ﰡ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار، والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم» «٢»
سورة النحل
(مكية، غير ثلاث آيات في آخرها وتسمى سورة النعم، وهي مائة وثمان وعشرون آية [نزلت بعد سورة الكهف] ) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (١٦) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١)كانوا يستمجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم يوم بدر، استهزاء وتكذيباً بالوعد، فقيل لهم أَتى أَمْرُ اللَّهِ الذي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظراً لقرب وقوعه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ روى أنه لما نزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا:
ما نرى شيئاً، فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد، ما نرى شيئاً مما تخوفنا به، فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله ﷺ ورفع الناس رؤوسهم، فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا وقرئ: تستعجلوه، بالتاء والياء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرأ عز وجل عن أن يكون له شريك، وأن تكون آلهتهم له شركاء. أو عن إشراكهم، على أنّ «ما» موصولة أو مصدرية. فإن قلت: كيف اتصل
(٢). رواه الثعلبي من طريق أبى الخليل عن على بن زيد عن زر بن حبيش عن أبى بن كعب. وقد تقدمت أسانيده في آخر آل عمران.
[سورة النحل (١٦) : آية ٢]
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
قرئ يُنَزِّلُ بالتخفيف والتشديد. وقرئ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ أى تنزل بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ بما يحيى القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد، وأَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح، أى ينزلهم بأن أنذروا. وتقديره: بأنه أنذروا، أى: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أو تكون «أن» مفسرة، لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول.
ومعنى أنذروا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا أعلموا بأنّ الأمر ذلك، من نذرت بكذا إذا علمته. والمعنى:
يقول لهم أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فَاتَّقُونِ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣ الى ٤]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤)
ثم دلّ على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر، مما لا يقدر عليه غيره من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان وما يصلحه، وما لا بدّ له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وجرّ أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلائقه، ومثله متعال عن أن يشرك به غيره. وقرئ: تشركون، بالتاء والياء فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فيه معنيان، أحدهما: فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم مبين للحجة، بعد ما كان نطفة من منىّ جماداً لا حس به ولا حركة، دلالة على قدرته. والثاني: فإذا هو خصيم لربه، منكر على خالقه، قائل: من يحيى العظام وهي رميم، وصفاً للإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل، والتمادي في كفران النعمة.
وقيل نزلت في أبىّ بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى النبي ﷺ فقال:
يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما قد رمّ؟ «١»
[سورة النحل (١٦) : آية ٥]
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥)
الْأَنْعامَ الأزواج الثمانية، وأكثر ما تقع على الإبل، وانتصابها بمضمر يفسره
دفّ، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الفاء وَمَنافِعُ هي نسلها ودرّها وغير ذلك. فإن قلت:
تقديم الظرف في قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ مؤذن بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها. قلت:
الأكل منها هو الأصل «١» الذي يعتمده الناس في معايشهم. وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتدّ به وكالجارى مجرى التفكه. ويحتمل أن طعمتكم منها، لأنكم تحرثون بالبقر فالحبّ والثمار التي تأكلونها منها وتكتسبون بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦]
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦)
منّ الله بالتجمل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنه من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأنّ الرعيان إذا روّحوها بالعشي وسرحوها بالغداة- فزينت بإراحتها وتسريحها الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء «٢» - أنست أهلها وفرحت أربابها، وأجلتهم في عيون الناظرين إليها، وكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس. ونحوه لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً. فإن قلت: لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأنّ الجمال في الإراحة أظهر، إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. وقرأ عكرمة:
حينا تريحون وحينا تسرحون، على أن تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وصف للحين. والمعنى: تريحون فيه وتسرحون فيه، كقوله تعالى يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧]
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧)
قرئ: بشق الأنفس، بكسر الشين وفتحها. وقيل: هما لغتان في معنى المشقة، وبينهما فرق:
وهو أن المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع.
ومدار هذا التقرير على أن تقديم معمول الفعل يوجب حصره فيه فكأنه قال وإنما تأكلون منها.
(٢). قوله «وتجاوب فيها الثغاء والرغاء» الثغاء صوت الشاء والمعز وما شاكلهما. والرغاء صوت ذوات الخف، كذا في الصحاح. [.....]
معناه وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه في التقدير لو لم تخلق الإبل إلا بجهد أنفسكم، لا أنهم لم يكونوا بالغيه في الحقيقة. فإن قلت: كيف طابق قوله: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ قوله:
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ وهلا قيل: لم تكونوا حامليها إليه «١» ؟ قلت: طباقه من حيث أن معناه:
وتحمل أثقالكم إلى بلد بعيد قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة، فضلا أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. ويجوز أن يكون المعنى: لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس. وقيل:
أثقالكم أجرامكم. وعن عكرمة: البلد مكة لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨]
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الأنعام، أى: وخلق هؤلاء للركوب والزينة، وقد احتج على حرمة أكل لحومهن بأن علل خلقها بالركوب والزينة، ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام. فإن قلت: لم انتصب وَزِينَةً؟ قلت: لأن مفعول له، وهو معطوف على محل لتركبوها. فإن قلت: فهلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد «٢» ؟ قلت: لأنّ الركوب فعل المخاطبين، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق. وقرئ: لتركبوها زينة، بغير واو، أى: وخلقها زينة لتركبوها. أو تجعل زينة حالا منها، أى: وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ يجوز أن يريد به: ما يخلق فينا ولنا مما لا نعلم كنهه وتفاصيله ويمنّ علينا بذكره كما منّ بالأشياء المعلومة مع الدلالة على قدرته. ويجوز أن يخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، ليزيدنا دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، وإن طوى عنا علمه لحكمة
ويحتمل أن يكون المراد تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس واستغنى بذكر البلوغ عن ذكر حملها لأن العادة أن المسافر لا يستغنى عن أثقال يستصحبها والمعنى الأول أعلى، والله أعلم.
(٢). قال محمود: «إن قلت هلا ورد المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد... الخ» ؟ قال أحمد: يعنى فجاز أن ينتصب مجرداً من لام التعليل لأنه فعل فاعل الفعل الأول، ويعينه اقتران الركوب باللام لأنه فعل المخاطبين، ومتى لم يتحد الفاعل تعين لحاق اللام، وفي هذا الجواب نظر، فان لقائل أن يقول: كان من الممكن مجيئهما معا باللام فيأتيان على سنن واحد. ولا غرو في ذلك فالسؤال قائم، والجواب العتيد عنه: أن المقصود المعتبر الأصلى في هذه الأصناف هو الركوب. وأما التزين بها فأمر تابع غير مقصود قصد الركوب «فاقترن المقصود المهم باللام المفيدة التعليل، تنبيها على أنه أهم الغرضين وأقوى السببين وتجرد التزين منها تنبيها على تبعيته أو قصوره عن الركوب، والله أعلم
[سورة النحل (١٦) : آية ٩]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩)
المراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال وَمِنْها جائِرٌ. والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد. يقال: سبيل قصد وقاصد، أى: مستقيم، كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. ومعنى قوله وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أنّ هداية الطريق الموصل «١» إلى الحق واجبة عليه، «٢» كقوله إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. فإن قلت: لم غير أسلوب الكلام في قوله وَمِنْها جائِرٌ؟ قلت: ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة «٣» لقيل: وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله:
ومنكم جائر، يعنى: ومنكم جائر جار عن القصد بسوء اختياره، والله بريء منه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ قسراً وإلجاء «٤».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠ الى ١١]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
(٢). قوله «الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه» هذا مذهب المعتزلة ولا وجوب عليه تعالى عند أهل السنة، بل ذلك فضل منه تعالى، لكن الكريم يبرز الوعد بالخير في صورة الواجب. (ع)
(٣). قوله «ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل» يعنى أهل السنة من أنه تعالى يخلق الشر كالخير. وقوله «لقيل» الخ: الملازمة ممنوعة لأن الكريم يحب الخير دون الشر، وإن كان كل منهما من عنده قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. (ع)
(٤). قوله «ولو شاء لهداكم أجمعين قسراً وإلجاء» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة فانه لو شاء لهدى الكل اختياراً، وذلك أن المعتزلة أوجبوا على الله الصلاح، وهداية الكل صلاح، فظاهر الآية يخالف مذهبهم. ولذا قالوا: إنه أراد هداية الكل، لكن إرادة لا تنافى تخيير العبد، لئلا يبطل تكليفه. وهذه الارادة لا تستلزم وقوع المراد. وأهل السنة لم يوجبوا على الله تعالى شيئا، وكل ما أراده الله لا بد من وقوعه. وهذه الارادة لا تنافى اختيار العبد عندهم لما تقرر له من الكسب، كما بين في علم التوحيد. (ع)
لم قيل وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ؟ قلت: لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة يَتَفَكَّرُونَ ينظرون فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته.
والآية: الدلالة الواضحة. وعن بعضهم: ينبت، بالتشديد. وقرأ أبىّ بن كعب: ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، بالرفع.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢]
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)
قرئت كلها بالنصب على: وجعل النجوم مسخرات. أو على أنّ معنى تسخيرها للناس:
تصييرها نافعة لهم، حيث يسكنون بالليل، ويبتغون من فضله بالنهار، ويعلمون عدد السنين والحساب بمسير الشمس والقمر، ويهتدون بالنجوم. فكأنه قيل: ونفعكم بها في حال كونها مسخرات لما خلقن له بأمره. ويجوز أن يكون المعنى: أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر، بمعنى تسخير، من قولك: سخره الله مسخراً، كقولك: سرحه مسرحاً، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب الليل والنهار وحدهما، ورفع ما بعدهما على الابتداء والخبر.
وقرئ: والنجوم مسخرات، بالرفع. وما قبله بالنصب، وقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فجمع الآية. وذكر العقل، لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٣]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
[سورة النحل (١٦) : آية ١٤]
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
لَحْماً طَرِيًّا هو السمك، ووصفه بالطراءة، «١» لأنّ الفساد يسرع إليه، «٢» فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. فإن قلت: ما بال الفقهاء قالوا: إذا حلف الرجل لا يأكل لحماً، فأكل سمكا، لم يحنث. والله تعالى سماء لحماً كما ترى؟ قلت: مبنى الإيمان على العادة، وعادة الناس إذا ذكر اللحم على الإطلاق أن لا يفهم منه السمك، وإذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك، كان حقيقاً بالإنكار. ومثاله أن الله تعالى سمى الكافر دابة في قوله: إنّ شرّ الدواب عند الله الذين كفروا، فلو حلف حالف لا يركب دابة فركب كافراً لم يحنث. حِلْيَةً هي اللؤلؤ والمرجان»
. والمراد بلبسهم: لبس نسائهم، لأنهنّ من جملتهم، ولأنهنّ إنما يتزينّ بها من أجلهم، فكأنها زينتهم ولباسهم. المخر: شق الماء بحيزومها. وعن الفراء: هو صوت جرى الفلك بالرياح. وابتغاء الفضل: التجارة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦)
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم وتضطرب. والمائد: الذي يدار به إذا ركب البحر.
