تفسير سورة الممتحنة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

والكفار، حرصا على وحدة الأمة والملة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً....
النهي عن موالاة الكفار
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
الإعراب:
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تُلْقُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو.
لا تَتَّخِذُوا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ملقين. وكذلك: وَقَدْ كَفَرُوا.. حال من واو لا تَتَّخِذُوا.
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا... جِهاداً فِي سَبِيلِي يُخْرِجُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو كَفَرُوا. وأَنْ تُؤْمِنُوا: في موضع نصب على المفعول لأجله. وإن في قوله: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ حرف شرط، وجوابه فيما تقدم، لدلالة الكلام عليه، وهو لا تَتَّخِذُوا أي فلا تتخذوهم أولياء، فهذا متعلق بقوله: لا تَتَّخِذُوا يعني لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي. وجِهاداً وابْتِغاءَ منصوبان على المفعول لأجله، أو على المصدر في موضع الحال، وتقديره: مجاهدين في سبيلي، ومبتغين لمرضاتي. وتُسِرُّونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال، تقديره: مسرّين إليهم بالمودة، أو بدل من قوله: تُلْقُونَ، وباء بِالْمَوَدَّةِ زائدة أو ثابتة غير زائدة.
117
يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ظرف، وعامله: إما تَنْفَعَكُمْ أو يَفْصِلُ.
ويفصل بينكم المبني للمعلوم تقديره: يفصل الله بينكم، وقرئ مبنيا للمجهول. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ فيكون بَيْنَكُمْ قائما مقام الفاعل، إلا أنه بني على الفتح، كقوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام ٦/ ٩٤] أي وصلكم.
البلاغة:
تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ.. عتاب وتوبيخ.
أَخْفَيْتُمْ وأَعْلَنْتُمْ بينهما طباق، فالإخفاء يقابل الإعلان.
المفردات اللغوية:
عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ عدو الله: من كفر به أو أشرك، ولم يؤمن بما أنزل في كتبه وعدو المؤمنين: من خانهم أو أضر بمصالحهم، أو قاتلهم أو عاون على مقاتلتهم، مثل كفار مكة في الماضي والماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله أو يؤمنون بألوهية أحد من البشر بتأويلات باطلة في عصرنا. أَوْلِياءَ أصدقاء جمع ولي، أي صديق توليه بالسر. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفضون إليهم المودة، والمراد هنا النصيحة بالمكاتبة وإرسال أخبار الرسول ﷺ إليهم. وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي دين الإسلام والقرآن. يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ من مكة بالتضييق عليكم. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لأجل أن آمنتم، وفيه تغليب المخاطب في عهد التنزيل، والتفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان، وهو تعليل لقوله: يُخْرِجُونَ أي يخرجونكم لإيمانكم بالله تعالى.
إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي خرجتم من أوطانكم للجهاد في سبيل الله وطلب مرضاته أي رضائه. وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي أنا أعلم منكم، والباء في قوله: بِما أَخْفَيْتُمْ مزيدة، وما: موصولة أو مصدرية. وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يفعل الاتخاذ.
ضَلَّ أخطأ طريق الهدى. سَواءَ السَّبِيلِ السواء في الأصل: الوسط، والمراد هنا الطريق المستوي وهو طريق الحق.
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم. وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والضرب. وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوؤكم بالسب والشتم. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ تمنوا كفركم. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لن تفيدكم قراباتكم. وَلا أَوْلادُكُمْ الذين توالون المشركين لأجلهم. يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرق بينكم من شدة الهول، فيفرّ بعضكم من بعض. ويفصل بالبناء للفاعل بالتخفيف أو التشديد أي الله عز وجل، وقرئ يفصل بالبناء للمجهول مع التشديد، أو التخفيف، ونفصل ونفصّل.
118
سبب النزول: نزول الآية (١) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..:
أخرج الشيخان وبقية الأئمة عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله ﷺ أنا والزبير والمقداد بن الأسود، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ «١»، فإن بها ظعينة «٢»، معها كتاب، فخذوه منها، فأتوني به، فخرجوا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب، أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرءا ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات، يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من نسب فيهم أن أتخذ يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق.
وفيه أنزلت هذه السورة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ الآية.
وتفصيل القصة والكتاب: «أن مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها: سارّة، أتت رسول الله ﷺ بالمدينة، وهو متجهز لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة، فعرضت حاجتها، فحث بني المطلب على الإحسان إليها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، وأعطاها عشرة دنانير، وكساها بردا، واستحملها كتابا
(١) موضع بين مكة والمدينة على اثني عشر ميلا من المدينة.
(٢) الظعينة: المرأة في الهودج.
119
إلى أهل مكة، هذه نسخته: «من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة: اعلموا أن رسول الله ﷺ يريدكم، فخذوا حذركم» فخرجت سارّة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر،
فبعث رسول الله ﷺ عليا رضي الله عنه وعمارا وعمرا وفرسانا أخر، وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة، معها كتاب، فخذوه منها، فإن أبت، فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدته وحلفت، فهموا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلّ سيفه، وقال:
أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها، فقال رسول الله ﷺ لحاطب: ما حملك عليه؟ فقال: يا رسول الله، ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن كنت غريبا في قريش، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة، يحمون أهاليهم وأموالهم، فخشيت على أهلي، فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا، فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال: وما يدريك يا عمر، لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم، وأنزلت السورة».
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله ﷺ لا تتخذوا عدوي وعدوكم «١» أنصارا وأصدقاء وأعوانا لكم، توصلون إليهم أخبار النبي ﷺ والمؤمنين، بسبب
(١) العدو يطلق على الواحد والجمع.
120
المودة التي بينكم وبينهم، والآية تدل على النهي عن موالاة الكفار بأي وجه من الوجوه.
ونظير الآية كثير، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة ٥/ ٥١]. وقوله سبحانه: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران ٣/ ٢٨]. والآية الأولى تتضمن تهديدا شديدا ووعيدا أكيدا.
وسبب النهي هنا أمران:
وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي إنهم كفروا بالله تعالى والرسول ﷺ وما جاءكم من القرآن والهداية الإلهية، وأخرجوا الرسول ﷺ والمؤمنين من مكة من أجل إيمانهم بالله، وإخلاص عبادتهم لله تعالى، كما جاء في آية أخرى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: رَبُّنَا اللَّهُ [الحج ٢٢/ ٤٠]. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج ٨٥/ ٩].
ثم حرّض الله تعالى على الامتناع من الموالاة، فقال:
أ- إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي لا تتخذوهم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي، مبتغين رضواني عنكم، ولا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم، وسخطا لدينكم.
ب- تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي تسرون إليهم الأخبار وخطط النبي والمؤمنين بسبب المودة، وتفعلون ذلك، وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر، والأعلم من كل أحد بما تخفون وما تعلنون.
ج- وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي ومن يوال الأعداء
121
منكم، فقد أخطأ طريق الحق والصواب، وحاد عن قصد السبيل التي توصل إلى الجنة والرضوان الإلهي.
