ﰡ
نزولها: مكية.. وقيل إلا بعض الآيات منها فمدنية عدد آياتها: ثمان وتسعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآيات: (١- ٦) [سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
التفسير:
مناسبة هذه السورة لسورة الكهف قبلها، أنها اشتملت على آيات وخوارق، على نحو ما اشتملت عليه سورة الكهف، التي ضمّت على هذه الآيات العجيبة.. فى أصحاب الكهف، وفى صاحب الجنّتين، وفى موسى، والعبد الصالح.. ثم فى ذى القرنين، وما جرى على يديه!.
وفى سورة مريم هذه، تعرض السورة آيات من قدرة الله، نجدها فى استجابته سبحانه لدعوة عبد من عباده هو زكريّا عليه السلام، إذ رزقه الولد على الكبر، وعلى ما كان من امرأته من عقم.. كما نجد تلك الآية العجيبة فى ميلاد المسيح- عليه السلام- من غير أب!
إلى قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ».. فعيسى عليه السلام، ليس إلا كلمة من كلمات الله التي لا تنفد.. كما يقول سبحانه:
«إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (١٧١: النساء).
قوله تعالى:
«كهيعص»...
بهذه الأحرف الخمسة تبدأ السورة، وهى تكاد تكون فريدة فى هذا البدء، بذلك العدد الكثير من الحروف، لا يشاركها فى هذا إلا سورة الشورى، فقد بدأت مثلها بخمسة أحرف مرتبة على هذا النحو: «حم عسق».. وقد انفردت كل منهما بأربعة أحرف، واشتركتا معا فى حرف واحد هو العين.
ولا نستطيع أن نعل لهذه الكثرة من الحروف، فذلك وجه من وجوه إعجاز القرآن الذي لا يزال سرا محجبا لم ينكشف لنا. وإن يكن قد انكشف للراسخين فى العلم، فجعلوه سرا، لم يؤذن لهم البوح به! قوله تعالى:
«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا».
- «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف تقديره، هذا، و «عبده» مفعول به للمصدر «ذكر» و «زكريا» بدل من «عبده».
- ومعنى «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» أي: هذا خبر رحمة ربك، وألطافه بعبده زكريا..
والنداء هنا معناه: الدعاء، كما ذكر ذلك فى قوله تعالى: «هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» (٣٨: آل عمران).
والنداء الخفي: هو الدعاء فى سرّ، دون جهر ومعالنة.. إذ كان ذلك فيما بينه وبين ربه.. بعيدا عن أعين الناس، وأسماع الناس.
وقد يكون هذا الدعاء من خواطر النفس، وأمانىّ الفؤاد. ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى، قد سمعه، وعلمه، وجعله قولا مصوّرا فى كلمات، منطوقا باللسان.. وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا».
هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا ربه..
وقد بدأه أولا بهذا التذلل والتشكّى إلى الله.. وفى هذا الموقف، يقف العبد من ربه الموقف الذي ينبغى أن يكونه.. فهو عبد ضعيف، فقير، ذليل، بين يدى السيد القوى العزيز.. من بيده ملكوت السموات والأرض.
وهكذا ينبغى أن يكون الأدب من العبد بين يدى ربه.. وبهذا يكون فى معرض من أن يؤذن له بالقرب من ربه، وأن يلقى الرضا والقبول.
ووهن العظم، ضعفه ودقته.. وإذا ضعف عظم الإنسان ووهى، أو شك أن ينهار بنيانه، وأن تنقض أركانه.. فهيكل الإنسان هو هذا العظم، الذي يقوم به شكله، وتتحدد به هيئته..
وقوله: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي» أبلغ فى الإبانة عن الضعف، وذهاب القوة، من قوله: «وهن عظمى».. إذ أن القول الأول يشير إلى أنه لا عظم معه، بل لقد ذهب هذا العظم، وما بقي منه فإنه لا غناء فيه.. أما القول الآخر فإنه يحدّث عن أن معه عظما، وأنه لا زال يملكه ويحرص عليه..
- وقوله: «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» أبلغ كذلك فى الإبانة عن استيلاء الشيب على الرأس كلّه، من قوله: «واشتعل رأسى شيبا».. فإن فى النظم الذي جاء عليه القرآن دلالة على أن هذا الرأس كائن غريب يكاد ينكره صاحبه، لأنه أصبح بهذا الشيب على صورة غير تلك الصورة التي عهده صاحبه عليه منذ عرف أن له رأسا.. فهذا الرأس كان أسود الشعر، أو أصفره.. ثم ها هو ذا يراه وقد استحال إلى بياض معتم، كرماد تخلّف من النّار! - وقوله: «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» استحضار لما لله سبحانه وتعالى من سوابق الإحسان، وسوابغ الفضل على هذا العبد.. فما خذله ربّه أبدا، فى أي موقف لجأ إليه فيه، وما ردّ ربه يده فارغة فى أىّ حال مدّ إليه يده فيها.. وهو فى هذه المرّة على رجاء من أن يستجاب له فى يومه، كما استجيب له فى أمسه! - وقوله: «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا».
هنا- وبعد أن أدّى زكريّا ما يجب من الولاء لربّه، واللّجأ إلى فضله وإحسانه،
إنّه لا ولد له، والولد رغيبة تهفو إليها نفوس الآباء والأمهات، لا فرق فى هذا بين إنسان وإنسان، حيث يجد المرء فى الولد امتدادا لحياته، وروحا لروحه، وأنسا لقلبه..!
وقد كان زكريا- شأنه شأن كل رجل- يرجو أن يكون له ولد من صلبه، يتلقّى عنه رسالته فى الحياة من بعده، وهاهوذا قد بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد، وهو يرى من أهله وقرابته، من ينتظر موته ليرث مخلّفاته، وكانوا شرار بنى إسرائيل.. فحزن لهذا، واشتدت رغبته فى الولد، ليقطع به على هؤلاء الطامعين فيه، والمتعجلين موته- آمالهم.. ولكن أنّي يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر ما بلغ، إلى ما عليه امرأته من عقم؟
ولم يكن بين يدى زكريا إلّا هذه الخواطر، يردّدها فى صدره، ويتعزّى بها بينه وبين نفسه، ويدعو ربّه أن يجعل من هذه الخواطر، واقعا فى يده.
- وفى قوله: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ».. ما يسأل عنه.. وهو:
كيف يطلب أن يكون له ولد يرثه، والأنبياء لا تورث.. كما فى الحديث:
«نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة» ؟
والجواب على هذا، هو أن الميراث، هنا ليس ميراث مال، ولا متاع، وإنما هو ميراث خلافة، يقوم فيها الخلف مقام السّلف.. حيث يكون الولد وارثا لاسم أبيه، وأصلا سلسلة النسب الممتدة من الأجداد، إلى الآباء، إلى الأبناء..
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
التفسير:
فى هذه الآيات نجد ما يأتى:
أولا: قد استجاب الله لزكريا ما طلب، وهو فى مقام الدعاء لم يبرحه بعد..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (٣٩: آل عمران) كما يشير إلى هذا أيضا، ما جاء عليه النظم القرآنى فى هذه الآية، حيث لم تصدّر بقول، بل جاءت بمقول القول هكذا: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى».. وهذا يعنى أن زكريّا كان فى مقام التخاطب مع الله سبحانه وتعالى.. فهو يدعو، والله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب.
وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي اختار للولد اسمه، فسمّاه «يحيى».. وهو اسم لم يسمّ به أحد قبله..
وفى تسميته بيحيى، إشارة إلى أنه سيبقى له ذكر مخلّد فى هذه الحياة، وأن
وثالثا: أن عجب زكريّا ودهشه من أن يولد له ولد، وهو يعلم أن الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأنه إذ يعلم هذا فقد طلب الولد، وهو فى حال لا يولد منه ومن امرأته العقيم ولد- نقول: إن عجبه ودهشه لم يكن متوجها إلى الله سبحانه وإلى قدرته، وإنّما كان عجبا ودهشا من نفسه ومن زوجه أن يكون لهما ولد، وأن يراهما الناس وقد ولد لهما بعد هذا الزمن الطويل الذي عاشاه بغير ولد.. وقد جاء قوله تعالى: «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» - جاء هذا القول من الله تعالى، ليسكن به قلب زكريّا الذي طارت به الفرحة، واستبدّت به المفاجأة بهذا الأمر العجيب! ورابعا: استعجل «زكريا» الإمساك بهذا الولد الذي كان حلم حياته، فأراد ألّا يخرج من هذا المقام الذي هو فيه، دون أن يكون بين يديه أثر من هذا الولد، يمسك به، ويتعلل بالحياة معه، حتى يحين مولده، ولهذا قال: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! فهو يريد الآية التي يرى من خلالها وجه هذا الغلام، الذي طال انتظاره له.. فجاء قوله تعالى: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا»..