قيل: خلق الله الأرض فجعلت تمور، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أَحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال، لم تدر الملائكة ممّ خلقت وَأَنْهاراً وجعل فيها أنهاراً، لأن أَلْقى فيه معنى: جعل. ألا ترى إلى قوله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً. وَعَلاماتٍ
(٢). عاد كلامه. قال: «هو السمك، ووصفه بالطراءة لأن الفساد يسرع إليه... الخ» قال أحمد: فكأن ذلك تعليم لأكله وإرشاد إلى أنه لا ينبغي أن يتناول إلا طريا. والأطباء يقولون: إن تناوله بعد ذهاب طراوته أضر شيء يكون، والله أعلم.
(٣). قال محمود: «الحلية هي اللؤلؤ والمرجان... الخ» قال أحمد: ولله در مالك رضى الله عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن، حتى جعل المرأة من مالها وزينتها حلية له، فعبر عن حظه في لبسها بلبسه، كما يعبر عن حظها سواء، مؤيدا بالحديث المروي في الباب، والله أعلم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٧]
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧)
فإن قلت: كَمَنْ لا يَخْلُقُ أريد به الأصنام، «١» فلم جيء بمن الذي هو لأولى العلم؟ قلت:
فيه أوجه، أحدها: أنهم سموها آلهة وعبدوها، فأجروها مجرى أولى العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ والثاني: المشاكلة بينه وبين من يخلق. والثالث: أن يكون المعنى أنّ من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولى العلم، فكيف بما لا علم عنده، كقوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها يعنى أنّ الآلهة حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأنّ هؤلاء أَحياء وهم أموات، فكيف تصح لهم العبادة؟ لا أنها لو صحت لهم هذه الأعضاء لصحّ أن يعبدوا. فإن قلت: هو إلزام للذين عبدوا الأوثان «٢» وسموها آلهة تشبيهاً بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق؟ قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له وسوّوا بينه وبينه، فقد جعلوا الله تعالى من جنس المخلوقات وشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩)
وما كل ما يتمنى المرء يدركه
(٢). عاد كلامه. قال: «فان قلت هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله تعالى وكان من حق الإلزام... الخ» قال أحمد: وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى فجدد بها عهدا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ والآلهة الذين يدعوهم الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ وقرئ بالتاء. وقرئ:
يدعون، على البناء للمفعول. نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون وأنهم أموات وأنهم جاهلون بالغيب. ومعنى أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات، أى غير جائز عليها الموت كالحىّ الذي لا يموت وأمرهم على العكس من ذلك. والضمير في يُبْعَثُونَ للداعين، أى لا يشعرون متى تبعث عبدتهم. وفيه تهكم بالمشركين وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم. وفيه دلالة على أنه لا بدّ من البعث وأنه من لوازم التكليف. ووجه آخر: وهو أن يكون المعنى أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على نحو ذلك، فهم أعجز من عبدتهم أموات جمادات لا حياة فيها، غير أحياء يعنى أنَّ من الأموات ما يعقب موته حياة، كالنطف التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأمّا الحجارة فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أى وما يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكما بحالها، لأنّ شعور الجماد محال، «١» فكيف بشعور ما لا يعلمه حىّ إلا الحىّ القيوم سبحانه. ووجه ثالث: وهو أن يراد بالذين يدعون الملائكة، وكان ناس منهم يعبدونهم، وأنهم أموات: أى لا بدّ لهم من الموت، غير أحياء: غير باقية حياتهم. وما يشعرون: ولا علم لهم بوقت بعثهم. وقرئ: إيان، بكسر الهمزة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣)إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعنى أنه قد ثبت بما تقدّم من إبطال أن تكون الإلهية لغيره، وأنها له وحده لا شريك له فيها، فكان من نتيجة ثبات الوحدانية ووضوح دليلها: استمرارهم على شركهم، وأنّ قلوبهم منكرة للوحدانية، وهم مستكبرون عنها وعن الإقرار بها لا جَرَمَ حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو وعيد إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ يجوز أن يريد المستكبرين عن التوحيد يعنى المشركين. ويجوز أن يعمّ كل مستكبر، ويدخل هؤلاء تحت عمومه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥)
ماذا منصوب بأنزل، بمعنى: أى شيء أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أو مرفوع بالابتداء، بمعنى:
أىّ شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين، وإذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين، كقوله ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ فيمن رفع. فإن قلت: هو كلام متناقض، لأنه لا يكون منزل ربهم وأساطير؟ قلت: هو على السخرية كقوله:
إنّ رسولكم «١» وهو كلام بعضهم لبعض، أو قول المسلمين لهم. وقيل: هو قول المقتسمين:
الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا أَحاديث الأوّلين وأباطيلهم لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ أى قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملوا أوزار ضلالهم كامِلَةً وبعض أوزار من ضلّ بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضلّ والضال شريكان: هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر. ومعنى اللام التعليل من غير أن يكون غرضاً، كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول أى يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩)القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس. وهذا تمثيل، يعنى: أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا «١» بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين «فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. وقيل: هو نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا. ومعنى إتيان الله: إتيان أمره مِنَ الْقَواعِدِ من جهة القواعد مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون. وقرئ: فأتى الله بيتهم. فخرّ عليهم السقف، بضمتين يُخْزِيهِمْ بذلهم بعذاب الخزي رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ يعنى هذا لهم في الدنيا، ثم العذاب في الآخرة شُرَكائِيَ على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم، ليوبخهم بها على طريق الاستهزاء بهم تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم ومعناهم. وقرئ: تشاقون، بكسر النون، بمعنى: تشاقوننى، لأنّ مشاقة المؤمنين كأنها مشاقة الله قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم ويتكبرون عليهم ويشاقونهم، يقولون ذلك شماتة بهم وحكى الله ذلك من قولهم ليكون لطفاً لمن سمعه. وقيل: هم الملائكة. قرئ: تتوفاهم، بالتاء والياء.
وقرئ: الذين توفاهم، بإدغام التاء في التاء فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا وأخبتوا، وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وجحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان، فردّ عليهم أولو العلم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢)خَيْراً أنزل خيراً. فإن قلت: لم نصب هذا ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقرّ وجواب الجاحد، يعنى أن هؤلاء لما سئلوا لم يتلعثموا، وأطبقوا الجواب على السؤال بينا مكشوفا مفعولا للإنزال، فقالوا خيراً: أى أنزل خيراً، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، وليس من الإنزال في شيء. وروى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء الواقد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيراً لك، فيقول: أنا شرّ وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله ﷺ فيخبرونه بصدقه، وأنه نبىّ مبعوث، فهم الذين قالوا خيراً. وقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وما بعده بدل من خيراً، حكاية لقوله الذين اتقوا، أى: قالوا هذا القول، فقدّم عليه تسميته خيراً ثم حكاه.
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين، ويجعل قولهم من جملة إحسانهم وبحمدوا عليه حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها، كقوله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ. وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره. وجَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدإ محذوف. ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قيل: إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا ولىّ الله، الله يقرأ عليك السلام، وبشره بالجنة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤)
ْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
قرئ بالتاء والياء، يعنى: أن تأتيهم لقبض الأرواح. ومْرُ رَبِّكَ
أى مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتدميرهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
لأنهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا جزاء سيئات أعمالهم. أو هو كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٥]
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥)
هذا من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم وعنادهم، من شركهم بالله وإنكار وحدانيته بعد قيام الحجج وإنكار البعث واستعجاله، استهزاء منهم به وتكذيبهم الرسول، وشقاقهم، واستكبارهم عن قبول الحق، يعنى: أنهم أشركوا بالله وحرّموا ما أحل الله، من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه «١» كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى أشركوا وحرموا حلال الله «٢»، فلما نبهوا على قبح فعلهم
(٢). قال محمود: «يعنى أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل الله... الخ» قال أحمد: قد تكرر منه مثل هذا الفصل في أخت الآية المتقدمة في سورة الأنعام، وقد قدمنا حينئذ ما فيه مقنع إن شاء الله، والذي زاده هنا يثبت معتقده على زعمه بقوله تعالى وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ووجه تمسكه به أن الله تعالى قسم العبادة إلى قسمين: مأمور به ومنهى عنه. والأمر والنهى عند المصنف راجعان إلى المشيئة بناء على زعم القدرية في إنكار كلام النفس وحمل الاقتضاء على الارادة، فالحاصل حينئذ من هذه التتمة أن الله شاء عبادة الخلق له وشاء اجتنابهم عبادة الطاغوت، ولم يشأ منهم أن يشركوا به، وأخبر بهذه المشيئة على لسان كل رسول بعثه إلى أمة من الأمم، فجاءت التتمة مترجمة عن معنى صدر الآية، مؤكدة بمقتضاها. هذا هو الذي زاده المصنف هاهنا، وقد بينا أن مبناه على إنكار كلام النفس الثابت قطعا، فهو باطل جزما. والعجب أن الله تعالى أوضح في الآيتين جميعاً أن الذي أنكره من القائلين لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا إنما هو احتجاجهم على الله تعالى بمشيئته التي لا حجة لهم فيها، مع ما خلق لهم من الاختيار بقوله هاهنا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وبقوله في آخر آية الأنعام فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فتبين فيهما أنه هو الذي شاء منهم الاشراك والضلالة، ولو شاء هدايتهم أجمعين لاهتدوا عن آخرهم. وحصل من هذا البيان: صرف الإنكار عليهم إلى غير نسبة المشيئة لله تعالى، وذلك هو الذي قدمناه في إقامتهم الحجة على الله بمشيئته، مع أن حجتهم في ذلك داحضة، ولله عليهم الحجة البالغة الواضحة، والله الموفق.
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٦]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦)
ولقد أمدّ إبطال قدر السوء ومشيئة الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله، وباجتناب الشر الذي هو طاعة الطاغوت فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أى لطف به لأنه عرفه من أهل اللطف وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أى ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتى منه خير فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أنى لا أقدّر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.
