تفسير سورة البقرة

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة البقرة مدنية، وهي مائتان وثمانون آية وعشر وست آيات كوفية.

﴿ الۤمۤ ﴾ [آية: ١] ﴿ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ ﴾، وذلك أن كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، لما دعاهما النبى صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، قالا: ما أنزل الله كتاباً من بعد موسى، تكذيباً به، فأنزل الله عزوجل فى قولهما: ﴿ الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ ﴾، بمعنى هذا الكتاب الذى كفرت به اليهود.
﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾، يعنى لا شك فيه أنه من الله جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا القرآن ﴿ هُدًى ﴾ من الضلالة ﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ من الشرك.
ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾، يعنى يؤمنون بالقرآن أنه من الله تعالى جاء، وهو أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويعملون بما فيه.
﴿ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ ﴾ المكتوبة الخمس، يعنى يقيمون ركوعها وسجودها فى مواقيتها.
﴿ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ ﴾ من الأموال ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾ [آية: ٣]، يعنى الزكاة المفروضة نظيرها فى لقمان، فهاتان الآيتان نزلتا فى مؤمنى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم والمهاجرين. ثم ذكر مؤمنى أهل التوراة، عبدالله بن سلام وأصحابه، منهم: أسيد بن زيد، وأسد بن كعب، وسلام بن قيس، وثعلبة بن عمر، وابن يامين، واسمه سلام، فقال: ﴿ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ﴾، يعنى يصدقون ﴿ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يا محمد من القرآن أنه من الله نزل.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ على الأنبياء، يعنى التوراة والإِنجيل والزبور.
﴿ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [آية: ٤]، يعنى يصدقون بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، ثم جمعهم جميعاً، فقال سبحانه: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٥].
فلما سمع أبو ياسر بن أخطب اليهودى بهؤلاء الآيات، قال لأخيه جدى بن أخطب: لقد سمعت من محمد كلمات أنزلهن الله على موسى بن عمران، فقال جدى لأخيه: لا تعجل حتى تتثبت فى أمره، فعمد أبو ياسر وجدى ابنا أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وحيى بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وأبو لبابة بن عمرو، ورؤساء اليهود، فأتوا النبى صلى الله عليه وسلم، فقال جدى للنبى صلى الله عليه وسلم: يا أبا القاسم، أخبرنى أبو ياسر بكلمات تقولهن آنفاً، فقرأهن النبى صلى الله عليه وسلم، فقال جدى: صدقتم، أما ﴿ الۤمۤ ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، فنحن هم، وأما ﴿ وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ فهو كتابك.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾، فهو كتابنا.
﴿ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾، فأنتم هم قد آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا، وآمنتم بالجنة والنار، فآيتان فينا وآيتان فيكم. ثم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ننشدك بالله أنها نزلت عليك من السماء، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" أشهد بالله أنها نزلت علىَّ من السماء "، فذلك قوله سبحانه فى يونس:﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ ﴾[يونس: ٥٣]، يعنى ويستخبرونك أحق هو؟ قل: ﴿ إِي وَرَبِّيۤ ﴾، ويعنى بلى وربى إنه لحق. فقال جدى: لئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون إحدى وسبعين سنة، ولقد بعث الله عز وجل فى بنى إسرائيل ألف نبى كلهم يخبرون عن أمتك ولم يخبرونا كم تملكون حتى أخبرتنا أنت الآن، ثم قال جدى لليهود: كيف ندخل فى دين رجل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة، فقال عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه: وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فقال جدى: أما ألف فى الحساب فواحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال جدى: هل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " نعم.
﴿ الۤمۤصۤ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ " [الأعراف: ١، ٢].
فقال جدى: هذه أكبر من الأولى، ولئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون مائتى سنة واثنتين وثلاثين سنة، ثم قال: هل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ﴿ الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ " [هود: ١]، فقال جدى: هذه أكبر من الأولى والثانية، وقد حكم وفصل، ولئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون أربعمائة سنة وثلاثاً وستين سنة، فاتق الله ولا تقولن إلا حقاً، فهل غير هذا؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ﴿ الۤمۤر تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ " [الرعد: ١]، فقال جدى: لئن كنت صادقاً، فإنكم تملكون سبعمائة سنة وأربعاً وثلاثين سنة، ثم إن جدى قال: الأن لا نؤمن بما تقول، ولقد خلطت علينا، فما ندرى بأى قولك نأخذ، وأيما أنزل عليك نتبع، ولقد لبست علينا حتى شككنا فى قولك الأول، ولولا ذلك لاتبعناك. قال أبو ياسر: أما أنا فأشهد أن ما أنزل على أنبيائنا حق، وأنهم قد بينوا لنا ملك هذه الأمة، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، ليجمعن له هذه السنون كلها، ثم نهضوا من عنده، فقالوا: كفرنا بقليله وكثيره، فقال جدى لعبد الله ابن سلام وأصحابه: أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم؟ فقالوا: بلى نعرف الحق فيما يقول، فأنزل الله عز وجل فى كفار اليهود بالقرآن﴿ الۤمۤ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ﴾الذى لا يموت،﴿ ٱلْقَيُّومُ ﴾يعنى القائم على كل شىء،﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾يا محمد﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾لم ينزل باطلاً،﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾يقول سبحانه: قرآن محمد يصدق الكتب التى كانت قبله،﴿ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ ﴾يعنى لبنى إسرائيل من الضلالة، ثم قال عز وجل:﴿ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾[آل عمران: ١-٤]، يعنى قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل، يعنى بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة، نظيرها فى الأنبياء،﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾[الأنبياء: ٤٨]، يعنى المخرج. وفى البقرة:﴿ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ﴾[البقرة: ١٨٥].
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾اليهود كفروا بالقرآن، يعنى هؤلاء النفر المسلمين وأصحابهم،﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾فى ملكه وسلطانه،﴿ ذُو ٱنْتِقَامٍ ﴾[آل عمران: ٤] من أهل معصيته. وأنزلت أيضاً فى اليهود فى هؤلاء النفر وما يحسبون من المتشابه،﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ ﴾[آل عمران: ٧].
فأما المحكمات، فالآيات الثلاث اللاتى فى الأنعام:﴿ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾إلى قوله سبحانه:﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾[الأنعام: ١٥١-١٥٣]، فهن محكمات ولم ينسخهن شئ من الكتاب، وإنما سمين أم الكتاب؛ لأن تحريم هؤلاء الآيات فى كل كتاب أنزله الله عز وجل.﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾يعنى: ﴿ الۤمۤ ﴾ ﴿ الۤمۤصۤ ﴾.
﴿ الۤرَ ﴾.
﴿ الۤمۤر ﴾، شبهوا على هؤلاء النفر من اليهود كم تملك هذه الأمة من السنين.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾، يعنى ميل عن الهدى، وهم هؤلاء اليهود،﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ ﴾يعنى الكفر،﴿ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾يعنى منتهى كم يملكون. يقول الله عز وجل:﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ ﴾يعنى كم تملك هذه الأمة من السنين،﴿ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ ﴾يعنى عبدالله بن سلام وأصحابه،﴿ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ﴾يعنى بالقرآن كله،﴿ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾[آل عمران: ٧] يعنى من كان له لب أو عقل. ثم قال ابن صلام وأصحابه:﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا ﴾كما أزغت قلوب اليهود﴿ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾إلى الإسلام،﴿ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ ﴾[آل عمران: ٨].
فآيتان من أول هذه السورة نزلتا فى أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، والآيتان اللتان تليانهما نزلتا فى مشركى العرب، وثلاث عشرة آية فى المنافقين من أهل التوراة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٦]، يعنى لا يصدقون.
﴿ خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ ﴾، يعنى طبع الله على قلوبهم، فهم لا يعقلون الهدى.
﴿ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ﴾، يعنى آذانهم، فلا يسمعون الهدى.
﴿ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ﴾، يعنى غطاء فلا يبصرون الهدى.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ﴾ [آية: ٧]، يعنى وافر لا انقطاع له. نزلت هاتان الآيتان فى مشركى العرب، منهم: شيبة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، اسمه عمرو، وعبدالله بن أبى أمية، وأمية بن خلف، وعمرو ابن وهب، والعاص بن وائل، والحارث بن عمرو، والنضر بن الحارث، وعدى بن مطعم بن عدى، وعامر بن خالد، أبو البحترى بن هشام.
ثم رجع إلى المنافقين، فقال عز وجل: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِر ﴾، يعنى صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له، وصدقنا بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن، فكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٨]، يعنى بمصدقين بالتوحيد ولا بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال.﴿ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ ﴾ حين أظهروا الإيمان بمحمد، وأسروا التكذيب.
﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ٩]، نزلت فى منافقي أهل الكتاب اليهود، منهم: عبدالله بن أبى بن سلول، وجد بن قيس، والحارث بن عمرو، ومغيث بن قشير، وعمرو بن زيد، فخدهم الله فى الآخرة حين يقول فى سورة الحديث:﴿ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾[الحديد: ١٣]، فقال لهم استهزاء بهم كما استهزؤوا فى الدنيا بالمؤمنين حين قالوا: آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله عز وجل:﴿ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾[النساء: ١٤٢]، أيضاً على الصراط حين يقال لهم: ﴿ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾.
﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾، يعنى الشك بالله وبمحمد، نظيرها فى سورة محمد:﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾[محمد: ٢٩] يعنى الشك. ﴿ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً ﴾، يعنى شكاً فى قلوبهم.
﴿ وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾، يعنى وجيع فى الآخرة.
﴿ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [آية: ١٠] لقولهم: ﴿ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، وذلك أن عبدالله بن أبى المنافق قال لأصحابه: انظروا إلىَّ وإلى ما أصنع، فتعلموا منى وانظروا دفعى فى هؤلاء القوم كيف أدفعهم عن نفسى وعنكم، فقال أصحابه: أنت سيدنا ومعلمنا، ولولا أنت لم نستطع أن نجتمع مع هؤلاء، فقال عبدالله بن أبىِّ لأبى بكر الصديق وأخذ بيده: مرحباً بسيد بنى تميم بن مرة، ثانى اثنين، وصاحبه فى الغار، وصفيه من أمته، الباذل نفسه وماله. ثم أخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: مرحباً بسيد بنى عدي بن كعب، القوى فى أمر الله، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد على بن أبى طالب، فقال: مرحباً بسيد بنى هاشم، غير رجل واحد اختصه الله بالنبوة لما علم من صدق نيته ويقينه، فقال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه: ويحك يا ابن أبى، اتق الله ولا تنافق، وأصلح ولا تفسد، فإن المنافق شر خليقة الله، وأخبثهم خبثاً، وأكثرهم غشاً، فقال عبدالله بن أبى بن سلول: يا عمر مهلاً، فوالله لقد آمنت كإيمانكم، وشهدت كشهادتكم، فافترقوا على ذلك. فانطلق أبو بكر وعمر وعلى، رحمة الله عليهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بالذى قاله عبدالله، فأنزل الله عز وجل على نبيه: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴾.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يعنى لا تعملوا فى الأرض بالمعاصى.
﴿ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [آية: ١١]، يعنى مطيعين.
يقول الله سبحانه: ﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ ﴾، يعنى العاصين.
﴿ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ١٢] بأنهم مفسدون.
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ ﴾ نزلت فى منذر بن معاذ، وأبى لبابة، ومعاذ بن جبل، وأسيد، قالوا لليهود: صدقوا بمحمد إنه نبى، كما صدق به عبدالله بن سلام وأصحابه، فقالت اليهود: ﴿ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ ﴾، يعنى نصدق.
﴿ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ ﴾، يعنى الجهال، يعنون عبدالله بن سلام وأصحابه، يقول الله عز وجل رداً عليهم: ﴿ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٣] بأنهم السفهاء.
ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ قَالُوۤا ﴾ لهم: ﴿ آمَنَّا ﴾ صدقنا بمحمد.
﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ ﴾، يعنى رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه.
﴿ قَالُوۤا ﴾ لهم: ﴿ إِنَّا مَعَكْمْ ﴾ على دينكم.
﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [آية: ١٤] بمحمد وأصحابه، فقال الله سبحانه: ﴿ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ﴾ فى الآخرة إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب على الصراط، فيبقون فى الظلمة حتى يقال لهم:﴿ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً ﴾[الحديد: ١٣]، فهذا من الاستهزاء بهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَيَمُدُّهُمْ ﴾ ويلجهم ﴿ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [آية: ١٥]، يعنى فى ضلالتهم يترددون.
ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرُواْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ ﴾، وذلك أن اليهود وجدوا نعت محمد النبى صلى الله عليه وسلم فى التوراة قبل أن يُبعث، فآمنوا به وظنوا أنه من ولد إسحاق، عليه السلام، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم من العرب من ولد إسماعيل، عليه السلام، كفروا به حسداً، واشتروا الضلالة بالهدى، يقول: باعوا الهدى الذى كانوا فيه من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبعث، بالضلالة التى دخلوا فيها بعدما بُعث من تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فبئس التجارة، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [آية: ١٦] من الضلالة.
ثم ضرب الله للمنافقين مثلاً، فقال عز وجل: ﴿ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ﴾ طفئت ناره، يقول الله عز وجل: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد ناراً يمشى بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان فى ظلمة كظلمة من طفئت ناره، فقام لا يهتدى ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: ﴿ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ ﴾، يعنى بإيمانهم، نظيرها فى سورة النور:﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾[النور: ٤٠]، يعنى به الإيمان، وقال سبحانه فى الأنعام:﴿ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ ﴾[الأنعام: ١٢٢]، يعنى يهتدى به الذين تكلموا به.
﴿ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ﴾، يعنى الشرك.
﴿ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴾ [آية: ١٧] الهدى.
ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ صُمٌّ ﴾ لا يسمعون، يعنى لا يعقلون.
﴿ بُكْمٌ ﴾ خرس لا يتكلمون بالهدى.
﴿ عُمْيٌ ﴾ فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب الله بنورهم، يعنى بإيمانهم.
﴿ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴾ [آية: ١٨] عن الضلالة إلى الهدى، ثم ضرب للمنافقين مثلاً، فقال سبحانه: ﴿ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾، يعنى المطر.
﴿ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾ مثل المطر مثل القرآن، كما أن المطر حياة الناس، فكذلك القرآن حياة لمن آمن به، ومثل الظلمات، يعنى الكافر بالقرآن، يعنى الضلالة التى هم فيها، ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد فى القرآن، ومثل البرق الذى فى المطر مثل الإيمان، وهو النور الذى فى القرآن.
﴿ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ ﴾، يقول: مثل المنافق إذا سمع القرآن، فصهم أذنيه كراهية للقرآن، كمثل الذى جعل أصبعيه فى أذنيه من شدة الصواعق.
﴿ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ ﴾، يعنى مخافة الموت، يقول: كما كره الموت من الصاعقة، فكذلك يكره الكافر القرآن، فالموت خير له من الكفر بالله عزو جل والقرآن.
﴿ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكافِرِينَ ﴾ [آية: ١٩]، يعنى أحاطه علمه بالكافرين.
ثم قال سبحانه: ﴿ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ ﴾ الذى فى المطر ﴿ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ﴾، يعنى يذهب بأبصارهم من شدة نوره، يقول سبحانه: مثل الإيمان إذا تكلم به المنافق مثل نور البرق الذى يكاد أن يذهب بأبصارهم.
﴿ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ ﴾ البرق ﴿ مَّشَوْاْ فِيهِ ﴾، يقول: كلما تكلموا بالإيمان مضوا فيه، يقول: ويضيء لهم نوراً يهتدون به.
﴿ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ﴾ البرق، أى ذهب ضوءه.
﴿ قَامُواْ ﴾ فى ظلمة لا يبصرون الهدى.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ﴾ فلا يسمعون ﴿ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ فلا يرون أبداً عقوبة لهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢٠] من ذلك وغيره.
﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ﴾، يعنى المنافقين واليهود وحدوا ربكم.
﴿ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾ ولم تكونوا شيئاً.
﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ من الأمم الخالية ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعنى لكى ﴿ تَتَّقُونَ ﴾ [آية: ٢١] الشرك وتوحدوا الله عز وجل إذا تفكرتم فى خلقكم وخلق الذين من قبلكم، ثم دل على نفسه بصنعه ليحدوه وذكرهم النعم، فقال سبحانه: اعبدوا ربكم ﴿ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً ﴾، يعنى بساطاً.
﴿ وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً ﴾، يعنى سقفاً.
﴿ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾، يعنى المطر.
﴿ فَأَخْرَجَ بِهِ ﴾، يقول: فأخرج بالمطر من الأرض أنواعاً ﴿ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً ﴾، يقول: لا تجعلوا مع الله شركاء.
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٢] أن هذا الذى ذكر كله من صنعه، فكيف تعبدون غيره؟.
قالت اليهود، منهم: رفاعة بن زيد، وزيد بن عمرو: ما يشبه هذا الكلام الوحى، وإنا لفى شك منه، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ﴾، يعنى فى شك.
﴿ مِّمَّا نَزَّلْنَا ﴾ من القرآن ﴿ عَلَىٰ عَبْدِنَا ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن ﴾ الله ﴿ مِّثْلِهِ ﴾، يعنى مثل هذا القرآن.
﴿ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم ﴾، يقول: واستعينوا بالآلهة التى تعبدون ﴿ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٢٣] بأن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول من تلقاء نفسه.
ثم يقول سبحانه: ﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾، يعنى تجيئوا به، فيها تقديم تقديمها، ولن تفعلوا ذلك، فإن تفعلوا فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، فلم يجيبوه وسكتوا، يقول الله سبحانه: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ ﴾، وتلك الحجارة تحت الأرض الثانية مثل الكبريت تجعل فى أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار احترقت عامة اليوم، فكان وهجها على وجوههم، وذلك قوله سبحانه:﴿ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾يعنى شدة العذاب﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[الزمر: ٢٤].
ثم قال: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٤] بالتوحيد يخوفهم الله عز وجل، فلم يخافوا، فقالوا من تكذيبهم: هذه النار وقودها الناس، فما بال الحجارة، فرق المؤمنون عند التخويف.
فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَبَشِّرِ ٱلَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، يعنى البساتين.
﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ ﴾ كلما أطعموا منها من الجنة من ثمرة.
﴿ رِّزْقاً قَالُواْ هَـٰذَا ٱلَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ﴾، وذلك أن لهم فى الجنة رزقهم فيها بكرة وعشياً، فإذا أتوا بالفاكهة فى صحاف الدر والياقوت فى مقدار بكرة الدنيا وأتوا بالفاكهة غيرها على مقدار عشاء الدنيا، فإذا نظروا إليه متشابه الألوان، قالوا: هذا الذى رزقنا من قبل، يعنى أطعمنا بكرة، فإذا أكلوا وجدوا طعمه غير الذى أتوا به بكرة، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾، يعنى يشبه بعضه بعضاً فى الألوان، مختلفاً فى الطعم.
﴿ وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ خلقن فى الجنة مع شجرها وحللها، مطهرة من الحيض والغائط والبول والأقذار كلها.
﴿ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٢٥] لا يموتون.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾، وذلك أن الله عز وجل ذكر العنكبوت والذباب فى القرآن، فضحكت اليهود، وقالت: ما يشبه هذا من الأمثال، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً ﴾، يعنى أن الله عز وجل لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلاً.
﴿ مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى يصدقون بالقرآن.
﴿ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ﴾، أى هذا المثل هو ﴿ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ بالقرآن، يعنى اليهود.
﴿ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا ﴾ الذى ذكر ﴿ مَثَلاً ﴾، إنما يقوله محمد من تلقاء نفسه وليس من الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يُضِلُّ بِهِ ﴾، أى يضل الله بهذا المثل ﴿ كَثِيراً ﴾ من الناس، يعنى اليهود.
﴿ وَيَهْدِي بِهِ ﴾، أى بهذا المثل ﴿ كَثِيراً ﴾ من الناس، يعنى المؤمنين.
﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ ﴾، أى بهذا المثل ﴿ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٢٦]، يعنى اليهود. ثم أخبر فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾، فنقضوا العهد الأول، ونقضوا ما أخذ عليهم فى التوراة أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا بالنبى صلى الله عليه وسلم، وكفروا بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض.
﴿ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ ﴾، يعنى ويعملون فيها بالمعاصى.
﴿ أُولَـۤئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ [آية: ٢٧] فى العقوبة، يعنى اليهود، ونظيرها فى الرعد: ﴿ ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ﴾ من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم،﴿ وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ ﴾[الرعد: ٢٥].
﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ ﴾ بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً ﴾، يعنى نطفاً.
﴿ فَأَحْيَاكُمْ ﴾، يعنى فخلقكم، وذلك قوله سبحانه:﴿ يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ ﴾[الروم: ١٩].
﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند إحيائكم.
﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ من بعد الموت يوم القيامة.
﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [آية: ٢٨]، فيجزيكم بأعمالكم، فأما اليهود، فعرفوا وسكتوا، وأما المشركون، فقالوا: أئذا كنا تراباً، من يقدر أن يبعثنا من بعد الموت؟ فأنزل الله عز وجل: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ من شئ ﴿ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ فبدأ بخلقهن، وخلق الأرض ﴿ فَسَوَّاهُنَّ ﴾، يعنى فخلقهن ﴿ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾، فهذا أعظم من خلق الإنسان، وذلك قوله سبحانه:﴿ لَخَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ ﴾[غافر: ٥٧].
﴿ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من الخلق ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٩] بالبعث وغيره.
﴿ وَإِذْ ﴾، يعنى وقد ﴿ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وذلك أن الله عز وجل خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس، وهو آدم، عليه السلام، فجعلهم سكان الأرض، وجعل الملائكة سكان السماوات، فوقع فى الجن الفتن والحسد، فاقتتلوا، فبعث الله جنداً من أهل سماء الدنيا، يقال لهم: الجن، إبليس عدو الله منهم، خلقوا جميعاً من نار، وهم خزان الجنة رأسهم إبليس، فهبطوا إلى الأرض، فلم يكلفوا من العبادة فى الأرض ما كلفوا فى السماء، فأحبوا القيام فى الأرض، فأوحى الله عز وجل إليهم: إنى جاعل فى الأرض خليفة سواكم ورافعكم إلىَّ، فكرهوا ذلك؛ لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالاً.
﴿ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا ﴾، يقول: أتجعل فى الأرض ﴿ مَن يُفْسِدُ فِيهَا ﴾، يعنى من يعمل فيها بالمعاصى ﴿ وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ ﴾ بغير حق كفعل الجن.
﴿ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ﴾، يقول: نحن نذكرك بأمرك، كقوله سبحانه:﴿ وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ﴾[الرعد: ١٣]، يعنى يذكره بأمره، ونقدس لك ونصلى لك ونعظم أمرك.﴿ قَالَ ﴾ الله سبحانه: ﴿ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٣٠] إن فى علمى أنكم سكان السماء، ويكون آدم وذريته سكان الأرض، ويكون منهم من يسبح بحمدى ويعبدنى، فخلق آدم عليه السلام، من طين أحمر وأبيض من السبخة والعذبة، فمن ثم نسله أبيض وأحمر وأسود مؤمن وكافر، فحسد إبليس تلك الصورة، فقال للملائكة الذين هم معه: أرأيتم هذا الذى لم تروا شيئاً من الخلق على خلقته، إن فضل علىَّ ماذا تصنعون؟ قالوا: نسمع ونطيع لأمر الله، وأسر عدو الله إبليس فى نفسه، لئن فضل آدم عليه لا يطيعه وليستزنه، فترك آدم طيناً أربعين سنة مصوراً، فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فيه، ويقول: أنا نار وهذا طين أجوف، والنار تغلب الطين ولأغلبنه، فذلك قوله عز وجل:﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَٱتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾[سبأ: ٢٠]، يعنى قوله يومئذ: لأغلبنه، وقوله: لأحتنكن، يعنى لأحتوين على ذريته إلا قليلاً، فقال للروح: ادخلى هذا الجسد، فقالت: أى رب، أين تدخلنى هذا الجسد المظلم؟ فقال الله تبارك وتعالى: ادخليه كرهاً، فدخلته كرهاً، وهى لا تخرج منه إلا كرهاً، ثم نفخ فيه الروح من قبل رأسه، فترددت الروح فيه حتى بلغت نصف جسده موضع السرة، فجعل للقعود، فذلك قوله تعالى:﴿ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾[الإسراء: ١١]، فجعلت الروح تتردد فيه حتى بلغت أصابع الرجلين، فأرادت أن تخرج منها، فلم تجد منفذاً، فرجعت إلى الرأس، فخرجت من المنخرين، فعطس عند ذلك خروجها من منخريه، فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه، فرد ربه عز وجل: يرحمك الله، لهذا خلقتك، تسبح بحمدى وتقدس لى، فسبقت رحمته لآدم عليه السلام.
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾، ثم إن الله تبارك وتعالى حشر الطير والدواب وهوام الأرض كلها، فعلم آدم، عليه السلام، أسماءها، فقال: يا آدم، هذا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار، حتى سمى له كل دابة وكل طير باسمه.
﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ ﴾، ثم عرض أهل تلك الأسماء على الملائكة الذين هم فى الأرض.
﴿ فَقَالَ أَنْبِئُونِي ﴾، يعنى أخبرونى ﴿ بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾، يعنى دواب الأرض كلها ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٣١] بأنى جاعل فى الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء.
﴿ قَالُواْ ﴾ قالت الملائكة ﴿ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ٣٢].
قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل، قال: قال مقاتل: قال الله عز وجل لهم: كيف تدعون العلم فيما لم يخلق بعد ولم تروه وأنتم لا تعلمون من ترون.
﴿ قَالَ ﴾ الله عز وجل لآدم: ﴿ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ ﴾، يقول: أخبر الملائكة بأسماء دواب الأرض والطير كلها، ففعل، قال الله عز وجل: ﴿ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ﴾ ما يكون فى ﴿ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾، يعنى ما أظهرت الملائكة لإبليس من السمع والطاعة للرب ﴿ وَ ﴾ أعلم ﴿ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [آية: ٣٣]، يعنى إبليس وحده ما كان أسر إبليس فى نفسه من المعصية لله عز وجل فى السجود لآدم.
ثم قال: ﴿ وَإِذْ ﴾، يعنى وقد ﴿ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ﴾ الذين خلقوا من مارج من نار السموم ﴿ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ وحده، فاستثنى لم يسجد ﴿ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ ﴾، يعنى وتكبر عن السجود لآدم، وإنما أمره الله عز وجل بالسجود لآدم لما علم الله منه، فأحب أن يظهر ذلك للملائكة ما كان أسر فى نفسه، قال:﴿ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾[الأعراف: ١٢].
﴿ وَكَانَ ﴾ إبليس ﴿ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٣٤] الذين أوجب الله عز وجل لهم الشقاء فى علمه، فمن ثم لم يسجد.
﴿ وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ﴾، يعنى حواء خلقا يوم الجمعة.
﴿ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ ﴾، يعنى ما ﴿ شِئْتُمَا ﴾، وإذا شئتما من حيث شئتما.
﴿ وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ ﴾، يعنى السنبلة، وهى الحنطة.
﴿ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٣٥] لأنفسكما.
﴿ فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا ﴾، يقول سبحانه: فاستزلهما الشيطان عنها، يعنى عن الطاعة، وهو إبليس.
﴿ فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ﴾ من الخير فى الجنة.
﴿ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ ﴾ منها، يعني آدم وحواء وإبليس بوحى منه، فهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بالبصرة، وهى الأيلة، وهبط آدم فى واد اسمه نوذ فى شعب يقال له: سرنديب، فاجتمع آدم وحواء بالمزدلفة، فمن ثم جمع لاجتماعهما بها، ثم قال: ﴿ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ﴾، فإبليس لهما عدو، وهما إبليس عدو، ثم قال: ﴿ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ﴾ [آية: ٣٦]، يعنى بلاغاً إلى منتهى آجالكم الموت.
وهبط إبليس قبل آدم.
﴿ فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ ﴾ بعدما هبط إلى الأرض يوم الجمعة، يعنى بالكلمات أن قال: رب، أكان هذا شىء كنت قدرته علىَّ قبل أن تخلقنى، فسبق لى به الكتاب أنى عامله، وسبقت لى منك الرحمة حين خلقتنى؟ قال: نعم يا آدم، قال: يا رب، خلقتنى بيدك، فسويتنى ونفخت من روحك، فعطست فحمدتك، فدعوت لى برحمتك، فسبقت رحمتك إلىَّ غضبك؟ قال: نعم يا آدم، قال: أخرجتنى من الجنة، وأنزلتنى إلى الأرض يا رب، إن تبت وأصلحت ترجعنى إلى الجنة؟ قال الله عز وجل له: نعم يا آدم، فتاب آدم وحواء يوم الجمعة، فعند ذلك قالا: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: ٢٣].
﴿ فَتَابَ ﴾ الله عز وجل ﴿ عَلَيْهِ ﴾ يوم الجمعة.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ﴾ [آية: ٣٧] لخلقه.
﴿ قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ﴾، يعنى من الجنة جميعاً، آدم، وحواء، وإبليس، فأوحى الله إليهم بعدما هبطوا.
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم ﴾، يعنى ذرية آدم، فإن يأتيكم يا ذرية آدم ﴿ مِّنِّي هُدًى ﴾، يعنى رسولاً وكتاباً فيه البيان، ثم أخبر بمستقر من اتبع الهدى فى الآخرة، قال سبحانه: ﴿ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ ﴾، يعنى رسولى وكتابى.
﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ٣٨] من الموت.
ثم أخبر بمستقر من ترك الهدى، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ ﴾ برسلى ﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾ القرآن ﴿ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٣٩] لا يموتون.
﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى أجدادهم، فكانت النعمة حين أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وحين فرق البحر لهم، وحين أنزل عليهم المن والسلوى، وحين ظلل عليهم الغمام بالنهار من حر الشمس، وجعل لهم عموداً من نور يضئ لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وفجر لهم اثنى عشر عيناً من الحجر، وأعطاهم التوراة فيها بيان كل شيء، فدلهم على صنعه ليوحدوه عز وجل.﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ ﴾، يعنى اليهود، وذلك أن الله عز وجل عهد إليهم فى التوراة أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالنبيين والكتاب، فأخبر الله عز وجل عنهم فى المائدة، فقال:﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾بمحمد صلى الله عليه وسلم﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾يعنى ونصرتموهم﴿ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[المائدة: ١٢]، فهذا الذى قال الله: ﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ ﴾ الذى عهدت إليكم فى التوراة، فإذا فعلتم ذلك ﴿ أُوفِ ﴾ لكم ﴿ بِعَهْدِكُمْ ﴾، يعنى المغفرة والجنة، فعاهدهم إن أوفوا له بما قال المغفرة والجنة، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبعيسى، عليه السلام، فذلك قوله سبحانه:﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾[المائدة: ١٢]، فهذا وفاء الرب عز وجل لهم.
﴿ وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ ﴾ [آية: ٤٠]، يعنى وإياى فخافون فى محمد صلى الله عليه وسلم، فمن كذب به فله النار.
ثم قال: ﴿ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً ﴾ نزلت فى كعب بن الأشرف وأصحابه رءوس اليهود، يقول: صدقوا بما أنزلت من القرآن على محمد مصدقاً ﴿ لِّمَا مَعَكُمْ ﴾ يقول: محمد تصديقه معكم أنه نبى رسول.
