تفسير سورة الصافات

معاني القرآن للزجاج
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب معاني القرآن وإعرابه للزجاج المعروف بـمعاني القرآن للزجاج .
لمؤلفه الزجاج . المتوفي سنة 311 هـ

سُورَةُ وَالصَّافَّاتِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١)
أكثر القراءة تبيين التاء، وقد قرئت على إدغام التاء في الصادِ.
وكذلك (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (٢)
فإن شئت أدْغمت التاء في الزاي، وإن شئت بَيَّنْتَ، وكذلك
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (٣)
(إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (٤)
أقسم بهذه الأشياء - عزَّ وجلَّ - أنَّه وَاحِدْ.
وقيل معناه ورَبِّ هذه الأشياء إنه وَاحد.
وتفسير الصافات أنها الملائكة، أي هم مطيعون في السماء
يسبحون اللَّه - عزَّ وجلَّ - فَالزاجِراتُ، رُوِيَ أن الملائكةَ تزجر
السحاب، وقيل: (فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا) كل مَا زَجَرَ عَنْ مَعْصِية اللَّه.
(فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً).
قيل الملائكةُ، وجائز أن يكون الملائكة وغيرهم أيضاً مِمنْ يَتْلُونَ
ذِكْرَ اللَّه (١).
(١) قال السَّمين:

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿والصافات صَفَّا﴾: قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد «صَفَّاً» وزاي «زَجْراً» وذال «ذِكْراً»، وكذلك فَعَلا في ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] وفي ﴿فالملقيات ذِكْراً﴾ [المرسلات: ٥] وفي ﴿العاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ﴾ في سورة النساء [الآية: ٨١]، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك.
ومفعولُ «الصَّافَّات» و «الزَّاجراتِ» غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء «صَفَّاً» مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ. قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ [النور: ٤١]، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد:
٣٧٨٩ زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا... أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا «والتاليات» فَيجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: «الفاءُ في» فالزَّاجراتِ «» فالتالياتِ «: إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه:
٣٧٩٠أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا... بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك:»
رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين «فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً، أو على العكس» يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ/ قولُه: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾. وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (٥)
قيل المشارق ثلاثمائة وستون مشرقاً، ومثلها مِنَ المَغَاربِ.
* * *
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦)
(بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ)
على إضافة الزينة إلى الكواكب، وعلى هذا أكثرُ القِراءَةِ، وقد
قرئت بالتنوين وَخَفْضِ الْكَوَاكِبِ، والمعنى أن الكَواكِبَ بدل من
الزينة.
المعنى إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب، ويجوز بِزِينةٍ الكَواكِبَ.
وهي أقل ما في القراءة على معنى بأن زينا الكَواكِبَ.
ويجوز أن يكون الكواكب في النصْبِ بَدَلاً من قوله بزينةٍ، لأن " بِزينةٍ "
في موضع نصب، ويجوز بزينةٍ الكواكبُ.
ولا أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها، فلا تقرأن بها.
إلا أن ثبتت بها رواية، لأن القراءة سنة.
ورفع الكواكب على معنى أنا زينا السماء الدنيا بأن زَينتها الكواكبُ.
وبأن زُيِّنَتِ الكَوَاكِبُ (١).
* * *
وقوله: (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧)
على معنى وحفظناها من كل شيطانٍ مَارِدٍ، على معنى وَحَفِظْناها
حِفظاً من كل شيطان مارد.
يُقْذَفونَ بها إذا استرقوا السَّمعَ.
* * *
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨)
(لَا يَسْمَعُونَ)
ويقرأ بالتشديد (يَسَّمَّعُونَ) على معنى يتسمَّعُونَ (٢).
* * *
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا)
أي يُدْحَرُونَ أي يُبَاعَدُونَ.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿بِزِينَةٍ الكواكب﴾: قرأ أبو بكر بتنوين «زينة» ونصب «الكواكب» وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون «الكواكبُ» على هذا منصوبةً بإضمارِ «أَعْني»، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل «بزينة».
وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.
والباقون بإضافةِ «زينة» إلى «الكواكب». وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع «الكواكب» به، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكبُ» بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ﴾ [البلد: ١٤] كما سيأتي إن شاء الله. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ﴾: قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: «لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب» إلى «. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي:» لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب «إلى» تَعَدَّى سَمِع ب «إلى» وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «.
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالاً، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قيل دائم وقيل موجع.
* * *
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠)
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ) - بفتحِ الطاء وكسرها، يقال خَطِفْتُ أَخْطَفُ.
وخطَفْتُ أَخْطِفُ، إذا أخذت الشيء بسرعة، ويجوز إلا من خَطَّفَ
بتشديد الطاء وفتح الخاء. ويجوز خِطَفَ. بكسر الخاء وفتح الطاء.
والمعنى اختطف، فأدغمت التاء في الطاء وسقطت الألف لحركة
الخاء، فمن فتح الخاء ألقى عليها فتحة التاء التي كانت في اختطف.
ومن كسر فلسكونها وسكون الطاء.