فكانت آيته أن يحبس الله لسانه عن الكلام لغير علة ثلاثة أيام، وثلاث ليال كاملة، لا يتعامل مع الناس فيها إلا بالرمز والإشارة..
وقد جعل بعض المفسّرين هذه الآية ضربا من الأدب، أو نوعا من العقوبة لزكريا، على اعتبار أن طلب الآية إنما هو لطلب اليقين من قدرة الله! وهذا فهم لا يستقيم، مع تلك النعم، وهذه الألطاف التي يفيضها الله على عبده زكريا..
وخامسا: فى قوله تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» نداء من الله ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو فى عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو فى عالم الشهادة..
إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند الله، ومع قدرة الله، وفى علم الله.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه الله سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!!
وهكذا سيكون «يحيى» على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد فى تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو فى سن الصبا.. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا».. والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها فى الأمور التي تعرض له..
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦)
هذه الآيات تحدث عن قصة مريم، وعن ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، على تلك الصورة العجيبة، التي جاءت على غير مألوف المواليد من الأحياء فى عالم البشر خاصة.
وقد ذكرت هذه القصة فى سورة آل عمران، تالية لقصة ميلاد يحيى، كما جاءت على هذا الترتيب هنا..
غير أننا إذ نكتفى بما قلنا فى تفسير الآيات الواردة عن هذه القصة فى آل عمران.. نودّ أن نفسر هنا بعض المفردات، ثم نشير إلى ما لا بد من الإشارة إليه من مضامين القصة الواردة هنا..
انتبذت: انتحت ناحية، وأخذت مكانا خاصا.. وفى التعبير عن هذا بالانتباذ، ما يشير إلى أنها كانت فى حال خاصة، تتكرّه فيها أن تختلط بالناس..
والرّوح: الملك، ويغلب أن يكون وصفا خاصا بجبريل عليه السلام..
والبغيّ: الفاجرة الزانية.. وهو من البغي والعدوان..
أجاءها المخاض: ألجأها واضطرها.. والمخاض ما يعترى المرأة وقت الولادة.
والنّسى المنسيّ: الشيء التافه الذي لا يحرص أصحابه على الإمساك به، ولا يذكرونه إذا ضاع منهم..
العظيم من الناس، المحمود فيهم..
والشيء الفرىّ: هو الغريب العجيب، الذي يجىء على غير مألوف الناس، فيفرى: أي يخرق عاداتهم..
والذي نريد أن نشير إليه من هذه القصة:
أولا: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ»
هو تنويه بشأنها، وذلك بإفساح مكان لها فى القرآن الكريم، تذكر فيه، مع من يذكر من عباد الله المخلصين..
وثانيا: فى سورة آل عمران، جاء قوله تعالى: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» (٤٥: آل عمران)..
فالخطاب موجه إلى مريم من جماعة من الملائكة.. وهنا فى سورة مريم يكون الخطاب بينها وبين ملك واحد: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا».
«قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا»
.. فما وجه هذا الخلاف فى الموضعين، والقصة واحدة؟.
ونقول: إن المراد بالملائكة هناك هو عالم الملائكة، الممثل فى واحد أو أكثر كما فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» (١٧٣: آل عمران) حيث يصح أن يكون القائل واحدا من الناس لا جماعة منهم..
والذي يشهد لهذا أنه حين استمعت مريم إلى ما حدثها به عالم الملائكة وأظهرت عجبا واعتراضا على ما حدّثت به- كان الذي تولى دفع هذا العجب
وثالثا: لم تشر الآيات فى آل عمران إلى أن أحدا من الملائكة قد تمثل لها فى صورة بشر، وهنا قد أشارت الآيات إلى أن «الروح» قد تمثل لها بشرا سويا..
فما جاء هنا مكمل للصورة التي جاءت هناك، شارح لها، على حين يمكن أن تستقل كل صورة بالكشف عن الحدث، دون أن يختلف وجه الحقيقة بينهما..
ورابعا: فى قوله تعالى: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» إشارة إلى أن عيسى عليه السلام قد ولد ميلادا طبيعيا من رحم أمه، كما يولد غيره من الناس، وكما تلد الأمهات أبناءهن.. وأن مريم قد حملت به حملا طبيعيا، حتى إذا استوفت مدة حمله، وأحست بالمخاض لجأت إلى جذع نخلة، واستندت إليها، حتى تجد القوة على دفع الحمل من رحمها..
وخامسا: قوله تعالى: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا»..
اختلف فى المنادى لها: أهو ملك؟ أم وليدها الذي بدأ يتحرك إلى العالم الخارجي؟..
والذي نأخذ به، هو أن المنادى لها، لا يكون ملكا، إذ لو كان ملكا لناداها من علوّ، وهو الجهة المتنزل منها.. وأنه إذا كان المنادى ملكا فلم يجىء إليها من تحت لا من فوق؟ وإذن فالمنادى لها هو من كان تحتها بالفعل، وهو وليدها!..
وفى حديث وليدها إليها فى هذا الوقت، ما يكشف لها عن التجربة التي
وسادسا: فى قوله تعالى: «يا أُخْتَ هارُونَ»..
اختلف فى هرون هذا.. من يكون؟ أهو هرون النبىّ أخو موسى؟
أم هو أخ لها من أبيها؟ أم هو رجل صالح معروف بين قومها بالتقوى؟ أم هو رجل فاجر يضرب به المثل عندهم لكل من يأتى منكرا؟
والذي نأخذ به أن «هرون» هذا هو هرون النبىّ، وقد أضيفت إليه، ولم تضف إلى موسى، لأنها كانت من نسل هرون، ولأن موسى لم يعقب نسلا..
وأضيفت إليه إضافة أخوة، لا إضافة بنوّة، لأن أبناء هرون، وذريته المتعاقبة منهم لم يكونوا على حال واحدة من الاستقامة والتقوى، ففيهم الصالح، وفيهم الفاسد،.. فهى وإن كانت بنت هرون نسبا، هى أخته وصنوه استقامة وصلاحا!..
وسادسعا: قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ»..
هو تعقيب على القصة، وعلى ميلاد هذا المولود على تلك الصورة التي أوقعت كثيرا من الناس فى الضلال، فاتخذوا منه إلها، وجعلوه وجها من
وهذا التعقيب، قد يكون على لسان عيسى عليه السّلام.. كاشفا به عن حقيقته، وأنه إن يكن قد ولد لغير أب، أو تكلّم يوم مولده، فإن ذلك لم يكن ليخرجه عن حدود البشرية، ولم يكن ليجعل له إلى الألوهية سبيلا من أي وجه، وعلى أية صفة.. وقد يكون ذلك قولا ينبغى أن يقوله كل من يستمع إلى آيات الله التي تحدّث بها القرآن، عن مولد عيسى، فيصدّق بها، وينظر من خلالها إلى جلال الله وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر..
فالذين يمترون فى عيسى، ويجادلون فى أمره، بين من يرميه بأنه ابن سفاح، وبين من يقول إنه إله أو ابن إله- هؤلاء الذين يمترون فيه، قد كشف لهم عيسى عن وجهه، وتحدث إليهم بلسانه.. إنه عيسى بن مريم، وذلك هو القول الحق الذي ينبغى أن يقال فيه.. فهو ابن امرأة، لم تجىء به من رجل، وإنما من نفخة تلقتها من روح الله.. وانتماؤه أولا وأخيرا إلى أمّه، التي حملت به، ووضعته وأرضعته.. أما القول بأنه ابن الله، فهو قول آثم، سفيه «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ.. سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ولو شاء- سبحانه- أن يخرج عيسى إلى هذه الدنيا من غير أب أو أم لما كان ذلك بالمعجز لقدرة الله.. «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٥٩: آل عمران).
ويكفى أن يكون آخر ما نطق به عيسى أن قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» ويكفى أن يكون آخر ما نطق به فى مهده: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» - يكفى هذا ليكون شهادة تبطل كل قول يقال فيه، غير الذي نطق هو به.
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
الأحزاب، هم الطوائف والجماعات، التي اختلفت فى شأن المسيح، وهم اليهود والنصارى، على مختلف مذاهبهم فيه..
فاليهود، يقولون عنه إنه ابن زنى، أو إنه ابن رجل كان يخدم مع أمّه فى الهيكل، اسمه يوسف النجار..
