تفسير سورة الإنشقاق

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
أَيْ اِنْصَدَعَتْ، وَتَفَطَّرَتْ بِالْغَمَامِ، وَالْغَمَام مِثْل السَّحَاب الْأَبْيَض.
وَكَذَا رَوَى أَبُو صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ : تُشَقُّ مِنْ الْمَجَرَّة.
وَقَالَ : الْمَجَرَّة بَاب السَّمَاء.
وَهَذَا مِنْ أَشْرَاط السَّاعَة وَعَلَامَاتهَا.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
أَيْ سَمِعْت، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَع.
رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَغَيْرهمَا ; وَمِنْهُ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" مَا أَذِنَ اللَّه لِشَيْءٍ كَإِذْنِهِ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ " أَيْ مَا اِسْتَمَعَ اللَّه لِشَيْءٍ قَالَ الشَّاعِر :
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْت بِهِ وَإِنْ ذُكِرْت بِسُوءٍ عِنْدهمْ أَذِنُوا
أَيْ سَمِعُوا.
وَقَالَ قُعْنُب اِبْن أُمّ صَاحِب :
إِنْ يَأْذَنُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا وَمَا هُمْ أَذِنُوا مِنْ صَالِح دَفَنُوا
وَقِيلَ : الْمَعْنَى وَحَقَّقَ اللَّه عَلَيْهَا الِاسْتِمَاع لِأَمْرِهِ بِالِانْشِقَاقِ.
وَقَالَ الضَّحَّاك : حُقَّتْ : أَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيع رَبّهَا، لِأَنَّهُ خَلَقَهَا ; يُقَال : فُلَان مَحْقُوق بِكَذَا.
وَطَاعَة السَّمَاء : بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَمْتَنِع مِمَّا أَرَادَ اللَّه بِهَا، وَلَا يَبْعُد خَلْق الْحَيَاة فِيهَا حَتَّى تُطِيع وَتُجِيب.
وَقَالَ قَتَادَة : حُقَّ لَهَا أَنْ تَفْعَل ذَلِكَ ; وَمِنْهُ قَوْل كُثَيِّر :
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ
أَيْ بُسِطَتْ وَدُكَّتْ جِبَالهَا.
قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( تُمَدُّ مَدَّ الْأَدِيم ) لِأَنَّ الْأَدِيم إِذَا مُدَّ زَالَ كُلُّ اِنْثِنَاء فِيهِ وَامْتَدَّ وَاسْتَوَى.
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود : وَيُزَاد وَسِعَتهَا كَذَا وَكَذَا ; لِوُقُوفِ الْخَلَائِق عَلَيْهَا لِلْحِسَابِ حَتَّى لَا يَكُون لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَر إِلَّا مَوْضِع قَدَمه، لِكَثْرَةِ الْخَلَائِق فِيهَا.
وَقَدْ مَضَى فِي سُورَة " إِبْرَاهِيم " أَنَّ الْأَرْض تُبَدَّل بِأَرْضٍ أُخْرَى وَهِيَ السَّاهِرَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَنْهُ
وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ
أَيْ أَخْرَجَتْ أَمْوَاتهَا، وَتَخَلَّتْ عَنْهُمْ.
وَقَالَ اِبْن جُبَيْر : أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنهَا مِنْ الْمَوْتَى، وَتَخَلَّتْ مِمَّنْ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ الْأَحْيَاء.
وَقِيلَ : أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنهَا كُنُوزهَا وَمَعَادِنهَا، وَتَخَلَّتْ مِنْهَا.
أَيْ خَلَّا جَوْفهَا، فَلَيْسَ فِي بَطْنهَا شَيْء، وَذَلِكَ يُؤْذِن بِعَظَمِ الْأَمْر، كَمَا تُلْقِي الْحَامِل مَا فِي بَطْنهَا عِنْد الشِّدَّة.
وَقِيلَ : تَخَلَّتْ مِمَّا عَلَى ظَهْرهَا مِنْ جِبَالهَا وَبِحَارهَا.
وَقِيلَ : أَلْقَتْ مَا اُسْتُوْدِعَتْ، وَتَخَلَّتْ مِمَّا اُسْتُحْفِظَتْ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى اِسْتَوْدَعَهَا عِبَاده أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا، وَاسْتَحْفَظَهَا بِلَاده مُزَارَعَة وَأَقْوَاتًا.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا
أَيْ فِي إِلْقَاء مَوْتَاهَا
وَحُقَّتْ
أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَع أَمْرَهُ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَاب " إِذَا " فَقَالَ الْفَرَّاء :" أَذِنَتْ ".
وَالْوَاو زَائِدَة، وَكَذَلِكَ " وَأَلْقَتْ ".
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : جَوَاب " إِذَا السَّمَاء انْشَقَّتْ " " أَذِنَتْ "، وَزَعَمَ أَنَّ الْوَاو مُقْحَمَة وَهَذَا غَلَط ; لِأَنَّ الْعَرَب لَا تُقْحِم الْوَاو إِلَّا مَعَ " حَتَّى - إِذَا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابهَا " [ الزُّمَر : ٧١ ] وَمَعَ " لَمَّا " كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ.
وَنَادَيْنَاهُ " [ الصَّافَّات :
١٠٣ - ١٠٤ ] مَعْنَاهُ " نَادَيْنَاهُ " وَالْوَاو لَا تُقْحَم مَعَ غَيْر هَذَيْنِ.
وَقِيلَ : الْجَوَاب فَاء مُضْمَرَة كَأَنَّهُ قَالَ :" إِذَا السَّمَاء انْشَقَّتْ " فَيَا أَيُّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح.
وَقِيلَ : جَوَابهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ " فَمُلَاقِيه " أَيْ إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ لَاقَى الْإِنْسَان كَدْحه.
وَقِيلَ : فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، أَيْ " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبّك كَدْحًا فَمُلَاقِيه " " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ ".
قَالَهُ الْمُبَرِّد.
وَعَنْهُ أَيْضًا : الْجَوَاب " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ " وَهُوَ قَوْل الْكِسَائِيّ ; أَيْ إِذَا السَّمَاء انْشَقَّتْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَحُكْمه كَذَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَهَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَأَحْسَنه.
قِيلَ : هُوَ بِمَعْنَى اذْكُرْ " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ ".
وَقِيلَ : الْجَوَاب مَحْذُوف لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ ; أَيْ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاء عَلِمَ الْمُكَذِّبُونَ بِالْبَعْثِ ضَلَالَتهمْ وَخُسْرَانهمْ.