فأما مَنْ روى خِطِفَ الخطفة - بكسرالخاء والطاء - فلا وجه له إلا وجهاً ضعيفاً جداً يكون على اتباع الطاء كسر الخاء (١).
* * *
(فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ).
يقال تَبِعْتهُ وَأَتْبَعْتهُ، واتَّبَعْتُه، إذا مَضَيْتُ في أثره.
و (شِهَابٌ ثَاقِبٌ) كوكب مُضَيءٌ.
* * *
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (١١)
أي سَلْهم سؤال تَقْرِيرٍ.
(أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) من الأمم السالفة قبلهم وغيرهم من
السماوات والأ رضين.
(مِنْ طِينٍ لَازِبٍ).
ولازم ومعناهما واحد، أي لازق (٢).
* * *
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢)
وتقرأ (عَجِبْتُ) - بضم التاء - ومعناه في الفتح بل عجبتَ يَا مُحمد
مِن نُزُول الوحي عليك وَيَسْخَرون، ويجوز أن يكون معناه بل عجبتُ (٣)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ﴾: فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ «لا يَسَّمَّعون» وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون «مَنْ» شرطيةً، وجوابُها «فَأَتْبَعَه»، أو موصولةً وخبرُها «فَأَتْبَعَه» وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ [الغاشية: ٢٢ - ٢٣]. والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية.
وقرأ العامَّةُ «خَطِفَ» بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ.
وقرأ ابن عباس «خَطِفَ» بكسر الخاء والطاء خفيفةً، وهو إتْباعٌ كقولِهم: نِعِمَ بكسر النون والعين. وقُرئ «فاتَّبَعَه» بالتشديد. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾: العامَّةُ على تشديدِ الميم، الأصلُ: أم مَنْ وهي أم المتصلةُ، عُطِفَتُ «مَنْ» على «هم». وقرأ الأعمش بتخفيفها، وهو استفهامٌ ثانٍ. فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ، وخبره محذوفٌ أي: ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب «مَنْ». ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً. وقد قُرئ «لازم». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٣) قال السَّمين:
قوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾: قرأ الأخَوان بضمِّ التاء، والباقون بفتحها. فالفتحُ ظاهرٌ. وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك. وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي: قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها، وقال: «إنَّ الله لا يَعْجَبُ» فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال: «إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه» يعني عبد الله بن مسعود.
قوله: «ويَسْخَرون» يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ، وأن يكونَ حالاً. وقرأ جناح بن حبيش «ذُكِروا» مخففاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
من إنكارِهم البعث.
ومن قرأ (عَجِبتُ) فهو إخبار عن اللَّه. وقد أنكر قومٌ هَذهِ القراءةَ.
وقالوا: اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يعجب، وإنكارهم هذا غلط.
لأن القراءة والرواية كثيرة والعجب من اللَّه - عزَّ وجلَّ - خلافُهُ من
الآدميين كما قال: (وَيَمْكُرُ اللَّهُ)، و (سَخِرَ اللَّهُ منهم)، (وَهُوَ خَادِعُهُمْ). والمكر من اللَّه والخداع خلافه من الآدميين.
وأصل العجب في اللغة أن الإنسان إذا رأى ما ينكره ويقل مثله قال:
عجبت من كذا وكذا، وكذا إذا فعل الآدميون ما ينكره اللَّه جاز أن يقولَ فيه عجبتُ واللَّه قد علم الشيء قبل كونه، ولكن الإنكار إنما يقع والعجب
الذي يلزم به الحجة عند وقوع الشيء.
* * *
(وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤)
أي إذا رأوا آية معجزة استسخروا واستهزأوا.
* * *
(وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥)
فجعلوا ما يدل على التوحيد مِما يَعجِزون عنه سحراً.
نحو انشقاق القَمَر وما أشبهه.
* * *
وقوله: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦)
ويجوز (إِنَّا)، فمن قرأ (إِنَّا) اجتزأ - بألف الاستفهام.
والمعنى في الوجهين أَنُبْعَثُ إذا كنا تراباً وعظاماً، وتفسيره لمبعوثون.
* * *
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨)
المعنى قل نعم تُبْعَثُونَ وَأَنْتُم صَاغرُونَ، ثم فسر أن بعثهم يقع
بزجرة واحدة بقوله:
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩)
أي يحيون ويبعثون بُصَرَاءَ ينظرون.
* * *
(وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠)
والويل: كلمة يقولها القائل وقت الهلكة.
ومعنى (هَذَا يَوْمُ الدِّينِ).
يوم الجزاء، أي يَومٌ نُجازى فيه بأعمالنا، فلما قالوا هذا يوم
الدين قيل لهم نعم:
(هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١)
أي هذا يوم يفصل فيه بين المحسن والمسيء، ويجازى كل
بعَمَلِه، وبما يتفضل اللَّه به على المسلم.
* * *
(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢)
معناه ونظراءهم وضرباءهم، تقول عندي من هذا أزواج، أي
أمثال، وكذلك زوجان من الخفاف، أي كل واحد نظير صاحبه.
وكذلك الزوج المرأة والزوج الرجل، وقد تناسبا بعقد النكاح.
وكذلك قوله: (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨).
* * *
(فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣)
يقال: هديت الرجل إذا دللته، وهديت العروس إلى زوجها.
