تفسير سورة القيامة

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة القيامة مكية
وهي أربعون آية وفيها ركوعان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ لا أقسم ﴾، زيادة لا النافية على القسم للتأكيد ١ شائع، ﴿ بيوم القيامة ﴾
١ قال المبرد: لا زائدة لتأكيد القسم، وقال الفراء: لا نافية ومنفيها ما اشتهر عن الكفار من إنكار البعث ورد بأن الفصحاء يزيدونها في مستهل قصائدهم وقيل: منفيها أقسم كأنه قال: لا أقسم؛ لأنه لا حاجة إلى القسم لظهوره، وقيل: زيدت توطئة للنفي بعده نحو ﴿فلا وربك لا يؤمنون﴾(النساء: ٦٥) ويقدر هنا لا يتركون سدى ورد بأنه لم يقصر على النفي نحو ﴿لا أقسم بهذا البلد﴾(البلد: ١) لقوله:﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ (البلد: ١-٤) ومثله ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم﴾ بقوله:﴿إنه لقرآن كريم﴾(الواقعة: ٧٥-٧٧) وقيل: أصله لا قسم بدليل قراءة ابن كثير ثم أشبع اللام فظهر الألف ورد بأن نون التأكيد لازم هذا اللام وكلام الله على طريقة كلام العرب فالقول ما قال المبرد/١٢ وجيز..
﴿ ولا أقسم بالنفس اللوامة ﴾ هي نفس المؤمن لم تزل تلومه : لم قلت كذا لما فعلت ؟ لم تركت ؟ أو النفس تلوم يوم القيامة نفسه إن عمل خيرا لم ما استكثرته ؟ وإن شرا لم عملته ؟ وجواب القسم محذوف نحو " إنكم مبعوثون " يدل عليه قوله :﴿ أيحسب الإنسان ﴾
﴿ أيحسب الإنسان ﴾ : جنسه، أو الكفار منهم، ﴿ أن لن نجمع عظامه ﴾ : بعد تفرقها لعدم قدرتنا،
﴿ بلى ﴾ : نجمعها، ﴿ قادرين ﴾، حال من فاعل نجمع المقدر، ﴿ على أن نسوي بنانه ﴾ : أن نجعل أصابع يديه ورجليه مستوية كخف البعير، فلا يمكنه القبض، والأخذ، وفنون الأعمال، أو على أن نضم الأنامل بعضها إلى بعض كما كانت على صغرها، فكيف بكبار العظام،
﴿ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ﴾ : ليدوم على الفجور فيما يستقبله من الأوقات، والمعنى على إنكار الحسبان، أولا ثم الإضراب عنه بالإخبار عن حال بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ، وفيه إيماء بأنه عالم بوقوع الحشر لكنه مغتاب،
﴿ يسأل أيان يوم القيامة ﴾ : متى يكون إنكارا أو استهزاء،
﴿ فإذا برق البصر ﴾ : تحير فزعا من شدة الأهوال،
﴿ وخسف القمر ﴾ : ذهب ضوءه،
﴿ وجمع١ الشمس والقمر ﴾ أي : جمع بعض أجزاء الشمس إلى بعض، ويلف كالحصير، وكذا٢ القمر، أو جمع بينهما، فلا يكون كل واحد في فلك،
١ ولم يقل جمعت لتغيب المذكور، وهو القمر مع أن الشمس مؤنث غير حقيقي/١٢ وجيز..
٢ هذا قول جمع من السلف/١٢ وجيز..
﴿ يقول الإنسان يومئذ أين المفر ﴾ : أين الفرار ؟
﴿ كلا ﴾، ردع عن طلب الفرار، ﴿ لا وزر ﴾ : لا ملجأ،
﴿ إلى ربك ﴾ : وحده، ﴿ يومئذ المستقر ﴾ : استقرار العباد،
﴿ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ﴾ : بأعمال أوائل عمره وأواخره، أو بما عمله وما تركه، أو بأعمال عملها، وبأعمال أخرها فعمل بها كسنة حسنة وسيئة،
﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة١ : حجة بينة تشهد جوارحه عليه نحو : لما جاءت آياتنا مبصرة أو عين بصيرة يعني لا يحتاج إلى الإنباء،
١ ولما ذكر منكر البعث، وإعراضه عن آيات الله، واختياره للعاجلة للفجور أعقبه بحاله، من تناهي اهتمامه بالآيات لنفسه ولغيره، وبرجاء أن يهديه الله فكمال اعتنائهم في العاجلة، وتمام اهتمامه في الآجلة، فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها فبضدها تبين الأشياء فقال:﴿لا تحرك به لسانك﴾ الآية/١٢ وجيز..