[سورة النحل (١٦) : آية ٣٧]
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧)
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله ﷺ على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أى لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. وقرئ: لا يهدى «٢»، أى:
لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ دليل على أنّ المراد بالإضلال: الخذلان الذي هو نقيض النصرة. ويجوز أن يكون لا يَهْدِي بمعنى لا يهتدى. يقال: هداه الله فهدى. وفي قراءة أبىّ: فإنّ الله لا هادى لمن يضل، ولمن أضلّ «٣»، وهي معاضدة لمن قرأ لا يَهْدِي على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله: يهدى، بإدغام تاء يهتدى، وهي معاضدة للأولى. وقرئ «يضل» بالفتح. وقرأ النخعي: إن تحرص، بفتح الراء، وهي لغية.
(٢). قوله «وقرئ لا يهدى» أى بالبناء المجهول، كما أفاده النسفي. (ع)
(٣). قوله «وفي قراءة أبى: فان الله لا هادى لمن يضل ولمن أضل» ظاهره أن هذه قراءة أخرى لأبى، فليحرر. (ع)
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩)وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ معطوف على وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان، حقيقتان بأن تحكيا وتدوّنا: توريك ذنوبهم على مشيئة «١» الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه. وبَلى إثبات لما بعد النفي، أى: بلى يبعثهم. ووعد الله: مصدر مؤكد لما دلّ عليه بلى. لأن يبعث موعد من الله، وبين أنّ الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه في الحكمة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم يبعثون أو أنه وعد واجب «٢» على الله، لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه «بلى» أى يبعثهم ليبين لهم. والضمير لمن يموت، وهو عام للمؤمنين والكافرين، والذي اختلفوا فيه هو الحق وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كذبوا في قولهم:
لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت. وقيل: يجوز أن يتعلق بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أى بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه، وأنهم كانوا على الضلالة قبله، مفترين على الله الكذب.
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٠]
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)
قَوْلُنا مبتدأ، وأَنْ نَقُولَ خبره. كُنْ فَيَكُونُ من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أى: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم، والمعنى: أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات. وقرئ: فيكون، عطفاً على نَقُولَ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
(٢). قوله «أو أنه وعد واجب على الله... الخ» الكلام في الكفار. وعرض فيه المصنف بأهل السنة تعصبا للمعتزلة في قولهم بوجوب الصلاح عليه تعالى فافهم. (ع)
هم الذين صبروا. أو أعنى الذين صبروا، وكلاهما مدح، أى: صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤسهم، وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
قالت قريش: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً، فقيل وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ على ألسنة الملائكة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ وهم أهل الكتاب، ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً. فإن قلت: بم تعلق قوله بِالْبَيِّناتِ؟ قلت: له متعلقات شتى، فاما أن يتعلق مما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أى: وما أرسلنا
يوحى إليهم بالبينات. وإما بلا تعلمون، على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام، كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطنى حقي. وقوله فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدّمة، وأهل الذكر: أهل الكتاب. وقيل للكتاب الذكر، لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يعنى ما نزل الله إليهم في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا وأوعدوا وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧)
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أى المكرات السيئات، وهم أهل مكة، وما مكروا به رسول الله ﷺ «١» فِي تَقَلُّبِهِمْ متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم وأسباب دنياهم عَلى تَخَوُّفٍ متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ وقيل: هو من قولك: تخوفنه وتخونته، إذا تنقصته:
قال زهير:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً | كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النّبْعة السَّفَنُ «٢» |
(٢). لأبى كبير الهذلي. وقيل لزهير. والتخوف: التنقص شيئا فشيئا. والتامك: السنام المرتفع. والقرد:
الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. أو الذي تنقب وفسد من الرحل في السفر. والنبعة: واحدة النبع، وهو شجر تتخذ منه القسي. ويروى: ظهر النبعة. والسفن: المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب، يقول: تنقص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر، كما تنقص المبرد عود النبعة. وفيه تشبيه بها في الصلابة. وروى أن عمر قال على المنبر: ما تقولون في قوله تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فسكتوا، فقال شيخ من هذيل: هذه لغتنا، التخوف: التنقص، وأنشد البيت، فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فان فيه تفسير كتابكم.
فقال عمر: أيها الناس، عليكم بديوانكم لا يضل. قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث يحلم عنكم، ولا يعاجلكم مع استحقاقكم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٤٨]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨)
قرئ: أو لم يروا. ويتفيؤا، بالياء والتاء. وما موصولة بخلق الله، وهو مبهم بيانه مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ واليمين، بمعنى الأيمان. وسُجَّداً حال من الظلال. وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل، وجمع بالواو، لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها، أى عن جانبي كل واحد منها. وشقيه استعارة من يمين الإنسان وشماله لجانبى الشيء، أى: ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ، والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً، صاغرة منقادة لأفعال الله فيها، لا تمتنع.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠)
مِنْ دابَّةٍ يجوز أن يكون بيانا لما في السموات وما في الأرض جميعا، على أنّ في السموات خلقا لله يدبون فيها كما يدب الأناسى في الأرض، وأن يكون بيانا لما في الأرض وحده، ويراد بما في السموات: الملائكة. وكرّر ذكرهم على معنى: والملائكة خصوصا من بين الساجدين، لأنهم أطوع الخلق وأعبدهم. ويجوز أن يراد بما في السموات: ملائكتهنّ.
وبقوله والملائكة: ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، فإن قلت: سجود المكلفين مما انتظمه هذا الكلام خلاف سجود غيرهم، «١» فكيف عبر عن النوعين بلفظ واحد؟ قلت: المراد بسجود
فهلا جيء بمن دون «ما» تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم، إرادة العموم يَخافُونَ يجوز أن يكون حالا من الضمير «١» في لا يَسْتَكْبِرُونَ أى: لا يستكبرون خائفين، وأن يكون بيانا لنفى الاستكبار وتأكيداً له، لأنّ من خاف الله لم يستكبر عن عبادته مِنْ فَوْقِهِمْ إن علقته بيخافون، فمعناه: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن علقته بربهم حالا منه فمعناه: يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا، كقوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ وفيه دليل على أنّ الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهى والوعد والوعيد كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء.
[سورة النحل (١٦) : آية ٥١]
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١)
فإن قلت: إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا عندي رجال ثلاثة وأفراس أربعة، لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص. وأما رجل ورجلان وفرس وفرسان، فمعدودان فيهما دلالة على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد ورجلان اثنان، فما وجه قوله إلهين اثنين «٢» ؟ قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين: على الجنسية والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنّ المعنىّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعنايه به. ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله، ولم تؤكده بواحد: لم يحسن، وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ نقل للكلام عن الغيبة إلى التكلم، وجاز لأنّ الغالب هو المتكلم، وهو من طريقة الالتفات، وهو أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن يجيء ما قبله على لفظ المتكلم.
(٢). قال محمود: «إن قلت ما فائدة قوله اثنين مع إغناء التثنية عن ذلك... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من حسناته التي لا يدافع عنها، والله الموفق. [.....]
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٢]
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢)الدِّينُ الطاعة واصِباً حال عمل فيه الظرف. والواصب: الواجب الثابت، لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه. ويجوز أن يكون من الوصب، أى: وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا. أو: وله الجزاء ثابتا دائما سرمدا لا يزول، يعنى الثواب والعقاب.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥)
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ وأىّ شيء حل بكم، أو اتصل بكم من نعمة، فهو من الله فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ فما تتضرعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة. قال الأعشى يصف راهبا:
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ الْمَلِيكِ طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا «١»
وقرئ: تجرون، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف الضرّ على:
فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف، لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة. فإن قلت: فما معنى قوله إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ؟ قلت: يجوز أن يكون الخطاب في قوله وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ عاما، ويريد بالفريق: فريق الكفرة وأن يكون الخطاب للمشركين ومنكم للبيان، لا للتبعيض، كأنه قال فإذا فريق كافر، وهم أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم،
وما آبلى على هيكل... بناء وصلب فيه وصارا
يراوح من صلوات الملي... ك طورا سجودا وطورا جؤارا
بأعظم منك تقى في الحساب... إذا النسمات نفضن الغبارا
للأعشى. والآبلى: الراهب، نسبة إلى آبل وهو قيم البيعة. والهيكل: بيت الصنم. وصلب: أى صور الصليب.
وألف صارا للإطلاق. ويراوح: خبره، وإن لزم عليه التضمين مراعاة لجزالة المعنى، والمراوحة في العمل:
الانتقال من حالة إلى أخرى. والصلوات: الدعوات. والسجود: الانخفاض والخشوع. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء. وبأعظم: خبر آبلى. وتقى: تمييز. يقول: ليس الراهب العاكف على هيكله الذي صور فيه الصليب، وصار يتابع ويتنقل من بعض دعوات الله إلى بعض، فتارة يسجد سجوداً، وتارة يجأر جؤارا، تقاه أعظم من تقاك يوم الحساب إذا قام الناس من قبورهم، فنفضهم الغبار، كناية عن ذلك.
فيمتعوا، بالياء مبنيا للمفعول، عطفا على لِيَكْفُرُوا ويجوز أن يكون: ليكفروا فيمتعوا، من الامر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر.
[سورة النحل (١٦) : آية ٥٦]
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
لِما لا يَعْلَمُونَ أى لآلهتهم. ومعنى لا يعلمونها: أنهم يسمونها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وليس كذلك. وحقيقتها أنها جماد لا يضر ولا ينفع، فهم إذاً جاهلون بها. وقيل: الضمير في لا يَعْلَمُونَ للآلهة. أى: لأشياء غير موصوفة بالعلم، ولا تشعر اجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا؟ وكانوا يجعلون لهم ذلك تقربا إليهم لَتُسْئَلُنَّ وعيد عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من الإفك في زعمكم أنها آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩)
كانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيه لذاته من نسبة الوالد إليه. أو تعجب من قولهم وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعنى البنين. ويجوز في ما يَشْتَهُونَ الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات، أى: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور. وظَلَّ بمعنى صار «١» كما يستعمل بات وأصبح وأمسى بمعنى الصيرورة. ويجوز أن يجيء ظل، لأن أكثر الوضع يتفق بالليل، فيظل نهاره مغتما مربد الوجه «٢» من الكآبة والحياء من الناس وَهُوَ كَظِيمٌ مملوء حنقاً على المرأة يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفى منهم مِنَ أجل سُوءِ المبشر به، ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر أيمسك ما بشر به عَلى هُونٍ
(٢). قوله «ويجوز أن يجيء ظل... الخ» أى يرد ويستعمل في الآية بمعناه الأصلى، وهو اتصاف الشيء بصفة نهاراً فقط، لأن أكثر الوضع... الخ. ومربد الوجه: متعبسه من الغضب، كما يفيده الصحاح. (ع)
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٠]
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء: وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق، وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وهو الغنى عن العالمين، والنزاهة عن صفات المخلوقين وهو الجواد الكريم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦١]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١)
بِظُلْمِهِمْ بكفرهم ومعاصيهم ما تَرَكَ عَلَيْها أى على الأرض مِنْ دَابَّةٍ قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين. وعن أبى هريرة: أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى أنّ الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم «٢». وعن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم «٣». أو من دابة ظالمة. وعن ابن عباس مِنْ دَابَّةٍ من مشرك يدب عليها. وقيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٢]
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم، ومن الاستخفاف برسلهم «٤»
(٢). أخرجه الطبري والبيهقي في الشعب التاسع والأربعين. وفي إسناده محمد بن جابر التمامى. وهو متروك.