والنصارى، يقولون: إنه ابن الله، أو إنه هو الله ذاته، يمثّل أحد أوجه الثالوث المقدس لله- كما يزعمون- وهو وجه الابن..
والفاء فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ» هى فاء التفريع، التي تفيد العليّة والسببيّة، حتى لكأن دعوتهم إلى عبادة الله، واعتبار المسيح عبدا من عباده الله- لكأن هذا كان داعيا لهم، إلى أخذ هذه السبل الضالة المنحرفة..
- وقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» هو وعيد، وتهديد لهؤلاء المختلفين فى شأن المسيح، وفى النظر إليه على مستوى دون، أو فوق مستوى رسول من رسل الله.. فكل من قال فيه قولا يخرج به- صعودا، أو نزولا- عن هذا المستوي، فهو كافر، له الويل والهوان من عذاب يوم القيامة.
قوله تعالى:
«أَسْمِعْ بِهِمْ، وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».
- «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا»، هو تعجب من رفاهة سمعهم، وحدّة بصرهم، يوم القيامة.
والمراد بهؤلاء المتعجّب من سمعهم وبصرهم، هم أولئك الكافرون، الذين اختلفوا فى أمر المسيح هذا الخلاف الأثيم الضالّ، فلم يسمعوا ما قيل لهم على لسان المسيح، ولم يعقلوه، ولم يكن لهم من أبصارهم وبصائرهم ما يعدل بهم عن طريق الضلال التي ركبوها، فمضوا على هذا الضلال، ودخلوا به مداخل الكفر، حتى ماتوا على ما هم عليه.. من ضلال وكفر.
فهؤلاء الذين أصمّوا آذانهم، وأغمضوا أعينهم فى الدنيا، سيكونون يوم القيامة على حال من قوة السمع، وحدّة البصر، بحيث لا تفوتهم همسة، ولا تغيب عن أعينهم كبيرة أو صغيرة.. هنالك تتردد فى آذانهم أصداء ما سمعوا من آيات الله، وينكشف لأعينهم ما عموا عنه فى دنياهم من أمارات الهدى..
- وقوله تعالى: «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ».. لكن هنا للاستدراك والتعقيب على هذا الوصف الذي يكون عليه هؤلاء الظالمون يوم القيامة.. إنهم يوم القيامة سامعون مبصرون.. لكنهم اليوم، أي اليوم الذي هم فيه فى الدنيا، فى ضلال مبين، لا يسمعون ولا يبصرون.
قوله تعالى:
«وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».
هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو أمر له صلوات الله وسلامه عليه بأن ينذر المشركين، وأن يحذّرهم من يوم الحسرة، وهو يوم القيامة، حيث تشتد فيه حسرة الذين غفلوا عن هذا اليوم، ولم يعملوا له، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» (٢٧: الفرقان). وقوله سبحانه:
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
(٤٠: النبأ).
وفى توجيه الأمر بالإنذار إلى المشركين، بذكر ضميرهم، العائد على غير مذكور.. هكذا: «وَأَنْذِرْهُمْ» فى هذا إشارة إلى أنهم بعض هؤلاء الضالين الكافرين الذين ذكروا قبلهم فى قوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا».. فأهل الضلال- أيّا كانوا- هم كيان واحد، لا خلاف بين من تقدّم منهم، أو تأخر، ولا فرق بين من يكون من هؤلاء القوم، أو أولئك..!
قوله تعالى:
«إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ»..
هو تذكير لهؤلاء المشركين، بأن ما هم فيه من شغل بمال وبنين، ومن انصراف عن الآخرة، والعمل لها- إن هذا لن يكون لهم منه شىء، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وأنه إذا ورثهم أبناء، وورث الأبناء أبناء.. إلى ما شاء الله، فذلك كله إلى نهاية ينتهى عندها، حيث لا وارث إلا الله سبحانه.. وحيث يحشر الناس إليه مجرّدين من كل ما كان لهم فى الدنيا من مال، وولد، وأهل، وصديق، وجاه وسلطان!
الآيات: (٤١- ٥٠) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
مناسبة قصة إبراهيم مع أبيه هنا، هى أنها تمثل للنبى ﷺ صورة من الصراع الحادّ بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين، وأن هذا الصراع قد يبلغ الحدّ الذي يفرق بين الابن وأبيه..
وإذن، فإنه ليس للنبىّ أن يأسى كثيرا على ما وقع أو سيقع بينه وبين أهله وقومه، من فرقة واختلاف، وقد جاءهم لينذرهم يوم الحسرة، ويلفتهم إلى تلك الفرصة السانحة لهم للخلاص مما هم فيه من ضلال، وإلا فالويل لهم من يوم عظيم! ومن قصة إبراهيم مع أبيه تنكشف أمور.. منها:
أولا: هذا الأدب فى الخطاب، من الابن إلى أبيه.. حيث تصدّر كل دعوة من إبراهيم إلى أبيه بقوله: «يا أَبَتِ»
.. وقد تكرر هذا النداء الرقيق الحبيب، أربع مرات..
وهذا، فوق أنه أدب يوجبه حقّ الأبوّة، هو أدب تقتضيه النبوة، ويقضى به الأسلوب الذي تقوم عليه دعوتها فى الناس كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..»
فإذا كان «الرحمن» لا يرحمه فى تلك الحال التي هو فيها، فكيف بالله، المنتقم، الجبار؟؟
إنه مدعوّ الآن إلى الرحمن من رب رحيم، فإذا لم ينته عن غيّه وضلاله، فإن مع هذه اليد الرحيمة، يد النقمة والبلاء حيث يصبح وإذا هو من أولياء الشيطان وأتباعه.. وليس للشيطان وأولياء الشيطان إلا الخزي والبلاء العظيم..
وثانيا: وكما هو الشأن دائما فى أهل الضلال، وأصحاب الشناعات..
إنه لا يجىء منهم إلا ما هو منكر وشنيع، من قول أو فعل.. وهذا داء مستحكم فيهم، لا يجدى معه لين، ولا تخفف من حدته عاطفة رحم وقرابة..!
فها هو ذا الأب الضال العنيد، يلجّ فى ضلاله، ويستبد به كفره، فلا تندّ منه قطرة من عاطفة نحو ابنه، ولا يلقى هذا النداء الذي ينادى به بأحب اسم يسمعه الآباء من أبنائهم: «يا أَبَتِ» - لا يلقى هذا النداء عنده أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له.. وإذا هذا الأب الضال العنيد يرجم ابنه البار الرحيم، بهذا القول المنكر الغليظ:
«يا إِبْراهِيمُ.. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» ! هكذا يقولها «يا إِبْراهِيمُ».. ولم يقل يا بنى، أو يا ولدي.. ثم يتبع ذلك بهذا التهديد: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ..» !! أهكذا تبلغ غلظة القلب، وعمى البصيرة، حتى تنزع من صاحبها كل عاطفة، وحتى يجد الأب اليد التي تطاوعه
ولقد أفاق الرجل من سكرة جهله، وضلاله، حين نطق بهذه الكلمة «لَأَرْجُمَنَّكَ» ورأى أن ابنه قتيل بيده، وأنه دمه يسيل فيغطى الأرض من حوله..
ومع هذا فلم تكن هذه الصحوة لتعيد إلى الرجل ما عزب من عقله، أو لتصحح ما انحرف من عاطفته، بل إن كلّ ما كان لهذه الصحوة، هى أن جعلته يذكر أنه أب قد كانت بينه وبين هذا الإنسان الذي يهمّ برجمه، شئون وشئون.. وهذا ما جعله يمسك يديه عن هذا الفعل الآثم، فيصرخ فى إبراهيم: أن أغرب عن وجهى، قبل أن يعود إلىّ جنونى، وأفتك بك!! وهذا هو سرّ العطف بين قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ» وقوله تعالى:
«وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» الأمر الذي يشير إلى أن هنا كلاما محذوفا بين المتعاطفين، تقديره: فانج بنفسك «وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» أي اهجرني زمنا طويلا، وليكن إلى الأبد! وانظر كيف استقبل إبراهيم هذه الثورة العاصفة المجنونة، وكيف ردّ هذا الحمق الجهول، بتلك القولة الكريمة الحانية: «سَلامٌ عَلَيْكَ.. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» !! أي إن ربّى كان مكرما لى إكراما عظيما.. وكما أكرمنى ربّى، سأكرمك بالاستغفار لك وطلب المغفرة من ربّى! إنها الكلمة الجديرة بأن تكون من خليل الرحمن، الذي وصفه سبحانه وتعالى بقوله. «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (٧٥: هود).
