تفسير سورة الأعراف

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

إذ قد ختم امر الرسالة والتشريع بإقامته صلّى الله عليه وسلّم ولا بد لك ان تربط قلبك بمحبته صلى الله عليه وسلّم وتجعلها قبلة مقصدك وتقتفى اثر ما ورد عليه وجاء به صلّى الله عليه وسلّم بحيث لا تهمل منها ولا بدان تكون في متابعته صلّى الله عليه وسلّم على وثوق تام واطمئنان كامل عار عن عموم ما يشوشك من ظلمات الشكوك والأوهام خال عن جميع الرعونات العارضة لك من وساوس شياطين الأهواء الفاسدة مثل العجب والرياء والسمعة وغيرها وبالجملة عليك ان تتوجه نحو التوحيد من طريق الفناء الاختياري والموت الإرادي بحيث لا يصدر عنك شيء من امارات الحيوة الصورية ومقتضيات القوى البشرية حتى يتيسر لك التحقق بمقام الخلة والخلافة والتخلق بأخلاق الله تعالى مع توفيق من قبل الحق وجذب من جانبه إذ كل ميسر لما خلق له من عنده ومتى صفت سرك وسريرتك عن جميع ما يشغلك عن الله ويضلك عن سبيله فقد تحققت بمقام التوحيد وفنيت عن مقتضيات امارات التخمين والتقليد وصرت على يقين كامل من ربك وكشف صريح وشهود تام ومشرب صاف لا تظمأ منه أصلا ولا تروى ابدا وحينئذ حق لك ان تقول حقا ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له آتنا ربنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا
[سورة الأعراف]
فاتحة سورة الأعراف
لا يخفى على المستبصر الخبير والمسترشد البصير ان سر إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو لتبيين طريق التوحيد وهدى اصحاب الضلال والتقليد من المتوغلين في تيه الغفلة والنسيان نحو فضاء الوحدة الذاتية ولا يتيسر ذلك الا بترك مألوفاتهم وقطع تعلقاتهم التي كانوا عليها بمقتضى بشريتهم وبإرشادهم وهديهم على التدريج بوضع التكاليف الشاقة المشتملة على الإنذارات الشديدة والتخويفات الغليظة المزيحة لموانع الوصول اليه حتى تستعد نفوسهم وتتهيأ سرهم وسريرتهم الى ان ينكشف لهم سر سريان الوحدة الذاتية المتشعشعة المتجلية دائما حسب أوصافه وأسمائه الذاتية على ذرائر المظاهر كلها لذلك انزل سبحانه على حبيبه الذي أظهره جامعا لجميع مراتب أوصافه وأسمائه الذاتية الكتاب الجامع المحتوى لعموم مراتب الوجود غيبها وشهادتها أولاها وأخراها رطبها ويابسها وأورد فيه اصناف الإنذارات والوعيدات البليغة لينزجر به اهل الغفلة والهوى وانواع المواعيد والتبشيرات ليرغب نحوه اهل المحبة والولاء ليتحققوا على ما جبلوا عليه من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وبالجملة ليتأدبوا بآدابه حتى يتخلقوا بأخلاقه سبحانه فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا متبركا بِسْمِ اللَّهِ المنزه في ذاته عن مطلق النقص والاستكمال الرَّحْمنِ لعباده بالإرشاد والتكميل لان يصلوا الى درجات القرب والوصال الرَّحِيمِ لهم بانزال القرآن الهادي الى سرادقات العز والجلال
[الآيات]
المص ايها الإنسان الكامل اللائق لتكميل الخلائق المكرم المؤيد من لدنا لهديهم وإرشادهم الى توحيد الذات والصفات والأفعال الصادق الصفي في نفسه عن كدورات اهل الزيغ والضلال هذه الآثار والآيات الانيقة اللطيفة اللائحة اللائقة لان يسترشد منها ويستكشف عنها ارباب الذوق والكمال المنزهة عن شوائب الشكوك وظلمات الأوهام الصافية عن تخليطات العقول وتخمينات الأحلام الصالحة لان يستبصر بها ويستشهد منها الى توحيد العليم العلام القدوس السّلام
كِتابٌ جامع لجميع فوائد الكتب المنزلة وأحكامها وإشاراتها ناطق لعموم الأحوال الواقعة في النشأة الاولى والاخرى قد
أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا هادي المضلين تقوية لك وترويجا لما أمرت به فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ضيق وتعب حاصل مِنْهُ اى من نشره وتبليغه مخافة الأعداء بل انما انزل إليك لِتُنْذِرَ بِهِ اى بانذاراته وتخويفاته من ضل عن طريق الحق واعرض عنه جهلا وعنادا وَتذكر بمواعيده وتبشيراته من وفقه بتذكر الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي إذ هو ذِكْرى وتذكرة نافعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق المتوجهين نحوه بالعزيمة الصحيحة
اتَّبِعُوا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم وَلا تَتَّبِعُوا سيما بعد بعثته ودعوته مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ توالونهم وتراجعون إليهم في الوقائع والخطوب من الجن والانس إذ هو صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبوة فعليكم ان تتبعوه صلّى الله عليه وسلّم كافة وان كان قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى شر ذمة قليلة منكم تتعظون بعظته وتذكيره لميلكم الى اهوية نفوسكم من الجاه والمال والرياسة المستلزمة للتفوق على الأقران
وَعليكم ان لا تغتروا بها بل تذكروا كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية ذوى بطر وثروة أَهْلَكْناها بانزال قهرنا إليها حين استحقوا الهلاك بسبب كفرهم وظلمهم فَجاءَها بَأْسُنا غضبنا وقهرنا عليها بَياتاً حال كونهم راقدين في مضاجعهم ليلا رقود البطر والغفلة أَوْ هُمْ قائِلُونَ مستريحون وقت الضحوة الكبرى تنعما وحضورا
فَما كانَ دَعْواهُمْ اى دعاؤهم وتضرعهم حين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا وظهر عليهم آثار قهرنا إِلَّا أَنْ قالُوا متضرعين مقرين معترفين إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وبعد ما اعترفوا بظلمهم ملحنين لا نبالى باعترافهم وإقرارهم
بل فَلَنَسْئَلَنَّ اى لنستكشفن ونظهرن في النشأة الاخرى أحوالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى أولا من الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ما فعلوا برسلهم حين دعوتهم الى اطاعتنا وانقيادنا وَبعد ما ظهر منهم ما ظهر لَنَسْئَلَنَّ ثانيا عن أحوالهم من الْمُرْسَلِينَ المبلغين لهم أوامرنا ونواهينا عن قبولهم وتكذيبهم وتصديقهم وبعد ما ظهر ايضا منهم ما ظهر
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ جميع أحوالهم وأعمالهم التي صدرت عنهم على التفصيل بِعِلْمٍ لا يعزب عنه شيء من صنائعهم وَكيف يخرج عن حيطة حضرة علمنا شيء من أعمالهم إذ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم بحال من الأحوال بل قد كنا حاضرين معهم شاهدين بعموم أحوالهم وأعمالهم مطلعين عليها بعد الكشف والسؤال على التفصيل
وَالْوَزْنُ الموضوع لانتقاد اعمال العباد يَوْمَئِذٍ اى وقت كشف السرائر وانكشاف الحجب الْحَقُّ اى الثابت المحقق لئلا يبقى للعصاة مجادلة مع الله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بكثرة الطاعات ووفور الخيرات والمبرات فَأُولئِكَ السعداء المبرورون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بقلة الطاعات وكثرة المعاصي فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وما ربحوا لها في الابتلاء بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا يَظْلِمُونَ ويكذبونها ظلما وعدوانا
وَمن كمال لطفنا وجودنا إياكم يا بنى آدم انا لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي مستقر الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ من الملايمات كي تعيشوا بها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا صارفين عموم ما وهبنا لكم الى ما خلقناه لأجله ومع ذلك الفضل العظيم واللطف العميم قَلِيلًا ما اى في غاية القلة منكم تَشْكُرُونَ نعمنا بل تكفرون أكثرها وتصرفونها الى مقتضيات اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة
وَمن عموم جودنا وكرمنا معكم لَقَدْ
خَلَقْناكُمْ وقدرنا تعيناتكم وأظهرنا هوياتكم أولا من كتم العدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ وزيناكم بمقتضيات اوصافنا وأسمائنا وخلقناكم باخلاقنا ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ المهيمين المستغرقين بمطالعة جمالنا اسْجُدُوا اى تذللوا وتواضعوا لِآدَمَ المصور على صورتنا تعظيما لأمرنا وتكريما له إذ هو مرآة مجلوة تحاكى عن عموم اوصافنا وأسمائنا وترشدكم الى وحدة ذاتنا وبعد ما شاهدوا آثار عموم اوصافنا وأسمائنا عليه فَسَجَدُوا له جميعا متذللين إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو رأس جواسيس النفوس الخبيثة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ مع كونه من زمرتهم ومن عدادهم حين أمروا
ثم لما امتنع إبليس عن سجود آدم قالَ سبحانه إظهارا لما تحقق في علمه وكمن في غيبه من خبث طينة إبليس ما مَنَعَكَ يا إبليس أَلَّا تَسْجُدَ لخليفتى ولا تمتثل بأمري وقت إِذْ أَمَرْتُكَ مع رفقائك قالَ إبليس في الجواب حسب هويته الباطلة واهويته الفاسدة أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وأفضل إذ قد خَلَقْتَنِي يا مولاي مِنْ نارٍ منير وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ مظلم كدر ولا يحسن تذلل الفاضل للمفضول المرذول وبعد ما امتنع إبليس عن مقتضى الأمر الوجوبي ولم يتفطن بسره الذي هو التوحيد الذاتي إذ الأمر بسجود المظهر الجامع والظل الكامل انما هو امر في الحقيقة بالتوجه نحو ذي الظل الذي هو الذات الاحدية والمعبود الحقيقي المتجلى عليه رده سبحانه وطرده عن ساحة عز حضوره
حيث قالَ سبحانه مهددا إياه مبعدا فَاهْبِطْ ايها المطرود الملعون وابعد مِنْها من ساحة عز التوحيد وجنة الذات المقتضية اللائقة المستحقة للتذلل والتخشع ورفض الالتفات الى الغير والسوى مطلقا فَما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها بادعاء التفضل والتفوق المقتضى للاضافات الناشئة من انانيتك الباطلة فَاخْرُجْ منها مطرودا مخذولا إِنَّكَ حيث كنت واين أنت مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المحرومين بل أنت بخباءتك هذه سبب صغار عموم الأذلاء وسائر الأشقياء ثم لما ايس إبليس عن القبول وحرم عليه ساحة عز الحضور بسبب إبائه عن سجود آدم وامتناعه قالَ إبليس منتقما من آدم متضرعا الى ربه أَنْظِرْنِي وأمهلني يا ربي فيما بينهم لاضلهم واغويهم إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
قالَ سبحانه إظهارا للسر الذي قد أسلفناه في سورة البقرة إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم ليتميز المحق منهم عن المبطل والمهدى عن الغوى
قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي اى بسبب ما بعدتنى وطردتني يا رب لأجلهم لَأَقْعُدَنَّ والزمن انا البتة لَهُمْ اى لإغوائهم واضلالهم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اى على دينك وطريقك الذي أنت حسب حكمتك قد وضعت فيما بينهم لتوصلهم الى طريق توحيدك فاغويهم وارديهم دائما وأوسوس عليهم مستمرا بأنواع الوسوسة بعضهم بالفسق والظلم وبعضهم بالرياء والسمعة وبعضهم بالمخايل الفاسدة من اللذات الوهمية والخيالية وبالجملة اوسوسهم والبس عليهم لاخرجهم بأنواع المكر والحيل عن جادة توحيدك وصراطك المستقيم
ثُمَّ بعد ما اثر وسوستي في نفوسهم وسرى الى سرهم وقلوبهم لَآتِيَنَّهُمْ من جميع جهاتهم وجوانبهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى لضلهم بالمعاصي الحاصلة من قدامهم وكذا بالمعاصي الحاصلة مِنْ خَلْفِهِمْ وَايضا عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَبالجملة استسخرهم واحيط عليهم باغوائى ووسوستي الى حيث لا تَجِدُ يا معز كل ذليل ومذل كل عزيز حين رجعوا نحوك وحصلوا دونك أَكْثَرَهُمْ بعد رجوعهم إليك شاكِرِينَ صارفين ما أوليتهم من النعم الى ما امرتهم
ثم لما طرده الحق وأبعده وانظره ابتلاء لعباده قالَ سبحانه اخْرُجْ ايها المردود المطرود مِنْها اى
من عرصة اهل الوحدة وجنة التوحيد مَذْؤُماً حال كونك حاملا للمذمة والمذلة مَدْحُوراً مطرودا مستوجبا للعنة مستحقا بها وافعل بهم ما شئت والله لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بعد ما أظهرتهم على صورتي وكرمتهم بكرامتي على جميع خليقتي ونفخت فيهم من روحي وتجليت عليهم بعموم أوصافي وأسمائي وأرسلت إليهم رسلي وانبيائى وأنزلت عليهم كتبي لتبيين طريق توحيدي ولا سيما قد نبهت لهم عداوتك وتضليلك إياهم ووسوستك عليهم وبالغت في تخويفهم عنك وعن اغرائك وتغريرك عليهم بما يذلهم ويغويهم ويزيلهم عن صراط توحيدي وجادة هدايتي لأطردنهم البتة عن عز حضورى واخرجنهم عن جنة سروري واعلموا يا بنى آدم انى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ان اتبعتم عدوى وعدوكم إبليس فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله
وَبعد ما طرد سبحانه إبليس بشؤم ما امتنع من تكريم آدم قال سبحانه لآدم ابتلاء له واختبارا وتوصية له بحفظ مرتبته مناديا له على سبيل الترحم يا آدَمُ المكرم المسجود اسْكُنْ أَنْتَ بمتابعة عقلك الموهوب لك المفاض من العقل الكل الذي هو حضرة علمنا وَزَوْجُكَ بمتابعة نفسها الفائضة عليها من النفس الكلية التي هي حضرة قدرتنا الْجَنَّةَ التي هي مقر اهل التوحيد ومنزل ارباب الولاء والتجريد من الواصلين الفائزين بشرف القبول والوصول فَكُلا منها مِنْ حَيْثُ شِئْتُما واحظظا من لذاتها الروحانية من حقائقها ومعارفها وشهوداتها وكشوفاتها وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ التي هي من اغذية انفسكم الامارة ومن اهوية هوياتكم البهيمية التي بها بعدكم وافتراقكم عن الله تعالى وانحرافكم عن طريق توحيده فَتَكُونا بتقربها وتناولها مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأمر والحكم الإلهي المستحقين لطرده ومقته
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ اى أوقعهما في الدغدغة بأمر الشجرة وان كان وسوسته ايضا من مقتضيات الحكمة المتقنة الإلهية بعد ما وصاهما الحق سبحانه ونهاهما عنه وليس غرضه الا نزع لباس الصيانة والتقوى عنهما لِيُبْدِيَ اى يظهر لَهُما ما وُورِيَ اى غطى وستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما التي هي من مقتضيات بشريتهما ومن نتائج هويتهما الباطلة وَبعد ما اشربهما الوسوسة واثرت فيهما قالَ على وجه الشفقة والنصيحة وارادة الخير ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ المباركة المزيحة عنكم لوث بشريتكم إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بتناولها أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فيها
وَبعد ما نصحهما واشفقهما وسمعا منه ما سمعا قاسَمَهُما اى بادر الى القسم تأكيدا وترويجا لقوله إياهما ونصحه لهما قائلا والله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ المشفقين المريدين خيركما
وبالجملة فَدَلَّاهُما اى اسقطهما عن معالى العز الى مهاوي الذل بِغُرُورٍ قد غرهما به على وجه الانتقام فَلَمَّا سمعا قوله وقبلا غروره ذاقَا الشَّجَرَةَ مطمعين على ما اغريهما من الشرف والخلود وبعد ما ذاقا منها بَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما إذ قد نزع عنهما لباس التقوى وثياب العصمة أولا وَبعد ما نزع لباسهما وظهر سوآتهما طَفِقا وأخذا يَخْصِفانِ يلصقان ويلزقان عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى أشجارها قيل هي التينة وقيل الكرمة وَبعد ما بدى منهما ما بدى ناداهُما رَبُّهُما موبخا مقرعا أَلَمْ أَنْهَكُما ايها المسرفان المفسدان عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَالم أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ المضل المغوى لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة شديد الخصومة ولا تسمعا قوله ولا تتبعا امره
ثم لما سمعا من ربهما ما سمعا قالا متضرعين متذللين معترفين على زلتهما رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد قد ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا بمتابعة عدونا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ولم تتجاوز عنا وَلم تَرْحَمْنا بفضلك وجودك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما
ثم لما صدر منهما ما صدر بوسوسة عدوهما امر سبحانه باخراجهما عن دار السرور الى دار الابتلاء والغرور حيث قالَ سبحانه اهْبِطُوا اى انزلوا وانحطوا ايها المتجاوزون عن حدودنا أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا عن مقر العز ومرتبة الإطلاق والتجريد الخالي عن عموم الإضافات والتقييد الى محل الكون والفساد ومنزل البغي والعناد إذ بَعْضُكُمْ في دار الدنيا التي هي نشأة الاختبار والابتلاء لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ابدا لا يرتفع الخصومة عنكم أصلا وَلَكُمْ ايها المتخاصمون فِي الْأَرْضِ التي هي مرتع الطبيعة ومحل الفتن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى تمتع وتنعم من لذاتها وشهواتها إِلى حلول حِينٍ قدر الله سبحانه بمقتضى حكمته لانقضاء آجالكم وانقطاع آمالكم ثم لما تحيرا واضطربا في أمرهما وفساد حالهما
قالَ سبحانه منبها عليهما فِيها اى في ارض الطبيعة تَحْيَوْنَ بالحيوة المستعارة الطبيعية وَفِيها ايضا تَمُوتُونَ بالموت الطبيعي وَمِنْها ايضا تُخْرَجُونَ لجزاء ما اقترفتم من خير وشر وتقرب وتبعد عن الحق في حياتكم الطبيعية التي هي دار الابتلاء ومزرعة الأجر والجزاء ان خيرا فخير وان شرا فشر. ثم قال سبحانه مناديا لكم ايها المكلفون في مقام الامتنان وتعديد النعم والإحسان لتواظبوا بشكر نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه وتحافظوا على انقياده وأطاعته بعد ما صدر عنكم الكفر والكفران والخروج عن مقتضى الأوامر والنواهي
يا بَنِي آدَمَ المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة قَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكُمْ لِباساً اى عقلا مفاضا مدبرا يُوارِي ويستر بتدبيره سَوْآتِكُمْ اى عموم مقتضيات بشريتكم ولوازم بهيميتكم وَوهبنا لكم ايضا من وفور لطفنا عليكم رِيشاً اى معارف وحقائق نزينكم ونميزكم بها عن جميع المخلوقات ونستخلفكم بسببها من بين سائر البريات وَاعلموا ان أفضل اوصافكم وأكملها وأجملها لِباسُ التَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن عموم منهياته ومحظوراته فعليكم ان تلبسوها وتتحفظوا بها عن عموم ما لا يليق لمرتبتكم وفطرتكم وبالجملة ذلِكَ اى لباس التقوى خَيْرٌ لكم وحقيق بحالكم ورتبتكم ان أردتم ان تصلوا الى مرتبة التوحيد التي قد جبلتم لأجلها ذلِكَ اى المنزل المذكور مِنْ جملة آياتِ اللَّهِ الدالة على استقلاله سبحانه في ألوهيته وكمال استحقاقه في ربوبيته انما أنزلها عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا نعمه فيعرفوا المنعم وينكشفوا بتوحيده
ثم ناداهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بقوله يا بَنِي آدَمَ مقتضى خلافتكم ونيابتكم ان لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ اى لا يوقعنكم في الغي والضلال بفتنته ووسوسته كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ بالفتنة والغرور مِنَ الْجَنَّةِ التي هي دار السرور ومنزل الحضور وأهبطهما بوسوسته الى الأرض التي هي محل المحن والشرور حيث يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما اى تسبب للنزع بتغريرهما واغرائهما الى تناول المنهي عنه لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما انتقاما عنهما وتفضيحا لهما فعليكم ايها الأبناء والذراري ان تجتنبوا عن غوائله وتتعوذوا الى الله عن عموم مخايله وتتخذوه سبحانه وقاية ووكيلا حتى تتخلصوا عن وسوسة شياطين الأهواء وتسويلات القوى الامارة المائلة الى المكر والمراء وعليكم ان لا تغفلوا عنه بحال إِنَّهُ دائما يَراكُمْ ويرقبكم هُوَ اى الشيطان نفسه وَقَبِيلُهُ اى جنوده الامارة بالسوء رؤية صادرة عن محض العداوة والطغيان مِنْ حَيْثُ اى من مكان