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة والحاكم والطبراني من طريق أبى الأحوص قال: قرأ ابن مسعود وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ- الآية قال: كاد الجعل يعذب في جحره يذنب ابن آدم».
(٤). قال محمود: «المراد بما يكرهونه البنات، وشركاء في رياستهم، واستخفاف برسلهم... الخ» قال أحمد:
ونقيض هؤلاء من إذا أعجبه شيء من ماله جعله لله، بل إذا أحب أمة له أعتقها، وإذا اشتهى طعاما قدم إليه تصدق به على حبه، وإنما ينقل مثل هذا عن السلف الصالح من الصحابة، كابن عمر ونظرائه ومن تابعهم فيها، ويجعلون لله ما يشتهون. اللهم إن لم ننل رتبة أوليائك فأنلنا محبتهم، فمن أحب قوما حشر معهم.
وعن مجاهد: أنّ لهم الحسنى، هو قول قريش: لنا البنون، وأن لهم الحسنى: بدل من الكذب.
وقرئ الْكَذِبَ جمع كذوب، صفة للألسنة مُفْرَطُونَ قرئ مفتوح الراء ومكسورها مخففاً ومشدّداً، فالمفتوح بمعنى مقدّمون إلى النار معجلون إليها، من أفرطت فلانا، وفرّطته في طلب الماء، إذا قدمته. وقيل. منسيون متروكون، من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته.
والمكسور المخفف، من الإفراط في المعاصي. والمشدّد، من التفريط في الطاعات وما يلزمهم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٣]
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها. أو فهو وليهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا. ومعنى وَلِيُّهُمُ قرينهم وبئس القرين. أو يجعل فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ حكاية للحال الآتية، وهي حال كونهم معذبين في النار، أى فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره، نفياً للناصر لهم على أبلغ الوجوه. ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولى وهؤلاء، لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف، أى: فهو ولى أمثالهم اليوم.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥)
وَهُدىً وَرَحْمَةً معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما، لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب. ودخل اللام على لتبين: لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل. وإنما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل. والذي اختلفوا فيه: البعث، لأنه كان فيهم من يؤمن به، ومنهم عبد المطلب، وأشياء من التحريم والتحليل والإنكار والإقرار لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٦]
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
ذكر سيبويه الأنعام في باب مالا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم:
ثوب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً. وأمّا فِي بُطُونِها في سورة المؤمنين، فلأنّ معناه الجمع. ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان، أحدهما: أن يكون تكثير نعم «١» كأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر «نعم» في قوله:
فِى كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَه... يُلْقِحُهُ قَوْمٌ وَتَنْتِجُونَهْ «٢»
وإذا أنث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم. وأنه في معنى الجمع. وقرئ نُسْقِيكُمْ بالفتح والضم، وهو استئناف، كأنه قيل: كيف العبرة، فقيل نسقيكم مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ أى يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغى أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله. قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقرّ في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا، وأعلاه دما. والكبد مسلطة على هذه الأصناف
(٢).
في كل عام نعم تحوونه... يلقحه قوم وتنتجونه
أربابه نوكى فلا يحمونه... ولا يلاقون طعانا دونه
أنعم الأبناء تحسبونه... هيهات هيهات لما ترجونه
لصبي من بنى أسد اسمه قيس بن الحصين الحارثي. والنعم: أسم جمع يعامل معاملة المفرد. وقد يراعى معناه فيعامل كالجمع. والأنعام عده سيبويه من المفردات المبنية على أفعال، كأخلاق وأمشاج، فيعامل بالتذكير تارة اعتباراً بلفظه، وبالتأنيث أخرى اعتباراً بمعناه. وقيل: هو جمع نعم كأسباب وسبب، والكلام تحسر وتحزن في صورة الاخبار، ويحتمل تقدير همزة الاستفهام التوبيخي أو التعجبي قبل في، أى: أفى كل عام تفعلون ذلك. وروى:
أكل عام، بالاستفهام. وكل: نصب على الظرفية. وفيه الاخبار بالزمان عن اسم العين وهو نعم. إما لأنه يشبه المعنى لتجدده كل عام كما قاله ابن مالك وغيره في مثله. أو على تقدير مضاف كما ذهب إليه جمهور البصريين» أى:
نهب نعم. وجملة تحوونه: صفة نعم، ويجوز أنها خبره، وكل عام: ظرف لتحوونه، وقدم لأنه محط الاستفهام.
وعليه فالمسوغ للابتداء بنعم وقوعه في حيز الاستفهام. أو تقديم معمول الخبر عليه لأنه كتقديم الخبر. ويلقحه قوم أى يطلقون فحوله على إناثه فتحمل عندهم. وتنتجونه أنتم: أى تستولدونه عندكم، كناية عن نهبه منهم. والأرباب الأصحاب. والنوكى: جمع أنوك كحمقى جمع أحمق وزنا ومعنى. والطعان: المطاعنة بالرماح، أى: لا يحاربون أمامه ويصبرون للحرب. وقوله أنعم: استفهام إنكارى توبيخي، أى: لا تحسبوا نعمنا نعم أولئك الحمقى الضعاف.
وهيهات بمعنى بعد، وكرره للتوكيد وقطع الأطماع. وقوله «لما ترجونه» متعلق بمحذوف، أى: أقول ذلك لما ترجونه، واللام فيه لتبيين الفاعل. ويجوز أنها زائدة فيه، والرجا: الطمع، ويجوز أنه الظن.
فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمّل. وسئل شقيق عن الإخلاص فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث ودم سائِغاً سهل المرور في الحلق.
ويقال: لم يغص أحد باللبن قط. وقرئ: سيغاً، بالتشديد. وسيغاً، بالتخفيف. كهين ولين.
فإن قلت: أى فرق بين «من» الأولى والثانية؟ قلت: الأولى للتبعيض، لأن اللبن بعض ما في بطونها، كقولك: أخذت من مال زيد ثوباً. والثانية لابتداء الغاية، لأن بين الفرث والدم مكان الإسقاء الذي منه يبتدأ، فهو صلة لنسقيكم، كقولك: سقيته من الحوض، ويجوز أن يكون حالا من قوله لَبَناً مقدما عليه، فيتعلق بمحذوف، أى: كائناً من بين فرث ودم.
ألا ترى أنه لو تأخر فقيل: لبناً من بين فرث ودم كان صفة له، وإنما قدم لأنه موضع العبرة، فهو قمن بالتقديم. وقد احتج بعض من يرى أن المنى طاهر على من جعله نجسا، لجريه في مسلك البول بهذه الآية، وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر، كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهراً.
[سورة النحل (١٦) : آية ٦٧]
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧)
فإن قلت: بم تعلق قوله وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ؟ قلت: بمحذوف تقديره:
ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب، أى: من عصيرها، وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه، وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بيان وكشف عن كنه الإسقاء. أو يتعلق بتتخذون، ومنه من تكرير الظرف للتوكيد، كقولك: زيد في الدار فيها. ويجوز أن يكون تَتَّخِذُونَ صفة موصوف محذوف، كقوله:
... بِكَفّىْ كَانَ مِنْ أرْمَى الْبَشَرْ «١»
مالك عندي غير سوط وحجر | وغير كبداء شديدة الوتر |
السوط: آلة للضرب، معمولة من الجلد. وكبداء صفة لمحذوف، أى قوس كبداء غليظة الكبد، أى المقبض.
وقيل: واسعته. والوتر: حبل تشد به القوس. وجادت: صارت جيدة. ويروى بدله: ترمى. وشبه الرمي لها مجاز عقلى. وكفى مضاف لمحذوف قامت صفته في اللفظ مقامه، وهي جملة «كان» وحذف المنعوت الأول مطرد، والثاني ضرورة، لأنه لا يجوز حذف المنعوت إلا إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو «في»، أو صلح نعته لمباشرة العامل. و «كان» هنا ليس للمضى، بل لمجرد الثبوت والدوام، أى: بكفى رجل متصف بأنه دائما من أشد الناس رميا، يعنى نفسه. ففيه تجريد. يقول لعدوه: ليس لك عندي غير هذه الأشياء، وهو ضرب من التهديد والتقريع: هدده بالسوط عند القرب، وبالحجر عند المفارقة، وبالسهم عند البعد: ويروى «سهم» بدل سوط، فيضيع الترتيب.
قلت: إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كما رجع في قوله تعالى أَوْ هُمْ قائِلُونَ إلى الأهل المحذوف، والسكر: الخمر، سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً. نحو رشد رشداً ورشداً. قال:
وَجَاؤُنَا بهم سَكَرٌ عَلَيْنَا | فَأَجْلَى اليَوْمُ وَالسَّكْرَانُ صَاحِى «١» |
تناولته الدعارة «٤» فسمج في المروءة. وقيل: السكر الطعم «٥» وأنشد:
جَعَلْتُ أَعْرَاضَ الكِرَامِ سَكَرَا
أى تنقلت بأعراضهم «٦». وقيل هو من الخمر، وإنه إذا ابترك «٧» في أعراض الناس، فكأنه تخمر بها. والرزق الحسن: الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك. ويجوز أن يجعل السكر رزقاً حسناً، كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن.
(٢). أخرجه النسائي من حديث ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعا. ورواه العقيلي من وجه آخر عن على مرفوعا. وفيه محمد بن الفرات الكوفي، وهو منكر الحديث.
(٣). قوله «فلما شيخ وأخذت منه السن العالية» في الصحاح: شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك، وشيخ تشييخا: أى شاخ. (ع)
(٤). قوله «فقال تناولته الدعارة» في الصحاح: الدعارة الفسق والخبث. (ع) [.....]