وَقِيلَ : تَقَدَّمَ مِنْهُمْ سُؤَال عَنْ وَقْت الْقِيَامَة، فَقِيلَ لَهُمْ : إِذَا ظَهَرَتْ أَشْرَاطهَا كَانَتْ الْقِيَامَة، فَرَأَيْتُمْ عَاقِبَة تَكْذِيبكُمْ بِهَا.
وَالْقُرْآن كَالْآيَةِ الْوَاحِدَة فِي دَلَالَة الْبَعْض عَلَى الْبَعْض.
وَعَنْ الْحَسَن : إِنَّ قَوْله " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ " قَسَم.
وَالْجُمْهُور عَلَى خِلَاف قَوْله مِنْ أَنَّهُ خَبَر وَلَيْسَ بِقَسَمٍ.
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ
الْمُرَاد بِالْإِنْسَانِ الْجِنْس أَيْ يَا اِبْن آدَم.
وَكَذَا رَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة : يَا اِبْن آدَم، إِنَّ كَدْحك لَضَعِيف، فَمَنْ اِسْتَطَاعَ أَنْ يَكُون كَدْحه فِي طَاعَة اللَّه فَلْيَفْعَلْ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاَللَّهِ.
وَقِيلَ : هُوَ مُعَيَّن، قَالَ مُقَاتِل : يَعْنِي الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد وَيُقَال : يَعْنِي أُبَيّ بْن خَلَف.
وَيُقَال : يَعْنِي جَمِيع الْكُفَّار، أَيّهَا الْكَافِر إِنَّك كَادِح.
وَالْكَدْح فِي كَلَام الْعَرَب : الْعَمَل وَالْكَسْب ; قَالَ اِبْن مُقْبِل :
فَإِنْ تَكُنْ الْعُتْبَى فَأَهْلًا وَمَرْحَبًا وَحُقَّتْ لَهَا الْعُتْبَى لَدَيْنَا وَقَلَّتْ
وَمَا الدَّهْر إِلَّا تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أَمُوت وَأُخْرَى أَبْتَغِي الْعَيْش أَكْدَح
وَقَالَ آخَر :
وَمَضَتْ بَشَاشَة كُلّ عَيْش صَالِح وَبَقِيت أَكْدَح لِلْحَيَاةِ وَأَنْصِبُ
أَيْ أَعْمَل.
وَرَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس :" إِنَّك كَادِح " أَيْ رَاجِع " إِلَى رَبّك كَدْحًا أَيْ رُجُوعًا لَا مَحَالَة
كَدْحًا
أَيْ مُلَاقٍ رَبّك.
وَقِيلَ : مُلَاقٍ عَمَلك.
الْقُتَبِيّ " إِنَّك كَادِح " أَيْ عَامِل نَاصِب فِي مَعِيشَتك إِلَى لِقَاء رَبّك.
وَالْمُلَاقَاة بِمَعْنَى اللِّقَاء أَنْ تَلْقَى رَبّك بِعَمَلِك.
وَقِيلَ أَيْ تُلَاقِي كِتَاب عَمَلك ; لِأَنَّ الْعَمَل قَدْ اِنْقَضَى وَلِهَذَا قَالَ :
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
قَوْله تَعَالَى :" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ " وَهُوَ الْمُؤْمِن
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا
لَا مُنَاقَشَة فِيهِ.
كَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ حُوسِبَ يَوْم الْقِيَامَة عُذِّبَ ) قَالَتْ : فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّه " فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا " فَقَالَ :" لَيْسَ ذَاكَ الْحِسَاب ; إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْض، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَاب يَوْم الْقِيَامَة عُذِّبَ ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا
أَزْوَاجه فِي الْجَنَّة مِنْ الْحُور الْعِين " مَسْرُورًا " أَيْ مُغْتَبِطًا قَرِير الْعَيْن.
وَيُقَال إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي سَلَمَة بْن عَبْد الْأَسَد، هُوَ أَوَّل مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة.
وَقِيلَ : إِلَى أَهْله الَّذِينَ كَانُوا لَهُ فِي الدُّنْيَا، لِيُخْبِرَهُمْ بِخَلَاصِهِ وَسَلَامَته.
وَالْأَوَّل قَوْل قَتَادَة.
أَيْ إِلَى أَهْله الَّذِينَ قَدْ أَعَدَّهُمْ اللَّه لَهُ فِي الْجَنَّة.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ
نَزَلَتْ فِي الْأَسْوَد بْن عَبْد الْأَسَد أَخِي أَبِي سَلَمَة قَالَ اِبْن عَبَّاس.
ثُمَّ هِيَ عَامَّة فِي كُلّ مُؤْمِن وَكَافِر.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يَمُدُّ يَدَهُ الْيُمْنَى لِيَأْخُذ كِتَابه فَيَجْذِبهُ مَلَك، فَيَخْلَع يَمِينه، فَيَأْخُذ كِتَابه بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاء ظَهْره.
وَقَالَ قَتَادَة وَمُقَاتِل : يُفَكّ أَلْوَاح صَدْره وَعِظَامه ثُمَّ تُدْخَل يَده وَتُخْرَج مِنْ ظَهْره، فَيَأْخُذ كِتَابه كَذَلِكَ.
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا
أَيْ بِالْهَلَاكِ فَيَقُول : يَا وَيْلَاه، يَا ثُبُورَاه.
وَيَصْلَى سَعِيرًا
أَيْ وَيَدْخُل النَّار حَتَّى يَصْلَى بَحَرِّهَا.
وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّان وَابْن عَامِر وَالْكِسَائِيّ " وَيُصَلَّى " بِضَمِّ الْيَاء وَفَتْح الصَّاد، وَتَشْدِيد اللَّام، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" ثُمَّ الْجَحِيم صَلُّوهُ " [ الْحَاقَّة : ٣١ ] وَقَوْله :" وَتَصْلِيَة جَحِيم " [ الْوَاقِعَة : ٩٤ ].
الْبَاقُونَ " وَيَصْلَى " بِفَتْحِ الْيَاء مُخَفَّفًا، فِعْل لَازِم غَيْر مُتَعَدٍّ ; لِقَوْلِهِ :" إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيم " [ الصَّافَّات : ١٦٣ ] وَقَوْله :" يَصْلَى النَّار الْكُبْرَى " [ الْأَعْلَى : ١٢ ] وَقَوْله " ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيم " [ الْمُطَفِّفِينَ : ١٦ ].