﴿ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾، يعنى محمداً، فتتابع اليهود كلها على كفر به، فلما كفروا تتابعت اليهود كلها، أهل خيبر، وأهل فدك، وأهل قريظة وغيرهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال لرءوس اليهود: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، وذلك أن رءوس اليهود كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة، وكتموا أمره عن سفلة اليهود، وكانت للرؤساء منهم مأكلة فى كل عام من زرعهم وثمارهم، ولو تابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم لحبست تلك المأكلة عنهم، فقال الله لهم: ﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعنى بكتمان بعث محمد صلى الله عليه وسلم عرضاً قليلاً من الدنيا مما تصيبون من سفلة اليهود، ثم خوفهم ﴿ وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ ﴾ [آية: ٤١] فى محمد، فمن كذب به فله النار.
ثم قال لليهود: ﴿ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ ﴾، وذلك أن اليهود يقرون ببعض أمر محمد ويكتمون بعضاً ليصدقوا فى ذلك، فقال الله عز وجل: ولا تخلطوا الحق بالباطل، نظيرها فى آل عمران والأنعام:﴿ وَلَمْ يَلْبِسُوۤاْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾[الأنعام: ٨٢]، يعنى ولم يخلطوا بشرك ﴿ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ ﴾، أى ولا تكتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ أن محمداً نبى ونعته فى التوراة.
وقال لليهود: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ فى مواقيتها ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يعنى وأعطوا الزكاة من أموالكم.
﴿ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ ﴾ [آية: ٤٣]، يعنى اليهود صلوا مع المصلين، يعنى مع المؤمنين من أصحاب النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ ﴾، وذلك أن اليهود قالوا لبعض أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: إن محمداً حق فاتبعوه ترشدوا، فقال الله عز وجل لليهود: ﴿ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يعنى أصحاب محمد.
﴿ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يقول وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه.
﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى التوراة فيها بيان أمر محمد ونعته.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٤٤] أنتم فتتبعونه. ثم قال: ﴿ وَٱسْتَعِينُواْ ﴾ على طلب الآخرة ﴿ بِٱلصَّبْرِ ﴾ على الفرائض.
﴿ وَٱلصَّلوَٰةِ ﴾ الخمس حافظوا عليها فى مواقيتها.
﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ﴾، يعنى حين صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، فكبر ذلك على اليهود منهم: جدىّ بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر وغيرهم، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ ﴾ [آية: ٤٥]، يعنى إلا على المتواضعين من المؤمنين، لم يكبر عليهم تحويل القبلة، ثم نعت الخاشعين، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾، يعنى يعلمون يقيناً ﴿ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ ﴾، يعنى فى الآخرة.
﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [آية: ٤٦] فيجزيهم بأعمالهم.
﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾، يعنى اليهود بالمدينة.
﴿ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى أجدادكم، والنعمة عليهم حين أنجاهم من آل فرعون، فأهلك عدوهم، والخير الذى أنزل عليهم فى أرض التيه، وأعطاهم التوراة، ثم قال: ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٤٧]، يعنى عالمى ذلك الزمان، يعنى أجدادهم من غير بنى إسرائيل.
ثم خوفهم، فقال: ﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ ﴾، يقول: لا تغنى نفس كافرة ﴿ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً ﴾ من المنفعة فى الآخرة.
﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا ﴾، يعنى من هذه النفس الكافرة.
﴿ شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾، يعنى فداء، كفعل أهل الدنيا بعضهم من بعض، ثم قال: ﴿ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [آية: ٤٨]، يقول: ولا هم يمنعون من العذاب.
ثم ذكرهم النعم ليوحدوه، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم ﴾، يعنى أنقذناكم ﴿ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾، يعنى أهل مصر.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾، يعنى يعذبونكم شدة العذاب، يعنى ذبح الأبناء واستحياء النساء؛ لأن فرعون أمر بذبح البنين فى حجور أمهاتهم، ثم بين العذاب، فقال: ﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ فى حجور أمهاتهم.
﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ﴾، يعنى قتل البنين وترك البنات، قتل منهم فرعون ثمانية عشر طفلاً مخافة أن يكون فيهم مولود يكون هلاكه فى سببه، يقول الله عز وجل: ﴿ وَفِي ذَلِكُمْ ﴾، يعنى فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات ﴿ بَلاۤءٌ ﴾، يعنى نقمة ﴿ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٤٩] فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون.
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ ﴾ وذلك أنه فرق البحر يميناً وشمالاً كالجبلين المتقابلين كل واحد منهما على الآخر، وبينهما كوى من طريق إلى طريق، ينظر كل سبط إلى الآخر ليكون آنس لهم.
﴿ فَأَنجَيْنَاكُمْ ﴾ من الغرق ﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ﴾، يعنى أهل مصر، يعنى القبط.
﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [آية: ٥٠] أجدادهم يعلمون أن ذلك حق، وكان ذلك من النعم.
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ ﴾، يعنى الميعاد ﴿ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾، يعنى ثلاثين من ذى القعدة وعشر ليال من ذى الحجة، فكان الميعاد الجبل؛ ليعطى التوراة، وكان موسى، عليه السلام، أخبر بنى إسرائيل بمصر، فقال لهم: إذا خرجنا منها أتيناكم من الله عز وجل بكتاب يبين لكم فيه ما تأتون وما تتقون، فلما فارقهم موسى مع السبعين، واستخلف هارون أخاه عليهم، اتخذوا العجل، فذلك قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ ﴾، يقول: من بعد انطلاق موسى إلى الجبل ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آية: ٥١]، وذلك أن موسى قطع البحر يوم العاشر من المحرم، فقال بنو إسرائيل: وعدتنا يا موسى أن تأتينا بكتاب من ربنا إلى شهر، فأتنا بما وعدتنا، فانطلق موسى وأخبرهم أنه يرجع إلى أربعين يوماً عن أمر ربه عز وجل، فلما سار موسى فدنا من الجبل، أمر السبعين أن يقيموا فى أصل الجبل، وصعد موسى الجبل، فكلم ربه تبارك اسمه، وأخذ الألواح فيها التوراة، فلما مضى عشرون يوماً، قالوا: أخلفنا موسى العهد، فعدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فقالوا: هذا أربعون يوماً، فاتخذوا العجل، فأخبر الله عز وجل موسى بذلك على الجبل، فقال موسى لربه: من صنع لهم العجل؟ قال: السامرى صنعه لهم، قال موسى لربه: فمن نفخ فيه الروح؟ قال الرب عز وجل: أنا، فقال موسى: يا رب، السامرى صنع لهم العجل فأضلهم، وصنعت فيه الخوار، فأنت فتنت قومى، فمن ثم قال الله عز وجل:﴿ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ ﴾[طه: ٨٥]، يعنى الذين خلفهم مع هارون سوى السبعين حين أمرهم بعبادة العجل. فلما نزل موسى من الجبل إلى السبعين، أخبرهم بما كان، ولم يخبرهم بأمر العجل، فقال السبعون لموسى: نحن أصحابك جئنا معك ولم نخالفك فى أمر، ولنا عليك حق، فأرنا الله جهرة، يعنى معاينة، كما رأيته، فقال موسى: والله ما رأيته، ولقد أردته على ذلك فأبى، وتجلى للجبل فجعله دكاً، يعنى فصار دكاً، وكان أشد منى وأقوى، فقالوا: إنا لا نؤمن بك ولا نقبل ما جئت به حتى تريناه معاينة، فلما قالوا ذلك أخذتهم الصاعقة، يعنى الموت عقوبة، فذلك قوله سبحانه:﴿ فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ ﴾[البقرة: ٥٥]، يعنى الموت، نظيرها:﴿ وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً ﴾[الأعراف: ١٤٣]، يعنى ميتاً، وكقوله عز وجل:﴿ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾[الزمر: ٦٨]، يعنى فمات ﴿ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾، يعنى السبعين. ثم أنعم الله عليهم فبعثهم، وذلك أنهم لما صعقوا قام موسى يبكى، وظن أنهم إنما صعقوا بخطيئة العجل، فقال عز وجل فى سورة الأعراف:﴿ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ ﴾[الأعراف: ١٥٥]، وقال: يا رب، ما أقول لبنى إسرائيل إذا رجعت إليهم وقد أهلكت أحبارهم، فبعثهم الله عز وجل لما وجد موسى من أمرهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٥٢]، يقول: لكى تشكروا ربكم فى هذه النعمة، فبعثوا يوم ماتوا، ثم انصرفوا مع موسى راجعين، فلما دنوا من العسكر على ساحل البحر، سمعوا اللغط حول العجل، فقاموا: هذا قتال فى المحلة، فقال موسى، عليه السلام: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخلوا المعسكر رأى موسى ماذا يصنعون حول العجل، فغضب وألقى الألواح، فانكسر منها لوحان، فارتفع من اللوح بعض كلام الله عز وجل، فأمر بالسامرى فأخرج من محلة بنى إسرائيل، ثم عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار، ثم ذراه فى البحر، فذلك قوله:﴿ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً ﴾[طه: ٩٧].
فقال موسى: إنكم ظلمتم، أى ضررتم، أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً من دون الله سبحانه وتعالى، فتوبوا إلى بارئكم، يعنى خالقكم، وندم القوم على صنيعهم، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فَيۤ أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ ﴾يعنى أشركوا بالله عز وجل،﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[الأعراف: ١٤٩]، فقالوا: كيف لنا بالتوبة يا موسى، قال: اقتلوا أنفسكم، يعنى يقتل بعضكم بعضاً، كقوله سبحانه فى النساء:﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ ﴾يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً،﴿ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾[النساء: ٢٩]، يعنى ذلك القتل والتوبة خير لكم عند بارئكم، يعنى عند خالقكم. قالوا: قد فعلنا، فلما أصبحوا أمر موسى، عليه السلام، البقية الاثنى عشر ألفاً الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر، فخرج من كل بنى أب على حدة من منازلهم، فقعدوا بأفنية بيوتهم، فقال بعضهم لبعض: هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل جيوبه، أو قام من مجلسه، أو اتقى بيد أو رجل، أو حار إليهم طرفة عين، قالوا: آمين، فقتلوهم من لدن طلوع الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة، وأرسل الله عز وجل عليهم الظلمة حتى لا يعرف بعضهم بعضاً، فبلغت القتلى سبعين ألفاً، ثم أنزل الله عز وجل الرحمة، فلم يحد فيهم السلاح، فأخبر الله عز وجل موسى، عليه السلام، أنه قد نزلت الرحمة، فقال لهم: قد نزلت الرحمة، ثم أمر موسى المنادى فنادى: أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم، فجعل الله عز وجل القتلى شهداء، وتاب الله على الأحياء، وعفى عن الذين صبروا للقتل، فلم يقتلوا، فمن مات قبل أن يأتيهم موسى، عليه السلام، على عبادة العجل دخل النار، ومن هرب من القتل لعنهم الله، فضربت عليهم الذلة والمسكنة، فذلك قوله:﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا ﴾[الأعراف: ١٥٢]، وذلك قوله سبحانه:﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ ﴾[الأعراف: ١٦٧].
فكان الرجل يأتى نادى قومه وهم جلوس، فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية، ويقتل الخمسة من العشرين، ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الذين لم يقض لهم أن يقتلوا، فذلك قوله عز وجل: ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ ﴾، فلم نهلككم جميعاً ﴿ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، يعنى بعد العجل ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعنى لكى ﴿ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: ٥٢] ربكم فى هذه النعم، يعنى العفو، فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم، وذلك قوله سبحانه فى الأعراف:﴿ وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا ﴾يعنى من بعد عبادة العجل﴿ وَآمَنُوۤاْ ﴾يعنى وصدقوا بأن الله واحد لا شريك له،﴿ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[الأعراف: ١٣٥] لذو تجاوز عنهم رحيم بهم عند التوبة.
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني التوراة.
﴿ وَٱلْفُرْقَانَ ﴾، يعني النصر حين فرق بين الحق والباطل، ونصر موسى وأهلك فرعون، نظيرها فى الأنفال قوله سبحانه:﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ ﴾يعنى يوم النصر،﴿ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾[الأنفال: ٤١]، فنصر الله عز وجل المؤمنين وهزم المشركين.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ٥٣] من الضلالة بالتوراة، يعني بالنور.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ٥٤].
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [آية: ٥٥].
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٥٦].
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ﴾، وذلك أن موسى، عليه السلام، قالت له بنو إسرائيل وهم فى التيه: كيف لنا بالأبنية، وقد نزلنا فى القفر، وخرجنا من العمران، من حر الشمس، فظلل الله عز وجل عليهم الغمام الأبيض يقيهم حر الشمس، ثم إنهم سألوا موسى، عليه السلام، الطعام، فأنزل الله عليهم طعام الجنة، وهو ﴿ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ ﴾، أما المن، فهو الترنجبين، فكان ينزل بالليل على شجرهم أبيض كالثلج، حلو مثل العسل، فيغدون عليه كل إنسان صاع لكل ليلة، فيغدون عليه فيأخذون ما يكفيهم ليومهم، ذلك لكل رجل صاع، ولا يرفعون منه فى غد، ويأخذون يوم الجمعة ليومين؛ لأن السبت كان عندهم لا يشخصون فيه ولا يعلمون، كان هذا لهم فى التيه، وتنبت ثيابهم مع أولادهم، فأما الرجال، فكانت ثيابهم عليهم لا تبلى ولا تنخرق ولا تدنس. وأما السلوى، فهو الطير، وذلك أن بنى إسرائيل سألوا موسى اللحم وهم فى التيه، فسأل موسى ربه عز وجل، فقال الله: لأطعمهم أقل الطير لحماً، فبعث الله سبحانه السماء، فأمطرت لهم السلوى وهى السمانا، وجمعتهم ريح الجنوب، وهى طير حمر تكون فى طريق مصر، فأمطرت قدر ميل فى عرض الأرض، وقدر رمح فى السماء بعضه على بعض، فقال الله عز وجل لهم: ﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ ﴾، يعنى من حلال، كقوله:﴿ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً ﴾[المائدة: ٦]، يعنى حلالاً طيباً فى غير مأثم، وإذا وجدوا الماء فهو حرام، فمن ثم قال: ﴿ طَيِّباً ﴾، يعنى حلالاً من ﴿ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ من السلوى، ولا تطغوا فيه، يعنى تعصوا الله فى الرزق فيما رزقكم، ولا ترفعوا منه لغد، فرفعوا وقددوا مخافة أن ينفد، ولو لم يفعلوا لدام لهم ذلك، فقددوا منه ورفعوا فدود وتغير ما قددوا منه وما رفعوا فعصوا ربهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَا ظَلَمُونَا ﴾، يعنى وما ضرونا، يعنى ما نقصونا من ملكنا بمعصيتهم شيئاً حين رفعوا وقددوا منه فى غد.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آية: ٥٧]، يعني أنفسهم يضرون، نظيرها فى الأعراف قوله سبحانه:﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾[الأعراف: ١٦٠] إلى آخر الآية.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ ﴾، يعنى إيلياء وهم يومئذ من وراء البحر.
﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ﴾، يعنى ما شئتم، وإذ شئتم، وحيث شئتم.
﴿ وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً ﴾، يعنى باب إيلياء سجداً، فدخلوا متحرفين على شق وجوههم.
﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾، وذلك أن بنى إسرائيل خرجوا مع يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذ بن غيران بن شونالخ بن إفراييم بن يوسف، عليه السلام، من أرض التيه إلى العمران حيال أريحا، وكانوا أصابوا خطيئة، فأراد الله عز وجل أن يغفر لهم، وكانت الخطيئة أن موسى، عليه السلام، كان أمرهم أن يدخلوا أرض أريحا التى فيها الجبارون، فلهذا قال لهم: ﴿ وَقُولُواْ حِطَّةٌ ﴾، يعني بحطة حط عنا خطايانا. ثم قال: ﴿ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ٥٨] الذين لم يصيبوا خطيئة، فزادهم الله إحساناً إلى إحسانهم، فلما دخلوا إلى الباب، فعل المحسنون ما أمروا به، وقال الآخرون: هطا سقماثا يعنون حنطة حمراء، قالوا: ذلك استهزاء وتبديلاً، لما أمروا به، فدخلوا مستقلين، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً ﴾، يعنى عذاباً ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾، كقوله فى سورة الأعراف:﴿ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ ﴾[الأعراف: ٧١]، يعني عذاباً، ويقال: الطاعون، ويقال: الظلمة شبه النار.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ [آية: ٥٩]، وأهلك منهم سبعون ألفاً فى يوم واحد عقوبة لقولهم: هطا سقماثا، فهذا القول ظلمهم.
﴿ وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾، وهم فى التيه، قالوا: من أين لنا شراب نشرب؟ فدعا موسى، عليه السلام، ربه أن يسقيهم، فأوحى الله عز وجل إلى موسى، عليه السلام: ﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ ﴾، وكان الحجر خفيفاً مربعاً، فضربه.
﴿ فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ ﴾ من الحجر ﴿ ٱثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً ﴾، فرووا بإذن الله عز وجل، وكانوا اثنى عشر سبطاً، لكل سبط من بنى إسرائيل عين تجرى على حدة، لا يخالطهم غيرهم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ﴾، يعنى كل سبط مشربهم، يقول الله عز وجل: ﴿ كُلُواْ ﴾ من المن والسلوى.
﴿ وَٱشْرَبُواْ ﴾ من العيون، وهو ﴿ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ ﴾ حلالاً طيباً، فذلك قوله سبحانه:﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يقول: لا تعلوا ولا تسعوا فى الأرض ﴿ مُفْسِدِينَ ﴾ [آية: ٦٠]، يقول: لا تعملوا فى الأرض بالمعاصى، فرفعوا من المن والسلوى لغد، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ ﴾[طه: ٨١]، يقول: لا ترفعوا منه لغد، وكان موسى صلى الله عليه وسلم إذا ظعن حمل الحجر معه، وتنصب العيون منه. ثم إنهم قالوا: يا موسى، فأين اللباس؟ فجعلت الثياب تطول مع أولادهم، وتبقى على كبارهم، ولا تمزق ولا تبلى ولا تدنس، وكان لهم عمود من نور يضىء لهم بالليل إذا ارتحلوا وغاب القمر، فلما طال عليهم المن والسلوى، سألوا موسى نبات الأرض، فذلك قوله عز وجل ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ ﴾ فى التيه ﴿ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ ﴾، يعنى المن والسلوى.
﴿ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا ﴾، يعنى الثوم.
﴿ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴾، فغضب موسى، عليه السلام.
﴿ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ ﴾، يقول: الذى هو دون المن والسلوى من نبات الأرض ﴿ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ﴾، يعنى المن والسلوى، فقال موسى: ﴿ ٱهْبِطُواْ مِصْراً ﴾ من الأمصار.
﴿ فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ ﴾ من نبات الأرض.
﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ ﴾، يعنى على اليهود الذلة، وهى الجزية.
﴿ وَٱلْمَسْكَنَةُ ﴾، يعنى الفقر.
﴿ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى استوجبوا غضب الله عز وجل.
﴿ ذَلِكَ ﴾ الذل والمسكنة الذى نزل بهم ﴿ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ [آية: ٦١] فى أديانهم.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾، وهم قوم يصلون للقبلة، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة، وذلك" أن سلمان الفارسى كان من جند سابور، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم، فأسلم، وذكر سلمان أمر الراهب وأصحابه، وأنهم مجتهدون فى دينهم يصلون ويصومون، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " هم فى النار " "، فأنزل الله عز وجل فيمن صدق منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا، يعنى أقروا وليسوا بمنافقين.
﴿ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾ ﴿ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾، يقول: من صدق منهم بالله عز وجل، بأنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال، بأنه كائن.
﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من نزول العذاب.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ٦٢] عند الموت، يقول: إن الذين آمنوا، يعنى صدقوا بتوحيد الله تعالى، ومن آمن من الذين هادووا ومن النصارى ومن الصابئين، من آمن منهم بالله واليوم الآخر فيما تقدم إلى آخر الآية.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ فى التوراة، وأن تعملوا بما فيها، فلما قرأوا التوراة وفيها الحدود والأحكام، كرهوا أن يقروا بما فيها، رفع الله عز وجل عليهم الجبل ليرضخ به رءوسهم، وذلك قوله سبحانه: ﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ ﴾، يعنى الجبل، فلما رأوا ذلك أقروا بما فيها، فذلك قوله:﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾[الأعراف: ١٧١].
﴿ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ ﴾، يقول: ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عليه.
﴿ وَٱذْكُرُواْ ﴾ يقول: احفظوا ﴿ مَا فِيهِ ﴾ من أمره ونهيه ولا تضيعوه.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [آية: ٦٣]، يقول: لكى تتقوا المعاصى.
﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾ يقول: أعرضتم ﴿ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾ عن الحق من بعد الجبل.
﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾، يعنى نعمته لعاقبكم، و ﴿ لَكُنْتُم ﴾ فى الآخرة ﴿ مِّنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٦٤] فى العقوبة.﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ﴾، يعنى اليهود ﴿ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾، فصادوا فيه السمك، وكان محرماً عليهم صيد السمك يوم السبت، فأمهلهم الله سبحانه بعد صيد السمك سنين، ثم مسخهم الله قردة، فذلك قوله: ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ ﴾ بوحى ﴿ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [آية: ٦٥]، يعنى صاغرين.
﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً ﴾ لبنى إسرائيل ﴿ لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾، يقول: أخذناهم بمعاصيهم قبل صيد الحيتان.
﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ ما استنوا من سنة سيئة، فاقتدى بها من بعدهم، فالنكال هى العقوبة، ثم مسخهم الله عز وجل فى زمان داود، عليه السلام، قردة ثم حذر هذه الأمة، فقال سبحانه: ﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٦٦]، يعنى تعظهم يا محمد أن يركبوا ما ركبت بنو إسرائيل من المعاصى، فيستحلوا محرماً أو صيداً فى حرم الله، أو تستحلوا أنتم حراماً لا ينبغي فينزل بكم من العقوبة مثل ما نزل بالذين استحلوا صيد السمك يوم السبت.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾ يا بنى إسرائيل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً ﴾ بأرض مصر قبل الغرق، وذلك أن أخوين كانا فى بنى إسرائيل، فقتلا ابن عم لهما ليلاً بمصر ليرثاه، ثم حملاه فألقياه بين القريتين. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنى أبى، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، عن أبى مليكة، عن ابن عباس، رضى الله عنه، أنه قال: قاسوا ما بين القريتين، فكانتا سواء، فلما أصبحوا أخذوا أهل القرية، فقالوا: والله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، قالوا: يا موسى، ادع لنا ربك يطلع على القاتل إن كنت نبياً كما تزعم، فدعا موسى ربه عز وجل، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأمره بذبح بقرة، فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فتضربوه ببعضها فيحيا، فيخبركم بقاتله، واسم المقتول عاميل، فظنوا أنه يستهزئ بهم، فقالوا: نسألك عن القاتل لتخبرنا به، فتأمرنا بذبح بقرة استهزاء بنا، فذلك قولهم لموسى: ﴿ قَالُوۤاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَاهِلِينَ ﴾ [آية: ٦٧]، يعنى من المستهزئين، فعلموا أن عنده علم ذلك.
﴿ قَالُواْ ﴾ يا موسى.
﴿ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾، أى سل لنا ربك ﴿ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾، إن ربكم يقول: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ ﴾، يعنى ليست بكبيرة ولا بكر، أى شابة.
﴿ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ ﴾، يعنى بالعوان بين الكبيرة والشابة.
﴿ فَٱفْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴾ [آية: ٦٨]، فانطلقوا ثم رجعوا إلى موسى.
﴿ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ ﴾، أى سل ربك ﴿ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا ﴾، يعنى صافية اللون نقية ﴿ تَسُرُّ ﴾، يعنى تعجب ﴿ ٱلنَّاظِرِينَ ﴾ [آية: ٦٩]، يعنى من رآها، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، قال النبى صلى الله عليه وسلم:" إنما أمروا ببقرة، ولو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأت عنهم، والذى نفس محمد بيده، لو لم يستثنوا ما بينت لهم آخر الأبد ". فانطلقوا ثم رجعوا ﴿ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ﴾ تشكل ﴿ وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴾ [آية: ٧٠]، لو لم يستثنوا لم يهتدوا لها أبداً، فعند ذلك هموا أن يفعلوا ما أمروا، ولو أنهم عمدوا إلى الصفة الأولى فذبحوها لأجزأت عنهم.﴿ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ ﴾، أى قال موسى: إن الله يقول: ﴿ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ ٱلأَرْضَ ﴾، يقول: ليست بالذلول التى يعمل عليها فى الحرث.
﴿ وَلاَ تَسْقِي ٱلْحَرْثَ ﴾، يقول: ليست بالذلول التى يسقي عليها بالسواقي الماء للحرث.
﴿ مُسَلَّمَةٌ ﴾، يعنى صحيحة ﴿ لاَّ شِيَةَ فِيهَا ﴾، يقول: لا وضح فيها، يقول: ليس فيها سواد ولا بياض، ولا حمرة.
﴿ قَالُواْ ٱلآنَ ﴾ يا موسى ﴿ جِئْتَ بِٱلْحَقِّ ﴾، يقول: الأن بينت لنا الحق، فانطلقوا حتى وجدوها عند امرأة اسمها نوريا بنت رام، فاستاموا بها، فقالوا لموسى: إنها لا تباع إلا بملء مسكها ذهباً، قال موسى: لا تظلموا، انطلقوا اشتروها بما عز وهان، فاشتروها بملء مسكها ذهباً.
﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾، فقالوا لموسى: قد ذبحناها، قال: خذوا منها عضواً فاضربوا به القتيل، فضربوا القتيل بفخذ البقرة اليمنى، فقام القتيل وأوداجه تشخب دماً، فقال: قتلنى فلان وفلان، يعنى ابنى عمه، ثم وقع ميتاً، فأخذا فقتلا، فذلك قوله سبحانه ﴿ فَذَبَحُوهَا ﴾ ﴿ وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٧١].
﴿ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا ﴾، فاختلفتم فى قتلها، فقال أهل هذه القرية الأخرى: أنتم قتلتموه، وقال الآخرون: أنتم قتلتموه، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [آية: ٧٢]، يعنى كتمان قتل المقتول.
﴿ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ ﴾، يقول: هكذا ﴿ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾، فكان ذلك من آياته وعجائبه.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ يقول: لكى ﴿ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٧٣]، فتعتبروا فى البعث، وإنما فعل الله ذلك بهم؛ لأنه كان فى بنى إسرائيل من يشك فى البعث، فأراد الله عز وجل أن يعلمهم أنه قادر على أن يبعث الموتى، وذلك قوله سبحانه.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ فتعتبروا فى البعث. فقالوا: نحن لم نقتله، ولكن كذب علينا، فلما كذبوا المقتول، ضرب الله لهم مثلاً، وذلك قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ فى الشدة، فلم تطمئن، يعنى تلين، حتى كذبتم المقتول، ثم قال: ﴿ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾، يعني من بعد حياة المقتول.
﴿ فَهِيَ كَٱلْحِجَارَةِ ﴾ فشبه قلوبهم حين لم تلن بالحجارة فى الشدة، ثم عذر الحجارة وعاب قلوبهم، فقال: فهى كالحجارة فى القسوة.
﴿ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾، ثم قال: ﴿ وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ ﴾ ما هى ألين من قلوبهم، فمنها ﴿ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا ﴾، يعنى ما ﴿ يَشَّقَّقُ ﴾، يعنى يتصدع.
﴿ فَيَخْرُجُ مِنْهُ ٱلْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ ﴾، يقول: من بعض الحجارة الذى يهبط من أعلاه، فهؤلاء جميعاً ﴿ مِنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ ﴾ يفعلون ذلك، وبنو إسرائيل لا يخشون الله، ولا ترق قلوبهم كفعل الحجارة، ولا يقبلون إلى طاعة رهم، ثم وعدهم، فقال عز وجل: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٧٤] من المعاصى.
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ ﴾ أى النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
﴿ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ ﴾، أن يصدقوا قولك يا محمد، يعنى يهود المدينة.
﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾ على عهد موسى، عليه السلام.
﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن السبعين الذين اختارهم موسى حين قالوا: ﴿ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهْرَةً ﴾، فعاقبهم الله عز وجل وأماتهم عقوبة، وبقي موسى وحده يبكي، فلما أحياهم الله سبحانه، قالوا: قد علمنا الآن أنك لم تر ربك، ولكن سمعت صوته، فأسمعنا صوته، قال موسى: أما هذا فعسى، قال موسى: يا رب، إن عبادك هؤلاء بنى إسرائيل يحبون أن يسمعوا كلامك، فقال: من أحب منهم أن يسمع كلامي فليعتزل النساء ثلاثة أيام، وليغتسل يوم الثالث، وليلبس ثياباً جدداً، ثم ليأتى الجبل فأسمعه كلامى. ففعلوا ذلك، ثم انطلقوا مع موسى إلى الجبل، فقال لهم موسى: إذا رأيتم السحابة قد غشيت، ورأيتم فيها نوراً، وسمعتم فيها صوتاً، فاسجدوا لربكم، وانظروا ما يأمركم به فافعلوا، قالو: نعم، فصعد موسى، عليه السلام، الجبل، فجاءت الغمامة، فحالت بينهم وبين موسى، ورأوا النور، وسمعوا صوتاً كصوت الصور، وهو البوق، فسجدوا، وسمعوه وهو يقول: إنى أنا ربكم، لا إله إلا أنا الحي القيوم، وأنا الذى أخرجتكم من أرض مصر بيد رقيقة وذراع شديد، فلا تعبدوا إلهاً غيرى، ولا تشركوا بى شيئاً، ولا تجعلوا لى شبهاً، فإنكم لن ترونى، ولكن تسمعون كلامى، فلما أن سمعوا الكلام، ذهبت أرواحهم من هول ما سمعوا، ثم أفاقوا وهم سجود، فقالوا لموسى، عليه السلام: إنا لا نطيق أن نسمع كلام ربنا، فكن بيننا وبين ربنا، فليقل لك وقل أنت لنا، قال موسى: يا رب، إن بني إسرائيل لم يطيقوا أن يسمعوا كلامك، فقل لي وأقل لهم، قال الله عز وجل: نعم ما رأوا. فجعل الله عزوجل يأمر موسى، ثم يخبرهم موسى، ويقولون: سمعنا ربنا وأطعنا، فلما فرغ من أمره ونهيه، ارتفعت السحابة، وذهب الصوت، فرفع القوم رءوسهم، ورجعوا إلى قومهم، قيل لهم: ماذا أمركم به ربكم ونهاكم عنه؟ فقال بعضهم: أمرنا بكذا وكذا، ونهانا عن كذا وكذا، وقال آخرون: واتبع فى آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما نهاكم عنه، فافعلوا ما تستطيعون، فذلك قوله سبحانه: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾، يعنى طائفة من بنى إسرائيل.
﴿ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ وفهموه ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٧٥] أنهم حرفوا الكلام.
﴿ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾، يعنى صدقنا بمحمد، عليه السلام، بأنه نبي، وذلك أن الرجل المسلم كان يلقى من اليهود حليفه أو أخاه من الرضاعة، فيسأله: أتجدون محمداً فى كتابكم، فيقولون: نعم، إن نبوة صاحبكم حق، وإنا نعرفه، فسمع كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وجدى ابن أخطب، فقالوا لليهود فى السر: أتحدثون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله لكم، يعني بما بين لكم فى التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم ﴾، يعنى ليخاصموكم ﴿ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ باعترافكم أن محمداً، عليه السلام، نبى ثم لا تتابعوه.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٧٦]، يعنى أفلا ترون أن هذه حجة لهم عليكم.