ثم ذكر ثلاثة أمور أخرى تمنع الموالاة وتدل على عداوة المشركين في مكة وغيرها، فقال:
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي إن يلقوكم يظهروا لكم ما في قلوبهم من العداوة، ويكونوا حربا عليكم، ويمدوا إليكم أيديهم بالضرب والقتل، وألسنتهم بالسب والشتم، ويتمنوا ارتدادكم وكفركم بربكم ورجوعكم إلى الكفر، فهم يحرصون على ألا تنالوا خيرا، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة، فكيف توالون مثل هؤلاء؟!! وهذا كما سبق تهييج على عداوتهم أيضا.
ثم ذكر الله تعالى أن رابطة الدين والإيمان أوثق وأولى وأنفع من رابطة القرابة والولاء، فقال:
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لن تفيدكم يوم القيامة أقاربكم وأولادكم، حتى توالوا الكفار لأجلهم، كما وقع في قصة حاطب بن أبي بلتعة سبب النزول، بل الذي ينفعكم هو ما أمركم الله به من معاداة الكفار وترك موالاتهم وتوثيق عرى الإيمان وأخوة الدين. ففي الآخرة يفرّق الله بينكم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار، والله مطلع على أعمالكم، ومجازيكم عليها خيرا أو شرا.
والمقصود أن القرابة لا تنفع عند الله تعالى، إن أراد الله بكم سوءا، ولن يصل نفعهم إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم، فقد خاب وخسر وضلّ عمله، ولا تنفعه عند الله قرابة من أحد، ولو
122
كان قريبا إلى من الأنبياء، قال تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠١] وقال سبحانه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس ٨٠/ ٣٤- ٣٧] فالمودة لا تنفع في القيامة إذا لم تكن في الله لانفصال كل اتصال يومئذ، ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم.
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن أنس: «أن رجلا قال:
يا رسول الله؟ أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا، دعاه، فقال: إن أبي وأباك في النار»
.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- تحريم موالاة الكفار ومناصرتهم ومعاونتهم بأي وجه من الوجوه، والسورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، ولو في الظاهر، مع عدم الرضا في القلب بالاعتقاد الذي هم عليه.
٢- من كثر تطلعه على عورات المسلمين والتجسس عليهم ونقل أخبارهم للأعداء، لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله لغرض دنيوي، وكان اعتقاده سليما، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الرّدّة عن الدّين.
٣- اختلف العلماء في قتل الجاسوس، فقال مالك والأوزاعي في شأن المعاهد والذمي: يجوز قتله، لأنه يصير ناقضا للعهد. وقال الجمهور: لا ينتقض عهد المعاهد بذلك، أما الذمي فرأى الحنابلة: أنه ينتقض عهده بدلالة أهل الحرب المشركين على أسرارنا. وذهب الشافعية: إلى أنه لا ينتقض عهد الذمي بالتجسس إلا إذا شرط عليه انتقاض عهده بذلك.
123
وأما الجاسوس المسلم: فقال كبار المالكية: إنه يقتل. وقال الجمهور:
لا يقتل، بل يعزّره الإمام بما يراه من ضرب وحبس ونحوهما.
ودليل الفريقين قصة حاطب، فإن الفريق الأول قالوا: أقر النبي ﷺ عمر رضي الله عنه على إرادة القتل لولا وجود المانع: وهو شهود بدر. وقال الفريق الثاني: إن الرسول ﷺ لم يقتل حاطبا، لأنه مسلم،
وروي عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ أتي بعين (جاسوس) للمشركين اسمه فرات بن حيّان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، فخلّى سبيله، ثم قال: «إن منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيّان».
٤- ذكرت الآيات خمسة أسباب لتحريم موالاة الكفار، وهي الكفر بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراج الرسول ﷺ والمؤمنين من ديارهم وأموالهم في مكة، وعداوتهم ومجاربتهم للمؤمنين، وقتالهم إياهم وضربهم فعلا، وسبهم وشتمهم، وحرصهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
٥- حذر الله تعالى من مخالفة نهيه عن موالاة الأعداء بأمرين: أولهما- أنه سبحانه الأعلم بما تخفي الصدور، وما تظهر الألسن من الإقرار بالله وتوحيده.
وثانيهما- أن من يوالي الكفار ويسرّ إليهم ويكاتبهم من المسلمين، فقد ضل سواء السبيل، أي أخطأ قصد الطريق.
٦- قوله سبحانه: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي بالنصيحة في الكتاب إليهم، هو معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله ﷺ وصدق إيمانه، فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبّ لحبيبه.
٧- الذي يفيد الإنسان يوم القيامة هو الإيمان الصحيح والعمل الصالح، أما الأهل والأولاد أو أصحاب القرابات أو الأنساب، فلا ينفعون شيئا يوم
124
القيامة، إن عصي الله عز وجل من أجل ذلك، والله بصير بأعمال عباده، ويجازيهم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
والله سبحانه يفرق أو يفصل بين الأقارب وغيرهم يوم القيامة، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار.
التأسي بإبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٤ الى ٧]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
الإعراب:
إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ بدل بعض من كل في قوله: تُلْقُونَ.
بُرَآؤُا جمع بريء، نحو شريف وشرفاء، وظريف وظرفاء، وحذفت الهمزة الأولى تخفيفا. وقرئ برآء بكسر الباء، جمع بريء أيضا كشراف وظراف، وقرئ أيضا بفتح الباء على أنه مصدر دال على الجمع، ولفظه يصلح للواحد والجمع.
125
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ منصوب على الاستثناء من قوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ أي كائنة في سنته وأقواله، إلا قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ بدل اشتمال من الكاف والميم في لَكُمْ بإعادة الجار.
البلاغة:
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ تقديم ما حقه التأخير، وهو الجار والمجرور على ما بعده لإفادة الحصر.
الْحَكِيمُ الْحَمِيدُ قَدِيرٌ غَفُورٌ رَحِيمٌ صيغة مبالغة.
المفردات اللغوية:
أُسْوَةٌ قدوة فِي إِبْراهِيمَ أي بإبراهيم قولا وفعلا. وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين.
بُرَآؤُا أبرياء جمع بريء، كظريف وظرفاء، أي متبرئون مما تعملون، فلا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ من الأصنام والكواكب وغيرها. وَبَدا ظهر. الْعَداوَةُ ضد الألفة والصداقة. وَالْبَغْضاءُ البغض والكراهة ضد المحبة. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ مستثنى من قوله: أُسْوَةٌ فليس لكم التأسي به في ذلك، بأن تستغفروا للكفار. وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي لا أملك من عذابه وثوابه شيئا، وقوله: مِنْ شَيْءٍ كنى به عن أنه لا يملك له غير الاستغفار، وكان استغفاره له قبل أن يتبين له أنه عدو الله، كما ذكر في سورة براءة.
تَوَكَّلْنا فوضنا أمرنا إليك. أَنَبْنا رجعنا وتبنا. الْمَصِيرُ المرجع والمآب.