﴿ ولو ألقى معاذيره ﴾ : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه جمع معذار، وهو العذر، أي : لا ينفعه عذره ؛ لأن من نفسه من يكذبه، وعن بعض : ولو ألقى الستور وأخفى الذنب كل الإخفاء، وأهل اليمن يسمون الستر معذارا،
﴿ لا تحرك ﴾ : يا محمد، ﴿ به ﴾ : بالقرآن، ﴿ لسانك لتعجل به ﴾ : لتأخذه على عجلة.
قد صح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وغيره : إنه إذا نزل جبريل بالوحي قرأ النبي- عليه السلام- قبل فراغه مسارعة إلى الحفظ، وخوفا من الانفلات، فنزل :﴿ إن علينا جمعه ﴾
قد صح عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وغيره : إنه إذا نزل جبريل بالوحي قرأ النبي- عليه السلام- قبل فراغه مسارعة إلى الحفظ، وخوفا من الانفلات، فنزل :﴿ إن علينا جمعه ﴾
﴿ إن علينا جمعه ﴾ : في صدرك، ﴿ وقرآنه ﴾ : إثبات قراءته في لسانك،
﴿ فإذا قرأناه ﴾ : بلسان الملك عليك، وأصغيته، ﴿ فاتبع قرآنه ﴾ : فاتبع قراءته، وكن مقفيا له فيه،
﴿ ثم إن علينا١ بيانه ﴾ : بيان ما أشكل عليك،
١ وهو اعتراض بما يؤكد التوبيخ على حب العجلة؛ لأن العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهم الأمور، وأصل الدين، فكيف بها في غيره؟! والمناسبة بين هذه الآية، وما قبلها أن تلك تضمنت الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها/١٢ فتح..
﴿ كلا ﴾، ردع لإلقاء المعاذير، ﴿ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ﴾ : تختارون الدنيا على العقبى، ولا تعملون للعقبى، والخطاب لجنس الإنسان ؛ لأن فيهم من هو كذلك، أو الكفار وقوله :" لا تحرك " إلى قوله :" ثم إن علينا بيانه " اعتراض بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات مع ما فيه من إنكار العجلة، وأن كان في أمور الخير، وما قبل الاعتراض وما بعده في التوبيخ على حب العجلة،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:﴿ كلا ﴾، ردع لإلقاء المعاذير، ﴿ بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ﴾ : تختارون الدنيا على العقبى، ولا تعملون للعقبى، والخطاب لجنس الإنسان ؛ لأن فيهم من هو كذلك، أو الكفار وقوله :" لا تحرك " إلى قوله :" ثم إن علينا بيانه " اعتراض بذكر ما اتفق في أثناء نزول هذه الآيات مع ما فيه من إنكار العجلة، وأن كان في أمور الخير، وما قبل الاعتراض وما بعده في التوبيخ على حب العجلة،
﴿ وجوه يومئذ ﴾ : يوم القيامة، ﴿ ناضرة ﴾، من النضارة أي : حسنة بهية مشرقة،
﴿ إلى ربها ناظرة١ : تراه عيانا حين يرى ربه يلتفت إلى غيره، والنظر إلى غيره في جنب النظر إليه لا يعد٢ نظرا، ولهذا قدم المفعول، والأحاديث الصحاح في تفسير تلك الآية وأقوال السلف والخلف على ذلك بحيث يعد المكابر معاندا،
١ أي: تنظر إليه عيانا بلا حجاب، هكذا قال جمهور أهل العلم، والمراد به ما تواتر به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر، قال ابن كثير: هذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة، والتابعين، وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام/١٢. وقال الإمام شمس الدين ابن القيم- رحمه الله- في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: الآيات والأحاديث، والآثار المنقولة عن الصحابة في دلالتها على العلو، والرؤية أعظم من أن تحصر، وليس مع نفاة الرؤية، والعلو مما يصلح أن يذكر، ثم ذكر مفاسد قولهم في نفي الرؤية إلى أن قال: فقد اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكر أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبال الشيطان متمسكون، ومن حبل الله منقطعون، ولكل عدو لله ولرسوله مسالمون، وكل هؤلاء عن ربهم محجوبون، وعن بابه مطرودون أولئك أحزاب الضلال، وشيعة اللعين، ثم أطال الكلام في ذكر دلائل الرؤية إلى أن قال: والدليل السابع: قوله عز وجل:﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾، فأنت إذا حفظت هذه الآية عن تحريفها عن موضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه فيما أراد منها وجدتها منادية هذا صريحا أن الله سبحانه يرى عيانا بالأبصار يوم القيامة، وإن أبيت إلا تحريفها الذي يسميه المحرفون تأويلا، فتأويل نصوص المعاد، والجنة والنار، والميزان والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كل نص تضمنه القرآن والسنة كذلك، ولا يشاء مبطل على وجه الأرض أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجد متأول مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا، وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديه بأداة إلى الصريحة في نظر العين وإخلاء الكلام من قرينة تدل على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدى بإلي خلاف حقيقته، وموضوعه، صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عدى بنفسه فمعناه التوقف والانتظار كقوله:﴿انظرونا نقتبس من نوركم﴾(الحديد: ١٣)، إن عدى بفي فمعناه التفكر والاعتبار كقوله:﴿أو لم ينظروا إلى في ملكوت السماوات والأرض﴾ (الأعراف: ١٨٥)، وإن عدى بإلي فمعناه المعاينة بالأبصار كقوله ﴿انظروا إلى ثمره إذا أثمر﴾(الأنعام: ٩٩)، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل النظر، وكيف وقد قال- صلى الله عليه وسلم:" وجوه يومئذ ناضرة قال: من البهاء، والحسن إلى ربها ناضرة، قال: في وجه الله- عز وجل " فاسمع أيها الإنسان تفسير النبي- صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الدالة على الرؤية متواترة رواها عنه أبو بكر الصديق، وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وجرير بن عبد الله، وصهيب، وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين، وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي، وزيد بن ثابت، وعمار بن ياسر وعائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوف، وأبي بن كعب، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وحديثه موقوف، فمن أراد الإطلاع عليها فليراجعها في مظانها انتهى. وأيضا قد بين رحمه الله هذه المسألة أتم بيان في خاتمة قصيدته النونية بأشعار لطيفة رشيقة بحيث تنشرح منها الصدور، وتلتزمها الأسماع، حيث قال:
و يرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران
هذا تواتر عن رسول الله لم ينكره إلا فاسد الإيمان
إلخ فمن يشاء فليطالعها/١٢..

٢ جواب عما قال الزمخشري: من أنه لا يجوز أن يكون النظر بمعناه؛ لأنه يلزم أن يكون النظر إلى غير وجه الله، ولا شك في بطلانه/١٢ منه..
﴿ ووجوه يومئذ باسرة ﴾ : شديد العبوس،
﴿ تظن ﴾ : تتوقع، ﴿ أن تفعل بها فاقرة ﴾ : داهية تكسر فقار الظهر، فهذا ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب لكون ذلك غاية النعمة، وهذا غاية النقمة، والظن في البلاء أشد، والتنوين في وجوه، ونظائره كقلوب يومئذ واجفة للتنويع، ويقوم مقام الوصف المخصص للمبتدأ، أو كان هذا أولى مما قيل : إن بعض المذكور كناظرة وصف مخصص، وبعضه كإلى ربها ناظرة خبر،
﴿ كلا ﴾، ردع عن إيثار الدنيا، ﴿ إذا بلغت ﴾ : النفس١، ﴿ التراقي ﴾ : أعالي الصدور،
١ دل عليه سياق الكلام /١٢ وجيز..
﴿ وقيل ﴾، القائل الملك، ﴿ من راق١ : من يرقى بروحه ملك الرحمة، أو ملك الرحمة، أو ملك العذاب، أو القائل الحاضرون من يرقيه مما به،
١ وعن ابن عباس- رضي الله عنهما- من يرقى بروحه لكراهة الملك بروح الكافر/١٢ وجيز..
﴿ وظن ﴾ : المحتضر، ﴿ أنه ﴾ : أن ما نزل به، ﴿ الفراق ﴾ : فراق الدنيا،
﴿ والتفت الساق بالساق ﴾، الساق مثل في الشدة أي : التفت شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة، وقيل : التوت الساق بالساق عند قلق الموت،
﴿ إلى ربك يومئذ المساق ﴾ : المرجع يسوق الملك الروح إلى السماوات كما في الحديث.
﴿ فلا صدق ﴾ أي : الإنسان المذكور في قوله :" أيحسب الإنسان " أو المراد أبو جهل ما يجب تصديقه، ﴿ ولا صلى ﴾
﴿ ولكن كذب ﴾ : الحق، ﴿ وتولى ﴾ : عن الطاعة،
﴿ ثم ذهب إلى أهله يتمطى ﴾ : يتبختر افتخارا، وسرورا،
﴿ أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ﴾، دعاء عليه من الولى، هو القرب أي : قاربه ما يهلكه فعل فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:﴿ أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ﴾، دعاء عليه من الولى، هو القرب أي : قاربه ما يهلكه فعل فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق،
﴿ أيحسب الإنسان أن يترك سدى ﴾ : مهلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يجازى،
﴿ ألم يك نطفة من منى يمنى١
١ يصب في الرحم/١٢..
﴿ ثم كان علقة فخلق ﴾ : فقدره الله، ﴿ فسوى ﴾ : عدله،
﴿ فجعل منه ﴾ : من الإنسان ﴿ الزوجين ﴾ : الصنفين، ﴿ الذكر والأنثى ﴾
﴿ أليس ذلك ﴾ : الذي أنشأ هذا الإنشاء، ﴿ بقادر على أن يحيي الموتى ﴾، والسنة أن يقول بعده سبحانك فبلى، أو بلى بغير فاء.
والحمد لله وحده.
Icon