لا تَرَوْنَهُمْ أنتم إياهم إذ هم مرتكزون في نفوسكم يضلونكم ويغوونكم على صورة الهداية والإرشاد فعليكم ان تخالفوا اهوية نفوسكم مطلقا وتجانبوا عن مناها ومشتهياتها ومع ذلك تضرعوا نحونا وتعوذوا بنا من غوائلهم ومخايلهم إِنَّا جَعَلْنَا بمقتضى حكمتنا المتقنة الشَّياطِينَ اى عموم الطواغيت المضلة عن سواء السبيل أَوْلِياءَ مسلطين مستولين لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاتنا واستقلال استيلائنا وبسطتنا على ذرائر عروش ملكنا وملكوتنا
وَمن علامة تسليطنا إياهم انهم إِذا فَعَلُوا اى الكافرون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بتغرير الشياطين ووسوستهم فاحِشَةً اى فعلة ذميمة قبيحة متناهية في القبح والشناعة فنهوا عنها وأمروا بالكف والترك على لسان رسلنا وانبيائنا قالُوا في الجواب مصرين قد وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَهم يقولون اللَّهُ أَمَرَنا بِها في ما انزل علينا على لسان نبينا فيما مضى قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم الهادي لعباده الى طريق توحيده لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ المنافية للعدالة الإلهية المسقطة للمروة مطلقا أَتَقُولُونَ ايها المفترون عَلَى اللَّهِ المنزه عن شوب النقص وسمته مطلقا ما لا تَعْلَمُونَ لياقته بشأنه تعالى عما يقول الظالمون
قُلْ يا أكمل الرسل قد أَمَرَ رَبِّي حسب فضله ولطفه على وعلى عموم من أمرهم ونهاهم من عباده بِالْقِسْطِ والعدل السوى في جميع مأموراته ومنهياته بلا ميل الى جانبي الإفراط والتفريط وَعليكم ايها المؤمنون ان أَقِيمُوا واستقيموا وُجُوهَكُمْ التي بها ميلكم وتوجهكم نحو الحق بلا ميل الى ما سواه سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام تتذللون فيه وتتوجهون نحوه وتبثونه لأجله وَبالجملة ادْعُوهُ وتوجهوا نحوه حال كونكم مستقيمين في إطاعتكم وانقيادكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى الطاعة والانقياد بلا شوب الميل الى الغير والسوى مطلقا واعلموا ايها الاظلال الزائلة والعكوس الهالكة المستهلكة في اشعة شمس الذات كَما بَدَأَكُمْ الله وأظهركم من كتم العدم بمد ظله إليكم ورش نوره عليكم تَعُودُونَ نحوه بقبض الظل وطيه فانظروا ما أنتم عليه ايها الاظلال الهلكى
ومع ذلك فَرِيقاً منكم هَدى بتوفيق الله الى مبدأه ومعاده وَفَرِيقاً آخر وقد ضل وغوى لذلك حَقَّ وثبت واستقر عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في مكمن القضاء وكيف لا يحق ولا يحيط بهم الضلال إِنَّهُمُ من غاية غفلتهم وغرورهم قد اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ وأخذوهم أَوْلِياءَ آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بذاته وَيَحْسَبُونَ بسبب هذا الاتخاذ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الى طريق النجاة بل هم ضالون تائهون
يا بَنِي آدَمَ المجبولين على زي التقوى ولباس السلامة خُذُوا زِينَتَكُمْ التي زينكم الله بها من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام معد للميل والتوجه نحو الحق بوجوهكم التي تلى الحق وَمع ذلك لا تهملوا امر مراكبكم التي هي نفوسكم وهوياتكم لئلا تبطلوا صنع الله ولا تخربوا بنيانه بل كُلُوا مقدار سد الجوعة مما اباحه الله تعالى لكم وَاشْرَبُوا قدر دفع العطش من المباح وَلا تُسْرِفُوا فيهما بحيث يؤدى الى تقوية القوى البهيمية إِنَّهُ سبحانه حكيم في عموم افعال عباده عليم بمقاديرها لذلك لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين عن حد الحكمة والعدالة ولا يرضى عن فعلهم هذا لاخلال اسراف الاكل والشرب على الميل المعنوي الذي هم جبلوا لأجله إذ الشبع يميت القلب وينقص الجودة الانسانية ويزيد القوى البهيمية
قُلْ يا أكمل الرسل للمحجوبين من اهل الظاهر
المحرومين عن الرزق المعنوي المحرمين لأنفسهم التوجه نحو التوحيد الذاتي في هذه النشأة مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ واظهر لِعِبادِهِ الخلص المخصوصين المختصين من ذرائر الكائنات بتجليات الأسماء والصفات الذاتية وَكذا من حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المعنوي والمستلذات الروحانية قُلْ لهم يا أكمل الرسل هِيَ حاصلة حاضرة مشهودة مشاهدة لِلَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الإلهي فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والنشأة الاولى ايضا لكنها مشوبة مخلوطة بالقوى البشرية والكدورات البهيمية فتصير خالِصَةً ممتازة لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا شوب كدورة وخلط غفلة حين انتزعوا عن جلباب الهويات الباطلة في البسة التعينات العاطلة مطلقا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على توحيدنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ علما يقينا ويتوجهون نحو الكشف والعيان
قُلْ يا أكمل الرسل المولى لتدبير مصالح عموم العباد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ والقبائح الصادرة عن ذوى الأحلام السخيفة والنفوس الخبيثة ما ظَهَرَ مِنْها وسرى أثرها الى الغير من الظلم وشهادة الزور ورمى المحصن والغيبة والنميمة وغيرها من القبائح التي قد صدرت من الالسنة والأيدي وتعدت آثارها الى الغير وَكذا ما بَطَنَ من القبائح التي صدرت من الفروج وما يترتب عليها ويؤدى إليها من مقدماتها وَبالجملة كل ما يوجب الْإِثْمَ المستلزم للانتقام والعقاب شرعا وَالْبَغْيَ اى الخروج على الولاة وجمهور المسلمين بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية وَاعلموا ان أعظم المحرمات جرما وأشدها انتقاما عند الله أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا ما اى شيأ من مصنوعاته مع انه لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ افتراء ومراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته له لا عقلا ولا نقلا
وَاعلموا ان لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم العاصية الضالة أَجَلٌ مقدر من عند الله لمقتهم وهلاكهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المقدر المبرم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم فيه لا طلب التأخير بمقتضى اهويتهم ولا طلب التقديم تخليصا لنفوسهم من الأذى بل امره حتم نازل في وقته وحينه بلا تخلل تقدم وتأخر لكمال قدرته سبحانه ومتانة حكمه وحكمته
يا بَنِي آدَمَ المستكملين القابلين للإرشاد والتكميل المستعدين لفيضان كمال التوحيد إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ اى ان يأتينكم ويرسلن إليكم رُسُلٌ مِنْكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم إذ هم ادخل لنصحكم وإرشادكم وانسب لجذب قلوبكم واشفق عليكم من الأجانب حال كونهم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي المنزلة من عندي الدالة على وحدة ذاتى فعليكم ان تصدقوهم وتؤمنوا لهم وبعموم ما جاءوا به من عندي من الأوامر والنواهي فَمَنِ اتَّقى منكم عن محارم الله بواسطة رسله وآياته وَأَصْلَحَ اى أخلص اعماله لله بلا ترقب على الأجر والجزاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمثوى
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها وعن من أنزلت اليه عتوا وعنادا أُولئِكَ المكذبون المستكبرون أَصْحابُ النَّارِ المعدة لجزاء المخذولين من اهل الضلال هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نجاة لهم منها أصلا نعوذ بك من سخطك يا ذا القوة المتين وبعد ما أرسل الرسل وانزل الكتب
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم الفرية والمراء كَذِباً ونسب اليه سبحانه ما لم يصدر عنه افتراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الصادرة عنه عنادا ومكابرة أُولئِكَ المفترون المكذبون يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ اى مما كتب في اللوح المحفوظ وثبت فيه
من العذاب والنكال لذوي الجرائم والآثام حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ اى ملائكتنا الموكلون عليهم لقبض أرواحهم قالُوا لهم توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وتعتقدونهم شفعاء شركاء قالُوا متضرعين مضطرين قد ضَلُّوا عَنَّا وغابوا عن أعيننا بعد ما أضلونا عن طريق الحق وَشَهِدُوا حينئذ واعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في مدة حياتهم كافِرِينَ ضالين عن طريق الحق ساترين له
قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والجلال بمقتضى عدله السوى ادْخُلُوا ايها الضالون المكذبون فِي زمرة أُمَمٍ عاصية كافرة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ على الكفر والضلال أمثالكم كائنة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ المعدة لجزاء العصاة الغواة الكفرة وبعد صدور الأمر الوجوبي منه سبحانه صار الأمر والشان بحيث كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في نار الخذلان وسجن الحرمان لَعَنَتْ أُخْتَها التي اضلتها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا اى تداركوا وتلاحقوا فِيها جَمِيعاً مزدحمين مجتمعين قالَتْ أُخْراهُمْ اى تابعوهم ومتأخروهم لِأُولاهُمْ لأجل متبوعيهم ومقدميهم وفي حقهم مشيرين إليهم متضرعين الى الله رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد هؤُلاءِ الضالون المضلون قد أَضَلُّونا عن طريق هدايتك وارشادك بوضع سنن الغي والضلال بيننا فاقتدينا بهم وبسننهم فضللنا فَآتِهِمْ الآن وانزل عليهم عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ اى مثلي عذابنا لأنهم ضالون مضلون قالَ سبحانه بمقتضى عدله القويم لِكُلٍّ منكم ايها الاتباع والمتبوعون ضِعْفٌ من النار اما المتبوعون فلضلالهم واضلالهم واما التابعون فاضلالهم في أنفسهم وتقليدهم بهؤلاء الغواة المضلين لا بالأنبياء الهادين وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنتم لا استحقاقكم ولا استحقاقهم
وَبعد ما سمعت الاولى المتبوعون المضلون من الاخرى الضالين التابعين ما سمعت قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ انا وأنتم مستوون في الضلال فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تستحقون به تخفيفا بل فَذُوقُوا الْعَذابَ أنتم بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كما نذوقه بما نكسب
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يؤمنوا بها عتوا وعنادا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الإلهية والأعيان الثابتة الجبروتية حتى يفيض عليهم من الفيوضات والفتوحات اللاهوتية لينكشفوا بوحدة الذات الاحدية وَبالجملة هم لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ اى مقر الوحدة الذاتية حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ اى دخولهم في مقر الوحدة وحيطتها في الاستحالة كولوج الجمل في سم الخياط بل أشد استحالة وامتناعا منه هذا مثل يضرب في الممتنعات والمستحيلات مبالغة وَبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ المخرجين عن ساحة عز الوحدة بجرائم اهوية هوياتهم الباطلة
وبالجملة لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ اى من لوازم الإمكان مِهادٌ وفراش يحترقون عليه بنيران الامنية والآمال الطويلة وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ اى اغشية وأغطية متخذة من سعير الجاه والمال ودعوى الفضل والكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الحدود الإلهية بمقتضيات نفوسهم المنغمسة في اللذات الحسية والوهمية والخيالية
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه بمقتضى استعداداتهم وقابلياتهم وبمقدار وسعهم وطاقتهم تأكيدا لإيمانهم مع انا لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ السعداء الباذلون مهجهم وجهدهم في سلوك سبيل الفناء أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب المحبة والولاء
المتمكنين في مقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء هُمْ فِيها خالِدُونَ ما شاء الله إذ لا حول ولا قوة الا بالله
وَبعد ما دخلوا جنة الوحدة نَزَعْنا اى امطنا وأخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ مشعر بالاثنينية والأنانية ليتمكنوا في مقر الوحدة مطمئنين متوجهين إذ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف المترشحة من بحر الوجود وَبعد ما كوشفوا بفناء تعيناتهم وفوزوا بالبقاء السرمدي الإلهي قالُوا بلسان استعداداتهم بإلقاء الله إياهم بعد ما تحققوا بمقام الشكر الْحَمْدُ والثناء المنبعث عن محض التسليم والرضا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي هَدانا لِهذا اى أوصلنا بمقام الرضا بالقضاء وشرف اللقاء والفوز بالبقاء وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لو بقينا في حبس هوياتنا وسجن تعيناتنا لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ المنعم المفضل بمقتضى لطفه وسعة رحمته وجوده وحين تمكنوا في مقام الكشف والشهود اقسموا بالله متبركا متيمنا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا لإرشادنا وتكميلنا متلبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع وعموم ما جاءوا به وبعد ما تحققوا بمقام الشكر وَاعترفوا بما اعترفوا نُودُوا من وراء سرادقات المعظمة والجلال أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ اى الوحدة الذاتية أُورِثْتُمُوها اى قد أعطيتموها وتمكنتم فيها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمقتضى أوامر الله ونواهيه وارشاد رسله وتذكير كتبه
وَبعد ما قد تمكن اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ليفتضحوا على رؤس الاشهاد أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من المواعيد والتبشيرات على السنة رسله وكتبه حَقًّا صدقا يقينا بعد ما تيقناه علما ويقينا في ما مضى فَهَلْ وَجَدْتُمْ ايها المحبوسون في سجن الإمكان ونار الحرمان ما وَعَدَ رَبُّكُمْ لكم من الوعيدات الهائلة والإنذارات الشديدة الجارية على السنة الرسل والكتب حَقًّا مطابقا للواقع أم لا قالُوا متحسرين متأسفين مضطرين مضطربين عما هم عليه نَعَمْ الآن قد أصبنا ما كذبنا وحققنا ما أبطلنا وأيقنا ما أنكرنا وبعد ما جرى بينهم من المقالة ما جرى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اى هتف هاتف من وراء سرادقات العظمة والجلال الا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور وطرده وتبعيده نازل ثابت عَلَى الظَّالِمِينَ
الَّذِينَ يَصُدُّونَ ينصرفون وينحرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المستقيم الموصل الى جنة الوحدة وروضة التسليم وَيَبْغُونَها اى يطلبون ان يحدثوا فيها عِوَجاً ويوقعوا فيها زيغا وضلالا وينصرفوا عنها انصرافا وانحرافا وَبالجملة هُمْ قد كانوا بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء وتنقيد الأعمال كافِرُونَ مكذبون لها منكرون بها
وَبَيْنَهُما اى بين الموحدين المتمكنين في نعيم الجنان المشرفين بشرف لقاء الرّحمن وبين المشركين المحبوسين في سجن الإمكان المحترقين بنيران الحرمان حِجابٌ لا يدرك كنهه الا العليم العلام وَعَلَى الْأَعْرافِ اى البرزخ المعهود رِجالٌ من الأبرار يَعْرِفُونَ كُلًّا من الفريقين بِسِيماهُمْ اى بوجوههم التي يلي الحق والباطل وهم متقررون في البرزخ لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء وَنادَوْا اى اهل البرزخ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هنيئا لكم ما تتنعمون فيها وتتمتعون بها مع انهم وان لَمْ يَدْخُلُوها بعد وَهُمْ يَطْمَعُونَ دخولها اتكالا على فضل الله وسعة رحمته وجوده
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ بغتة اى ابصار اهل البرزخ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا متضرعين متخشعين رَبَّنا وان صدر عنا ما صدر من التقصير لا تَجْعَلْنا حسب لطفك وجودك مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات حدودك مطلقا عنادا وإصرارا
وَنادى
أَصْحابُ الْأَعْرافِ على سبيل التوبيخ والتقريع رِجالًا من صناديد اصحاب النار قد كانوا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ اى بوجوههم الباطلة العاطلة المبعدة عن الحق من المال والجاه والثروة والنخوة والرياسة وغيرها قالُوا لهم متهكمين متعرضين ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ اى ما أسقط جمعكم المال وجمعيتكم بسبب الجاه والثروة شيئا من عذاب الله وما دفع عنكم من نكاله وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ اى ما يفيدكم استكباركم على خلق الله وآياته اليوم انظروا ايها الحمقى الهالكون
أَهؤُلاءِ المترفهون المتنعمون في مقر العز والتمكين هم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أنتم في النشأة الاولى مستهزئين لهم متهكمين لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وفضل في النشأة الاخرى ايضا كما لم ينالوا في الاولى انظروا كيف حالهم فيها وكيف قيل لهم كرامة وتكريما من قبل الحق تفضلا عليهم وامتنانا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي دار الأمن والامان ومنزل الفرح والسرور لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليوم بعد ما دخلتم فيها وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من فوت شيء وتعويقه
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ صارخين مستغيثين متمنين متحسرين أَنْ أَفِيضُوا وصبوا عَلَيْنا مِنَ رشحات الْماءِ الذي هو سبب حياتكم الحقيقية وبقائكم السرمدي أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الجواد الكريم من الرزق الصوري والمعنوي قالُوا في جوابهم بالهام الله إياهم إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده قد حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي هو سبب حياتهم الحقيقية في هذه النشأة في الحيوة الدنيا والنشأة الاولى لَهْواً وَلَعِباً يلهون ويلعبون به ويكذبون من أرسل إليهم وانزل عليه الكتب لتبيينه متهكمين معه مستهزئين إياه وَما ذلك الا ان غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بمزخرفاتها من اللذات الجسمانية والشهوات النفسانية وصاروا بسبب تغريرها ناسين العهود والمواثيق التي جرت بيننا وبينهم في بدأ فطرتهم فَالْيَوْمَ اى حين انكشفت السرائر وارتفعت الحجب نَنْساهُمْ ولم نلتفت نحوهم كَما نَسُوا في النشأة الاولى لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا في النشأة الاخرى مع ورود الإنذارات والتخويفات الجارية على السنة الرسل والكتب وَما كانُوا اى وكما كانوا بِآياتِنا الدالة على أمثال هذه المثوبات والإنعامات يَجْحَدُونَ ينكرون ويصرون كذلك يخلدون في النار وينسون
وَكيف لا يخلدون في النار ولا ينسون لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ مبين لجميع احوال النشأتين واحكامهما مع انا قد فَصَّلْناهُ وأوضحنا معانيه وبينا ما فيه من العقائد والاحكام مفصلا عَلى عِلْمٍ حضورى منا متعلق بتفصيله بحيث لا يشذ عن علمنا شيء أصلا وانما فصلناه وأوضحناه وجئنا به ليكون هُدىً اى هاديا ومرشدا ودليلا يرشد ويهدى الى توحيدنا وَرَحْمَةً مخلصة عن سجن الطبيعة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به وبحقيته وبعد ما آمنوا به وبما فيه من احوال النشأة الاولى والاخرى
هَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المؤمنون إِلَّا تَأْوِيلَهُ اى ما يئول اليه وما يترتب عليه بعد ما حصل لهم الإذعان بالوقوع يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ويظهر مآله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ ونبذوه وراء ظهورهم مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع فكذبناهم نحن مكابرة وعنادا فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ليخلصونا من نكال ما أجرمنا أَوْ نُرَدُّ بشفاعتهم على أعقابنا فَنَعْمَلَ حينئذ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في ايام الغفلة وبالجملة هم قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والشرك وعبادة الغير وَمع ذلك قد ضَلَّ اى غاب وخفى عَنْهُمْ لدى الحاجة ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة والمظاهرة وكيف لا تتنبهون ولا تنكشفون ايها العقلاء