فِتْنَةً مفتونين معذبين بأن تسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نتحمله. وَاغْفِرْ لَنا ما فرطنا من ذنب. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ القوي الغالب في ملكه، الذي يحسن التدبير في صنعه.
لَقَدْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو جواب قسم مقدر. أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قدوة طيبة. وكرر لمزيد الحث على التأسي بإبراهيم. لِمَنْ كانَ بدل من قوله. لَكُمْ قال البيضاوي: فإنه يدل على أنه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسي بهم، وإن تركه مؤذن بسوء العقيدة، ولذلك عقبه بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي ومن يعرض عن التأسي بإبراهيم ومن آمن معه ويعص النصيحة، بأن يوالي الكفار، فإن الله هو الغني عن خلقه، المحمود على فعله، الحامد لأهل طاعته، وهذا وعيد يوعد به الكفرة. يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل ثواب الله، ويخاف العقاب، ويخشى أهوال الآخرة.
عادَيْتُمْ من الأقارب المشركين وغيرهم من كفار مكة وغيرها، وتبرأتم منهم طاعة الله تعالى. مَوَدَّةً محبة وصلة، بأن يهديهم للإيمان، فيصيروا لكم أولياء وأصدقاء وأنصارا، وهذا
126
وعد من الله، أنجزه بالفعل، لأنه أسلم أكثرهم وصاروا والمؤمنين عونا وسندا وأولياء. وَاللَّهُ قَدِيرٌ قادر على ذلك، وقد فعله بعد فتح مكة. وَاللَّهُ غَفُورٌ لما فرط منكم في موالاتهم من نقل أخبار وغيره. رَحِيمٌ بكم إذ لم يعاجلكم بالعقوبة.
سبب النزول: نزول الآية (٧) :
عَسَى اللَّهُ: قال المفسرون: يقول الله تعالى للمؤمنين: لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء اقتداء بهم في معاداة ذوي قراباتهم من المشركين، فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله، وأظهروا لهم العداوة والبراءة، وعلم الله تعالى شدة وجد المؤمنين بذلك، فأنزل الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً
ثم فعل ذلك بأن أسلم كثير منهم، وصاروا لهم أولياء وإخوانا، وخالطوهم وناكحوهم، وتزوج رسول الله ﷺ أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب. فلان لهم أبو سفيان وبلغه ذلك، فقال: ذاك الفحل لا يقدع أنفه «١»، أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما.
المناسبة:
بعد النهي عن موالاة الكفار والإنكار على من والاهم وتوثيق عرى الإخاء ورابطة الإيمان، أمر الله تعالى بالتأسي بإبراهيم ومن آمن معه في التبرؤ من الكفار، وذكر أن وجوب البغض في الله، وإن كان أخا أو أبا أسوة بإبراهيم عليه السلام وأصحابه، حيث جاهروا قومهم بالعداوة، وصرحوا بأن سبب العداوة ليس إلا الكفر بالله، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة، والمناوأة مصافاة،
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ٢٤١
127
والمقت محبة. ثم استثنى تعالى من التأسي بأقوال إبراهيم هذا القول الذي هو الاستغفار لأبيه عن موعدة منه قبل أن يعلم أنه عدو الله.
التفسير والبيان:
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ، إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ، وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين أمرهم بمجانبة الكافرين والتبري منهم، بأنه قد كانت لكم قدوة طيبة حميدة تقتدون بها في إبراهيم خليل الرحمن أبي الأنبياء والذين آمنوا معه من أتباعه حين قالوا لقومهم: إنا بريئون منكم، لكفركم بالله، وبريئون من كل ما تعبدون من غير الله من الأصنام والأنداد، فقد جحدنا بما آمنتم به من الأوثان، أو بدينكم، أو بأفعالكم، فإن تلك الأوثان لا تنفع شيئا، فهي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر.
والمقصود إفهام من والى الكافرين وهو حاطب، وكأنه تعالى يقول: أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم، فتتبرأ من أهلك، كما تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه؟! وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم، فقد ظهرت وشرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم، ما دمتم على كفركم، فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم، حتى تظهروا الإيمان بالله وحده، وتوحدوا الله، فتعبدوه وحده لا شريك له، وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد، فإذا فعلتم ذلك، صارت تلك العداوة موالاة، والبغضاء محبة.
ثم استثنى الله تعالى شيئا لا يتأسى به بإبراهيم، فقال:
إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وقد كانت لكم أسوة حسنة في كل مقالات إبراهيم إلا قوله لأبيه
128
الكافر: لأستغفرن لك، وما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به، فلا تأسوا به في هذا القول، فتستغفروا للمشركين، فإن استغفاره إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه. والخلاصة: ليس لكم أسوة في الاستغفار للمشركين.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك، ويستغفرون لهم، ويقولون: إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه، فأنزل الله عز وجل: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ. وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة ٩/ ١١٣- ١١٤].
ثم أخبر الله تعالى عن اعتصام إبراهيم والمؤمنين معه بالله حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم فقال:
رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي اعتمدنا عليك يا رب في جميع الأمور، وفوضنا أمورنا إليك، ورجعنا إليك بالتوبة من كل ذنب، وإليك المرجع والمآب والمعاد في الدار الآخرة.
وهذا من دعاء إبراهيم وأصحابه، ومما فيه أسوة حسنة يقتدى به فيها، ومن تتمة دعاء قوله:
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي يا ربنا لا تجعلنا مفتونين معذبين بأيدي الكفرة، واستر لنا ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك، فإنك أنت القوي الغالب القاهر، الذي لا يغالب، ولا يضام من لاذ بجنابك، وذو الحكمة البالغة في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك، وتدبير خلقك، وفعل ما فيه صلاحهم. قال
129
قتادة: لا تظهرهم علينا، فيفتنونا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه. وقال مجاهد: معناه: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا.
ثم أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم والمؤمنين معه، فقال:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لقد كان لكم في إبراهيم والذين معه قدوة حسنة، وهذه الأسوة إنما تكون لمن يطمع في الخير والثواب من الله في الدنيا والآخرة، ويتأمل النجاة في اليوم الآخر، وهذا تهييج إلى الإيمان لكل مؤمن بالله وبالمعاد. ومن يعرض عما أمر الله تعالى به، ويوال أعداء الله، ويوادهم، فإنه لا يضر إلا نفسه، فإن الله هو الغني عن خلقه، الذي قد كمل في غناه، المحمود من خلقه في جميع أقواله وأفعاله، لا إله غيره، ولا رب سواه. والحميد: إما بمعنى الحامد أي يحمد الخلق ويشكرهم حيث يجزيهم بالكثير من الثواب عن القليل من الأعمال، أو بمعنى المحمود، أي الذي يستحق الحمد من خلقه بما أنعم عليهم.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨].
ثم أخبر الله عن أموره العجيبة في تحول الكافرين إلى مؤمنين، فقال:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ربما أسلم أعداؤكم، وصاروا من أهل دينكم، فتحولت العداوة إلى مودة، والبغضاء إلى محبة، والفرقة والمخالفة إلى ألفة، والله قادر على كل شيء، وغفور لمن أخطأ، فوادّهم، رحيم بهم فلم يعذبهم بعد التوبة، ويقبلهم ليدخلهم في مغفرته ورحمته. وكلمة عَسَى لرجاء حصول ما بعدها، لكن إذا صدرت من الله، كان ما بعدها واجب الوقوع.