فقال الله عز وجل: ﴿ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ ﴾ فى الخلا ﴿ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴾ [آية: ٧٧] فى الملاء، فيقول بعضهم لبعض: أتحدثونهم بأمر محمد صلى الله عليه وسلم، أولا يعلمون حين قالوا: إنا نجد محمداً فى كتابنا وإنا لنعرفه.
﴿ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ ﴾، يقول: من اليهود من لا يقرأ التوراة إلا أن يحدثهم عنها رءوس اليهود.
﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴾ [آية: ٧٨] فى غير يقين ما يستيقنون به، فإن كذبوا رءوس اليهود أو صدقوا تابعوهم باعترافهم، فليس لهم بالتوراة علم إلا ما حدثوا عنها.
﴿ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ﴾، سوى نعت محمد، عليه السلام، وذلك أن رءوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة، وكتبوا سوى نعته، وقالوا لليهود سوى نعت محمد.
﴿ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا ﴾ النعت ﴿ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعني عرضاً يسيراً مما يعطيهم سفلة اليهود كل سنة من زروعهم وثمارهم، يقول: ﴿ فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾، يعنى فى التوراة من تغيير نعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [آية: ٧٩] من تلك المآكل على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو تابعوا محمداً، عليه السلام، إذاً لحبست عنهم تلك المآكل.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، يعنى اليهود ﴿ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾؛ لأنا أبناء الله وأحباؤه، يعنى ولد أنبياء الله، إلا أربعين يوماً التى عبد آباؤنا فيها العجل.
﴿ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً ﴾، فعلمتم بما عهد إليكم فى التوراة، فإن كنتم فعلتم ﴿ فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ ﴾، يعنى بل تقولون ﴿ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٨٠]، فإنه ليس بمعذبكم إلا تلك الأيام، فإذا مضت تلك الأيام مقدار كل يوم ألف سنة، قالت الخزنة: يا أعداء الله، ذهب الأجل وبقي الأبد، وأيقنوا بالخلود.
فلما قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، أكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ بَلَىٰ ﴾ يخلد فيها ﴿ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً ﴾، يعنى الشرك.
﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ ﴾ حتى مات على الشرك.
﴿ فَأُوْلَـٰئَكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٨١]، يعنى لا يموتون، ثم بين مستقر المؤمنين، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئَكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٨٢] لا يموتون.
﴿ وَإِذْ ﴾، يعنى ولقد ﴿ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾، يعنى براً بهما ﴿ وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ ﴾، يعني ذوي القرابة صلته.
﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ واليتيم أن تصدق عليه وابن السبيل، يعنى الضيف أن تحسن إليه.
﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾، يعنى حقاً، نظيرها فى طه قوله عز وجل:﴿ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ﴾[طه: ٨٦] يعنى حقاً، وقوله: ﴿ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ﴾، يعنى ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ أجمعين صدقاً فى محمد وعن الإِيمان.﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾، يعنى أتموا الصلاة لمواقيتها.
﴿ وَآتُواْ ﴾ وأعطوا ﴿ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ﴾، يعني أعرضتم عن الإيمان، فلم تقروا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ [آية: ٨٣]، يعنى ابن سلام، وسلام بن قيس، وثعلبة بن سلام، وقيس ابن أخت عبدالله بن سلام، وأسيد وأسد ابنى كعب، ويامين، وابن يامين، وهم مؤمنو أهل التوراة. ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾ فى التوراة، يعني ولقد أخذنا ميثاقكم فى التوراة ﴿ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ ﴾ يقول: لا يقتل بعضكم بعضاً.
﴿ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يعنى لا يخرج بعضكم بعضاً ﴿ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ ﴾ بهذا ﴿ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آية: ٨٤] أن هذا فى التوراة.
﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ ﴾ معشر اليهود بالمدينة ﴿ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يعنى يقتل بعضكم بعضاً.
﴿ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً ﴾، يعنى طائفة ﴿ مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ ﴾، يعنى تعاونون ﴿ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ ﴾، يعنى بالمعصية ﴿ وَالْعُدْوَانِ ﴾، يعنى بالظلم، ومكتوب عليهم فى التوراة أن يفدوا أسراهم فيشتروهم إذا أسرهم أهل الروم فى القتال إن كان عبداً أو أمة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ ﴾، يقول: تصدقون ببعض ما فى التوراة لمن يقتل، والإخراج من الديار، فهو محرم عليكم إخراجهم.
﴿ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ ﴾، يعنى الهوان ﴿ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾، فكان خزى أهل قريظة القتل والسبي، وخزي أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التى بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فكان هذا خزياً لهم وهواناً لهم.
﴿ وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ ﴾، يعنى رءوس اليهود، يقول: هم أشد عذاباً، يعنى رءوس اليهود من أهل ملتهم؛ لأنهم أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود، ثم أوعدهم، فقال: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٨٥].
ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ أُولَـٰئَكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ﴾، يعنى اختاروا ﴿ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ ﴾، يقول: باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل.
﴿ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾ فى الآخرة ﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ [آية: ٨٦]، يعنى ولا هم يمنعون من العذاب.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾، يقول: أعطينا موسى التوراة.
﴿ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ ﴾، يقول: وأتبعنا من بعد موسى ﴿ بِٱلرُّسُلِ ﴾ إلى قومهم.
﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يقول: وأعطينا عيسى ابن مريم العجائب التى كان يصنعها من خلق الطير، وإبراء الأكمه والأبرص، وأحياء الموتى بإذن الله، ثم قال سبحانه: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾، يقول: وقوينا عيسى بجبريل، عليهما السلام، فقالت اليهود عند ذلك: فجئنا يا محمد بمثل ما جاء به موسى من الآيات كما تزعم، يقول الله عز وجل: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ ٱسْتَكْبَرْتُمْ ﴾، يعني تكبرتم عن الإيمان برسولى، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ﴾، يعنى طائفة من الأنبياء كذبتم بهم، منهم عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴾ [آية: ٨٧]، يعني وطائفة قتلتموهم، منهم زكريا، ويحيى، والأنبياء أيضاً، فعرفوا أن الذى قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم حق فسكتوا.﴿ وَقَالُواْ ﴾ للنبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ﴾، يعنى فى غطاء، ويعنون فى أكنة عليها الغطاء، فلا تفهم ولا تفقه ما تقول يا محمد، كراهية لما سمعوا من النبى صلى الله عليه وسلم من قوله:" إنكم كذبتم فريقاً من الأنبياء وفريقاً قتلتم "، فإن كنت صادقاً فأفهمنا ما تقول، يقول الله عز وجل: ﴿ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ ﴾ فطبع على قلوبهم.
﴿ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٨٨]، يعنى بالقليل بأنهم لا يصدقون بأنه من الله، وكفروا بما سواه مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله عز وجل فى النساء:﴿ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾[النساء: ١٥٥]، وإنما سمى اليهود من قبل يهوذا بن يعقوب.
﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾ فى التوراة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وقرآنه فى التوراة، نزلت فى اليهود، منهم: أبو رافع، وابن أبى الحقيق، وأبو نافع، وغرار.
﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ﴿ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، نظيرها فى الأنفال:﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ ﴾[الأنفال: ١٩]، يعنى إن تستنصروا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب: جهينة، ومزينة، وبنى عذرة، وأسد، وغطفان، ومن يليهم، كانت اليهود إذا قاتلوهم قالوا: اللهم إنا نسألك باسم النبى الذى نجده فى كتابنا تبعثه فى آخر الزمان أن تنصرنا، فينصرون عليهم، فلما بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم من غير بنى إسرائيل كفروا به وهم يعرفونه، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ محمد ﴿ مَّا عَرَفُواْ ﴾ أى بما عرفوا من أمره فى التوراة.
﴿ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٨٩]، يعنى اليهود.
﴿ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾، يقول: بئسما باعوا أنفسهم بعرض يسير من الدنيا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من المأكل فى كل عام، ثم قال: ﴿ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ ﴾ من القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ بَغْياً ﴾، يعنى حسداً لمحمد، إذ كان من العرب، يقول الله عز وجل: ﴿ أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ﴾ من النبوة والكتاب.
﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: ﴿ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ﴾، يقول: استوجبوا بغضب من الله حين كفروا بعيسى صلى الله عليه وسلم على غضب بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به.
﴿ وَلِلْكَافِرِينَ ﴾ من اليهود ﴿ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ٩٠]، يعني الهوان.
ثم قال: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾، يعنى اليهود منهم: أبو ياسر، والنعمان بن أوفى.
﴿ آمِنُواْ ﴾، يعنى صدقوا ﴿ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ من القرآن على محمد.
﴿ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾، يعنى التوراة.
﴿ وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ ﴾، يعنى بما بعد التوراة الإنجيل والفرقان.
﴿ وَهُوَ ٱلْحَقُّ ﴾، يعنى قرآن محمد ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، يقول تصديقاً لمحمد بما أنزل الله عليه من القرآن مكتوباً عندهم فى التوراة.
﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإيمان، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: آتنا بالآيات والقربان كما كانت الأنبياء تجئ بها إلى قومهم، يقول الله سبحانه: فقد كانت الأنبياء تجئ إلى آبائهم، فكانوا يقتلونهم، فقال الله عز وجل: قل يا محمد فلم تقتلون أنبياء الله من قبل، يقول: فلم قتلتم أنبياء الله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾، يعنى آباءهم، وقد جاءوا بالآيات والقربان.
﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٩١]، يعنى إن كنتم صادقين بأن الله عهد إليكم فى التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، فقد جاءوا بالقربان، فلم قتلتموهم، يعنى أباءهم.
ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لليهود: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى بالآيات التسع.
﴿ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ ﴾ إلهاً ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾، يعنى من بعد انطلاق موسى إلى الجبل.
﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آية: ٩٢] لأنفسكم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ﴾، يعنى وقد أخذنا ميثاقكم فى التوراة، يعني اليهود، يعني على أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تؤمنوا بالكتاب والنبيين.
﴿ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ ﴾، حين لم يقبلوا التوراة، قال موسى: يا رب، إن عبادك لم يقبلوا كتابك، وعصوا أمرك، فأمر الله عز وجل الملائكة وجبريل، فرفعوا من الأرض المقدسة جبلاً فوق رءوسهم، فحال الجبل بينهم وبين السماء، فقال موسى، عليه السلام، لبنى إسرائيل: إن لم تقبلوا التوراة طرح هذا الجبل، فيرضخ به رءوسكم، وكان الجبل منهم قدر ميل، فلما رأوا ذلك قبلوها، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ ﴾[الأعراف: ١٧١].
﴿ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ﴾، يعنى ما آتيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عليه، فرجع الجبل إلى مكانه، فقال موسى لبنى إسرائيل: ﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾، يقول: اسمعوا ما فى التوراة من الحدود، والأحكام، والشدة.
﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا ﴾ بذلك الذى تخوفنا به من أمر الجبل.
﴿ وَعَصَيْنَا ﴾ أمرك، فلا نتبع ما جئتنا به من الشدة فى التوراة، والعجل كان أرفق بنا، وأهون علينا مما جئتنا به من الشدة، يقول الله عز وجل: ﴿ وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾، قال لهم موسى: أن تحبوا شيئاً دونه يعدل حبه فى قلوبكم، كحب الله خالقكم.
﴿ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٩٣]، كما تزعمون.
ثم أخبر أنه حين رفع الجبل عليهم والبحر من ورائهم، خافوا الهلكة، فقبلوا التوراة.
﴿ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً ﴾، يعنى الجنة، وذلك أن اليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وأن الله لن يعذبنا، فقال الله عز وجل للنبى صلى الله عليه وسلم: قل لهم ﴿ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً ﴾ ﴿ مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٩٤]، يقول: فأحبوا الموت إن كنتم أولياء الله وأحباؤه، وأنكم فى الجنة، قال الله عز وجل للنبى صلى الله عليه وسلم:﴿ وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ ﴾[الأعراف: ١٦٣]، ألم أمسخهم قردة بمعصيتهم.
ثم أخبر عنهم بمعصيتهم، فقال: ﴿ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ﴾، يعنى ولن يحبوه أبداً، يعنى الموت.
﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ من ذنوبهم وتكذيبهم بالله ورسوله.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ ﴾ [آية: ٩٥]، يعنى اليهود، فأبوا أن يتمنوه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" لو تمنوا الموت ما قام منهم رجل من مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت ".
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾، أى وأحرص الناس على الحياة من الذين أشركوا، أى مشركى العرب.
﴿ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ﴾، يعني اليهود.
﴿ لَوْ يُعَمَّرُ ﴾ فى الدنيا ﴿ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ ﴾ فيها ﴿ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٩٦]، فأبوا أن يتمنوه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" لو تمنوا الموت ما قام منهم رجل من مجلسه حتى يغصه الله عز وجل بريقه فيموت ".
فقالت اليهود: إن جبريل لنا عدو، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها فى غيرنا من عداوته إيانًا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾، يقول جبريل، عليه السلام: تلاه عليك ليثبت به فؤادك، يعنى قلبك، نظيرها فى الشعراء قوله سبحانه:﴿ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ ﴾[الشعراء: ١٩٣، ١٩٤]، ثم قال: ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾، يعني قرآن محمد صلى الله عليه وسلم يصدق الكتب التى كانت قبله.
﴿ وَهُدًى ﴾، أى وهذا القرآن هدى من الضلالة.
﴿ وَبُشْرَىٰ ﴾ لمن آمن به من المؤمنين.
﴿ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٩٧].
﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ ﴾، يعني بالملائكة جبريل، ورسله يعنى محمداً وعيسى صلى الله عليه وسلم، كفرت اليهود بهم وبجبريل وبميكائيل، يقول الله عز وجل: ﴿ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٩٨]، يعنى اليهود.
﴿ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾، يعنى القرآن، ثم قال: ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾، يعنى ما فيه من الحلال والحرام.
﴿ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ ﴾، يعنى بالآيات.
﴿ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٩٩]، يعنى اليهود. ثم قال سبحانه: ﴿ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً ﴾ بينهم وبين النبى صلى الله عليه وسلم ﴿ نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ﴾ من اليهود.
﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١٠٠]، يعنى لا يصدقون بالقرآن أنه من الله جاء.
﴿ وَلَمَّآ جَآءَهُمْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ﴾، يعني يصدق محمداً أنه نبي رسول معهم فى التوراة.
﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني جعل طائفة من اليهود ﴿ كِتَابَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى ما فى التوراة من أمر محمد.
﴿ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ ﴾، فلم يتبعوه ولم يبينوه للناس.
﴿ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٠١] بأن محمداً رسول نبى؛ لأن تصديقه معهم، نزلت فى كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبى ياسر بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، ومالك بن الضيف، وحيى بن أخطب، وأبي لبابة بن عمرو.
﴿ وَٱتَّبَعُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾، يعنى ما تلت الشياطين على عهد سليمان وفى سلطانه، وذلك أن طائفة من الشياطين كتبوا كتاباً فيه سحر، فدفنوه فى مصلى سليمان حين خرج من ملكه، ووضعوه تحت كرسيه، فلما توفي سليمان، استخرجوا الكتاب، فقالوا: إن سليمان تملككم بهذا الكتاب به كانت تجئ الريح، وبه سخرت الشياطين، فعلموه الناس، فأبرأ الله عز وجل منه سليمان.
﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ ﴾، فتركت اليهود كتاب الأنبياء واتبعوا ما قالت من السحر.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾، أى واتبعوا ما أنزل على الملكين، يعنى هاروت وماروت، وكانا من الملائكة مكانهما فى السماء واحد، ثم قال: ببابل، أى وهما ببابل، وإنما سميت بابل؛ لأن الألسن تبلبلت بها حين ألقى إبراهيم صلى الله عليه وسلم فى النار. ثم قال: ﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾، وذلك أن هاروت وماروت يصنعان من السحر الفرقة.
﴿ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ﴾ بعد قولهما: ﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ إذا وصفا فيتعلمون منهما ﴿ مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ﴾، والفرقة أن يؤخذ الرجل عن امرأته، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ ﴾، يعنى السحرة.
﴿ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ﴾، يعنى بالسحر من أحد.
﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾ فى ضره.
﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ﴾، فيتعلمون السحر من الشياطين، والفرقة من هاروت وماروت.
﴿ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾.
ثم قال: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ ﴾، يقول: لقد علمت اليهود فى التوراة لمن اختار السحر ﴿ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾، يقول: ما له فى الآخرة من نصيب، نظيرها فى براءة قوله سبحانه:﴿ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ ﴾[التوبة: ٦٩]، وكقوله:﴿ أُوْلَـٰئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾[آل عمران: ٧٧]، يعنى نصيب.
﴿ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ ﴾، يقول: باعوا ﴿ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ﴾ من السحر ﴿ لَوْ ﴾، يعنى إن ﴿ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٠٢]، ولكنهم لا يعلمون. كان أبو صالح يروي عن الحسن فى قوله تعالى: ﴿ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ﴾، قال: وكان هاروت وماروت مطيعين لله عز وجل، هبطا بالسحر ابتلاء من الله لخلقه، وعهد إليهما عهداً أن لا يعلما أحداً سحراً حتى يقولا له مقدمة ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ﴾ يعني محنة وبلوى ﴿ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾، فإذا أبى عليهما إلا تعليم السحر، قالا له: اذهب إلى موضع كذا وكذا، فإنك إذا أتيته وفعلت كذا وكذا، كنت ساحراً.
ثم قال لليهود: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وٱتَّقَوْا ﴾ الشرك.
﴿ لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: لكان ثوابهم عند الله ﴿ خَيْرٌ ﴾ من السحر والكفر ﴿ لَّوْ ﴾، يعنى إن ﴿ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٠٣]، نظيرها فى المائدة:﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ ﴾[المائدة: ٦٠]، يعنى ثواباً.﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ﴾، وذلك أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمك، كقولهم فى الجاهلية بعضهم لبعض، وراعنا فى كلام اليهود الشتم، فلما سمعت ذلك اليهود من المشركين أعجبهم، فقالوا مثل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الأنصار، وهو سعد بن عبادة الأنصارى لليهود: لئن قالها رجل منكم للنبي صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه، فوعظ الله عز وجل المؤمنين، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ رَاعِنَا ﴾ ﴿ وَ ﴾ لكن ﴿ وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا ﴾، قولوا للنبي صلى الله عليه وسلم اسمع منا، ثم قال: ﴿ وَٱسْمَعُواْ ﴾ ما تؤمرون به.
﴿ وَلِلكَافِرِينَ ﴾، يعنى اليهود ﴿ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٠٤]، يعنى وجيعاً.
﴿ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، منهم: قيس بن عمرو، وعازار بن ينحوم، وذلك أن الأنصار دعوا خلفاءهم من اليهود إلى الإسلام، فقالوا للمسلمين: ما تدعون إلى خير مما نحن عليه، وددنا أنكم على هدى، وأنه كما تقولون، فكذبهم الله سبحانه، فقال: ﴿ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ ﴿ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ﴾، يعنى دينه الإسلام.
﴿ مَن يَشَآءُ ﴾، نظيرها فى هل أتى:﴿ يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴾[الإنسان: ٣١]، يعني فى دينه الإسلام، فاختص المؤمنين.
﴿ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ ﴾ [آية: ١٠٥]، فاختصهم لدينه.
﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾، يعني نبدل من آية فنحولها فيها تقديم، يقول: ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ﴾، يقول: نأت من الوحي مكانها أفضل منها لكم وأنفع لكم، ثم قال: ﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾، يقول: أو نأت بمثل ما نسخنا أو ننسها، يقول: أو نتركها كما هى، فلا ننسخها، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما تقولت أنت يا محمد هذا القرآن من تلقاء نفسك، قلت كذا وكذا، فأنزل الله عز وجل يعظم نفسه تبارك اسمه: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٠٦]، من الناسخ والمنسوخ قدير.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، يحكم فيهما ما يشاء، ويأمر بأمر، ثم يأمر بغيره، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾، يعنى قريب ينفعكم.
﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [آية: ١٠٧]، يعنى ولا مانع يمنعكم من الله لقولهم: إن القرآن ليس من الله، وإنما تقوله محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه، نظيرها فى براءة قوله سبحانه:﴿ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾[التوبة: ٧٤]، وقال عز وجل فى النحل:﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾[النحل: ١٠١] أنك لن تقول إلا ما قيل لك.﴿ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ ﴾ يعنى يقول: تريدون أن تسألوا محمداً أن يريكم ربكم جهرة.
﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ﴾ محمد، يعنى كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً ﴾.
﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ ﴾، يعنى من يشتر ﴿ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ [آية: ١٠٨]، يعنى قد أخطأ قصد طريق الهدى، كقوله سبحانه فىالقصص:﴿ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾[القصص: ٢٢]، يعنى قصد الطريق.﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾، وذلك" أن نفراً من اليهود، منهم: فنحاص، وزيد بن قيس، بعد قتال أحُد، دعوا حذيفة، وعماراً إلى دينهم، وقالوا لهما: إنكما لن تصيبا خيراً للذى أصابهم يوم أُحُد من البلاء، وقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلاً، قال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال عمار: فإنى عهدت ربى أن لا أكفر بمحمد أبداً، ولا أتبع ديناً غير دينه، فقالت اليهود: أما عمار، فقد ضل وصبأ عن الهدى بعد إذ بصره الله، فكيف أنت يا حذيفة؟ ألا تبايعنا؟ قال حذيفة: الله ربى، ومحمد نبيى، والقرآن إمامى، أطيع ربى، وأقتدي برسولى، وأعمل بكتاب الله ربى حتى يأتينى اليقين على الإسلام، والله السلام ومنه السلام، فقالوا: وإله موسى، لقد أشربت قلوبكم حب محمد، فقال عمار: ربى أحمده، وربى أكرم محمداً ومنه اشتق الجلالة، إن محمداً أحمد هو محمد. ثم أتيا النبى صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: ما رددتما عليهما؟، فقالا: قلنا: الله ربنا، ومحمد رسولنا، والقرآن إمامنا، الله نطيع، وبمحمد نقتدى، وبكتاب الله نعمل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أصبتما أخا الخير، وأفلحتما "، فأنزل الله عز وجل يحذر المؤمنين: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ ﴾ ﴿ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ ﴾ فى التوراة أن محمداً نبى، ودينه الإسلام، ثم قال سبحانه: ﴿ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ ﴾، يقول: اتركوهم واصحفوا، يقول: وأعرضوا عن اليهود.
﴿ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾، فأتى الله عز وجل بأمره في أهل قريظة القتل والسبي، وفى أهل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٠٩]، من القتل والجلاء قدير.
﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾، يقول: وأتموها لمواقيتها.
﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يقول: آتوا زكاة أموالكم.
﴿ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ ﴾ فى الصدقة، ثم قال: ﴿ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ١١٠].
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ ﴾ على ديننا.
﴿ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ ﴾، يقول الله سبحانه: ﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ﴾، يقول: تمنوا على الله، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ ﴾، يعنى حجتكم من التوراة والإنجيل ﴿ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ١١١] بما تقولون.
فأكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ بَلَىٰ ﴾ لكن يدخلها ﴿ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ ﴾، يعنى أخلص دينه لله.
﴿ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴾ فى عمله.
﴿ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ١١٢] عند الموت.
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾، يعنى ابن صوريا وأصحابه.
﴿ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ من الدين، فمالك يا محمد والنصارى اتبع ديننا.
﴿ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ من الدين، فمالك يا محمد واليهود، اتبع ديننا، يقول الله عز وجل: ﴿ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يقول: وهم يقرءون التوراة والإنجيل، يعنى يهود المدينة ونصارى نجران.
﴿ كَذَلِكَ ﴾، يعنى هكذا.
﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ بتوحيد ربهم، يعني مشركي العرب أن محمداً وأصحابه ليسوا على شىء من الدين، يقول الله: ﴿ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾، يعني مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض، فذلك قوله سبحانه فى المائدة:﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾[المائدة: ١٤]، يقول: ﴿ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، يعني بين مشركي العرب وبين أهل الكتاب.
﴿ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ ﴾ من الدين ﴿ يَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ١١٣].
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾، نزلت فى الطياخوس بن ببليس الرومى ومن معه من أهل الروم، يقول: فلا أحد أظلم ﴿ مِمَّنْ مَّنَعَ ﴾، يعنى نصارى الروم ﴿ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى بيت المقدس أن يصلى فيه.
﴿ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ ﴾، يعنى التوحيد.
﴿ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ ﴾، وذلك أن الروم ظهروا على اليهود، فقتلوهم وسبوهم وخربوا بيت المقدس، وألقوا فيه الجيف، وذبحوا فيه الخنازير، ثم كان على عهد الروم الثانية ططسر بن سناباتوس، ويقال: اصطفانوس، فقتلهم وخرب بيت المقدس، فلم يعمر حتى بناه المسلمون في زمان عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، يقول الله عز وجل: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾، يعنى أهل الروم ﴿ مَا كَانَ ﴾ ينبغى ﴿ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ ﴾، يعنى الأرض المقدسة إذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾، فلا يدخل بيت المقدس اليوم الرومي إلا خائفاً متنكراً، فمن قدر عليه منهم، فإنه يعاقب، ثم أخبر عن أهل الروم، فقال: ﴿ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾، يعنى الهوان إن لم تقتل مقاتلتهم وتسب ذراريهم بأيدى المسلمين فى ثلاث مدائن: قسطنطينية، والرومية، ومدينة أخرى وهى عمورية، فهذا خزيهم فى الدنيا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١١٤] من النار.
﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ﴾، وذلك أن ناساً من المؤمنين كانا فى سفر، فحضرت الصلاة فى يوم غيم، فمنهم من صلى قبل المشرق، ومنهم من صلى قبل المغرب، وذلك قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فلما طلعت الشمس عرفوا أنهم قد صلوا لغير القبلة، فقدموا المدينة، فأخبروا النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ ﴾.
﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ ﴾ تحولوا وجوهكم فى الصلاة.
﴿ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ ﴾ فثم الله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ ﴾، لتوسيعه عليهم فى ترك القبلة حين جهلوها.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١١٥] بما نووا، وأنزل الله عز وجل:﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ ﴾[البقرة: ١٧٧] إلى آخر الآية.﴿ وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ﴾، إنما نزلت فى نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما من الوفد قدموا على النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقالوا: عيسى ابن الله، فأكذبهم الله سبحانه وعظم نفسه، تعالى عما يقولون، فقال: ﴿ بَل لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ [آية: ١١٦]، يعنى لله، يعنى من فيهما، يعنى عيسى صلى الله عليه وسلم وغيره عبيده، وفى ملكه، ثم قال: قانتون، يعنى مقرون بالعبودية، ثم عظم نفسه، فقال: ﴿ بَدِيعُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ابتدعهما ولم يكونا شيئاً.
﴿ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾ فى علمه أنه كائن.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آية: ١١٧]، ولا يثنى قوله كفعل المخلوقين، وذلك أن الله عز وجل، قضى أن يكون عيسى صلى الله عليه وسلم فى بطن أمه من غير أب، فقال له: كن، فكان.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ بتوحيد ربهم، يعني مشركي العرب للنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَوْلاَ ﴾ يعنون هلا ﴿ يُكَلِّمُنَا ٱللَّهُ ﴾ يخبرنا بأنك رسوله.
﴿ أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ ﴾ كما كانت الأنبياء تأتيهم الآيات تجئ إلى قومهم، يقول الله: ﴿ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾، يقول: هكذا قالت بنو إسرائيل من قبل مشركي العرب، فقالوا فى سورة البقرة، والنساء لموسى:﴿ أَرِنَا ٱللَّهِ جَهْرَةً ﴾[النساء: ١٥٣]، وأتوا بالآيات وسمعوا الكلام فحرفوه، فهل هؤلاء إلا مثل أولئك؟ فذلك قوله سبحانه: ﴿ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾، ثم قال: وإن كذب مشركو العرب بمحمد.
﴿ قَدْ بَيَّنَّا ٱلآيَاتِ ﴾، أى فقد بينا الآيات، فذلك قوله سبحانه فى العنكبوت:﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ ﴾يعنى بيان أمر محمد آيات﴿ بَيِّنَاتٌ ﴾[العنكبوت: ٤٩] يعنى واضحات فى التوراة أنه أمي لا يقرأ الكتاب ولا يخط بيمينه.
﴿ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [آية: ١١٨]، يعنى مؤمنى أهل التوراة.﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ ﴾، يقول: لم نرسلك عبثاً لغير شىء.
﴿ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾، بشيراً بالجنة ونذيراً من النار.
﴿ وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ١١٩]، فإن الله قد أحصاها عليهم.
﴿ وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ ﴾ من أهل المدينة.
﴿ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ ﴾ من أهل نجران.
﴿ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾، ذلك أنهم دعوا النبى صلى الله عليه وسلم إلى دينهم وزعموا أنهم على الهدى، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ ﴾ لهم: ﴿ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ ﴾، ثم حذر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ يعنى أهل الكتاب على دينهم ﴿ بَعْدَ ٱلَّذِي جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾، وعلم البيان.
﴿ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾، يعنى قريب فينفعك ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ [آية: ١٢٠]، يعني ولا مانع.
ثم ذكر مؤمني أهل التوراة، عبدالله بن سلام وأصحابه، فقال عز وجل: ﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾، يعني أعطيناهم التوراة.
﴿ يَتْلُونَهُ ﴾، يعني نعت محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
﴿ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ فى التوراة ولا يحرفون نعته.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، يقول: أولئك يصدقون بمحمد، يعنى عبدالله بن سلام وأصحابه، ثم قال: ﴿ وَمن يَكْفُرْ بِهِ ﴾، يعنى بمحمد من أهل التوراة.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ [آية: ١٢١] فى العقوبة.
﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ١٢٢]، يعني عالمى ذلك الزمان، يعني عالمي أجدادهم، يعنى بالمن والسلوى والحجر والغمام.﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾، يعني اخشوا يوماً يوم القيامة ﴿ لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ ﴾ كافرة ﴿ عَن نَّفْسٍ ﴾ كافرة ﴿ شَيْئاً ﴾ من المنفعة.
﴿ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾، يعنى فداء ﴿ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ﴾، يعني شفاعة نبي ولا شهيد، ولا صديق.
﴿ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ [آية: ١٢٣]، يعني يمتنعون من العذاب.
﴿ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾، يعنى بذلك كل مسألة فى القرآن مما سأل إبراهيم من قوله:﴿ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ ﴾[البقرة: ١٢٦]، ومن قوله:﴿ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾[البقرة: ١٢٨]، وحين قال:﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾[البقرة: ١٢٩]، وحين قال لقومه حين حاجوه:﴿ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾[الأنعام: ٧٨].
وحين قال:﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً ﴾[الأنعام: ٧٩]، وحين ألقى فى النار، وحين أراد ذبح ابنه، وحين قال:﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ ﴾[الصافات: ١٠٠]، وحين سأل الولد، وحين قال:﴿ وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ ﴾[إبراهيم: ٣٥]، وحين قال:﴿ فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِيۤ إِلَيْهِمْ ﴾[إبراهيم: ٣٧]، وحين قال:﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾[البقرة: ١٢٧]، وما كان نحو هذا فى القرآن، وما سأل إبراهيم فاستجاب له.
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾، ثم زاده الله مما لم يكن فى مسألته.
﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾ فى الدين يقتدى بسنتك.
﴿ قَالَ ﴾ إبراهيم: يا رب.
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ فاجعلهم أئمة.
﴿ قَالَ ﴾ الله: إن فى ذريتك الظلمة، يعني اليهود والنصارى.
﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٢٤]، يعنى المشركين من ذريتك، قال: لا ينال طاعتى الظلمة من ذريتك، ولا أجعلهم أئمة، أنحلها أوليائى وأجنبها أعدائى.
﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ ﴾ يقولون: يثوبون إليه فى كل عام ليقضوا منه وطرا، ثم قال: ﴿ وَأَمْناً ﴾ لمن دخله وعاذ به فى الجاهلية، ومن أصاب اليوم حداً ثم لجأ إليه أمن فيه حتى يخرج من الحرم، ثم يقام عليه ما أحل بنفسه، ثم قال: ﴿ وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾، يعنى صلاة، ولم يؤمروا بمسحها ولا تقبيله، وذلك أنه كان ثلاثمائة وستون صنماً فى الكعبة، فكسرها النبى صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ من الأوثان، فلا تذرا حوله صنماً ولا وثناً، يعنى حول البيت ﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ بالبيت من غير أهل مكة.
﴿ وَٱلْعَاكِفِينَ ﴾، يعنى أهل مكة مقيمين بها.
﴿ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﴾ [آية: ١٢٥] فى الصلوات.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً ﴾، يعنى مكة، فقال الله عز وجل: نعم، فحرمه من الخوف.
﴿ وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ ﴾ من المقيمين بمكة.
﴿ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى من صدق منهم بالله ﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ وصدق بالله أنه واحد لا شريك له، وصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال، فأما مكة، فجعلها الله أمناً، وأما الرزق، فإن إبراهيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين.
﴿ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ ﴾، أى قال الله عز وجل: والذين كفروا أرزقهم أيضاً مع الذين آمنوا، ولكنها لهم متعة من الدنيا.
﴿ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ﴾ ألجئه إن مات على كفره ﴿ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٢٦].
﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ﴾، يعنى أساس البيت الحرام الذى كان رفع ليالى الطوفان على عهد نوح، فبناه إبراهيم وإسماعيل على ذلك الأصل، وأعانهم الله عز وجل بسبعة أملاك على البناء ملك إبراهيم، وملك إسماعيل، وملك هاجر، والملك الموكل بالبيت، وملك الشمس، وملك القمر، وملك آخر، فلما فرغا من بناء البيت، قالا: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ﴾، يعني بناء هذا البيت الحرام.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ١٢٧] لدعائهما: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ ﴾.
ثم قالا: ﴿ رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ﴾، يعنى مخلصين لك.
﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾، يعني علمنا مناسكنا، نظيرها:﴿ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ ﴾[النساء: ١٠٥]، يعني بما علمك الله، ونظيرها:﴿ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ١٤٢]، يعنى يرى الله، ونظيرها أيضاً:﴿ وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾[سبأ: ٦]، يعني ويعلم، ونظيرها:﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ ﴾[العنكبوت: ٣] يعنى وليرين الله،﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾[العنكبوت: ٣]، يعنى ويرى.﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ فنصلي لك.
﴿ وَتُبْ عَلَيْنَآ ﴾، يعني إبراهيم وإسماعيل أنفسهما.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ١٢٨]، ففعل الله عز وجل ذلك به، فنزل جبريل، عليه السلام، فانطلق بإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل ربه، فلما أراه الله المناسك والمشاعر، علم أن الله عز وجل سيجعل فى ذريتهما أمة مسلمة، كما سألا ربهما، فقالا عند ذلك: ﴿ رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ ﴾، يعنى فى ذريتنا ﴿ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾، يعنى محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ﴾، يعنى يقرأ عليهم آيات القرآن.
﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يقول: يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن، ثم قال: ﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الموعظة التي فى القرآن من الحلال والحرام.
﴿ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾، يعنى ويطهرهم من الشرك والكفر.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ ﴾ [آية: ١٢٩]، فاستجاب الله له فى سورة الجمعة، فقال:﴿ هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ﴾[الجمعة: ٢] إلى آخر الآية.
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾، وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام، فقال لهما: ألستما تعلمان أن الله عز وجل قال لموسى: إني باعث نبياً من ذرية إسماعيل يقال له: أحمد، يحيد أمته عن النار، وأنه ملعون من كذب بأحمد النبى، وملعون من لم يتبع دينه؟ فأسلم سلمة، وأبى مهاجر، ورغب عن الإسلام، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ﴾، يعنى الإسلام، ثم استثنى.
﴿ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾، يعنى إلا من خسر نفسه من أهل الكتاب.
﴿ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ ﴾، يعنى إبراهيم، يعنى اخترناه بالنبوة والرسالة فى الدنيا.
﴿ وَإِنَّهُ ﴾ ﴿ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ١٣٠].
﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ﴾، يقول: أخلص.
﴿ قَالَ أَسْلَمْتُ ﴾، يعنى أخلصت ﴿ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ١٣١].
﴿ وَوَصَّىٰ بِهَآ ﴾، يعنى بالإخلاص ﴿ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ﴾ الأربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومداين، ثم وصى بها يعقوب بنيه يوسف وإخواته اثنى عشر ذكراً بنيه.
﴿ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ ﴾، أى فقال يعقوب لبنيه الاثنى عشر: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ عز وجل ﴿ ٱصْطَفَىٰ ﴾ يعنى اختار ﴿ لَكُمُ ٱلدِّينَ ﴾، يعنى دين الإسلام.
﴿ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آية: ١٣٢]، يعنى مخلصون بالتوحيد.
﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ ﴾، وذلك أن اليهود قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم يا محمد، ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية، فأنزل الله عز وجل: ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ ﴾، قال الله عز وجل: إن اليهود لم يشهدوا وصية يعقوب لبنيه.
﴿ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ ﴾ يوسف وإخوته: ﴿ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي ﴾، أى بعد موتى.
﴿ قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ ﴾ ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ١٣٣]، يعني مخلصون له بالتوحيد. يقول: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ ﴾، يعنى عصبة.
﴿ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، من العمل، يعني الدين، يعني إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه، ثم قال لليهود: ﴿ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ من الدين.
﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٣٤] أولئك.
﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ ﴾، وذلك أن رءوس اليهود كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبا ياسر بن أخطب، ومالك بن الضيف، وعازارا، وإشماويل، وحميشا، ونصارى نجران السيد، والعاقب ومن معهما، قالوا للؤمنين: كونوا على ديننا، فإنه ليس دين إلا ديننا، فكذبهم الله تعالى، فقال: ﴿ قُلْ بَلْ ﴾ الدين ﴿ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾، يعنى الإسلام، ثم قال: ﴿ حَنِيفاً ﴾، يعنى مخلصاً.
﴿ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ﴾ [آية: ١٣٥]، يعني من اليهود والنصارى. ثم أمر الله عز وجل المؤمنين، فقال: ﴿ قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ ﴾ بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾، يعنى قرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ ﴾، وهم بنو يعقوب يوسف وإخوته، فنزل على هؤلاء صحف إبراهيم، قال: ﴿ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ ﴾، يعنى التوراة.
﴿ وَ ﴾ ما أوتى ﴿ عِيسَىٰ ﴾، يعنى الإنجيل، يقول: ما أنزل على موسى وعيسى وصدقنا.
﴿ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ ﴾، وأوتي داود وسليمان الزبور.
﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾، فنؤمن ببعض النبيين ونكفر ببعض، كفعل أهل الكتاب.
﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ١٣٦]، يعنى مخلصون، نظيرها فى آل عمران. يقول الله سبحانه: ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾، يقول: فإن صدق أهل الكتاب بالذى صدقتم به يا معشر المسلمين من الإيمان بجميع الأنبياء والكتب.
﴿ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ ﴾ من الضلالة.
﴿ وَّإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، أى وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب.
﴿ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾، يعنى فى ضلال واختلاف، نظيرها:﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾[البقرة: ١٧٦]، يعنى لفى ضلال واختلاف؛ لأن اليهود كفروا بعيسى ومحمد، صلى الله عليهما وسلم، وبما جاءا به، وكفرت النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، فلما نزلت هذه الآية قرأها النبى صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، فقال:" إن الله عز وجل أمرنى أن أوصي بهذه الآية، فإن أنتم آمنتم، يعنى صدقتم بالنبى صلى الله عليه وسلم والكتاب، فقد اهتديتم، وإن توليتم وأبيتم عن الإيمان، فإنما أنتم فى شقاق "فلما سمعت اليهود ذكر عيسى صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا نؤمن بعيسى، وقالت النصارى: وعيسى بمنزلتهم مع الأنبياء، ولكنه ولد الله، يقول: إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به.
﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ يا محمد، يعنى أهل الكتاب، ففعل الله عز وجل ذلك، فقتل أهل قريظة، وأجلى بنى النضير من المدينة إلى الشام.
﴿ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ١٣٧]، لقولهم للمؤمنين: ﴿ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُواْ ﴾، ثم قال: ﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ بما قالوا: قل لهم: ﴿ صِبْغَةَ ٱللَّهِ ﴾ التى صبغ الناس عليها.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً ﴾، يعنى الإسلام؛ لقولهم للمؤمنين: اتبعوا ديننا، فإنه ليس دين إلا ديننا، يقول الله عز وجل: دين الله، ومن أحسن من الله ديناً؟! يعنى الإسلام.
﴿ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴾ [آية: ١٣٨]، يعني موحدون.﴿ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ ﴾، يقول: أتخاصموننا فى الله.
﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾، فقال لهم: ﴿ وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾ [آية: ١٣٩]، يقول: لنا ديننا ولكم دينكم، يعنى أن يهود أهل المدينة ونصارى أهل نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياء الله كانوا منا من بنى إسرائيل، فكانوا على ديننا، فأنزل الله عز وجل يكذبهم: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ ﴾، وإنما سموا الأسباط؛ لأنه ولد لكل واحد منهم أمة من الناس.
﴿ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ ﴾ بدينهم ﴿ أَمِ ٱللَّهُ ﴾، ثم قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ ﴾، يقول: فلا أحد أظلم ﴿ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٤٠]، فكتموا تلك الشهادة التى عندهم، وذلك أن الله عز وجل بين أمر محمد فى التوراة والإنجيل، وكتموا تلك الشهادة التى عندهم، وذلك قوله:﴿ وَإِذَ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾[آل عمران: ١٨٧]، يعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم. فلما قالوا: إن إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه كانوا على ديننا، قال الله تعالى: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ ﴾، يعني عصبة، يعني إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه.
﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾، يعنى قد مضت.
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، يعني من العمل، يعني من الدين.
﴿ وَلَكُمْ ﴾ معشر اليهود والنصارى.
﴿ مَّا كَسَبْتُمْ ﴾ من العمل، يعنى من الدين.
﴿ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٤١] أولئك.
﴿ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشى، فلما عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلاً، أمر بالصلوات الخمس، فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع ركعات، فلما هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأول، أمر أن يصلى نحو بيت المقدس؛ لئلا يكذب به أهل الكتاب إذا صلى إلى غير قبلتهم مع ما يجدون من نعته فى التوراة، فصلى النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل بيت المقدس من أول مقدمه المدينة سبعة عشر شهراً، وصلت الأنصار قبل بيت المقدس سنتين قبل هجرة النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت الكعبة أحب القبلتين إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال لجبريل، عليه السلام: " وددت أن ربى صرفنى عن قبلة اليهود إلى غيرها ". فقال جبريل عليه السلام: إنما أنا عبد مثلك لا أملك شيئاً، فاسأل ربك ذلك، وصعد جبريل إلى السماء، وجعل النبى صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل، عليه السلام، بما سأل. "فأنزل الله عز وجل فى رجب عند صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين: ﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، ولما صرفت القبلة إلى الكعبة، قال مشركو مكة: قد تردد على أمره واشتاق إلى مولد آبائه، وقد توجه إليكم وهو راجع إلى دينكم، فكان قولهم هذا سفهاً منهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى مشركي مكة.
﴿ مَا وَلاَّهُمْ ﴾، يقول: ما صرفهم ﴿ عَن قِبْلَتِهِمُ ﴾ الأولى ﴿ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل ﴾ يا محمد ﴿ للَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ١٤٢]، يعنى دين الإسلام، يهدى الله نبيه والمؤمنين لدينه.﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾، وذلك أن اليهود منهم مرحب، ورافع، وربيعة، قالوا لمعاذ: ما ترك محمد قبلتنا إلا حسداً، وإن قبلتنا قبلة الأنبياء، ولقد علم محمد أنا عدل بين الناس، فقال معاذ: إنا على حق وعدل، فأنزل الله عز وجل فى قول معاذ: ﴿ وَكَذَلِكَ ﴾، يعنى وهكذا.
﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾، يعنى عدلاً، نظيرها فى ن والقلم، قوله سبحانه:﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾[القلم: ٢٨]، يعنى أعدلهم، وقوله سبحانه:﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ﴾[المائدة: ٨٩]، يعنى أعدل، فقول الله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾، يعنى أمة محمد تشهد بالعدل فى الآخرة بين الأنبياء وبين أممهم.
﴿ لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾، يعني على الرسل هل بلغت الرسالة عن ربها إلى أممهم.
﴿ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ ﴾، يعني محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾، يعني على أمته أنه بلغهم الرسالة.﴿ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ ﴾، يعني بيت المقدس.
﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾، إلا لنرى ﴿ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ ﴾، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم على دينه فى القبلة ومن يخالفه من اليهود.
﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ﴾، يقول: ومن يرجع إلى دينه الأول.
﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ﴾، يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة، فعظمت على اليهود، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ﴾ فإنه لا يكبر عليهم ذلك.
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، وذلك أن حيى بن أخطب اليهودى وأصحابه قالوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس، أكانت هدى أم ضلالة، فوالله لئن كانت هدى لقد تحولتم عنه، ولئن كانت ضلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم إليه بها، وإن من مات منكم عليها مات على الضلالة. فقال المسلمون: إنما الهدى ما أمر الله عز وجل به، والضلالة ما نهى الله عنه، قالوا: فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا؟ وكان قد مات قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة: أسعد بن زرارة ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار بن مالك ابن الخزرج، من بنى النجار، ومات البراء بن معرور بن صخر بن سنان بن عبيد بن عدى بن سلمة بن سعد بن على بن شاردة بن زيد بن جشم بن الخزرج، من بنى سلمة، وكانا من النقباء، ومات رجال، فانطلقت عشائرهم، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: توفى إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله عز وجل إلى قبلة إبراهيم، عليه السلام، فيكف بإخواننا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾، يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المقدس، يقول: لقد تقبلت منهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ ﴾، يعنى يرق لهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٤٣] حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة.
﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾، يعنى نرى أنك تديم نظرك إلى السماء.
﴿ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ ﴾ يعنى لنحولنك إلى ﴿ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾؛ لأن الكعبة كانت أحب إلى النبى صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس.
﴿ فَوَلِّ ﴾، يعنى فحول ﴿ وَجْهَكَ شَطْرَ ﴾، يعني تلقاء ﴿ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ﴾ من الأرض ﴿ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، يعنى فحولوا وجوهكم فى الصلاة تلقاءه، وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى فى مسجد بنى سلمة، فصلى ركعة، ثم حولت القبلة إلى الكعبة، وفرض الله صيام رمضان، وتحويل القبلة، والصلاة إلى الكعبة قبل بدر بشهرين، وحرم الخمر قبل الخندق.﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى أهل التوراة، وهم اليهود، منهم الحميس بن عمرو، قال: يا محمد، ما أمرت بهذا الأمر، وما هذا إلا شىء ابتدعته، يعني فى أمر القبلة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني أهل التوراة.
﴿ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾، بأن القبلة هى الكعبة، فأوعدهم الله، فقال: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٤٤]، يعني عما يعملون من كفرهم بالقبلة.
﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى اليهود، ينحوم بن سكين، ورافع ابن سكين، ورافع ابن حريملة، ومن النصارى أهل نجران السيد والعاقب، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية نعرفها كما كانت الأنبياء تأتى بها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلَئِنْ أَتَيْتَ ﴾، يقول: ولئن جئت يا محمد ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾ ﴿ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ﴾، يعني الكعبة.
﴿ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾، يعنى بيت المقدس، ثم قال: ﴿ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾، يقول: إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المقدس، والنصارى قبل المشرق، فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم ويخوفه: ﴿ وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم ﴾، فصليت إلى قبلتهم ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ ﴾، يعني البيان.
﴿ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٤٥].
﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾، يعني اليهود منهم: أبو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وسلام بن صوريا، وكنانة بن أبى الحقيق، ووهب بن يهوذا، وأبو نافع، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: لم تطوفون بالكعبة، وإنما هى حجارة مبنية، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" إنكم لتعلمون أن الطواف بالبيت حق، فإنه هو القبلة مكتوب فى التوراة والإنجيل، ولكنكم تكتمون ما فى كتاب الله من الحق وتجحدونه "، فقال ابن صوريا ما كتمنا شيئاً مما فى كتابنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يقول: أعطيناهم التوراة.
﴿ يَعْرِفُونَهُ ﴾، أى يعرفون البيت الحرام أنه القبلة.
﴿ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ ﴾، يعنى طائفة من هؤلاء الرءوس ﴿ لَيَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ ﴾، يعني أمر القبلة ﴿ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٤٦] أن البيت هو القبلة. ثم قال سبحانه: ﴿ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ يا محمد إن القبلة التى وليناكها هى القبلة.
﴿ فَلاَ ﴾، يعنى لئلا ﴿ تَكُونَنَّ ﴾ يا محمد ﴿ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ ﴾ [آية: ١٤٧]، يعني من الشاكين أن البيت الحرام هو القبلة.
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾، يقول: لكل أهل ملة قبلة هم مستقبلوها، يريدون بها الله عز وجل.
﴿ فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ ﴾، يقول: سارعوا فى الصالحات من المال.
﴿ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ ﴾ من الأرض أنتم وأهل الكتاب.
﴿ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً ﴾ يوم القيامة.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٤٨] من البعث وغيره قدير.﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ﴾، يقول: ومن أين توجهت من الأرض.
﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يقول: فحول وجهك فى الصلاة تلقاء المسجد الحرام.
﴿ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٤٩].
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يعنى الحرم كله، فإنه مسجد كله.
﴿ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ ﴾ من الأرض.
﴿ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾، يعنى فحولوا وجوهكم تلقاءه، ثم قال: ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾، يعنى اليهود فى أن الكعبة هى القبلة ولا حجة لهم عليكم فى انصرافكم إليها، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾، يعني من الناس، يعنى مشركي العرب، وذلك أن مشركى مكة قالوا: إن الكعبة هى القبلة، فما بال محمد تركها وكانت لهم فى ذلك حجة، يقول الله عز وجل: ﴿ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾ أن يكون لهم عليكم حجة فى شىء غيرها.
﴿ وَٱخْشَوْنِي ﴾ فى ترك أمري فى أمر القبلة، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ﴾ فى انصرافكم إلى الكعبة وهى القبلة.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ ﴾ ولكي ﴿ تَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٥٠] من الضلالة، فإن الصلاة قبل بيت المقدس بعد ما نسخت الصلاة إليه ضلالة. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنا أبي، قال الهذيل، عن ليث بن سعد، عن يزيد بن أبى حبيب، عن أبى الجهم مرثد، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، قال: إنكم ستفتحون قسطنطينية والرومية وحمقلة. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن أبى لهيعة، عن أبى قبيل، عن عبدالله بن عمرو، قال: إنكم ستفتحون رومية، فإذا دخلتموها فادخلوا كنيستها الشرقية، فعدوا سبع بلاطات واقعلوا الثامنة، وهى بلاطة حمراء، فإن تحتها عصا موسى، وإنجيل عيسى، وحُلي إيلياء، يعنى بيت المقدس، هذا خزيهم فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب النار. قال: حدثنا عبيدالله، قال: حثدنى أبى، عن الهذيل بن حبيب، عن مقاتل، قال: كل من ملك القبط يسمى قيطوس، وكل من ملك الروم يسمى قيصر، وكل من ملك الفرس يسمى كسرى.
﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ ﴾، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ﴾ القرآن ﴿ وَيُزَكِّيكُمْ ﴾، يعني ويطهركم من الشرك والكفر.
﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعني القرآن.
﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الحلال والحرام.
﴿ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٥١]، إذا فعلت ذلك بكم.
﴿ فَٱذْكُرُونِيۤ ﴾، يقول: فاذكرونى بالطاعة ﴿ أَذْكُرْكُمْ ﴾ بخير.
﴿ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [آية: ١٥٢]، يقول: اشكروا الله عز وجل فى هذه النعم لا تكفروا بها لقوله: ﴿ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ ﴾ إلى آخر الآية.
﴿ يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ ﴾، يقول: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلوات الخمس فى مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ١٥٣] على الفرائض والصلاة.
﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ ﴾، نزلت فى قتلى بدر من المسلمين، وهم أربعة عشر رجلاً من المسلمين، ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين، فمن المهاجرين: عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب، وعمير بن نضلة، وعقيل بن بكير، ومهجع ابن عبدالله مولى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وصفوان بن بيضاء، فهؤلاء ستة من المهاجرين، ومن الأنصار: سعد بن خيثمة بن الحارث بن النخاط بن كعب بن غنم بن أسلم بن مالك بن الأوس، ومبشر بن عبدالمنذر، ويزيد بن الحارث، وعمر بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء، وعما ابنا الحارث بن مالك بن سوار، فهؤلاء ثمانية من الأنصار. وذلك أن الرجل كان يقتل فى سبيل الله، فيقولون: مات فلان، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ ﴾ معشر المؤمنين ﴿ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ ﴾ ﴿ بَلْ أَحْيَاءٌ ﴾ مرزوقون فى الجنة عند الله، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ﴾ [آية: ١٥٤] بأنهم أحياء مرزوقون، ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى فى جنة المأوى.
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ ﴾، يعنى القحط.
﴿ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ ﴾، يعنى قحط المطر.
﴿ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ١٥٥] على هذه البلية بالجنة. ثم نعت أهل المصيبة، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ ﴾، يعني فيما ذكر من هذه الآية.
﴿ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ ﴾ [آية: ١٥٦].
﴿ أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾، يعنى مغفرة، كقوله سبحانه:﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾يعنى استغفر لهم،﴿ إِنَّ صَلَٰوتَكَ ﴾يعني استغفارك﴿ سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾[التوبة: ١٠٣] من ربهم.
﴿ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٥٧] للاسترجاع.
﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن الحُمس، وهم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قالوا: ليست الصفا والمروة من شعائر الله، وكان على الصفا صنم يقال له: نائلة، وعلى المروة صنم يقال له: يساف فى الجاهلية، فقالوا: إنه حرج علينا فى الطواف بينهما، فكانوا لا يطوفون بينهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: هما من أمر المناسك التى أمر الله بها.
﴿ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾، يقول: لا حرج عليه أن يطوف بينهما لقولهم: إن علينا حرجاً فى الطواف بينهما، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾ بعد الفريضة، فزاد فى الطواف.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٥٨] لأعمالكم عليم بها، وقد طاف إبرهيم الخليل صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾، وذلك أن معاذ بن جبل وسعد بن معاذ، وحارثة بن زيد، سألوا اليهود عن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وعن الرجم وغيره فكتموهم، يعنى اليهود، منهم: كعب ابن الأشرف، وابن صوريا.
﴿ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى ما بين الله عز وجل فى التوراة، يعنى الرجم والحلال والحرام.
﴿ وَٱلْهُدَىٰ ﴾، يعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة، فكتموه الناس، يقول الله سبحانه: ﴿ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ ﴾، يعنى أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى لبني إسرائيل فى التوراة، وذلك قوله سبحانه فى العنكبوت:﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ﴾أى بمحمد صلى الله عليه وسلم﴿ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ ﴾[العنكبوت: ٤٩]، يعنى المكذبون بالتوراة، وهم ﴿ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ ﴾ [آية: ١٥٩]، وذلك أن الكافر يضرب فى قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم، غير الجن والإنس، فيقولون: إنما كان يحبس عنا الرزق بذنب هذا، فتلعنهم الخليقة، فهم اللاعنون. ثم استثنى مؤمني أهل التوراة، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ من الكفر ﴿ وَأَصْلَحُواْ ﴾ العمل ﴿ وَبَيَّنُواْ ﴾ أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس.
﴿ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ ﴾، يعنى أتجاوز عنهم.
﴿ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [آية: ١٦٠]، ثم ذكر من مات من اليهود على الكفر، فقال: ﴿ إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ ٱللَّهِ وَ ﴾ لعنة ﴿ ٱلْمَلاۤئِكَةِ وَ ﴾ لعنة ﴿ ٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [آية: ١٦١]، يعنى المؤمنين جميعاً.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾، يعنى فى اللعنة واللعنة النار.
﴿ لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ [آية: ١٦٢]، لا يناظر بهم حتى يعذبوا. ثم قال لأهل الكتاب: ﴿ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾، يقول: ربكم رب واحد، فوحد نفسه تبارك اسمه.
﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ١٦٣].
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، وذلك أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بآية، اجعل لنا الصفا ذهباً، فقال الله سبحانه: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ ﴿ وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱلْفُلْكِ ٱلَّتِي تَجْرِي ﴾، يعنى السفن التى ﴿ فِي ٱلْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ ﴾ فى معايشهم.
﴿ وَمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ ﴾، يعنى بالماء ﴿ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ يبسها.
﴿ وَبَثَّ فِيهَا ﴾، يعنى وبسط.
﴿ مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ﴾ فى العذاب والرحمة.
﴿ وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ بَيْنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٦٤]، فيما ذكر من صنعه فيوحدوه.
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى مشركي العرب.
﴿ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً ﴾، يعني شركاء، وهى الآلهة.
﴿ يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ ٱللَّهِ ﴾، يقول: يحبون آلهتهم كما يحب الذين آمنوا ربهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ ﴾ منهم لآلهتهم، ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ وَلَوْ يَرَى ﴾ محمد يوم القيامة ﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾، يعني مشركي العرب ستراهم يا محمد فى الآخرة ﴿ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ ﴾ فيعلمون حينئذ ﴿ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ ﴾ [آية: ١٦٥]، ثم أخبر سبحانه عنهم، فقال: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ ﴾، يعنى القادة.
﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ ﴾، يعنى الأتباع.
﴿ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ ﴾، يعنى القادة والأتباع.
﴿ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلأَسْبَابُ ﴾ [آية: ١٦٦]، يعنى المنازل والأرحام التى كانوا يجتمعون عليها من معاصى الله، ويتحابون عليها فى غير عبادة الله، انقطع عنهم ذلك وندموا.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ ﴾، أى الأتباع: ﴿ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ﴾، يعني رجعة إلى الدنيا.
﴿ فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ ﴾ من القادة.
﴿ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا ﴾ فى الآخرة، وذلك قوله سبحانه: ﴿ ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ ﴾، يعني يتبرأ ﴿ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾.
﴿ كَذَلِكَ ﴾ يقول: هكذا ﴿ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ﴾، يعني القادة والأتباع ﴿ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ﴾، يعنى ندامة.
﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ١٦٧].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾، يعنى مما حرموا من الحرث والأنعام، نزلت فى ثقيف، وفى بنى عامر بن صعصعة، وخزاعة، وبنى مدلج، وعامر والحارث ابنى عبد مناة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾، يعنى تزيين الشيطان فى تحريم الحرث والأنعام.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ١٦٨]، يعنى بين.
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِٱلسُّوۤءِ ﴾، يعنى بالإثم.
﴿ وَٱلْفَحْشَآءِ ﴾، يعنى وبالمعاصى؛ لأنه لكم عدو مبين.
﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ بأنه حرم عليكم ﴿ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٦٩] أنتم أنه حرمه. ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ من القرآن فى تحليل ما حرموه.
﴿ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ﴾ من أمر الدين، فإن آباءنا أمرونا أن نعبد ما كانوا يعبدون، قل يا محمد: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً ﴾ من الدين ﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٧٠] به أفتتبعونهم، ثم ضرب لهم مثلاً، فقال سبحانه: ﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ ﴾، يعني الشاة والحمار.
﴿ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً ﴾، يعنى مثل الكافر كمثل البهيمة إن أمرت أن تأكل أو تشرب سمعت صوتاً ولا تعقل ما يقال لها: فكذلك الكافر الذين يسمع الهدى والموعظة إذا دعي إليها، فلا يعقل ولا يفهم بمنزلة البهيمة، يقول: ﴿ صُمٌّ ﴾، فلا يسمعون الهدى.
﴿ بُكْمٌ ﴾، فلا يتكلمون بالهدى.
﴿ عُمْيٌ ﴾، فلا يبصرون الهدى.
﴿ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٧١] الهدى.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ من تحليل الحرث والأنعام، يعني بالطيب الحلال.
﴿ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [آية: ١٧٢]، ولا تحرموا ما أحل الله لكم من الحرث والأنعام، ثم بين ما حرم، فقال: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: وما ذبح للأوثان.
﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ ﴾ إلى شىء مما حرم الله ﴿ غَيْرَ بَاغٍ ﴾ استحلاله.
﴿ وَلاَ عَادٍ ﴾، يعنى ولا معتدياً لم يضطر إليه.
﴿ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ فى أكله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لما أكل من الحرام فى الاضطرار.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٣]، إذ رخص لهم فى الاضطرار، مثلها فى الأنعام، والمضطر يأكل على قدر قوته.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى التوراة أنزلت فى رءوس اليهود، منهم: كعب بن الأشرف، وابن صوريا، كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة.
﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾، يعنى عرضاً من الدنيا، ويختارون على الكفر بمحمد ثمناً قليلاً، يعنى عرضاً من الدنيا يسيراً مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كل عام، ولو تابعوا محمداً لحبست عنهم تلك المآكل، فقال الله تعالى ذكره: ﴿ أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ ﴾، يقول: ولا يزكى لهم أعمالهم.
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٤]، يعنى وجيع. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ ﴾، يعني باعوا الهدى الذي كانوا فيه من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بالضلالة التى دخلوا فيها بعدما بعث محمد، ثم قال: ﴿ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ ﴾، أي اختاروا العذاب على المغفرة.
﴿ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ١٧٥]، يقول: أى شىء جرأهم على عمل يدخلهم النار، فما أصبرهم عليها إلا أعمالهم الخبيثة.
﴿ ذَلِكَ ﴾ العذاب الذى نزل بهم فى الآخرة ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾، يقول: لم ينزل باطلاً لغير شىء، فلم يؤمنوا به.
﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى فى القرآن.
﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [آية: ١٧٦]، يعني لفي ضلال بعيد، يعني طويل.
﴿ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ﴾، يعنى ليس التقوى أن تحولوا وجوهكم فى الصلاة ﴿ قِبَلَ ﴾، يعني تلقاء ﴿ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ ﴾، فلا تفعلوا ذلك.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾، يعني صدق بالله بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعنى وصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بأنه كائن ﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾، أى وصدق بالملائكة.
﴿ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ ﴾، يعني وأعطى المال ﴿ عَلَىٰ حُبِّهِ ﴾ له أعطى ﴿ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ﴾، يعني والضيف نازل عليك ﴿ وَ ﴾ أعطى ﴿ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾، فهذا تطوع، ثم قال سبحانه: ﴿ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ ﴾ المكتوبة ﴿ وَآتَى ﴾ وأعطى ﴿ ٱلزَّكَاةَ ﴾ المفروضة ﴿ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ ﴾ فيما بينهم وبين الناس.
﴿ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّاءِ ﴾، يعنى الفقر، والضراء يعنى البلاء.
﴿ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ ﴾، يعنى وعند القتال هم صابرون.
﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوآ ﴾ فى إيمانهم.
﴿ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ [آية: ١٧٧].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ﴾ إذا كان عمداً، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا فى الجاهلية قبل الإسلام بقليل، وكانت بينهم قتلى وجرحى، حتى قتل العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض الأموال حتى أسلموا، وكان أحد الحيين له طول على الآخر فى العدد والأموال، فحلفوا ألا نرضى حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ ﴾، فسوى بينهم فى الدماء، وأمرهم بالعدل فرضوا، فصارت منسوخة نسختها الآية التى فى المائدة قوله سبحانه:﴿ وَكَتَبْنَا ﴾فيما قضينا﴿ عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ ﴾[المائدة: ٤٥]، يعنى النفس المسلم الحر بالنفس، المسلم الحر، والمسلمة الحرة بالمسلمة الحرة.
﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ﴾.
ثم رجع إلى أول الآية فى قوله سبحانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ﴾ إذا كان عمداً إذا عفى ولى المقتول عن أخيه القاتل ورضى بالدية.
﴿ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني الطالب ليطلب ذلك فى رفق، ثم قال للمطلوب: ﴿ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾، يقول: ليؤدى الدية إلى الطالب عفواً فى غير مشقة ولا أذى.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ العفو والدية ﴿ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ إذ جعل فى قتل العمد العفو والدية، ثم قال: ﴿ وَرَحْمَةٌ ﴾، يعنى وتراحموا، وكان الله عز وجل حكم على أهل التوراة أن يقتل القاتل، ولا يعفى عنه، ولا يقبل منه الدية، وحكم على أهل الإنجيل العفو، ولا يقتل القاتل بالقصاص، ولا يأخذ ولى المقتول الدية. ثم جعل الله عز وجل التخفيف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم إن شاء ولى المقتول قتل القاتل، وإن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذ منه الدية، فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد، فرخص الله عز وجل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه فى الأعراف:﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾[الأعراف: ١٥٧] من التشديدات، وهم أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه الدية، ثم قال: ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٧٨]، يعنى وجيع، فإنه يقتل، ولا يؤخذ منه دية، قال النبى صلى الله عليه وسلم:" لا عفو عمن قتل القاتل بعد أخذ الدية، وقد جعل الله له عذاباً أليماً ". ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾، يعني بقاء يحجز بعضكم عن بعض ﴿ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ ﴾، يعنى من كان له لب أو عقل، فذكر القصاص، فيحجزه الخوف عن القتل.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعنى لكى ﴿ تَتَّقُونَ ﴾ [آية: ١٧٩] الدماء مخافة القصاص.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى فرض عليكم، نظيرها:﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾[البقرة: ٢١٦]، يعنى فرض، نظيرها أيضاً:﴿ مَا كَتَبْنَاهَا ﴾، يعنى ما فرضناها﴿ عَلَيْهِمْ ﴾[الحديد: ٢٧]، يعنى الرهبانية.
﴿ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ ﴾ بعد موته ﴿ خَيْراً ﴾، يعنى المال.
﴿ ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعنى تفضيل الوالدين على الأقربين فى الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف. والذين لا يرثون يقول الله عز وجل تلك الوصية ﴿ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١٨٠]، فمن لم يوص لقرابته عند موته، فقد ختم عمله بالمعصية، ثم نزلت آية الميراث بعد هذه الآية، فنسخت للوالدين، وبقيت الوصية للأقربين الذين لا يرثون، ما بينه وبين ثلث ماله.
﴿ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ ﴾، يقول: من بدل وصية الميت، يعنى الوصي والولي بعدما سمعه من الميت، فلم يمض وصيته.
﴿ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ﴾، يعنى الوصي والولي وبرىئ منه الميت.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لوصية الميت ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٨١] بها. ثم قال: ﴿ فَمَنْ خَافَ ﴾، يعني الوصي ﴿ مِن مُّوصٍ ﴾، يعني الميت ﴿ جَنَفاً ﴾ ميلاً عن الحق خطأ.
﴿ أَوْ إِثْماً ﴾ تعمداً للجنف، أى إن جار الميت فى وصيته عمداً أو خطأ، فلم يعدل. فخاف الوصي أو الولي من جور وصيته.
﴿ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ﴾ بين الورثة بالحق والعدل.
﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ حين خالف جور الميت.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ للمصلح ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٨٢] به إذا رخص فى مخالفة جور الميت.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾، وذلك أن لبيد الأنصاري من بني عبد الأشهل كبر فعجز عن الصوم، فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما على من عجز عن الصوم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾، يعنى فرض عليكم، نظيرها: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾، يعنى فرض عليكم القتال.
﴿ كَمَا كُتِبَ ﴾، يعنى كما فرض ﴿ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، يعني أهل الإِنجيل.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [آية: ١٨٣]، يعني لكي تتقون الطعام والشراب والجماع، فمن صلى العشاء الآخرة أو نام قبل أن يصلي العشاء الآخرة، حرم عليه ما يحرم على الصائم. وكان ذلك على الذين من قبلنا ﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾، وهى دون الأربعين، فإذا كانت فوق الأربعين فلا يقال لهم: ﴿ مَّعْدُودَاتٍ ﴾.
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾، أى ومن كان يطيق الصوم، وليس بمريض ولا مسافر، فإن شاء صام، وإن شاء أفطر، وعليه فدية ﴿ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾، لكل مسكين نصف صاع حنطة.
﴿ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً ﴾، فزاد على مسكين فأطعم مسكينين أو ثلاثة مكان كل يوم.
﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ﴾ من أن يطعم مسكيناً واحداً، ثم قال: ﴿ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ ﴾، يعنى ولأن تصوموا خير ﴿ لَّكُمْ ﴾ من الطعام ﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٨٤]، وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء ولا يصومون غيره، ثم أنزل الله عز وجل صوم رمضان بعد، فنسخ الطعام، وثبت الصوم، إلا على من لا يطيق الصوم، فليفطر وليطعم مكان كل يوم مسكيناً نصف صاع حنطة.
ثم بين لهم أى شهر يصومون، فقال عز وجل: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ ﴾، من اللوح المحفوظ فى عشرين شهراً، وأنزل به جبريل، عليه السلام، عشرين سنة، ثم قال سبحانه: ﴿ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلْهُدَىٰ وَٱلْفُرْقَانِ ﴾، يعنى فى الدين من الشبهة والضلالة، نظيرها فى آل عمران [الآية: ٤]:﴿ وَأَنْزَلَ ٱلْفُرْقَانَ ﴾يعنى المخرج من الشبهات.
﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾، فواجب عليه الصيام، ولا يطعم.
﴿ وَمَن كَانَ ﴾ منكم ﴿ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾، فلم يصم، فإذا برئ المريض من مرضه.
﴿ فَعِدَّةٌ ﴾ فليصم عدة ﴿ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾، إن شاء صام متتابعاً، وإن شاء متقطعاً، وهكذا المسافر.
﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ ﴾، يعني الرفق فى أمر دينكم حين رخص للمريض والمسافر فى الفطر.
﴿ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ ﴾، يعنى الضيق فى الدين، فلو لم يرخص للمريض والمسافر، كان عسراً، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ ﴾، يعنى تمام الأيام المعدودات.
﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ ﴾، يعني لكى تعظموا ﴿ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾ من أمر دينه.
﴿ وَلَعَلَّكُمْ ﴾، يعني لكي.
﴿ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ١٨٥] ربكم فى هذه النعم إذ هداكم لأمر دينه.
ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾، وذلك أنه كان فى الصوم الأول أن الرجل إذا صلى العشاء الآخرة، أو نام قبل أن يصليها، حرم عليه الطعام والشراب والجماع، كما يحرم بالنهار على الصائم،" ثم إن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، صلى العشاء الآخرة، ثم جامع امرأته، فلما فرغ ندم وبكا، فلما أصبح أتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: يا نبى الله، إنى أعتذر إلى الله عز وجل، ثم إليك من نفسى هذه الخاطئة واقعت أهلى بعد الصلاة، فهل تجد لى رخصة، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: لم تك جديراً بذلك يا عمر، فرجع حزيناً، ورأى النبى صلى الله عليه وسلم صرمة بن أنس بن صرمة بن مالك، من بنى عدى بن النجار عند العشاء، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: يا أبا قيس، ما لك طليحاً؟، فقال: يا رسول الله، ظللت أمس فى حديقتى، فلما أمسيت أتيت أهلى، وأرادت المرأة أن تطعمنى شيئاً سخناً، فأبطأت علىَّ بالطعام، فرقدت فأيقظتنى وقد حرم علىَّ الطعام، فأمسيت وقد أجهدنى الصوم ". واعترف رجال من المسلمين عند ذلك بما كانوا يصنعون بعد العشاء، فقالوا: ما توبتنا ومخرجنا مما علمنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾ ﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾، أى فأعلمهم أنى قريب منهم فى الاستجابة.
﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ﴾ بالطاعة.
﴿ وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ﴾، يعني وليصدقوا بي، فإنى قريب سريع الإجابة أجيبهم.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [آية: ١٨٦]، يعني لكي يهتدون.
ثم قال: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ﴾ رخصة للمؤمنين بعد صنيع عمر، رضى الله عنه.
﴿ ٱلرَّفَثُ ﴾، يعنى الجماع.
﴿ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ﴾، يقول: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن.
﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يعنى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فى جماع امرأته.
﴿ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾، يعني فتجاوز عنكم.
﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾.
قوله سبحانه: ﴿ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ بالمعصية، نظيرها:﴿ فَخَانَتَاهُمَا ﴾[التحريم: ١٠]، فخالفتاهما، يعنى بالمعصية، وكقوله سبحانه:﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾[المائدة: ١٣]، يعني على معصية.
﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾، يقول: ترككم فلم يعاقبكم.
﴿ فَٱلآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾، يعني جامعوهن من حيث أحللت لكم الجماع الليل كله.
﴿ وَٱبْتَغُواْ ﴾ من نسائكم ﴿ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ من الولد، يعني واطلبوا ما قضى لكم وأنزل فى صرمة بن أنس.
﴿ وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ ﴾، حتى يتبين لكم وجه الصبح، يعنى بياض النهار من سواد الليل.
﴿ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ ﴾، والخيط الأبيض يعني أول بياض الصبح، الضوء المعترض قبل المشرق، والخيط الأسود أول سواد الليل.
﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾، نزلت فى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وعمار بن ياسر، وأبى عبيدة بن الجراح، كان أحدهم يعتكف، فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله بالليل، فيباشر ويجامع امرأته ويغتسل ويرجع إلى المسجد، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾ ﴿ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي ٱلْمَسَاجِدِ ﴾، يقول: لا تجامعوا النساء ليلاً ولا نهاراً مادمتم متعكفين، ثم قال عز وجل: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾ المباشرة تلك معصية الله.
﴿ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ ﴾، يعنى أمره ﴿ لِلنَّاسِ ﴾ وأمر الاعتكاف.
﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾، يعنى لكى ﴿ يَتَّقُونَ ﴾ [آية: ١٨٧] المعاصى فى الاعتكاف.
﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ ﴾، يعني ظلماً، وذلك أن امرأ القيس بن عابس، وعبدان بن أشوع الحضرمى اختصما فى أرض، فكان امرؤ القيس المطلوب، وعبدان الطالب، فلم يكن لعبدان بينة، وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ النبى صلى الله عليه وسلم: "﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾" [آل عمران: ٧٧]، يعنى عرضاً يسيراً من الدنيا، إلى آخر الآية، فلما سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف، ولم يخاصمه فى أرضه، وحكمه فيها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ ﴾ ﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ ﴾، يقول: لا يدلين أحدكم بخصومة فى استحلال مال أخيه، وهو يعلم أنه مبطل، فذلك قوله سبحانه: ﴿ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً ﴾، يعنى طائفة.
﴿ مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٨٨] أنكم تدعون الباطل، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" إنما أنا بشر مثلكم، فلعلى بعضكم أعلم بحجته، فأقضي له وهو مبطل "، ثم قال عليه السلام:" أيما رجل قضيت له بمال امرئ مسلم، فإنما هى قطعة من نار جهنم أقطعها، فلا تأكلوها ".
قوله سبحانه: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ ﴾، نزلت فى معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمة، وهما من الأنصار، فقال معاذ: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ فيستوى؛ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ ﴾ ﴿ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ﴾ فى أجل دينهم، وصومهم، وفطرهم، وعدة نسائهم، والشروط التى بينهم إلى أجل، ثم قال عز وجل: ﴿ وَٱلْحَجِّ ﴾، يقول: وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم، وذلك قوله سبحانه: ﴿ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾، وذلك أن الأنصار فى الجاهلية وفى الإسلام كانوا إذا أحرم أحدهم بالحج أو بالعمرة، وهو من أهل المدن، وهو مقيم فى أهله لم يدخل منزله من باب الدار، ولكن يوضع له سلم إلى ظهر البيت فيصعد فيه، وينحدر منه، أو يتسور من الجدار، وينقب بعض بيوته، فيدخل منه ويخرج منه، فلا يزال كذلك حتى يتوجه إلى مكة محرماً، وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته." وأن النبى صلى الله عليه وسلم دخل يوماً نخلاً لبنى النجار، ودخل معه قطبة بن عامر بن حديدة الأنصارى من بنى سلمة بن جشم من قبل الجدار، وهو محرم، فلما خرج النبى صلى الله عليه وسلم من الباب وهو محرم، خرج قطبة من الباب، فقال رجل: هذا قطبة خرج من الباب وهو محرم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " ما حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم؟، قال: يا نبى، رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم، فخرجت معك، ودينى دينك، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: خرجت لأنى من أحمس "، فقال قطبة للنبى صلى الله عليه وسلم: إن كنت أحمسياً فإنى أحمسى، وقد رضيت بهديك ودينك، فاستننت بسنتك "، فأنزل الله فى قول قطبة بن عامر للنبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ ﴾، يعنى التقوى.
﴿ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ الله واتبع أمره، ثم قال عز وجل: ﴿ وَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه يحذركم ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يقول: لكى ﴿ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١٨٩]، والحمس قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، الذين لا يسلون السمن ولا يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر.
وقوله سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، وذلك أن الله عز وجل نهى النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن الشهر الحرام أن يقاتلوا فى الحرم إلا أن يبدأهم المشركون بالقتال، وأن النبى صلى الله عليه وسلم بينا هو وأصحابه معتمرون إلى مكة فى ذي القعدة، وهم محرمون عام الحديبية، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة رجل، فصدهم مشركو مكة عن المسجد الحرام وبدأوهم بالقتال، فرخص الله فى القتال، فقال سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ ﴿ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ ﴾ فتبدأوا بقتالهم فى الشهر الحرام وفى الحرم، فإنه عدوان.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ [آية: ١٩٠]، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾، يعنى أين أدركتموهم فى الحل والحرم.
﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ ﴾ من مكة ﴿ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ﴾، يعنى من مكة.
﴿ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ ﴾، يعنى الشرك أعظم عند الله عز وجل جرماً من القتل، نظيرها:﴿ أَلا فِي ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ﴾[التوبة: ٤٩]، يعنى فى الكفر وقعوا، فلما نزلت: ﴿ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم ﴾، أنزل الله عز وجل بعد: ﴿ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يعنى أرض الحرم كله، فنسخت هذه الآية، ثم رخص لهم.
﴿ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾، يعنى حتى يبدءوا بقتالكم فى الحرم.
﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ ﴾ فيه.
﴿ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٩١] إن بدأوا بالقتال فى الحرم أن يقاتلوا فيه. ثم قال سبحانه: ﴿ فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ ﴾ عن قتالكم ووحدوا ربهم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لشركهم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٩٢] بهم فى الإسلام، نظيرها فى الأنفال:﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾[الأنفال: ٣٩] إلى آخر الآية، ثم قال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ أبداً ﴿ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، يقول: حتى لا يكون فيهم شرك فيوحدوا ربهم ولا يعبدوا غيره، يعني مشركي العرب خاصة.
﴿ وَيَكُونَ ﴾، يعني ويقوم ﴿ ٱلدِّينُ للَّهِ ﴾، فيوحدوه ولا يعبدوا غيره.
﴿ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ ﴾ عن الشرك ووحدوا ربهم.
﴿ فَلاَ عُدْوَانَ ﴾، يعني فلا سبيل ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٩٣] الذين لا يوحدون ربهم، نظيرها فى القصص:﴿ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ ﴾[القصص: ٢٨]، يعنى فلا سبيل علىَّ.
﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين ساروا إلى مكة محرمين بعمرة، ومن كان معه عام الحديبية، لست سنين من هجرته إلى المدينة، فصدهم مشركو مكة، وأهدى أربعين بدنة، ويقال: مائة بدنة، فردوه وحبسوه شهرين لا يصل إلى البيت، وكانت بيعة الرضوان عامئذ، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن ينحر الهدي مكانه فى أرض الحرم ويرجع فى يدخل مكة، فإذا كان العام المقبل خرجت قريش من مكة، وأخلوا له مكة ثلاثة أيام، ليس مع المسلمين سلاح إلا فى غمده، فرجع النبى صلى الله عليه وسلم، ثم توجه من فوره ذلك إلى خيبر، فافتتحها فى المحرم، ثم رجع إلى المدينة، فلما كان العام المقبل، وأحرم النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعمرة فى ذى القعدة وأهدوا. ثم أقبلوا من المدينة فأخلى لهم المشركون مكة ثلاثة أيام، وأدخلهم الله عز وجل مكة، فقضوا عمرتهم ونحروا البدن، فأنزل الله عز وجل: ﴿ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ ﴾ الذى دخلتم فيه مكة هذا العام ﴿ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يعنى الذى صدوكم فيه العام الأول.
﴿ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾، يعنى اقتصصت لك منهم فى الشهر الحرام، يعنى فى ذى القعدة كما صدوكم فى الشهر الحرام، وذلك أنهم فرحوا وافتخروا حين صدوا النبى صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام، فأدخله الله عز وجل من قابل، ثم قال سبحانه: ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾، وذلك أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أهلوا إلى مكة محرمين بعمرة، فخافوا ألا يفي لهم المشركون بدخول المسجد الحرام، وأن يقاتلوهم عنده، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ فقاتلكم فى الحرم.
﴿ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ ﴾، يقول: فقاتلوهم فيه.
﴿ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ فيه.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعنى المؤمنين، ولا تبدءوهم بالقتال فى الحرم، فإن بدأ المشركون فقاتلوهم.
﴿ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ ﴾ فى النصر ﴿ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ١٩٤]، الشرك، فخبرهم أنه ناصرهم.
قوله سبحانه: ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين ساروا من المدينة إلى مكة محرمين بعمرة فى العام الذى أدخله الله عز وجل مكة، فقال ناس من العرب منازلهم حول المدينة: والله ما لنا زاد، وما يطعمنا أحد، فأمر الله عز وجل بالصدقة عليهم، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ﴾، أى ولا تكفوا أيديكم عن الصدقة فتهلكوا. وقال رجل من الفقراء: يا رسول الله، ما نجد ما نأكل فبأى شىء نتصدق، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ﴾، فإن أمسكتم عنها فهي التهلكة.
﴿ وَأَحْسِنُوۤاْ ﴾ النفقة فى سبيل الله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٩٥]، يعنى من أحسن فى أمر النفقة فى طاعة الله.
﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾ من المواقيت، ولا تستحلوا فيهما ما لا ينبغى لكم، فريضتان واجبتان، ويقال: العمرة هى الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصاً لا يخالطه شىء من أمر الدنيا، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يشركون فى إحرامهم، فأمر الله عز وجل النبى صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتوهما لله، فقال: ﴿ وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ ﴾، وهو ألا يخالطوهما بشىء، ثم خوفهم أن يستحلوا منهما ما لا ينبغى، فقال سبحانه فى آخر الآية: ﴿ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾، يقول: فإن حبستم كقوله سبحانه:﴿ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ٢٧٣]، يعنى حبسوا، نظيرها أيضاً:﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾[الإسراء: ٨]، يعنى محبساً. يقول: إن حبسكم فى إحرامكم بحج أو بعمرة كسر أو مرض أو عدو عن المسجد الحرام.
﴿ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ ﴾، يعنى فليقم محرماً مكانه ويبعث ما استيسر من الهدي أو بثمن الهدي، فيشتري له الهدي، فإذا نحر الهدي عنه، فإنه يحل من إحرامه مكانه، ثم قال: ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ فى الإحرام.
﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾، يعنى حتى يدخل الهدي مكة، فإذا نحر الهدي حل من إحرامه.
﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾، وذلك" أن كعب بن عجرة الأنصارى كان محرماً بعمرة عام الحديبية، فرأى النبى صلى الله عليه وسلم على مقدم رأسه قملاً كثيراً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: يا كعب، أيؤذيك هوام رأسك؟، قال: نعم يا نبى الله، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق "، فأنزل الله عز وجل فى كعب: ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً ﴾ ﴿ أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ ﴾، فحلق رأسه.
﴿ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ ﴾، فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعاً، وإن شاء متقطعاً.
﴿ أَوْ صَدَقَةٍ ﴾ على سنة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة.
﴿ أَوْ نُسُكٍ ﴾، يعنى شاة أو بقرة أو بعيراً ينحره، ثم يطعمه المساكين بمكة، ولا يأكل منه، وهو بالخيار، إن شاء ذبح شاة أو بقرة أو بعيراً، فأما كعب، فذبح بقرة.﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ من الحبس من العدو عن البيت الحرام.
﴿ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ ﴾، يقول: وهو يريد الحج، فإن دخل مكة وهو محرم بعمرة فى غرة شوال، أو ذى القعدة، أو فى عشر من ذى الحجة.
﴿ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ ﴾، يعنى شاة فما فوقها يذبحها فيأكل منها ويطعم، فقال أبو هريرة، وسلمان، وأبو العرباض للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا لا نجد الهدي، فلنصم ثلاثة أيام، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ الهدي فليصم.
﴿ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ ﴾ فى عشر الأضحى فى أول يوم من العشر إلى يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة يوم الثالث، تم صومه، ثم قال: ﴿ وَسَبْعَةٍ ﴾، يعني ولتصوموا سبعة أيام ﴿ إِذَا رَجَعْتُمْ ﴾ من منى إلى أهليكم.
﴿ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ﴾، فمن شاء صام فى الطريق، ومن شاء صام فى أهله، إن شاء متتابعاً، وإن شاء متقطعاً، ثم قال: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ التمتع ﴿ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ١٩٦]، يعنى من لم يكن منزله فى أرض الحرم كله، فمن كان أهله فى أرض الحرم، فلا متعة عليه ولا صوم. ثم قال عز وجل: ﴿ ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾، يقول: من أحرم بالحج، فليحرم فى شوال، أو فى ذى القعدة، أو فى عشر ذى الحجة، فمن أحرم فى سوى هذه الأشهر، فقد أخطأ السنة، وليجعلها عمرة، ثم قال: ﴿ فَمَن فَرَضَ ﴾، يقول: فمن أحرم ﴿ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ ﴾ أى الحج.
﴿ فَلاَ رَفَثَ ﴾، يعنى فلا جماع، كقوله سبحانه:﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ ﴾يعنى الجماع﴿ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ﴾[البقرة: ١٨٧] ﴿ وَلاَ فُسُوقَ ﴾، يعنى ولا سباب.
﴿ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ ﴾، يعنى ولا مراء، كقوله سبحانه:﴿ مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾[غافر: ٤]، يعنى ما يمارى حتى يغضب وهو محرم، أو يغضب صاحبه وهو محرم، فمن فعل ذلك فليطعم مسكيناً، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر فى حجة الوداع، فقال:" من لم يكن معه هدي فليحل من إحرامه، وليجعلها عمرة "، فقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إنا أهللنا بالحج، فذلك جدالهم للنبى صلى الله عليه وسلم. ثم قال عز وجل: ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾، يعنى مما نهى من ترك الرفث والفسوق والجدال.
﴿ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ ﴾، فيجزيكم به، ثم قال عز وجل: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ ﴾، وذلك أن ناساً من أهل اليمن وغيرهم كانوا يحجون بغير زاد، وكانوا يصيبون من أهل الطريق ظلماً، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ من الطعام ما تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم، وخير الزاد التقوى، يقول الله تبارك اسمه: التقوى خير زاد من غيره، ولا تظلمون من تمرون عليه.
﴿ وَٱتَّقُونِ ﴾ ولا تعصون ﴿ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾ [آية: ١٩٧]، يعنى يا أهل اللب والعقل، فلما نزلت هذه الآية قال النبى صلى الله عليه وسلم:" تزودوا ما تكفون به وجوهكم عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى ".
﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يحجون منهم الحاج والتاجر، فلما أسلموا قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم: إن سوق عكاظ وسوق منى وذى المجاز فى الجاهلية كانت تقوم قبل الحج وبعد الحج، فهل يصلح لنا البيع والشراء فى أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، فى مواسم الحج، يعني التجارة، فرخص الله سبحانه فى التجارة.
﴿ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ ﴾ بعد غروب.
﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾ تلك الليلة ﴿ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ ﴾ فإذا أصبحتم، يعني بالمشعر حيث يبيت الناس بالمزدلفة، فاذكروا الله.
﴿ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ ﴾ لأمر دينه.
﴿ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ ﴾ من قبل أن يهديكم لدينه ﴿ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ ﴾ [آية: ١٩٨]، يعنى عن الهدي.
﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ ﴾، وذلك الحمس، قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، كانوا يبيتون بالمشعر الحرام، ولا يخرجون من الحرم خشية أن يقتلوه، وكانوا لا يقفون بعرفات، فأنزل الله عز وجل فيهم يأمرهم بالوقوف بعرفات، فقال لهم: ﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ ﴾، يعني ربيعة، واليمن كانوا يفيضون من عرفات قبل غروب الشمس، ويفيضون من جمع إذا طلعت الشمس، فخالف النبى صلى الله عليه وسلم فى الإفاضة.
﴿ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ﴾ لذنوبكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنوب المؤمنين ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ١٩٩] بهم.﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ بعد أيام التشريق.
﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ ﴾، وذلك أنهم كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا بين مسجد منى وبين الجبل يذكر كل واحد منهم أباه ومحاسنه، ويذكر صنائعه فى الجاهلية أنه كان من أمره كذا وكذا، ويدعو له بالخير، فقال الله عز وجل: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾، كذكر الأبناء الآباء، فإنى أنا فعلت ذلك الخير إلى آبائكم الذين تثنون عليهم، ثم قال سبحانه: ﴿ أَوْ أَشَدَّ ﴾، يعنى أكثر ﴿ ذِكْراً ﴾ لله منكم لآبائكم، وكانوا إذا قضوا مناسكهم قالوا: اللهم أكثر أموالنا، وأبناءنا، ومواشينا، وأطل بقاءنا، وأنزل علينا الغيث، وأنبت لنا المرعى، وأصحبنا فى سفرنا، وأعطنا الظفر على عدونا، ولا يسألون ربهم عن أمر آخرتهم شيئاً، فأنزل الله تعالى فيهم: ﴿ فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا ﴾، يعنى أعطنا ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾، يعنى هذا الذى ذكر، فقال سبحانه: ﴿ وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ [آية: ٢٠٠]، يعنى من نصيب، نظيرها فى براءة:﴿ فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ﴾[التوبة: ٦٩]، يعنى بنصيبهم، فهؤلاء مشركو العرب. فلما أسلموا وحجوا دعوا ربه، فقال سبحانه ﴿ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾ [آية: ٢٠١]، أى دعوا ربهم أن يؤتيهم ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾، يعنى الرزق الواسع، وأن يؤتيهم ﴿ وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ فيجعل ثوابهم الجنة، وأن يقيهم ﴿ عَذَابَ ٱلنَّارِ ﴾.
ثم أخبر عنهم، فقال: ﴿ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، يقول: حظ من أعمالهم الحسنة.
﴿ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ [آية: ٢٠٢]، يقول: كأنه قد كان، فهؤلاء المؤمنون.
﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إذا رميتم الجمار، يعنى أيام التشريق، والأيام المعلومات يعنى يوم النحر ويومين من أيام التشريق بعد النحر، فكان عمر، رضى الله عنه، يكبر فى قبته بمنى، فيرفع صوته، فيسمع أهل مسجد منى فيكبرون كلهم حتى يرتج منى تكبيراً ﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾، يعنى بعد يوم النحر بيومين، يقول: من تعجل فنفر قبل غروب الشمس.
﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، يقول: فلا ذنب عليه، يقول: ذنوبه مغفورة، فمن لم ينفر حتى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث، فيرمي الجمار، ثم ينفر مع الناس، قال: ﴿ وَمَن تَأَخَّرَ ﴾ إلى يوم الثالث حتى ينفر الناس.
﴿ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، يقول: لا ذنب عليه، يقول: ذنوبه مغفورة، ثم قال: ﴿ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ ﴾ قتل الصيد.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، ولا تستحلوا قتل الصيد فى الإحرام.
﴿ وَٱعْلَمُوآ ﴾ يخوفهم ﴿ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ٢٠٣] فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، نظيرها فى المائدة:﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾[المائدة: ٩٦] فيجزيكم بأعمالكم.﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾، نزلت فى الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن أبى سلمة الثقفى، وأمه اسمها ريطة بنت عبدالله بن أبى قيس القرشى، من بنى عامر بن لؤى، وكان عديد بنى زهرة، وكان يأتى النبى صلى الله عليه وسلم فيخبره أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك، ويخبره أنه يتابعه على دينه، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يعجبه ذلك ويدنيه فى المجلس، وفى قلبه غير ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ ﴿ وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ ﴾ ما يقول، يعني يمينه التى حلف بالله، و ﴿ مَا فِي قَلْبِهِ ﴾ أن الذى يقول حق ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ ﴾ [آية: ٢٠٤]، يقول: جدلاً بالباطل، كقوله سبحانه:﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾[مريم: ٩٧]، يعنى جدلاء خصماء. ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّىٰ ﴾، يعنى إذا توارى وكان رجلاً مانعاً جريئاً على القتل.
﴿ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ بالمعاصى؛ ﴿ لِيُفْسِدَ فِيِهَا ﴾، يعني فى الأرض.
﴿ وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ ﴾، يعني كل دابة، وذلك أنه عمد إلى كديس بالطائف إلى رجل مسلم، فأحرقه وعقر دابته.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ ﴾ [آية: ٢٠٥].
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ ﴾، يعنى الحمية، نظيرها فى ص [آية: ٢] قوله سبحانه:﴿ بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾يعني حمية بالإثم.
﴿ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ﴾ شدة عذاب.
﴿ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ ﴾ [آية: ٢٠٦]، وكان الأخنس يسمى أبى بن شريق، من بني زهرة بن كعب بن لؤى بن غالب، وإنما سمى الأخنس؛ لأنه يوم بدر رد ثلاثمائة رجل من بنى زهرة عن قتال النبى صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: إن محمداً ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإن كان نبياً لم نقتله، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عنه، فخنس بهم، فمن ثم سمي الأخنس.