المجبولون على فطرة التوحيد بوحدة الذات المتجلية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بينهما من كتم العدم بمد اظلال أوصافه وأسمائه عليها وبرش رشحات ماء الحيات المترشحة من بحر الوجود إياها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اوقات تارات ودفعات ليشير بها الى احاطتها بالجهات كلها ثُمَّ اسْتَوى واستولى عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم المظاهر والمكونات الكائنة في الأقطار والآفاق منزها عن جميع الحدود والجهات وكذا عن الاستواء والاستقرار والتمكن مطلقا ورتب امور المكونات على حركات الأفلاك بحيث يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يغطى ويستر بالليل وجه النهار مع ان النهار يَطْلُبُهُ ويعقبه حَثِيثاً سريعا وَبالجملة قد جعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وحكمه يتحركن حيث أمرها الحق سبحانه أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في ذات الله الفانية المضمحلة في هويته الوحدانية انه لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حكمه وارادته الْخَلْقُ اى عموم الإيجاد والإظهار وَالْأَمْرُ اى مطلق التدبير والتصرف بالاستقلال والاختيار تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ اى تعاظم وتعالى في ألوهيته عن ان يدركه العقول والافهام وفي ربوبيته عن المظاهرة والمشاركة بالأمثال والأشباه مطلقا
ادْعُوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد رَبَّكُمْ الذي قد تفرد بتربيتكم وايجادكم تَضَرُّعاً متضرعين صائحين نحوه إذ لا ملجأ لكم سواه وَخُفْيَةً مناجين معه خائفين خاشعين من صولة قهره منيبين اليه عن ظهر القلب لا متقلقلين ملقلقين على طرف اللسان عادين حاسبين وبالجملة إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين المجاهرين الملحين المقترحين في الدعاء إذ علمه بحالهم يغنيهم عن سؤالهم
وَعليكم ايها المكلفون ان لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد سيما بَعْدَ إِصْلاحِها بإرسال الرسل وإنزال الكتب وَادْعُوهُ سبحانه ان أردتم الالتجاء اليه والمناجاة معه خَوْفاً وَطَمَعاً اى خائفين من رده حسب قهره وجلاله راجين من عفوه وقبوله حسب لطفه وجماله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ المجيب لدعوة المضطرين عناية وفضلا قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ويقومون بين يديه خائفين مستحين من سطوة سلطنة قهره وجلاله راجين طامعين من فضله ونواله وَكيف لا يكون رحمته قريبة من المحسنين الموقنين
مع انه هُوَ المنعم المفضل الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ويثيرها بُشْراً نشرا ناشرات مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام روحه ورحمته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ اى حملت وأثقلت وجمعت وركبت من البخارات المتراكمة سَحاباً غليظا ثِقالًا بالاجزاء المائية سُقْناهُ من كمال فضلنا وجودنا لِبَلَدٍ مَيِّتٍ جامد يابس لأجل احيائه ونضارته فَأَنْزَلْنا بِهِ اى بالبلد الميت او بالسحاب او بالسوق الْماءَ المحيي فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى أجناسها وأنواعها المختلفة بالطعوم والروائح والألوان كَذلِكَ اى مثل اخراجنا بالماء الصوري انواع الثمرات من البلد الميت الصوري نخرج ايضا بالماء المعنوي الذي هو العلم اللدني من أراضي القابليات من استعدادات الموتى المحجوبين بالحجب الظلمانية والجهل الجبلي الهيولاني بإرسال رياح أنفاس الأنبياء والأولياء المستنشقة من النفس الرحمانى مبشرات بالكشوف المشاهدات حتى إذا اجتمعت وتراكمت وصارت سحابا شرعيا تكليفيا ثقالا بمياه الحكمة والتقوى سقناه من كمال فضلنا وجودنا الى بلاد
النفوس الميتة بالجهل الجبلي اليابسة التي لا ينبت فيها نبات العلوم اللدنية مطلقا فاجرينا فيها منها انهار المعارف وجداول الحقائق المنتشئة من قلوب الأنبياء والأولياء المكملين فأخرجنا بها ثمرات اليقين العلمي والعيني والحقي نُخْرِجُ الْمَوْتى في النشأة الاخرى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعرفون قدرتنا على عموم مقدوراتنا ومراداتنا
وَبعد سوقنا مياه جودنا الى أموات الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الذي هو نجيب المنبت لطيف الطينة قابل التربية يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ اى بتوفيقه سبحانه وبمقتضى تربيته جيدا نافعا كثيرا بمقتضى استعداده الفطري وَالبلد الَّذِي خَبُثَ طينته وقلت قابليته كالحرة والسبخة لا يَخْرُجُ نباته بعد اجراء المياه اللطيفة عليه إِلَّا نَكِداً قليلا غير نافع بل ضار مؤلم كالنفوس المنهمكة في الغي والضلال الى حيث لا يؤثر فيها مياه الحكم والمعارف الجارية على السنة الرسل لخباثة طينتها وقلة قابليتها كَذلِكَ نُصَرِّفُ نردد ونكرر الْآياتِ الدالة على استقلالنا في ملكنا وملكوتنا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بنعمائنا ويتفكرون في آلائنا ويعتبرون بها الى ان يستغرقوا في مطالعة جمالنا ثم أشار سبحانه الى تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات بتفصيل الأمم الهالكة بموت الجهل والعناد وخبث طينتهم وردائة فطرتهم
فقال مقسما والله لَقَدْ أَرْسَلْنا رسولنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ بعد ما انصرفوا عن جادة التوحيد وانحرفوا عن طريق الحق بالميل الى الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة فَقالَ لهم نوح عليه السّلام امحاضا للنصح على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة اللَّهَ المتوحد في الألوهية المتفرد بالربوبية المستحق للعبودية واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق غَيْرُهُ ينقذكم من عذابه فان لم تعبدوه ولم توحدوه إِنِّي بعد ما اوحى الى هدايتكم وتنبيهكم على توحيده أَخافُ ان لم تقبلوا منى ان ينزل عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم الطوفان في النشأة الاولى ويوم القيمة في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه مقالته
قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لائح تأمرنا أنت بترك عبادة الآلهة المحققة الموجودة بين أظهرنا وتدعونا الى عبادة اله واحد موهوم ابدعته من عند نفسك افتراء ومراء
قالَ ايضا على مقتضى شفقة النبوة لعلهم يتنبهون يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كما زعمتم من جهلكم وَلكِنِّي رَسُولٌ هاد لكم مرسل إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي أوجدكم ورباكم بأنواع التربية حتى تعترفوا بربوبيته وتقروا بتوحيده
وانما جئت لكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ بآياته وتذكيراته سبحانه حتى تفوزوا من عنده بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا بهدايتى وإرشادي وَلا تضعفونى ولا تنسبونى الى الجهل والسفه انى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ الحكيم العليم بمقتضى توفيقه على وحيه الى ما لا تَعْلَمُونَ أنتم منه سبحانه ذلك
أَكذبتموني وانكرتمونى وَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ موعظة وتذكير لإرشادكم ناش مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مؤيد من عند الله مستحدث مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ به عن الكفر وعموم المعاصي ووخامة عاقبتهما وَلِتَتَّقُوا عن محارم الله بسبب إنذاره وتخويفه وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بإتيان مأموراته وترك منهياته عناية وتفضلا
فَكَذَّبُوهُ بعد ما ضعفوه ونسبوه الى الضلال والجنون فانتقمنا منهم وأخذناهم بالطوفان فَأَنْجَيْناهُ وَالمؤمنين الَّذِينَ مَعَهُ داخلين فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسولنا وبالجملة إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ غير مستبصرين بآيات الله الدالة على توحيده لقساوة قلوبهم وشدة عمههم
في الغفلة والضلال
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم عادٍ حين خرجوا عن ربقة الايمان وعروة التقوى أَخاهُمْ هُوداً اضافه إليهم بالاخوة المنبئة عن كمال الشفقة ووفور الاعطاف والمروءة قالَ مناديا مضيفا لهم الى نفسه ليقبلوا قوله ويمتثلوا بما جاء به من ربه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المظهر الموجد لكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم واعتقدوا يقينا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مرب غَيْرُهُ فعليكم ان تعبدوه ايمانا به وعملا بما جاء من لدنه على أنبيائه ورسله حتى تتحققوا بمقر التوحيد وتتمكنوا في مقعد الصدق أَتنكرون وحدة الحق وتعبدون غيره من الآلهة الباطلة العاطلة فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه واخذه
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إذ بعض الأشراف قد آمن به كمرثد بن سعد إِنَّا لَنَراكَ يا هود فِي سَفاهَةٍ عظيمة في دعوى الإرشاد والتكميل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ في ادعاء الرسالة والنبوة مِنَ الْكاذِبِينَ
قالَ يا قَوْمِ لا تسفهوني ولا تكذبوني إذ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ من الله مرسل إليكم لهدايتكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ
انما جئتكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فعليكم ان تتعظوا بعظتى وتتصفوا بعموم ما نصحت لكم بالهام الله إياي ووحيه لتكونوا من زمرة المؤمنين الموقنين
أَانكرتم وكذبتم امرى وهداي وَعَجِبْتُمْ بانهماككم في الغي والضلال من أَنْ جاءَكُمْ لإصلاح حالكم وإرشادكم ذِكْرٌ اى عظة وتذكير مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ موفق مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ عما يضلكم ويغويكم تفضلا وامتنانا عليكم وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا ولا تنكروها بل اذْكُرُوا عظائم نعمه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وأورثكم ارضهم وديارهم وأموالهم وَزادَكُمْ بسببها فِي بين الْخَلْقِ بَصْطَةً تفوقا واستعلاء وترفعا واستيلاء فَاذْكُرُوا ايها المترفهون بنعم الله المغمورون بموائد كرمه آلاءَ اللَّهِ الفائضة عليكم واشكروا لها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون من عنده بشرف الرضا والتسليم ثم لما بالغ في نصحهم وإرشادهم وبلغ جهده في أداء الرسالة والتبليغ
قالُوا في جوابه من غاية قسوتهم ونهاية حميتهم مستفهما مقرعا أَجِئْتَنا ايها الكذاب السفيه لِنَعْبُدَ اللَّهَ الذي قد ادعيت أنت انه وَحْدَهُ لا شريك له ولا اله سواه وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة الموروثة لنا من أسلافنا عبادتهم فاذهب يا مجنون أنت وإلهك فانا لا نؤمن بك وبه أصلا وان شئت فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب والنكال وانواع الخسار والوبال إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك ثم لما ايس هود عليه السّلام من هدايتهم وصلاحهم
قالَ قَدْ وَقَعَ اى قد نزل ووجب وحق عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وعذاب شديد تضطربون به وَغَضَبٌ نازل من عنده بحيث يستأصلكم بالمرة أَتُجادِلُونَنِي ايها المغضوبون عليكم بغضب الله سيما فِي أَسْماءٍ وأشياء قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ آلهة من تلقاء انفسكم وتعبدونها كعبادة الله عنادا مع انه ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان تستدلون بها على عبادة هؤلاء التماثيل الباطلة العاطلة وبعد ما ظهر الحق فلم تقبلوه ايها المسرفون فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ ايضا مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ روى انهم كانوا يعبدون الأصنام فلما بعث إليهم هود كذبوه وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا بل زادوا على ما كانوا فامسك الله القطر عنهم ثلث سنين حتى جهدهم وكان من عادتهم إذا نزل عليهم البلاء توجهوا نحو البيت الحرام وتقربوا عنده وطلبوا من الله الفرج فجهزوا نحوه قيل بن عنز
ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم فلبثوا عنده شهرا ثم قصدوا البيت ليدعوا الله فقال مرثد والله لا تسقون بدعائكم هذا ولكن ان أطعتم نبيكم وتبتم الى الله ورجعتم نحوه ليسقيكم فقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا فحبسه ثم دخلوا مكة فقال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فانشأ الله بقدرته سحابات ثلثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من جانب السماء اختر يا قيل لنفسك ولقومك منها فقال اخترت السواد لأنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد المغيث فاستبشروا بها واستعجلوا لنزولها فقالوا هذا عارض ممطرنا قيل حينئذ من قبل الحق بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم فجاءتهم ريح عقيم فأهلكتهم بالمرة
فَأَنْجَيْناهُ اى هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ مؤمنين بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم لإيمانهم بنا وانقيادهم لرسولنا وَقَطَعْنا دابِرَ القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واستأصلناهم عن آخرهم وَهم ما كانُوا مُؤْمِنِينَ بنا وبنبينا وما كانوا ايضا قابلين مستعدين للايمان
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ اى معجزة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور قد أرسلها وأظهرها لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في قولي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من رزق الله من حيث شاءت وَعليكم ان لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وان آذيتموها واخذتموها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقطع مستأصل فعليكم ان تحفظوها وتحافظوا عليها وعلى رعايتها حتى لا ينزل عليكم العذاب
وَاذْكُرُوا ايها المتنعمون نعم الله عليكم وأدوا حقوقها سيما إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ اى مكنكم ووطنكم فِي الْأَرْضِ التي هم فيها حال كونكم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها لبنا وآجرا وتبنون قُصُوراً عاليات تسكنون فيها مترفهين وَتَنْحِتُونَ اى تشقون بالمعاول والفئوس الْجِبالَ المتحجرة وتتخذونها بُيُوتاً وأخاديد لحفظ أمتعتكم واقمشتكم من الغارة وغيرها وبالجملة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ المترادفة المتوالية عليكم وقوموا بشكرها ليزيد عليكم سبحانه ويديم لكم وَلا تَعْثَوْا اى ولا تظهروا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بغرور الأموال والأولاد والامتعة والعقار
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن الايمان به والاتباع له مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى ضعفائهم وأراذلهم سيما لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بصالح عليه السّلام على سبيل التهكم والاستهزاء أَتَعْلَمُونَ يقينا ايها الحمقى المصدقون له المؤمنون به أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الذي ادعى وحدته واستقلاله في الألوهية والربوبية قالُوا اى المؤمنون المخلصون من صفاء عقائدهم ونجابة طينتهم على سبيل التأكيد والمبالغة إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ اى بعموم ما جاء به من عند ربه مُؤْمِنُونَ مصدقون موقنون
قالَ الملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عنادا ومكابرة إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ بمتابعة هذا المدعى كافِرُونَ منكرون مكذبون ثم لما كفروا وكذبوا مصرين
فَعَقَرُوا ونحروا النَّاقَةَ المقترحة التي هي آية الله عليهم ووديعة عندهم قد أوصاهم سبحانه ان لا تمسوها بسوء وهم قد أهلكوها عنادا وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبارا وَقالُوا لنبيه بطرا واستهزاء ومراء يا صالِحُ الكذاب المدعى ائْتِنا بِما تَعِدُنا
من العذاب إِنْ كُنْتَ صدقت انك مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم لما فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا استحقوا بحلول ما وعدوا وأوعدوا
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ اى صار كل منهم جاثما جامدا الى حيث لا يتحرك منهم احد. روى انهم كانوا في منازل عاد يعيشون فيها متنعمين مترفهين الى ان كثرهم الله واعمرهم أعمارا طوالا واقتضى طول أملهم ان ينحتوا من الجبال بيوتا وأخاديد يخزنون فيها أمتعتهم ويبنوا قصورا عاليات في السهول إذ كانوا في خصب وسعة فاغتروا وغروا على ما هم عليه وأفسدوا في الأرض بأنواع الفسادات وبالغوا في عبادة الأصنام فبعث الله إليهم صالحا عليه السّلام وهو من اشرافهم فدعاهم الى الايمان والتوحيد فسألوا منه آية فقال أية آية تريدون قالوا له اخرج معنا الى عيدنا فادع إلهك وندعوا آلهتنا فمن استجيب منا اتبع فخرج معهم صالح فدعوا أصنامهم فلم يجابوا ثم أشار سيدهم جندع ابن عمرو الى صخرة منفردة يقال لها الكاتبة وقال لصالح أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وان أخرجت صدقناك وآمنا بك فأخذ صالح عليه السّلام عليهم المواثيق انى ان أخرجت لتؤمنون بي فعهدوا معه فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها في الكبر فآمن له جندع في جماعة ومنع الباقين ذوار بن عمرو والخباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر كاهنهم فمكث الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفجج فيحلبون منها ما شاءوا حتى يمتلئ جميع أوانيهم ويدخرون وكانت تضيف في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتشتو في بطنه فتهرب أنعامهم الى ظهره فشق ذلك عليهم فهموا بقتلها وزينت لهم قتلها أم غنم وصدقة بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقى وصعد ولدها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى ان يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفتقت اى انشقت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال صالح عليه السّلام تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات التي اخبر بها هموا ان يقتلوه فأنجاه الله تعالى وأوصله الى ارض فلسطين ولما كانت ضحوة اليوم الرابع تكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا
فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ صالح عليه السّلام بعد ما لاح عليهم امارات العذاب وعلامات الانتقام وَقالَ متحسرا متأسفا حين تجانب عنهم يا قَوْمِ المبالغين في الاعراض عن الحق لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وبذلت جهدي في هدايتكم وَنَصَحْتُ لَكُمْ إشفاقا عليكم حتى لا يلحقكم العذاب الموعود وَلكِنْ أنتم قوم مستكبرون في انفسكم مصرون معاندون لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فلحقكم ما أخاف عليكم بإعراضكم عما أمرتم
وَلقد أرسلنا ايضا لُوطاً عليه السّلام اذكروا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ المبالغين في ارتكاب الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة على سبيل التوبيخ والتقريع أَتَأْتُونَ وترتكبون الْفاحِشَةَ المتناهية في الفحش والفضاحة مع انها ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ بل قد اخترعتموها أنتم من خباثة نفوسكم وسخافة أحلامكم ورداءة طباعكم