(٥). قوله «وقيل السكر الطعم» في الصحاح: الطعم بالضم: الطعام. (ع)
(٦). قوله «أى تنقلت بأعراضهم» في الصحاح: النقل بالضم ما ينتقل به على الشراب. (ع)
(٧). قوله «وإنه إذا ابترك» في الصحاح: ابترك، أى أسرع في العدو وجد. (ع)
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)الإيحاء إلى النحل: إلهامها والقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم به، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه، وإلا فنيقتها «١» في صنعتها، ولطفها في تدبير أمرها، وإصابتها فيما يصلحها، دلائل بينة شاهدة على أنّ الله أودعها علماً بذلك وفطنها، كما أولى أولى العقول عقولهم. وقرأ يحيى بن وثاب إِلَى النَّحْلِ بفتحتين. وهو مذكر كالنخل، وتأنيثه على المعنى أَنِ اتَّخِذِي هي أن المفسرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. وقرئ: «بيوتا» بكسر الباء لأجل الياء. ويَعْرِشُونَ بكسر الراء وضمها: يرفعون من سقوف البيوت. وقيل: ما يبنون للنحل في الجبال والشجر والبيوت من الأماكن التي تتعسل فيها. والضمير في يَعْرِشُونَ للناس. فإن قلت: ما معنى «من» في قوله أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وهلا قيل في الجبال وفي الشجر؟ قلت: أريد معنى البعضية، وأن لا تبنى بيوتها «٢» في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إحاطة بالثمرات التي تجرسها النحل «٣» وتعتاد أكلها، أى ابني البيوت، ثم كلى من كل ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أى الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل. أو فاسلكي ما أكلت في سبل ربك، أى في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المرّ عسلا من أجوافك ومنافذ مآكلك. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها،
(٢). قال محمود: «قلت أريد معنى البعضية وأن لا تبنى بيوتها... الخ» قال أحمد: ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل، كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض، لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه. وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع، ولهذا المعنى دخلت ثم لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت والإطلاق لها في تناول الثمرات، كما تقول: راع الحلال فيما تأكله، ثم كل أى شيء شئت، فتوسط ثم لتفاوت الحجر والإطلاق، فسبحان اللطيف الخبير.
(٣). قوله «بالثمرات التي تجرسها النحل» في الصحاح «الجرس» الصوت الخفي، وجرست النحل العرفط إذا أكلته. وفيه أيضا «العرفط» شجر من العضاه. وفيه «العضاه» كل شجر يعظم وله شوك. (ع)
وتنكيره إمّا لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأن فيه بعض الشفاء، وكلاهما محتمل. وعن النبي ﷺ أن رجلا جاء إليه فقال: إن أخى يشتكى بطنه، فقال: «اذهب واسقه العسل» فذهب ثم رجع فقال: قد سقيته فما نفع، فقال: «اذهب واسقه عسلا» فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه فشفاه الله فبرأ، كأنما أنشط من عقال «١». وعن عبد الله بن مسعود:
العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين: القرآن والعسل «٢».
ومن بدع تأويلات الرافضة: أن المراد بالنحل علىّ وقومه: وعن بعضهم أنه قال عند المهدى:
إنما النحل بنو هاشم، يخرج من بطونهم العلم، فقال له رجل: جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدى وحدث به المنصور، فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٠]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة عن علىّ رضى الله عنه.
وتسعون سنة عن قتادة، لأنه لا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن
(٢). لم أره هكذا. وفي الكامل لابن عدى من رواية لابن إسحاق عن أبى الأحوص عن عبد الله رفعه «عليكم بالشفاءين: العسل: شفاء من كل داء. والقرآن شفاء لما في الصدور» وقال: لم يرفعه عن وكيع عن الثوري إلا سفيان بن وكيع. قال ورواه زيد بن الحباب عن الثوري أيضا مرفوعا اه وأخرجه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم من رواية زيد بن الحباب بهذا الاسناد مرفوعا بلفظ «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن» وابن أبى شيبة عن وكيع مرفوعا ولفظه «العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور» ومن هذا الوجه أخرجه الحاكم والثعلبي أيضا. قال ابن أبى شيبة: وحدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حيية عن الأسود عن عبد الله قال «عليكم بالشفاءين القرآن والعسل».
[سورة النحل (١٦) : آية ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
أى: جعلكم متفاوتين في الرزق، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تتساووا في الملبس والمطعم، كما يحكى عن أبى ذرّ أنه سمع النبي ﷺ يقول: إنما هم إخوانكم، فاكسوهم مما تلبسون، وأطعموهم مما تطعمون «١» فما رئي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من عير تفاوت «٢» أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء. وقيل المعنى أنّ الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق. فإنما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. وقرئ: يجحدون، بالتاء والياء.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٢]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢)
مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم. وقيل: هو خلق حواء من ضلع آدم. والحفدة: جمع حافد، وهو الذي يحفد، أى يسرع في الطاعة والخدمة. ومنه قول القانت. وإليك نسعى ونحفد وقال:
حَفَدَ الْوَلَائِدَ بَيْنَهُنَّ وَأُسْلِمَتْ | بِأَكُفِّهِنَّ أزِمَّةَ الأَجْمَالِ «٣» |
(٢). لم أره.
(٣). يقول، حفد من باب ضرب، أى أسرع. الولائد: جمع وليدة وهي البنت الصغيرة، بينهن: أى بين النساء الطاعنات. وأسلمت: مبنى للمجهول، أى تركت في أكف الظعائن والولائد. أزمة الأجمال: جمع زمام، وذلك دليل على حفظهن وصونهن، حتى لا يتخلل ركبهن إلا الولائد.
(٤). قوله «فقيل هم الأختان على البنات» في الصحاح: الحفدة الأعوان والخدم. وفيه أيضا: الخبّن بالتحريك كل من كان من قبل المرأة كالأب والأخ، وهم الأختان، كذا عند العرب وأما عند العامة فختن الرجل زوج ابنته اه فلعله أيضا ضمن الأختان معنى الأعوان أو الخلفاء فعداء بعلى. وفي الخازن عن ابن مسعود: الحفدة أختان الرجل على بناته. (ع)
وقيل: الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما. ونعمة الله: ما أحل لهم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٣]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣)
الرزق يكون بمعنى المصدر، وبمعنى ما يرزق، فإن أردت المصدر نصبت به شَيْئاً كقوله أَوْ إِطْعامٌ...... يَتِيماً على: لا يملك أن يرزق شيئاً. وإن أردت المرزوق كان شيئا بدلا منه بمعنى قليلا. ويجوز أن يكون تأكيداً للا يملك: أى لا يملك شيئاً من. الملك. ومِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى: لا يرزق من السموات مطرا، ولا من الأرض نباتاً. أو صفة إن كان اسما لما يرزق. والضمير في وَلا يَسْتَطِيعُونَ لما، لأنه في معنى الآلهة، بعد ما قيل لا يَمْلِكُ على اللفظ. ويجوز أن يكون للكفار، يعنى: ولا يستطيع هؤلاء- مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب- من ذلك شيئا، فكيف بالجماد الذي لا حسن به.
فإن قلت: ما معنى قوله وَلا يَسْتَطِيعُونَ بعد قوله لا يَمْلِكُ؟ وهل هما إلا شيء واحد؟ قلت:
ليس في لا يَسْتَطِيعُونَ تقدير راجع، وإنما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، والاستطاعة منفية عنهم أصلا، لأنهم موات، إلا أن يقدر الراجع ويراد بالجمع بين نفى الملك والاستطاعة للتوكيد أو يراد: أنهم لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه، ولا يتأتى ذلك منهم ولا يستقيم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٤]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به «١»، لأنّ من يضرب الأمثال
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٥]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥)
ثم علمهم كيف تضرب فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان: مثل من سوّى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حرّ مالك قد رزقه الله مالا فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف شاء.
فإن قلت: لم قال مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ «١» وكل عبد مملوك، وغير قادر على التصرف؟
قلت: أما ذكر المملوك فليميز من الحرّ، لأن اسم العبد يقع عليهما جميعا، لأنهما من عباد الله.
وأما لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فليجعل غير مكاتب ولا مأذون له، لأنهما يقدران على التصرف.
وأما الاحتراز به عن المأذون له فيبنى على القول بأن المراد بعدم القدرة عدم المكنة من التصرف، وإن لم يكن المأذون له مالكا عند هذا القائل. وهذا بعيد عن مطابقة قوله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فإنها توجب أن يكون المراد بقوله لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لا يملك شيئاً من الرزق، كما تقول في الحر المفلس: فلان لا يقدر على شيء، أى لا يملك شيئاً يقدر على التصرف فيه. فتلخص من هذا البحث أن في الآية مجالا لنصرة مذهب مالك، وإن كان لقائل أن يقول: هذه الصفة لازمة كالإيضاح لفائدة ضرب المثل بالمملوك، كأنه قيل: وإنما ضربنا المثل بالمملوك، لأن صفته اللازمة له وسمته المعروفة به، أنه لا يقدر على شيء. أى لا يصح منه ملك، وكثيراً ما يجيء الحال والصفة لا يقصد بواحد منهما تقييده ولا تخصيص، ولكن إيضاح وتفسير. ومن ذلك قوله تعالى وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فقوله لا برهان له به. لا يقصد به تمييز له سوى اللَّهُ من «إله» لأن كل مدعو إلها غير الله تعالى، لا برهان به. وإنما أريد أن عدم البرهان من لوازم دعاء إله غير الله تعالى، فهذا أقصى ما يمكن أن ينتصر به للقائل بعدم صحة ملك العبد. ولنا أن نقول في دفعه أن الأصل في الصفة والحال وشبههما التخصيص والتقييد. وأما الوارد من ذلك لازما فنادر على خلاف الأصل، والله الموفق. [.....]
هل يستوي الأحرار والعبيد؟
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
الأبكم الذي ولد أخرس، فلا يَفهم ولا يُفهم وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أى ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم، لم ينفع ولم يأت بنجح هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ هو سليم الحواس نفاعا ذو كفايات، مع رشد وديانة، فهو يَأْمُرُ الناس بِالْعَدْلِ والخير وَهُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على سيرة صالحة ودين قويم. وهذا مثل ثان ضربه الله لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وقرئ: أينما يوجه، بمعنى أينما يتوجه، من قولهم: أينما أوجه ألق سعداً: وقرأ ابن مسعود:
أينما يوجه، على البناء للمفعول.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٧]
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى يختصّ به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفى عليهم علمه. أو أراد بغيب السموات والأرض: يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أى هو عند الله وإن تراخى، كما تقولون أنتم في الشيء الذي تستقربونه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، إذا بالغتم في استقرابه.