وأهديت الهديَّة، وكذلك تقول في العروس: أهديتها إذا جعلتها
كالهديَّة.
وقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)
أي احبسوهم.
* * *
(مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥)
قوله: (لَا تَنَاصَرُونَ) في موضع نصب على الحال، المعنى ما لكم
غير مَتَنَاصِرين.
* * *
(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٧)
أي يُسَائِلُ بعضُهم بعضاً.
* * *
(قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨)
هذا قول الكفار للذين أضلوهم. كنتم تخدعوننا بأقوى
الأسباب، أي كنتم تأتوننا من قبل الدِّين فَتُرُوننا أن الدِّينَ والحقَّ ما
تضلوننا به [وتُزَيِّنُون لنا ضلالتنا] (١).
* * *
(قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩)
أي إنما الكفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
* * *
(فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١)
حِقت علينا كلمة العذاب.
(إِنَّا لَذَائِقُونَ).
أي إن الجماعة، المضِل والضال في النارِ.
* * *
(فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢)
(١) زيادة حكاها صاحب اللسان عن الزجاج. اهـ (لسان العرب. ١٣/ ٤٥٨).
أي أضْلَلْنَاكُمْ إنا كنا غَاوينَ ضَالين.
* * *
(إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤)
المجرمون المشركون خاصة.
* * *
(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
يعني عن توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ، وألَّا يَجْعَلُوا الأصْنَامَ آلِهة.
* * *
(يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥)
الكأس الإناء إذا كانت فيه خمر فهو كأس، ويقَعُ الكأسُ لكلِ إناء مع
شَرَابِهِ [فإن كان فارغاً فليس بكأس] (١).
(مِنْ مَعِينٍ).
أي من خمر تجري كما يجري الماء عَلَى وجه الأرض مِنَ العُيُونِ.
* * *
(بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦)
أي ذَاتَ لَذةٍ.
* * *
(لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)
لا تغْتَالُه عُقُولَهُم، لا تذْهبُ بِها، ولا يُصِيبهُم منها وجع.
(وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ).
(يُنْزِفُونَ) - بفتح الزاي وكسرها.
فمن قرأ " يُنْزَفُونَ " فالمعنى لَا تَذْهَبُ عقولهم بشربها، يقال للسكران نزيف ومنزوف.
ومن قرأ يُنْزِفونَ، فمعناه لا يُنْفِدُونَ شَرابَهم، أي هو دائم أبداً لهم.
ويجوز أن يكون يُنْزِفُونَ يَسْكَرُونَ.
قال الشاعر:
(١) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. ٧/ ٥٦).
لَعَمْرِي لئنْ أَنْزَفْتُمُ أَو صَحَوتُمُ... لبئسَ النَّدامَى كنتمُ آلَ أَبْجَرا
* * *
(وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨)
أي عندهم حُورٌ قد قصرن طرفَهن أي عُيونَهُن عَلَى أَزْوَاجِهِن.
(عِينٌ) كِبَارُ الأعَيْنِ حِسَانُها. الواحدة عيناء.
* * *
(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩)
أي كأنَّ ألوانهن ألوانُ بيض النعَامِ.
(مَكْنون)، الذي يكِنه رَأْسُ النعَامِ.
ويجوز أن يكون مكنون مَصُون، يقال كننت الشيء إذا سترته، وصُنْتَهُ، فهو
مَكْنونٌ، وأكْنَنْتَهُ إذَا أَضْمَرْتَه في نفسك.
* * *
(يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢)
(الْمُصَدِّقِينَ)
مخففة من صَدَّقَ فهو مُصَدِّق، ولا يجوز ههنا تشديد الصاد، لأن
المصَّدِّقين الذين يعطون الصدقة.
و (الْمُصَدِّقِينَ) الذين لا يُكذِبون، فالمعنى كان لي قرين يقول أئنك مِمن يُصَدِّق بالبعْث بَعدَ أن تَصِيرَ تُراباً وعظاماً، فأحبَّ
قرينُه المسلم أن يراه بعد أن قيل له: (هَلْ أنتُم مُطَّلِعُونَ).
أي هل تحبون أن تطلِعُوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار.
* * *
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
فاطلع المسلم فرأى قرينه الذي كان يكذب بالبعث في سَواء الجحيم.
أي في وسط الجحيم، وسواءكل شيء وسَطُه.
ويقرأ: هَلْ أَنْتُمْ مُطْلِعُونَ - بفتح النون وكسرها وتخفيف الطاء -
فمن فتح النُونَ مع التخفيف فقال " مُطْلِعُونَ " فهو بمعنَى طَالِعُون ومُطلِعُونَ، يقال طلعت عليهم وأطْلَعْتُ واطَّلَعْتُ بمعنًى
ومن قرأ مُطْلِعُون - بكسر النون قرأ " فَأُطْلِعَ " ومن قرأ بفَتْح النونِ
" مُطْلِعُونَ " وجب أن يقرأ فأُطْلَعَ.