130
وقد أسلم أكثر العرب بعد فتح مكة، وحسن إسلامهم، وانعقدت مودة قوية بينهم وبين من تقدمهم في الإسلام، وجاهدوا وقاموا بالأفعال المقرّبة إلى الله تعالى، وتزوّج النبي ﷺ بأم حبيبة بنت أبي سفيان، وترك أبو سفيان بعد إسلامه يوم الفتح ما كان عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: أوّل من قاتل أهل الردة على إقامة دين الله أبو سفيان بن حرب، فيه نزلت هذه الآية: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ....
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- جعل الله إبراهيم الخليل عليه السلام أسوة حسنة وقدوة عالية للمؤمنين في التبرؤ من الكفار، فعلى من آمن بالله ورسوله الاقتداء به إلا في استغفاره لأبيه، فلا يتأسون به في الاستغفار للمشركين، فإن استغفاره كان عن موعدة منه له.
٢- صرح إبراهيم ومن آمن معه بسبب البراءة من الكفار وهو كفرهم بالله وإيمانهم بالأوثان، وستظل العداوة والبغضاء قائمة في القلوب على الدوام بين المؤمنين وغيرهم ما دام هؤلاء الكفار على كفرهم، حتى يعلنوا إيمانهم بالله وحده لا شريك له، فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة.
٣- قوله تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ يدل على تفضيل نبينا عليه الصلاة والسلام على سائر الأنبياء، لأن الله حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر ٥٩/ ٧] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام، استثنى بعض أفعاله.
131
٤- علّم الله المؤمنين أيضا أن يقولوا ما كان يدعو به إبراهيم عليه السلام ومن معه: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي تبرؤوا من الكفار وتوكلوا على الله، وقولوا: اعتمدنا عليك يا رب، ورجعنا إليك تائبين، ولك الرجوع في الآخرة، ولا تظهر أو لا تسلط عدونا علينا، فيظنوا أنهم على حق، فيفتتنوا بذلك، واغفر لنا ما فرط من الذنوب، فإنك القوي الغالب الذي لا يغالب، الحكيم في تدبير خلقه وتحقيق مصالحهم.
٥- أكد الله تعالى الحث على التأسي بإبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، مرة أخرى في الآيات، في التبرؤ من الكفار. ثم حذر من المخالفة، وهدد المعرضين المستكبرين عن حكم الله، فذكر أن من يتول عن الإسلام وقبول هذه المواعظ، فإنه لن يضر إلا نفسه، والله غني عن خلقه، لم يتعبدهم لحاجته إليهم، محمود في نفسه وصفاته ومن خلقه.
٦- كان نزول هذه الآيات سببا في معاداة المسلمين أقرباءهم من المشركين، ولما علم الله شدة وجد المسلمين وحرجهم في ذلك، نزل قوله تعالى كما بينا:
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً أي بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة، وخالطهم المسلمون، كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وتزوج النبي ﷺ أم حبيبة بنت أبي سفيان التي كانت متزوجة بعبد الله بن جحش، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، إلا أن زوجها تنصر، ومات على النصرانية، وبقيت هي على دينها، فبعث النبي ﷺ إلى النجاشي، فخطبها، وأمهرها النجاشي من عنده أربع مائة دينار.
وفي الحديث: «أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما، عسى أن يكون
132
حبيبك يوما ما» «١».
فقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ.. وعد من الله تعالى، والله سبحانه قادر على تقليب القلوب، وتغيير الأحوال، وتسهيل أسباب المودة، والله غفور لعباده رحيم بهم إذا تابوا وأسلموا ورجعوا إلى دينه وشرعه ومواعظه، وهو سبحانه الذي ألّف بين القلوب بعد العداوة والقساوة، فأصبحت مجتمعة متفرقة، كما قال تعالى ممتنا على الأنصار: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [آل عمران ٣/ ١٠٣] وكذا
قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألّفكم الله بي» ؟
وقال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال ٨/ ٦٣].
علاقة المسلمين بغيرهم
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ٨ الى ٩]
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
(١) رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة، والطبراني عن عبد الله بن عمرو، والدارقطني في الإفراد وابن عدي والبيهقي في الشعب عن علي، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي عن علي موقوفا، وهو حديث حسن.
133
الإعراب:
أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ: في موضع جر على البدل من الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ بدل الاشتمال.
وكذلك قوله تعالى: أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل الاشتمال أيضا. وقيل: هما منصوبان على المفعول لأجله.
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ عدّاه ب (إلى) حملا على معنى «تحسنوا» فكأنه قال: تحسنوا إليهم.
البلاغة:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وإِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ... بينهما طباق السلب.
المفردات اللغوية:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.. من الكفار، أي لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء: لأن قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من الَّذِينَ، أي أن تفعلوا البر والخير لهم. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ تقضوا إليهم بالقسط، أي تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ العادلين.
وَظاهَرُوا ساعدوا أو عاونوا، كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين من مكة، وبعضهم أعانوا المخرجين. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ أن تتخذوهم أولياء أي أنصارا وأعوانا لكم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن يتخذهم أولياء، فأولئك هم الظالمون أنفسهم، لوضعهم الولاية في غير موضعها.
سبب النزول: نزول الآية (٨) :
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ..:
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «قدمت أمي، وهي مشركة في عهد قريش، إذ عاهدوا، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك» فأنزل الله فيها: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ.
134
وأخرج أحمد والبزّار والحاكم وصححه وآخرون عن عبد الله بن الزبير قال:
قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا- صناب «١» وأقط وسمن، وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها، حتى أرسلت إلى عائشة أن سلي عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فأمرها أن تقبل هداياها وتدخلها منزلها، فأنزل الله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ الآية.
المناسبة:
بعد النهي عن موالاة الكافرين، والحث على القطيعة بالتأسي بإبراهيم ومن معه، ثم تهوين الأمر على المؤمنين بإخبارهم أن الله قادر على تغيير أوضاع المشركين من الكفر إلى الإيمان، رخّص الله تعالى في صلة الذين لم يقاتلوا المؤمنين من الكفار، ولم يخرجوهم من ديارهم، ولم يعاونوا على إخراجهم.
التفسير والبيان:
لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ، وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي لا يمنعكم الله من البرّ والإحسان وفعل الخير إلى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء والضعفة منهم، كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم، بأداء مالهم من الحق، كالوفاء لهم بالوعد، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة، إن الله يحب العادلين، ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم.
والمقصود بالآية أن الله سبحانه لا ينهى عن برّ أهل العهد من الكفار الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يعينوا عليهم، ولا ينهى عن
(١) صناب: صباغ يتخذ من الخردل والزبيب.
135
معاملتهم بالعدل، مثل خزاعة، وغيرهم الذين عاهدوا رسول الله ﷺ على ترك القتال.
