وما قيل فى تأويله انه ما تيسر من القران فى الصلاة الخمس فتاويل بعيد واحتمال ضعيف والاحتمال لا يتصور كونه حجة للوجوب فكيف يحكم عليه بكونه قطعيا لا يجوز الزيادة عليه بخبر الواحد كيف والحديث تلقته الامة بالقبول وانعقد الإجماع على العمل به وتوارث النقل وتواتر المعنى ان النبي ﷺ واحد من السلف والخلف لم يصل بغير الفاتحة وبمثل هذا الخبر والنقل التوارث يزاد على الكتاب اجماعا على ان الصلاة مجمل وأحاديث الآحاد يحتمل ان يكون بيانا للجمل ويبين أركانا لها ولقد قالت الحنفية القعدة الاخرة واستدلوا عليه بحديث ابن مسعود رض فى التشهد إذا قلت هذا او فعلت هذا فقد نمت صلوتك ان شئت ان تقوم فقم وان شئت ان تقعد فاقعد قالوا علق التمام بأحد الامرين فهو فرض مع ان الحديث من الآحاد ايضا والله تعالى اعلم وقد يستدل الحنفية على عدم ركنية الفاتحة بحديث ابى هريرة فى قصة المسيئ صلوته انه قال قال رسول الله ﷺ إذا قمت الى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسرك من القران الحديث متفق عليه والجواب ان هذا الحديث وجوب القراءة مطلقا وما مر من قوله ﷺ الا بفاتحة الكتاب يدل التعيين فالعمل بالحديثين بحمل المطلق على المقيد قلنا بركنية الفاتحة وقد ورد فى بعض طرق حديث المسيئ صلوته بلفظ فكبر ثم اقرأ بام القران ثم اقرأ بما شئت به الحديث رواه احمد من حديث رفاعة بن رافع ورواه الدار قطنى من حديثه بلفظ ثم يكبر الله ويثنى عليه ثم يقرأ بام القران وما اذن له فيه وما تيسر الحديث (مسئلة:) هل يجب القراءة على المقتدى أم لا فقال الشافعي رض يجب عليه قرأة الفاتحة كالامام والمنفرد قال البغوي كذا روى عن عمر رض وعثمان رض وعلى رض وابن عباس رض ومعاذ رض وقال ابو حنيفة رض ومالك رض واحمد رض لا يجب ثم اختلفوا فقال ابو حنيفة رض يكره مطلقا وقال مالك رض واحمد رض يكره فى الجهرية فقط وقال احمد رض يستحب فى السرية وكذا فى الجهرية عند سكتات الامام ان سكت لا مع قرأته وبه قال الزهري رض ومالك رض وابن المبارك رض ويروى ذلك عن ابن عمرو عروة بن الزبير وابو القاسم بن محمد وجه القول بسقوط القراءة عن المقتدى حديث جابر عن النبي ﷺ قال من كان له امام فقرأة الامام قرأة له رواه احمد والدار قطنى من طريق جابر الجعفي وضعفه الدار قطنى وقال ابن الجوزي وثقه الثوري
118
وشعبة ورواه الدار قطنى من طريق اخر وفيه لبث وقال ضعفه ابن علية وقال احمد حدث عن الناس ومن طريق اخر فيه يحى بن سلام بلفظة كل صلوة لا يقرأ فيها بام الكتاب فهى خداج الا ان يكون وراء الامام قال الدار قطنى يحى بن سلام ضعيف وقال ابن الجوزي لم نر أحدا ضعفه قال الدار قطنى والبيهقي وابن عدى الصحيح انه مرسل فان الحفاظ كسفيانين وابى الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وابن خلد الدالاني وجرير وعبد الحميد وزائدة وزهير رووه عن موسى بن عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى
الله عليه وسلم مرسلا قلنا المرسل عندنا حجة وما ذكر فى الطرف المتصلة قد سمعت ان ابن الجوزي أنكر تضعيفه على انه قد رواه ابو حنيفة بسند صحيح على شرط الشيخين روى محمد فى مؤطاه انا ابو حنيفة ثنا ابو الحسن موسى بن ابى عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن النبي ﷺ ورواه احمد ابن منيع فى مسنده بسند صحيح على شرط مسلم قال انا اسحق الأرزق ثنا سقيان وشريك عن موسى ابن ابى عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر وفى الباب أحاديث اخر ضعيفة لم نذكرها كراهة الاطناب فان قيل قوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران عام فى المصلين فلا يجوز تخصيصه بخبر الآحاد وعلى اصل ابى حنيفة قلنا هى عام خص منه البعض وهو المدرك فى الركوع اجماعا فجاز تخصيصها بعده فى المقتدى ووجه القول بالاستحباب فى السرية حديث عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ لا يقرأن أحد منكم شيئا من القران إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القران رواه الدارقطني وقال رجاله كلهم ثقات فتخصيص المنع بالجهرية يقتضى الاستحباب فى السرية واستثناء