ويجوز ُ " فَأُطْلِعَ " على معنى هل أنتم مُطْلِعُونَ
أَحَداً، فأمَّا الكسر للنون فهو شاذ عند البصريين والكوفيين جميعاً وله عند
الجماعة وجه ضعيف وقد جاء مثله في الشعر:
هم القائلون الخير والأمرونه... إذا ما خَشَوْا مِن مُحَدث الأمرْ معظما
وأنشدوا:
وما أدري وظني كل ظَني... أَمُسْلِمُني إلى قومي شَرَاحِ
والذي أَنْشَدَنَيه محمد بن يزيد: أَيُسْلَمِنُي إلى قومي، وإنما الكلام
أمُسْلِمِي وَأَيُسْلِمُنِي، وكذلك هم القائلون الخير والأمروه، وكل أسماء الفاعلين إذا ذكرت بعدها المضمر لم تذكر النون ولا التنوين.
تقول: زَيْد ضَارِبي وهما ضارباك ولا يجوز وهو ضاربُني، ولا هم ضاربونك. ولا يجوز هم ضاربونك عندهم إلا في الشعر إلا أنه قد قُرِئ بالكسر:
(هلْ أَنْتُم مُطلِعُون) على معنى مطلعوني، فحذفت الياء كما تحذف في رؤوس الآي، وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
وهو في النحو - أعني كسر النون - على مَا أَخْبَرْتُكَ، والقراءة قليلة
بها، وأجودُ القراة وأكثرها مُطَّلِعُونَ - بتشديد الطاء وفتح النون - ثم الذي يليه مُطْلِعُونِ بتخفيف الطاء وفتح النون (١).
* * *
(قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦)
(١) قال السَّمين:
وقرأ العامَّةُ «مُطَّلِعُوْنَ» بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ. «فاطَّلَع» ماضياً مبنياً للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع.
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول. و «مُطْلِعُوْنَ» على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعدياً، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم.
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار «مُطْلِعُوْنِ» خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، «فَأُطْلِعَ» مبنياً للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك:
٣٨٠٦ وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ... أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
وإليه نحا الزمخشريُّ قال: «أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال:» يُطْلِعُونِ «. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهاً آخر فقال:» أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله:
٣٨٠٧ هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه...........................
ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: «هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي» قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر:
٣٨٠٨ فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني... وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
وقول الآخر:
٣٨٠٩ وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ... صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنويناً، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه:
وليس بمُعْيِيْني...............................................
وبقوله أيضاً:
٣٨١٠ وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً... فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن.
ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: «والآمِرُوْنَه» وفي قولِه:
٣٨١١ ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه... جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها. وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ». قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة.
وقُرِئ «مُطَّلِعُوْن» بالتشديد كالعامَّة، «فأَطَّلِعَ» مضارعاً منصوباً بإضمار «أَنْ» على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ «مُطْلِعون» بالتخفيف «فَأَطْلَعَ» مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد.
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في «لوامحه» فقال: «طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك».
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: «قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه:» أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به «فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت:» زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ «تريد: به أو عليه لم يَجُزْ». قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(تَاللَّهِ) معناه واللَّه، والتاء بدل من الواو، لترْدِينِ أي لتهلكني، يقال رَدِيَ
الرجُلُ يَرْدَى رَدًى إذَا هَلَكَ، وَأَرْدَيْتُه أَهْلَكتُه.
* * *
(وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧)
أي أُحْضَرَ العذاب كما أُحُضِرتَ.
* * *
(أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢)
المعنى أنعيم الجنة وطعامها خير نزلاً أم شجرة الزقوم خَيْرٌ نُزُلًا.
والنزُلُ: ههنا الرَّيْعُ والفضْلُ، @تقول: هذا طعام له نُزُل ونُزْل بتسكين الزَّاي وَضمها وَنَزَل، ويكون ذلك خير نُزُلاً؛ أي أذلك خير في باب الإنْزَال التي تُتَقوَّتُ ويمكن معها الإقامةُ - أَمْ نُزُلُ أهل النارِ.
وإنما قيلَ لَهمْ فيما يقام للناس من الأنزال أقمت لهم نُزُلَهُمْ أي غذاءهم، وما يصلح معه أن ينزلوا عليه.
* * *
ومعنى: (إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣)
عبرةً للظالمين، أي خبرةً افتتنوا بها، وكذبوا بها فصارت فتنة لهم.
وذلك أنهم لما سمعوا أنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالُوا: الشجر
يحترق بالنارِ، فكيف ينبت الشجر في النار فافتتنوا وكذبوا بذلك.
* * *
(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥)
فيه ثلاثة أقوال: قيل الشياطين حيات لها رءوس فشُبِّه طَلْعُهَا برءوس
تلك الحيات، وقيل رءوس الشياطين نبت معروف.
وقيل وهو القَوْل المعروفُ أن الشيء إذا استقبح شُبِّهَ بالشيطان، فقيل: كأنَّه وجه شيطانٍ، وكأنه رأسُ شيطان، والشيطان لا يُرى، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء، لو رُئِيَ لرئي في أقبح صورة.