ونحوه قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أى هو عنده دان وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت وأوحاه «١»، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٨]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
قرئ أُمَّهاتِكُمْ بضم الهمزة وكسرها، والهاء مزيدة في أمات، كما زيدت في أراق، فقيل: أهراق. وشذت زيادتها في الواحدة قال:
أُمَّهَتِى خِنْدِفٌ وَإلْيَاسُ أبىِ «١»
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال. ومعناه: غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون، وسوّاكم وصوّركم، ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة. وقوله وَجَعَلَ لَكُمُ معناه:
وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به، من شكر المنعم وعبادته، والقيام بحقوقه، والترقي إلى ما يسعدكم. والأفئدة في فؤاد، كالأغربة في غراب، وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة، والقلة إذا لم يرد في السماع غيرها، كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير، فجرت ذلك المجرى.
[سورة النحل (١٦) : آية ٧٩]
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩)
قرئ: لم يروا، بالتاء والياء مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية «٢» لذلك. والجوّ: الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ والسكاك «٣»
إنى لدى الحرب رخى اللبب | معتزم الصولة عالى النسب |
لقصي بن كلاب بن مرة جد النبي صلى الله عليه وسلم. ورخى اللبب. رحب الصدر واسع البال. واللبب في الأصل جبل في صدر المطية يمنع الرحلة من الاستئخار، أطلق على ذلك للمجاورة. ومعتزم: مصمم. والصولة: تجشم المكروه واقتحامه. وزيادة الهاء في أمهة شاذ. وخندف، بكسر الخاء والدال: امرأة إلياس بن مضر، وهذا لقبها، واسمها ليلى. والخندفة: مشية كالهرولة. وإطلاق الأم والأب على الجدة والجد: مجاز لمطلق الأصالة.
(٢). قوله «والأسباب المواتية لذلك» في الصحاح آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة إذا وافقته والعامة تقول:
وأتيته. (ع)
(٣). قوله «والسكاك أبعد منه» في الصحاح السكاك والسكاكة الهواء الذي يلاقي أعنان السماء وفيه أيضاً أعنان السماء صفائحها وما اعترض من أقطارها. والعنان بالفتح السحاب. (ع)
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٠]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠)
مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تسكنونها من الحجر والمدر والأخبية وغيرها. والسكن: فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف بُيُوتاً هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع تَسْتَخِفُّونَها ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أى يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها «١»، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعاً، على أنّ اليوم بمعنى الوقت وَمَتاعاً وشيئاً ينتفع به إِلى حِينٍ إلى أن تقضوا منه أوطاركم. أو إلى أن يبلى ويفنى، أو إلى أن تموتوا. وقرئ: يوم ظعنكم، بالسكون.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨١]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)
مِمَّا خَلَقَ من الشجر وسائر المستظلات أَكْناناً جمع كنّ، وهو ما يستكنّ به من البيوت المنحوتة في الجبال والغيران والكهوف سَرابِيلَ هي القمصان والثياب من الصوف والكتان «٢» والقطن وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ لم يذكر البرد، لأنّ الوقاية من الحرّ أهمّ عندهم، وقلما يهمهم البرد لكونه يسيراً محتملا. وقيل: ما يقي من الحرّ يقي من البرد «٣» فدل ذكر الحرّ
أن المراد خفة ضربها وسهولة ذلك عليهم، والله أعلم.
(٢). قال محمود: «هي القمصان والثياب من الصوف والكتان وغيرها... الخ» قال أحمد: يعنى عند العرب وخصوصا قطان الحجاز، وهم الأصل في هذا الخطاب.
(٣). عاد كلامه. قال: «وقيل إن ما بقي الحر بقي البرد فدل ذكره عليه» قال أحمد: والأول أظهر. ألا ترى إلى تقديم المنة بالظلال التي تقى من الضحا، في قوله تعالى جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فدل على أن الأهم عند المخاطبين وقاية الحر، فامتن الله عليهم بأعظم نعمه موقعا عندهم. وقول القائل «إن ما يقي الحر يقي البرد» مشهود عليه بالعرف، فان الذي يتقى به الحر من القمصان رقيقها ورفيعها، وليس ذلك من البوس البرد، بل لو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين- القيظ والبرد- لباس الآخر، يعد من الثقلاء.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فلم يقبلوا منك فقد تمهد عذرك بعد ما أدّيت ما وجب عليك من التبليغ، فذكر سبب العذر وهو البلاغ ليدل على المسبب يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي عددناها حيث يعترفون بها وأنها من الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها بعبادتهم غير المنعم بها وقولهم: هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا. وقيل: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وقيل: قولهم لولا فلان ما أصبت كذا لبعض نعم الله. وإنما لا يجوز التكلم بنحو هذا إذا لم يعتقد أنها من الله وأنه أجراها على يد فلان وجعله سبباً في نيلها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أى الجاحدون غير المعترفين. وقيل نِعْمَتَ اللَّهِ نبوّة محمد عليه السلام، كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً، وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم. فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: الدلالة على أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة، لأنّ حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥)
شَهِيداً نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق، والكفر والتكذيب ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار. والمعنى. لا حجة لهم، فدل بترك الإذن على أن لا حجة لهم ولا عذر، وكذا عن الحسن وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا هم يسترضون، أى: لا يقال لهم أرضوا ربكم:
لأن الآخرة ليست بدار عمل. فإن قلت: فما معنى ثم هذه؟ قلت: معناها أنهم يمنون «٢» بعد
(٢). قوله «يمنون» في الصحاح: منوته ومنيته إذا ابتليته. (ع)
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
إن أرادوا بالشركاء آلهتهم، فمعنى شُرَكاؤُنَا آلهتنا التي دعوناها شركاء. وإن أرادوا الشياطين، فلأنهم شركاؤهم في الكفر وقرناؤهم في الغىّ: ونَدْعُوا بمعنى نعبد. فإن قلت: لم قالوا إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وكانوا يعبدونهم على الصحة؟ قلت: لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة. والدليل عليه قول الملائكة كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ يعنون أن الجن كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، فهم المعبودون دوننا. أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله من الشريك. وإن أريد بالشركاء الشياطين، جاز أن يكون «كاذبين» في قولهم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ كما يقول الشيطان: إنى كفرت بما أشركتمونى من قبل وَأَلْقَوْا يعنى الذين ظلموا. وإلقاء السلم: الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا وَضَلَّ عَنْهُمْ وبطل عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن لله شركاء، وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرؤا منهم.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٨]
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم، وحملوا غيرهم على الكفر: يضاعف الله عقابهم كما ضاعفوا كفرهم. وقيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها «١» أربعين خريفا. وقيل: يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل الله.
[سورة النحل (١٦) : آية ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى نبيهم، لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك تِبْياناً بيانا بليغاً ونظير «تبيان» «تلقاء» في كسر أوله، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لِكُلِّ شَيْءٍ؟
قلت: المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين، حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله ﷺ وطاعته. وقيل: وما ينطق عن الهوى. وحثاً على الإجماع في قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وقد رضى رسول الله ﷺ لأمته اتباع أصحابه، والاقتداء بآثارهم في قوله ﷺ «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» «١» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد، مستندة إلى تبيان الكتاب، فمن ثمّ كان تبيانا لكل شيء.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٠]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠)
العدل هو الواجب، «٢» لأن الله تعالى عدل فيه على عباده «٣» فجعل ما فرضه عليهم واقعاً
(٢). قال محمود: «العدل: الواجب. والإحسان: الندب» قال أحمد: وفي جمعهما تحت الأمر ما يدل لمن قال إن صيغة الأمر- أعنى هذه المبنية من الهمزة والميم والراء لا صيغة أفعل- تتناول القبيلين بطريق التواطؤ وموضعها القدر المشترك بينهما من الطلب والله أعلم.
(٣). عاد كلامه. قال: «وإنما كان الواجب عدلا لأن الله تعالى عدل فيه على عباده... الخ» قال أحمد:
وهذه وليجة من الاعتزال. ومعتقد المعتزلة استحالة تكليف ما لا يطاق لأنه ظلم وجور، وذلك على الله محال.
والحق والسنة أن كل قضاء الله عدل، وأن تكليف ما لا يطاق جائز عليه وعدل منه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ بل التكاليف كلها على خلاف الاستطاعة، على مقتضى توحيد أهل السنة، المعتقدين أن كل موجود بقدرة الله تعالى حدث ووجد، لا شريك له في ملكه، وكيف يكون شريكه عبداً مسخراً في قبضة ملكه، هذا هو التوحيد المحض.
وإذا كان العبد مكلفا بما هو من فعل الله، فهذا عين التكليف بما لا يطاق، ولكن ذلك عدل من الله تعالى، وحجته البالغة قائمة على المكلف بما خلقه له من التأتى والتيسر في الأفعال الاختيارية التي هي محال التكاليف،
الخ» قال أحمد: وهذه نكتة حسنة يجاب بها عن قول القائل: لم حكم عليه الصلاة والسلام بفلاح المصر على ترك السنن، فيقال: المحكوم بفلاحه لأجله إنما هو الصدق في سلامة الفرائض من خلل النقص والزيادة، والله أعلم. [.....]
(٢). متفق عليه من رواية طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضى الله عنهم.
(٣). أخرجه ابن ماجة والحاكم وأحمد وابن أبى شيبة والدارمي وأبو يعلى من رواية سالم بن أبى الجعد عن ثوبان. وهو منقطع. ورواه ابن حبان والطبراني من وجه آخر عن ثوبان. ورواه الحاكم من رواية الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. ورواه الطبراني والعقيلي من حديث سلمة بن الأكوع وفيه الواقدي. وأخرجه ابن أبى شيبة وإسحاق والبزار والطبراني عن ليث بن أبى سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، وليث ضعيف. وأشار البزار إلى أنه تفرد به.
(٤). عاد كلامه. قال: «والفواحش ما جاوز حدود الله، والمنكر ما تنكره العقول» قال أحمد: وهذه أيضا لفتة إلى الاعتزال، ولو قال: والمنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق، ولكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، والله الموفق.
(٥). عاد كلامه. قال: «والبغي طلب التطاول بالظلم» قال أحمد: وأصل موضوعه الطلب، ومنه ابتغاء وجه الله، ابتغاء مرضاة الله، ولكن صار مطلقه خاصا بطلب الظلم عرفا.