وَقِرَاءَة ثَالِثَة رَوَاهَا أَبَان عَنْ عَاصِم وَخَارِجَة عَنْ نَافِع وَإِسْمَاعِيل الْمَكِّيّ عَنْ اِبْن كَثِير " وَيُصْلَى " بِضَمِّ الْيَاء وَإِسْكَان الصَّاد وَفَتْح اللَّام مُخَفَّفًا ; كَمَا قُرِئَ " وَسَيُصْلَوْنَ " بِضَمِّ الْيَاء، وَكَذَلِكَ فِي " الْغَاشِيَة " قَدْ قُرِئَ أَيْضًا :" تُصْلَى نَارًا " وَهُمَا لُغَتَانِ صَلَى وَأَصْلَى ; كَقَوْلِهِ :" نَزَلَ.
وَأَنْزَلَ ".
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ
أَيْ فِي الدُّنْيَا
مَسْرُورًا
قَالَ اِبْن زَيْد : وَصَفَ اللَّه أَهْل الْجَنَّة بِالْمَخَافَةِ وَالْحُزْن وَالْبُكَاء وَالشَّفَقَة فِي الدُّنْيَا فَأَعْقَبَهُمْ بِهِ النَّعِيم وَالسُّرُور فِي الْآخِرَة، وَقَرَأَ قَوْل اللَّه تَعَالَى :" إِنَّا كُنَّا قَبْل فِي أَهْلنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّه عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَاب السَّمُوم ".
قَالَ : وَوَصَفَ أَهْل النَّار بِالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا وَالضَّحِك فِيهَا وَالتَّفَكُّه.
فَقَالَ :" إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْله مَسْرُورًا "
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
أَيْ لَنْ يَرْجِع حَيًّا مَبْعُوثًا فَيُحَاسَب، ثُمَّ يُثَاب أَوْ يُعَاقَب.
يُقَال : حَارَ يَحُور إِذَا رَجَعَ ; قَالَ لَبِيد :
وَمَا الْمَرْء إِلَّا كَالشِّهَابِ وُضُوئِهِ يَحُور رَمَادًا بَعْد إِذْ هُوَ سَاطِع
وَقَالَ عِكْرِمَة وَدَاوُد بْن أَبِي هِنْد، يَحُور كَلِمَة بِالْحَبَشِيَّةِ، وَمَعْنَاهَا يَرْجِع.
وَيَجُوز أَنْ تَتَّفِقَ الْكَلِمَتَانِ فَإِنَّهُمَا كَلِمَة اِشْتِقَاق ; وَمِنْهُ الْخُبْز الْحُوَارَى ; لِأَنَّهُ يَرْجِع إِلَى الْبَيَاض.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : مَا كُنْت أَدْرِي : مَا يَحُور ؟ حَتَّى سَمِعْت أَعْرَابِيَّة تَدْعُو بُنَيَّة لَهَا : حُورِي، أَيْ اِرْجِعِي إِلَيَّ، فَالْحَوْر فِي كَلَام الْعَرَب الرُّجُوع ; وَمِنْهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذ بِك مِنْ الْحَوْر بَعْد الْكَوْر " يَعْنِي : مِنْ الرُّجُوع إِلَى النُّقْصَان بَعْد الزِّيَادَة، وَكَذَلِكَ الْحُوْر بِالضَّمِّ.
وَفِي الْمِثْل " حُوْر فِي مَحَارَة " أَيْ نُقْصَان فِي نُقْصَان.
يُضْرَب لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ أَمْره يُدْبِر، قَالَ الشَّاعِر :
وَاسْتَعْجَلُوا عَنْ خَفِيف الْمَضْغ فَازْدَرَدُوا وَالذَّمّ يَبْقَى وَزَاد الْقَوْم فِي حُوْر
وَالْحُور أَيْضًا : الِاسْم مِنْ قَوْلك : طَحَنَتْ الطَّاحِنَة فَمَا أَحَارَتْ شَيْئًا ; أَيْ مَا رَدَّتْ شَيْئًا مِنْ الدَّقِيق.
وَالْحُوْر أَيْضًا الْهَلَكَة ; قَالَ الرَّاجِز :
فِي بِئْر لَا حُوْر سَرَى وَلَا شَعَر
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : أَيْ بِئْر حُوْر، وَ " لَا " زَائِدَة.
وَرُوِيَ " بَعْد الْكَوْن " وَمَعْنَاهُ مِنْ اِنْتِشَار الْأَمْر بَعْد تَمَامه.
وَسُئِلَ مَعْمَر عَنْ الْحَوْر بَعْد الْكَوْن، فَقَالَ : هُوَ الْكُنْتِيّ.
فَقَالَ لَهُ عَبْد الرَّزَّاق : وَمَا الْكُنْتِيّ ؟ فَقَالَ : الرَّجُل يَكُون صَالِحًا ثُمَّ يَتَحَوَّل رَجُل سُوء.
قَالَ أَبُو عَمْرو : يُقَال لِلرَّجُلِ إِذَا شَاخَ : كُنْتِيّ، كَأَنَّهُ نُسِبَ إِلَى قَوْله : كُنْت فِي شَبَابِي كَذَا.
قَالَ :
فَأَصْبَحْت كُنْتِيًّا وَأَصْبَحْت عَاجِنًا وَشَرُّ خِصَال الْمَرْء كُنْت وَعَاجِن
عَجَنَ الرَّجُل : إِذَا نَهَضَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْأَرْض مِنْ الْكِبَر.
وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ : الْكُنْتِيّ : هُوَ الَّذِي يَقُول : كُنْت شَابًّا، وَكُنْت شُجَاعًا، وَالْكَانِيّ هُوَ الَّذِي يَقُول : كَانَ لِي مَال وَكُنْت أَهَب، وَكَانَ لِي خَيْل وَكُنْت أَرْكَب.
بَلَى
أَيْ لَيْسَ الْأَمْر كَمَا ظَنَّ، بَلْ يَحُور إِلَيْنَا وَيَرْجِع.
إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا
قَبْل أَنْ يَخْلُقهُ، عَالِمًا بِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَيْهِ.
وَقِيلَ : بَلَى لَيَحُورَن وَلَيَرْجِعَن.
ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ :" إِنَّ رَبّه كَانَ بِهِ بَصِيرًا " مِنْ يَوْم خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعَثَهُ.
وَقِيلَ : عَالِمًا بِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ الشَّقَاء وَالسَّعَادَة.
فَلَا أُقْسِمُ
أَيْ فَأَقْسِم وَ " لَا " صِلَة.
بِالشَّفَقِ
أَيْ بِالْحُمْرَةِ الَّتِي تَكُون عِنْد مَغِيب الشَّمْس حَتَّى تَأْتِي صَلَاة الْعِشَاء الْآخِرَة.