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ﴾، وذلك أن كفار مكة أخذوا عماراً، وبلالاً، وخباباً، وصهيباً، فعذبوهم لإسلامهم حتى يشتموا النبى صلى الله عليه وسلم فأما صهيب بن سنان مولى عبدالله ابن جدعان القرشى، وكان شخصاً ضعيفاً، فقال لأهل مكة: لا تعذبونى، هل لكم إلى خير؟ قالوا: وما هو؟ قال: أنا شيخ كبير، لا يضركم إن كنت معكم أو مع غيركم، لئن كنت معكم لا أنفعكم، ولئن كنت مع غيركم لا أضركم، وإن لي عليكم لحقاً لخدمتى وجواري إياكم، فقد علمت أنكم إنما تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي واتركوني وديني غير راحلة، فإن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني، فقال بعضهم لبعض: صدق، خذوا ماله فتعاونوا به على عدوكم، ففعلوا ذلك، فاشترى نفسه بماله كله غير راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة، ولا هجرة. فأقام بين أظهرهم ما شاء، ثم ركب راحلته نهاراً حتى أتى المدنية مهاجراً، فلقيه أبو بكر، رضى الله عنه، فقال: ربح البيع يا صهيب، فقال: وبيعك لا يخسر، فقال أبو بكر، رضى الله عنه: قد أنزل الله فيك: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾ [آية: ٢٠٧]، يعني للفعل فعل الرومي صهيب بن سنان مولى عبدالله بن جدعان بن عمرو بن سعيد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب القرشى. قال عبدالله بن ثابت: سمعت أبي يقول: سمعت هذا الكتاب من أوله إلى آخره من الهذيل أبى صالح، عن مقاتل بن سليمان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة، قال: وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عليه فى المدينة فى سنة أربع ومائتين، وهو ابن خمس وثمانين سنة، رحمنا الله وإياهم.﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً ﴾، وذلك أن عبدالله بن سلام، وسلام بن قيس، وأسيد وأسد ابنا كعب، ويامين بن يامين، وهم مؤمنوا أهل التوراة، استأذنوا النبى صلى الله عليه وسلم فى قراءة التوراة فى الصلاة، وفى أمر السبت، وأن يعملوا ببعض ما فى التوراة، فقال الله عز وجل: خذوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم وشرائعه، فإن قرآن محمد ينسخ كل كتاب كان قبله، فقال: ﴿ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً ﴾، يعني فى شرائع الإسلام كلها.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾، يعنى تزيين الشيطان، فإن السُنة الأولى بعدما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ضلالة من خطوات الشيطان.
﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٢٠٨]، يعنى بين.﴿ فَإِن زَلَلْتُمْ ﴾، يعنى ضللتم عن الهدى وفعلتم هذا ﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعنى شرائع محمد صلى الله عليه وسلم وأمره، ثم حذرهم عقوبته، فقال: ﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ فى نقمته.
﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٠٩] حكم عليهم العذاب.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ ﴾، يعنى ما ينظرون.
﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ ﴾، يعنى كهيئة الضبابة أبيض.
﴿ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾ فى غير ظلل فى سبعين حجاباً، من نور عرشه والملائكة يسبحون، فذلك قوله:﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً ﴾[الفرقان: ٢٥]، يعنى وليس بسحاب، ثم قال سبحانه: ﴿ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ ﴾، يعنى وقع العذاب.
﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ٢١٠]، يقول: يصير أمر الخلائق إليه فى الآخرة.
﴿ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾، يعنى يهود المدينة.
﴿ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾، يعنى كم أعطيناهم من آية بينة، يعنى حين فرق بهم البحر، وأهلك عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى والغمام والحجر، فكفروا برب هذه النعم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ ﴾، فخوفهم عقوبته بقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٢١١] إذا عاقب.
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا ﴾، وما بسط لهم فيها من الخير، نزلت فى المنافقين عبدالله بن أبى وأصحابه.
﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ فى أمر المعيشة بأنهم فقراء، نزلت فى عبدالله بن ياسر المخزومي، وصهيب بن سنان، من بنى تميم بن مرة، وبلال بن رباح مولى أبى بكر، رضى الله عنه، وخباب بن الأرت مولى ابن أم بهار الثقفي حليف بنى زهرة، وسالم مولى أبى حذيفة، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، وعبدالله بن مسعود، وأبي هريرة الدوسى، وفى نحوهم من الفقراء، يقول الله عز وجل: ﴿ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ ﴾ الشرك، يعنى هؤلاء النفر.
﴿ فَوْقَهُمْ ﴾، يعنى فوق المنافقين والكافرين ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آية: ٢١٢]، حين يبسط للكافرين الرزق، ويقدر على المؤمنين يقول: ليس فوقي ملك يحاسبنى، أنا الملك أعطى من شئت بغير حساب حين أبسط للكافرين فى الرزق وأقتر على المؤمنين.
﴿ كَانَ ٱلنَّاسُ ﴾، يعني أهل السفينة.
﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾، يعني على ملة الإسلام وحدها، وذلك أن عبدالله بن سلام خاصم اليهود فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ ﴾ إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ولوط بن حران بن آزر، فبعثهم الله ﴿ مُبَشِّرِينَ ﴾ بالجنة.
﴿ وَمُنذِرِينَ ﴾ من النار.
﴿ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ ﴾، يعنى صحف إبراهيم؛ ﴿ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾؛ ليقضى الكتاب.
﴿ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ من الدين، فدعا بها إبراهيم وإسحاق قومهما، ودعا بها إسماعيل جرهم، فآمنوا به، ودعا بها يعقوب أهل مصر، ودعا بها لوط سدوم وعامورا وصابورا ودمامورا، فلم يسلم منهم غير ابنتيه ريتا وزعوتا، يقول الله عز وجل: ﴿ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ ﴾، يعنى أعطوا الكتاب.
﴿ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعني البيان.
﴿ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾، يقول: تفرقوا بغياً وحسداً بينهم.
﴿ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾، يقول: حين اختلفوا فى القرآن.
﴿ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾، يعنى التوحيد.
﴿ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ٢١٣]، يعنى دين الإسلام؛ لأن غير الإسلام باطل.
ثم بين للمؤمنين أن لا بد لهم من البلاء والمشقة فى ذات الله، فقال سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ ﴾، نظيرها فى آل عمران قوله سبحانه:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ﴾[آل عمران: ١٤٢]، وفى العنكبوت:﴿ الۤـمۤ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ﴾[العنكبوت: ١، ٢]، وذلك أن المنافقين قالوا للمؤمنين فى قتال أُحُد، لم تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم، فإنه لو كان محمد بيننا لم يسلط عليكم القتل، فرد المؤمنون عليهم، فقالوا: قال الله: من قتل منا دخل الجنة، فقال المنافقون: لم تمنون أنفسكم بالباطل؟ فأنزل الله عز وجل يوم أحُد: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ ﴾، نزلت فى عثمان بن عفان وأصحابه، رحمهم الله. يقول الله عز وجل: ﴿ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ﴾، يعنى سنة.
﴿ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ﴾ من البلاء، يعنى مؤمنى الأمم الخالية، ثم أخبر عنهم ليعظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه: ﴿ مَّسَّتْهُمُ ﴾، يعنى أصابتهم ﴿ ٱلْبَأْسَآءُ ﴾، يعني الشدة، وهى البلاء.
﴿ وَٱلضَّرَّآءُ ﴾، يعنى البلاء.
﴿ وَزُلْزِلُواْ ﴾، يعنى وخوفوا ﴿ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ ﴾ وهو اليسع ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، وهو حزقيا الملك حين حضر القتال ومن معه من المؤمنين.
﴿ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ﴾، فقال الله عز وجل: ﴿ أَلاۤ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [آية: ٢١٤]، يعنى سريع، وإن ميشا بن حزقيا قتل اليسع، واسمه اشعيا.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ من أموالهم، وذلك أن الله أمر بالصدقة، فقال عمرو بن الجموح الأنصارى من بني سلمة بن جشم بن الخزرج، قُتل يوم أحُد، رضى الله عنه، قال: يا رسول الله، كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فأنزل الله عز وجل فى قول عمرو: كم ننفق؟ وعلى من ننفق؟: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾ من الصدقة.
﴿ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ ﴾ من مال، كقوله سبحانه:﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾[البقرة: ١٨٠]، يعنى مالاً.
﴿ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾، فهؤلاء موضع نفقة أموالكم.
﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ من أموالكم.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢١٥]، يعنى بما أنفقتم عليم. وأنزل فى قول عمرو: يا رسول الله، كم ننفق من أموالنا؟ وعلى من ننفق؟ قول الله عز وجل:﴿ قُلِ ٱلْعَفْوَ ﴾يعنى فضل قوتك، فإن كان الرجل من أصحاب الذهب والفضة أمسك الثلث وتصدق بسائره، وإن كان من أصحاب الزرع والنحل أمسك ما يكفيه فى سنته وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه يومه ذلك وتصدق بسائره، فبين الله عز وجل ما ينفقون فى هذه الآية، فقال:﴿ قُلِ ٱلْعَفْوَ ﴾يعنى فضل القوت،﴿ كَذٰلِكَ ﴾يعظكم هذا﴿ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ ﴾يعني أمر الصدقات،﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾[البقرة: ٢١٩]، يقول لكي تتفكروا في أمر الدنيا، فتقولون: هى دار بلاء، وهى دار فناء، ثم تتفكروا فى الآخرة فتعرفون فضلها، فتقولون: هى دار خير، ودار بقاء، فتعملون لها فى أيام حياتكم، فهذا التفكر فيهما، فشق على الناس حين أمرهم أن يتصدقوا بالفضل، حين نزلت آية الصدقات فى براءة، فكان لهم الفضل وإن كثر إذا أدوا الزكاة.
قوله سبحانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ ﴾، يعنى فرض عليكم، كقوله: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾، يعني فرض.
﴿ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ﴾، يعني مشقة لكم.
﴿ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، فيجعل الله عاقبته فتحاً وغنيمة وشهادة.
﴿ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً ﴾، يعني القعود عن الجهاد.
﴿ وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾، فيجعل الله عاقبته شر، فلا تصيبون ظفراً ولا غنيمة.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢١٦]، أى والله يعلم من ذلك ما لا تعلمون.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم بعث عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب على سرية فى جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، على رأس ستة عشر شهراً، بعد قدوم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضت عيناه، ووجد من فراق النبى صلى الله عليه وسلم بعد أن عقد له اللواء، فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم وجده، بعث مكانه عبدالله ابن جحش الأسدى من بنى غنم بن دودان، وأمه عمة النبى صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبدالمطلب، وهو حليف لبنى عبد شمس، وكتب له كتاباً، وأمره أن يتوجه قبل مكة، ولا يقرأ الكتاب حتى يسير ليلتين، فلما سار عبدالله ليلتين، قرأ الكتاب، فإذا فيه: سر باسم الله إلى بطن نخلة، على اسم الله وبركته، ولا تكرهن أحد من أصحابك على السير، وامض لأمرى ومن اتبعك منهم، فترصد بها عبر قريش، فلما قرأ الكتاب استرجع عبدالله، واتبع استرجاعه بسمع وطاعة الله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. ثم قال عبدالله لأصحابه: من أحب منكم أن يسير معى فليسر، ومن أحب أن يرجع فليرجع، وهم ثمانية رهط من المهاجرين: عبدالله بن جحش الأسدى، وسعد بن أبى وقاص الزهرى، وعتبة بن غزوان المزني حليف لقريش، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وسهل بن بيضاء القرشى، ويقال: سهل من بنى الحارث بن فهد، وعامر بن ربيعة القرشى من بني عدي بن كعب، وواقد بن عبدالله التميمى، فرجع من القوم سعد ابن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان، وسار عبدالله ومعه خمسة نفر وهو سادسهم، فلما قدموا لبطن نخلة بين مكة والطائف، حملوا على أهل العير، فقتلوا عمر بن الحضرمى القرشى، قتله واقد بن عبد الله التميمى، رماه بسهم، فكان أول قتيل فى الإسلام من المشركين، وأسروا عثمان بن عبدالله بن المغيرة، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومى، فغديا بعد ذلك فى المدنية، وأفلتهم نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومى على فرس له جواد أنثى، فقدم مكة من الغد، وأخبر الخبر مشركي مكة، وكرهوا الطلب؛ لأنه أول يوم من رجب، وسار المسلمون بالأسارى والغنمية حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا نبى الله، أصبنا القوم نهاراً، فلما أمسينا رأينا هلال رجب، فما ندرى أصبناهم فى رجب أو فى آخر يوم من جمادى الآخرة. وأقبل مشركو مكة على مسلميهم فقالوا: يا معشر الصباة، ألا ترون أن إخوانكم استحلوا القتال فى الشهر الحرام، وأخذوا أسارانا وأموالنا، وأنتم تزعمون أنكم على دين الله، أفوجدتم هذا فى دين الله حيث أمن الخائف، وربطت الخيل، ووضعت الأسنة، وبدأ الناس لمعاشهم، فقال المسلمون: الله ورسوله أعلم، وكتب مسلمو مكة إلى عبدالله بن جحش أن المشركين عابونا فى القتال، وأخذ الأسرى والأموال فى الشهر الحرام، فاسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألنا فى ذلك متكلم، أو أنزل الله بذلك قرآناً، فدفع عبدالله بن جحش الأسدى الكتاب إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ ﴾ ﴿ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾، ولم يرخص فيه القتال. ثم قال: ﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى دين الإسلام.
﴿ وَكُفْرٌ بِهِ ﴾، أى وكفر بالله.
﴿ وَ ﴾ صد عن ﴿ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ ﴾ من عند المسجد الحرام، فذلك صدهم، وذلك أنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة.
﴿ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾، فهذا أكبر عند الله من القتل والأسر وأخذ الأموال، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱلْفِتْنَةُ ﴾، يعنى الإشراك الذى أنتم فيه ﴿ أَكْبَرُ ﴾ عند الله ﴿ مِنَ ٱلْقَتْلِ ﴾، ثم أخبر عز وجل عن رأى مشركي العرب فى المسلمين، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾، يعنى مشركى مكة ﴿ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ ﴾ يا معشر المؤمنين ﴿ عَن دِينِكُمْ ﴾ الإسلام.
﴿ إِن اسْتَطَاعُواْ ﴾، ثم خوفهم، فقال: ﴿ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ ﴾ الإسلام، يقول: ومن ينقلب كافراً بعد إيمانه.
﴿ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلۤـٰئِكَ حَبِطَتْ ﴾، يعنى بطلبت ﴿ أَعْمَالُهُمْ ﴾ الخبيثة، فلا ثواب لهم ﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَ ﴾ لا فى ﴿ وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلۤـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٢١٧]، يعنى لا يموتون.
فكتب عبدالله بن جحش إلى مسلمي أهل مكة بهذه الآية، وكتب إليهم إن عيروكم، فعيروهم بما صنعوا، وقال عبدالله بن جحش وأصحابه: أصبنا القوم فى رجب، فنرجو أن يكون لنا أجر المجاهدين فى سبيل الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢١٨].
﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ ﴾، إلى المدينة.
﴿ وَجَاهَدُواْ ﴾ المشركين ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أُوْلۤـٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى جنة الله، نظيرها فى آل عمران قوله سبحانه:﴿ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ ٱللَّهِ ﴾[آل عمران: ١٠٧]، يعني ففي جنة الله؛ لقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لنا أجر المجاهدين فى سبيل الله.﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ لاستحلالهم القتل والأسر والأموال فى الشهر الحرام، فكانت هذه أول سرية، وأول غنيمة، وأول حمس، وأول قتيل، وأول أسر كان فى الإسلام، فأما نوفل بن عبدالله الذى أفلت يومئذ، فإنه يوم الخندق ضرب بطن فرسه ليدخل الخندق على المسلمين فى غزوة الأحزاب، فوقع فى الخندق، فتحطم هو وفرسه، فقتله الله تعالى، وطلب المشركون جيفته بثمن، فقال صلى الله عليه وسلم:" خذوه، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية ".
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾، يعنى القمار، نزلت فى عبدالرحمن بن عوف، وعمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، ونفر من الأنصار، رضى الله عنهم، وذلك أن الرجل كان يقول فى الجاهلية: أين أصحاب الجزور، فيقوم نفر، فيشترون الجزور، فيجعلون لكل رجل منهم سهم، ثم يقرعون، فمن خرج سهمه يبرأ من الثمن، حتى يبقى آخرهم رجلاً، فيكون ثم الجزور كله عليه وحده، ولا حق له فى الجزور، ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم، فذلك الميسر، قال سبحانه: ﴿ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ﴾، فى ركوبهما؛ لأن فيهما ترك الصلاة، وترك ذكر الله عز وجل، وركوب المحارم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى بالمنافع اللذة والتجارة فى ركوبهما قبل التحريم، فلما حرمهما الله عز وجل، قال: ﴿ وَإِثْمُهُمَآ ﴾ بعد التحريم.
﴿ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾، قبل التحريم، وأنزل الله عز وجل تحريمهما بعد هذه الآية بسنة، والمنفعة فى الميسر أن بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر، يعنى المقامر، وإنما سمي الميسر؛ لأنهم قالوا: يسروا لنا ثمن الجزور، يقول الرجل: افعل كذا وكذا.﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٢١٩].
﴿ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾، وذلك أن الله عز وجل أنزل فى أموال اليتامى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ﴾[النساء: ١٠]، فلما نزلت هذه الآية، أشفق المسلمون من خلطة اليتامى، فعزلوا بيت اليتيم وطعامه وخدامه على حدة مخافة العذر، فشق ذلك على المسلمين، وعلى اليتامى اعتزالهم، فقال ثابت بن رفاعة للنبى صلى الله عليه وسلم: قد سمعنا ما أنزل الله عز وجل فى اليتامى فعزلناهم، والذى لهم، وعزلنا الذى لنا، فشق ذلك علينا وعليهم، وليس كلنا يجد سعة فى عزل اليتيم وطعامه وخادمه، فهل يصلح لنا خلطتهم، فيكون البيت والطعام واحد والخدمة وركوب الدابة، ولا نرزأهم شيئاً، إلا أن نعود عليهم بأفضل منه، فأنزل الله عز وجل فى قول ثابت بن رفاعة الأنصارى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ ﴾ ﴿ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ﴾، يقول: ما كان لليتيم فيه صلاح، فهو خير أن تفعلوه. ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾ فى المسكن والطعام والخدمة وركوب الدابة.
﴿ فَإِخْوَانُكُمْ ﴾، فهم إخوانكم.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ ﴾ لمال اليتيم.
﴿ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ ﴾ لماله.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ ﴾، يقول: لآثمكم فى دينكم، نظيرها فى براءة قوله سبحانه:﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾[التوبة: ١٢٨]، يقول ما أثمتم، فحرم عليكم خلطتهم فى الذى لهم، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، فلم تنتفعوا بشىء منه.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ﴾ فى ملكه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٠]، يعنى ما حكم فى أموال اليتامى.
﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ ﴾، نزلت فى أبى مرثد الغنوي، واسمه أيمن، وفي عناق القرشية، وذلك أن أبا مرثد كان رجلاً صالحاً، وكان المشركون أسروا أناساً بمكة، وكان أبو مرثد ينطلق إلى مكة مستخفياً، فإذا كان الليل أخذ الطريق، وإذا كان النهار تعسف الجبال؛ لئلا يراه أحد، حتى يقدم مكة، فيرصد المسلمين ليلاً، فإذا أخرجهم المشركون للبراز، تركوهم عند البراز والغائط، فينطلق أبو مرثد، فيجعل الرجل منهم على عنقه حتى إذا أخرجه من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة، كان ذلك دأبه، فانطلق يوماً حتى انتهى إلى مكة، فلقيته عناق، وكان يصيب منها فى الجاهلية، فقالت: أبا مرثد، ما لك في حاجة، فقال: إن الله عز وجل قد حرم الزنا. فلما أيست منه أنذرت به كفار مكة، فخرجوا يطلبونه، فاستتر منهم بالشجر، فلم يقدروا عليه، فلما رجعوا احتمل بعض المسلمين حتى أخرجه من مكة، فكسر قيده، ورجع إلى المدينة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالخبر، فقال: والذى بعثك بالحق، لو شئت أن آخذهم وأنا مستتر بالشجرة لفعلت، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: اشكر ربك أبا مرثد، إن الله عز وجل حجزهم عنك، فقال أبو مرثد: يا رسول الله، إن عناق أحبها، وكان بينى وبينها في الجاهلية، أفتأذن لي في تزويجها، فإنها لتعجبنى، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ ﴾ ﴿ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ﴾، يصدقن بتوحيد الله.
﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ ﴾، يعني مصدقة بتوحيد الله.
﴿ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾؛ لقوله: إنها لتعجبني.
﴿ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٢٢١].
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ﴾، يعني قذر، نزلت فى عمرو بن الدحداح الأنصاري، من قضاعة، فلما نزلت هذه الآية لم يؤاكلهن فى إناء واحد، وأخرجوهن من البيوت والفرش كفعل العجم،" فقال ناس من العرب للنبي صلى الله عليه وسلم: قد شق علينا اعتزال الحائض، والبرد شديد، فإن آثرناهم بالثياب هلك سائر البيت، وإن آثرنا أهل البيت هلكت النساء برداً، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " إنكم لم تؤمروا أن تعزلوهن من البيوت، إنما أمرتم باعتزال الفرج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن "، وقرأ عليهم: ﴿ فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ﴾ "، يعنى يغتسلن.
﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾، يعنى اغتسلن من المحيض.
﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللَّهُ ﴾، أى يؤتين غير حيض فى فروجهن التى نهى عنها فى الحيض.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّابِينَ ﴾ من الذنوب.
﴿ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [آية: ٢٢٢] من الأحداث والجنابة والحيض.
﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، وذلك أن حيى بن أخطب ونفراً من اليهود قالوا للمسلمين: إنه لا يحل لكم جماع النساء إلا مستلقيات، وإنا نجد فى كتاب الله عزوجل أن جماع المرأة غير مستلقية ذنباً عند الله عز وجل، فقال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا فى الجاهلية وفى الإسلام نأتى النساء على كل حال، فزعمت اليهود أنه ذنب عند الله عز وجل إلا مستلقيات، فأنزل الله عز وجل: ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ ﴾، يعنى مزرعة للولد.
﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ﴾ فى الفروج.
﴿ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾ من الولد.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ يعظكم، فلا تقربوهن حيضاً، ثم حذرهم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ ﴾، فيجزيكم بأعمالكم.
﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٢٢٣]، يعنى المصدقين بأمر الله ونهيه بالجنة.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾، نزلت فى أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، وفى ابنه عبد الرحمن، حلف أبو بكر، رضى الله عنه، ألا يصله حتى يسلم، وذلك أن الرجل كان إذا حلف، قال: لا يحل إلا إبرار القسم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ ﴾، يقول: لا يحلف على ما هو فى معصية ألا يصل قرابته، وذلك أن الرجل يحلف أن لا يدخل على جاره، ولا يكلمه، ولا يصلح بين إخوانه، والرجل يريد الصلح بين الرجلين، فيغضبه أحدهما أو يتهمه، فيحلف المصلح أن لا يتكلم بينهما، قال الله عز وجل: لا تحلفوا ألا تصلوا القرابة: ﴿ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ ﴾ الله ﴿ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ﴾، فهو خير لكم من وفاء باليمين فى معصية الله.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لليمين؛ لقولهم: حلفنا عليها.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٤]، يقول: عالم بها، كان هذا قبل أن تنزل الكفارة فى المائدة.﴿ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ ﴾، وهو الرجل يحلف على أمر يرى أنه فيه صادق وهو مخطئ، فلا يؤاخذه الله بها، ولا كفارة عليه فيها، فذلك العفو، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾، يعنى بما عقدت قلوبكم من المأثم، يعنى اليمين الكاذبة التى حلف عليها، وهو يعلم أنه فيها كاذب فهذه فيها كفارة.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾، يعنى ذا تجاوز عن اليمين التى حلف عليها.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٥]، حين لا يوجب فيها الكفارة.
ثم نزلت الكفارة فى سورة المائدة، فبين فيها ﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ ﴾، يعنى يقسمون ﴿ مِن نِّسَآئِهِمْ ﴾، فهو الرجل يحلف أن لا يقرب امرأته.
﴿ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا ﴾، يعنى فإن رجع فى يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر، فهي امرأته، وعليه أن يكفر عن يمينه.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لهذه اليمين.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٦] به، إذ جعل الله عز وجل الكفارة فيها؛ لأنه لم يكن أنزل الكفارة فى المائدة، ثم نزلت بعد ذلك الكفارة في المائدة.﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ ﴾، يعنى فإن حققوا ﴿ ٱلطَّلاَقَ ﴾، يعنى أنفذوا فى السراح، فلم يجامعها أربعة أ شهر بانت منه بتطليقة.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ ليمينه.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٧]، يعنى عالم بها.
﴿ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ ﴾، يعنى ثلاث حيض إذا كانت ممن تحيض.
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ ﴾ من الولد.
﴿ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ ﴾، يعني يصدقن بالله بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يصدقن بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال بانه كائن، ثم قال عز وجل: ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، يقول: الزوج أحق برجعتها وهى حبلى، نزلت فى إسماعيل الغفاري وفي امرأته لم تشعر بحبلها، ثم قال سبحانه: ﴿ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً ﴾، يعنى بالمراجعة فيما بينهما، فعمد إسماعيل فراجعها وهى حبلى، فولدت منه، ثم ماتت ومات ولدها.
﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يقول: لهن من الحق على أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾، يقول: لأزواجهن عليهن فضيلة فى الحق وبما ساق إليها من الحق.
﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾ فى ملكه.
﴿ حَكُيمٌ ﴾ [آية: ٢٢٨]، يعنى حكم الرحمة عليها فى الحبل.
ثم نسختها الآية التى بعدها، فأنزل الله بعد ذلك بأيام يسيرة، فبين للرجل كيف يطلق المرأة، وكيف تعتد، فقال: ﴿ ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ ﴾، يعنى بإحسان.
﴿ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾، يعنى التطليقة الثالثة فى غير ضرار، كما أمر الله سبحانه فى وفاء المهر.
﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ﴾ إذا أردتم طلاقها ﴿ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾، وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته، أخرجها من بيته، فلا يعطيها شيئاً من المهر، ثم استثنى ورخص، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أمر الله عز وجل فيما أمرهما، وذلك أن تخاف المرأة الفتنة على نفسها، فتعصى الله فيما أمرها زوجها، أو يخاف الزوج أن لم تطعه امرأته أن يعتدى عليها، يقول سبحانه: ﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ ﴾، يعني علمتم.
﴿ أَلاَّ يُقِيمَا ﴾، يعنى الحاكم.
﴿ حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أمر الله فى أنفهسما إن نشزت عليه.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾، يعنى الزوج والزوجة.
﴿ فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ ﴾ من شىء، يقول: لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدي منه ويقبل منها الفدية ثم يفترقا، وكانت نزلت فى ثابت بن قيس بن شماس الأنصارى من بنى الحارث بن الخزرج، وفى امرأته أم حبيبة بنت عبدالله بن أبي رأس المنافقين، وكان أمهرها حديقة فردتها عليه، واختلعت منه، فهي أول خلعة كانت فى الإسلام، ثم قال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أمر الله فيهما.
﴿ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾، يقول: ومن يخالف أمر الله إلى غيره.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٢٢٩] لأنفسهم. ثم رجع إلى الآية الأولى فى قوله: ﴿ ٱلطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ ﴿ فَإِنْ طَلَّقَهَا ﴾ بعد التطليقتين تطليقة أخرى، سواء أكان بها حبل أم لا.
﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ فيجامعها، فنسخت هذه الآية الآية التى قبلها فى قوله عز وجل ﴿ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، ونزلت ﴿ فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ﴾ فى تميمة بنت وهب بن عتيك النقرى، وفى زوجها رفاعة بن عبد الرحمن بن الزبير، وتزوجها عبدالرحمن بن الزبير القرظى، يقول: ﴿ فَإِن طَلَّقَهَا ﴾ الزوج الأخير عبدالرحمن.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ ﴾، يعنى الزوج الأول رفاعة، ولا على المرأة تميمة.
﴿ أَن يَتَرَاجَعَآ ﴾ بمهر جديد ونكاح جديد.
﴿ إِن ظَنَّآ ﴾، يعنى إن حسبا.
﴿ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ﴾ أمر الله فيما أمرهما.
﴿ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أمر الله فى الطلاق، يعنى ما ذكر من أحكام الزوج والمرأة فى الطلاق وفي المراجعة.
﴿ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٣٠].
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾ واحدة.
﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، يعني انقضاء عدتهن من قبل أن تغتسل من قرئها الثالث.
﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾، يعنى بإحسان من غير ذرار، فيوفيها المهر والمتعة، نزلت فى ثابت بن ياسر الأنصارى فى الطعام والكسوة وغير ذلك، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً ﴾، وذلك أنه طلق امرأته، فلما أرادت أن تبين منه راجعها، فما زال يضارها بالطلاق ويراجعها، يريد بذكل أن يمنعها من الزواج لتفتدي منه، فذلك قوله سبحانه ﴿ لِّتَعْتَدُواْ ﴾، وكان ذلك عدواناً.
﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً ﴾، يعني استهزاء فيما أمر الله عز وجل فى كتابه من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا تتخذوها لعباً.
﴿ وَٱذْكُرُواْ ﴾، يعنى واحفظوا ﴿ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾ بالإسلام.
﴿ وَ ﴾ احفظوا ﴿ وَمَآ أَنزَلَ ﴾ الله ﴿ عَلَيْكُمْ مِّنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى القرآن ﴿ وَٱلْحِكْمَةِ ﴾ والموعظة التى فى القرآن من أمره ونهيه، يقول: ﴿ يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾، يعنى بالقرآن.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعظكم فلا تعصوه فيهن، ثم حذرهم، فقال: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمالكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٣١]، فيجزيكم بها.﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾ تطليقة واحدة.
﴿ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، يقول: انقضت عدتهن، نزلت فى أبى البداح بن عاصم بن عدى الأنصارى، من بنى العجلان الأنصارى، وهو حي من قضاعة، وفى امرأته جمل بنت يسار المزنى، بانت منه بتطليقة، فأراد مراجعتها، فمنعها أخوها، وقال: لئن فعلت لا أكلمك أبداً، أنكحتك وأكرمتك وآثرتك على قومي فطلقتها، وأجحفت بها، والله لا أزوجكها أبداً، فقال الله عز وجل، يعني معقل: ﴿ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ ﴾، يعني فلا تمنعوهن أن يراجعن أزواجهن.
﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني بمهر جديد ونكاح جديد.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذى ذكر من النهي ألا يمنعها من الزوج ذلك.
﴿ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾، يعني يصدق بالله بأنه واحد لا شريك له، ويصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره الله عز وجل من المراجعة.
﴿ ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ ﴾، يعنى خير لكم من الفرقة ﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ لقلوبكم من الريبة.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾ حب كل واحد منهما لصاحبه.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٣٢] ذلك منهما. فلما نزلت هذه الآية، قال صلى الله عليه وسلم:" يا معقل، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا تمنع أختك فلاناً، يعنى أبا البداح، قال: فإنى أنا أؤمن بالله واليوم الآخر، وأشهدك أنى قد أنكحته ".
﴿ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾، يعنى إذا طلقن.
﴿ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ﴾، يعنى يكمل الرضاعة، وليس الحولان بالفريضة، فمن شاء أرضع فوق الحولين، ومن شاء قصر عنهما، ثم قال: ﴿ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ ﴾ إذا طلق امرأته وله ولد رضيع ترضعه أمه، فعلى الأب رزق الأم والكسوة.
﴿ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، يعنى إلا ما أطاقت من النفقة والكسوة، ثم قال سبحانه: ﴿ لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾، يقول لا يجعل بالرجل إذا طلق امرأته أن يضارها، فينزع منها ولدها وهى لا تريد ذلك، فيقطعه عن أمه، فيضارها بذلك بعد أن ترضى بعطية الأب من النفقة والكسورة. ثم ذكر الأم، فقال: ﴿ وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ ﴾، يعنى لا يجمل بالمرأة أن تضار زوجها وتلقي إليه ولدها، ثم قال فى التقديم: ﴿ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ ﴾، يقول: وعلى من يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما على الأب من النفقة والكسوة لو كان حياً، فلا يضار الوارث الأم، وهى بمنزلة الأب إذا لم يكن لليتيم ماله.