ثم حدد الله تعالى موضع النهي في المعاملات، فقال:
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي إنما ينهاكم الله عن موالاة هؤلاء الذين عادوكم، وهم صناديد الكفر من قريش وأشباههم ممن هم حرب على المسلمين، وعاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم على ذلك، وهم سائر أهل مكة ومن دخل معهم في عهدهم، ينهاكم الله عن اتخاذهم أولياء وأنصارا لكم، ويأمركم بمعاداتهم.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم، فأبان أن من يتولهم ويناصرهم، فأولئك الذين ظلموا أنفسهم، لأنهم تولوا من يستحق العداوة، لكونه عدوا لله تعالى ولرسوله ﷺ ولكتابه.
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ، فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة ٥/ ٥١].
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآيتان أن للكفار من المسلمين موقفين: إما المسالمة وإما المعاداة.
وحددتا علاقة المسلمين بغيرهم في تلك الحالتين.
١- فيجوز برّهم وفعل الخير لهم، والحكم بينهم وبين غيرهم بالعدل إذا لم يقاتلوا في الدين أو الدنيا، ولم يخرجوا المؤمنين من ديارهم، ولم يعينوا على إخراجهم، فإن الله يحب العادلين ويأمر بالعدل مع جميع الناس، والعدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل.
136
وهؤلاء هم أهل العهد الذين عاهدوا رسول الله ﷺ على ترك القتال، والمظاهرة (المعاونة) في العداوة، وهم خزاعة، كانوا عاهدوا الرسول ﷺ على ألا يقاتلوه ولا يخرجوه، فأمر الرسول ﷺ بالبر والوفاء إلى مدة أجلهم.
قال قتادة: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، نسختها آية: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥].
وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة غير منسوخة، بدليل إباحة صلة أسماء أمّها، كما تقدم «١».
واستدل بهذه الآية بعض العلماء على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، وأجيب بأن الإذن في الشيء أو ترك النهي عنه، لا يدل على وجوبه، وإنما يدل على الإباحة فقط.
٢- ولا يجوز اتخاذ الأولياء والأنصار والأحباب من الذين قاتلوا المسلمين على الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وعاونوا على إخراجهم، وهم مشركو أهل مكة، ومن يفعل ذلك بأن يواليهم، فأولئك هم الظلمة المستحقون للعقاب الشديد.
والخلاصة: لا ينهى الله عن مبرة الفريق الأول، وإنما ينهى عن تولي الفريق الثاني.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٥٩
137
حكم المهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٠ الى ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
الإعراب:
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فَإِنْ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف جر، وتقديره: في أن تنكحوهن. ويَحْكُمُ بَيْنَكُمْ إما استئناف، أو حال من الحكم، على حذف الضمير، أي يحكمه الله، أو على جعل «الحكم» حاكما على المبالغة.
البلاغة:
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ جملة اعتراضية للإشارة إلى آن التعامل مع الناس يكون بحسب الظاهر، فللإنسان الظاهر، والله يتولى السرائر.
لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فيهما ما يسمى في علم البديع بالعكس والتبديل.
المفردات اللغوية:
مُهاجِراتٍ من بلاد الكفار إلى ديار الإسلام. فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن للتأكد من مطابقة ألسنتهن لما في قلوبهن من الإيمان. اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ الله هو العالم بالحقائق، المطلع على ما في القلوب. فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ تأكدتم من إيمانهن، وظننتم ظنا غالبا بالحلف وظهور
138
الأمارات، فقد كان ﷺ يحلّفهن على أنهن ما خرجن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضا لأزواجهن الكفار، ولا عشقا لرجال من المسلمين. وإنما سمّي الظن الغالب علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به.
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ تردوهن إلى أزواجهن الكفرة. لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ التكرار للمطابقة والمبالغة. وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أعطوا الكفار ما دفعوا لأزواجهن من المهور. وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لا إثم ولا حرج عليكم في الزواج بهن، فإن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن، وقد شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما أعطي لأزواجهن من تعويض لا يغني عن المهر الواجب للمرأة تكريما لها عند زواجها بأي رجل. وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ما تعتصم به الكافرات من عقد وسبب، جمع عصمة، والمراد نهي المؤمنين عن نكاح المشركات، سواء الباقيات على الشرك بعد إسلام الزوج، أو المرتدات اللاحقات بالمشركين، فالمراد بالعصمة: عقد النكاح. والْكَوافِرِ: جمع كافرة.
وقرئ «ولا تمسّكوا» بالتشديد.
وَسْئَلُوا اطلبوا. ما أَنْفَقْتُمْ اطلبوا ما قدمتم من المهور لنسائكم اللاحقات بالكفار حال الارتداد، ممن تزوجن من الكفار. وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا وليطلبوا ما أنفقوا على المهاجرات من مهور أزواجهم، فإنهم يؤتونه. ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ أي جميع ما ذكر في الآية هو شرع الله.
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يقضي بينكم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بالغ العلم، يشرع ما تقتضيه حكمته.
وَإِنْ فاتَكُمْ أي وإن سبقكم وانفلت منكم. شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أحد من أزواجكم. إِلَى الْكُفَّارِ مرتدات. فَعاقَبْتُمْ أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر، والمراد أنكم غنمتم مغانم القتال أو الحرب بسبب الغلبة والنصر لكم. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا أي أعطوهم من الغنيمة مهور أزواجهم، بدل الفائت عليهم من جهة الكفار. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي خافوا الله الذي آمنتم به، فإن الإيمان به يقتضي التقوى منه.
سبب النزول:
نزول الآية (١٠) :
إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ:
أخرج الشيخان عن المسور ومروان بن الحكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية،
139
جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ إلى قوله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
وأخرج الواحدي عن ابن عباس قال: إن مشركي مكة صالحوا رسول الله ﷺ عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة، رده إليهم، ومن أتى من أهل مكة من أصحابه فهو لهم، وكتبوا بذلك الكتاب وختموه، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي ﷺ بالحديبية، فأقبل زوجها وكان كافرا، فقال: يا محمد، ردّ علي امرأتي، فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وقيل: جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وقيل: نزلت في أميمة بنت بشر امرأة أبي حسان الدحداحة. وقيل: نزلت في امرأة تسمى سعيدة كانت تحت صيفي بن الراهب، وهو مشرك من أهل مكة جاءت زمن الهدنة، فقالوا: ردها علينا، فنزلت.
وأخرج ابن منيع عن ابن عباس قال: أسلم عمر بن الخطاب، فتأخرت امرأته في المشركين، فأنزل الله: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
نزول الآية (١١) :
وَإِنْ فاتَكُمْ.. أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية، نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت، فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها.
(١) أسباب النزول للواحدي ص ٢٤١
140
المناسبة:
بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية، والزواج بالمشركات، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن، وتعويض الأزواج المسلمين من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار، والاعتصام في كل ذلك بتقوى الله تعالى. قال القرطبي: لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين، اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبيّن أحكام مهاجرة النساء.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله ﷺ إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار، فاختبروهن، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله: فَامْتَحِنُوهُنَّ أمر بمعنى الوجوب، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب.
