لا يؤمنون به. وقد بدأت بالحديث عن يوم القيامة، وأقسم الله بعظمة القيامة وبالنفس اللوامة الطماحة إلى الرقي، التي لا ترضى بمرتبة إلا طلبت سواها، ولا بحالة إلا أحبت ما تلاها، ورامت ما فوقها. وهذا القسم كأنه استدلال على القيامة، يقول : إن ما في النفوس من حب الرقي وعدم الوقوف عند حد محدود في هذه الحياة، دليل على أن هناك حالا أخرى ينال فيها الإنسان ما كان يرغبه.
وأن هذا القسم وأمثاله لم يكن للعرب به عهد، ولم يطرق آذانهم، فإنهم تعودوا أن يُقسموا بالأشياء المعهودة فيما بينهم لا يتجاوزونها، فيقسمون بالأب وبالعمر، وبالكعبة. أما هذه الأقسام العجيبة فكانوا لا يعرفونها، ولا يقسمون بها.. فإن فيها دلائل على ما يقصد في جوابها، وفيها فتح باب البراهين والحكمة والعلم.
وبعد هذا القسَم العظيم بالقيامة وبالنفس اللوامة يؤكد الله تعالى أنه سيبعث الناس ويجمع عظامهم. وقد شرح ذلك بعض الشرح بقوله تعالى :﴿ يسأل أيّان يوم القيامة، فإذا برق البصر، وخسف القمر، وجُمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر ﴾. فأتى بثلاث علامات على يوم القيامة، وعند ذلك يعاين الإنسان الحقائق، ويعلم أنه لا مفر من عذاب الله، ويرى حسابه بنفسه وكل
ما قدّم وأخر.
ثم يأتي بأربع آيات فيها توجيه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وتعليم خاص في شأن تلقي هذا القرآن العظيم، ليطمئنه إلى أنّ أمر هذا الوحي، وحفظ القرآن، وجمعه وبيان مقاصده، كل أولئك موكول إلى الله، وما عليه إلا أن يتلقى ويبلّغ ما تلقى.
ثم يوجه الردع إلى من يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، ثم يوازن بين وجوه المؤمنين الناضرة، ووجوه الكافرين الباسرة الكالحة المعبسة.
ثم يأتي الحديث عن حقيقة الموت القاسية الرهيبة التي تواجه كل حي، فلا يملك لها ردّا، ولا يملك لها أحد ممن حوله دفعا. وهي تكرر في كل لحظة، ويواجهها الكبار والصغار، والأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، ويقف الجميع منها موقفا واحدا لا حيلة ولا وسيلة ولا قوة ولا شفاعة ﴿ كلا إذا بلغت التراقي، وقيل من راق، وظن أنه الفراق، والتفّت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق ﴾.
وبعد هذا المشهد الرهيب الذي حير البشر، واستسلموا تجاهه لأمر الله، تتحدث السورة عن النشأة الأولى، ودلالتها على صدق الخبر بالنشأة الأخرى، وعلى أن هناك تدبيرا في خلق هذا الإنسان وتقديرا، كما أنها بينة لا تُرد على يسر النشأة الأخرى، ﴿ أيحسب الإنسان أن يُترك سدى، ألم يكُ نطفة من مني يُمنى، ثم كان علقة فخلَقَ فسوّى، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، أليس ذلك بقادر على أن يُحيي الموتى ﴾ ؟ كما قدر الله على الخلق الأول وأوجد الإنسان من نطفة لا ترى بالعين المجردة، فمن الهيّن عليه أن يعيده خلقا جديدا.
وقد سميت السورة " سورة القيامة " بقوله تعالى ﴿ لا أقسم بيوم القيامة ﴾ ولأنها تعالج هذا الموضوع بأسلوب عظيم، وأداء ممتاز بعرض مشاهد يوم القيامة
وما يمس الإنسان من خلق وموت وحياة وتختم السورة كما بدئت بإثبات الحشر والمعاد.
ﰡ
أقسم الله تعالى بعظمة يوم القيامة.
وبالنفس الكثيرة اللوم لصاحبها على الذنب والتقصير في الخير - لَتُبعثُنَّ أيها الناسُ ولتحاسَبنّ على ما فعلتم.
بلى نحن قادرون على ذلك وعلى أعظمَ منه، فنحن قادرون على أن نسوي بنانه على صغرها ولطافتها، وضم بعضها إلى بعض، فكيف بكبار العظام ! إن من يقدر على جمع العظام الصغار فهو على غيرها من الكبار أقدَر.
واعلم أن عظام اليدين ثلاثون، وعظام أصابع الرجلين ثمانية وعشرون، فيكون مجموعهما ثمانية وخمسين، وهذه عظام دقيقة وضعت لمنافع لولاها ما تمت تلك المنافع كالقبض والبسط واستعمال اليدين في الجذب والدفع وغير ذلك مما لا يحصى. فلولا دقة هذه العظام وحسن تركيبها ما انتظمت الأعمال المترتبة على اليدين. وكذلك الفقرات، تعدّدت ولم تجعل عظمة واحدة، لأنها لو جُعلت واحدة لعاقت حركة الإنسان. وقد جُعلت فقراتٍ متتالية ليمكنه الحركة والسكون، ويكون ذلك سهلا عليه أينما كان، فلولا الفقرات وتفصيلها لم يقدر الإنسان على الانحناء للأعمال والحركات المختلفة، بل يكون منتصبا كالخشبة. ومجموع العظام في جسم الإنسان مئتان وثمانية وأربعون قطعة، ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ].