إِنَّكُمْ ايها المتجاوزون عن مقتضيات الحكم والحدود الإلهية لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً اى حال كونكم متلذذين مشتهين لإتيانهم مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة تقتضي لإتيانهن وما هو الا من جهلكم بقبحها وخباثتها بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الفساد والخروج عن مقتضى الحكمة والحدود
الإلهية بمتابعة اهويتكم الباطلة
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين سمعوا منه ما سمعوا إِلَّا أَنْ قالُوا مستكبرين متهكمين أَخْرِجُوهُمْ اى لوطا ومن آمن له مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ويدعون التطهر عن الخبائث ويجتنبون عن الفواحش فلا يناسبهم الاقامة فينا ثم لما لم يمتنعوا عن فعلهم بقوله بل زادوا على الإصرار والعداوة أخذناهم بظلمهم وإسرافهم وإصرارهم
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ ومن آمن له مما أصابهم إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها تسر بالكفر والجحود بذلك قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين بقهر الله وغضبه
وَبعد ما أردنا أخذهم وقصدنا انتقامهم أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطرا هو حجارة مركومة مركبة من سجيل فاستأصلناهم به فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم العظام سيما بعد إرسال الرسل الهادين لهم الى طريق النجاة الزاجرين لهم عن ما هم عليه من القبائح على ابلغ وجه وآكده
وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم مَدْيَنَ وهو قرية شعيب عليه السّلام أَخاهُمْ وابن عمهم شُعَيْباً عليه السّلام حين افرطوا في التطفيف والتخسير قالَ لهم مناديا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المستوي على العدل القويم والصراط المستقيم واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعبد بالحق انه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم دالة على القسط والعدالة في المعاملات الصورية لتفوزوا بها الى الاعتدال المعنوي والقسط الحقيقي الإلهي فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ووفوا حقه كما ينبغي وَاقيموا الْمِيزانَ بالقسط واستقيموا فيه وَبالجملة لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوا من حقوقهم شيأ وَعليكم ان لا تُفْسِدُوا ولا تنشئوا الفساد ولا تخترعوه مطلقا فِي الْأَرْضِ التي قد وضعت على كمال العدالة والصلاح سيما بَعْدَ إِصْلاحِها اى بعد اصلاحنا أمرها بإرسال الرسل وإنزال الكتب ذلِكُمْ اى العدل والصلاح وامتثال عموم الأوامر الناشئة من الحكمة الإلهية خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بعدل الله وصراطه المستقيم وعليكم ان تتوجهوا نحو الحق بالعزيمة الصحيحة الخالصة
وَلا تَقْعُدُوا ولا تترصدوا بِكُلِّ صِراطٍ طريق ومذهب من الطرق الباطلة حال كونكم تُوعِدُونَ وتخوفون الناس عن سلوك طريق الحق وَتَصُدُّونَ تعرضون وتصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده مَنْ آمَنَ بِهِ بإلقاء الشبه والرخص في قلوبهم وَبالجملة تَبْغُونَها عِوَجاً اى تطلبون ان تنسبوا عوجا وانحرافا الى سبيل الحق والطريق المستقيم لينصرف الناس عنه وعليكم ان تميلوا عن مخالفة امر الله ونهيه وَاذْكُرُوا نعمه عليكم سيما إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددا وعددا فَكَثَّرَكُمْ قويكم الله وأظهركم واشكروا نعمه عليكم لتدوم وتزيد ولا تكفروها لتنقص وَبالجملة انْظُرُوا معتبرين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الكافرين لنعم الحق من الأمم الهالكة واعتبروا من حالهم ومآلهم وما جرى عليهم من المصيبات المستأصلة
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من العدالة الصورية والمعنوية وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا عنادا واستكبارا فَاصْبِرُوا وتربصوا وانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ العليم الحكيم بمقتضى عدله القويم بَيْنَنا بالنصر على من آمن والقهر على من كفر واستكبر وَهُوَ سبحانه في ذاته خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاصلين يحكم بمقتضى حكمته المتقنة المتفرعة على العدالة الحقيقية
ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ على وجه المبالغة والتأكيد وعدم
المبالات به وبشأنه لَنُخْرِجَنَّكَ البتة يا شُعَيْبُ وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ وصدقوا بهذياناتك مِنْ قَرْيَتِنا هذه ظلما وعدوانا كرها واجلاء أَوْ لَتَعُودُنَّ أنت ومن معك فِي مِلَّتِنا التي كنتم عليها من قبل قالَ شعيب عليه السّلام مستفهما مستبعدا أَوَلَوْ كُنَّا في الأيام السالفة ايضا كارِهِينَ منكرين ملتكم التي أنتم عليها فتعيدوننا إليها ايها الحمقى المسرفون
وكيف نعود قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا يعنى ان عدنا وصرنا فِي مِلَّتِكُمْ سيما بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ المنجى لعباده عن ظلمة الكفر مِنْها والهمنها بطلان ما أنتم عليه فقد افترينا على الله كذبا وكنا من المكذبين أمثالكم وَبالجملة ما يَكُونُ وما يجوز وما يصح لَنا أَنْ نَعُودَ ونرجع فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم عودنا ومصيرنا إليها إذ هو رَبُّنا يربينا بلطفه بما هو خير لنا وان كان فيها خيرا يعبدنا إليها إذ قد وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تحققا وحضورا لذلك عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر ذي العظمة والكبرياء وذي المجد والبهاء تَوَكَّلْنا في عموم ما جرى علينا لا على عيره من الوسائل والأسباب العادية وقد اتخدناه كفيلا لجميع أمورنا رَبُّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم افْتَحْ اى اقض واحكم بمقتضى ما قد جرى حكمك في لوح قضائك بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع والعدل السوى الموافق لما ثبت في لوح القضاء وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ الحافظين القاضين الحاكمين بين ذوى الخصومات ومن حسن محاورة شعيب عليه السّلام مع أمته ومجاملته معهم لقب بالخطيب بين الأنبياء
وَبعد ما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لتابعيهم وسفلتهم ترهيبا وتهديدا على سبيل المبالغة والله لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وآمنتم له وسمعتم قوله في ترك البخس والتطفيف إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ في بضائعكم ومعاملاتكم
ثم لما بالغوا في الضلال والإضلال استحقوا الانتقام والنكال فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الزلزلة الشديدة فخر عليهم سقوف بيوتهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي يستقرون فيها وصاروا جاثِمِينَ جامدين ميتين
وبالجملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اى استوصلوا وانقرضوا الى حيث صاروا كأن لم يسكنوا ولم يكونوا في تلك الديار أصلا بل الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ المقصورين على الخسران الأبدي في النشأة الاولى والاخرى
فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ شعيب عليه السّلام بعد ما شاهد حالهم واستحقاقهم للعذاب والغضب الإلهي وَقالَ متأسفا متحزنا على مقتضى شفقته مضيفا لهم الى نفسه مناديا يا قَوْمِ المنهمكين في الغفلة المبالغين في الإصرار والاستكبار لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي حتى لا يلحق بكم ما لحق وَنَصَحْتُ لَكُمْ باذنه سبحانه وبالغت في نصحى فلم تقبلوا منى نصحى ولم تصدقوا قولي ثم كذب هواجس نفسه وأنكر عليها خوفا من غضب الله فقال فَكَيْفَ آسى واتحزن عَلى قَوْمٍ قد كانوا كافِرِينَ لنعم الحق مكذبين لأوامره مستحقين لما نزل عليهم بسوء معاملتهم مع الله سيما بعد ورود ما ورد من الوعد والوعيد من لدنه سبحانه
ثم لما ذكر سبحانه نبذا من احوال الأمم الماضية الهالكة وقبح صنائعهم مع الله وتكذيبهم كتبه ورسله سجل عليهم سبحانه بان ما لحقهم انما هو من سوء صنيعهم وشؤم نفوسهم فقال وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء إِلَّا أَخَذْنا أولا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ازالة لقساوتهم وتليينا لقلوبهم لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويتوجهوا نحونا
ثُمَّ بعد ما ضيقنا عليهم كشفنا عنهم بان بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ المضرة المؤلمة الْحَسَنَةَ النافعة
المسرة حَتَّى عَفَوْا الى ان كثروا وتكاثروا عددا وعددا وَقالُوا بعد ما صاروا مترفهين في سعة ورخاء مكان الشكر واظهار المنة منا قَدْ مَسَّ ولحق آباءَنَا كما لحقنا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أحيانا ومن عادة الزمان وديدن الدهر الخوان تعاقب السراء بالضراء والجدب بالرخاء ثم لما ظهر منهم كفران النعم دائما وعدم الرجوع إلينا بالشكر وبصوالح الأعمال فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة بلا سبق مقدمة وتقديم امارة وَهُمْ حينئذ من غاية عمههم وسكرتهم لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب وحلول الغضب
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الهالكة العاصية آمَنُوا بالله الواحد الأحد المستقل بالالوهية وبعموم أنبيائه ورسله المبعوثين إليهم من عنده سبحانه وَاتَّقَوْا عن محارم الله بمقتضى أوامره ونواهيه التي قد جاءت بها الأنبياء لَفَتَحْنا ووسعنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ نازلة مِنَ السَّماءِ وَنابتة من الْأَرْضِ وَلكِنْ من خبث طينتهم ورداءة فطرتهم كَذَّبُوا بالله وبعموم أنبيائه ورسله وكتبه فَأَخَذْناهُمْ بعد ما أظهروا التكذيب والإنكار بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بأيديهم لأنفسهم وبالجملة ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى من انتقامنا وبطشنا إياهم ولم يخافوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وعقابنا إياهم بَياتاً في أثناء الليل ويحيط بهم وَهُمْ نائِمُونَ في مضاجعهم
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ولم يترقبوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في كمال اضاءة الشمس وإشراقها وَهُمْ حينئذ يَلْعَبُونَ بأمور دنياهم بمقتضى مخايلهم ومناهم
وبالجملة أَفَأَمِنُوا أولئك المنهمكمون في الغفلة والضلال مَكْرَ اللَّهِ المراقب بعموم أحوالهم ولم يخافوا ولم يحزنوا من اخذه وانتقامه ولم يتفطنوا ان من أمن من مكره واخذه فقد خسر خسرانا مبينا وبالجملة فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ المنتقم المقتدر الغيور إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والشقاوة السرمدية في اصل فطرتهم وقابليتهم
أَوَلَمْ يَهْدِ الم يذكر ولم يبين احوال الأمم الهالكة وأخذنا إياهم بما صدر عنهم من تكذيب الأنبياء وتكذيب ما جاءوا به من عندنا من الأوامر والنواهي لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ وصاروا خلفاء مِنْ بَعْدِ أَهْلِها الهالكين بالجرائم المذكورة أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بمقتضى قهرنا وجلالنا الخلفاء ايضا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم مثل أسلافهم بل بأضعافهم وآلافهم وَمن علامات أخذنا وانتقامنا إياهم انا نَطْبَعُ ونختم أولا عَلى قُلُوبِهِمْ لكيلا يفهموا الآيات ليعتبروا منها فَهُمْ حينئذ لا يَسْمَعُونَ حتى يتعظوا بها
وبالجملة تِلْكَ الْقُرى الهالكة التي نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابنا هذا مِنْ بعض أَنْبائِها ومن قصصها واخبارها وجرائمها مع الله ورسله وَالله لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات القاطعة الساطعة من لدنا وهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اى بما كذبوه قبل إرسال الرسل عليهم بل قد أصروا على ما هم عليه ولم يؤمنوا أصلا ولم يقبلوا من الرسل عموم ما جاءوا به وبالجملة ما تأثروا من دعوة الرسل وآياتهم ومعجزاتهم قط كَذلِكَ يَطْبَعُ ويختم اللَّهُ سبحانه حسب قهره وجلاله عَلى قُلُوبِ جميع الْكافِرِينَ فلا تعجبك يا أكمل الرسل حال اهل مكة وإصرارهم ولا تحزن منهم ولاتك في ضيق من مكايدهم إذ هي من الديدنة القديمة والخصلة الذميمة المستمرة بين الكفرة
وَمن جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة المستمرة ايضا نقض العهود والمواثيق لذلك ما وَجَدْنا وما صادفنا لِأَكْثَرِهِمْ
مِنْ عَهْدٍ عهدوا معنا على لسان رسلنا موفين له وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ اى بل ما وجدنا وما صادفنا أكثرهم بعد ما قد عهدنا معهم عهدا وثيقا الا فاسقين ناقضين لعهودنا ومواثيقنا مطلقا
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراض أولئك الغواة الطغاة الهالكين بأنواع العذاب والنكال نبينا مُوسى المختص بتشريف تكليمنا مؤيدا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا مع انا قد أيدناه بالمعجزات الباهرة إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والاستكبار الى حيث يدعى الألوهية والربوبية لنفسه وَمَلَائِهِ المعاونين له المصدقين لدعواه الكاذبة وبعد ما ادعى الكليم النبوة واظهر الآيات فَظَلَمُوا بِها اى أنكروا بالآيات ونسبوها الى ما لا يليق بشأنها وكذبوا موسى فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في ارض الله الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه
وَاذكر يا أكمل الرسل إذ قالَ مُوسى حين أراد دعوتهم يا فِرْعَوْنُ المتكبر المتجبر المتجاوز عن مقتضى الحدود الإلهية المفسد بين عباده بأنواع الفسادات المفرط المفرط بدعوى الربوبية إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قد أرسلني الله واختارني لرسالته
وانا حَقِيقٌ جدير لائق عَلى أَنْ لا أَقُولَ ولا أسند عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر المتعزز الغيور من الأقوال والاحكام إِلَّا الْحَقَّ الذي قد علمني ربي بالوحي وبعثني لأجله وتبليغه لعباده واعلموا ايها البغاة الطغاة انى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أظهركم وأوجدكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا فَأَرْسِلْ ايها الفرعون الطاغي مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ المقهورين تحت قهرك المظلومين بيدك ليذهبوا معى الى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وفكك رقابهم عن رقك وخل سبيلهم بعد ما امر الحق به والا قد نزل عليك وعلى قومك عموم ما أوعدك الحق به من انواع العذاب والعقاب في العاجل والآجل
قالَ فرعون في جوابه مستكبرا مكذبا بل منهكما على وجه التكبر والخيلاء لا افك رقابهم ولا اخلى سبيلهم بل إِنْ كُنْتَ ايها المدعى الكاذب قد جِئْتَ بِآيَةٍ من عند ربك الذي قد ادعيت رسالته فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعويك هذا
ثم لما سمع موسى قوله وشاهد عتوه واستكباره فَأَلْقى بالهام الله له عَصاهُ من يده على الأرض بين أيديهم فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ بلا معالجة واستعمال اسباب وأدوات كما يفعله السحرة مُبِينٌ عظيم ظاهر بأضعاف مقدار العصا. روى انه لما ألقاها صارت ثعبانا أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحاه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات من الناس خمسة وعشرون الفا وصاح فرعون أنشدك بالذي أرسلك يا موسى خذه وانا او من بك وأرسل معك بنى إسرائيل فأخذه فعاد عصا
وَبعد ذلك نَزَعَ يَدَهُ اى ادخل يده في جيبه وكان لون بشرة موسى شديد الادمة ثم نزع فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ مشرقة مشعشعة محيرة لِلنَّاظِرِينَ مفرقة لابصارهم من كمال ضوئها وانارتها بحيث قد غلب ضوءها ضوء الشمس
ثم لما شاهدوا من معجزاته وآياته ما شاهدوا قالَ الْمَلَأُ اى الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ متعجبين من امره متشاورين مع فرعون حائرين مضطرين مضطربين خائفين من استيلائه إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ متناه في هذا العلم الى أقصى غايته لذلك ادعى الرسالة وأعجز الغير عن إتيان مثله
وبالجملة يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بسحره هذا فَماذا تَأْمُرُونَ ايها المتأملون المتفكرون في ضبط المملكة وحفظ
البلاد في دفع هذا العدو القوى
وبعد ما تشاوروا وتأملوا كثيرا في امره ودفعه فاستقر رأيهم واتفق حكمهم الى ان قالُوا مخاطبين لفرعون أَرْجِهْ وَأَخاهُ اى أخر وسوف قتلهما لئلا يظهر عجزك عنهما ولا يختل امر ربوبيتك وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي قد اشتهر السحر والسحرة فيها شرطاء حاشِرِينَ جامعين من فيها من السحرة
وبعد جمعهم يَأْتُوكَ ويحضروا عندك بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر حاذق في هذا العلم ليتمكنوا على مغالبتها فأرسلهم فرعون فحشروا وانتخبوا من السحرة
وَجاءَ السَّحَرَةُ المنتخبة فِرْعَوْنَ متظاهرين بطرين جازمين على غلبتهما لذلك سألوا أولا من الجعل حيث قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ وهم وان كانوا جازمين في أنفسهم الغلبة أتوا بان المفيدة للشك للمبالغة في طلب الجعل
قالَ فرعون نَعَمْ ان لكم اجرا كثيرا وَمع ذلك إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي الحاضرين في مجلسي المصاحبين معى دائما انما قال ما قال تحريضا لهم وترغيبا وبعد ما تقرر عندهم وفي نفوسهم الغلبة وسمعوا منه ما سمعوا من الانعام والتقرب
قالُوا اى السحرة يا مُوسى نادوه استحقارا له واستهزاء معه وتسفيها إياه كيف اقدم مع ضعفه ورثاثة حاله في مقابلتهم إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما جئت به وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما جئنا به فلك الخيار والاختيار إذ كلاهما عند ناسيان
قالَ موسى بالهام الله له بل أَلْقُوا ما جئتم لإلقائه ايها الساحرون المبطلون فَلَمَّا أَلْقَوْا اى أرادوا الإلقاء سَحَرُوا أولا أَعْيُنَ النَّاسِ حتى لا يتخيلوا انها امور غير مطابقة للواقع بل اعتقدوا مطابقتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ اى بنى إسرائيل المنتظرين لغلبة موسى ليخلصوا من يد العدو ارهابا شديدا إذا القوا حبالهم حبالا غلاظا وخشبا طوالا وصار الكل حيات متراكمة متراكبة بعضها فوق بعض وَبالجملة قد جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ متناه فيه مبالغ أقصى غايته
وَبعد ما جاءوا بسحرهم العظيم أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت ثعبانا عظيما مهيبا فَإِذا هِيَ أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم ما يَأْفِكُونَ اى عموم ما يزورونه ويلبسونه سحرا وشعبذة
وبالجملة فَوَقَعَ الْحَقُّ وتحقق الاعجاز وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر والشعبذة في مقابلته
فَغُلِبُوا اى فرعون وملاؤه هُنالِكَ المجلس وَانْقَلَبُوا ورجعوا منه صاغِرِينَ ذليلين محزونين بعد ما قد خرجوا متكبرين مستعلين
وَبعد ما شاهد السحرة من امر موسى ما شاهدوا وانكشفوا بحقيته وصدقه بجذب رقيق من جانب الحق والهام لطيف تام من لدنه سبحانه لذلك أُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان وحين سجدوا
قالُوا عن ظهر قلوبهم وكمال إخلاصهم وقبولهم قد آمَنَّا أيقنا وتحققنا بِرَبِّ الْعالَمِينَ
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ اى اللذين هما ادعيا الرسالة من لدنه ودعوا الناس الى الايمان به والإطاعة له والتوجه نحوه.