وذلك أن النبي ﷺ لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء، أبي الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي ﷺ زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولم يردّها إليه.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ
141
أي إن الامتحان أمر في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله سبحانه، والله أمركم بالظواهر، وهو يتولى السرائر، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب، وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم.
قال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا.
ثم أردف الله تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن، فقال:
١- لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ أي ليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، لا مجرد هجرتها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي ﷺ زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها، كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله ﷺ رقّ لها رقة شديدة،
وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا».
فأطلقه رسول الله ﷺ على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله ﷺ مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا «١»، كما
قال الإمام أحمد عن ابن عباس: «إن رسول الله ﷺ ردّ ابنته زينب على
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٥١
142
أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا» «١».
ومنهم من يقول: بعد سنتين.
وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله ﷺ ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد»
قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه، لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة، ولم يسلم، انفسخ نكاحها منه.
٢- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون النساء. قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها، منع منها بلا عوض.
٣- وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء العدة، وتزويج الولي وغير ذلك.
٤- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات، وهو خاص بهن، دون الكوافر من أهل الكتاب.
(١) ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.
143
وينفسخ الزواج ببقاء الزوجة على الشرك، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة، ما دامت في العدة.
ثبت في الصحيح كما تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
- إلى قوله- وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ
فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
٥- وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون:
كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار:
هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت:
ردّوا مهرها على زوجها الكافر «١».
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين، والمذكور في صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه، والحكم متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ العلم لا تخفى عليه خافية، بالغ العلم بما يصلح عباده، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال ابن العربي: وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة «٢»، أي رد المهور.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٧٧٦
(٢) المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: ١٨/ ٦٨
144
٦- وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ، فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر، ولو أهل كتاب، فأصبتم غنيمة من قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه.
قال ابن عباس وآخرون: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله ﷺ أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس، أي قبل قسمتها أخماسا «١». فقوله: فَعاقَبْتُمْ معناه فغنمتم، أو ظفرتم. وقال الزهري: يعطى من مال الفيء.
والخلاصة: على الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر، فإن أمكن ذلك فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
روي عن الزهري ومسروق: أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأقر المسلمون بحكم الله تعالى، وأبي المشركون، فنزلت: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم.
وقال الحسن ومقاتل: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
(١) تفسير القرطبي: ١٨/ ٧٠
145
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- وجوب امتحان النسوة اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، ليعرف مدى صدق إيمانهن وإخلاص إسلامهن. قال ابن عباس: كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماس دنيا، ولا عشقا لرجل منّا، بل حبّا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلا هو على ذلك، أعطى النبي ﷺ زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها، فذلك قوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ، فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ.
٢- أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان ﷺ عاهد قريشا في صلح الحديبية، من أنه يرد إليهم من جاءه منهم مسلما، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. ويرى بعضهم أن الآية نزلت بيانا لنص العقد، وأنه ما تناول إلا الرجال، غير أن هذا يكون من تخصيص العام المتأخر.
وذهب جماعة إلى أن التعميم في عقد الصلح لم يكن من طريق الوحي، بل كان اجتهادا منه ﷺ أثيب عليه بأجر واحد، وجاءت هذه الآية بعدم إقراره على هذا الاجتهاد. والتعميم الوارد في الصلح: «من جاء إلى محمد من قريش بدون إذن وليه، رده عليه» «١».
ويرى الحنفية أن هذا الحكم كله منسوخ في الرجال والنساء، ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد إليهم من جاءه مسلما، لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز، واستدلوا
بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك في دار الحرب لا تراءى ناراهما»
أي تتراءى ناراهما، وهذا مجاز، أي يلزم المسلم أن
(١) نص المعاهدة كما أخرج البخاري عن مروان والمسور: «أنه لا يأتيك أحد منا، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا..» (نيل الأوطار: ٨/ ٣٧). [.....]
146
يباعد منزله عن منزل المشرك، وينزل مع المسلمين في دارهم. فهذا ناسخ لردّ المسلمين إلى المشركين، إذ كان رسول الله ﷺ قد برئ ممن أقام معهم في دار الحرب.
ومذهب مالك والشافعي: أن هذا الحكم غير منسوخ، وعقد الصلح على ذلك جائز. قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل يأمره، لأنه يلي الأموال كلها.
٣- إن هذا الامتحان في الظاهر، والله في الحقيقة أعلم بإيمانهن، لأنه متولّي السرائر. فإذا علم، أي غلب على الظن إيمان المهاجرات، لم يجز ردهن إلى بلاد الكفار، لأن الله لم يحل مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن مشركة. وسبب الفرقة هو إسلام المرأة لا هجرتها، لأن الله تعالى قال: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فبيّن أن العلة عدم الحلّ بالإسلام، وليس باختلاف الدار.
وقال أبو حنيفة ومالك: الذي فرّق بينهما هو اختلاف الدارين، روي عن ابن عباس أن اختلاف الدارين يقطع العصمة.
وعلى هذا إذا خرجت الحربية مسلمة، ولها زوج كافر في دار الحرب، وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها، وقال أبو يوسف ومحمد: تقع الفرقة وعليها العدة. وإن أسلم الزوج بعد ذلك لم تحل له إلا بعقد زواج جديد، وهو رأي سفيان الثوري.
وقال مالك والشافعي: إن أسلم الزوج في العدة أي قبل أن تحيض ثلاث حيض، فهي امرأته، ولا تحصل الفرقة إلا إذا انقضت العدة، فإذا انقضت العدة، فلا تحل له إلا بعقد جديد.
٤- يجب على المسلمين أن يردوا على زوج المرأة التي أسلمت ما أنفق من المهر، وذلك من الوفاء بالعهد، حتى لا يخسر الأمرين: الزوجة والمال.
147
٥- لا غرم للمهر إلا إذا طالب الزوج الكافر به، فإن ماتت المرأة قبل حضور الزوج لم نغرم المهر، إذ لم يتحقق المنع، أي منعها منه، وإن كان المهر المسمى خمرا أو خنزيرا لم نغرم شيئا، لأنه لا قيمة له.
وللشافعي في هذا الحكم قولان: أحدهما- أن هذا منسوخ، والثاني- يعطى الزوج المهر إن طالب به، وليس ذلك لأحد من الأولياء سوى الزوج.
٦- إن المطالب برد مثل ما أنفق إلى الأزواج هو الإمام، من بيت المال.
وهذا الحكم- كما قال مقاتل- خاص برد صداق نساء أهل العهد، فأما من لا عهد له مع المسلمين، فلا يرد إليهم الصداق. وعلى هذا فلا مانع من العمل بهذا في المعاهدات التي تجري بين المسلمين وغيرهم في مثل تلك الحالة التي كان عليها المسلمون في الماضي، فإذا عاهدناهم على رد ما أنفقوا على أزواجهم وجب الوفاء بالعهد.