قَالَ أَشْهَب وَعَبْد اللَّه بْن الْحَكَم وَيَحْيَى بْن يَحْيَى وَغَيْرهمْ، كَثِير عَدَدهمْ عَنْ مَالِك : الشَّفَق الْحُمْرَة الَّتِي فِي الْمَغْرِب، فَإِذَا ذَهَبَتْ الْحُمْرَة فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ وَقْت الْمَغْرِب وَوَجَبَتْ صَلَاة الْعِشَاء.
وَرَوَى بْن وَهْب قَالَ : أَخْبَرَنِي غَيْر وَاحِد عَنْ عَلِيّ اِبْن أَبِي طَالِب وَمُعَاذ بْن جَبَل وَعُبَادَة بْن الصَّامِت وَشَدَّاد بْن أَوْس وَأَبِي هُرَيْرَة : أَنَّ الشَّفَق الْحُمْرَة، وَبِهِ قَالَ مَالِك بْن أَنَس.
وَذَكَر غَيْر اِبْن وَهْب مِنْ الصَّحَابَة : عُمَر وَابْن عُمَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَنَسًا وَأَبَا قَتَادَة وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَابْن الزُّبَيْر، وَمِنْ التَّابِعِينَ : سَعِيد بْن جُبَيْر، وَابْن الْمُسَيِّب وَطَاوُس، وَعَبْد اللَّه بْن دِينَار، وَالزُّهْرِيّ، وَقَالَ بِهِ مِنْ الْفُقَهَاء الْأَوْزَاعِيّ وَمَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عُبَيْدَة وَأَحْمَد وَإِسْحَاق وَقِيلَ : هُوَ الْبَيَاض ; رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي هُرَيْرَة أَيْضًا وَعُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبِي حَنِيفَة فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ.
وَرَوَى أَسَد بْن عَمْرو أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عُمَر أَيْضًا أَنَّهُ الْبَيَاض وَالِاخْتِيَار الْأَوَّل ; لِأَنَّ أَكْثَر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ شَوَاهِد كَلَام الْعَرَب وَالِاشْتِقَاق وَالسُّنَّة تَشْهَد لَهُ.
قَالَ الْفَرَّاء : سَمِعْت بَعْض الْعَرَب يَقُول لِثَوْبٍ عَلَيْهِ مَصْبُوغ : كَأَنَّهُ الشَّفَق وَكَانَ أَحْمَر، فَهَذَا شَاهِد لِلْحُمْرَةِ ; وَقَالَ الشَّاعِر :
وَأَحْمَر اللَّوْن كَمُحْمَرِّ الشَّفَق
وَقَالَ آخَر :
قُمْ يَا غُلَام أَعْنِي غَيْر مُرْتَبِك عَلَى الزَّمَان بِكَأْسٍ حَشْوُهَا شَفَق
وَيُقَال لِلْمَغْرَةِ الشَّفَق.
وَفِي الصِّحَاح : الشَّفَق بَقِيَّة ضَوْء الشَّمْس وَحُمْرَتهَا فِي أَوَّل اللَّيْل إِلَى قَرِيب مِنْ الْعَتَمَة.
قَالَ الْخَلِيل : الشَّفَق : الْحُمْرَة، مِنْ غُرُوب الشَّمْس إِلَى وَقْت الْعِشَاء الْآخِرَة، إِذَا ذَهَبَ قِيلَ : غَابَ الشَّفَق.
ثُمَّ قِيلَ : أَصْل الْكَلِمَة مِنْ رِقَّة الشَّيْء ; يُقَال : شَيْء شَفَق أَيْ لَا تَمَاسُك لَهُ لِرِقَّتِهِ.
وَأَشْفَقَ عَلَيْهِ.
أَيْ رَقَّ قَلْبه عَلَيْهِ، وَالشَّفَقَة : الِاسْم مِنْ الْإِشْفَاق، وَهُوَ رِقَّة الْقَلْب، وَكَذَلِكَ الشَّفَق ; قَالَ الشَّاعِر :
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتهَا شَفَقًا وَالْمَوْت أَكْرَم نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
فَالشَّفَق : بَقِيَّة ضَوْء الشَّمْس وَحُمْرَتهَا فَكَأَنَّ تِلْكَ الرِّقَّة عَنْ ضَوْء الشَّمْس.
وَزَعَمَ الْحُكَمَاء أَنَّ الْبَيَاض لَا يَغِيب أَصْلًا.
وَقَالَ الْخَلِيل : صَعِدْت مَنَارَة الْإِسْكَنْدَرِيَّة فَرَمَقْت الْبَيَاض، فَرَأَيْته يَتَرَدَّد مِنْ أُفُق إِلَى أُفُق وَلَمْ أَرَهُ يَغِيب.
وَقَالَ اِبْن أَبِي أُوَيْس : رَأَيْته يَتَمَادَى إِلَى طُلُوع الْفَجْر قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَلَمَّا لَمْ يَتَحَدَّد وَقْته سَقَطَ اِعْتِبَاره.
وَفِي سُنَن أَبِي دَاوُد عَنْ النُّعْمَان بْن بَشِير قَالَ : أَنَا أَعْلَمكُمْ بِوَقْتِ صَلَاة الْعِشَاء الْآخِرَة ; كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهَا لِسُقُوطِ الْقَمَر الثَّالِثَة.
وَهَذَا تَحْدِيد، ثُمَّ الْحُكْم مُعَلَّق بِأَوَّلِ الْاسْم.
لَا يُقَال : فَيُنْقَض عَلَيْكُمْ بِالْفَجْرِ الْأَوَّل، فَإِنَّا نَقُول الْفَجْر الْأَوَّل لَا يَتَعَلَّق بِهِ حُكْم مِنْ صَلَاة وَلَا إِمْسَاك ; لِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْفَجْر بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ فَقَالَ :" وَلَيْسَ الْفَجْر أَنْ تَقُول هَكَذَا - فَرَفَعَ يَده إِلَى فَوْق - وَلَكِنَّ الْفَجْر أَنْ تَقُول هَكَذَا وَبَسَطَهَا " وَقَدْ مَضَى بَيَانه فِي آيَة الصِّيَام مِنْ سُورَة " الْبَقَرَة "، فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِد : الشَّفَق : النَّهَار كُلّه أَلَا تَرَاهُ قَالَ " وَاللَّيْل وَمَا وَسَقَ " وَقَالَ عِكْرِمَة : مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَار.