﴿ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ ﴾، يقول: واتفقتا.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾، يعني لا حرج ما لم يضار أحدهما صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين، والأم أحق بولدها من المرضع إذا رضيت من النفقة والكسوة بما يرضى به غيرها، فإن لم ترض الأم بما يرضى به غيرها من النفقة.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ﴾، يقول عز وجل: فلا جناح على الوالد أن يسترضع لولده، ويسلم للظئر أجرها، ولا كسوة لها، ولا رزق، وإنما هو أجرها، قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم ﴾ لأمر الله فى المراضع.
﴿ مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يقول: ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه فيما حذركم الله فى هذه الآية من أمر المضارة والكسوة والنفقة للأم وأجر الظئر، ثم حذرهم، فقال: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٢٣٣].
﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ من يوم يموت زوجها.
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾، يعنى إذا مضى الأجل مما ذكر فى هذه الآية.
﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ فى قراءة ابن مسعود: " لا حرج عليهن ".
﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعنى لا حرج على المرأة إذا انقضت عدتها أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ٢٣٤] من أمر العدة.
﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ ﴾، يعنى لا حرج على الرجل أن يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدتها: إنك لتعجبيننى، وما أجاوزك إلى غيرك، فهذا التعريض.
﴿ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾، فلا جناح عليكم أن تسروا فى قلوبكم تزويجهن فى العدة.
﴿ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ﴾، يعني الجماع فى العدة، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ عدة حسنة، نظيرها فى النساء:﴿ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾[النساء: ٨]، يعنى عدة حسنة، فتقول: وهى فى العدة، إنه حبيب إلى أن أكرمك وأن آتى ما أحببت ولا أجاوزك إلى غيرك.
﴿ وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ ﴾، يعنى ولا تحققوا عقدة النكاح، يعنى لا تواعدوهن فى العدة.
﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴾، يعني حتى تنقضي عدتها، ثم خوفهم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ ﴾، يعني ما فى قلوبكم من أمورهن.
﴿ فَٱحْذَرُوهُ ﴾، أى فاحذروا أن ترتكبوا فى العدة ما لا يحل.
﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾، يعني ذا تجاوز لكم.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٣٥] لا يعجل بالعقوبة.
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ﴾، يقول: وإن لم تسموا لهن المهر، فلا حرج فى الطلاق فى هذه الأحوال كلها، وهو الرجل يطلق امرأته قبل أن يجامعها ولم يسم لها مهراً، فلا مهر لها، ولا عدة عليها، ولا المتعة بالمعروف ويجبر الزوج على متعة هذه المرأة التى طلقها قبل أن يسمى لها مهراً، وليس بمؤقت، نزلت فى" رجل من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة، ولم يسم لها مهراً، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " هل متعتها بشىء؟. قال: لا، قال النبى صلى الله عليه وسلم: متعها بقلنسوتك، أما إنها لا تساوى شيئاً، ولكن أحببت أن أحيى سنة "، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ ﴾ فى المال.
﴿ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾ فى المال.
﴿ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ وليس بمؤقت، وهو واجب.
﴿ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ٢٣٦].
ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم كساه ثوبين بعد ذلك، فتزوج امرأة فأمهرها أحد ثوبيه، ثم قال سبحانه: ﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾، يعني من قبل الجماع.
﴿ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ ﴾ من المهر ﴿ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾ عليكم من المهر، ثم استثنى، فقال: ﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ ﴾، يعنى إلا أن يتركن، يعنى المرأة تترك نصف مهرها، فتقول المرأة: أما إنه لم يدخل بي ولم ينظر لي إلى عورة، فتعفو عن نصف مهرها وتتركه لزوجها، وهى بالخيار، ثم قال: ﴿ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ ﴾، يعنى الزوج، فيوفيها المهر كله، فيقول: كانت فى حبالي ومنعتها من الأزواج، فيعطيها المهر كله، وهو بالخيار، ثم قال: ﴿ وَأَن تَعْفُوۤاْ ﴾، يعني ولأن تعفوا.
﴿ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾، يعني المرأة والزوج كلاهما أمرهما أن يأخذا بالفضل فى الترك، ثم قال عز وجل: ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ ﴾، يعنى المرأة والزوج، يقول: لا تتركوا ﴿ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ فى الخير حين أمرها أن تترك نصف المهر للزوج، وأمر الزوج أن يوفيها المهر كله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٢٣٧]، يعنى بصيراً أن ترك أو وفاها.
﴿ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ ﴾ الخمس فى مواقيتها.
﴿ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ ﴾، يعني صلاة العصر.
﴿ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [آية: ٢٣٨] فى صلاتكم، يعنى مطيعين، نظيرها:﴿ وَكَانَتْ مِنَ ٱلْقَانِتِينَ ﴾[التحريم: ١٢]، يعني من المطيعين، وكقوله سبحانه:﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً ﴾[النحل: ١٢٠]، يعني مطيعاً، وكقوله سبحانه:﴿ قَانِتَاتٌ ﴾[النساء: ٣٤]، يعنى مطيعات، وذلك أن أهل الأوثان يقومون فى صلاتهم عاصين، قال: الله: قوموا أنتم مطيعين.
﴿ فَإنْ خِفْتُمْ ﴾ العدو فصلوا.
﴿ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾، يقول: على أرجلكم أو على دوابكم، فصلوا ركعتين حيث كان وجهه إذا كان الخوف شديداً، فإن لم يستطع السجود، فليومئ برأسه إيماء، وليجعل السجود أخفض من الركوع، ولا يجعل جبهته على شىء، ثم قال سبحانه: ﴿ فَإِذَآ أَمِنتُمْ ﴾ العدو.
﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ﴾، يقول: فصلوا لله.
﴿ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٣٩].
﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ ﴾، يعني بالمتاع أن ينفق عليها فى الطعام والكسوة سنة ما لم تتزوج، قال: ﴿ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾، يقول: لا تخرج من بيت زوجها سنة وهى كارهة.
﴿ فَإِنْ خَرَجْنَ ﴾ إلى أهلهن طائعة قبل الحلول، فلا نفقة لها، فعدتها ثلاثة قروء، يقول: ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ فى قراءة ابن مسعود: " فلا جناح عليهن ".
﴿ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ ﴾، يعني بالمعروف، يعني أن تتشوف وتتزين وتلتمس الأزواج.
﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٤٠]، عزيز فى ملكه، حكيم فيما حكم من النفقة حولاً، نزلت فى حكيم بن الأشرف، قدم الطائف ومات بالمدينة وله أبوان وأولاد، فأعطى النبى صلى الله عليه وسلم الميراث الوالدين، وأعطى الأولاد بالمعروف، ولم يعط امرأته شيئاً. غير أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بالنفقة عليها فى الطعام والكسوة حولاً، فإن كانت المرأة من أهل المدر، التمست السكنى فيما بينها وبين الحول، وإن كانت من أهل الوبر نسجت ما تسكن فيه إلى الحول، فكان هذا قبل أن تنزل آية المواريث، ثم نزل: ﴿ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ﴾ نسخت هذه الحول، ثم أنزل الله عز وجل آية المواريث، فجعل لهن الربع والثمن، فنسخت نصيبها من الميراث نفقة سنة، ثم قال: ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ ﴾ اللاتى دخل بهن ﴿ مَتَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾، يعني على قدر مال الزوج، ولا يجبر الزوج على المتعة؛ لأن لها المهر كامل.
﴿ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٢٤١] أن يمتع الرجل امرأته.
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ﴾، يقول: هكذا يبين الله لكم أمره فى المتعة.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعني لكي ﴿ تَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٢٤٢].
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ ﴾ من بنى إسرائيل ﴿ أُلُوفٌ ﴾ ثمانية آلاف.
﴿ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ ﴾، يعني حذر القتل، وذلك أن نبيهم حزقيل بن دوم، وهو ذو الكفل بن دوم، ندبهم إلى قتال عدوهم، فأبوا عليه جنباً عن عدوهم واعتلوا، فقالوا: إن الأرض التى نبعث إليها لنقاتل عدونا، هي أرض يكون فيها الطاعون، فأرسل الله عز وجل عليهم الموت، فلما رأوا أن الموت كثر فيهم، خرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلما رأى ذلك خزقيل، قال: اللهم رب يعقوب وإله موسى، قد ترى معصية عبادك، فأرهم آية فى أنفسهم حتى يعلموا أنهم لن يستطيعوا فراراً منك، فأمهلهم الله عز وجل حتى خرجوا من ديارهم، وهى قرية تسمى دامردان. فلما خرجوا قال الله عز وجل لهم: ﴿ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ﴾ عبرة لهم، فماتوا جميعاً وماتت دوابهم كموت رجل واحد ثمانية أيام، فخرج إليهم الناس، فعجزوا عن دفنهم حتى حظروا عليهم وأروحت أجسادهم.
﴿ ثُمَّ ﴾ إن الله عز وجل ﴿ أَحْيَاهُمْ ﴾ بعد ثمانية أيام وبهن نتن شديد، ثم إن حزقيل بكى إلى ربه عز وجل، فقال: اللهم رب إبراهيم وإله موسى، لا تكن على عبادك الظلمة كأنفسهم، واذكر فيهم ميثاق الأولين، فسمع الله عز وجل، فأمره أن يدعوهم بكلمة واحدة، فقاموا كقيام رجل واحد كان وسناناً فاستيقظ، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٢٤٣] رب هذه النعمة حين أحياهم بعدما أراهم عقوبته، ثم أمرهم عز وجل أن يرجعوا إلى عدوهم فيجاهدوا، فذلك قوله: ﴿ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ أنه أحياهم بعدما أماتهم.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾.
وقوله سبحانه: ﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾؛ لقولهم: إن الأرض التى نبعث إليها فيها الطاعون.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٤٤] بذلك؛ حتى إنه ليوجد فى ذلك السبط من اليهود ريح كريح الموتى، وكانوا ثمانية آلاف ﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾ طيبة بها نفسه محتسباً.
﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾ بها ﴿ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾، نزلت فى أبى الدحداح، واسمه عمر بن الدحداح الأنصارى، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:" من تصدق بصدقة، فله مثلها فى الجنة "، قال أبو الدحداح: إن تصدقت بحديقتى فلي مثلها في الجنة؟ قال: " نعم "، قال: وأم الدحداح معى؟ قال: " نعم "، قال: والصبية؟ قال: " نعم ". وكان له حديقتان، فتصدق بأفضلهما واسمها الجنينة، فضاعف الله عز وجل صدقته ألفي ألف ضعف، فذلك قوله عز وجل: ﴿ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ ﴿ وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ﴾، يعني يقتر ويوسع.
﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [آية: ٢٤٥] فيجزيكم بأعمالكم، فرجع أبو الدحداح إلى حديقته، فوجد أم الدحداح والصبية فى الحديقة التى جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، وتحرج أن يدخلها، وقال: يا أم الدحداح، قالت له: لبيك يا أبا الدحداح، قال: إنى قد جعلت حديقتى هذه صدقة، واشترطت مثلها في الجنة، وم الدحداح معي، والصبية معى، قالت: بارك الله لك فيما اشتريت، فخرجوا منها، وسلم الحديقة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: كم من نخلة مدلا عذوقها لأبى الدحداح في الجنة لو اجتمع على عذق منها أهل مني أن يقلوه ما أقلوه.
قوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ ﴾، وذلك أن كفار بنى إسرائيل قهروا مؤمنيهم، فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم، فمكثوا زماناً ليس لهم ملك يقاتل عدوهم، والعدو بين فلسطين ومصر.
﴿ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ﴾، فقالوا لنبى لهم، عليه السلام، اسمه اشماويل، وهو بالعربية إسماعيل بن هلقابا، واسم أمه حنة، وهو من نسل هارون بن عمران أخو موسى: ﴿ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ ﴾ عدونا ﴿ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ ﴾ لهم نبيهم ﴿ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن ﴾ بعث الله لكم ملكاً و ﴿ كُتِبَ ﴾، يعنى وفرض ﴿ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ ﴾ أى فلما فرض، كقوله سبحانه: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ ﴾، يعنى فرض عليكم.
﴿ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ ﴾، يعني على بنى إسرائيل.
﴿ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، يعني كره القتال العصابة الذين وقفوا فى النهر.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٢٤٦]، يعينهم لقولهم:﴿ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾[البقرة: ٢٤٩]، وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب بدر.
" وقال النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر: " إنكم على عدد أصحاب طالوت ".
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ﴾ إسماعيل: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ عزوجل ﴿ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوۤاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ ﴾، يعنى من أين يكون له الملك ﴿ عَلَيْنَا ﴾، وليس طالوت من سبط النبوة ولا من سبط الملوك، وكان طالوت فيهم حقير الشأن دون.
﴿ وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ ﴾، منا الأنبياء والملوك، وكانت النبوة فى سبط لاوى بن يعقوب والملوك فى سبط يهوذا بن يعقوب.
﴿ وَلَمْ يُؤْتَ ﴾ طالوت ﴿ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ ﴾ أن ينفق علينا.
﴿ قَالَ ﴾ لهم نبيهم إسماعيل: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ عز وجل ﴿ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى اختاره، كقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ ﴾، يعني اختاره.
﴿ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ ﴾، وكان أعلم بني إسرائيل، وكان طالوت من سبط بنيامين، وكان جسيماً عالماً، وكان اسمه شارل بن كيس، وبالعربية طالوت بن قيس، وسمي طالوت لطوله.
﴿ وَٱللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ بعطية الملك ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٤٧] بمن يعطيه الملك.
فلما أنكروا أن يكون طالوت عليهم ملكاً.
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ﴾ أنه من الله ﴿ أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ ﴾ الذى أخذ منكم.
﴿ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾، ورأس كرأس الهرة، ولها جناحان، فإذا صوتت عرفوا أن النصر لهم، فكانوا يقدمونها أمام الصف.
﴿ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ ﴾، يعنى بالبقية رضراضا من الألواح وقفير من فى طست من ذهب وعصا موسى، عليه السلام، وعمامته، وكان التابوت يكون مع الأنبياء إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم، فلما تفرقت بنو إسرائيل وعصوا الأنبياء، سلط الله عز وجل عليهم عدوهم، فقتلوهم وغلبوهم على التابوت، فدفنوه فى مخرأة لهم، فابتلاهم الله عز وجل بالبواسير، فكان الرجل إذا تبرز عند التابوت أخذه الباسور، ففشى ذلك فيهم فهجروه، فقالوا: ما ابتلينا بهذه إلا بفعلنا بالتابوت، فاستخرجوه، ثم وجهوه إلى بنى إسرائيل على بقرة ذات لبن، وبعث الله عز وجل الملائكة، فساقوا العجلة، فإذا التابوت بين أظهرهم، فذلك قوله سبحانه.
﴿ تَحْمِلُهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ﴾، يعنى تسوقه الملائكة.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾، يعنى فى رد التابوت.
﴿ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٢٤٨]، يعنى مصدقين بأن طالوت ملكه من الله عز وجل. وكان التابوت من عود الشمشار التى تتخذ منه الأمشاط الصفر مموه بالذهب، فلما رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من الله عز وجل، فسمعوا له وأطاعوا، وكان موسى عليه السلام، ترك التابوت فى التيه قبل موته عند يوشع بن نون، ثم إن طالوت تجهز لقتال جالوت، وقال النبى إسماعيل لطالوت: إن الله عز وجل سيبعث رجلاً من أصحابك فيقتل جالوت، وأعطاه النبى صلى الله عليه وسلم درعاً، فقال لطالوت: من صلحت هذه الدرع عليه، لم تقصر عليه، ولم تطل، فإنه قاتل جالوت، فاجعل لقاتله نصف ملكك ونصف مالك. فبلغ ذلك داود النبى صلى الله عليه وسلم وهو يرعى الغنم فى الجبل، فاستودع غنمه ربه جل وعز، فقال: آتي الناس وأطالع أخوتي، وهم سبعة من طالوت، وانظر ما هذا الخبر، فمر داود، عليه السلام، على حجر، فقال: يا داود خذني، فأنا حجر هارون الذى قتل به كذا وكذا، فارم بي جالوت الجبار، فأقع فى بطنه، فأنفذ من جانبه الآخر، فأخذه فألقاه فى مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال له: يا داود خذنى، فأنا حجر موسى الذى قتل بى كذا وكذا، فارم بى جالوت، فأقع فى قلبه فأنفذ من الجانب الآخر، فألقاه فى مخلاته، ثم مر بحجر آخر، فقال: يا داود خذني، فأنا الذى أقتل جالوت الجبار، فأستعين بالريح فتلقى البيضة فأقع فى دماغه فأقتله، فأخذه فألقاه فى مخلاته. ثم انطلق حتى دخل على طالوت، فقال: أنا قاتل جالوت بإذن الله، وكان داود، عليه السلام، رث المنظر، هبير، دوير، فأنكر طالوت أن يقتله داود، عليه السلام، فقال داود: تجعل لى نصف ملكك ونصف مالك إن قتلت جالوت الجبار؟ قال طالوت: لك ذلك عندى، وأزوجك ابنتى، ولن يخفى علىَّ إن كنت أنت صاحبه، قد أتانى قومى كلهم يزعم أنه يقتله، وقد أخبرنى إسماعيل أن الله يبعث له رجلاً من أصحابى فيقتله، فالبس هذا الدرع، فلبسها داود، عليه السلام، فطالت عليه، فانتفض فيها، فتقلص منها وجعل داود يدعو الله عز وجل، ثم انتفض فيها، فتقلص منها، ثم انتفض فيها الثالثة فاستوت عليه، فعلم طالوت أنه يقتل جالوت.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ ﴾، وهم مائة ألف إنسان، فسار فى حر شديد.
﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ ﴾ ﴿ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ﴾ عز وجل ﴿ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ ﴾ بين الأردن وفلسطين.
﴿ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ﴾، يقول: ليس معى على عدوى، كقول إبراهيم، عليه السلام:﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾[إبراهيم: ٣٦]، يعني معي.
﴿ وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ ﴾، فإنه معي على عدوي، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ﴾، الغرفة يشرب منها الرجل وخدمه ودابته ويملأ قربته، ووصلوا إلى النهر من مفازة، وأصابهم العطش، فلما رأى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه.
﴿ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ ﴾، والقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، عدة أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يوم بدر.﴿ فَلَمَّا جَاوَزَهُ ﴾، أى جاوز النهر ﴿ هُوَ ﴾، يعنى طالوت.
﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾، وكلهم مؤمنون، فقال العصاة الذين وقعوا فى النهر: ﴿ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ ﴾، فرد عليهم أصحاب الغرفة.
﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾، يعنى الذين يعلمون، كقوله سبحانه:﴿ وَظَنَّ أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ ﴾[القيامة: ٢٨]، يعنى وعلم، وكقوله عز وجل:﴿ فَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا ﴾[الكهف: ٥٣]، وكقوله عز وجل:﴿ أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ ﴾[المطففين: ٤]، أى ألا يعلم ﴿ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ ﴾؛ لأنهم قد طابت أنفسهم بالموت.
﴿ كَم مِّن فِئَةٍ ﴾، يعنى جند ﴿ قَلِيلَةٍ ﴾ عددهم.
﴿ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً ﴾ عددهم ﴿ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ ﴾ [آية: ٢٤٩]، يعنى بنى إسرائيل فى النصر على عدوهم، فرد طالوت العصاة وسار بأصحاب الغرفة حتى عاينوا العدو.
﴿ وَلَمَّا بَرَزُواْ ﴾ لقتال ﴿ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ﴾، قال أصحاب الغرفة: ﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ﴾، يعنى ألق، أصبب علينا صبراً، كقوله سبحانه:﴿ أَفْرِغْ ﴾يعنى أصبب،﴿ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾[الكهف: ٩٦].
﴿ وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا ﴾ عند القتال حتى لا تزول.
﴿ وَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٥٠]، يعنى جالوت وجنوده، وكانوا يعبدون الأوثان، فاستجاب الله لهم، وكانوا مؤمنين، أصحاب الغرفة فى العصاة. فلما التقى الجمعان وطالوت فى قلة وجالوت فى كثرة، عمد داود، عليه السلام، فقام بحيال جالوت، لا يقوم ذلك المكان إلا من يريد قتال جالوت، فجعل الناس يسخرون من داود حين قام بحيال جالوت، وكان جالوت من قوم عاد عليه بيضة فيها ثلاثمائة رطل، فقال جالوت: من أين هذا الفتى؟ ارجع ويحك، فإنى أراك ضعيفاً، ولا أرى لك قوة، ولا أرى معك سلاحاً، ارجع فإنى أرحمك، فقال داود، عليه السلام: أنا أقتلك بإذن الله عز وجل، فقال جالوت: بأى شىء تقتلنى؟ وقد قمت مقام الأشقياء، ولا أرى معك سلاحاً إلا عصاك هذه، هلم فاضربنى بها ما شئت، وهى عصاه التى كان يرد بها غنمه، قال داود: أقتلك بإذن الله بما شاء الله. فتقدم جالوت ليأخذه بيده مقتدراً عليه فى نفسه، وقد صارت الحجارة الثلاثة حجراً واحداً، فلما دنا جالوت من داود، أخرج الحجر من مخلاته، وألقت الريح البيضة عن رأسه، فرماه فوقع الحجر فى دماغه حتى خرج من أسفله، وانهزم الكفار، وطالوت ومن معه وقوف ينظرون، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾ بحذافة فيها حجر واحد، وقتل معه ثلاثون ألفاً، وطلب داود نصف مال طالوت ونصف ملكه، فحسده طالوت على صنيعه وأخرجه، فذهب داود حتى نزل قرية من قرى بنى إسرائيل وندم طالوت على صنيعه، فقال فى نفسه: عمدت إلى خير أهل الأرض بعثه الله عز وجل لقتل جالوت فطردته، ولم أف له، وكان داود، عليه السلام، أحب إلى بنى إسرائيل من طالوت. فانطلق فى طلب داود، فطرق امرأة ليلاً من قدماء بنى إسرائيل تعلم اسم الله الأعظم، وهى تبكى على داود، فضرب بابها، فقالت: من هذا؟ قال: أنا طالوت، فقالت: أنت أشقى الناس وأشرهم، هل تعلم ما صنعت؟ طردت داود النبى صلى الله عليه وسلم، وكان أمره من الله عز وجل، وكانت له آية فيه من أمر الدرع وصفة أشماويل وظهوره على جالوت، وقتل الله عز وجل به أهل الأوثان فانهزموا، ثم غدرت بداود وطردته، هلكت يا شقى، فقال لها: إنما أتيتك لأسألك ما توبتى؟ قالت: توبتك أن تأتى مدينة بلقاء، فتقاتل أهلها وحدك، فإن افتتحتها، فهى توبتك، فانطلق طالوت، فقاتل أهل بلقاء وحده، فقتل وعمدت بنو إسرائيل إلى داود، عليه السلام، فردوه وملكوه، ولم يجتمع بنو إسرائيل لملك قط غير داود، عليه السلام، فكانوا اثنى عشر سبطاً، لكل سبط ملك بينهم، فذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ ﴾.
﴿ وَآتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ ﴾، يعنى ملكه اثنا عشر سبطاً.
﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الزبور.
﴿ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ﴾، علمه صنعة الدروع، وكلام الدواب والطير، وتسبيح الجبال.
﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾، يقول الله سبحانه: لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخرجوا المساجد والبيع والكنائس والصوامع، فذلك قوله سبحانه: ﴿ لَفَسَدَتِ ٱلأَرْضُ ﴾، يقول: لهلكت الأرض نظيرها:﴿ إِنَّ ٱلْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ﴾[النمل: ٣٤]، يعنى أهلكوها.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٢٥١] فى الدفع عنهم. ﴿ تِلْكَ آيَاتُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ ﴾ [آية: ٢٥٢].
﴿ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ ﴾، وهو موسى صلى الله عليه وسلم، ومنهم من اتخذه خليلاً، وهو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أعطى الزبور، وتسبيح الجبال والطير، وهو داود صلى الله عليه وسلم، ومنهم من سخرت له الريح والشياطين، وعلم منطق الطير، وهو سليمان صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يحيى الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص، ويخلق من الطين طيراً، وهو عيسى صلى الله عليه وسلم، فهذه الدرجات، يعنى الفضائل، قال تعالى: ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ على بعض.
﴿ وَآتَيْنَا ﴾، يقول: وأعطينا ﴿ عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى ما كان يصنع من العجائب، وما كان يحيى من الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين. ثم قال: ﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾، يقول سبحانه: وقويناه بجبريل، عليه السلام، ثم قال: ﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم ﴾، يعنى من بعد عيسى وموسى، وبينهما ألف نبى، أولهم وآخرهم عيسى.
﴿ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ ﴾، يعنى العجائب التى كان يصنعها الأنبياء.
﴿ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ ﴾، فصاروا فريقين فى الدين، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ ﴾، يعنى صدق بتوحيد الله عز وجل.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ ﴾ بتوحيد الله.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [آية: ٢٥٣]، يعنى أراد ذلك.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ﴾ من الأموال فى طاعة الله ﴿ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ ﴾ يقول: لا فداء فيه.
﴿ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ ﴾ فيه ليعطيه بخلة ما بينهما.
﴿ وَلاَ شَفَاعَةٌ ﴾ للكفار فيه كفعل أهل الدنيا بعضهم فى بعض فليس فى الآخرة شىء من ذلك ﴿ وَٱلْكَافِرُونَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٢٥٤].
﴿ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ﴾ الذى لا يموت.
﴿ ٱلْقَيُّومُ ﴾ القائم على كل نفس.
﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾، يعنى ريح من قبل الرأس، فيغشى العينين، وهو وسنان بين النائم واليقظان، ثم قال جل ثناؤه: ﴿ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ﴾ ﴿ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده، وفى ملكه الملائكة، وعزيز، وعيسى ابن مريم، وغيره ممن يعبد.
﴿ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ﴾ من الملائكة ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾، يقول: إلا بأمره، وذلك قوله سبحانه:﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ ﴾[الأنبياء: ٢٨].
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾، يقول: ما كان قبل خلق الملائكة، وما كان بعد خلقهم، ثم قال: ﴿ وَلاَ يُحِيطُونَ ﴾، يعنى الملائكة.
﴿ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ ﴾ الرب فيعلمهم، ثم أخبر عن عظمة الرب جل جلاله، فقال سبحانه: ﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ ﴾ كلها كل قائمة.
﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾، يقول: ولا يثقل عليه، ولا يجهده حملها.﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ٢٥٥] الرفيع فوق كل خلقه العظيم، فلا أعظم منه شىء، يحمل الكرسى أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصخرة التى تحت الأرض السفلى، مسيرة خمس مائة عام، وما بين كل أرض مسيرة مائة عام، ملك وجهه على صورة الإنسان، وهو سيد الصور، وهو يسأل الرزق للآدميين، وملك وجهه على صورة سيد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وهو الثور، لم يزل الملك الذى على صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عبد العجل من دون الرحمن عز وجل، وملك وجهه على صورة سيد الطير، وهو يسأل الله عز وجل الرزق للطير وهو النسر، وملك على صورة سيد السباع، وهو يسأل الرزق للسباع وهو الأسد.
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ ﴾ لأحد بعد إسلام العرب إذا أقروا بالجزية، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً قبل الخراج، من غير أهل الكتاب،" فكتب النبى صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى، وأهل هجر، يدعوهم إلى الإسلام، فكتب: " من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: إن من شهد شهادتنا، وأكل من ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا، ودان بديننا، فذلك المسلم الذى له ذمة الله عز وجل، وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أسلمتم فلكم ما أسلمتم عليه، ولكم عشر التمر، ولكم نصف عشر الحب، فمن أبى الإسلام، فعليه الجزية ". فكتب المنذر إلى النبى صلى الله عليه وسلم: إنى قرأت كتابك إلى أهل هجر، فمنهم من أسلم، ومنهم من أبى، فأما اليهود والمجوس، فأقروا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فقبل النبى صلى الله عليه وسلم منهم بالجزية ". فقال منافقوا أهل المدينة: زعم محمد أنه لم يؤمر أن يأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، فما باله قبل من مجوس أهل هجر، وقد أبى ذلك على آبائنا وإخواننا حتى قاتلهم عليه، فشق على المسلمين قولهم، فذكروه للنبى صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل:﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾آخر الآية [المائدة: ١٠٥]، وأنزل الله عز وجل: ﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ ﴾ بعد إسلام العرب.﴿ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ ﴾، يقول: قد تبين الضلالة من الهدى.
﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ ﴾، يعنى الشيطان.
﴿ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ ﴾، بأنه واحد لا شريك له.
﴿ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ ﴾، يقول: أخذ الثقة، يعنى الإسلام، التى ﴿ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا ﴾، يقول: لا انقطاع له دون الجنة.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾ لقولهم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٥٦] به.
﴿ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى ولى المؤمنين بالله عز وجل.
﴿ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾، يعنى من الشرك إلى الإيمان، نظيرها فى إبراهيم﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[إبراهيم: ٥]؛ لأنه سبق لهم السعادة من الله تعالى فى علمه، فلما بعث النبى صلى الله عليه وسلم، أخرجهم الله سبحانه من الشرك إلى الإيمان، ثم قال: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف.
﴿ يُخْرِجُونَهُمْ ﴾، يعنى يدعونهم ﴿ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ ﴾، نظيرها فى إبراهيم قوله سبحانه:﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾[إبراهيم: ٥]، ثم قال: يدعونهم من النور الذى كانوا فيه من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث إلى كفر به بعد أن بعث، وهى الظلمة.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٢٥٧]، يعنى لا يموتون.
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ﴾، وهو نمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ ابن كوشى بن نوح، وهو أول من ملك الأرض كلها، وهو الذى بنى الصرح ببابل.
﴿ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ﴾، يقول: أن أعطاه الله ﴿ ٱلْمُلْكَ ﴾، وذلك أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم: حين كسر الأصنام سجنه نمروذ، ثم أخرجه ليحرقه بالنار، فقال لإبراهيم، عليه السلام: من ربك ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾، وإياه أعبد ومنه أسأل الخير.
﴿ قَالَ ﴾ نمروذ ﴿ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ﴾، قال له إبراهيم: أرنى بيان الذى تقول، فجاء برجلين فقتل أحدهما، واستحيا الآخر، وقال: كان هذا حياً فأمته وأحييت هذا ولو شئت قتلته.
﴿ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ﴾ الجبار ﴿ ٱلَّذِي كَفَرَ ﴾ بتوحيد الله عز وجل، يقول: بهت نمروذ الجبار، فلم يدر ما يرد على إبراهيم. ثم إن الله عز وجل سلط على نمروذ بعوضة، بعدما أنجا الله عز وجل إبراهيم من النار، فعضت شفته، فأهوى إليها فطارت فى منخره، فذهب ليأخذها فدخلت خياشيمه، فذهب يستخرجا، فدخلت دماغه، فعذبه الله عز وجل بها أربعين يوماً، ثم مات منها، وكان يضرب رأسه بالمطرقة، فإذا ضرب رأسه سكنت البعوضة، وإذا رفع عنها تحركت، فقال الله سبحانه: وعزتى وجلالى لا تقوم الساعة حتى آتى بها، يعنى الشمس من قبل المغرب، فيعلم من يرى ذلك أنى أنا الله قادر على أن أفعل ما شئت، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٢٥٨] إلى الحجة، يعنى نمروذ، مثلها فى براءة:﴿ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾[التوبة: ١٩] إلى الحجة.