ثم لما رأى فرعون سجود السحرة وسمع ايمانهم قالَ فِرْعَوْنُ مغاضبا لهم مستفهما على سبيل الإنكار والتهديد آمَنْتُمْ بِهِ اى برب موسى وهارون قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ اى قبل ان تشاوروا معى وتعترفوا عندي بغلبته عليكم وقبل ان تستأذنوا منى بالإيمان فظهر من صنيعكم هذا إِنَّ هذا اى ما جاء وظهر به موسى وهارون وادعاؤهما الرسالة والنبوة لَمَكْرٌ حيلة وخديعة عظيمة قد مَكَرْتُمُوهُ أنتم وموسى متفقين فِي الْمَدِينَةِ اى مصر لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط وتستولوا أنتم وبنو إسرائيل على ملك مصر بهذه
الخديعة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة مكركم وخداعكم
لَأُقَطِّعَنَّ اليوم أولا على رؤس الاشهاد أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ زمانا كما يصلب البغاة الذين خرجوا على الولاة واولى الأمر والطاعة وبعد ما سمع السحرة تهديده
قالُوا حين كوشفوا بمآل الأمر وشوهدوا بحقيقة الحال مستطيبين فرحين مستنشطين إِنَّا بعد خلاصنا من ربقة ناسوتنا وسلسلة إمكاننا إِلى رَبِّنا حسب حصة لاهوتنا وحظ وجوبنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل
وَما تَنْقِمُ مِنَّا أنت ايها الطاغي المتجبر المتكبر وما تنكر وتغضب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أيقنا واذعنا بِآياتِ رَبِّنا الذي قد أظهرنا من كتم العدم وربانا بأنواع اللطف والكرم لَمَّا جاءَتْنا وحين ظهرت علينا حقيتها وانكشفنا بها بتوفيق منه وجذب من جانبه ولو كوشفت أنت ايضا بما انكشفنا قد ارتفع غطاء التعامي وعشاء الغفلة عن بصر بصيرتك فتشهد أنت حينئذ بما شهدنا وشاهدت ما شاهدنا الا انه سبحانه قد ختم على قلبك وسمعك وبصرك بالغشاوة الغليظة والحجب الكثيفة لذلك استكبرت علينا واستنكرت بنا وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم انصرفوا نحو الحق واشتغلوا بالمناجاة معه سبحانه ورفع الحاجات نحوه فقالوا متضرعين رَبِّنا يا من ربانا بلطفك وكرمك الى ان جعلتنا من زمرة شهدائك الذين بذلوا مهجهم في سبيلك طائعين راغبين أَفْرِغْ أفض واصبب عَلَيْنا صَبْراً من لدنك متواليا متتابعا حين اشتغل هذا الطاغي على إمضاء ما هددنا به بحيث لا يغيب عنا شوق لاهوتك ولا يغلب على قلوبنا الم ناسوتنا أصلا وَحين انقطع أنفاسنا عنا وخرج أرواحنا منا تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ مسلمين مستقرين متمكنين في مرتبة الرضا والتسليم ثابتين على جادة التوحيد واليقين بلا تزلزل وتلوين. ثبت أقدامنا على جادة معرفتك وتوحيدك يا خير الناصرين
وَبعد ما قد فعل فرعون اللعين بالسحرة أنار الله براهينهم ما هددهم به قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ يعنى بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ سيما بعد ما انتشر في اقطار الأرض غلبة موسى عليك ويغيروا طباع الناس عنك ويوقعوا الفتن بين رعايا بلادك وَبالجملة يؤدى أمرهم وإيقاعهم الى ان يَذَرَكَ اى كل واحد منهم عبادتك وَعبادة آلِهَتَكَ التي قد وضعتها أنت بين عبادك ليعبدوا لها من الأصنام والأوثان والتماثيل لتتخذوها معبودات وتتوجهوا نحوها قالَ فرعون لا ندعهم بعد اليوم على ما قد كانوا عليه من قبل ولا نستأصلهم ايضا لئلا ينسب العجز والظلم إلينا بل نستضعفهم على التدريج سَنُقَتِّلُ بعد اليوم أَبْناءَهُمْ اى ذكور أولادهم لئلا يتكثروا وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى نبقى إناث أولادهم حتى نتزوجهن وينزجروا بلحوق العار وبعد ما مضى زمان على هذا انقرضوا واستوصلوا وَكيف لا نفعل معهم هذا إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ قادرون غالبون وبالجملة نفعل بهم اليوم ما فعلنا معهم في ما مضى لئلا يتوهم ان موسى هو المولود الذي قد زعم الكهنة والمنجمون ان زوال ملكنا على يده
ثم لما سمع بنوا إسرائيل تهديد فرعون تفزعوا منه وتضجروا وبثوا الشكوى الى الله متضرعين قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم وازالة لضجرتهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ لدفع مضارهم وَاصْبِرُوا على أذاهم ولا تقنطوا من نصر الله وعونه إياكم ولا تيأسوا من روح الله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ إيجادا وتملكا وتصرفا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ منهم وهم الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويصبرون على عموم ما جرى عليهم
من القضاء
قالُوا اى بنو إسرائيل تشكيا قد أُوذِينا من أجلك يا موسى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء واستحياء النساء وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ايضا كذلك قالَ موسى لا تيأسوا من نصر الله وانجاز وعده بل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ اى قد قرب حكم ربكم وانجاز وعده باهلاك عدوكم وَبعد إهلاكهم يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ التي هم فيها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم هل تشكرون نعمه أم تكفرونها وتعملون من الصالحات أم تفسدون فيها أمثالهم
ثم أشار سبحانه الى إهلاك عدوهم وانجاز وعده إياهم على سبيل التدريج حيث قال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ اى بعد ما تعلق ارادتنا بأخذهم وإهلاكهم أخذناهم أولا بالقحط وقلة الأقوات والغلات وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ التي هم يتفكهون بها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اى يتذكرون ايام الرخاء ويتضرعون نحونا لإعادتها ويصدقون رسولنا الذي أرسلنا إليهم ليدعوهم الى توحيدنا وهم من شدة عمههم وقسوتهم لا يتعظون بأمثال هذا
بل فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الخصب والرخاء وكل ما يسرهم ويفرح نفوسهم قالُوا متفألين لَنا هذِهِ اى لأجلنا ومن سعادة طالعنا ونحن مستحقون بأمثالها وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مشقة وعناء مما يشوشهم ويملهم يَطَّيَّرُوا اى يتطيروا ويتشأموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ وآمن له وقالوا انما عرض علينا هذا البلاء بشؤم هؤلاء الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار أَلا اى تنبهوا ايها المتنبهون المتوجهون نحو الحق في السراء والضراء إِنَّما طائِرُهُمْ ما يتطيرون به ويتشأمون بسببه ليس الا عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته ومشيته إذ له التصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته والقبض والبسط من عنده وبيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيرون الأسباب والوسائل العادية في البين ويسندون الحوادث الكائنة إليها عنادا ومكابرة
وَمن شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم ووفور قسوتهم وبغضهم قالُوا منهمكين مستهزئين مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ اى اى شيء تحضرنا أنت يا موسى لتغلب به علينا من سحرك الذي سميته آية نازلة من ربك عليك لِتَسْحَرَنا بِها أنت فأت به سريعا ان استطعت فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ اى متى تأخرت واستبطأت وتسوفت وبعد ما بالغوا في العتو والعصيان وأصروا على ما هم عليه من الطغيان والكفران
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ امدادا لموسى وانتقاما لهم الطُّوفانَ اى الماء الذي طاف حولهم ودخل بيوتهم ووصل الى تراقيهم ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل مع انها متصلة ببيوتهم ولم يتضرروا من الماء أصلا ثم لما تضرروا واضطروا وكادوا ان يغرقوا تضرعوا الى موسى وقالوا ادع لنا ربك يا موسى ليكشف عنا فنأمن بك فدعا فكشف عنهم ونبت من الزرع والكلأ ما لم يعهد فنكثوا عهدهم ونسبوا دعاءه الى السحر وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الْجَرادَ فأكلت زروعهم واثمارهم وأخذت تأكل السقوف والأبواب والثياب فتضرعوا الى موسى فدعا وانكشف حيث خرج الى الصحراء مشيرا بعصاه نحو الجراد يمنة ويسرة فتفرقت الى النواحي والأقطار فنكثوا وَأرسلنا بعدها الْقُمَّلَ هي دود أصغر من الجراد قيل انها حدثت من الجراد فأخذت ايضا تأكل ما بقي من الجراد وتقع في الأطعمة وتدخل بين أثوابهم فتمص دماءهم ففزعوا اليه فكشف عنهم بدعائه فقالوا له قد علمنا الآن انك ساحر عليم وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الضَّفادِعَ بحيث لا يخلو مكان من الأمكنة منها وتثب في قدورهم وأوانيهم وأفواههم حين تكلموا ففزعوا نحوه معاهدين فخلصوا بدعائه ثم نقضوا وَبعد ذلك قد أرسلنا الدَّمَ
حيث صار المياه كلها عليهم دماء حتى كان القبطي والسبطى الإسرائيلي يجتمعان على اناء واحد فيصير ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي السبطى ماء ويمص القبطي ماء من فم السبطى فيصير دما وانما أرسلنا عليهم هذه البليات لتكون آياتٍ اى دلائل وعلامات دالة على كمال قدرتنا مُفَصَّلاتٍ مبينات موضحات مميزات بين الهداية والضلالة والحق والباطل والرشد والغي فَاسْتَكْبَرُوا عنها مع وضوحها وسطوعها واعرضوا عن مدلولاتها وأصروا على ما هم عليه وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مستحقين بالعذاب والعقاب فلم ينفعهم الآيات والنذر لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم
وَهم قد كانوا لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ وحين حل عليهم البلاء والمصيبة قالُوا متضرعين متفزعين يا مُوسَى الداعي للخلق الى الحق ادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من اجابة دعواتك وقبول حاجاتك والله لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ بدعائك لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ مصدقين نبوتك ورسالتك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ بلا ممانعة ولا مماطلة
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ بدعاء رسولنا موسى وبلغ الزمان إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ اى عينوه وقدروه لإيمانهم وارسالهم ليتأملوا ويتفكروا فيها إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ اى بعد ما وصل وقت الوفاء والإيفاء بالعهود والمواثيق بادروا الى النكث والنقض ثم لما بالغوا في النكث وخالفوا أمرنا وكذبوا بنبينا
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ اى أردنا انتقامهم وأخذهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ اى البحر العميق لانهماكهم في بحر الغفلة والطغيان كل ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة الموصلة الى وحدتنا الذاتية وَكانُوا بسبب استغراقهم في بحر الغفلة والضلال عَنْها غافِلِينَ محجوبين لا يهتدون بهداية الرسل والأنبياء
وَبعد ما أغرقناهم في يم العدم واستأصلناهم عن قضاء الوجود بالمرة أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالقهر والغلبة سيما بقتل الأبناء واستحياء النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ المعهودة اى مصر ومشارقها الشام ونواحيها وَمَغارِبَهَا الصعيد ونواحيها الَّتِي بارَكْنا فِيها كثرنا فيها الخير والبركة وسعة الأرزاق وطيب العيش من جميع الجهات وَبعد ما اورثناهم قد تَمَّتْ اى كملت وحقت كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يا موسى بإنجاز الوعد والنصر وايراث الديار والأموال وغير ذلك عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا اى بسبب ما صبروا على اذياتهم المتجاوزة عن الحد وَدَمَّرْنا اى خربنا وهدمنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الابنية الرفيعة والقصور المشيدة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ عليها مترفهين بطرين كمسرفي زماننا هذا احسن الله أحوالهم.
ثم أشار سبحانه الى قبح صنيع بنى إسرائيل وخبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم وسخافة طبعهم وركاكة فطنتهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتذكيرا للمؤمنين ليحذروا عن أمثال ما اتى به هؤلاء فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اى عبرناهم سالمين غانمين الْبَحْرَ الذي قد أهلك عدوهم فَأَتَوْا اى مروا في طريقهم عَلى قَوْمٍ من بقية العمالقة يَعْكُفُونَ ويعبدون عَلى أَصْنامٍ تماثيل كانت معبودات لَهُمْ من دون الله قالُوا اى بنوا إسرائيل من قساوة قلوبهم وضعف يقينهم بالله المنزه عن الأشباه والأمثال يا مُوسَى المبعوث المرسل إلينا من الله الواحد الأحد اجْعَلْ لَنا إِلهاً اى تمثالا واحدا مشابها لله نعبده ونتقرب نحوه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها ويتقربون نحوها ونحن كيف نعبد وندعو الى اله موهوم لا نراه ولا نشاهده وكيف نتضرع اليه ونتوجه نحوه ونستحيي منه ونخاف عنه ثم لما تفرس منهم موسى
ما تفرس من الحجب الكثيفة والاغشية الغليظة قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تستمرون على جهلكم الجبلي لم يؤثر فيكم الآيات الكبرى والبراهين العظمى. وبالجملة أنتم لم تتفطنوا بالوحدة الذاتية مع غاية وضوحها في ذاتها سيما بعد الإيضاح والتوضيح البليغ بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة
إِنَّ هؤُلاءِ العاكفين الضالين مُتَبَّرٌ مهلك معدوم ما هُمْ فِيهِ من عبادة التماثيل الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في أنفسها إذ لا وجود لها أصلا وَبالجملة باطِلٌ عاطل ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى أعمالهم لها ولأجلها من الإطاعة والانقياد إذ هو اشراك بالله الواحد الواجب الوجود المستقل بالالوهية ما لا وجود له أصلا
ثم قالَ موسى متأسفا مقرعا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء أصلا أَبْغِيكُمْ واطلب لكم ايها الحمقى العمي الضالون في تيه الغفلة والغرور إِلهاً من مصنوعاته يعبد له بالحق ويتقرب اليه وَالحال انه هُوَ سبحانه قد فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ إذ لا مظهر له أكمل منكم فكيف تعبدون أنتم الفاضلون المكرمون المفضول المرذول وما عرض عليكم ايها الجاهلون الحمقى وما لحق بكم حتى لم تعرفوا مرتبتكم الجامعة الكاملة
وَعليكم ان تعدوا نعم الله التي قد أنعمها عليكم لعلكم تتنبهون على توحيد المنعم اذكروا إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يعلمونكم به وذلك انهم يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ حتى لا تستكثروا وتستظهروا بهم وَأقبح منه انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ليلحق العار عليكم بتزويجهن بلا نكاح وَبالجملة لكم فِي ذلِكُمْ المذكور من العذاب بَلاءٌ واختبار مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فأنجيناكم منهم لتقيموا بذكرنا وتواظبوا بشكر نعمنا وتتفطنوا بتوحيدنا واستيلائنا ومع ذلك لم تتنبهوا
وَاذكروا ايضا إذ واعَدْنا مُوسى والزمنا عليه على سبيل النذر والنفل قبل إهلاكنا فرعون بان أخلص لنا ثَلاثِينَ لَيْلَةً من شهر ذي القعدة بان صام فيها وصلّى ان ظفر على فرعون بعد هلاك عدوه حتى ننزل عليه من لدنا كتابا نبين له فيه التدابير المتعلقة لأمور معاش بنى إسرائيل ومعادهم ثم لما أهلكنا العدو ذهب موسى الى ميقاتنا انجازا للموعود المنذور وقبل ما تمت المدة المذكورة قد أنكر موسى خلوف فمه فتسوك قالت الملائكة له قد كنا نشم منك ريح المسك فافسدته بالسواك وَلذلك اى لتداركه وتلافيه قد أَتْمَمْناها اى مدة ميقاتها وأمرناه تلافيا لما أفسده بِعَشْرٍ اى بعشرة ايام أخر من ذي الحجة مضمومة الى ثلثى ذي القعدة كفارة لما فوته بالسواك فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وبعد ما أتمها أنزلنا التورية المبين لهم الاحكام المتعلقة بالأمور الدنيوية والاخروية انجازا لوعدنا إياه وذلك من أعظم النعم وأجل الكرم وَاذكروا ايضا إذ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي وصر خليفتي فِي قَوْمِي وذكر لهم مما يتعلق بأمور معاشهم ومعادهم نيابة عنى وَبالجملة أَصْلِحْ بينهم واحفظهم عن زيغ اهل الضلال والإضلال وَلا تَتَّبِعْ أنت ومن معك سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون عقائد ضعفاء الأنام بالتمويهات الباطلة والتغريرات العاطلة ومع ذلك قد اتبعتم السامري من خبث طينتكم ورداءة فطنتكم
وَاذكروا ايضا لَمَّا جاءَ مُوسى حين بعثنا إليكم لإصلاح حالكم لِمِيقاتِنا ليناجى معنا ويتوجه بنا وَمن كمال اللطف والجود إياه كَلَّمَهُ رَبُّهُ اى كلم معه لسان مرتبته التي قد حصل له عند الله وانكشف بها من الله إذ لكل ذرة من ذرائر المظاهر مرتبة خاصة وظن مخصوص وانكشاف مستقل بالنسبة الى الله لذلك قال
سبحانه انا عند ظن عبدى بي. وأعلى المراتب وابهاها مرتبة النبوة والرسالة مع تفاوت طبقاتها ثم الأمثل ثم لما انبسط موسى مع ربه وانكشف له من ربه ما انكشف بحيث سمع كلامه من جميع الجوانب والجهات بلا وسيلة آلة وواسطة من ملك وغيرها وبلا تلفظ كلمة حاصلة من تراكيب الحروف الحاصلة من تقطيع الأصوات قد اضطرب حينئذ موسى ووله وارتعد ومن غاية ولهه وسكره تسارع الى انكشاف اجلى منه واكشف حيث قالَ بعد سماع كلام الحق لا على الوجه المتعارف المعهود وانجذابه نحوه انجذابا لا على الوجه المعتاد رَبِّ يا رب أَرِنِي ذاتك التي قد تنزهت عن المقابلة والمحاذاة والمماثلة والمحاكات كما أسمعتني كلامك المنزه عن ترتيب الكلمات وتقاطع الحروف والأصوات أَنْظُرْ إِلَيْكَ ببصرى كما سمعت كلامك بسمعي قالَ سبحانه لَنْ تَرانِي يا موسى ما دمت في جلباب تعينك وغشاوة هويتك وَلكِنِ ان أردت ان تعرف استعدادك لرؤيتى انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ حين تجليت عليها بهويتى المسقطة للهويات مطلقا فَإِنِ اسْتَقَرَّ وثبت عندك انه تمكن مَكانَهُ بعد ما اتجلى عليه بذاتى اى بقي هو على هويته التي هو فيها قبل التجلي فَسَوْفَ تَرانِي اى فيمكن لك حينئذ ان تراني بهويتك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ حسب أوصافه القهرية الجلالية جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتتا متلاشيا كأنه لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة قد اضمحلت تعيناته الباطلة مطلقا ورجع الى ما كان عليه من العدم واللاشيء المحض وَبعد ما رأى من قدرة الله ما رأى خَرَّ وسقط مُوسى الكليم بعد ما نظر نحوه ولم يره صَعِقاً حائرا هائما قلقا مغشيا عليه كأنه انفصل عنه لوازم هويته مطلقا فَلَمَّا أَفاقَ موسى عن ولهه وسكره وانكشف من ربه بما انكشف من انه لا يرى الله الا الله ولا يعرف الله الا الله ولا ينظر نحوه الا عينه ولا يدرك ذاته الا ذاته قالَ مستحيا منيبا خائفا مستنزها سُبْحانَكَ انزهك تنزيها بليغا وأقدسك تقديسا متناهيا من ان يحيط بك وباسمائك وصفاتك احد من مصنوعاتك تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ يا ربي مما اجترأت من سؤال ما ليس في وسعى وطاقتي وَبعد ما عرفتك الآن يا ربي عرفانا أكمل وانكشفت منك انكشافا أتم بحيث لم انكشف مثله من قبل أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بعظمتك وجلالك إذ لا اعتداد لإيماني بك من قبل
ثم لما استحيي موسى من الله وندم عن سؤاله بلا استيذان منه سبحانه تغمم وتحزن حزنا بليغا من اجترائه بما ليس في وسعه أزال سبحانه إشفاقا له ما عرض عليه من الندم والخجل حيث قالَ سبحانه مناديا له يا مُوسى المستخلف منى إِنِّي بمقتضى حولي وقوتي وحسب اختياري وإرادتي قد اصْطَفَيْتُكَ واخترتك من بين الناس وبعثتك عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبحمل احكامى واوامرى وتذكيراتى حتى توصلها الى عبادي نيابة عنى وَقد خصصتك من بين الرسل بِكَلامِي اى بسماعه بلا كيف وحرف وبلا واسطة سفير وملك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تفضلا عليك بقدر وسعك واستعدادك ولا تبادر الى سؤال ما لا طاقة لك به ولا يسع في وسعك الاستكشاف عنه وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمنا الواصلة إليك واصرفها على الوجه الذي امرناك به من المصارف ووفقناك عليه ولا تكن من الكافرين لنعمائنا المنصرفين عن أوامرنا وأحكامنا لتفوز عنا بالرضا الذي هو احسن احوال ارباب الكشف والشهود
وَمن جملة اصطفائنا له وانعامنا إياه انا قد كَتَبْنا لَهُ وأثبتنا لأجل تربيته وإرشاده فِي الْأَلْواحِ اى ألواح التورية مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يتعلق بتهذيب الظاهر والباطن مَوْعِظَةً تذكرة وتبيانا
يتعظ بها هو ومن تبعه وَتَفْصِيلًا توضيحا وتبيينا متعلقا لِكُلِّ شَيْءٍ اى لكل حكم من الاحكام المتعلقة بأمور معاشهم فَخُذْها اى فقلنا له خذها ايها الداعي للخلق الى الحق بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص وَأْمُرْ قَوْمَكَ ايضا يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يعنى بعزائمها دون رخصها حتى تستعد نفوسهم لان يفيض عليها المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة عن الجنة المأوى والفردوس الأعلى والرتبة العليا عند العارف المحقق ولا يميلوا عنها وعن أحكامها حتى لا يلحقوا بزمرة الفساق المنحطين عن رتبة الخلافة الانسانية وبالجملة سَأُرِيكُمْ في النشأة الاخرى ايها المائلون عن مقتضى الاحكام الإلهية التي هي صراط الله الأقوم دارَ الْفاسِقِينَ التي هي عبارة عن جهنم الحرمان وجحيم الخذلان وسعير الخيبة والخسران أعاذنا الله وعموم عباده منها.