وَالشَّفَق أَيْضًا : الرَّدِيء مِنْ الْأَشْيَاء ; يُقَال : عَطَاء مُشَفَّق أَيْ مُقَلَّل قَالَ الْكُمَيْت :
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ
أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ وَلَفَّ، وَأَصْله مِنْ سَوْرَة السُّلْطَان وَغَضَبه فَلَوْلَا أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْعِبَاد مِنْ بَاب الرَّحْمَة مَا تَمَالَكَ الْعِبَاد لِمَجِيئِهِ وَلَكِنْ خَرَجَ مِنْ بَاب الرَّحْمَة فَمَزَحَ بِهَا، فَسَكَنَ الْخَلْق إِلَيْهِ ثُمَّ ابْذَعَرُّوا وَالْتَفُّوا وَانْقَبَضُوا، وَرَجَعَ كُلٌّ إِلَى مَأْوَاهُ فَسَكَنَ فِيهِ مِنْ هَوْله وَحِشًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" وَمِنْ رَحْمَته جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْل وَالنَّهَار لِتَسْكُنُوا فِيهِ " [ الْقَصَص : ٧٣ ] أَيْ بِاللَّيْلِ " وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْله " [ الْقَصَص : ٧٣ ] أَيْ بِالنَّهَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
فَاللَّيْل يَجْمَع وَيَضُمّ مَا كَانَ مُنْتَشِرًا بِالنَّهَارِ فِي تَصَرُّفِهِ.
هَذَا مَعْنَى قَوْل اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَمُقَاتِل وَغَيْرهمْ ; قَالَ ضَابِئ بْن الْحَارِث الْبَرْجُمِيّ :
مَلِك أَغَرّ مِنْ الْمُلُوك تَحَلَّبَتْ لِلسَّائِلِينَ يَدَاهُ غَيْر مُشَفِّق
فَإِنِّي وَإِيَّاكُمْ وَشَوْقًا إِلَيْكُمْ كَقَابِضِ مَاء لَمْ تَسْقِهِ أَنَامِله
يَقُول : لَيْسَ فِي يَده مِنْ ذَلِكَ شَيْء كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَد الْقَابِض عَلَى الْمَاء شَيْء ; فَإِذَا جَلَّلَ اللَّيْل الْجِبَال وَالْأَشْجَار وَالْبِحَار وَالْأَرْض فَاجْتَمَعَتْ لَهُ، فَقَدْ وَسَقَهَا.
وَالْوَسْق : ضَمُّك الشَّيْء بَعْضه إِلَى بَعْض، تَقُول : وَسَقْته أَسِقهُ وَسْقًا.
وَمِنْهُ قِيلَ لِلطَّعَامِ الْكَثِير الْمُجْتَمِع : وَسْق، وَهُوَ سِتُّونَ صَاعًا.
وَطَعَام مُوسَق : أَيْ مَجْمُوع، وَإِبِل مُسْتَوْسِقَة أَيْ مُجْتَمِعَة ; قَالَ الرَّاجِز :
إِنَّ لَنَا قَلَائِصًا حَقَائِقَا مُسْتَوْسِقَات لَوْ يَجِدْنَ سَائِقَا
وَقَالَ عِكْرِمَة :" وَمَا وَسَقَ " أَيْ وَمَا سَاقَ مِنْ شَيْء إِلَى حَيْثُ يَأْوِي، فَالْوَسْق بِمَعْنَى الطَّرْد، وَمِنْهُ قِيلَ لِلطَّرِيدَةِ مِنْ الْإِبِل وَالْغَنَم وَالْحُمْر : وَسِيقَة، قَالَ الشَّاعِر :
كَمَا قَافَ آثَار الْوَسِيقَة قَائِف
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس :" وَمَا وَسَقَ " أَيْ وَمَا جَنَّ وَسَتَرَ.
وَعَنْهُ أَيْضًا : وَمَا حَمَلَ، وَكُلّ شَيْء حَمَلْته فَقَدْ وَسَقْته، وَالْعَرَب تَقُول : لَا أَفْعَلهُ مَا وَسَقَتْ عَيْنَيَّ الْمَاء، أَيْ حَمَلَتْهُ.
وَوَسَقَتْ النَّاقَة تَسِق وَسْقًا : أَيْ حَمَلَتْ وَأَغْلَقَتْ رَحِمهَا عَلَى الْمَاء، فَهِيَ نَاقَة وَاسِق، وَنُوق وِسَاق مِثْل نَائِم وَنِيَام، وَصَاحِب وَصِحَاب، قَالَ بِشْر بْن أَبِي خَازِم :
أَلَظَّ بِهِنَّ يَحْدُوهُنَّ حَتَّى تَبَيَّنَتْ الْحِيَال مِنْ الْوِسَاق
وَمَوَاسِيق أَيْضًا.
وَأَوْسَقْت الْبَعِير : حَمَّلْته حِمْله، وَأَوْسَقَتْ النَّخْلَة : كَثُرَ حَمْلهَا.
وَقَالَ يَمَان وَالضَّحَّاك وَمُقَاتِل بْن سُلَيْمَان : حَمَلَ مِنْ الظُّلْمَة.
قَالَ مُقَاتِل : أَوْ حَمَلَ مِنْ الْكَوَاكِب.
الْقُشَيْرِيّ : وَمَعْنَى حَمَلَ : ضَمَّ وَجَمَعَ، وَاللَّيْل يُجَلِّل بِظُلْمَتِهِ كُلّ شَيْء فَإِذَا جَلَّلَهَا فَقَدْ وَسَقَهَا.
وَيَكُون هَذَا الْقَسَم قَسَمًا بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَات، لِاشْتِمَالِ اللَّيْل عَلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَلَا أُقْسِم بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ " [ الْحَاقَّة :
٣٨ - ٣٩ ].
وَقَالَ اِبْن جُبَيْر :" وَمَا وَسَقَ " أَيْ وَمَا عُمِلَ فِيهِ، يَعْنِي التَّهَجُّد وَالِاسْتِغْفَار بِالْأَسْحَارِ، قَالَ الشَّاعِر :
وَيَوْمًا تَرَانَا صَالِحِينَ وَتَارَة تَقُوم بِنَا كَالْوَاسِقِ الْمُتَلَبِّب
أَيْ كَالْعَامِلِ.
وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
أَيْ تَمَّ وَاجْتَمَعَ وَاسْتَوَى.
قَالَ الْحَسَن : اتَّسَقَ : أَيْ امْتَلَأَ وَاجْتَمَعَ.
اِبْن عَبَّاس : اِسْتَوَى.
قَتَادَة : اِسْتَدَارَ.