فما يكون هذا الحلم، ولا تلك الوداعة، ولا ذلك الرفق، إلا من مثل هذا النبىّ الكريم، الذي أدّبه ربّه أدبا رفعه به إلى مقام الخليل! ويأخذ إبراهيم طريقه إلى ربّه، ويدع أباه وقومه، وما هم فيه من عمى
وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا».
فى هذا ما يسأل عنه.. وهو: لماذا اختصّ إسحق ويعقوب بالذكر هنا، ولم يذكر إسماعيل، مع أنه الابن الأول لإبراهيم، ومع أن يعقوب ليس ابن إبراهيم، وإنما هو ابن ابنه إسحق؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن إسماعيل كان قد ولد لإبراهيم، وأن إبراهيم كان على يأس من الولد من امرأته «سارة» أمّ إسحق إذ كانت عقيما.
فذكر إسحق، هنا، هو تذكير بتلك النعمة التي جاءت على غير انتظار، بل جاءت على يأس من أن تقع.. وهى- فى صورتها تلك- أشبه بالجزاء المعجّل على هذا البلاء العظيم، الذي كان من إبراهيم فى موقفه من أبيه ومن قومه، وهذا ما يشير إليه تقييد هذه الهبة بهذا الظرف، الذي اعتزل فيه إبراهيم قومه، وما يدعون من دون الله. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ».
ومن جهة أخرى، فإن ميلاد إسماعيل من أمّه هاجر، كان ميلادا من امرأة لم تحكم عليها ظواهر الأمور بالعقم.. فهو- والأمر كذلك- ميلاد طبيعىّ، يجرى على المألوف من حياة النّاس.
أما ذكر يعقوب، وهو ابن الابن، وليس ابنا مباشرا، فهو إلفات إلى زيادة المنّة، ومضاعفة الإحسان، حيث يرى إبراهيم أن ولده إسحق لا يبتلى
هذا، وسيأتى لإسماعيل ذكر خاص، فى الآيات التالية، كما سنرى..
الآيات: (٥١- ٥٨) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
التفسير:
فى هذه الآيات، ذكر لبعض من أنبياء الله ورسله.. هم موسى، وإسماعيل، وإدريس.. ثم هارون باعتباره نبيّا، غير رسول..
وقد وصف الله سبحانه وتعالى موسى بأنه كان مخلصا.. أي أخلصه الله سبحانه وتعالى له، واختصه بكلامه.. ثم وصفه سبحانه بأنه كان نبيا، أي يجمع بين الرسالة والنبوّة، ثم وصفه سبحانه وصفا ثالثا، بأنه نودى من الحق
«وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (١٦٤: النساء).
وبهذه الأوصاف استحق موسى أن يقدّم على رسل وأنبياء، كانوا أسبق منه زمانا، كإسماعيل، وإدريس.. وهذا التقديم- وإن رفع من قدر موسى- لا ينقص من قدر هذين النبيين الكريمين، «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (٢٥٣: البقرة).
وفى قوله تعالى عن موسى: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» تكريم، فوق تكريم لموسى، وأنه إذ لم يوهب له الولد، فقد وهب له نبىّ يعمل إلى جانبه، فى الرسالة التي ندب لها..
وفى قوله تعالى عن موسى أيضا: «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا».. تحديد للمكان الذي نودى منه موسى، وهو أنه كان بالجانب الأيمن من الطور، حين تلقى نداء الحقّ جلّ وعلا..
والجانب الأيمن من الطور، هو الجانب الغربىّ منه..
وهذا التحديد الجغرافى لمكان النداء، يشير إلى أن موسى كان قادما من مدين فى طريقه إلى مصر، وأنه فى متوجّهه هذا كان يخترق أرض الطور، التي يشرف عليها الجبل المسمى بهذا الاسم فى صحراء سيناء على ساحل البحر الأحمر..
فكان الجانب الغربي من الطور على يمين موسى، والجانب الشرقي على يساره..
وحين ناداه ربه، سمع النداء من جانبه الأيمن، وهو الجانب الغربىّ من الطور، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (٤٤: القصص).
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا، نَبِيًّا»..
الصفة البارزة الموصوف بها إسماعيل فى ديوان الأنبياء والمرسلين، هى، أنه «كانَ صادِقَ الْوَعْدِ»..
والوعد، هو قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وذلك حين قال له أبوه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» (١٠٢: الصافات)..
وصدق الوعد فى أنه كان قولا صدقه العمل، فلم يكن قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» مجرد قول يقال، ولكنه كان مصحوبا بنية صادقة على إمضاء هذا القول إلى غايته.. وقد تبين هذا حين جاءت ساعة التنفيذ.. فاستسلم إسماعيل لأمر ربه، وأعطى رقبته للسكين.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (١٠٣- ١٠٥: الصافات) :
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا»..
إدريس عليه السلام، هو من ذرية آدم الأولين، وهو جدّ أعلى لنوح ولهذا اختصّ بالذكر لأنه ليس من الأنبياء الذين جاءوا من ذرية إبراهيم..
والذين لم يذكروا هنا كعيسى، ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، ففى ذكر إبراهيم ذكر لهما، لأنهما من ذريته.. كإسحاق، ويعقوب، ويوسف..
هذا، ولم يلحق بإدريس وصف الرسول، إلى جانب الوصف بالنبوة..
فهو- بهذا- نبى، وليس برسول..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا»..
الإشارة هنا «أولئك» مشار بها إلى المذكورين فى الآيات السابقة، من النبيين.. وهم موسى، وإسماعيل، وإدريس..
وهؤلاء الأنبياء الثلاثة، يمثلون الصور كلها التي جاء عليها أنبياء الله ورسله..
فموسى يمثل الأنبياء المرسلين، أصحاب الكتب السماوية، والرسالات، الخارجة عن نطاق الأهل والأسرة، إلى القوم، والأمة..
وإسماعيل.. يمثل الأنبياء المرسلين، الذين لم تكن لهم شريعة خاصة، ولم يكن بين أيديهم كتاب سماوى منزل عليهم، وكانت دعوتهم إلى الله مقصورة على آل بيتهم..
وإدريس.. يمثل الأنبياء غير المرسلين..
وهذا يكشف عن بعض السر فى أن ذكرهم فى هذه الآيات لم يجىء على حسب ترتيبهم الزمنى، بل جاء على حسب درجاتهم فى مقام النبوة..
والإشارة إليهم بأولئك، هى إشارة إلى جميع الأنبياء والمرسلين، الذين أنعم الله عليهم من النبيين! وحرف الجر «من» فى قوله تعالى: «مِنَ النَّبِيِّينَ» هو للبيان، وليس للتبعيض.. إذ أن كل النبيين، هم من الذين أنعم الله عليهم، بهذه النعمة الجليلة، التي لا تعدلها نعمة فيما أنعم الله به على عباده من نعم! وهم جميعا ممن هداهم الله، واجتباهم.. هداهم إلى الحق، والإيمان، واختصهم بنعمة النبوة والرسالة، أو النبوة وحدها.
وأما حرف الجر «من» فى قوله تعالى: «من» ذرية آدم و «ممن» حملنا مع نوح.. و «من» ذرية إبراهيم وإسرائيل» - هذا الحرف فى مواضعه الثلاثة للتبعيض.. أي إن هؤلاء النبيين الذين أنعم الله عليهم هم من بعض ذرية آدم، وهم بعض من آمن مع نوح وحمل معه فى السفينة، وهم بعض ذرية إبراهيم وإسرائيل، وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.. إذ ليس كل أبناء هؤلاء وذرياتهم من النبيين، ولا ممن هداهم الله واجتباهم، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية لهذه الآيات وهى قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا»..
الآيات: (٥٩- ٦٣) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
الخلف بسكون اللام، الفاسد، الضالّ من الذرية، على خلاف الخلف، بفتح اللام.. فكأن الخلف خلف يجمع بين الخلف والخلف.. وهذا من الصيغ القرآنية العجيبة، التي تزداد بها اللغة ثراء، وتزدان حسنا..
وقوله تعالى:
«فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا»..
هو تهديد لهؤلاء الضالين، الذين خرجوا على سنن الفطرة السليمة، كما خرجوا على واجب الولاء والطاعة لآبائهم المكرمين من عباد الله، واتبعوا الغاوين والمفسدين من الآباء..
- وفى قوله تعالى: «أَضاعُوا الصَّلاةَ» تنويه بشأن الصلاة، ورفع لقدرها إذ كانت الصلاة عماد الدين، فى كل شريعة، وكل ملة..
وقد نوه الله سبحانه وتعالى بإسماعيل عليه السلام، فجعل دعوته بالصلاة فى أهله، رسالة رسول.. «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ»..