٧- يباح للمسلمين الزواج بالمهاجرات المسلمات إذا انقضت عدتهن، لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدّة، فإن أسلمت قبل الدخول، فلها التزوج في الحال، إذ لا عدة عليها.
٨- قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ دليل على تحريم التزوج بالمشركات عبدة الأوثان، فهي خاصة بالكوافر من غير أهل الكتاب، أما الكتابيات (اليهوديات والنصرانيات) فيجوز الزواج بهن، لقوله تعالى:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الآية [المائدة ٥/ ٥].
فإذا أسلم وثني أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرّق بينهما وهو مذهب المالكية.
ومنهم من قال: ينتظر بها تمام العدة، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال
148
الحنفية: إذا أسلمت المرأة، عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرّق بينهما.
وهذا الاختلاف إنما هو في المدخول بها، فإن كانت غير مدخول بها، فلا خلاف في انقطاع العصمة بينها وبين زوجها، إذ لا عدة عليها. وهذا مذهب مالك أيضا في المرأة المرتدة وزوجها مسلم، لقوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ. ومذهب الشافعي وأحمد: أنه ينتظر بها تمام العدة.
فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة: فمذهب مالك والشافعي وأحمد: الانتظار إلى تمام العدة، وكذا الوثني تسلم زوجته، فإنه إن أسلم في عدتها فهو أحق بها. ومن العلماء من قال: ينفسخ النكاح بينهما.
٩- إذا ذهبت مسلمة مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يطالب الكفار بمهرها، وإذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة، يرد إلى الكفار مهرها.
وهذا الحكم كان مخصوصا بزمان النبي ﷺ بعد صلح الحديبية.
١٠- إذا لم يدفع الكفار المعاهدون وغيرهم مهر امرأة ارتدت وذهبت إلى ديار الكفر، وجب تعويض زوجها من غنائم الحرب. وقال قتادة: هذا خاص في الكفار المعاهدين، ثم نسخ هذا في سورة براءة. وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضا.
١١- حذر الله تعالى من مخالفة الأحكام السابقة، فقال في الآية الأولى:
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذلكم الحكم الزموه، وقال في الآية الثانية: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ أي احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.
149
مبايعة النبي ﷺ المهاجرات (بيعة النساء)
[سورة الممتحنة (٦٠) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣)
الإعراب:
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ يَفْتَرِينَهُ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير يَأْتِينَ أو في موضع جر على الوصف ل بِبُهْتانٍ.
كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: في موضع نصب، لأنه يتعلق ب يَئِسَ وتقديره: يئسوا من بعث أصحاب القبور، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
البلاغة:
وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: كناية عن اللقيط.
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ تشبيه مرسل مجمل. وفي الآية ما يسمى رد العجز على الصدر، فقد ختمت السورة بمثل ما بدئت به.
وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ فيه وضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أن الكفر أيأسهم.
المفردات اللغوية:
يُبايِعْنَكَ البيعة: العقد والعهد على التزام الطاعة. وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أي بوأد البنات. بِبُهْتانٍ أي بولد مفترى ملصق بالزوج كذبا. يَفْتَرِينَهُ الافتراء: الكذب، والمراد يختلقن نسبة الولد إلى الزوج. مَعْرُوفٍ المعروف: كل ما ندب إليه الشرع من
150
المحسنات، ونهى عنه من المستقبحات. والتقييد بالمعروف مع أن الرسول ﷺ لا يأمر إلا به، تنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. فَبايِعْهُنَّ أي إذا بايعنك فبايعهن، أي فالتزم لهن بضمان الثواب حال الوفاء بهذه الأشياء. وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ اطلب لهن المغفرة.
قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عامة الكفار، أو اليهود إذ روي أنها نزلت في بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود، ليصيبوا من ثمارهم. قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ لكفرهم بها، أو لعلهم بأنه لا حظ لهم فيها لمعاندة الرسول صلى الله عليه وسلم. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من موتاهم أن يبعثوا، أي يرجعوا أحياء.
سبب النزول:
نزول الآية (١٢) :
نزلت يوم الفتح، فإنه ﷺ لما فرغ من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء.
أخرج البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رسول الله ﷺ كان يمتحن من هاجرن إليه بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ- إلى قوله-: غَفُورٌ رَحِيمٌ فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد بايعتك» كلاما، ولا، والله ما مسّت يده يد امرأة في المبايعة قط، ما بايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك».
وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي ﷺ قالت: «كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله ﷺ يمتحنّ بقول الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ إلى آخر الآية. قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله ﷺ إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتكن، ولا والله ما مسّت يد رسول الله ﷺ يد امرأة قطّ، غير أنه بايعهن بالكلام. قالت عائشة: والله، ما أخذ رسول الله ﷺ كفّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكنّ كلاما».
151
وروي أنه ﷺ بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن.
وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت: أتيت رسول الله ﷺ في نساء لنبايعه، فأخذ علينا ما في القرآن: «ألا نشرك بالله شيئا- حتى بلغ- ولا يعصينك في معروف» فقال: فيما استطعتنّ وأطقتنّ، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، قلنا: يا رسول الله، ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء، وإنما قولي لامرأة واحدة قولي لمائة امرأة» «١».
وزاد أحمد في رواية: «ولم يصافح منا امرأة».
نزول الآية (١٣) :
أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: كان عبد الله بن عمر، وزيد بن الحارث يوادّان رجلا من يهود، فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.
المناسبة:
روي أن النبي ﷺ لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايع النساء، بأمر رسول الله ﷺ ويبلغهن عنه.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً.. الآية: أي إذا جاءك المؤمنات بالله ورسوله يعاهدنك ويقصدن مبايعتك على الإسلام والطاعة، فبايعهن على ألا يشركن بالله شيئا من وثن
(١) ورواه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن أبي حاتم.
152
أو حجر أو ملك أو بشر، ولا يسرقن من أموال الناس شيئا، ولا يزنين (والزنى: الاعتداء على الأعراض) ولا يقتلن أولادهن: أي ولا يئدن البنات، وهو ما كانت تفعله الجاهلية من وأد البنات، ولا يلحقن بأزواجهن أولادا ليسوا لهم، قال الفراء: كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هذا ولدي منك.
فكان هذا من البهتان والافتراء.
وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: وهو كل أمر وافق طاعة لله، أي كل ما أمر به الشرع، أو نهى عنه، كالنهي عن النّوح، وتمزيق الثياب، وجزّ الشعر، وشق الجيب، وخمش الوجوه، والدعاء بالويل، والخلوة بالأجنبي غير المحرم، فبايعهن، واطلب من الله المغفرة لهن بعد هذه المبايعة منك، إن الله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، فلا يعذبهم بما اقترفوه قبل الإسلام، ويجزل لهم الثواب إذا وفّين بهذا العهد الذي حدث في فتح مكة.