الْفَرَّاء : اِتِّسَاقه : اِمْتِلَاؤُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ لَيَالِي الْبَدْر، وَهُوَ اِفْتِعَال مِنْ الْوَسْق الَّذِي هُوَ الْجَمْع، يُقَال : وَسَقْته فَاتَّسَقَ، كَمَا يُقَال : وَصَلْته فَاتَّصَلَ، وَيُقَال : أَمْر فُلَان مُتَّسِق : أَيْ مُجْتَمِع عَلَى الصَّلَاح مُنْتَظِم.
وَيُقَال : اِتَّسَقَ الشَّيْء : إِذَا تَتَابَعَ :
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
قَرَأَ أَبُو عُمَر وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأَبُو الْعَالِيَة وَمَسْرُوق وَأَبُو وَائِل وَمُجَاهِد وَالنَّخَعِيّ وَابْن كَثِير وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " لَتَرْكَبَنَّ " بِفَتْحِ الْبَاء خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَتَرْكَبَن يَا مُحَمَّد حَالًا بَعْد حَال، قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
الشَّعْبِيّ : لَتَرْكَبَنَّ يَا مُحَمَّد سَمَاء بَعْد سَمَاء، وَدَرَجَة بَعْد دَرَجَة، وَرُتْبَة بَعْد رُتْبَة، فِي الْقُرْبَة مِنْ اللَّه تَعَالَى.
اِبْن مَسْعُود : لَتَرْكَبَنَّ السَّمَاء حَالًا بَعْد حَال، يَعْنِي حَالَاتهَا الَّتِي وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِهَا مِنْ الِانْشِقَاق وَالطَّيِّ وَكَوْنهَا مَرَّة كَالْمُهْلِ وَمَرَّة كَالدِّهَانِ.
وَعَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ عَبْد الْأَعْلَى :" طَبَقًا عَنْ طَبَق " قَالَ : السَّمَاء تُقَلَّب حَالًا بَعْد حَال.
قَالَ : تَكُون وَرْدَة كَالدِّهَانِ، وَتَكُون كَالْمُهْلِ ; وَقِيلَ : أَيْ لَتَرْكَبَنَّ أَيّهَا الْإِنْسَان حَالًا بَعْد حَال، مِنْ كَوْنِك نُطْفَة ثُمَّ عَلَقَة ثُمَّ مُضْغَة ثُمَّ حَيًّا وَمَيِّتًا وَغَنِيًّا وَفَقِيرًا.
فَالْخِطَاب لِلْإِنْسَانِ الْمَذْكُور فِي قَوْله :" يَا أَيُّهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح " هُوَ اِسْم لِلْجِنْسِ، وَمَعْنَاهُ النَّاس.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ " لَتَرْكَبُنَّ " بِضَمِّ الْبَاء، خِطَابًا لِلنَّاسِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْد وَأَبُو حَاتِم، قَالَ : لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَه مِنْهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِمَا ذُكِرَ قَبْل هَذِهِ الْآيَة فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِشِمَالِهِ.
أَيْ لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْد حَال مِنْ شَدَائِد الْقِيَامَة، أَوْ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّة مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فِي التَّكْذِيب وَاخْتِلَاق عَلَى الْأَنْبِيَاء.
قُلْت : وَكُلّه مُرَاد، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيث، فَرَوَى أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ عَنْ جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ عَنْ جَابِر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ سَمِعْت رَسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ اِبْن آدَم لَفِي غَفْلَة عَمَّا خَلَقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ; إِنَّ اللَّه لَا إِلَه غَيْره إِذَا أَرَادَ خَلْقه قَالَ لِلْمَلَكِ اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَثَره وَأَجَله، وَاكْتُبْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا، ثُمَّ يَرْتَفِع ذَلِكَ الْمَلَك، وَيَبْعَث اللَّه مَلَكًا آخَر فَيُحَفِّظهُ حَتَّى يُدْرِك، ثُمَّ يَبْعَث اللَّه مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ حَسَنَاته وَسَيِّئَاته، فَإِذَا جَاءَهُ الْمَوْت اِرْتَفَعَ ذَانِك الْمَلَكَانِ، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَك الْمَوْت عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقْبِض رُوحه، فَإِذَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ رُدَّ الرُّوح فِي جَسَده، ثُمَّ يَرْتَفِع مَلَك الْمَوْت، ثُمَّ جَاءَهُ مَلَكَا الْقَبْر فَامْتَحَنَاهُ، ثُمَّ يَرْتَفِعَانِ، فَإِذَا قَامَتْ السَّاعَة اِنْحَطَّ عَلَيْهِ مَلَك الْحَسَنَات وَمَلَك السَّيِّئَات، فَأَنْشَطَا كِتَابًا مَعْقُودًا فِي عُنُقه، ثُمَّ حَضَرَا مَعَهُ، وَاحِد سَائِق وَالْآخَر شَهِيد ) ثُمَّ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " لَقَدْ كُنْت فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك، فَبَصَرُك الْيَوْم حَدِيدٌ " [ ق : ٢٢ ].
قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَق " قَالَ :( حَالًا بَعْد حَال ) ثُمَّ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ قُدَّامَكُمْ أَمْرًا عَظِيمًا فَاسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ الْعَظِيم ) فَقَدْ اِشْتَمَلَ هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَحْوَال تَعْتَرِي الْإِنْسَان، مِنْ حِين يُخْلَق إِلَى حِين يُبْعَث، وَكُلّه شِدَّة بَعْد شِدَّة، حَيَاة ثُمَّ مَوْت، ثُمَّ بَعْث ثُمَّ جَزَاء، وَفِي كُلّ حَال مِنْ هَذِهِ شَدَائِد.
وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَتَرْكَبُنَّ سُنَن مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْر ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ) قَالُوا : يَا رَسُول اللَّه، الْيَهُود وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ : وَأَمَّا أَقْوَال الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ عِكْرِمَة : حَالًا بَعْد حَال، فَطِيمًا بَعْد رَضِيع، وَشَيْخًا بَعْد شَبَاب، قَالَ الشَّاعِر :
كَذَلِكَ الْمَرْء إِنْ يُنْسَأْ لَهُ أَجَل يَرْكَبْ عَلَى طَبَقٍ مِنْ بَعْدِهِ طَبَق
وَعَنْ مَكْحُول : كُلّ عِشْرِينَ عَامًا تَجِدُونَ أَمْرًا لَمْ تَكُونُوا عَلَيْهِ : وَقَالَ الْحَسَن : أَمْرًا بَعْد أَمْرٍ، رَخَاء بَعْد شِدَّة، وَشِدَّة بَعْد رَخَاء، وَغِنًى بَعْد فَقْر، وَفَقْرًا بَعْد غِنًى، وَصِحَّة بَعْد سَقَم، وَسَقَمًا بَعْد صِحَّة : سَعِيد بْن جُبَيْر : مَنْزِلَة بَعْد مَنْزِلَة، قَوْم كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ فَارْتَفَعُوا فِي الْآخِرَة، وَقَوْم كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ فَاتَّضَعُوا فِي الْآخِرَة : وَقِيلَ : مَنْزِلَة عَنْ مَنْزِلَة، وَطَبَقًا عَنْ طَبَق، وَذَلِكَ، أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى صَلَاح دَعَاهُ إِلَى صَلَاح فَوْقه، وَمَنْ كَانَ عَلَى فَسَاد دَعَاهُ إِلَى فَسَاد فَوْقه ; لِأَنَّ كُلّ شَيْء يَجْرِي إِلَى شَكْله : اِبْن زَيْد : وَلَتَصِيرُنَّ مِنْ طَبَق الدُّنْيَا إِلَى طَبَق الْآخِرَة : وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الشَّدَائِد وَالْأَهْوَال : الْمَوْت، ثُمَّ الْبَعْث، ثُمَّ الْعَرْض، وَالْعَرَب تَقُول لِمَنْ وَقَعَ فِي أَمْر شَدِيد : وَقَعَ فِي بَنَات طَبَق، وَإِحْدَى بَنَات طَبَق، وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّاهِيَةِ الشَّدِيدَة : أُمّ طَبَق، وَإِحْدَى بَنَات طَبَق : وَأَصْلهَا مِنْ الْحَيَّات، إِذْ يُقَال : لِلْحَيَّةِ أُمّ طَبَق لِتَحْوِيهَا : وَالطَّبَق فِي اللُّغَة : الْحَال كَمَا وَصَفْنَا، قَالَ الْأَقْرَع بْن حَابِس التَّمِيمِيّ :
إِنِّي اِمْرُؤُ قَدْ حَلَبْت الدَّهْر أَشْطُرَهُ وَسَاقَنِي طَبَق مِنْهُ إِلَى طَبَق
وَغَدًا أَدَلّ دَلِيل عَلَى حُدُوث الْعَالَم، وَإِثْبَات الصَّانِع، قَالَتْ الْحُكَمَاء : مَنْ كَانَ الْيَوْم عَلَى حَالَة، وَغَدًا عَلَى حَالَة أُخْرَى فَلْيَعْلَمْ أَنَّ تَدْبِيره إِلَى سِوَاهُ : وَقِيلَ لِأَبِي بَكْر الْوَرَّاق : مَا الدَّلِيل عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَم صَانِعًا ؟ فَقَالَ : تَحْوِيل الْحَالَات، وَعَجْز الْقُوَّة، وَضَعْف الْأَرْكَان، وَقَهْر النِّيَّة : وَنَسْخ الْعَزِيمَة : وَيُقَال : أَتَانَا طَبَق مِنْ النَّاس وَطَبَق مِنْ الْجَرَاد : أَيْ جَمَاعَة : وَقَوْل الْعَبَّاس فِي مَدْح النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
تَنْقُل مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِم إِذَا مَضَى عَالَم بَدَا طَبَق
أَيْ قَرْن مِنْ النَّاس.
يَكُون طِبَاق الْأَرْض أَيْ مِلْأَهَا.
وَالطَّبَق أَيْضًا : عَظْم رَقِيق يَفْصِل بَيْن الْفَقَارَيْنِ وَيُقَال : مَضَى طَبَق مِنْ اللَّيْل، وَطَبَق مِنْ النَّهَار : أَيْ مُعْظَم مِنْهُ.
وَالطَّبَق : وَاحِد الْأَطْبَاق، فَهُوَ مُشْتَرَك.
وَقُرِئَ " لَتَرْكَبِنَّ " بِكَسْرِ الْبَاء، عَلَى خِطَاب النَّفْس وَ " لَيَرْكَبَنَّ " بِالْيَاءِ عَلَى لَيَرْكَبَنَّ الْإِنْسَان.
وَ " عَنْ طَبَق " فِي مَحَلّ نَصْب عَلَى أَنَّهُ صِفَة لِـ " طَبَقًا " أَيْ طَبَقًا مُجَاوِزًا لِطَبَقٍ.
أَوْ حَال مِنْ الضَّمِير فِي " لَتَرْكَبُنَّ " أَيْ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا مُجَاوِزِينَ لِطَبَقٍ، أَوْ مُجَاوِزًا أَوْ مُجَاوَزَة عَلَى حَسَب الْقِرَاءَة.
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
يَعْنِي أَيّ شَيْء يَمْنَعهُمْ مِنْ الْإِيمَان بَعْدَمَا وَضَحَتْ لَهُمْ الْآيَات وَقَامَتْ الدَّلَالَات.
وَهَذَا اِسْتِفْهَام إِنْكَار.
وَقِيلَ : تَعَجُّب أَيْ اِعْجَبُوا مِنْهُمْ فِي تَرْك الْإِيمَان مَعَ هَذِهِ الْآيَات.
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ
أَيْ لَا يُصَلُّونَ.
وَفِي الصَّحِيح : أَنَّ أَبَا هُرَيْرَة قَرَأَ " إِذَا السَّمَاء انْشَقَّتْ " فَسَجَدَ فِيهَا، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا.
وَقَدْ قَالَ مَالِك : إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِم السُّجُود ; لِأَنَّ [ الْمَعْنَى ] لَا يُذْعِنُونَ وَلَا يُطِيعُونَ فِي الْعَمَل بِوَاجِبَاتِهِ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالصَّحِيح أَنَّهَا مِنْهُ، وَهِيَ رِوَايَة الْمَدَنِيِّينَ عَنْهُ، وَقَدْ اعْتَضَدَ فِيهَا الْقُرْآن وَالسُّنَّة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَمَّا أَمَمْت بِالنَّاسِ تَرَكْت قِرَاءَتهَا ; لِأَنِّي إِنْ سَجَدْت أَنْكَرُوهُ، وَإِنْ تَرَكْتهَا كَانَ تَقْصِيرًا مِنِّي، فَاجْتَنَبْتهَا إِلَّا إِذَا صَلَّيْت وَحْدِي.