(٦). عاد كلامه. قال: «وحين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجه... الخ» قال أحمد: ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهناة، لاحظ التطبيق بين ذكر النهى عن البغي فيها، وبين الحديث الوارد: في أن المناصب لعلى باغ، حيث يقول عليه الصلاة والسلام لعمار وكان من حزب على:
تقتلك الفئة الباغية، والله أعلم، فقتل مع على يوم صفين.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
عهد الله: هي البيعة لرسول الله ﷺ على الإسلام إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ. وَلا تَنْقُضُوا أيمان البيعة بَعْدَ تَوْكِيدِها أى بعد توثيقها باسم الله. وأكد ووكد: لغتان فصيحتان، والأصل الواو، والهمزة بدل كَفِيلًا شاهداً ورقيباً، لأن الكفيل
ورواه النسائي أيضا من رواية شريك: قلت لأبى إسحاق: أسمعت البراء يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال يوم غدير خم «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» قال: نعم. وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار من وجه آخر عن شريك عن إدريس بن يزيد الأودي عن أبيه عن أبى هريرة وتابعه عكرمة بن إبراهيم عن إدريس عند الطبراني، ورواه الطبري أيضا من طريق سليمان بن قوم عن أبى إسحاق عن حبشي بن جنادة. وأخرجه النسائي أيضا من طريق مهاجر بن مسمار عن عائشة بنت سعد عن أبيها أن النبي ﷺ «أخذ بيد على يوم غدير خم فقال: من كنت وليه فهذا وليه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وأخرجه الحاكم من رواية مسلم الملائى عن حثمة بن عبد الرحمن عن سعد بن مالك نحوه وفي الباب عن ابن عمر أخرجه الطبراني من طريق عطية عنه والبزار من طريق جميل بن عمارة عن سالم عن أبيه وعن أنس وغيره أخرجه الطبراني في الصغير من رواية طلحة بن مصرف عن عميرة بن سعد قال: شهدت علياً على المنبر ناشد الصحابة: من سمعه يقول يوم غدير خم ما قال؟ فقام اثنا عشرة، منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس» وعن جرير أخرجه الطبراني مطولا: وعن طلحة أخرجه الحاكم من رواية رفاعة بن إياس العمى عن أبيه عن جده قال «كنا مع على يوم الجمل فبعث إلى طلحة فقال له: نشدتك الله، ألم تسمع رسول الله ﷺ يقول- فذكره، فقال: نعم. قال:
فلم تقاتلني؟ قال: لم أذكره وانصرف طلحة» وعن جابر أخرجه أبو يعلى، والطبراني في مسند الشاميين من طريق ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن قبيصة بن ذؤيب وأبى سلمة عن جابر، وعن حذيفة بن أسيد أخرجه الطبراني وجمع ابن عقدة طرف حديث غدير خم. فأخرجه من رواية جماعة آخرين من الصحابة مع هؤلاء: منهم عمار بن ياسر، والعباس وابنه، والحسن بن على والحسين بن على، وعبد الله بن جعفر، وسلمان الفارسي، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن حارثة. وأبو رافع، وزيد بن ثابت الأنصارى، ويعلى بن مرة وآخرون.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٣]
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، «٢» وهو قادر على ذلك وَلكِنْ الحكمة اقتضت أن يضلّ مَنْ يَشاءُ وهو أن يخذل من علم أنه يختار «٣» الكفر ويصمم عليه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان.
يعنى: أنه بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان، والثواب والعقاب، ولم يبنه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
(٢). قال محمود: «معناه على طريقة الإلجاء والقسر» قال أحمد: وهذا تفسير اعتزالى قد قدم أمثاله في أخوات هذه الآية، وغرضه الفرار من الحق المستفاد من تعليق المشيئة بلو، الدالة على أن مشيئة الله تعالى لايمان الخلق كلهم ما وقعت، وأنه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فايمان وكفر، وتصدق وتكذيب كما وقع منهم، ولو شاء شمولهم بالايمان لوقع، فيصادم الزمخشري هذا النص ويقول: قد شاء جعلهم أمة واحدة حنيفة مسلمة، ولكن لم يقع مراده. فإذا قيل له: فعلام تحمل المشيئة في الآية؟ قال: على مشيئة إيمانهم قسراً لا اختياراً، وهذه المشيئة لم تقع اتفاقا.
(٣). قوله «وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر» هذا عند المعتزلة. أما عند أهل السنة، فالاضلال:
خلق الضلال في القلب، لأنه يجوز على الله خلق الشر عندهم دون المعتزلة، كما بين في محله. (ع)
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٤]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤)
ثم كرر النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا بينهم، تأكيداً عليهم وإظهاراً لعظم ما يركب منه فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتزلّ أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وَتَذُوقُوا السُّوءَ في الدنيا بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وخروجكم من الدين. أو بصدّكم غيركم، لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا، لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٥]
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥)
كان قوما ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان- لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد- أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثبتهم الله، وَلا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا بِعَهْدِ اللَّهِ وبيعة رسول الله ﷺ ثَمَناً قَلِيلًا عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة خَيْرٌ لَكُمْ.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٦]
ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦)
ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد.
وقرئ لَنَجْزِيَنَّ بالنون والياء الَّذِينَ صَبَرُوا على أذى المشركين ومشاقّ الإسلام. فإن
(١). قوله «ولو كان هو المضطر إلى الضلال» على معنى اسم الفاعل، أى الذي يضطر العباد ويلجئهم. وقوله «لما أثبت | الخ» مسلم، ولكنه لم يضطرهم ولم يلجئهم ولو كان هو الخالق لأعمالهم في الحقيقة، لما لهم فيها من الكسب كما قرره أهل السنة في علم التوحيد، فلينظر. (ع) |
أما أهل السنة الذين يسميهم المصنف مجبرة فهم من الإجبار بمعزل، لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختياراً وأفعالا، وهم مع ذلك يوحدون الله حق توحيده، فيجعلون قدرته تعالى هي الموجدة والمؤثرة، وقدرة العبد مقارنة فحسب، تمييزاً بين الاختياري والقسري وتقوم بها حجة الله على عبده، والله الموفق.
[سورة النحل (١٦) : آية ٩٧]
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)
فإن قلت: مَنْ متناول في نفسه للذكر والأنثى، فما معنى تبيينه بهما؟ قلت: هو مبهم صالح على الإطلاق للنوعين إلا أنه إذا ذكر كان الظاهر تناوله للذكور، فقيل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على التبيين، ليعمّ الموعد النوعين جميعاً حَياةً طَيِّبَةً يعنى في الدنيا وهو الظاهر، لقوله وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ وعده الله ثواب الدنيا والآخرة، كقوله فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وذلك أنّ المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً، فلا مقال فيه. وإن كان معسراً، فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله. وأمّا الفاجر فأمره على العكس: إن كان معسراً فلا إشكال في أمره، وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وعن ابن عباس رضى الله عنه: الحياة الطيبة: الرزق الحلال.
وعن الحسن: القناعة. وعن قتادة: يعنى في الجنة. وقيل: هي حلاوة الطاعة والتوفيق في قلبه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)
لما ذكر العمل الصالح ووعد عليه، وصل به قوله فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إيذاناً بأن الاستعاذة من جمله الأعمال الصالحة التي يجزل الله عليها الثواب. والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ كقوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وكقولك: إذا أكلت فسمّ الله. فإن قلت: لم عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان منه بسبب قوىّ وملابسة ظاهرة. وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قرأت على رسول الله ﷺ فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم،
أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته إِنَّما سُلْطانُهُ على من يتولاه ويطيعه بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير يرجع إلى ربهم. ويجوز أن يرجع إلى الشيطان، على معنى:
بسببه وغروره ووسوسته.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠١]
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
تبديل الآية مكان الآية: هو النسخ، والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لأنها مصالح، وما كان مصلحة أمس يجوز أن يكون مفسدة اليوم، وخلافه مصلحة. والله تعالى عالم بالمصالح والمفاسد، فيثبت ما يشاء وينسخ ما يشاء بحكمته. وهذا معنى قوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ وجدوا مدخلا للطعن فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا، فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟
قلت: فيه أن قرآناً ينسخ بمثله وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٢]
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
في يُنَزِّلُ ونَزَّلَهُ وما فيهما من التنزيل شيئاً فشيئاً على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح كالتنزيل، وأنّ ترك النسخ بمنزلة إنزاله دفعة واحدة في خروجه عن الحكمة. ورُوحُ الْقُدُسِ جبريل عليه السلام، أضيف إلى القدس وهو الطهر، كما يقال:
حاتم الجود وزيد الخير، والمراد الروح المقدّس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدّس: المطهر
[سورة النحل (١٦) : آية ١٠٣]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣)
أرادوا بالبشر: غلاما كان لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب. وقيل: هو جبر، غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي. وقيل عبدان: جبر ويسار، كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول الله ﷺ إذا مرّ وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما، فقال: بل هو يعلمني.
وقيل: هو سلمان الفارسي. واللسان: اللغة. ويقال: ألحد القبر ولحده، وهو ملحد وملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن استقامة، فقالوا:
ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه. ومنه الملحد، لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، لم يمله عن دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أَعْجَمِيٌّ غير بين وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة ردّا لقولهم وإبطالا لطعنهم. وقرئ يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء. وفي قراءة الحسن: اللسان الذي يلحدون إليه بتعريف اللسان.
فإن قلت: الجملة التي هي قوله لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ما محلها؟ قلت: لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم. ومثله قوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ بعد قوله وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥)
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أى يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ ردّ لقولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ يعنى: إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه لا يترقب عقاباً عليه وَأُولئِكَ إشارة إلى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ أى هم
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٩]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩)
مَنْ كَفَرَ بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله، على أن يجعل وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراضاً بين البدل والمبدل منه. والمعنى: إنما يفترى الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه.
واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء، ثم قال وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أى طاب به نفسا واعتقده فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ ويجوز أن يكون بدلا من المبتدإ الذي هو أُولئِكَ على: ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون. أو من الخبر الذي هو الكاذبون، على: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه. ويجوز أن ينتصب على الذمّ. وقد جوّزوا أن يكون مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ شرطاً مبتدأ، ويحذف جوابه، لأنّ جواب مَنْ شَرَحَ دال عليه، كأنه قيل: من كفر بالله فعليهم غضب، إلا من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب. روى أنّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار، وأبواه- ياسر وسمية- وصهيب، وبلال، وخباب، وسالم: عذبوا، فأمّا سمية فقد ربطت بين بعيرين وو جيء في قبلها بحربة، وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقتل ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها، فقيل يا رسول الله، إن عماراً كفر، فقال: «كلا، إنّ عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه» فأتى عمار رسول الله ﷺ وهو يبكى، فجعل النبي ﷺ يمسح عينيه، وقال: «مالك! إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» ومنهم جبر مولى الحضرمي، أكرهه سيده فكفر ثم أسلم مولاه
قال أنت أيضاً، فخلاه. وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله. قال: فما تقول فىّ؟
قال أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثاً، فأعاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: «أما الأوّل فقد أخذ برخصة الله. وأمّا الثاني فقد صدع بالحق فهنيئاً له «٢» » ذلِكَ إشارة إلى الوعيد، وأنّ الغضب والعذاب يلحقانهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة، واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، الذين لا أحد أغفل منهم، لأنّ الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. ومعنى:
إنّ ربك لهم، أنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم لا عدوّهم وخاذلهم، كما يكون الملك الرجل لا عليه، فيكون محمياً منفوعا غير مضرور مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بالعذاب والإكراه على
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة قال: حدثنا إسماعيل بن علية عن يونس عن الحسن «أن عيونا لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين فأتوه بهما فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه وقال: إنى أصم، فأعاد عليه، فقال مثله، فأمر بقتله. وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنى رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله. فأتى النبي ﷺ فقال: هلكت.