ثم قال سبحانه سَأَصْرِفُ أميل واغفل عَنْ آياتِيَ الظاهرة في الآفاق والأنفس الدالة على توحيدي واستقلالى في عموم التصرفات الكائنة في الآفاق والتدابير الجارية فيها بالاستقلال والاستحقاق القوم الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ويمشون خيلاء فِي الْأَرْضِ وهم يظلمون عليها بِغَيْرِ الْحَقِّ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم وَهم من نهاية جهلهم المركوز في جبلتهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على الصدق والصواب لا يُؤْمِنُوا بِها عتوا وعنادا وَبالجملة إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ والهداية لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لعدم موافقة طباعهم إياه وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ والضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لميل نفوسهم نحوه بالطبع ذلِكَ اى الصرف والانحراف العارض لهم والاهوية الباطلة والآراء الفاسدة كلها بِأَنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الضلال قد كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا وَكانُوا من غاية جهلهم عَنْها وعن الامتثال بها والعمل بمقتضاها والتدبر في معناها غافِلِينَ غفلة مؤبدة لا تيقظ لهم منها أصلا. نبهنا يا الله بلطفك عن نومة الغافلين يا ذا القوة المتين
وَبالجملة المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الظاهرة عن اوصافنا الذاتية حسب اسمنا الرّحمن في النشأة الاولى وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى كذبوا برجوع الكل إلينا حسب اسمنا الرّحيم في النشأة الاخرى أولئك الأشقياء البعداء المردودون المطرودون هم الذين قد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وضاعت بضائعهم وأموالهم وهم قد خسروا فيها في الاولى والاخرى هَلْ يُجْزَوْنَ وما يجازون باحباط الأعمال إِلَّا بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ يفترون ويكتسبون لأنفسهم من تكذيب الآيات والرسل المنبهين لها المبينين لمقتضاها ومن جملة الأسباب الموجبة لإحباط أعمالهم اتخاذهم العجل آلها
وَذلك انه قد اتَّخَذَ وأخذ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهابه الى الميقات عند ربه مِنْ حُلِيِّهِمْ التي قد ورثوها من القبط بتعليم السامري إياهم عِجْلًا اى صورة عجل وبعد ما اذابوا الحلي وصاغوها على الوجه الذي خيلوه القى السامري عليها ما قبض من تراب حافر فرس جبرئيل عليه السّلام فصارت جَسَداً عجلا نيئا لَهُ خُوارٌ صوت كصوت البقر فقال لهم السامري هذا إلهكم واله موسى فاتخذوه آلها مع انهم قد صاغوه بأيديهم من حليهم أَيأخذون العجل المصوغ آلها أولئك الهالكون في تيه الغفلة والنسيان ولَمْ يَرَوْا ولم يعلموا ولم يتفطنوا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ اى العجل المصوغ المصنوع بكلام دال على صلاحهم وإصلاح حالهم وَلا يَهْدِيهِمْ ولا يرشدهم سَبِيلًا الى الخير والصواب حتى يستحق ان يعبد له. والمعبود لا بدان يأمر وينهى ويرشد ويهدى بل ما
اتَّخَذُوهُ الها معبودا الا ظلما وزورا وخروجا من مقتضى العقل والنقل وَبالجملة هم قد كانُوا في أنفسهم ظالِمِينَ خارجين متجاوزين عن مقتضى العقل والنقل
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ اى لما ظهر ندمهم عن فعلهم واشتد فيهم تجهيل نفوسهم وتخطئة عقولهم وبالجملة قد لاح عندهم قبح صنيعهم هذا وَرَأَوْا وعلموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الفعلة القبيحة عن مقتضى العقل والنقل ضلالا بعيدا بمراحل عن الرشد والهداية قالُوا متضرعين مسترجعين خائفين خجلين لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بسعة رحمته وجوده وَلم يَغْفِرْ لَنا ما جئنا به ولم يتجاوز عنا ما فرطنا فيه لَنَكُونَنَّ البتة مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما قد وقع فيهم ما وقع وقد سمع ما سمع صار غَضْبانَ اى استولى عليه غضبه حمية وغيرة أَسِفاً متأسفا متحزنا لضلال قومه فلما وصل إليهم قالَ لهم مغاضبا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي اى بئس شيأ ابتدعتم خلفي مِنْ بَعْدِي اى من بعد ذهابي الى ربي لأزيد صلاحكم وإصلاحكم ايها المسرفون المفرطون فازددتم الضلال وقد استوجبتم العذاب والنكال أَعَجِلْتُمْ ايها الحمقى أَمْرَ رَبِّكُمْ اى عذابه وعقابه عليكم وَمن شدة غضبه وطغيان حميته وغيرته أَلْقَى الْأَلْواحَ التي قد كانت في يده من التورية فانكسرت منها وضاعت ما يتعلق بتفصيل الاحكام وبقي المواعظ والتذكيرات وَمن افراط قهره وغضبه أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون اى من شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ اى الى نفسه زجرا عليه وتشددا معه قائلا له مملوا من الغيظ كيف لا تحفظهم ولا تنكر عليهم ولا تمنعهم عن فعلهم هذا حتى لا يضلوا ولا يكفروا باتخاذ العجل الها قالَ هارون معتذرا متحزنا يا ابْنَ أُمَّ اضافه الى الام استعطافا إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي حين أظهرت الإنكار عليهم وأردت ان نصرفهم عما هم عليه وحده وصاروا بأجمعهم أعدائي بل وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لشدة غيظهم على وعداوتهم معى وأنت ايضا تغضب على علاوة وتجر رأسى حمية وغيرة وهم الآن تفرحون وتضحكون ببغضك على وزجرك إياي فَلا تُشْمِتْ ولا تفرح يا أخي بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي شريكا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والنقل
ثم لما سمع موسى من هارون ما سمع ندم عن فعله وعن سوء الأدب مع أخيه مع انه اكبر سنا منه واسترجع الى الله حيث قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي عما صنعت مع أخي مع انه بريء مما نسبته اليه وَاغفر ايضا لِأَخِي فيما تقاعد وتقاصر في انكار هؤلاء الضالين المتخذين لك شريكا سيما من ادنى مخلوقاتك وأدون مصنوعاتك وَبالجملة أَدْخِلْنا بفضلك وجودك فِي سعة رَحْمَتِكَ وكنف حفظك وجوارك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ المصوغ الها بمجرد الخوار الذي صدر عنه سَيَنالُهُمْ وينزل عليهم في النشأة الاخرى غَضَبٌ نازل مِنْ رَبِّهِمْ يطردهم ويبعدهم عن ساحة عز حضوره وَذِلَّةٌ صغار وهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَبالجملة كَذلِكَ في النشأة الاولى والاخرى نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ المشركين لنا غيرنا من مخلوقاتنا افتراء ومراء.
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ قصدا أو خطأ ثُمَّ تابُوا ورجعوا نحونا نادمين مِنْ بَعْدِها اى من بعد سيئاتهم وَالحال انه قد كان توبتهم مقرونة بالإيمان بان آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَعْدِها اى من بعد ما جاءوا بالتوبة والندامة عن ظهر القلب لَغَفُورٌ
لما صدر عنهم من الذنوب رَحِيمٌ يقبل توبتهم بعد ما قد وفقهم بها
وَلَمَّا سَكَتَ اى سكن وذهب عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ الذي قد استولى عليه الى حيث القى ألواح التورية وأخذ شعر أخيه يجره أَخَذَ الْأَلْواحَ المنكسرة المتلاشئة وان انكسر وضاع عنها ما فيها تفصيل كل شيء وَقد بقي منها ما فِي نُسْخَتِها اى فيما رقم ونسخ فيها سالمة عن الكسر والانكسار هُدىً اى أوامر ونواهى توصلهم الى توحيد الحق ان امتثلوا به وقبلوا وَرَحْمَةٌ تنجيهم عن الضلال ان اتصفوا بها كل ذلك حاصل لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اى يخافون عن الله طلبا لمرضاته لا لغرض آخر من الرياء والسمعة بل من طلب الجنة وخوف العذاب ايضا بل لا يطلبون من الله الا الله ولا يأملون منه سواه
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك قصة الكليم حين اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ اى اختار وانتخب موسى باذن منا إياه من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ومناجاتنا فانتخب من كل سبط من الأسباط الاثنى عشر ستة نفر فزاد على المبلغ اثنين فأمر موسى بتقاعدهما فتخاصموا وتشاجروا في تعيينهما الى ان قال موسى ان اجر من قعد مثل اجر من صعد بل اكثر فقعد كالب ويوشع وذهب موسى معهم فلما دخلوا شعب الجبل وأرادوا الصعود غشيه غمام مظلم كثيف فدخلوا الغمام وخروا سجدا فسمعوا يتكلم سبحانه مع موسى يأمره وينهاه وهو يناجى مع ربه فلما تم الكلام وانكشف الغمام قالوا بعد ما سمعوا كلامه سبحانه مستكشفين عن ذاته لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ظاهرة منكشفة ذاته لأبصارنا كما انكشف كلامه لأسماعنا فاخذتهم الرجفة بسبب سؤالهم هذا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصاعقة النازلة من قهر الله وغضبه لطلبهم ما ليس في وسعهم واستعدادهم قالَ موسى مشتكيا الى الله يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ اى لو تعلقت مشيتك لإهلاكهم لم لم تهلكهم مِنْ قَبْلُ اى قبل اسماعهم كلامك وَإِيَّايَ ايضا لم لم تهلكني حتى لا ينسب الى إهلاكهم عند عوام بنى إسرائيل وهم لا يتشأمون بي ثم قال موسى من غاية اضطرابه أَتُهْلِكُنا بالصاعقة الشديدة يا رب بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا اى بسبب سؤال سئل سفهاءنا وصدر عنهم هذا هفوة بلا علم لهم بعظمتك وجلالك وحق قدرك وعزك بل إِنْ هِيَ اى هذه الفعلة المستبعدة والمسألة المستحيلة ايضا إِلَّا فِتْنَتُكَ اختبارك وابتلاؤك إياهم إذ أسمعت أنت لهم كلامك فاوقعتهم بهذه الفتنة العظيمة إذ أنت تُضِلُّ بِها اى بفتنتك مَنْ تَشاءُ من عبادك بان اجترءوا عليك بعد ما انكشفت عليهم نوع انكشاف وجذبتهم نحوك نوع انجذاب الى انكشاف أعلى منه واجلى فتضلوا وتكفروا بلا علم لهم الى مقتضيات استعداداتهم وَتَهْدِي بها ايضا مَنْ تَشاءُ بان سكتوا عن السؤال مطلقا وفوضوا أمورهم كلها إليك ولا يسألوا عنك ما لم يستأذنوا منك والكل بيدك وما صدر عموم ما صدر عمن صدر الا بتوفيقك واقدارك بل بك ومنك وبمقتضى قدرتك وارادتك وبالجملة أَنْتَ وَلِيُّنا ومولى أمورنا ومولى نعمنا فَاغْفِرْ لَنا عموم ما جرى علينا من المعاصي والآثام وَارْحَمْنا برحمتك الواسعة تفضلا علينا وامتنانا واعف عنا بفضلك وجودك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ الساترين ذنوب عصاة المسرفين المفرطين
وَاكْتُبْ لَنا يا ربنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً لا توقعنا في فتنتك وَفِي الْآخِرَةِ ايضا حسنة توصلنا الى ذروة توحيدك إِنَّا بعد ما تحققنا بعلو شانك وسمو برهانك هُدْنا اى تبنا ورجعنا إِلَيْكَ من ان نسأل منك ما ليس لنا علم به سيما بما يتعلق بذاتك قالَ سبحانه متعززا برداء العظمة والكبرياء
عَذابِي ونكالي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من عصاة عبادي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ من المطيعين والعاصين وغيرهم فَسَأَكْتُبُها وأثبتها حتما لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن المحارم مطلقا طلبا لمرضاتى وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ اى يعطون مما في أيديهم من الرزق الصوري والمعنوي تمرينا على نفوسهم ملكة الكرم والجود وتطهيرا لها عن الشح المطاع الموجب للقسوة والغفلة وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا اى بجميعها يُؤْمِنُونَ يوقنون ويمتثلون بمقتضاها ألا وهم
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ المرسل بالتوحيد الذاتي النَّبِيَّ المتمم لمكارم الأخلاق الْأُمِّيَّ المتحقق المخصوص بالعلم اللدني الملقى له من ربه بلا واسطة كسب وتعليم من معلم الا وهو النبي الموعود الَّذِي يَجِدُونَهُ يعنى عموم اهل الكتب مَكْتُوباً في كتبهم بعثته ودينه واسمه وحليته وجميع أوصافه ثابتة عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ بانه إذا بعث يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ التي يحرمونها على نفوسهم وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ التي قد حللوها على أنفسهم وَبالجملة يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ اى يزيح ويزيل عنهم ثقلهم التي يترهبون ويتزهدون فيها فوق طاقتهم كقطع الأعضاء والجوارح التي يخطئون بها وقطع موضع النجاسة من الثوب وغير ذلك وَيضع ايضا الْأَغْلالَ اى التكاليف الشاقة الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وبالجملة فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حين ظهوره ودعوته وَعَزَّرُوهُ ووقروه حق توقيره وتعظيمه وَنَصَرُوهُ تقوية لدينه وَاتَّبَعُوا النُّورَ اى القرآن الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ من عند الله تأييدا له وتصديقا إياه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الموفقون من عنده باتباعه هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون من عنده على الفلاح والفوز بالنجاح
قُلْ يا أكمل الرسل الهادي للكل المرسل الى كافة البرايا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة الناسون عهد الله وميثاقه المحتاجون الى المرشد الهادي ليهديكم الى طريق الرشد إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ قد أرسلني إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اى الى قاطبة اهل التكليف وعامة البرايا لهديكم الى توحيده الذاتي اعلموا ايها المجبولون على فطرة الوجدة انه سبحانه هو العليم القدير الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها إيجادا وتصرفا بالاستقلال والاختيار وَالْأَرْضِ وما عليها كذلك لا إِلهَ اى لا متصرف في الشهود ولا مالك في الوجود إِلَّا هُوَ المتصرف المستقل بالوجود والألوهية يُحيِي ويظهر بلطفه وجماله من يشاء من مظاهره وَكذا يُمِيتُ بقهره وجلاله من يشاء ومتى عرفتم ان الملك كله لله والتصرف بيده فَآمِنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية وَرَسُولِهِ المرسل من عنده ليبين لكم طريق توحيده النَّبِيِّ المخبر بأحوال النشأة الاولى والاخرى الْأُمِّيِّ المكاشف الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ اى يوقن ويذعن بتوحيد الله ويصدق بعموم كلماته المفصلة المنزلة من عنده سبحانه بتوفيق الله وتأييده من لدن نفسه القدسية بلا مدرس ومرشد هاد ومعلم منبه وَإذا كان شانه هذا ووصفه هكذا اتَّبِعُوهُ ايها الطالبون لطريق الحق القاصدون نحو توحيده لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم بعموم ما تروحون وتقصدون اليه من مراسم التوحيد الذاتي ثم قال سبحانه تنبيها على المؤمنين وحثا لهم الى الاتصاف بالقسط والعدالة المنبئة عن الصراط الأقوم الإلهي
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى اى من بنى إسرائيل أُمَّةٌ وجماعة مقتصدة يَهْدُونَ الناس الى توحيد الحق بِالْحَقِّ والصدق المطابق للواقع لنجابة فطرتهم واستقامة عقيدتهم وَبِهِ يَعْدِلُونَ اى بسبب الحق يقتصدون لا يفرطون
في الاحكام أصلا
ثم قال سبحانه وَقَطَّعْناهُمُ اى قد حزبنا بنى إسرائيل وصيرناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حزبا على عدد أبناء يعقوب عليهم السّلام ليكونوا أَسْباطاً لهم كل حزب سبط لواحد منهم لذلك صاروا أُمَماً مختلفة متفرقة وان كان الكل مسمى ببني إسرائيل وَمن جملة نعمنا إياه انا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلى مُوسى وقت إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ اى حين صاروا تائهين هائمين عطاشا حائرين أَنِ اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ التي قد استعنت بها في الأمور الْحَجَرَ الذي بين يديك فضرب فَانْبَجَسَتْ جرت وخرجت على الفور بلا تراخ ومهلة مِنْهُ اى من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً جارية بضربة واحدة على عدد الأسباط والفرق بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل سبط مَشْرَبَهُمْ المخصوص لهم لئلا يقع الخصومة والنزاع بينهم وَايضا من جملة نعمنا إياهم انا قد ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ اى أمرنا الغمام بان يظل عليهم في التيه لئلا يتضرروا من شدة الحر فيستريحوا وَايضا أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ الترنجبين لشربهم تبريدا لأمزجتهم وَأنزلنا لهم ايضا السَّلْوى اى السمانى لغذائهم وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لتقويم امزجتكم وتقويتها وهم مع تلك الكرامات العظام قد خرجوا عن مقتضى الأوامر والنواهي المأمورة إياهم وَبالجملة ما ظَلَمُونا أولئك الظالمون الخارجون عن مقتضيات حدودنا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
اى ما يظلمون الا أنفسهم بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام ويلقونها بذلك في عذاب الدنيا والآخرة وهم مع قبح صنيعهم معنا قد راعيناهم وأنعمنا عليهم