قال امرؤ القيس:
أَيَقْتُلُني والمَشْرَفِيُّ مُضاجِعي ومَسْنونةٌ زُرْقٌ كأَنيابِ أَغوالِ؟
ولم يُرَ الغولُ قط ولا أنيابُها ولكن التمثيل بما يستقبح أبلغ في باب
المذكر، يمثل بالشيطان وفي باب ما يستقبح في المؤنث يشبه بالغول (١).
* * *
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧)
أي لخلطاً ومِزَاجاً، ويُقْرأ (لَشُوباً مِنْ حَمِيم)، الشوْبُ المصدر، والشوبُ
الاسمُ، والخَلْطُ: المخلوط (٢).
* * *
(فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠)
أي هم يَتْبعُونَ آثارَهم اتباعاً في سُرْعةٍ، ويقال (يُهْرَعُون) كأنهم يزعجونَ
من الإسراع إلى اتباع آبائهم، يقال هُرِعَ وأهرع في معنًى واحدٍ إذا اسْتُحِثَّ
وَأَسْرَعَ.
* * *
وَقَولَه: (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
المخلصين الذين أخلَصَهُم اللَّه واصطفاهم لعبادَتِه..
ويقرأ المُخْلِصِين أي الموَحِّدِينَ.
* * *
(وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥)
أي دعانا بأن ننقذه من الغرق، والمعنى فلنعم المجِيبون نَحْنُ.
* * *
(وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
يعني كرب الغَرَقِ الذي هو عذاب.
* * *
(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿رُءُوسُ الشياطين﴾: فيه وجهان، أحدهما: أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى «الأسْتَن» وقد ذكره النابغةُ:
٣٨١٢ تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها... مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال:
٣٨١٣ عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ... كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة:
٣٨١٤ مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها... من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.
والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله:
٣٨١٥.............................. ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة ألبتَّةََ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿لَشَوْباً﴾: العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ «لَشُوباً» بالضمِّ. قال الزجاج: «المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب» كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب «ثمَّ» لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب «ثم» المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و «مِنْ حميمٍ» صفةٌ ل «شَوْباً». والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
لما جاء الطوفان لم يبق ألا نُوحَ وذُرئتُهُ، والخلق الباقون من ذُرئةِ نوح.
* * *
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨)
أي تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر قوله:
(سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩)
المعنى تَرَكنَا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة.
* * *
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣)
أي من شيعة نوح، من أهلِ مِلَّتِه يعني نوحاً.
* * *
(إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤)
جاء في التفسير سليم من الشرك، وهو سليم من الشرك ومن كل
دَنسٍ.
* * *
(فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧)
قال إبراهيم لقومه - وهم يعْبُدُون الأصْنَامَ: أي شيءٍ ظنكم بِرَبِّ
العالمين وأنتم تعبدون: غيره.
وموضع (ما) رفع بالابتداء، والخبرُ (ظَنُّكُمْ).
* * *
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩)
قال لقومه وقد رأى نجماً إني سَقِيمٌ، فأوهمهم أن الطاعُونَ بِهِ.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠)
فِراراً من أن يُعْدَىْ إليهم الطاعونُ، وإنما " قال إني سَقِيمٌ، لأن كل
واحد وأن كانَ مُعَافىً فلا بد مِن أَنْ يَسْقَم ويموت، قال اللَّه تعالى:
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠).
أي إنك ستموت فيما يستقبل، وكذلك قوله:
(إِنِّي سَقِيمٌ) أي سأسْقَم لا محالة.
وقد روي في الحديث: لم يكذب إبراهيم إلا في ثَلَاثةٍ، وَقَدْ فَسَّرنَا ذَلِك، وأن هذه الثلاث وقعت فيها معارضة في قوله:
(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).
على معنى: إنْ كَانُوأ يَنْطِقون فَقَدْ فَعَله كَبِيرُهُمْ
وقوله: " سَارَّةُ أخْتِي "، أي أختي في الإسلام.
وقوله: (إِنِّي سَقِيمٌ) على ما فسَّرنا.
* * *
(فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣)
معنى راغ عليهم مال عليهم، وضرباً مصدر، المعنى فمال عَلَى الأصنام
يضربُهُمْ ضرباً بِالْيَمِينِ، يحتمل وجهين (١):
بيمينه، وبالقوة والمكانة.
وقال: (عَلَيْهم) وهي الأصنام لأنهم جعلوها معبودةً بمنزلة ما يميز كما قال: (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
* * *
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤)
يعني قوم إبْرَاهِيم.
(يَزِفُّونَ) يُسْرِعُونَ إلَيْهِ. ويقرأ على ثَلاثةِ أوْجُهٍ (٢).
(يَزِفُّونَ) - بفتح الياء وُيزِفُّونَ - بِضَفمهَا، وَيزِفُونَ - بتخفيف الفاء.
وأَعْرَبُها كُلُّها (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وتشديد الفاء، وأصله من زفيف النعام، وهو ابتداء عَدْوِهَا، يقال زَفَّ النعام يَزِفُّ.
ويُقْرَأ يُزِفُّون أي يصيرون إلى الزفِيفِ.
ومثله قول الشاعر:
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أَن يَسُودَ جِذاعَه... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذلَّ وأُقْهِرا
معنى أَقْهَرَ صار إلى القَهْرِ.