أم القران يقتضى قرأتها عند السكتات جمعا بين الأحاديث وعملا بقوله تعالى وإذا قرئ القران فاستمعوا له وانصتوا والله تعالى اعلم وروى عن جماعة من الصحابة ترك القراءة خلف الامام رواه مالك فى المؤطا عن نافع عن ابن عمر انه كان لا يقرأ خلف الامام وروى الطحاوي عن زيد بن ثابت وجابر قالوا لا تقرأ خلف الامام فى شىء من الصلاة وروى محمد فى المؤطا انه سئل ابن مسعود رض عن القراءة خلف الامام قال انصت فان فى الصلاة شغلا ويكفيك الامام وروى محمد بن سعد قال وددت الذي يقرأ خلف الامام فى فيه جمرة وروى نحوه عبد الرزاق الا انه قال فى فيه حجر وروى محمد عن داود بن قيس عن عجلان ان عمر بن الخطاب قال ليت فى فم الذي يقرأ خلف الامام حجرا وروى ابن ابى شيبة فى مصنفه عن جابر قال لا يقرأ خلف الامام ان جهر ولا ان خافت وهذه الأقوال وجه الكراهة فى الجهرية بل فى السرية ايضا بإطلاقها وايضا ترك القراءة فى الجهرية مقتضى فى قوله تعالى
119
وإذا قرئ القران فاستمعوا له وانصتوا وقوله ﷺ إذا قرئ فانصتوا رواه ابو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابى هريرة وسنذكر تفسير تلك الاية ان شاء الله تعالى (مسئلة:) هل يجب القراءة فى كل ركعة من فرض ونفل فقال الشافعي رض واحمد رض ومالك رض يجب فى كل ركعة مطلقا لان الأمر بالقراءة كالامر بالركوع والسجود وغير انه فى رواية عن مالك ان ترك القراءة فى ركعة واحدة من الفرض الثلاثي والرباعي ينجر بسجود السهو وقال ابو حنيفة فى الوتر والنفل يجب فى كل ركعة ولا ينجر بالسجود فان كل شفعة منه صلوة واما فى الفرض فلا يجب الا فى الركعتين وكان القياس وجوبها فى ركعة واحدة لان الأمر لا يقتضى التكرار ولكن قلنا القراءة وقدرها فلا يلتحقان بهما وهذا الكلام يتوقف على كون المراد بقوله تعالى فاقرؤا ما تيسر من القران فى القراءة فى الصلاة وذلك ممنوع وللجمهور حديث ابى هريرة قال دخل رجل المسجد فصلى والنبي ﷺ فى المسجد ثم جاء الى النبي ﷺ فسلم عليه فرد عليه السلام وقال ارجع فصل فانك لم تصل ففعل ذلك ثلث مرات فقال والذي بعثك بالحق نبيا ما احسن غير هذا فعلمنى فقال إذا قمت الى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القران ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وفى رواية ثم ارفع حتى تستوى قائما ثم افعل ذلك فى صلوتك كلها متفق عليه وحديث رفاعة الرزقي نحوه رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وحديث ابى قتادة ان النبي ﷺ كان يصلى فيقرأ فى الظهر والعصر فى الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين وفى الركعتين الأخريين بام القران وكان يطيل أول ركعة من صلوة الفجر وأول ركعة من صلوة الظهر متفق عليه
وهذا الحديث مع قوله ﷺ صلوا كما رأيتمونى أصلي التحق بيانا بجمل الكتاب وحديث ابى الدرداء ان رجلا قال يا رسول الله أفي كل صلوة قران قال نعم فقال رجل من الأنصار وجبت هذه فان قيل هذه الأحاديث من الآحاد ولا يجوز به الزيادة على الكتاب أجيب بانه على تقدير تسليم هذه المسألة الاصولية نقول بان هذا الحكم انما هو إذا كان الكتاب قطعى الدلالة وقوله تعالى فاقرؤا ليس بل يحتمل وجوه التأويل وان القراءة المأمور بها فى الصلاة مجمل يجوز ان يلتحق أحاديث الآحاد بها بيانا والله تعالى اعلم عَلِمَ الله إِنَّ مخففة من المثقلة وضمير الشان محذوف سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى بدل اشتمال من قوله تعالى علم ان لن تحصوه وتكرار فاقرؤا للتاكيد وقيل استيناف لبيان حكمة اخرى مقتضية للتخفيف
120