وَمن جملة ما ظلموا على أنفسهم انهم إِذْ قِيلَ لَهُمُ واوصى إليهم إصلاحا لحالهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ اى بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها المتسعة حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مدافعة ومنع وَقُولُوا متضرعين إلينا متوجهين نحونا حِطَّةٌ اى سؤالنا منك يا مولانا حط ما صدر عنا من الآثام وعفو ما جرى علينا من المعاصي وَادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تأدبا وتعظيما نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ اى جميعها ان امتثلتم ما قد أمرناكم به بل سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ منكم بالرضوان الأكبر من لدنا
وبالجملة فَبَدَّلَ واستبدل الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم بالخروج عن مقتضى ما امرناهم قَوْلًا صادقا صوابا قد قلنا لهم لإصلاح حالهم غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ على السنة رسلنا بل قد حرفوها لفظا ومعنى كما مر بيانه في سورة البقرة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ بسبب تبديلهم وتحريفهم هذا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا نازلا من جانب السماء بِما كانُوا يَظْلِمُونَ اى بشؤم خروجهم عن مقتضى أوامرنا وأحكامنا
وَايضا من جملة ظلمهم على نفوسهم حيلتهم وخديعتهم في نقض العهد ان شئت ان تعرفها سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ اى اسئل خديعتهم من اهل القرية الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه قيل ايلة وقيل طبرية الشأم وقيل مدين اذكر وقت إِذْ يَعْدُونَ يتجاوزون عن حدودنا وعهودنا معهم فِي السَّبْتِ اى العهد الذي هم قد عهدوا معنا ان لا يصطادوا في يوم السبت بل اخلصوه لعبادتنا والتوجه نحونا فابتليناهم بمحافظة العهد والوفاء عليه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ المعهود المحرم شُرَّعاً متتابعة متوالية وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ ولا يعهدون فيه لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ اى مثل سبتهم فاحتالوا بتعليم شياطينهم إياهم فحفروا أخاديد وحياضا على شاطى البحر فأرسلوا الماء عليها في يوم السبت
واجتمعت الحبتان فيها فاصطادوها يوم الأحد والاثنين وبسبب خداعهم معنا واختراع الحيل لنقص عهودنا نَبْلُوهُمْ نبلاء المسخ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم وخروجهم عن مقتضى العهد
وَاذكر إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ اى جماعة من صلحائهم حين قال بعض آخر من الصلحاء ايضا للمحتالين المناقضين على وجه العظة والتذكير لم تحتالون ولم تخادعون مع الله كأنكم لا تخافون من بطشه وانتقامه لِمَ تَعِظُونَ ايها المذكرون المصلحون قَوْماً منهمكين في الغفلة والضلال مع انه اللَّهُ القادر المقتدر المطلع لعموم أحوالهم مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً اى قد أراد الله إهلاكهم او تعذيبهم باشد العذاب بشؤم حيلتهم وخداعهم هذه قالُوا يعنى المذكرين المصلحين تذكيرنا ونصحنا إياهم مَعْذِرَةً ما إِلى رَبِّكُمْ الذي قد أمرنا بنهي المنكر على وجه المبالغة ولتأكيد وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى وأيضا ترجو من كرم الله وفضله ان ينتهوا ويحذروا بتذكيرنا إياهم عما هم عليه من الغفلة والضلال
وبالجملة فَلَمَّا نَسُوا واعرضوا عن ما ذُكِّرُوا بِهِ اى من العظة والتذكير ولم يقبلوا من الواعظين المذكرين وعظهم ونصيحتهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ متعظين بما ذكروا به وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإعراض عنه بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد فطبع بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم واعراضهم
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ والحاصل انهم ما تكبروا واستكبروا عن امتثال أوامرنا واجتناب نواهينا قُلْنا لَهُمْ على لسان نبيهم داود عليه السّلام كُونُوا ايها المتكبرون المنهمكون في الغي والضلال قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين مهانين لاستكباركم عن أوامر الله وتكاليفه مع انكم انما جبلتم على تحمل التكليفات الإلهية المستتبعة لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه فلما امتنعوا عنها مسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة والحقوا باخس الحيوانات وأرذل الأعاجم
وَاذكر لمن تبعك يا أكمل الرسل واتل عليهم كي يتنبهوا وقت إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ اى قد عزم وكتب على نفسه كأنه اقسم سبحانه لَيَبْعَثَنَّ وليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مستمرا دائما مَنْ يَسُومُهُمْ ويعلمهم سُوءَ الْعَذابِ لذلك ما ترى يهوديا في اقطار الأرض الا على مذلة وهوان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَسَرِيعُ الْعِقابِ على من أراد عقابه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تاب وأخلص رَحِيمٌ بقبل توبته ويمحو معصيته
وَمن غاية اذلالنا إياهم قَطَّعْناهُمْ وفرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فرقا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ اى الطالحون الخارجون عن مقتضى الايمان وَبالجملة قد بَلَوْناهُمْ اى اختبرناهم وحرمناهم بِالْحَسَناتِ اى بالعطاء والانعام وَالسَّيِّئاتِ بالأخذ والانتقام لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا بنا فيرجعوا إلينا وبعد ما بلوناهم بما بلوناهم
فَخَلَفَ واستخلف مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراضهم خلق خَلْفٌ خلفاء منهم يدعون انهم قد وَرِثُوا الْكِتابَ اى علم التورية منهم مع انهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى اى الدنيا مولعين بجمعها وأخذها وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا اى لن يأخذنا الله ابدا بأخذها وجمعها وَمن غاية حرصهم إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ بل أضعافه وآلافه يَأْخُذُوهُ بلا مبالاة اتكالا على مغفرة الله وعفوه مع انهم لم يستغفروا اليه أصلا أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الله المنزل في الْكِتابَ الذي ادعوا علمه ووراثته بل قد أخذ سبحانه منهم الميثاق في كتابهم على أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا القول الْحَقَّ ولا تنسبوا اليه سبحانه الا الصدق الثابت الذي
قد ورد عليه الأمر الإلهي من عنده سبحانه وَكيف لم يعلموا أخذ الله إياهم مع انهم قد دَرَسُوا من معلميهم ما فِيهِ من الاحكام والمواعظ والأوامر والنواهي وَبالجملة الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن حطام الدنيا ويجتنبون عن آثامها أَفَلا تَعْقِلُونَ خيريتها ايها الضالون المنغمسون «٢» في قاذورات الدنيا ولذاتها وشهواتها مع انها لا مدار لها ولا قرار للذاتها ومشتهياتها
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ويتمسكون منهم بِالْكِتابِ اى بما امرناهم في التورية ونهيناهم عنه فيه وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه إلينا على الوجه الذي امرناهم في كتابهم فعلينا أجرهم إِنَّا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون ظواهرهم بالشرائع والاحكام المنزلة من عندنا وبواطنهم بالإخلاص والتوحيد المسقط للاضافات مطلقا
وَاذكر وقت إِذْ نَتَقْنَا وقلعنا الْجَبَلَ من مكانه ورفعنا فَوْقَهُمْ بحيث يظل عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقف فوق رؤسهم وَظَنُّوا من قبح صنيعهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ الى ان قلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من مأمورات التورية بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص في أوامره وأحكامه وَاذْكُرُوا اى اتعظوا وتذكروا ما فِيهِ من المواعظ والتذكيرات لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتهون وتحذرون عن قبائح أعمالكم ورذائل أخلاقكم
وَبالجملة نقض العهود ورفض المواثيق ونكثها والاعراض عن التكاليف المأمورة ليس مما يختص بهؤلاء المعرضين بل ما هي الا من الديدنة القديمة والعادة المستمرة لبنى آدم اذكر وقت إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَنِي آدَمَ حين أخرجهم حسب حصة ناسوتهم مِنْ ظُهُورِهِمْ اى من ظهور آبائهم وأصلابهم على التوالد المتعارف ذُرِّيَّتَهُمْ اى أولادهم قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن وَأَشْهَدَهُمْ اى أحضرهم واطلعهم عَلى أَنْفُسِهِمْ اى على حصة لاهوتهم وعلى أرواحهم الفائضة عليهم المنفوخة فيهم من روحه سبحانه ثم قال لهم بعد ما شهدوا واستحضروا منشأهم وعلموا أصلهم اللاهوتى والناسوتي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بنفخ من روحي فيكم وفي ناسوتكم يا بنى آدم قالُوا بالسنة استعداداتهم بَلى قد شَهِدْنا يا مولينا سيما بعد ما أشهدتنا واقررتنا أنت ربنا لا رب لنا سواك ولا مظهر لنا غيرك فأخذ سبحانه على ذلك منهم الميثاق الوثيق حينئذ وانما أخذ ما أخذ كراهة أَنْ تَقُولُوا على سبيل المجادلة والمراء حين أخذهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بجرائمهم الصادرة عنهم المقتضية لنقض العهد إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا عن ربوبيتك واستقلالك فيها غافِلِينَ غير عالمين بها ولا منبهين عليها
أَوْ تَقُولُوا لو لم يأخذ سبحانه العهد الوثيق منهم جميعا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَقد كُنَّا ذُرِّيَّةً ضعافا مِنْ بَعْدِهِمْ فتقلدنا بهم أَفَتُهْلِكُنا وتأخذنا يا ربنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ اى بفعل آبائنا الذين قد أشركوا بك مع انا حينئذ لم نكن من اصحاب الرأى والتمييز وأخذنا بجرمهم ظلم علينا لذلك أخذ سبحانه الميثاق من جميع بنى آدم حتى لا يبقى لهم حجة عليه
(٢) كما نشاهد اليوم من اعيان زماننا احسن الله أحوالهم ومشايخ عصرنا واواننا يدعون وراثة الأنبياء ويجمعون من حطام الدنيا حلالها وحرامها وهم مولعون بجمعها الى حيث يلقون أنفسهم في المهالك ويحضرونها في المعاطب لنظم فضول العيش واسباب النخوة والجاه لذلك يترددون الى باب السلاطين ويتزورون بأنواع التزويرات والتلبيسات ويأخذون من اموال الجباية ما أمكن لهم ولا يعطون المستحقين شيأ منها ومع ذلك يدعون الولاية والوراثة والترك والتجريد والإطلاق والتفريد وبالجملة ما أولئك الا حزب الشيطان الا ان حزب الشيطان هم الخاسرون أعاذنا الله وعموم عباده من غوائل الشيطان وتسويلاته وتغريراته بمنه وجوده
سبحانه
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونبين على وجه الخصوص والعموم الْآياتِ الدالة على توحيدنا على اليهود وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا فيرجعوا نحونا ومع ذلك لم يرجعوا ولم يتنبهوا أصلا
وَبعد ما قد بالغوا في الاعراض والإنكار اتْلُ عَلَيْهِمْ اى على اليهود يا أكمل الرسل نَبَأَ اى قصة الشخص الَّذِي آتَيْناهُ علم آياتِنا العظام وأسمائنا الكرام حتى قدر وتمكن بسببها على اى شيء أراد فاعرض عنا بمتابعة الهوى كهؤلاء الغواة فَانْسَلَخَ مِنْها اى تجرد وعرى من سرائر الآيات جميعا انسلاخ لحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ اى قد جعله اللعين تابعا لاهوية نفسه فَكانَ بمتابعتها مِنَ الْغاوِينَ المنهمكين في الغي والضلال بحيث لا يرجى هدايته أصلا كهؤلاء اليهود
وَلَوْ شِئْنا وتعلق مشيتنا لهدايته الى أقصى غاية التوحيد وأعلى مرتبته لَرَفَعْناهُ بِها اى بتلك الآيات وَلكِنَّهُ متعلق لذلك أَخْلَدَ اى انخفض ومال إِلَى الْأَرْضِ الأنزل الأرذل وَاتَّبَعَ هَواهُ ينزل عليها ومع ذلك يتمسك بها وأراد ان يتشبث بمقتضاها فَمَثَلُهُ في هذا التمسك والتشتت بعد اللتيا والتي كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ حملا موجبا للهثه واندلاع نسائه يَلْهَثْ يخرج لسانه بسببه أَوْ تَتْرُكْهُ ولم تحمل عليه ما يوجب للهثه يَلْهَثْ ايضا لرسوخ تلك الديدنة القبيحة في ذاته وبالجملة ذلِكَ اى مثل ذلك الكلب بعينه مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ يا أكمل الرسل لليهود الْقَصَصَ المعهود لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون فيما هم عليه من الاعراض والإنكار فيتنبهون على قبح صنيعهم وسوء فعالهم مع الله قيل ذلك الشخص هو بلعام بن باعوراء وقصته معروفة وقيل امية ابن الصلت كان قد قرأ الكتب المنزلة ووحد فيها وصف النبي صلّى الله عليه وسلم ورجا ان يكون هو فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسد وكفر جميع الكتب المنزلة وكان من الغاوين
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ اى بئس المثل مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واعرضوا عنها منكرين عليها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ اى وما يظلمون بالإعراض والإنكار الا أنفسهم إذ عاد عليهم وباله ونكاله ولكن لا يشعرون لقساوة قلوبهم وخبث طينتهم
وبالجملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بان يوفقه على سماع كلمة الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِي الى توحيده وَمَنْ يُضْلِلْ بان يضله عن سبيله بإنكار آياته وتكذيب رسله فَأُولئِكَ البعداء الضالون هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي لا يرجى ربحهم وهدايتهم أصلا
ثم قال سبحانه وَلَقَدْ ذَرَأْنا أوجدنا وأظهرنا لِجَهَنَّمَ البعد والخذلان ونيران الإمكان والخسران كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مع انه قد ثبت لَهُمْ قُلُوبٌ هي مناط التكاليف والعرفان ومحال الايمان والإيقان وهم لا يَفْقَهُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العلمي وَلَهُمْ أَعْيُنٌ هي سبب مشاهدة الآثار والاستدلال منها على الأوصاف الموجدة لها المترتبة على الذات الإلهي وهم لا يُبْصِرُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العيني وَلَهُمْ ايضا آذانٌ هي آلات لسماع كلمة الحق ووسائل الى اكتساب الفضائل والكمالات المنبهة على ما في نفوسهم من السرائر والأسرار المكنونة الإلهية وهم لا يَسْمَعُونَ بِها ليحصل لهم الترقي من مرتبة اليقين العيني الى اليقين الحقي وبالجملة أُولئِكَ الحمقى الجهلاء المتصنعون بأوصاف العقلاء العرفاء كَالْأَنْعامِ في عدم الشعور والتنبه بَلْ هُمْ بسبب تضييع استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية أَضَلُّ من الانعام بمراتب وبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة
المتناهون فيها أقصى الغاية
وَاعلموا ايها العقلاء العرفاء الموحدون ان لِلَّهِ المتوحد المتفرد لذاته الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تترتب عليها الصفات العليا المترتبة عليها الآثار الحادثة في عالم الكون والفساد والشهادة والغيبة والنشأة الاولى والاخرى فَادْعُوهُ سبحانه ايها الموحدون بِها وأسندوا الحوادث الكائنة إليها أولا وبالذات وَذَرُوا اى دعوا واتركوا اقوال الجاحدين الملحدين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون وينحرفون فِي أَسْمائِهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية أولا وبالذات واعتقدوها عللا وأسبابا حقيقية واهجروا مذاهبهم واعتزلوا عنهم وعن مجالستهم واعلموا ان كل واحد منهم ايها المكلفون سَيُجْزَوْنَ بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ في نشأة الدنيا ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم قال سبحانه كلاما كليا جمليا شاملا على جميع الملل والأديان
وَمِمَّنْ خَلَقْنا اى اظهرناهم على صورتنا أُمَّةٌ مستخلفة عنا هم يَهْدُونَ الناس إلينا ملتبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع متمسكين به وَبِهِ اى بالحق لا بغيره إذ لا غير يَعْدِلُونَ يقسطون وينصفون في الوقائع والاحكام
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى سنستضلهم ونستذلهم قليلا قليلا الى ان نهلكهم بالمرة وندخلهم في جهنم البعد وسعير الإمكان مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون كيف وقعوا فيها ومن اى طريق دخلوا
وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ اى امهلهم في بطرهم وغفلتهم الى حيث ازدادوا على نفوسهم العتو والعناد الموجب لشدة العذاب مكرا عليهم وكيدا لهم إِنَّ كَيْدِي ومكري سيما مع العصاة الغواة الضالين عن منهج العدالة والرشد مَتِينٌ محكم بحيث لم يحسوا به وباماراته ومقدماته أصلا الى ان أخذوا بأسوإ العذاب وأشد النكال ثم أشار سبحانه الى توبيخ المسرفين المسفهين لرسول الله عنادا ومكابرة