﴿ أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ﴾، يعنى ساقطة على سقوفها، وذلك أن بخت نصر سبا أهل بابل، وفيهم عزير بن شرحيا، وكان من علماء بنى إسرائيل، وأنه ارتحل ذات يوم على حمار أقمر، فمر على قرية تدعى سابور على شاطئ دجلة بين واسط والمدائن، وكان هذا بعد ما رفع عيسى ابن مريم، فربط حماره فى ظل شجرة، ثم طاف فى القرية، فلم ير فيها ساكناً، وعامة شجرها حامل، فأصاب من الفاكهة والعنب والتين. ثم رجع إلى حماره، فجلس يأكل من الفاكهة، وعصر من العنب، فشرب منه، فجعل فضل الفاكهة فى سلة، وفضل العصير فى الزق، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها.
﴿ قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ ﴾، يعنى أهل هذه القرية.
﴿ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ بعد هلاكها، لم يشك فى البعث، ولكنه أحب أن يريه الله عز وجل كيف يبعث الموتى كما سأل إبراهيم، عليه السلام، ربه عز وجل:﴿ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾[البقرة: ٢٦٠].
فلما تكلم بذلك عزير، أراد الله عز وجل أن يعلمه كيف يحييها بعد موتها.
﴿ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ ﴾ عز وجل وأمات حماره ﴿ مِئَةَ عَامٍ ﴾، فحيى والفاكهة والعصير موضوع عنده.
﴿ ثُمَّ بَعَثَهُ ﴾ الله عز وجل فى آخر النهار بعد مائة عام، لم يتغير طعامه وشرابه، فنودى فى السماء ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ﴾ يا عزير ميتاً.
﴿ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً ﴾، فالتفت فرأى الشمس، فقال: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ ﴾ له ﴿ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ ﴾ ميِّتاً، ثم أخبره ليعتبر، فقال سبحانه: ﴿ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ ﴾، يعنى الفاكهة فى السلة.
﴿ وَشَرَابِكَ ﴾، يعنى العصير.
﴿ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، يقول لم يتغير طعمه بعد مائة عام، نظيرها فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم:﴿ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾[محمد: ١٥]، فقال: سبحان الله، كيف لم يتغير طعمه؟. ونظر إلى حماره، وقد ابيضت عظامه، وبليت وتفرقت أوصاله، فنودى من السماء: أيتها العظام البالية اجتمعى، فإن الله عز وجل منزل عليك روحاً، فسعت العظام بعضها إلى بعض، الذراع إلى العضد، والعضد إلى المنكبين والكتف، وسعت الساق إلى الركبتين، والركبتان إلى الفخذين، والفخذان إلى الوركين، والتصق الوركان بالظهر، ثم وقع الرأس على الجسد، وعزير ينظر، ثم ألقى على العظام العروق والعصب، ثم رد عليه الشعر، ثم نفخ فى منخره الروح، فقام الحمار ينهق عند رأسه، فاعلم كيف يبعث أهل هذه القبور بعد هلاكهم وبعث حماره بعد مائة عام كما لم يتغير طعامه وشرابه، وبعث بعد طوال الدهر ليعتبر بذلك، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ﴾، يعنى لم يتغير طعمه، كقوله فى سورة محمد صلى الله عليه وسلم:﴿ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾﴿ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾، يعنى عبرة؛ لأنه بعثه شاباً بعد مائة سنة.
﴿ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ ﴾، يعنى عظام الحمار.
﴿ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ﴾، يعنى نحييها، نظيرها:﴿ أَمِ ٱتَّخَذُوۤاْ آلِهَةً مِّنَ ٱلأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ ﴾[الأنبياء: ٢١]، يعنى يبعثون الموتى.
﴿ ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ﴾، يعنى لعزير كيف يحيى الله الموتى، خر لله ساجداً.
﴿ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢٥٩]، يعنى من البعث وغيره، فرجع عزير إلى أهله، وقد هلكوا، وبيعت داره وبنيت فردت عليه، وانتسب عزير إلى أولاده، فعرفوه وعرفهم، وأعطى عزير العلم من بعد ما بعث بعد مائة عام.
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾، وذلك أنه رأى جيفة حمار على شاطئ البحر تتوزعه دواب البر والبحر والطير، فنظر إليها ساعة، ثم قال: ﴿ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ ﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ﴾ يا إبراهيم، يعنى قال: أو لم تصدق بأنى أحيى الموتى يا إبراهيم ﴿ قَالَ بَلَىٰ ﴾ صدقت ﴿ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ ليسكن قلبى بأنك أريتنى الذى أردت ﴿ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ ﴾ قال: خذ ديكاً وبطة وغراباً وحمامة فاذبحهن يقول: قطعهن، ثم خالف بين مفاصلهن وأجنحتهن ﴿ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ﴾ بلغة النبط صرهن قطعهن، واخلط ريشهن ودماءهن، ثم خالف بين الأعضاء والأجنحة واجعل مقدم الطير مؤخر طير آخر، ثم فرقهن على أربعة أجبال ﴿ ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ﴾ فيها تقدم فدعاهن فتواصلت الأعضاء والأجنحة، فأجابته جميعاً ليس معهن رءوسهن، ثم وضع على أجسادهن، ففقت البطة، وصوت الديك، ونعق الغراب، وقرقر الحمام يقول: خذهن فصرهن وادعهن يسعين على أرجلهن عند غروب الشمس.﴿ وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٢٦٠]، فقال: عند ذلك أعلم أن الله عزيز فى ملكه حكيم، يعنى حكم البعث يقول: كما بعث هذه الأطيار الأربعة من هذه الجبال الأربعة، فكذلك يبعث الله عز وجل الناس من أرباع الأرض كلها ونواحيها، وكان هذا بالشام، وكان أمر الطير قبل أن يكون له ولد، وقبل أن تنزل عليه الصحف، وهو ابن خمس وسبعين سنة.
﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى فى طاعة الله عز وجل.
﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ ﴾، يقول: أخرجت ﴿ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ لتلك الأضعاف ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٦١] بما تنفقون.﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ٢٦٢] عند الموت نزلت فى عثمان بن عفان، رضى الله عنه، فى نفقته فى غزاة تبوك وفى شرائه رومة ركية بالمدينة، وتصدقه بها على المسلمين، وفى عبد الرحمن بن عوف الزهرى، رضى الله عنه، حين تصدق بأربعة ألاف درهم كل درهم مثقال وكان نصف ماله.
﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ﴾، يعنى قول حسن، يعنى دعاء الرجل لأخيه المسلم إذا جاء وهو فقير يسأله فلا يعطيه شيئاً يدعو بالخير له.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾، يعنى وتجاوز عنه.
﴿ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ ﴾ يعطيه إياها ﴿ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾، يعنى المن.
﴿ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ ﴾ عما عندكم من الصدقة.
﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٦٣] حين لا يعجل بالعقوبة على من يمن بالصدقة ويؤذى فيها المعطى.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ ﴾ يقول: يمن بها فإن ذلك أذى لصاحبها وكل صدقة يمن بها صاحبها على المعطى، فإن المن يبطلها، فضرب الله عز وجل، مثل لذلك: ﴿ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ يقول: ولا يصدق بأنه واحد لا شريك له.﴿ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾ يقول: ولا يصدق بالبعث الذى فيه جزاء الأعمال أنه كائن، فمثله، يعنى مثل الذى يمن بصدقته، كمثل مشرك أنفق ماله فى غير إيمان، فأبطل شركه الصدقة كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن، ثم أخبر عمن مَنِّ بها على صاحبه، فلم يعط عليها أجراً ولا ثواباً، ثم ضرب الله عز وجل لهما مثلاً فقال: فى مثله: ﴿ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ ﴾، يعنى الصفا.
﴿ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ﴾، يعنى المطر الشديد.
﴿ فَتَرَكَهُ صَلْداً ﴾، يقول: ترك المطر الصفا صلداً نقياً أجرد، ليس عليه تراب، فكذلك المشرك الذى ينفق فى غير إيمان، وينفق رئاء الناس، وكذلك صدقة المؤمن إذا من بها. وذلك قوله سبحانه: ﴿ لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ ﴾، يقول: لا يقدرون على ثواب شىء مما أنفقوا يوم القيامة وذلك قوله عز وجل:﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ ﴾ثواب﴿ شَيْءٍ ﴾[إبراهيم: ١٨] يوم القيامة، كما لم يبق على الصفا شىء من التراب حين أصابه المطر الشديد.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٦٤].
ثم ذكر نفقة المؤمن الذى يريد بنفقته وجه الله عز وجل، ولا يمن بها، فقال سبحانه: ﴿ وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾، يعنى وتصديقاً من قلوبهم، فهذا مثل نفقة المؤمن التى يريد بها وجه الله عز وجل، ولا يمن بها ﴿ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ﴾، يعنى بستان فى مكان مرتفع مستو، تجرى من تحتها الأنهار ﴿ أَصَابَهَا ﴾، يعنى أصاب الجنة ﴿ وَابِلٌ ﴾، يعنى المطر الكثير الشديد.
﴿ فَآتَتْ أُكُلَهَا ﴾، يقول: أضعفت ثمرتها فى الحمل ﴿ ضِعْفَيْنِ ﴾، فكذلك الذى ينفق ماله لله عز وجل من غير أن يضاعف له نفقته إن كثرت أو قلت، كما أن المطر إذا اشتد، أو قل أضعف ثمرة الجنة حين أصابها وابل.
﴿ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ﴾، أى أصابها عطش من المطر، وهو الرذاذ مثل الندى.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾، يعنى بما تنفقون ﴿ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٢٦٥].
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ ﴾، هذا مثل ضربه عز وجل لعمل الكافر، جنة ﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ ﴾، يعنى عجزة لا حيلة لهم.
﴿ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ ﴾، يعنى ريح فيها نار، يعنى فيها سموم حارة.
﴿ فَٱحْتَرَقَتْ ﴾، يقول: مثل الكافر كمثل شيخ كبير له بستان فيه من كل الثمرات، وله ذرية أولاد صغار، يعنى عجزة لا حيلة لهم، فمعيشته ومعيشة ذريته من بستانه، فأرسل الله عز وجل على بستانه السموم الحارة، فأحرقت بستانه، فلم يكن له قوة من كبره أن يدفع عن جنته، ولم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا عن جنتهم التى كانت معيشتهم منها حين احترقت، ولم يكن للشيخ قوة أن يغرس مثل جنته، ولم يكن عند ذريته خير، فيعودون به على أبيهم عندما كان أحوج إلى خير يصيبه، ولا يجد خيراً، ولا يدفع عن نفسه عذاباً، كما لم يدفع الشيخ الكبير، ولا ذريته عن جنتهم شيئاً حين احترقت، ولا يرد الكافر إلى الدنيا فيعتب، كما لا يرجع الشيخ الكبير شاباً، فيغرس جنة مثل جنته، ولم يقدم لنفسه خيراً، فيعود عليه فى الآخرة، وهو أحوج ما يكون إليه كما لم يكن عند ولده شيئاً فيعودون به على أبيهم، ويحرم الخير فى الآخرة عند شدة حاجته إليه، كما حرم جنته عندما كان أحوج ما يكون إليها عند كبر سنه وضعف ذريته.
﴿ كَذَلِكَ ﴾، يعنى هكذا ﴿ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ ﴾، يعنى يبين الله أمره.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يقول: لكى ﴿ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [آية: ٢٦٦] فى أمثال الله عز وجل فتعتبروا.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾، يقول: أنفقوا من الحلال مما رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره.
﴿ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾، وأنفقوا من طيبات الثمار والنبات،" وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آية الصدقات، فجاء رجل بعزق من تمر عامته حشف، فوضعه فى المسجد مع التمر، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " من جاء بهذا؟ "، فقالوا: لا ندرى، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم أن يعلق العزق، فمن نظر إليه قال: بئس ما صنع صاحب هذا، فقال الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ ﴾ "، يقول: ولا تعمدوا إلى الحشف من التمر الردىء من طعامكم للصدقات.
﴿ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ ﴾، يعنى الردىء بسعر الطيب لأنفسكم، يقول: لو كان لبعضكم على بعض حق لم يأخذ دون حقه، ثم استثنى، فقال: ﴿ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾، يقول: إلا أن يهضم بعضكم على بعض حقه، فيأخذ دون حقه، وهو يعلم أنه ردىء، فيأخذه على علم.
﴿ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ ﴾ عما عندكم من الأموال.
﴿ حَمِيدٌ ﴾ [آية: ٢٦٧] عند خلقه فى ملكه وسلطانه.
ثم قال سبحانه: ﴿ ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ ﴾، عند الصدقة، ويأمركم أن تمسكوا صدقتكم، فلا تنفقوا فلعلكم تفتقرون.
﴿ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ ﴾، يعنى المعاصى، يعنى بالإمساك عن الصدقة.
﴿ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم ﴾ عند الصدقة ﴿ مَّغْفِرَةً مِّنْهُ ﴾ لذنوبكم ويعدكم ﴿ وَفَضْلاً ﴾، يعنى الخلف من صدقتكم، فيجعل لكم الخلف بالصدقة فى الدنيا، ويغفر لكم الذنوب فى الآخرة.
﴿ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ لذلك الفضل ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٦٨] بما تنفقون، وذلك قوله سبحانه فى التغابن:﴿ إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾[التغابن: ١٧]، يعنى به الصدقة محتسباً طيبة بها نفسه، يضاعفه لكم فى الدنيا، ويغفر لكم بالصدقة فى الآخرة.
﴿ يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ﴾، يقول: ومن يعط الحكمة، وهى علم القرآن والفقه فيه.
﴿ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾، يقول: فقد أعطى خيراً كثيراً.
﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ ﴾ فيما يسمع.
﴿ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ ﴾ [آية: ٢٦٩]، يعنى أهل اللب والعقل، ثم قال: ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ ﴾ من خير من أموالكم فى الصدقة.
﴿ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ ﴾ فى حق.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾، يقول: فإن الله يحصيه.
﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ﴾ [آية: ٢٧٠]، يعنى للمشركين من مانع من النار.
قوله سبحانه: ﴿ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ ﴾، يقول: إن تعلنوها.
﴿ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا ﴾، يعنى تسروها.
﴿ وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من العلانية، وأعظم أجراً يضاعف سبعين ضعفاً.
﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم ﴾ بصدقات السر والعلانية.
﴿ مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ من ذنوبكم، يعنى ذنوبكم أجمع، ومن ها هنا صلة، وكل مقبول السر والعلانية.
﴿ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ٢٧١].
﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾، نزلت فى المشركين؛ لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غير زكاة، نزلت فى أسماء بنت أبى بكر، رضى الله عنه، سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن صلة جدها أبى قحافة، وعن صلة امرأته، وهما كافران، فكأنه شق عليه صلتهما، فنزلت: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ﴾، يعنى أبا قحافة.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ إلى دينه الإسلام.
﴿ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾، يعنى المال.
﴿ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾، يعنى المال.
﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾، يعنى توفر لكم أعمالكم.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٧٢] فيها.
ثم بين على من ينفق، فقال: النفقة ﴿ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: حبسوا، نظيرها:﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾[البقرة: ١٩٦]، يعنى حبستم، وأيضاً:﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾[الإسراء: ٨]، يعنى محبساً.
﴿ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ ﴾ حبسوا أنفسهم بالمدينة فى طاعة الله عز وجل، فهم أصحاب الصفة. قال: حدثنا عبيد الله، عن أبيه، عن هذيل بن حبيب، عن مقاتل بن سليمان، منهم ابن مسعود، وأبو هريرة، والموالى أربعمائة، رجل لا أموال لهم بالمدينة، فإذا كان الليل آووا إلى صفة المسجد، فأمر الله عز وجل بالنفقة عليهم.
﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ ﴾، يعنى سيراً، كقوله سبحانه:﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[النساء: ١٠١]، يعنى إذا سرتم فى الأرض، يعنى التجارة.
﴿ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ ﴾ بأمرهم وشأنهم أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ }، يعنى بسيما الفقر عليهم لتركهم المسألة.
﴿ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً ﴾ فيحلفون فى المسألة.
﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾، يعنى من مال، كقوله عزوجل:﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾[البقرة: ١٨٠]، يعنى مالاً للفقراء أصحاب الصفة.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٧٣]، يعنى بما أنفقتم عليم.
﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ﴾ فى الصدقة ﴿ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾، " نزلت فى على بن أبى طالب، رضى الله عنه، لم يملك غير أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: " ما حملك على ذلك؟ "، قال: حملنى أن أستوجب من الله الذى وعدنى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " الأن لك ذلك "، قال: فأنزل الله عز وجل فيه: ﴿ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً ﴾ ﴿ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ "[آية: ٢٧٤] عند الموت.
﴿ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَا ﴾ استحلالاً.
﴿ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَانُ مِنَ ٱلْمَسِّ ﴾ فى الدنيا، وذلك علامة أكل الربا.
﴿ ذَلِكَ ﴾ الذى نزل بهم يوم القيامة.
﴿ بِأَنَّهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَا ﴾، فأكذبهم الله عز وجل، فقال: ﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَا ﴾، فكان الرجل إذا حل ماله فطلبه، فيقول المطلوب: زدنى فى الأجل، وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فإن قيل لهم: إن هذا ربا، قالوا: سواء زدت فى أول بيع أو فى آخره عند محل المآل، فهما سواء، فذلك قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَا ﴾.
فقال الله عز وجل: ﴿ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَا ﴾.
﴿ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ ﴾، يعنى البيان فى القراءة.
﴿ فَٱنْتَهَىٰ ﴾ عن الربا.
﴿ فَلَهُ مَا سَلَفَ ﴾، يقول: ما أكل من الربا قبل التحريم.
﴿ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ بعد التحريم وبعد تركه، إن شاء عصمه من الربا، وإن شاء لم يعصمه، قال: ﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ فأكله استحلالاً لقولهم: ﴿ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَا ﴾، يخوف أكلة الربا فى الدنيا أن يستحلوا أكله، فقال: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٢٧٥] لا يموتون.
ثم قال سبحانه: ﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلْرِّبَا ﴾، فيضمحل وينقص.
﴿ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَاتِ ﴾، يعنى ويضاعف الصدقات.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [آية: ٢٧٦] بربه عز وجل.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ المكتوبة فى مواقيتها.
﴿ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ ﴾، يعنى وأعطوا الزكاة من أموالهم.
﴿ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ٢٧٧].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه.
﴿ وَذَرُواْ ﴾، يعنى واتقوا ﴿ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٢٧٨] نزلت فى أربعة إخوة من ثقيف، مسعود، وحبيب، وربيعة، وعبد ياليل، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفى، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانوا يربون لثقيف،" فلما أظهر الله عز وجل النبى صلى الله عليه وسلم على الطائف، اشترطت ثقيف أن كل ربا لهم على الناس فهو لهم، وكل ربا للناس عليهم فهو موضوع عنهم، فطلبوا رباهم إلى بنى المغيرة، فاختصموا إلى عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية، كان النبى صلى الله عليه وسلم استعمله على مكة، وقال له: أستعملك على أهل الله ". وقالت بنو المغيرة: أجعلنا أشقى الناس بالربا وضعه عن الناس؟ فقالت ثقيف: إنا صالحنا النبى صلى الله عليه وسلم أن لنا ربانا، فكتب عتاب إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى المدينة بقصة الفريقين، فأنزل الله تبارك وتعالى بالمدينة.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى ثقيفاً.
﴿ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَا ﴾ الآية؛ لأنه لم يبق غير رباهم.
﴿ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾، فأقروا بتحريمه.
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ ﴾ وتقروا بتحريمه ﴿ فَأْذَنُواْ ﴾، يعنى فاستيقنوا ﴿ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، يعنى الكفر.
﴿ وَإِنْ تُبْتُمْ ﴾ من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه.
﴿ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ ﴾ التي أسلفتم لا تزدادوا.
﴿ لاَ تَظْلِمُونَ ﴾ أحداً إذا لم تزدادوا على أموالكم.
﴿ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٧٩ } فتنقصون من رءوس أموالكم. فبعث النبى صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى عتاب بن أسيد بمكة، فأرسل عتاب إلى بنى عمرو بن عمير، فقرأ عليهم الآية، فقالوا: بل نتوب إلى الله عز وجل، ونذر ما بقى من الربا، فإنه لا يدان لنا بحرب الله ورسوله، فطلبوا رءوس أموالهم إلى بنى المغيرة، فاشتكوا العسرة، فقال الله عز وجل: ﴿ وَإِن كَانَ ﴾ المطلوب ﴿ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ من القوم، يعنى بنى المغيرة.
﴿ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ﴾، يقول: فأجله إلى غناه، كقوله سبحانه:﴿ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾[الأعراف: ١٤]، يقول: أجلنى.
﴿ وَأَن تَصَدَّقُواْ ﴾ به كله على بنى المغيرة وهم معسرون، فلا تأخذونه، فهو ﴿ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ من أخذه.
﴿ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٨٠].
﴿ وَٱتَّقُواْ يَوْماً ﴾ يخوفهم ﴿ تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ ﴾، يعنى توفى ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ بر وفاجر ثواب ﴿ مَّا كَسَبَتْ ﴾ من خير وشر.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٨١] فى أعمالهم، وهذه آخر أية نزلت من القرآن، ثم توفى النبى صلى الله عليه وسلم بعدها بتسع ليال.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ ﴾، يعنى اكتبوا الدين والأجل.
﴿ وَلْيَكْتُب ﴾ الكاتب بين البائع والمشترى.
﴿ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ ﴾ يعدل بينهما فى كتابه، فلا يزداد على المطلوب، ولا ينقص من حق الطالب.
﴿ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ ﴾ الكتابة، وذلك أن الكُتاب كانوا قليلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: ﴿ فَلْيَكْتُبْ ﴾ الكاتب.
﴿ وَلْيُمْلِلِ ﴾ على الكاتب ﴿ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ ﴾، يعنى المطلوب، ثم خوف المطلوب، فقال عز وجل: ﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾، يعنى ولا ينقص المطلوب من الحق شيئاً، كقوله عز وجل:﴿ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾[الأعراف: ٨٥].
﴿ فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً ﴾، يعنى جاهلاً بالإملاء.
﴿ أَوْ ضَعِيفاً ﴾، يعنى أو عاجزاً، أو به حمق.
﴿ أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ ﴾، لا يعقل الإملاء لعيه، أو لخرسه، أو لسفهه، ثم رجع إلى الذى له الحق، فقال سبحانه: ﴿ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ ﴾، يعنى ولى الحق، فليملل هو ﴿ بِٱلْعَدْلِ ﴾، يعنى بالحق، ولا يزداد شيئاً ولا ينقص، كما قال للمطلوب قبل ذلك، وأمر كليهما بالعدل، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱسْتَشْهِدُواْ ﴾ على حقكم ﴿ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ ﴾، يقول: ولا يشهد الرجل على حقه إلا مرضياً إن كان الشاهد رجلاً أو امرأة. ثم قال: ﴿ أَن تَضِلَّ ﴾ المرأة، يعنى أن تنسى ﴿ إْحْدَاهُمَا ﴾ الشهادة.
﴿ فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ﴾ الشهادة ﴿ ٱلأُخْرَىٰ ﴾، يقول: تذكرها المرأة الأخرى التى حفظت شهادتهما، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ ﴾، يقول: إذا ما دعى الرجل ليستشهد على أخيه، فلا يأب إن كان فارغاً، ثم قال: ﴿ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ ﴾، يقول: ولا تملوا، وكل شىء فى القرآن تسأموا، يعنى تملوا.
﴿ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً ﴾، يعنى قليل الحق وكثيره.
﴿ إِلَىٰ أَجَلِهِ ﴾؛ لأن الكتاب أحصى للأجل وأحفظ للمال.
﴿ ذَلِكُمْ ﴾، يعنى الكتاب.
﴿ أَقْسَطُ ﴾، يعنى أعدل ﴿ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ ﴾، يعنى أصوب ﴿ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ ﴾، يعنى وأجدر ألا تشكوا، نظيرها:﴿ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ ﴾[المائدة: ١٠٨]، أى أجدر، ونظيرها فى الأحزاب:﴿ ذَلِكَ أَدْنَىٰ ﴾يعنى أجدر﴿ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾[الأحزاب: ٥١]، فى الحق والأجل والشهادة إذا كان مكتوباً. ثم رخص فى الاستثناء، فقال: ﴿ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ ﴾، وليس فيها أجل.
﴿ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ﴾، يعنى حرج.
﴿ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾، يعنى التجارة الحاضرة، إذا كانت يداً بيد على كل حال.
﴿ وَأَشْهِدُوۤاْ ﴾ على حقكم ﴿ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾، يقول: لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة ولهما حاجة، فيقول: اكتب لى، فإن الله أمرك أن تكتب لى، فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، ويقول للشاهد وهو يجد غيره: اشهد لى على حقى، فإن الله قد أمرك أن تشهد على حقى، وهو يجد غيره من يشهد له على حقه، فيضاره بذلك، فأمر الله عز وجل أن يتركا لحاجتهما ويلتمس غيرهما.
﴿ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ﴾، يقول: وإن تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عنه، فإنه إثم بكم، ثم خوفهم، فقال سبحانه: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تعصوه فيهما.
﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٨٢] من أعمالكم عليم.
ثم قال: ﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾، يقول: إذا لم يكن الكاتب والصحيفة حاضرين، فليرتهن الذى عليه الحق من المطلوب.
﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً ﴾ فى السفر، فإن كان الذى عليه الحق، أميناً عند صاحب الحق، فلم يرتهن منه لثقته به وحسن ظنه.
﴿ فَلْيُؤَدِّ ﴾ ذلك ﴿ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾، يقول: ليرد على صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه، ثم خوفه الله عز وجل، فقال: ﴿ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ ﴾، يعنى الذى عليه الحق. ثم رجع إلى الشهود، فقال: ﴿ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَادَةَ ﴾ عند الحاكم، يقول: من أشهد على حق، فليشهد بها على وجهها كما كانت عند الحاكم، فلا تكتموا الشهادة، قال: ﴿ وَمَن يَكْتُمْهَا ﴾ ولا يشهد بها عند الحاكم.
﴿ فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ من كتمان الشهادة وإقامتها ﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٨٣].
﴿ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَاواتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق عبيده وفى ملكه، يقضى فيهم ما يريد.
﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾، يقول: إن تلنوا بألسنتكم ما فى قلوبكم من ولاية الكفار والنصيحة أو تسروه.
﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من العذاب والمغفرة ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٢٨٤].
فلما نزلت هذه الآية، قال المسلمون: يا رسول الله، إنا نحدث أنفسنا بالشرك والمعصية، أفيحاسبنا الله بها ولا نعملها؟ فأنزل الله عز وجل فى قولهم فى التقديم: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، يقول: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت.
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ من الخير وما عملته وتكلمت به.
﴿ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ﴾ من الإثم، فنسخت هذه الآية قوله سبحانه: ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ ﴾، قال النبى صلى الله عليه وسلم عند ذلك:" إن الله عز وجل تجاوز عن أمتى ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوه أو يتكلموا به ".
قوله سبحانه: ﴿ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾، يقول: صدق محمد بما أنزل إليه من ربه من القرآن، ثم قال: ﴿ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ ﴾، يقول: كل صدق بالله بأنه واحد لا شريك به.
﴿ وَ ﴾ صدق بـ ﴿ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾، يقول: لا يكفر بأحد من رسله، فكل هذه الرسل صدق بهم المؤمنون.
﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ كفعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض الكتب وببعض الرسل، فذلك التفريق، فأما اليهود، فآمنوا بموسى وبالتوراة، وكفروا بالإنجيل والقرآن، وأما النصارى، فآمنوا بالتوراة والإنجيل وبعيسى صلى الله عليه وسلم، وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن.
﴿ وَقَالُواْ ﴾، فقال المؤمنون بعد ذلك: ﴿ سَمِعْنَا ﴾ قول ربنا فى القرآن.
﴿ وَأَطَعْنَا ﴾ أمره، ثم قال لهم بعدما أقروا بالنبي صلى الله عليه وسلم والكتب: أن ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾، يقول: قولوا: وأعطنا مغفرة منك يا ربنا.
﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٢٨٥]، يقول: المرجع إليك فى الآخرة.
ثم قال سبحانه: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾، يقول: لا يكلفها من العمل إلا ما أطاقت.
﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾ من الخير وما عملت أو تظلمت به.
﴿ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ﴾ من الإثم، ثم علم جبريل النبى صلى الله عليه وسلم أن يقول: ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، يقول: إن جهلنا عن شىء أو أخطأنا، فتركنا أمرك، قال الله عز وجل: ذلك لك، ثم قال: ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً ﴾، يعنى عهداً.
﴿ كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل، وشحوم الغنم، ولحوم كل ذى ظفر، يقول: لا تفعل ذلك بأمتى بذنوبها كما فعلته ببنى إسرائيل، فجعلتهم قردة وخنازير، قال الله تعالى: ذلك لك. ثم قال: ﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا ﴾، يقول: واعف عنا من ذلك.
﴿ وَٱغْفِرْ لَنَا ﴾، يقول: وتجاوز عنا، عن ذنوبنا من ذلك كله واغفر.
﴿ وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا ﴾، يقول: أنت ولينا.
﴿ فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٢٨٦]، يعنى كفار مكة وغيرها إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: ذلك لك، فاستجاب الله عز وجل له، ذلك فيما سأل وشفعه فى أمته، وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما استكرهوا عليه، فلما نزلت قرأهن النبى صلى الله عليه وسلم على أمته، وأعطاه الله عز وجل هذه الخصال كلها فى الآخرة، ولم يعطها أحداً من الأمم الخالية. قال: حدثنا عبيد الله بن ثابت، قال: حدثنى الهذيل، عن مقاتل، قال: بلغنى أن الله عز وجل كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفى عام، فهو عنده على العرش، فأنزل منه لآيتين ختم بهما سورة البقرة: ﴿ آمَنَ ٱلرَّسُولُ... ﴾ إلى آخرها، فمن قرأها فى بيته لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ولياليهن. قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثنى أبى، عن الهذيل أبى صالح، عن مقاتل بن سليمان فى قوله:﴿ مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ﴾[البقرة: ٢٤٥]، قال:" فقال أبو الدحداح: يا رسول الله، إن تصدقت بصدقة، أفلى مثلها فى الجنة؟ قال: " نعم "، قال: والصبية معى؟ قال: " نعم "، قال: وأم الدحداح معى؟ قال: " نعم "، قال: وكان له حديقتان، إحداهما تسمى الجنة، والأخرى الجنينة، وكانت الجنينة أفضل من الجنة، قال: يا رسول الله، أشهد بأنى قد تصدقت بها على الفقراء، أو بعتها من الله ورسوله، فمن يقبضها؟ قال: وجاء إلى باب الحديقة، فتحرج أن يدخلها، إذ جعلها لله ورسوله "، فصاح: يا أم الدحداح هداك الهادى   إلى سبيل القصد والرشادبينى من الحائط الذى بالوادى   فقد مضى قرضاً إلى التنادأقرضته الله على اعتماد   طوعاً بلا من ولا ارتدادإلا رجاء الضعف فى الميعاد   فودعى الحائط وداع العادواستيقنى وفقت للرشاد   فارتحلى بالفضل والأولادإن التقى والبر خير زاد   قدمه المرء إلى المعادفأجابته: ربح بيعك، والله لولا شرطك ما كان لك منه إلا مالك، وأنشأت تقول: مثلك أحيا ما لديه ونصح   وأشهر الحق إذا الحق وضحقد منح الله عيالى ما صلح   بالعجوة السوداء والزهر البلحوالله أولى بالذى كان منح   مع واجب الحق ومع ما قد سرحوالعبد يسعى وله ما قد كدح   طول الليالى وعليه ما اجترحقال: ثم خرجت وجعلت تنفض ما فى أكمام الصبيان، وتخرج ما فى أفواههم، ثم خرجوا وسلموا الحديقة إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" كم من نخلة لأبى الدحداح مدلا عذوقها فى الجنة، لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه ".
Icon