بل يريد الإنسان أن يتمادى في عصيانه وفجوره إلى آخر لحظة من عمره
ولا يتوب إلى الله.
ويسأل مستهزئا : متى يومُ القيامة ؟ ونحو الآية قولُه تعالى وقد تكرر كثيرا :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ يونس : ٤٨، الأنبياء : ٣٨، النمل : ٧١، سبأ : ٢٩، يس : ٤٨، الملك : ٢٥ ].
وقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال بأن لها علامات :
فإذا تحير البصر وزاغ من شدة الهول ومن عظيم ما يشاهد.
قراءات :
قرأ الجمهور : برق البصر بكسر الراء، وقرأ نافع : برق بفتح الباء والراء.
وذهب نور القمر.
فيأتي الجواب :
كلا أيها الإنسان، لا شيء يعصِمك من أمر الله، ولا ملجأ ولا جبل ولا شيء يقيك من العذاب. كما قال تعالى أيضا :﴿ مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٤٧ ].
﴿ إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر ﴾.
المرجع إلى الله في ذلك اليوم الرهيب.
وفي ذلك اليوم تنشَر الصحف ويخبر الإنسان بجميع أعماله : أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، ﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
﴿ بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾.
الإنسان يعلم ما فعل وما ترك وهو حجة بيِّنة على نفسه، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره، فسمعه وبصره وجوارحه تشهد عليه.
وسيحاسَب على فعله مهما أتى بالأعذار ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النور : ٢٤ ].
في هذه الآية و الآيات الثلاث الآتية توجيه وطمأنينة للرسول الكريم بأن أمر الوحي، وحفظ القرآن وجمعه وبيان مقاصده، كل أولئك موكول إلى الله، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم : إذا تلا عليك جبريل القرآن فلا تعجل وتتابعه في القراءة مخافة أن يفوتك شيء منه، فنحن نجعله بكامله في قلبك.
إن علينا جمعه في قلبك.. وإثبات قراءته في لسانك.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : كلا بل يحبون العاجلة ويذَرون الآخرة، بالياء، والباقون : بالتاء.
ثم وصف ما يكون يوم القيامة بأن الناس ينقسِمون إلى فريقين : أبرار وجوهُهم مشرقة حسنة مضيئة تشاهد عليها نَضْرة النعيم.
تنظُر إلى ربها عِياناً بلا حجاب.
ووجوه يومئذ كالحة شديدة العبوس.
تتوقع أن تنزل بها داهية تقصم الظهر.
وبعد ذِكر أهوال القيامة، ووصفِ سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، بين أن للدنيا نهاية، وأن الموتَ مصيرُ كل الناس. وأن الكافر أضاع الفرصةَ في الدنيا،
فلا هو صدَّق بأوامر الدين ولا أدى فرائضه، وبين أنه لا بدّ من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وهذا خلافُ العدل،
ولا يَليقُ بخالِق الكون العادل الحكيم. وأنه كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الإنسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً كما قَدر على الخلق الأول وأوجدَ الإنسانَ من منيّ يُمنَى، فأهون عليه أن يُعيده خَلقاً آخر.
﴿ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق ﴾
ازدجِروا وتنبهوا إلى مصيركم وارتدعوا عن حب الدنيا التي تفارقونها، إذا بلغت الروح عظام النحر.
وقال أهل الميت والحاضرون : هل هناك أحد يرقيه ويشفيه مما به ؟
وأيقن المحتضر أنه مفارق الدنيا والأهل والمال والأصحاب وبلغت به الشدة أقصاها.
فالتوت إحداهما على الأخرى وخرجت الروح.
إلى خالقك المرجع والمآب، فإما إلى جنة وإما إلى النار.
ثم راح يمشي مشية تكبر وخيلاء افتخارا بما صنع.
ويل لك مرة بعد أخرى، وهذا تهديد ووعيد معناه أولاك الله ما تكرهه، والنار أولى بك وأجدر.
ويل لك مرة بعد أخرى، وهذا تهديد ووعيد معناه أولاك الله ما تكرهه، والنار أولى بك وأجدر.
ثم أقام الله الدليل على البعث بقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ وهذا ليس عدلا، إذ لا بد من حياة أخرى يجازى فيها كل إنسان بما فعل، ولا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها، وإلا تساوى المطيع والعاصي، وذلك ليس عدلا، وهذا لا يليق بالحكيم العادل، الذي خلق هذا الكون المنتظم.
يمنى : يراق ويصب في الأرحام.
ثم بين أنه خلق الإنسان من شيء صغير لا يُرى، وجعله بهذه المنزلة وهذا التركيب وإعادته أهون عليه فقال :
﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ﴾.
ألم يكن الإنسان نطفة في صلب أبيه، وأودعها الرحم، وخُلق من شيء لا يرى بالعين المجردة.
قراءات :
قرأ حفص وابن عامر ورويس : من مني يمنى بالياء كما هو في المصحف. والباقون : من مني تمنى بالتاء. و الحمد لله رب العالمين.
فصار علقة، ثم سواه الله بشرا بأحسن تقويم.
لا شيء.
لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : ٥٧ ].