فقال أَما يستحيون من الله أولئك المسرفون المفرطون من نسبة الجنون الى من فاق على عموم العقلاء بالرشد والهداية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا انه ما بِصاحِبِهِمْ يعنى نبيهم ورسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ جِنَّةٍ خفة عقل موجب للخبط والجنون غاية ما في الباب ان هؤلاء القاصرين عن ادراك كلامه ينسبون ما لم يفهموا من كلامه الى انه قد صدر عنه هفوة لا عن قصد وشعور ويسمونه مجنونا لذلك إِنْ هُوَ اى بل ما هو صلّى الله عليه وسلّم عند التحقيق إِلَّا نَذِيرٌ ينذرهم باذن الله ووحيه ويخوفهم الله به مُبِينٌ عظيم الشان ظاهر البيان في امر الإنذار والإرشاد روى انه صلّى الله عليه وسلّم صعد الصفا يوما فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم عن بأس الله وبطشه فقال قائلهم ان صاحبكم لمجنون فنزلت. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهؤلاء المسرفين الذين ينسبون ما هو خارج عن مدركات عقولهم الى الجنون ويدعون استقلال العقل في العلوم المتعلقة بالأشياء كلها
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتدبروا كيف تقصر وتدهش عقولهم فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وكيفية نظمها ونضدها وترتيبها وتطبيقها وما فيها من كواكبها وبروجها وحركاتها وادوارها وانقلاباتها شتاء وصيفا ربيعا وخريفا وَالْأَرْضِ وما عليها من تلالها ووهادها وأنهارها وبحارها ورياضها وازهارها وغرائبها وبدائعها المكنونة المتكونة فيها بل وَفي جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم شيء تدهش وتتحير في ظهوره عقول فحول العقلاء بحيث لم يطلعوا ولم يفهموا كيفية ظهور ذرة حقيرة من ذرائر العالم فكيف لميتها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في دعائه اللهم أرنا الأشياء كما هي وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم
رب زدني فيك تحيرا هذا في الآفاق الخارجة عنهم وَاما في نفوسهم فلم ينظروا أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ المقدر المسمى لهم وهم لا يفهمونه وان اجتمع العقلاء في تعيين أجل شخص واحد ما قدروا ومع قصور نظرهم وسخافة أحلامهم ينسبون الجنون الى المكاشفين الناظرين بنور الله المشاهدين المطالعين دائما صفاء وجهه الكريم الا وهم الذين قد انخلعوا عن لوازم البشرية مطلقا وشقوا جلباب الناسوت رأسا وخرقوا الحجب المسدولة بالكلية وصاروا ما صاروا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه وبعد ما سقط العقل عن درجة الاعتبار واضمحلت مدركاته رأسا وخرجت عن الوثوق والاعتماد مطلقا فلا تعويل الا على الوحى والإلهام الملقى من عند العليم العلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث الملهمة والموحى بها بَعْدَهُ اى بعد نزول القرآن يُؤْمِنُونَ ايها المؤمنون المصدقون بالوحي والإلهام
وبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وتعلق مشيته بإضلاله وإذلاله حسب جلاله فَلا هادِيَ لَهُ يرشده فعليك ان لا تجهد يا أكمل الرسل في هدايتهم ولا تصغى ايضا الى أباطيلهم إذ أمرهم مفوض الى الله وَكيف تجتهد وتسعى في ايمانهم إذ هم قوم يَذَرُهُمْ ويتركهم الله باسمه المذل المضل فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون الى ان يأخذهم بما يأخذهم دعهم أنت ايضا مع أباطيلهم يترددون وفي سكرتهم يعمهون
يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ السَّاعَةِ التي تخوفهم بها ومن شدة أهوالها وافزاعها أَيَّانَ مُرْساها اى في اى آن من الآنات وزمان من الازمنة قيامها ووقوعها حتى نؤمن بها قبل قيامها قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها عِنْدَ رَبِّي ومن جملة ما استأثر الله به سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها وبالجملة لا يُجَلِّيها اى لا يظهرها ولا يكشف أمرها لِوَقْتِها الذي عين لها وفي ساعتها التي قدر لوقوعها إِلَّا هُوَ إذ هي من جملة الغيوب الخمسة التي قد خصها سبحانه لنفسه في قوله وعنده علم الساعة وينزل الغيث الآية وانما أخفاها وأبهم وقتها ولم يطلع أحدا عليها لان الحكمة المتقنة تقتضي ذلك إذ لو أظهرها على عباده قد ثَقُلَتْ عظمت وشقت عليهم أمرها واشتدت هولها على من فِي السَّماواتِ من الملائكة وَعلى من في الْأَرْضِ من الثقلين لذلك لا تَأْتِيكُمْ الساعة عند إتيانها إِلَّا بَغْتَةً فجاءة وعلى غفلة بحيث لا يسع لكم ترك ما كنتم فيه حينئذ من الأمور كما اخبر صلّى الله عليه وسلّم ان الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقى ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه وانما يَسْئَلُونَكَ عن الساعة وقيامها لظنهم فيك من نجابة طينتك يا أكمل الرسل كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها خبير بوقتها عليم بشأنها مذكر لها دائما مفتش عن أهوالها وأحوالها مستمرا قُلْ لهم إِنَّما عِلْمُها ووقت ظهورها عِنْدَ اللَّهِ وفي خزانة حضرة علمه ولوح قضائه وعالم أسمائه وغيب ذاته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ انه سبحانه مختص به لا يطلع أحدا عليها
قُلْ يا أكمل الرسل لمن ظن بك انك حفى عليم بسرائر الأمور والعلوم ومخفياتها خبير أنت بحقائق الموجودات وماهياتها اعترافا بالعبودية وسلبا للاختيار عن نفسك والله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً اى جلب نفع وَلا ضَرًّا اى دفع ضر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إيصاله الى من النفع والضر وايضا لا اعلم من الغيب الا ما اوحى الله الى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعنى لو تعلق علمي بعواقب أموري لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ لنفسي وَصرت بحيث ما مَسَّنِيَ السُّوءُ
ابدا وما لحقني ضر أصلا لكن إِنْ أَنَا اى ما انا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم باذن ربي على مقتضى وحيه والهامه إياي وَبَشِيرٌ ايضا بمقتضاه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحي الله والهامه وبالجملة ما انا عالم بحالي ولا بأحوالكم أصلا بل رسول من عند ربي أبلغكم ما أرسلت به وما اوحيت من لدنه
وكيف لا يكون الغيب مما استأثر الله به إذ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي أبونا آدم عليه السّلام وكان جسدا لا علم له ولا ادراك ثم علمه سبحانه من انيات الأشياء والأسماء ما تعلق ارادته بتعليمه إياه ولم يعلمه حقائقها وكمياتها إذ هي من جملة المغيبات التي لم يطلع أحدا عليها وَبعد ما أظهرها جَعَلَ مِنْها اى خلق من جنسها زَوْجَها حواء وانما خلقها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ويوانس معها فَلَمَّا تَغَشَّاها وواقعها بالهام الله إياه حَمَلَتْ وحبلت حواء حَمْلًا خَفِيفاً اى أدركت حملا خفيفا في بطنها فَمَرَّتْ بِهِ ومضت عليها مدة أدركت ثقلها وأخبرت زوجها بثقلها فالهم بانه ولد فَلَمَّا أَثْقَلَتْ الى حيث اشتد عليها حملها وظهرت عندها امارة حيوة ما في بطنها واحست حركته دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا ولدا صالِحاً سالما لموانستنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المواظبين على أداء حقوق كرمك
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بعد صالح وطالحا بعد طالح بطنا بعد بطن جَعَلا وأخذا موضع الشكر لَهُ سبحانه شُرَكاءَ باغواء الشيطان إياهما فِيما آتاهُما من الأولاد فسمياهم بعبد الحارث وعبد العزى وعبد المناة بتعليم الشيطان إياهما فَتَعالَى اللَّهُ المنزه بذاته عن الشريك مطلقا سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له هما وغيرهما من المشركين ثم لا يكن شركهما عن قصد واختيار بل بوسوسة الشيطان واغوائه وبخ سبحانه عليهم وعيرهم لينزجروا
وقال أَيُشْرِكُونَ جمعه باعتبار أولاده معنا ما لا يَخْلُقُ ويظهر شَيْئاً حقيرا قليلا بل وَهُمْ اى الأصنام والشركاء في أنفسهم يُخْلَقُونَ مخلوقون كسائر المخلوقات
وَكيف يشركون الأصنام معنا في الألوهية والربوبية مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ اى لعبدتهم نَصْراً حيث يدفعون عنهم الأذى والضرر إذ هم جمادات لا شعور لها وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعنى بل لا يقدرون ان ينصروا أنفسهم بدفع ما يؤذيهم ويكسرهم فكيف لغيرهم
ثم قال سبحانه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون الموحدون المشركين المصرين على الشرك والعناد إِلَى الْهُدى الموصل لهم الى توحيد الحق لا يَتَّبِعُوكُمْ لخبث طينتهم بل سَواءٌ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المريدون هداية هؤلاء الغواة أَدَعَوْتُمُوهُمْ اى دعوتكم إياهم الى الإسلام أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ساكتون عن الدعوة بل عن الالتفات إليهم مطلقا لشدة قساوتهم وغلظة غشاوتهم
ثم قال سبحانه تبكيتا للمشركين إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتعبدون ايها الضالون المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اى هم مخلوقون أمثالكم بل أسوأ حالا منكم لكونهم جمادات لا شعور لها كيف سميتموها معبودات تعبدونها كعبادة الله وان اعتقدتم إلهيتهم وتأثيرهم فَادْعُوهُمْ بانزال العذاب على مخالفيكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ البتة لكونكم عبادا لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في انهم آلهة وبالجملة كيف تعتقدون ايها الحمقى الهية هؤلاء الجمادات الهلكى التي أنتم تنحتونها من الأحجار والأخشاب والإله منزه عنها متعال عن أمثالها وايضا كيف تعتقدون تأثير هؤلاء
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فيؤثرون بها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها والتأثير مسبوق بأمثال هذه
القوى والآلات كيف وشرط التأثير الحيوة ولا حيوة لهم أصلا فكيف يؤثرون وأنتم ايها الحمقى كيف تعتقدون تأثيرهم أفلا تعقلون قُلِ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين تدعون مشاركتهم مع الله واستظهروا منهم ثُمَّ كِيدُونِ وامكرون بمظاهرتهم بحيث لا اطلع بمكركم أصلا فَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني مدة حتى اتأمل فيه واطلع عليه واشتغل لدفعه وبالجملة انا لا أبالي بكم وبمكركم وبمكر شركائكم ومعاونيكم جميعا بولاية الله وحفظه ونصره إياي
إِنَّ وَلِيِّيَ وحافظي ومعينى وناصري ومتولى عموم أموري اللَّهُ القادر المقتدر القيوم المطلق الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن لنصرى وتأييدى وَمن غاية لطفه هُوَ سبحانه بنفسه يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده ويحفظهم عن مكر الماكرين سيما الأنبياء الذين هم في كنف جواره وحوزة حفظه يحفظهم عن جميع ما يؤذيهم
وَكيف لا يحفظهم سبحانه عن تأثير هؤلاء الأصنام الهلكى الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم ايها الضالون مِنْ دُونِهِ سبحانه وتستنصرون منهم مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ اى كيف ينصرونكم وهم لا ينصرون أنفسهم لعدم استعدادهم وقابليتهم على النصرة
وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم إِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون أولئك المشركين الضالين إِلَى الْهُدى ودين الإسلام لا يَسْمَعُوا ولا يقبلوا مع ورود هذه الدلائل الواضحة بل وَتَراهُمْ ايها المعتبر الرائي يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ويسمعون منك الادلة القاطعة وَهُمْ من خبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم لا يُبْصِرُونَ الى ان أصنامهم جمادات ولا يتأملون ولا يتفطنون ان ما ينسبون الى هؤلاء من الشفاعة والشركة وهم زائل وخيال باطل وخروج عن مقتضى العقل الفطري بل يصرون على ما هم عليه عتوا وعنادا وإذا كان حالهم هذا وهكذا وإصرارهم بهذه الغاية
خُذِ الْعَفْوَ اى اختر يا أكمل الرسل طريق العفو والملاينة واترك الغضب والخشونة بمقتضى شفقة النبوة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ اى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة القوم الذين قد تفرست منهم الرشد والهداية بنور النبوة والولاية وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ المصرين وان جادلوك جادلهم بالتي هي احسن وبالجملة ان ربك اعلم منك بمن ضل عن سبيله وهو اعلم ايضا بالمهتدين منهم
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ينخسنك ويشوشنك مِنَ الشَّيْطانِ المثير المهيج للقوى الغضبية والحمية الجاهلية نَزْغٌ اى وسوسة وإغراء يحملك على الغضب ويخرجك عن مقتضى ما أمرت به من الحلم والملاينة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من غوائله وارجع نحوه سبحانه من وسوسة الشيطان ومخايله يكفيك سبحانه مؤنة شروره واغوائه إِنَّهُ سبحانه بذاته سَمِيعٌ لمناجاتك عَلِيمٌ بعموم حاجاتك.
ثم قال سبحانه تذكيرا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعظة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا من عبادنا قد كانوا إِذا مَسَّهُمْ واستولى عليهم طائِفٌ خاطر يطوف ويحول حول قلوبهم مِنَ قبل الشَّيْطانِ المضل المغوى تَذَكَّرُوا ما أمروا به ونهوا عنه من عند الله فَإِذا هُمْ بتذكر المأمور او المنهي مُبْصِرُونَ مميزون موقع الخطايا فيحترزون منها ويتعوذون الى الله عما يغريهم الشيطان اليه
وَالذين لم يتقوا عن محارم الله ولم يحذروا عن غوائل الشيطان بل هم إِخْوانُهُمْ اى اخوان الشياطين إذا مسهم ما مسهم لا يتأتى لهم التذكر ولم يوفقوا عليه بل يَمُدُّونَهُمْ الشياطين بالتزيين والتحسين والوسوسة والإغراء الى ان يوقعوهم فِي الغَيِّ والضلال ثُمَّ بعد الإيقاع فيه لا يُقْصِرُونَ بل
يبالغون في اغوائهم واغرائهم الى حيث يردونهم بحال لا يرجى لهم الفلاح أصلا
وَمن غاية انهماكهم في الغي والضلال ونهاية غراقتهم فيه إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ قد اقترحوها منك عنادا قالُوا على سبيل التهكم والاستهزاء لَوْلا اجْتَبَيْتَها وهلا انتخبتها من الأقوال كسائر منشأتك أعجزت فيها فان عجزت لم لم تطلبها من ربك بمقتضى دعواك كما طلبت غيرها منه قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم ما انا منشئ مختلق بل رسول مبلغ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي الذي هو مرسلى ومبلغي مالي صنع في نظمه وتأليفه وبلاغته وفصاحته واعجازه بل هذا اى القرآن وما فيه من الرموز والإشارات بَصائِرُ للمستبصرين المستكشفين بمقتضى الودائع الفطرية التي قد اودعها الله في قلوب عباده حسب حكمته المتقنة ومتى انكشفتم بودائعكم علمتم انها مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً ايضا يوصلكم الى ما جبلتم لأجله الا وهو التوحيد والعرفان وَرَحْمَةٌ نازلة من الله توقظكم عن نومة الغفلة ونعاس النسيان كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اى يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ويطلبون الترقي منها الى العين والحق. حققنا بلطفك بحقيتك وخلصنا من هويتنا الباطلة بفضلك وجودك يا ارحم الراحمين
وَبعد ما سمعتم منا من أوصاف القرآن ما سمعتم إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ عندكم او قرأتم أنتم لأنفسكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ عن صميم قلوبكم وتأملوا في معناه حسب وسعكم وطاقتكم وَأَنْصِتُوا اى اسكتوا واعرضوا وانصرفوا عن مقتضيات سائر قواكم وآلاتكم ولا تلتفتوا إليها أصلا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تنكشفون وتتحققون بما في نفوسكم من ودائع الله بسببه
ثم خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم لان أمثال هذه الخطابات لا تسع الا في وسعه وقابليته فقال وَاذْكُرْ رَبَّكَ اى تذكر وتحقق بمربيك الذي أظهرك على صورته فِي نَفْسِكَ إذ أنت بهويتك ظاهر ربك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعا متحننا خائفا عن غلبة غفلة ناسوتك وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ إخفاء من المحجوبين الجاهلين الجاحدين برتبتك وغيرة عليه سبحانه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى بعموم أوقاتك التي جرى عليك بمقتضى بشريتك وَبالجملة لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ بحال من حالاتك لتحققك وتمكنك في مقام الكشف والشهود
وبالجملة إِنَّ السالكين الَّذِينَ قد حصلوا وتمكنوا عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ آنا ولمحة ولا يلتفتون الى ما سواه طرفة بل وَيُسَبِّحُونَهُ اى ينزهونه ويقدسونه سبحانه عن عموم ما يصور لهم ويوهمهم منه سبحانه ناسوتهم وَبالجملة لَهُ يَسْجُدُونَ دائما بمقتضى حصة لأهونهم منسلخين عن مقتضيات هوياتهم الباطلة الناسوتية مطلقا منخلعين عن لوازم اوهامهم وخيالاتهم العاطلة رأسا. ربنا اكشف عنا بفضلك حجب ناسوتنا بالمرة وحققنا بجودك بفضاء لاهوتك انك أنت الجواد الكريم
خاتمة سورة الأعراف
عليك ايها السالك المتوجه نحو القبلة الأحمدية والمقصد الاحدية المحمدية هداك الله نحو سواء سبيله وأوصلك الى مقر عزك من التوحيد الذاتي ان تتوجه الى فضاء قلبك وتتذكر ما فيه من ودائع ربك على وجه الخبرة والاستبصار مجتنبا عما يشوشك عن غبار الأغيار معيرا بمعيار العبرة والاعتبار بحيث لا يلهيك عنها وسوسة الشيطان المحيل المكار وتغريرات الدنيا الغرار ولا يتيسر لك هذا الا بتذكر ما في كتاب الله من المواعظ والاخبار والآثار وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي والتدبر
Icon