وكذلك يُزِفونَ.
فأما يَزِفُونَ - بالتخفيف فهو من وَزَفَ يَزِفُ، بمعنى أَسْرَع، ولم يَعْرِفُهُ الفَرَّاء، ولا الكِسَائِى، وعَرفَه غيرُهمَا.
* * *
وقوله: (قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧)
(١) قال السَّمين:
و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ﴾ [الأنبياء: ٥٧]. والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿يَزِفُّونَ﴾: حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا»، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان».
وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
كل نار بعضُها فوق بَعض، وهي جَحْمٌ.
* * *
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
يقول: هب لي ولداً صَالِحاً من الصالِحِينَ.
* * *
(فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)
وهذه البِشَارَة تدل على أنه غلام وأنه يبقى حتى يُوصفَ بالحلم.
* * *
(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ
(١٠٢)
أي أدرك معه العَمَل، يقال إنَّه قد بلغ في ذلك الوقت ثلاث عشرة سنة.
(قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى).
تقرأ غَيْرَ مماله، وَ (تَرَى) - مُمَالَة، - و (تُرِي) - بلا إمالة، - وتُرِي - بالإمالة -
و (ماذا تُرَى) ففيها خمسة أوجه (١):
ترى - بالفتح وبالكسر.
وكذلك في تُرِي وتُرَى،. وفيها خمسة أوجه أخر لم يقرأ بشيء منها، فَلَا تقرأنَّ بها، وهو أن تأتي الخمسة التي ذكرناها ممالة وغير ممالة بغير همز فتهمزها كلها، فما كان مُمَالاً هَمِزَ وأمال، وما لم يكن مُمَالاً أمال ولم يهمز.
ويجوز ماذا تَرْأَى ممال.
وماذا تُرْئِي، وماذا تُرْأَى، وماذا تَرَى وَمَاذا تُرَى.
فمعنى ماذا تَرأَى وتُرْئي من الرأي، ومعنى ماذا تُرَى مَاذَا تُشِيرُ.
وَزَعَم الفراء أن معناه مَاذَا تُرِيني من صَبْرِكَ، ولا أعلم أحَداً قَالَ هَذَا.
وفي كل التفسير ما تُرِي ما تشير.
* * *
قال: (يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُومَرُ).
ورؤية الأنبياء في المنام وحيٌ بمنزلة الوحي إليهم في اليقظة.
وقد فَسَّرْنَا يا أَبَهْ، وإعرابَهُ فيما سَلَفَ من الكتاب.
(١) قال السَّمين:
قوله: «ماذا ترى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب «تَرَى»، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب «انْظُر» لأنها مُعَلِّقةٌ له، وأنْ تكونَ «ما» استفهاميةً، و «ذا» موصولةً، فتكون مبتدأً وخبراً، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً، وأَنْ تكونَ «ماذا» بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل «انْظُرْ». وقرأ الأخَوان «تُري» بالضم والكسر. والمفعولان محذوفان، أي: تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك.
وباقي السبعة/ «تَرَى» بفتحتين مِن الرأي. وقرأ الأعمش والضحَّاك «تُرَى» بالضمِّ والفتح بمعنى: ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك.
وقوله: «ما تُؤْمَرُ» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ أي: تُؤْمَرُه، والأصلُ: تُؤْمَرُ به، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك: «جاء الذي مَرَرْتُ». وأَنْ تكونَ مصدريةً. قال الزمخشري: «أو أَمْرَك، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً» يعني بقولِه المفعول أي: الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ).
يَقول على أمر اللَّه.
* * *
(فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣)
أسْلَما اسْتَسْلَمَا لأمر اللَّه.
رضي إبراهيم بأن يذبح ابنه، ورضي ابنه بأن يُذبَح تصديقاً للرؤيا وطاعة للَّهِ.
واختلف الناس في الذي أمر بذبحه مَنْ كانَ، فقال قوم إسحاق.
وقال قوم إسماعيل.
فأمَّا من قال إنه إسحاق، فعليٌّ رحمة اللَّه عليه وابنُ مَسْعُودٍ وكعب
الأحبار، وجماعة من التابعين.
وأما من قال إنه إسماعيل فابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين.
وحجة من قال إنه إسماعيل قوله: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢).
وَحُجة من قال إنَّه اسحاق، قال: كانت في إسحاق بشارتان الأولى فبشرناه
بغُلام حَلِيم.
فلما استسلم للذبح واستسلم إبراهيم لذبحه بُشِرَ به نبيًّا من
الصالحين.
والقول فيهما كثير واللَّه أعلم أيهما كان الذبيح.
فأمَّا جواب (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صَرَعَهُ.
فقد اختلف الناس فيه
فقال قوم جوابه وناديناه، والواو زائدة، وقال قوم إن الجواب محذوف بأن في الكلام دليلاً عليه.
المعنى فلما فعل ذلك سعِدَ وأتاه اللَّه نبوة وَلَدِه وأجزلَ لَهُ
الثواب في الآخرة.
* * *
(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧)
الذِّبح: بكسر الذال الشيءُ الذي يُذْبَح، والذَّبْح المصدر، تقول: ذبحته
أذْبَحُه ذَبْحاً.