والغىّ: هو الضلال.. وقد جعل فى مقام الهلاك والعذاب فى جهنم، لأن القوم كانوا غواة، وأنهم سيلقون هذا الغىّ، وسيجدونه حاضرا يوم القيامة، وبه سيردون مورد الهلاك، وبه يصلون العذاب! قوله تعالى:
«إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً»..
هو استثناء منقطع، و «إلّا» بمعنى «لكن».. وبهذا الاستثناء يفتح باب النجاة من هذا المهوى الذي هوى فيه الضالون إلى جهنم.. فمن دخل هذا الباب، وتاب عما هو فيه من منكرات وضلالات، وصحّح إيمانه بالله، فهو من عباد الله، الذين سيلقاهم فى الآخرة برضوانه، وبجنات لهم فيها نعيم مقيم..
«فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً..»
وقوله تعالى:
«جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا».
هو بيان للجنّة، التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» فهى فى سعتها جنات، وإن كانت جنّة واحدة.. وهى جنات عدن، أي خلود وإقامة، لا يتحول عنها أهلها أبدا، وهى التي كانت وعدا تلقّاه المؤمنون بالله من ربّهم فى الدنيا، فآمنوا بهذا الوعد على الغيب، دون أن يروه، وقبل أن يتحققوا منه عيانا.. إنه إيمان بالله، وبكل كلمات الله.. فهو إن يكن وعدا، فإنه حاضر فى يقين المؤمنين، وهم بهذا الوعد أوثق مما فى
لا يتخلّف أبدا.. إن لم يجئهم جاءوا هم إليه.
وقوله تعالى:
«لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا».
هو وصف لهذه الجنة، أو تلك الجنات، وأن أهلها فى أمن وسلام، لا يسمعون فيها كلمة لاغية عابثة، فإن اللغو والعبث هو شغل الفارغين التافهين أما أصحاب الجنة فهم كما وصفهم سبحانه وتعالى: «فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» (٥٥: يس) وشغلهم هو هذا النعيم الذي يملأ كل لحظة من لحظات وجودهم..
و «إلا» فى قوله تعالى: «إِلَّا سَلاماً» بمعنى لكن، أي لا يسمعون لغوا، ولكن يسمعون سلاما..
- وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» إشارة إلى أن أهل الجنّة قد تركوا وما هم فيه من نعيم الجنّة، يطعمون منه، وإنما هم مع هذا محفوفون برعاية الله، آخذون من عطائه، الذي يلقاهم به بكرة وعشيّا.. فكل ما يناله أهل الجنة من صنوف النعيم، هو رزق من رزق الله، المجدّد عليهم، حالا بعد حال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (٢٥: البقرة)..
قوله تعالى:
«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا».
الإشارة هنا تنويه بالجنة، التي ذكرت بأوصافها، وأوصاف أهلها فى الآية السابقة..
فهذه الجنّة المشار إليها هنا، هى الجنة السابقة، والتقدير تلك هى الجنّة
وفى التعبير عن دخول الجنة بالميراث، إشارة إلى أن أهلها ممكّنون من كل نعيم فيها، يتصرفون فيه كيف يشاءون، كتصرف الوارث فيما ورث..
لا يبخل على نفسه بشىء منه، إذ كان ذلك الميراث من غير كسبه، بل جاءه صفوا عفوا..
والجنة، هى ميراث للمتقين، لم يكن نزولهم منازلها إلا برضوان الله، ورحمته.. وإلا فإن ما عملوه فى دنياهم من طاعات وما قدموه من صالح الأعمال، لا يؤهّلهم لدخولها.. كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته»..
الآيات: (٦٤- ٧٠) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
قوله تعالى:
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا»..
ضمير المتكلم فى قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ» يعود إلى الملائكة، المأمورين من قبل الحقّ سبحانه وتعالى بما يتكلفون به من تصاريف فى العالم الأرضى..
كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» (٤: القدر).
والمتحدث عن الملائكة هنا هو جبريل عليه السلام، إذ كان هو الملك الموكّل بالاتّصال بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله الكرام، والمأذون له بالحديث إليهم. أما غيره من الملائكة فلهم شئون أخرى..
وقيل فى سبب نزول هذه الآية، أن الوحى قد احتبس عن النبىّ ﷺ مدة، حتى وجد الوحشة فى نفسه، وحتى لقد قالت قريش إن ربّ محمد ودّعه وقلاه.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى».
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة ذكرت الأنبياء والرسل، وهم الذين أنعم الله عليهم من عباده بالرسالة، واختصهم بالنبوّة.. وإذ كان الملائكة هم السفراء بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله، فإنه فى هذا المقام قد
وقوله تعالى: «لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ» إقرار من الملائكة بما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق، لا يملك أحد معه شيئا، حتى أقرب المقربين إليه، وهم الملائكة.. إن الله سبحانه وتعالى يملكهم، ويملك كل ما يعملون فيه.. فى ماضى أمرهم، ومستقبله، وما بين ماضيه ومستقبله..
- وقوله تعالى: «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» هو مما أعلته الملائكة عن علمه سبحانه وتعالى وقدرته.. وأنه جلّ شأنه لم يكن عن نسيان منه، هذا التأخير فيما يوحى به إليك أيها النبىّ.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإن هذا التأخير لحكمة يعلمها الله، وعن تقدير قدّره..
قوله تعالى:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ.. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا»..
هو عرض لبعض قدرة الله، وبسطة سلطانه.. وأنه سبحانه ربّ السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من عوالم ومخلوقات..
وقوله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» استفهام يراد به نفى الشبيه والمثيل لله سبحانه وتعالى.. والسّمىّ، هو الذات المسماة باسم من أسماء الألوهية، مثل الرّبّ، والإله.. ونحو هذا، فهذا المسمّى وإن أخذ الاسم فإن هذا الاسم، لا يعطيه شيئا مما لله سبحانه وتعالى، من قدرة، وعلم، وحكمة، وإحياء، وإماتة وغير هذا مما تفرّد به المولى، جلّ وعلا..
قوله تعالى: «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا»..
هو إنكار لهذا القول المنكر الذي يقوله الذين لا يؤمنون بالبعث، وهو استبعادهم أن يبعث الموتى، بعد أن تبلى أجسادهم، وتحلل وتصير ترابا..
والإنسان هنا ليس إنسانا بعينه، وإنما هو جنس للإنسان، يدخل فيه كل من يقول هذا القول، ويعتقده..
وقوله تعالى: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً»..
هو ردّ على هذا الإنسان الذي يمثل الإنسانية الضالة المنكرة للبعث، التي يقال على لسانها هذا القول: «أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟» أفلا يذكر هذا الإنسان كيف كان خلقه؟ ثم ألا يذكر أين كان هو قبل أن يولد؟ لقد كان عدما، لا وجود له، ثم صار هذا الكائن الذي يقف من ربّه موقف المحادّ المحارب؟
ثم لينظر هذا الإنسان: أخلق مخلوق من عدم.. أهون، أم خلق مخلوق
فإذا كان ذلك كذلك فى حدود الإنسان، المخلوق، الضعيف.. أفيعجز الله القادر القوىّ، الذي خلق الإنسان من عدم- أن يعيد هذا الإنسان مرة أخرى، بعد أن يرجعه إلى العدم، أو ما يشبه العدم؟..
«وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا.. وَنَسِيَ خَلْقَهُ.. قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (٧٨- ٧٩: يس)..
قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا..»
الخطاب هنا للنبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وفى القسم له بربّه وإضافته إلى ربّه، تكريم عظيم له، واستدناء له من ربّه، وإفضاء إليه بهذا الخبر، الذي يردع الظالمين ويفزعهم..
فهؤلاء المشركون، الضالون، المكذبون بيوم الدّين، سيحشرون مع الشياطين، حشرا واحدا، يجمع بينهم.. إذ كانوا على شاكلة واحدة.. ثم هم بعد هذا الحشر مدعرون إلى جهنم، يساقون إليها سوقا، ويجتمعون حولها، جاثين على ركبهم، فى هوان وذلة، حيث يشهدون بأعينهم المنزل الذي سينزلونه منها! قوله تعالى:
«ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا»..
ننزعن: نخرجنّ، والنزع إخراج الشيء بشدة وقوة، وقهر.
والشيعة: الجماعة على رأى واحد، يلتقون عنده، ويتناصرون عليه..
والصّلىّ: الاصطلاء بالنار والقرب منها، والمراد به هنا: الاحتراق بها..
والآيتان تصوران بعض مشاهد القيامة، وما يقع للظالمين، والضالين، من أهوال فى هذا اليوم العظيم..