فقال: وما شأنك؟ فأخبره بقصته وقصة صاحبه فقال أما صاحبك فمضى على إيمانه. وأما أنت فأخذت بالرخصة.
وأخرجه عبد الرزاق في التفسير عن معمر قال: سمعت أن مسيلمة أخذ رجلين فذكره بنحوه. وذكر الواحدي في المغازي أن اسم المقتول: حبيب بن زيد عم عباد بن تميم، واسم الآخر: عبد الله بن وهب الأسلمي. قال: وكان في الساقة. وذكروا أنه قطعه عضواً عضواً وأحرقه بالنار.
نفسي نفسي. ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار عنها كقوله هؤُلاءِ أَضَلُّونا، ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ونحو ذلك.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٢ الى ١١٣]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أى جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة، فكفروا وتولوا، فأنزل الله بهم نقمته. فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن تكون في قرى الأوّلين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها مُطْمَئِنَّةً لا يزعجها خوف، لأن الطمأنينة مع الأمن، والانزعاج والقلق مع الخوف رَغَداً واسعاً. والأنعم: جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع وأدرع.
أو جمع نعم، كبؤس وأبؤس. وفي الحديث. نادى منادى النبي ﷺ بالموسم بمنى:
«إنها أيام طعم ونعم فلا تصوموا «١» ». فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار، فما وجه صحة إيقاعها عليه «٢» ؟ قلت:
(٢). قال محمود: «إن قلت الاذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحة إيقاع الاذاقة على اللباس... الخ» ؟
قال أحمد: وهذا الفصل من كلامه يستحق على علماء البيان أن يكتبوه بذوب التبر لا بالحبر، وقد نظر إليهما جميعاً في قوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فاستعير الشراء لاختيارهم الضلالة على الهدى، وقد كانوا متمكنين من اختياره عليها، ثم جاء ملاحظا الشراء المستعار قوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فاستعمل التجارة والربح ليناسب ذلك لاستعارة الشراء، ثم جاء ملاحظا الحقيقة الأصلية المستعار لها قوله وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فانه مجرد عن الاستعارة، إذ لو قيل أولئك الذين ضلوا وما كانوا مهتدين، لكان الكلام حقيقة معرى عن ثوب الاستعارة والنظر إلى المستعار في بابه، كترشيح المجاز في بابه. ومنه:
إذا الشيطان قصع في قفاها... تنفقناه بالحبل التؤام
فجعل الشيطان في قفاها قاصعاً ثم نافقاً، ثم جعله مستخرجا بالحبل المحكم المثنى كما يستخرج الحيوان من جحره، والشوط في هذا الفن البديع فطين، والله الموفق.
أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه هاهنا. ونحوه قول كثير:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكاً | غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ «٢» |
أن ينظروا فيه إلى المستعار، كقوله:
يُنَازِعُنِى رِدَائِى عَبْدُ عَمْرٍو | رُوَيْدَكَ يَا أَخَا عَمْرِو بْنِ بَكْر |
لِىَ الشّطْرُ الَّذِى مَلَكَتْ يَمِينِى | وَدُونَكَ فَاعْتَجِرْ مِنْهُ بِشَطْرِ «٤» |
(٢). لكثير. والغمر: الكثير. وشبه العطاء بالرداء، لأنه يصون عرض صاحبه أو يستر فقر السائل، فاستعاره له على سبيل التصريحية وإضافة الغمر إليه تجريد، لأنه يلائم المشبه. هذا وقد يقال الغمر، يطلق على الماء الذي يغمر قامة المنغمس فيه، فيجوز أنه يشبه العطاء من حيث صونه عرض صاحبه بالرداء، فيكون استعارة مصرحة، وتكون إضافة الغمر إليه من إضافة المشبه به للمشبه، يجامع عموم كل ونفعه، والقرينة على كل ذلك قوله: إذا تبسم. شارعا في الضحك: غلقت لضحكته رقاب المال: يقال: غلق الرجل إذا ضجر وغضب، وغلق الرهن إذا ملكه المرتهن ولم يقدر صاحبه على فكه، وكانت تلك عادتهم. فالمعنى: إذا ضحك غضبت الأموال لعلها أنها ستؤخذ ويملكها غيره، أو ثبتت في أيدى السائلين وملكوها. ورقاب المال: مجاز مرسل، أى أعيانه.
(٣). قوله «ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف» في الصحاح الغمر الماء الكثير. وفيه «الاعتجار» لف العمامة على الرأس، وفيه «الضافي» السابغ. (ع)
(٤). استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما، كالشىء يتجاذبه اثنان. واستعار الرداء السيف بجامع حفظ كل لصاحبه وعدم الاستغناء عنه. والاعتجار ترشيح، ومعناه: التعمم أو التلفع، فهو ملائم الرداء. ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو: فاعل. ورويدك: اسم فعل، بمعنى أمهل، والكاف حرف خطاب، قاله الجوهري. وبالنظر لأصله فهو مصدر، والكاف مضاف إليه، وفيه التفات. وبكر:
أبو قبيلة. والشطر الذي ملكته يمينه: هو مقبض السيف. ودونك: اسم فعل بمعنى خذ» أى خذه فتلفع منه بالشطر الآخر وهو صدره، والأمر للاباحة، وفيه نوع تهكم»
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥)
لما وعظهم بما ذكر من حال القرية وما أوتيت به من كفرها وسوء صنيعها، وصل بذلك بالفاء في قوله فَكُلُوا صدّهم عن أفعال الجاهلية ومذاهبهم الفاسدة التي كانوا عليها، بأن أمرهم بأكل ما رزقهم الله من الحلال الطيب، وشكر إنعامه بذلك، وقال إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ يعنى تطيعون. أو إن صحّ زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة، لأنها شفعاؤكم عنده. ثم عدد عليهم محرمات الله، ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم، دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧)
وانتصاب الْكَذِبَ بلا تقولوا، على: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا من غير استناد ذلك الوصف إلى وحى من الله أو إلى قياس مستند إليه. واللام مثلها في قولك:
ولا تقولوا لما أحل الله هو حرام. وقوله هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من الكذب.
ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول، أى: ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم،
واللام في لِتَفْتَرُوا من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أى منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٨]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يعنى في سورة الأنعام.
[سورة النحل (١٦) : آية ١١٩]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)
بِجَهالَةٍ في موضع الحال، أى: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢)
كانَ أُمَّةً فيه وجهان، أحدهما: أنه كان وحده أمّة من الأمم «١» لكماله في جميع صفات
وَلَيْسَ عَلَى اللَّهِ بِمُسْتَنْكَرٍ | أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِى وَاحِدِ «١» |
قولا لهارون إمام الهدى | عند احتفال المجلس الحاشد |
أنت على ما بك من قدرة | فلست مثل الفضل بالواحد |
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
(٢). قوله «كالرحلة» في الصحاح «الرحلة» بالضم: الوجه الذي تريده، وبالكسر: الارتحال. (ع)
(٣). أخرجه الطبراني والحاكم وأبو نعيم في الحلية. من رواية علية عن منصور عن عبد الرحمن عن الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعى قال قال ابن مسعود. فذكره. لكن ليس فيه: فقلت له «غلطت» بل فيه فقيل له: إن ابراهيم. وفيه «وكان معاذ بن جبل يعلم الناس الخير. وكان مطيعا لله ورسوله» ورواه الحاكم أيضاً من رواية شعبة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال «إن معاذا كان أمة قانتا لله» فقال رجل من أشجع يقال له: فروة ابن نوفل: إنما ذاك ابراهيم. فقال عبد الله: إنا كنا نشبهه بإبراهيم- الحديث» وأخرجه عبد الرزاق. ومن طريق الحاكم قال أخبرنا الثوري عن فراس نحوه.
(٤). لم أجده
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٣]
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ في «ثم» هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله»
صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتى خليل الله إبراهيم من الكرامة، وأجلّ ما أولى من النعمة: اتباع رسول الله ﷺ ملته، من قبل أنها دلت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليه بها.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٤]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
السَّبْتُ مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها. والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرّموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعد ما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه وتعظيمه.
والمعنى في ذكر ذلك، نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا، وغير ما ذكر، وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته. فإن قلت:
ما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرّمين؟ قلت: معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف
وإنما تفيد ذلك ثم لأنها في أصل وضعها لتراخى المعطوف عليه في الزمان، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى رتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى: وهاهنا ما هو أعلى من ذلك كله قدراً وأرفع رتبة وأبعد رفعة، وهو أن النبي الأمى الذي هو سيد البشر متبع لملة إبراهيم، مأمور باتباعه بالوحي، متلو أمره بذلك في القرآن العظيم. ففي ذلك تعظيم لهما جميعا، لكن نصيب النبي ﷺ من هذا التعظيم أوفر وأكبر على ما مهدناه، والله الموفق للصواب.
[سورة النحل (١٦) : آية ١٢٥]
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥)
إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى الإسلام بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. ويجوز أن يريد القرآن، أى: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين، من غير فظاظة ولا تعنيف إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بهم فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل والنصيحة اليسيرة، ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل، وكأنك تضرب منه في حديد بارد.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
سمى الفعل الأول باسم الثاني للمزاوجة. والمعنى: إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه، فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه. وقرئ: وإن عقبتم فعقبوا، أى: وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم.
روى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد: بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحداً غير ممثول به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول الله ﷺ على حمزة وقد مثل به، وروى:
فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي، وأوصيكم بخواتم سورة النحل.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته، كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية» «٣»
(٢). قلت روى ذلك عن جماعة من الصحابة.
(٣). رواه الثعلبي وابن مردويه. وقد تقدم سنده في آل عمران.