وقيل إنه الكَبْشُ الذي تُقُبِّلَ من ابن آدم حين قرَّبَه، وقيل إنَّه رَعَا
في الجنة أربعين سنة، وقيل إنَه كان وَعِلًا من الأوْعَالِ.
والأوعال التيوس الجبليَّةُ.
* * *
(وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥)
قيل من الغرَقِ كما فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِه.
* * *
(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣)
جاء في التفسير أنه إدريس، ورويت عنِ ابن مَسْعُودٍ أنه قرأ: وإن
إدريس، ورويت سلام على إدْرَاسِين (١).
* * *
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥)
قيل إن بعلًا كانوا يعبدونه، صنماً من ذهب، وقيل إن بعلاً تعني، رَبًّا (٢).
* * *
(اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦)
وقرئت (اللَّهَ رَبَّكُمْ) على صِفَةِ أحْسَنِ الخَالِقِينَ اللَّهَ.
وقرئت: (اللَّهُ رَبَّكُمْ) عَلَى الابثداء والخبر.
* * *
(سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠)
(سَلامٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ).
وقُرئت إلْيَاس. فمن قرأ بالوصل فموضع إلياسين جمعٌ، هو وأمته
المؤمنون، وكذلك يجمع مَا يُنْسَب إلى الشيء بلفظ الشيء، تقول: رأيت
المَسامِعَة والمَهَالِبةَ، تريد بني المهَلَّب وبنيْ مِسْمَع، وكذلك: رأيت المهلبين
والمِسْمَعِين.
وفيها وجه آخر تكون فيه لغتان إلياس وإلياسين كما قال ميكال
وميكائيل (٣).
* * *
وقوله: (إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٣٥)
يعني في البَاقِينَ.
* * *
وقوله: (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠)
(أَبَق) هَرَبَ إلى الفلك المشحون، والمشحون المملوء.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ﴾: العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب «وإنَّ إدْريس». وقُرِئ «إدْراس» كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: «وإن إيْليسَ» بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿بَعْلاً﴾: القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ «بَعْلاءَ» بزنة حَمْراء.
قوله: «وتَذَرُوْنَ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفاً على «تَدْعُون» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٣) قال السَّمين:
قوله: ﴿على إِلْ يَاسِينَ﴾: قرأ نافعٌ وابن عامر ﴿على آلِ يَاسِينَ﴾ بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ». والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال:
٣٨٢٠ قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن». إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس». وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١)
(فَسَاهَمَ) قارع، و (الْمُدْحَضِينَ) المَغْلوِبينَ.
لما صَارَ يونس في السفينة فلم تَسِرْ فقارَعَهُ أهل السفينة، ووقعت عليه
القرعة فخرج منها وألقى نَفْسَهُ فى البحر.
* * *
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢)
وهو السمكة، ولما خرج من السفينة سَارَتْ.
(وَهُوَ مُلِيمٌ).
قد أتى بما يلام عليه، يقال: قد أَلَامَ الرجلُ فهو مُليم، إذا أتى ما يجب
أن يلام عليه.
* * *
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣)
منَ المُصَلِّين.
* * *
(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
جاء في التفسير أنه لبث أربعين يوماً، وقال الحسن لم يَلْبَثْ إلا قَليلاً
وأخرج من بطنه بُعَيْدَ الوقت الذي التقِمَ فيه.
* * *
(فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥)
يعني بالمكَان الخالي، والعراء عَلَى وجْهَيْن، مَقْصُورٌ وَمَمْدُودٌ.
فالمقصور الناحِيَة، والعزاء ممدود المكان الخالي.
قال أَبُو عُبَيدَةَ وغَيْرُهُ: إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه، ولا شيءَ يُغَطيه، وقيل إن العراء وجه الأرْض.
ومعناه وجه الأرض الخالي، وأنشدوا:
وَرَفَعْتُ رِجلاً لا أَخافُ عِثارَها... ونَبَذْتُ بالبَلَدِ العَراء ِثيابي
(وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦)
كل شجرة لا تنبت على ساقٍ، وإنَّمَا تمتد على وجه الأرض - نحو
القَرْعِ والبطيخ والحنظل - فهو يقطين.
وأحسب اشتقاقها من قَطَنَ بالمكان إذا أقام به، فهذا الشجر كله على وجه الأرض، فلذلك قيل يقطين.
* * *
(وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧)
قال غير واحد معناه بل يزيدون.
قال ذلك الفراء وَأَبُو عبيدة وقال غيرهما معناهُ أَو يزَيدونَ فِي تَقْدِيركم أنتم إذا رآهم الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة
وهذا على أصل (أو).
وقال قوم: معناها معنى الواو. و (أو) لا تكون بمعنى الواو، لأن الواو
معناها الاجتماع، وليس فيها دليل أن أحد الشيئين قبل الآخر.
و (أَوْ) مَعناها إفراد أحد شيئين أو أشياء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩)
أي سلهم مسألة توبيخ وتقرير، لأنهم زعموا أن الملائكة بنات اللْه
تعالى اللَّه عَنْ ذَلِكَ.