ففى هذا اليوم يحضر المجرمون جميعا، حول جهنّم، جاثين على ركبهم، حيث لا يستطيعون القيام على أرجلهم، مما أصابهم من هول، انحلّت به عزائمهم، وانهدّت منه قواهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» (٤٥: الذاريات).. ثم إذا اجتمع جمع هؤلاء المجرمين حول جهنم، انتزع من بينهم أئمة الضلال فيهم، وقادة الكفر منهم، ثم يلقى بهم فى جهنم، حيث يشهد أتباعهم بأعينهم ما يلقون من بلاء، سيلقونه هم عما قليل، وحيث يرى هؤلاء الأئمة أن زعامتهم وإمامتهم فى الدنيا، لم تكن إلّا وبالا عليهم، وأن أتباعهم أحسن حالا منهم، وأن مواقع الضّلال والفتن، وإن كانت كلها سوءا ووبالا، فإن المتأخر فيها خير من المتقدم، والتابع أدنى إلى السلامة من المتبوع..
وفى المثل: «كن فى الفتنة ذنبا» ! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» - فى هذا ما يسأل عنه..
وهو: لم عدّى المصدر «عتىّ» بحرف الجرّ «على» الذي يفيد الاستعلاء..
بمعنى «أيهم أشد عتيّا على الرحمن».. وكان يمكن أن يكون النظم هكذا:
«أيهم أشد للرحمن عتيّا» بتعدية المصدر بحرف الجرّ «اللام» الذي يفيد الملك، ثم التفلّت من هذا الملك!! فما سرّ هذا؟
نقول: - والله أعلم- إنّ ذكر الصفة الكريمة «الرحمن» هنا، دون صفات المولى جلّ وعلا، كالقوىّ والعزيز، والقادر- إن هذا يشير إلى شناعة هذا الجرم الذي يتلبس به المجرمون، ويتخذون به موقفا معاديا، ومحاربا،
فهؤلاء المجرمون- وتلك رحمة الله بهم- يخرجون عن طاعة الرحمن، بل ويحاربونه، بل ويستعلون على الولاء له، والانقياد لأمره..
والصّورة تمثل معركة بين هؤلاء العتاة المجرمين، وبين رحمة الله.. حيث تدعوهم الرحمة إلى رحابها، وتفسح لهم الطريق إليها، وهم يتأبّون عليها، ويتفلّتون منها.. فهم فى هذا أشبه بالمغالبين لرحمة الله، وهذا أسوأ ما يمكن أن تكون عليه حال إنسان.. من شقاء غليظ، لا تنفذ إليه فيه بارقة من رجاء فى عافية، أو خروج من بلاء..!
الآيات: (٧١- ٧٢) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا».
[جهنم.. هل يردها الناس جميعا؟]
الضمير فى واردها يعود إلى جهنم، المذكورة فى قوله تعالى: «ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا»..
وإلى هنا لم يكن قد انكشف أمر الأتباع، المتعلقين بهؤلاء الأئمة..
فجاء قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» ليكشف لهؤلاء الأتباع عن مصيرهم
هود) وكما يقول سبحانه: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (٩٨: الأنبياء).. فجهنم هى الحكم الذي قضى به الحق جل وعلا على أهل الشّقوة من الناس..
ثم إنه ليس يصحّ أن يكون من تكريم المؤمنين فى هذا اليوم، وعلى رأسهم الأنبياء، والرسل والصديقون، والأولياء، والأبرار، والشهداء- ليس يصح أن يكون من مظاهر تكريمهم أن يدخلوا فى هذه التجربة القاسية، وأن يردوا هذا المورد الجهنمى، وهم إنما سعوا إلى الله، وأحبّوا لقاءه، ليخلصوا من أكدار الدنيا.. فهل مما يقع فى التصور أن يكون أول ما يلقونه فى الآخرة، هو هذا الوجه الكريه المشئوم منها، وهو جهنم؟
وكيف يرد المؤمنون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، هذا المورد الذي لا يرده إلّا الخاطئون، والذي يصفه الحق تبارك وتعالى بقوله عن فرعون:
«يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (٩٨:
هود) ؟
ثم كيف، والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ
(١٠١- ١٠٣: الأنبياء) فهذا صريح قول الله تعالى، فيما يلقى المؤمنون الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من كرامة، وتكريم، فى هذا اليوم، إنهم مبعدون عن جهنم، لا يسمعون حسيسها.. فكيف يردونها؟ ثم كيف يدخلونها؟ إنه على أي حال دخول فى محيط هذا البلاء العظيم، وإن خرجوا منه من غير أن يصيبهم من لظاها أذى! والمثل يقول: «حسبك من شرّ سماعه» فكيف بلقائه، والانغماس فيه؟
- أما قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا».. فهو معطوف على قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا»..
فهذه الآيات تصور موقف الضالين والكافرين يوم القيامة، وما يلقون من بلاء وهوان، وأنهم جميعا واردون جهنم على دفعات.. الرؤساء أولا.. ثم المرءوسون ثانيا..
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» بيان لما يكون للمتقين، ولعباد الله المكرمين فى هذا اليوم من تكريم، حيث يفوزون بالنجاة من هول هذا اليوم، ومن عذابه الأليم.. كما يقول سبحانه «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (١١: الإنسان)..
أما أهل الشّقوة فيتركون على ما هم فيه من بلاء وضنك، ونكال، حيث يشهدون بأعينهم هذا الركب الميمون، تزفه ملائكة الرحمن، إلى جنات النعيم، وإلى ما يرزقون فيها من كل طيب وكريم..
وتقديم الفصل هنا فى أمر أصحاب النار، على الفصل فى أصحاب الجنة، هو
وحكمة هذا، هى أن يعجل لأهل النار بالنار، حتى تنقطع آمالهم من أول الأمر، بأن لا مكان لهم فى الجنة، وأن لا مطمع لهم فى أن يكونوا من الناجين، وذلك مما لا يتحقق، لو بدىء بالفصل فى أصحاب الجنة، حيث يعيش المجرمون لحظات تداعبهم فيها الآمال، وتتحرك فى نفوسهم الأطماع أنهم قد يكونون فى هؤلاء الآخذين طريقهم إلى الجنة، وأن دورهم لم يأت بعد، كما يقول سبحانه:
«وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ» (٤٦: الأعراف).
وفى تقديم الفصل فى أصحاب النار على الفصل فى أصحاب الجنة، جاء قوله تعالى: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً..» (٦٩- ٧٣: الزمر).
وجاء قوله تعالى أيضا: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ
(١٠٥- ١٠٨: هود).
هذا ويمكن أن تؤوّل الآية الكريمة على وجه آخر، وهو أن قوله تعالى:
«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» يراد به أهل النار جميعا، على اختلاف حظوظهم السيئة منها.. سواء فى هذا من يخلدون فى النار من الكافرين والمشركين والمنافقين، أو من كان من المؤمنين، أصحاب الكبائر والصغائر..
ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» محتملا أن يراد به بعض أهل النار، وهم أولئك المؤمنون من أصحاب المنكرات.. فهؤلاء- لا شك- غير مخلدين فى النار، وإنما هم فيها أشبه بالمسجونين سجنا مؤقتا، سيخرجون منه حتما بعد استيفاء المدة المحكوم على كل واحد منهم بها.. ثم بعد هذا قوله تعالى: «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» مبينا المصير الذي يعيش فيه الظالمون من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، بعد أن انكشف المصير الذي صار إليه من كانوا معهم فى النار من عصاة المؤمنين..
الآيات: (٧٣- ٧٦) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦)
بعد أن عرضت الآيات السابقة جهنم وأهوالها، وعرض أهل الضلال عليها، ثم إلقاءهم فيها.. جاءت هذه الآيات بعد ذلك لترد هؤلاء الضالين إلى الحياة التي كانوا فيها، بعد هذه الرحلة المرهقة التي رأوا فيها جهنم عيانا، وطلع عليهم من أنفاسها الملتهبة ما يكظم منهم الأنفاس، ويشوى الوجوه..
جاءت هذه الآيات، لتعرض هؤلاء الضالين المشركين، بعد تلك التجربة، لترى أثرها فيهم، وفى موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسول الله- وإذا هم على غيّهم وضلالهم: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» أي واضحات مشرقات: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ» نحن أم هؤلاء الذين مع محمد.. ؟
أي الفريقين منا ومنهم «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» أي خير حياة، وخير تمكنا من هذه الحياة، وأحسن مظهرا، حيث يضمنا نادينا، وحيث يجتمعون هم إلى محمد؟ إننا فى نعمة ظاهرة، وفى حياة رافهة، وفى مجالس عامرة بسادة القوم، ووجوه الناس.. وهم بين عبيد أرقاء، وبين فقراء لا وزن لهم فى الناس، ولا مكانة لهم فى المجتمع..