روي أن النبي ﷺ لما قال: أبا يعكن على ألا تشركن بالله شيئا، قالت هند بنت عتبة، وهي منتقبة، خوفا من النبي ﷺ أن يعرفها، لما صنعته بحمزة يوم أحد: والله ما عبدنا الأصنام، وإنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط، فقال صلى الله عليه وسلم:
«ولا تسرقن» فقالت هند: إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا؟ فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فضحك النبي ﷺ وعرفها، وقال:
«أنت هند؟» فقالت: عفا الله عما سلف.
فقال: «ولا تزنين» فقالت هند: أو تزني الحرة؟ فقال: «ولا تقتلن أولادكن» أي لا تئدن البنات ولا تسقطن الأجنة، فقالت هند: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا يوم بدر، فأنتم وهم أبصر أو أعلم. فضحك عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى استلقى، وكان ابنها البكر حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
153
فقال: «ولا تأتين ببهتان تفترينه» وهو أن تلصق بزوجها ما ليس منه، فقالت هند: والله، إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: «ولا تعصينني في معروف» فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وتحريم الزنى عام،
قال صلى الله عليه وسلم: «اليدان تزنيان، والعينان تزنيان، والرّجلان تزنيان، والفرج يصدق ذلك أو يكذّبه» «١».
وأكد النبي ﷺ تحريم النواح،
فقال: «ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية» «٢».
وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: «جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عليها: ألا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن، ولا يزنين... » الآية، قال: فوضعت يدها على رأسها حياء، فأعجبه ما رأى منها، فقالت عائشة: أقرّي أيتها المرأة، فو الله ما بايعنا إلا على هذا، قالت:
نعم، فبايعها بالآية».
ولم تقتصر بنود بيعة النساء عليهن، وإنما بويع بها الرجال أيضا.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي ﷺ فقال:
«أتبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا» قرأ آية النساء، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا، فعوقب، فهو كفارة
(١)
رواه مسلم عن أبي هرير بلفظ: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى، مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» وأخرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس بلفظ آخر.
(٢) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ابن مسعود.
154
له، ومن أصاب من ذلك شيئا، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له منها».
وروى محمد بن إسحاق وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله ﷺ على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفرض الحرب، على ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، وقال: فإن وفيتم فلكم الجنة».
ثم أكد تعالى النهي عن موالاة الكفار كما بدأ السورة، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي يا أيها المؤمنون برسالة الإسلام لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليهم ولعنهم واستحقوا الطرد والإبعاد من رحمته، أولياء وأنصارا وأصدقاء، وقد يئسوا من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عز وجل، وأصبحوا لا يوقنون بالآخرة بسبب كفرهم وعنادهم، بالرغم من قيام الأدلة والبينات والمعجزات على الإيمان بالله واليوم الآخر، كيأسهم من بعث موتاهم، لاعتقادهم عدم البعث.
قال ابن عباس: يريد حاطب بن أبي بلتعة يقول: لا تتولوا اليهود والمشركين، وذلك لأن جمعا من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود أخبار المسلمين لحاجتهم إليهم، فنهوا عن ذلك، ويئسوا من الآخرة. يعني أن اليهود كذبت محمدا صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم إياه، فهم يئسوا من الآخرة، كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي كما يئس الكفار الذين لا يؤمنون بالبعث من موتاهم أن يرجعوا أحياء. وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
155
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية الأولى على تحريم الشرك بالله، والسرقة، والزنى، وقتل الأولاد، أي وأد البنات الذي كان في الجاهلية، وإلحاق الأولاد اللقطاء بغير آبائهم، وعصيان شرع الله فيما أمر ونهى.
وقد صرح في الآية بأركان النهي في الدين وهي ستة، ولم يذكر أركان الأمر، وهي ستة أيضا: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة، لأن النهي دائم في كل الأزمان وفي كل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد وأهم وأخطر. ولم تقتصر البيعة على هذه الأمور على النساء فقط، وإنما بويع عليها وفد من الأنصار في بيعة العقبة الأولى، فأصبح الحكم عاما للرجال والنساء.
وأكدت الآية الثانية تحريم موالاة الكفار وتزويدهم بأخبار المسلمين، والإسرار إليهم، واتخاذهم أصدقاء وأخلاء، لأنهم لا يؤتمنون على مصالح المسلمين، بل يخونونهم ويفيدون من ذلك في قتالهم ومعاداتهم، ولأنهم قوم كفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بالبعث والحساب، ويئسوا من ثواب الآخرة، كما يئس الكفار الأحياء من رجوع موتاهم أصحاب القبور إلى الدنيا.
156

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الصف
مدنيّة، وهي أربع عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الصف، لقوله تعالى في مطلعها: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا، كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [٤].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجهين:
١- نهت السورة السابقة في مطلعها وأثنائها وختامها عن موالاة الكفار من دون المؤمنين، وأمرت هذه السورة بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا تجاه الأعداء.
٢- ذكرت السورة المتقدمة أحكام العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة الإسلامية وخارجها، وقت السلم، وحرضت هذه السورة على الجهاد ورغبت فيه بسبب العدوان، وأنّبت التاركين للقتال وشبهتهم ببني إسرائيل الذين عصوا موسى عليه السلام حين ندبهم للقتال، ثم عصوا عيسى عليه السلام حين أمرهم باتباعه بعد إتيانه بالبينات والمعجزات، واتباع النبي محمد ﷺ الذي بشر به.
157
ما اشتملت عليه السورة:
إن محور السورة وموضوعها هو القتال وجهاد الأعداء، والتضحية في سبيل الله تعالى، وبيان ثواب المجاهدين العظيم، وذلك من الأحكام التشريعية التي تعنى بها السور المدنية عادة.
وقد بدئت السورة بتسبيح الله سبحانه وتنزيهه وتمجيده تنبيها لعظمة منزلها، وبيان خطورة ما ترشد إليه من وجوب الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، ووقوفها صفا واحدا في قتال الأعداء، لرفع منار الحق، وإعلاء كلمة الله تعالى، ثم لوم الذين يخالفون بعملهم أقوالهم.
ثم حذرت من الفرقة والعصيان والمخالفة شأن بني إسرائيل الذين عصوا أمر موسى وعيسى عليهما السلام حينما أمرهم موسى بقتال الجبارين، وأمرهم عيسى باتباعه واتباع الرسول أحمد ﷺ الذي يأتي بعده وتلك بشارة به: وَإِذْ قالَ مُوسى.. وَإِذْ قالَ عِيسَى.. الآية، ثم ضربت المثل للمشركين بمن يريد إطفاء نور الله بأفواههم: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا...
وأردفت ذلك بالبشارة والإخبار بنصرة الإسلام ودعوته وتفوقه وغلبته على سائر الأديان، فهو دين الهدى والحق.
ثم رسمت طريق الهدى، وأوضحت منهاج السعادة الكبرى وسبيل النجاة من العذاب الأخروي بإعلان الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وبيان ثمرة الجهاد وهو النصر في الدنيا وثواب المجاهدين في الآخرة، وأكدت ذلك بالأمر بنصرة دين الله عز وجل، كمناصرة الحواريين دين عيسى عليه السلام: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ.. الآيات، وبالدعوة إلى نصرة دين الله يتناسب ختام السورة مع بدايتها.
158
Icon