* * *
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠)
معناه بل أَخَلَقْنَا الملائكة إِنَاثًا -.. (وَهُمْ شَاهِدُونَ).
* * *
(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣)
هذه الألف مفتوحة، هذا الاختيار، لأن المعنى سَلْهُمْ هل أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ، فالألف ألف استفهام. ويجوز اصطفى على أن يكون
حكاية عن قولهم ليَقُولًونَ اصطفى.
وفتح الألف وقطعها أجود على أأصطفى.
ثم تحذف ألف الوصل (١).
* * *
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨)
الْجِنَّة هَهُنَا المَلَائِكَةُ.
* * *
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ).
أي: وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ وهم الملائكة أن الذين قالوا: ولد اللَّه...
لمُحْضَرونَ العَذَابَ.
* * *
(سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)
تنزيه اللَّه من السوء عن وَصْفِهِم.
* * *
(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢)
أي ما أنتم بمضلين عليه ألا مَنْ أَضَل اللَّهُ.
* * *
(إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣)
أي لستم تضلون إلا أَهلَ النَّارِ، وقرأ الحَسَنُ " إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ "
بضم اللام، والقراءة بكسر اللام، على معنى صالي.
والوقف عليها ينبغي أن يكون بالياء، ولكنها محذوفة في المصحف.
ولقراءة الحَسنِ وجْهَان:
أحدهما أن يكون أراد صالونَ الجحيم فحذفت النونُ للإضافة وحذفت الواو لسكونها وسكون اللام من الجحيم، ويَذْهَبُ بِـ (مَنْ) مَذْهَبَ الجِنْسِ، أي بالجنس الذين هم صالوا الجحيم، ويجوز أن يكون صَالُ في معنى صائل، مفعول من صَالَى، مثل جرف هارٍ أي هائرٍ، والقراءة التي هي الإجماع كسر اللام (٢).
* * *
(وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿أَصْطَفَى﴾: العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة:
٣٨٢٤ ثم قالُوا: تُحِبُّها قلتُ بَهْراً... عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي «وَلَدَ اللَّهُ» أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: «وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ. وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ. والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها، وذلك قولُه:» وإنهم لَكاذبون «، ﴿مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ». قال الشيخ: «وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم:» وَلَدَ اللَّهُ «. وأمَّا قولُه:» وإنهم لَكاذبون «فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم».
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «آصْطفى» بالمدِّ. قال: «وهو بعيدٌ جداً». اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(٢) قال السَّمين:
وقرأ العامَّةُ «صالِ الجحيم» بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ «مَنْ» فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ «مَنْ» أولاً فأفردَ في قوله «هو»، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله: «صالُو» وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: ﴿إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] فأفرد في «كان» وجُمِعَ في هوداً. ومثله قولُه:
٣٨٢٥............................ وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً. وكثيراً ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه «يَقُضُّ الحق» في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك ﴿واخشون، اليوم﴾ [المائدة: ٣]. ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد.
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالاً، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ «صال» فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ «وله الجوارُ» برفع الراءِ، ﴿وَجَنَى الجنتين دَانٌ﴾ برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ. وقالوا: ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة. وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ﴾ فيمَنْ قرأه برفع الشين. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
هذا قول الملائكة، وههنا مضمر، المعنى مَا مِنا مَلَك إلا له مقام
معلوم.
* * *
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
أَيْ نحن المصلونَ.
* * *
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦)
المُمَجِّدون للَّهِ، الذين ينزهُونَه عَنِ السوءِ.
* * *
(وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩)
كان كفار قريش يقولون لو جاءنا ذكر كما جاء غيرنا من الأولين لأخْلَصْنا
العبادة للَّهِ عزَّ وَجَل، فلما جاءهم كفروا به.
* * *
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
أي سوف يعلمون مَغَبَّةَ كفرهم، وما ينزل بِهم من العذاب والانتقام
منهم في الدنيا والآخرة..
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)
أي تقدم الوعدُ لهم باأنَّ اللَّه ينصرهم بالحجة وبالظفر بِعَدُوهِمْ في
الدنيا، والانتقام من عدوهم في الآخرة.
* * *
(وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)
حزب اللَّه لَهُمُ الغَلَبة.
* * *
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤)
حتى تنقضي المدةُ التي أُمْهِلُوا إليها.
(فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧)
نزل بهم العَذَابُ، وكان عذاب هؤلاء في الدنيا القَتْل.
وقوله: (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ)
أي فبئس صباح [الذين أنذروا العذاب] (١).
* * *
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)
فيه ثلاثة أوجه، فمن نصب فعلى مدح اللَّه عزَّ وَجَلَّ.
ومن قرأ بالرفع فعلى المدح أيضاً على معنى هُوَ رَبُّ الْعِزَّةِ.
ومن خفض فعلى قوله رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ.
وفي النصب أيضاً أعني رَبَّ الْعِزَّةِ، واذكر ربَّ الْعِزَّةِ (٢).
(١) زيادة حكاها ابن الجوزي عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. ٧/ ٩٤).
(٢) قال السَّمين:
قوله: ﴿رَبِّ العزة﴾: أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزَّة كما تقول: صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به. وقيل: المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه. ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين. فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
Icon