واللام فى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا» : إما أن تكون لام التعدية، وعلى هذا يكون القول من الذين كفروا موجها إلى الذين آمنوا..
- وفى قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً..»
تهديد لهؤلاء المشركين، وتسفيه لجهلهم وضلالهم، إذ تمسكوا بهذه الدنيا وجعلوا كل وجودهم لها- فهؤلاء الضالون لن يخلدوا فى هذه الدنيا، ولن ينفعهم ما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين.. إنهم هالكون لا محالة، طال الزمن بهم أم قصر.. فإن شكّوا فى هذا، فلينظروا فى الأمم التي خلت من قبلهم، وما كان بين هذه الأمم من أصحاب أموال، ورياسات.. كانوا أكثر منهم مالا ومتاعا، وأبهى منظرا، وأعظم جاها وسلطانا.. فأين هؤلاء؟
لقد هلكوا فيمن هلك.. وسيهلك هؤلاء المشركون- سادة ومسودين- ولن تبقى منهم باقية!.
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا».
أي من كان على تلك الحال من الاستغراق فى الضلالة، واستهلاك وجوده فيها، فإنه لن يرجع عن ضلالته، ولن يستمع لنصح ناصح، أو عظة واعظ..
وإذن «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» وليترك له الطريق مفتوحا إلى غايات الضلال، فلا يضيّق الله عليه فى الرزق، ولا يبتليه بشىء فى نفسه أو ولده، حتى لا ينصرف عن هذا الضلال، الذي هو غارق فيه.. كما يقول سبحانه:
«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» هو تكريم لهم، وإحسان منا إليهم؟ كلا.. ولكن «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» (٥٥- ٥٦: المؤمنون).
وفى فعل الأمر: «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» إشعار بأن هذا قضاء قضاه الله سبحانه وتعالى فى أهل الضلال، وأوجبه جل شأنه على نفسه، كما أوجب رحمته لمن سبقت لهم من الله الحسنى.. فكأن ذلك أمر تقتضيه حكمة الله من الله..!
وفى إسناد فعل الأمر إلى «الرحمن» إشارة أخرى إلى أن هذا المدّ من الله سبحانه وتعالى للمشركين إنما هو- مع ما فيه من خذلان لهم- محفوف بالرحمة، إذ لو شاء الله سبحانه، لأخذهم بذنوبهم، ولعجّل الله العذاب فى الدنيا، ولما أمهلهم تلك الفسحة من العمر، ليكون لهم فيها نظر إلى أنفسهم، وعودة إلى الله..
«حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً»..
حتى حرف غاية إلى هذا المد الذي يمده الله للمشركين، وأنه منته بهم إلى أمرين:
إما العذاب فى الدنيا، بمهلكة يصبّها الله سبحانه عليهم، ويأخذهم بها، أو بالهزيمة والخزي على أيدى المؤمنين، فيما سيكون بينهم وبين المسلمين من قتال، كما يقول سبحانه: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا» (٥٢: التوبة).
وإما عذاب الآخرة.. فإنهم إن أفلتوا فى الدنيا من هذا العذاب أو ذاك، فإنهم لن يفلتوا من عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، كما يقول سبحانه:
وعندئذ، سيعلم هؤلاء الضالون: «مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» وسيرون أىّ الفريقين «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟» قوله تعالى:
«وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا».
هو بيان لما يلقى المؤمنون المهتدون من إحسان الله سبحانه إليهم، وألطافه بهم.. إنه سيمدهم فى الدنيا بالهدى، ويزيدهم فلاحا إلى فلاح، وإيمانا مع إيمان، على حين يخذل الله سبحانه المشركين، ويمدّ لهم فى الغى والضلال..
- وفى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» تعقيب على ما للأعمال الصالحة من آثار طيبة، تثمر لأهلها ثمرا طيبا.. إنهم غرسوا فى مغارس الخير، وقد بارك الله عليهم فيما غرسوا، وحرسه لهم من الآفات والمهلكات، وها هم أولاء وقد نضج الزرع، وطاب الثمر.!
والمردّ: المرجع، والمآل، والعاقبة..
الآيات: (٧٧- ٨٧) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٧٧ الى ٨٧]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١)
كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦)
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً»..
الاستفهام هنا للتعجب، والمخاطب هو النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب لكل من هو أهل للخطاب..
والتعجب، والعجب، هو من أمر هذا الذي كفر بآيات الله، ولم يؤمن بأن لهذا الوجود إلها خالقا، وربّا قائما على ما خلق- ومع هذا الإنكار لله من هذا الكافر الجهول، يقسم بأنه سيؤتى فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- سيؤتى مالا وولدا، كما أوتى فى هذه الدنيا، الكثير من المال والولد! هكذا يذهب الشيطان بأوليائه، تلك المذاهب البعيدة فى الضلال، ويقيم لهم حججا من الوهم والخيال، فهم كافرون بالله، إذا لم تكن هناك آخرة..
وإذن لا خسران عليهم من هذا الكفر.. وهم مؤمنون بالله إن كانت هناك آخرة، وإذن فلن يفوتهم حظهم الكبير إن كان للناس هناك حظوظ من مال وبنين!! «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١٢: يونس).
وهذه الروايات المتعارضة المتضاربة فى أسباب النزول، تدعونا إلى أن نسقط هذه الآراء جميعها، ولا نأخذ بواحد منها، إذ أن ذلك يعد ترجيحا بلا مرجّح! والذي نطمئن إليه، هو أن الآية تشير إلى الرجل صاحب الجنتين، الذي جاء ذكره فى سورة الكهف، فى قوله تعالى: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً».. (٣٦: الكهف).
فالآية إلفات إلى قصة هذا الرجل، وقد سمعها المشركون من قبل، فيما كان يتلوه النبىّ عليهم من آيات ربّه.. وهذا يعنى أن سورة مريم، قد نزلت متأخرة عن سورة الكهف.
قوله تعالى:
«أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً».
هو استفهام إنكارى، ينكر فيه على هذا المتألّى على الله.. الكافر به، هذا الادعاء الذي يدعيه، وأنه سيؤتى يوم القيامة مالا وولدا.. مثل ما أوتى فى الدنيا المال والولد.. فهل اطّلع الغيب، وقرأ ما سطر له فى علم الله؟
أم أنه اتخذ عند الله عهدا بذلك؟.. إنه لا هذا ولا ذاك، فكيف صحّت عنده هذه الدعوى، وعلى أي أساس أقامها؟ إنه لا شىء إلّا الوهم الذي يمليه الضلال، ويزين وجهه الهوى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (٨: فاطر).
«كَلَّا.. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً»..
كلا، كلمة ردع، وزجر، وتكذيب لهذا الادعاء الفاسد.. ونفى مؤكّد لهذا الافتراء.. فلن يؤتى هذا الشقي مالا ولا ولدا، وإنما سيكتب عليه قوله هذا مع ما يكتب من أقواله وأفعاله المنكرة، ثم يكون حصاد هذا كلّه لا مالا ولا ولدا، وإنما هو المزيد من العذاب، والمضاعفة من البلاء..
أما ما فى يديه من مال وولد، فى هذه الدنيا، فسيخرج من يديه، ويصبح ميراثا لغيره لا يمسك بيده شيئا منه يوم القيامة، بل يأتى فردا، عاريا، حافيا، كما ولد من بطن أمه.. عاريا حافيا! قوله تعالى:
«وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» :
الضمير فى «وَاتَّخَذُوا» يعود إلى المشركين الذين ذكروا من قبل فى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا»..
فهؤلاء المشركون، قد اتخذوا من مستولدات أوهامهم وضلالاتهم، آلهة يعبدونهم من دون الله، ويرجون عندهم الخير، ويلتمسون منهم العون، والقوة، والتمكين فى الأرض..
قوله تعالى:
«كَلَّا.. سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا»..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا»..
الاستفهام هنا للأمر.. وتقديره انظر كيف أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين.. تؤزهم أزّا.. أي تغريهم إغراء، وتدفعهم إلى الضلال دفعا..
فالمشركون- والحال كذلك- مدفوعون دفعا إلى هاوية مهلكة، لافكاك لهم منها.. إن هناك قوى خفية تدفع بهم إلى الشر، وتغريهم به، وتوردهم موارده..