ولذلك كرر الحكم مرتبا عليه وَآخَرُونَ عطف على اسم يكون يَضْرِبُونَ اى يسافرون فِي الْأَرْضِ للتجارة او لتحصيل العلم وللحج يَبْتَغُونَ حال من ضمير يضربون مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الربح فى التجارة او العلم والثواب وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلا يطيقون هؤلاء الأصناف سنة قيام الليل ذكر البغوي عن ابراهيم عن ابن مسعود رض قال أيما رجل جلب شيئا الى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ عبد الله وآخرون يضربون فى الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون فى سبيل الله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ اى من القرآن فان قيل كلمة ما عام شامل يشتمل جميع ما تيسر فيلزم ان يكون المأمور به ذلك قلنا سوق الكلام يقتضى تخير المكلفين فى جميع افراد ما تيسر فاى فرد منها اتى به فقد اتى بالمأمور به (مسئلة) ويستحب القصد فى العمل والتوسط دون الافراط والتفريط ويستحب المواظبة على المتوسط دون الافراط تارة وترك اخرى واد فى المتوسط يقرأ خمسين اية ومائة وأكثره الف اية حتى يكون الختم فى الأسبوع اخرج الطبراني عن ابن عباس عن النبي ﷺ فاقرءوا ما تيسر منه قال مائة اية قال ابن كثير غريب جدا وروى البغوي بسنده عن انس انه سمع رسول الله ﷺ يقول من قرأ خمسين اية فى يوم وليلة لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائة اية كتب من القانتين ومن قرأ مائتى اية لم تحاجه القران يوم القيامة ومن قرأ خمسمائة اية كتب له قنطار من الاجر وروى الدارمي عن الحسن مرسلا ان النبي ﷺ قال من قرأ فى ليلة مائة اية لم يحاجه القرآن تلك الليلة ومن قرأ فى ليلة مائتى اية كتب له قنوت ليلة ومن قرأ خمسمائة اية الى الف له صحيح فله قنطار من الاجر قالوا وما القنطار قال اثنى عشر الف درجة وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ اقرء القرآن فى كل شهر قال قلت انّى أجد قوة قال فاقرءه فى عشرين ليلة قال قلت انى أجد قوة قال فاقرأ فى سبع ولا تزد على ذلك وفى الصحيحين عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ أحب الأعمال الى الله أدومها وان قل وفيهما عنها قالت قال رسول الله ﷺ خذوا من الأعمال ما يطيقون فان الله لا يمل حتى تملوا وفيهما عن انس قال قال رسول الله ﷺ ليصل أحدكم نشاطه وإذ فتر فليقعد وفيهما عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم فان أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يستغفر فيسب نفسه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة الجملة مع
121
ما عطف عليه معطوفة على فاقرؤا وكلمة الواو للجمعية فهذا العطف يقتضى ان قيام الليل بما تيسر من القران لم ينسخ بالصلوات الخمس كما قيل فثبت ان الأمر كان للندب دون الوجوب والله تعالى اعلم وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قال ابن عباس المراد به الانفاق سوى الزكوة من صلة الرحم وقرى الضيف قلت ويحتمل ان يكون المراد به مطلق الطاعات لله تعالى وان يكون المراد به الزكوة على احسن الوجه يدل عليه قوله تعالى قَرْضاً مفعول مطلق من قبيل أنبته الله نباتا حَسَناً صفة للمصدر
وفيه ترغيب لوعد العوض وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ عبادة بدنية او ما فيه شرط جزاءه تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً ط من الذي توخرونه الى الوصية عند الموت ومن متاع الدنيا وخيرا ثانى مفعولى تجدوه وهو الضمير الفصل لا محل له من الاعراب لان افعل من حكمه حكم المعرفة فلذلك يمتنع من حرف التعريف عن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ أيكم ماله أحب اليه من مال وارثه قالوا ما منا أحد الا ماله أحب اليه من مال وارثه قال اعلموا ما تقولون قالوا ما نعلم الا ذلك يا رسول الله قال ما منكم رجل الا مال وارثه أحب اليه من ماله قالوا كيف يا رسول الله قال انما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما اخر رواه البغوي وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ط لذنوبكم الجملة معطوفة على اقيموا الصلاة إلخ وفيه اشارة الى ان الإنسان لا يعتبر باعمال البر ولا يتكل عليه بل لا بد مع ذلك من الاستغفار فان ما صدر منه من الطاعات قلما يخلو من التقصيرات ثم كلما صدر من العبد وان جل فهو بالنسبة الى جناب قدسه وجلالته وعظمته لا يليق به تعالى ما لم ينضم معه الاعتراف بالعجز والقصور والذل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ عن تقصيراتكم رَحِيمٌ بكم يعطى الثواب الجزيل على العمل القليل.
122
Icon