وَهَذَا تَحْقِيق وَعْد الصَّادِق بِأَنْ يَكُون الْمَعْرُوف مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَر مَعْرُوفًا ; وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَة :( لَوْلَا حِدْثَان قَوْمك بِالْكُفْرِ لَهَدَمْت الْبَيْت، وَلَرَدَدْته عَلَى قَوَاعِد إِبْرَاهِيم ).
وَلَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْر الْفِهْرِيّ يَرْفَع يَدَيْهِ عِنْد الرُّكُوع، وَعِنْد الرَّفْع مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَب مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَيَفْعَلهُ الشِّيعَة، فَحَضَرَ عِنْدِي يَوْمًا فِي مَحْرَس اِبْن الشَّوَّاء بِالثَّغْرِ - مَوْضِع تَدْرِيسِي - عِنْد صَلَاة الظُّهْر، وَدَخَلَ الْمَسْجِد مِنْ الْمَحْرَس الْمَذْكُور، فَتَقَدَّمَ إِلَى الصَّفّ وَأَنَا فِي مُؤَخَّره قَاعِدًا عَلَى طَاقَات الْبَحْر، أَتَنَسَّم الرِّيح مِنْ شِدَّة الْحَرّ، وَمَعِي فِي صَفّ وَاحِد أَبُو ثمنة رَئِيس الْبَحْر وَقَائِده، مَعَ نَفَر مِنْ أَصْحَابه يَنْتَظِر الصَّلَاة، وَيَتَطَلَّع عَلَى مَرَاكِب تَخْت الْمِينَاء، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخ يَدَيْهِ فِي الرُّكُوع وَفِي رَفْع الرَّأْس مِنْهُ قَالَ أَبُو ثمنة وَأَصْحَابه : أَلَا تَرَوْنَ إِلَى هَذَا الْمَشْرِقِيّ كَيْف دَخَلَ مَسْجِدنَا ؟ فَقُومُوا إِلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ وَارْمُوا بِهِ إِلَى الْبَحْر، فَلَا يَرَاكُمْ أَحَد.
فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْن جَوَانِحِي وَقُلْت : سُبْحَان اللَّه هَذَا الطُّرْطُوشِيّ فَقِيهِ الْوَقْت.
فَقَالُوا لِي : وَلِمَ يَرْفَع يَدَيْهِ ؟ فَقُلْت : كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَل، وَهَذَا مَذْهَب مَالِك، فِي رِوَايَة أَهْل الْمَدِينَة عَنْهُ.
وَجَعَلْت أُسْكِنُهُمْ وَأُسْكِتُهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَلَاته، وَقُمْت مَعَهُ إِلَى الْمَسْكَن مِنْ الْمَحْرَس، وَرَأَى تَغَيُّرَ وَجْهِي، فَأَنْكَرَهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْلَمْته، فَضَحِكَ وَقَالَ : وَمِنْ أَيْنَ لِي أَنْ أُقْتَل عَلَى سُنَّة ؟ فَقُلْت لَهُ : وَلَا يَحِلّ لَك هَذَا، فَإِنَّك بَيْن قَوْم إِنْ قُمْت بِهَا قَامُوا عَلَيْك وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُك.
فَقَالَ : دَعْ هَذَا الْكَلَام، وَخُذْ فِي غَيْره.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِل : نَزَلْت فِي بَنِي عَمْرو بْن عُمَيْر وَكَانُوا أَرْبَعَة، فَأَسْلَمَ آثْنَانِ مِنْهُمْ.
وَقِيلَ : هِيَ فِي جَمِيع الْكُفَّار.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ
أَيْ بِمَا يُضْمِرُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ التَّكْذِيب.
كَذَا رَوَى الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُجَاهِد : يَكْتُمُونَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ.
اِبْن زَيْد : يَجْمَعُونَ مِنْ الْأَعْمَال الصَّالِحَة وَالسَّيِّئَة ; مَأْخُوذ مِنْ الْوِعَاء الَّذِي يُجْمَع مَا فِيهِ ; يُقَال : أَوَعَيْت الزَّاد وَالْمَتَاع : إِذَا جَعَلْته فِي الْوِعَاء ; قَالَ الشَّاعِر :
الْخَيْر أَبْقَى وَإِنْ طَالَ الزَّمَان بِهِ وَالشَّرّ أَخْبَث مَا أَوَعَيْت مِنْ زَاد
وَوَعَاهُ أَيْ حَفِظَهُ ; تَقُول : وَعَيْت الْحَدِيث أَعِيه وَعْيًا، وَأُذُن وَاعِيَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
أَيْ مُوجِع فِي جَهَنَّم عَلَى تَكْذِيبهمْ.
أَيْ أَجْعَل ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبِشَارَة.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
اِسْتِثْنَاء مُنْقَطِع، كَأَنَّهُ قَالَ : لَكِنْ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّه، وَعَمِلُوا الصَّالِحَات، أَيْ أَدَّوْا الْفَرَائِض الْمَفْرُوضَة عَلَيْهِمْ.
لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
" لَهُمْ أَجْر " أَيْ ثَوَاب " غَيْر مَمْنُون " أَيْ غَيْر مَنْقُوص وَلَا مَقْطُوع ; يُقَال : مَنَنْت الْحَبْل : إِذَا قَطَعْته.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
" لَهُمْ أَجْر غَيْر مَمْنُون " سَأَلَ نَافِع بْن الْأَزْرَق اِبْن عَبَّاس عَنْ قَوْله : فَقَالَ : غَيْر مَقْطُوع.
فَقَالَ : هَلْ تَعْرِف ذَلِكَ الْعَرَب ؟ قَالَ : نَعَمْ قَدْ عَرَفَهُ أَخُو يَشْكُر حَيْثُ يَقُول :
فَتَرَى خَلْفهنَّ مِنْ سُرْعَة الرَّجْ عِ مَنِينًا كَأَنَّهُ أَهْبَاء
قَالَ الْمُبَرِّد : الْمَنِين : الْغُبَار ; لِأَنَّهَا تَقْطَعهُ وَرَاءَهَا.
وَكُلّ ضَعِيف مَنِين وَمَمْنُون.
وَقِيلَ :" غَيْر مَمْنُون " لَا يُمَنَّ عَلَيْهِمْ بِهِ.
وَذَكَرَ نَاس مِنْ أَهْل الْعِلْم أَنَّ قَوْله :" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " لَيْسَ اِسْتِئْنَاء، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْوَاو، كَأَنَّهُ قَالَ : وَاَلَّذِينَ آمَنُوا.
وَقَدْ مَضَى فِي " الْبَقَرَة " الْقَوْل فِيهِ وَالْحَمْد لِلَّهِ.
تَمَّتْ سُورَة الِانْشِقَاق.
Icon