وإذن، فلا تعجل عليهم، واصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم، وسترى قضاء الله فيهم.. فإنهم مأخوذون بذنوبهم، التي تزداد كل يوم يمضى من حياتهم فى هذه الدنيا.. وهذه الذنوب محصاة عليهم، معدودة فيما يعدّ لهم من سيئات وآثام.. فكلما طالت أيامهم فى هذه الدنيا، كثرت أحمالهم من الذنوب، وضوعف لهم العذاب.
قوله تعالى:
«يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً».
«يوم» ظرف، متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» فهذا العدّ الذي يحصى على المشركين أفعالهم المنكرة، يلزم منه الجزاء
وحشر المتقين إلى الرحمن، جمعهم إلى ساحة فضله وإحسانه، فى هيئة وفد كريم، يفد إلى جناب كريم، حيث ينزل منازل الإكرام والإعزاز..
وسوق المجرمين إلى جهنم وردا، هو دفعهم إليها، وسوقهم نحوها، كما تساق الأنعام.. فهم أشبه بقطيع من الماشية يساق إلى المذبح، ولا يدرى ماذا يراد به هناك! وفى التعبير عن المشركين بالمجرمين، وصف لهم بالصفة البارزة فيهم، والتي هى لازمة من لوازم الشرك.. فالمشرك مجرم آثم..
ومعنى «وردا» واردين، جمع وارد، والوارد، من يرد الماء ليشرب ويرتوى من ظمأ.. وهؤلاء إنما يردون عطاشا ليرتووا.. ولكن لا يجدون هناك إلا حميما وغسّاقا، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (٥١- ٥٦ الواقعة) قوله تعالى:
«لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً».
أي إن هؤلاء المجرمين المساقين إلى جهنّم، الواردين حياضها على ظمأ يحرق أكبادهم- لا يملكون ما يشفع لهم عند الله، ويعدل بهم عن هذا المورد الوبيل الواردين عليه.. لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، وأمضى هذا العهد ووفى به، فإن له شفاعة عند الله.. فى نفسه، وفى غيره أيضا..
ومن هذا العهد ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
(١١١: التوبة) فهذا عهد عاهد الله عليه المجاهدين فى سبيله، وقد اتخذ المجاهدون هذا العهد من الله، ووفوا به، فكان شفاعة لهم عند الله من عذاب جهنم..
والإيمان بالله، وبشريعة الله، هو عهد بين المؤمن وربّه، فإذا وفى بما عاهد الله عليه، أنجز الله له ما وعده من رضوانه، وفى هذا يقول الله تعالى:
«أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (٦٠- ٦١: يس)..
الآيات: (٨٨- ٩٨) [سورة مريم (١٩) : الآيات ٨٨ الى ٩٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
التفسير:
الإدّ: الأمر المنكر، الذي يثقل كاهل صاحبه، ويقصم ظهره..
قوما لدّا: أي ذوى لدد وشدّة فى الخصومة، ولجاجة فى الجدل..
الركز: الصوت الخفيض..
وقوله تعالى:
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا».
هو عرض لمقولة من مقولات الضالين، وهم تلك الطوائف من اليهود والنصارى، الذين نسبوا إلى الله الولد، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله..
وفى الإخبار بقولهم هذا، تهديد لهم، ووعيد شديد، بما سيلقون من وراء هذا الافتراء، الذي فزعت له السموات والأرض، حتى لقد اضطرب كيانهما، فكادت السموات تتشقق، وكادت الأرض تتصدع وتنخسف، وكادت الجبال تنهدّ وتتهاوى..
فمن يمسك على هذه الموجودات وجودها، ومن يحفظ عليها نظامها، إذا كان لله ولد؟ إن إلها يتخذ ولدا لأعجز من أن يقوم على أمر نفسه، فضلا عن أن يدبّر وجود غيره ويحفظه..
- وقوله تعالى: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» هو ردّ على تلك المقولة المنكرة..
قد نطق به الوجود كلّه، الذي يرى آثار الله فيه، وتدبيره له- نطق به منكرا هذا القول المنكر.. الذي جاء به الضالون، من واردات الإفك والزور.
«أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً».
هو بيان، وتفسير للضمير فى قوله تعالى: «منه» أي تكاد السموات يتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تنهدّ، من أن ينسب هؤلاء الضالّون ولدا إلى الله.. إذ ما يصحّ، ولا يجوز أن يتخذ الرحمن ولدا.. فما يتّخذ الولد، إلّا ليسدّ حاجة فى نفس والديه.. والله سبحانه وتعالى فى غنى مطلق عن أن يحتاج إلى شىء، فكل ما فى السموات والأرض ملك لله، خاضع لمشيئته، كلهم عبد، وعابد له..
وقوله تعالى:
«لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً».
هو بيان لقدرة الله تعالى، وسلطانه على هذا الوجود، وأن كلّ موجود فيه- صغر أم كبر- هو بيد القدرة الممسكة به، العالمة بكل ما فى ظاهره وباطنه.. وكل إنسان سيأتى يوم القيامة فردا، لا يصحبه أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا متاع.. فهؤلاء الضالّون محصون فى علم الله، معروفون بذواتهم وأعمالهم، ومعدود عليهم كل نفس يتنفسونه، فلا يقع فى ظنهم أنهم غائبون عن الله، تائهون فى خضمّ هذا الوجود..!
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا».
وأهل الفوز من الناس جميعا، هم أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات..
فهؤلاء، حين يأتى الناس يوم القيامة، ولا شىء معهم- سيأتون هم ومعهم صالح أعمالهم، التي تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رحمته، وتنزلهم منازل مودّته وألطافه..
«فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا».
الضمير فى يسّرناه، يعود إلى القرآن الكريم، الذي لم يجر لهم ذكر فى هذا العرض الذي جاءت به الآيات السابقة.. وفى هذا تنويه بفضل القرآن، وأنه هو المذكور فى هذا الموقف، والملجأ الذي يلجأ إليه الناس، ويجدون فيه الهدى، والنجاة من أهوال يوم القيامة.
فهذا القرآن ليس مما يخفى أمره على من يريد الهدى، ويلتمس النجاة.. إنه لا هدى إلا منه، ولا نجاة إلا بالتعلق به.. وإنه ممهد السبل، واضح المناهج، قريب التناول.. إنه يخاطب القوم بلسانهم الذي يتخاطبون به، فلا غموض فيه ولا إبهام.. إنه ليس سجعا كسجع الكهان، ولا تمتعة كتمتمة السحرة..
ولكنه بلسان عربى مبين.. وهذا الأسلوب الذي جاء عليه القرآن بلسان النبىّ، ولسان قومه، إنما ليكون حجة قائمة على الناس.. يدعوهم إلى الله، وإلى الإيمان به، وامتثال أو امره، واجتناب نواهيه.. فمن آمن، وعمل صالحا، فيا بشراه بما يلقى من نعيم الجنات ورضوان الرحمن.. ومن أبى، وأعرض..
فيا لخسرانه، ويا لحسرته.. يوم لا ينفع مال ولا بنون..!
- وفى قوله تعالى: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» إشارة كاشفة إلى تلك الآفة التي حجزت المشركين عن الاهتداء بهذا الهدى، والاستضاءة بذلك النور..
وإن آفتهم لهى هذا اللجج فى الخصومة والجدل، كما يقول سبحانه فيهم:
«بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» (٥٨: الزخرف).
«وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ.. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً»..
هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا أمسكوا على ما هم عليه من عناد وضلال، فإنهم سيخرجون من هذه الدنيا بأخسر صفقة..
فما هى إلا أيام يعيشونها فى هذه الدنيا، ثم يطويهم التراب، كما طوى أمما وقرونا كثيرة من قبلهم، فأصبحوا ترابا هامدين، لا يذكر لهم أثر، ولا يسمع لهم نبأ!..
نزولها: مكيّة.. نزلت بعد سورة «مريم».
عدد آياتها: مائة وخمس وثلاثون آية.
عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها
ختمت سورة مريم بقوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً».
وبدئت سورة طه بقوله: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى».
والختام، والبدء، على سواء فى تذكير النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ليس مسئولا عن هداية الناس، وحملهم حملا على الإيمان بالله.. وإنما دعوته هى تبليغ رسالة ربّه.. والرسالة- كما يحملها القرآن الكريم- واضحة بيّنة، لا تحتاج إلى جهد يبذل وراءها، ليكشف عن مضامينها.. إنها لا تحتاج- لكى يجنى الناس ثمراتها- إلا إلى آذان تسمع، وعقول تعقل، وقلوب تعى «فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (٤١: الزمر) «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ.. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (٢٩: الكهف)