ﰡ
نزلت بمكة بعد القارعة، وهي أربعون آية، ومثلها في عدد الآي سورة النّبإ وهي تسع وتسعون كلمة، وستمائة واثنان وخمسون حرفا، ويوجد سورة البلد مبدوءة بما بدئت به هذه السورة، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» اتفق أكثر المفسرين عن أن المعنى أقسم لأن العرب تدخل لا على أقسامها فتقول لا والله لا وأبيك، والقرآن نزل بلغتهم، قال امرؤ القيس الكندي:لا وأبيك ابنة العامري | لا يدعي القوم اني أفر |
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة | وكاد ضمير القلب لا يتقطع |
إلا إعظاما وتفخيما لهما يكون الغرض إجلال القسم به وتبجيله والأول أولى، وهذا كله تحاشيا عن القول بأنها زائدة إذ ما من حرف في القرآن إلا ويؤدي معنى خاصا، واللوامة النفس التي تلوم صاحبها بعد إيقاعه الفعل المنهي عنه الذي حسنته له والتي تقول له دائما لم فعلت ولم لم تفعل وغيرك يفعل؟
مطلب: على الإنسان أن يتفقد حاله:
قال المغيرة بن شعبة: يقولون القيامة، وقيامة أحدهم موته، وهذه القيامة ليست مرادة هنا والله أعلم، وانما هي القيامة الكبرى، لأن سياق الآية يدل عليها ويأبى صرفه لما في قول المغيرة، والأحسن في تفسير اللوامة أن نقول هي التي تلوم صاحبها على مافات منه إن كان خيرا لم لم يزدد منه، وإن كان شرا لم لم يقلع عنه، يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: ما منكم يوم القيامة إلا ندم، إن كان محسنا ندم أن لا ازداد وان كان مسيئا ندم ان لا أقلع، لأن المؤمن لا بد له أن يحاسب نفسه دائما على كل ما يقع منه ويزنه في ميزان الشرع، حتى كلامه المباح وأكله الحلال هل أراد بهما وجه الله والتقوي على طاعته أم لا، وينبغي أن يستحقر أعماله واجتهاده في طاعة الله لأنه كلما رأى نفسه مزدادة فهي مقصرة إذا عقل قوله تعالى: (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ والآية عامة، وما قيل إن المراد بها نفس آدم عليه السلام، لأنها لمّا تزل تلومه على ما وقع منه، وفرط به لا دليل له عليه، ولا يوجد ما يؤيده، بل هي شاملة لكل نفس، وجواب القسم محذوف تقديره لتكوننّ القيامة ولتبعثنّ فيها وتحاسبون على ما وقع منكم، بدليل قوله عز قوله «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» الذي ينكر البعث، ولم يؤمن به جحدا وكفرا «أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ٣» بعد تفرقها وصيرورتها رفاتا، واختلاطها بالتراب ونسفها بالرياح، وبعد أن أكلتها الوحوش والطيور والحيتان، يقول الله تعالى: تستعظم علينا أيها الإنسان هذا كلا لا تستكثره على من خلقك من العدم، «بلى» أيها الكافر نفعل ذلك حالة كوننا «قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ ٤» عظام رؤوس أصابعه، وإنما
الأصل الميل وسمي الكافر فاجرا لميله عن الحق وكذا الفاسق «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ٦» إلى متى يكون استبعادا له فقل له يا حبيبي يكون ذلك لا محالة «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ٧» شخص عند الموت لما يشاهد من أهواله وعجائبه قال ذو الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق وقرىء برق بكسر الراء أي دهش من شدة الفزع «وَخَسَفَ الْقَمَرُ ٨» ذهب ضوءه بحيلولة الأرض ما بينه وبين الشمس وكذلك كسوف الشمس يكون بحيلولة الأرض بينهما وبين ما تشرق عليه منها. هذا في الدنيا أما بالآخرة وهو المراد هنا فيذهب ضوءه وضوءها ويسقطان يدل عليه قوله «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ٩» بطلوعهما معا من جهة المغرب وذهاب نورهما ثم يسقطان كسائر الكواكب راجع أول سورة التكوير المارة وللبحث صلة في سورتي الانفطار والانشقاق في ج ٢، وهذا لا يكون بالحيلولة كما يقوله الفلكيون ولا شيء آخر مما يقوله علماء الهيئة حيث تضمحل هناك المعارف والعوارف أما ما قاله الملاحون ان خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر فهو انكار لقدرة الله القادر أن يجعله منخسفا سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس أو لم تكن لأن الأجسام متماثلة فيصح على كل منها ما يصح على الآخر، والله قادر على كل الممكنات والمستحيلات، ومن جملة قدرته إزالة ضوء القمر في كل حال، ولهذا لما كسفت الشمس يوم موت إبراهيم، وقال الناس إنها كسفت لأجله لأنهم يزعمون أنها تنكسف لموت عظيم، أو لأمر عظيم وحادث خطير، قال صلّى الله عليه وسلم: إنهما- أي الشمس والقمر- لا ينكسفان لموت أحد أو حياته، وإنهما آيتان يخوّف الله بهما عباده، الحديث. قال تعالى واصفا ذلك الوقت العصيب الذي يحار فيه اللبيب، ويذهل عنه البعيد والقريب «يَقُولُ الْإِنْسانُ» المكذب لذلك «يَوْمَئِذٍ» يوم وقوع هذه الأشياء «أَيْنَ الْمَفَرُّ» والمهرب والمخلص من هذا فيقال
«كَلَّا» انزجر وارتدع «لا وَزَرَ ١١» لا ملجأ
قال كعب بن مالك:
الناس آلت علينا ليس فيك لنا | إلا السيوف وأطراف القنا وزر |
لعمرك ما يلقى من وزر | من الموت يدركه والكبر |
(سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) الآية ٤٣ من سورة هود، في ج ٢، فتقدم الله تعالى لهؤلاء بما يقطع أملهم بأن لا شيء هناك يعصبهم من عذاب الله إلا هو، ولهذا قال «إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ١٢»
، أي يكون قرار خلقه يوم فرارهم إليه، وخلاصهم منوط به وحده، لا يشاركه أحد، وهو إما إلى الجنة أو النار لا توسط بينهما، أما أهل الأعراف فسيأتي بيانهم في الآية ٤٦ من سورتهم الآتية، قال تعالى حينذاك «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ»
يوم الحساب والجزاء «بِما قَدَّمَ»
من أعماله الحسنة والسيئة «وَأَخَّرَ ١٣»
من آثاره كسنة حسنة سنّها أو وصية خير أوصى بها أو وقف، أوقفه في دنياه، فيفهم هل أراد به وجه الله تعالى، فإن كان فيوضع في جملة أعماله الصالحة، وإلا فإن كانت النيّة سيئة والوصية لحب المال، أو كراهية بالورثة أو رياء، فيكون في جملة أعماله الطالحة، ومما يعد مؤخر الولد ان كان صالحا انتفع به وإلا لا، ومما يدل على حسن النية وسوئها قوله عز قوله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ»
وكافة جوارحه «بَصِيرَةٌ ١٤»
شاهد لا يحتاج إلى الإشهاد عليه، فهو يعلم مغزى ما يفعل وما يقدم وما يؤخر، والهاء في بصيرة للمبالغة كعلامة وشهامة فالسمع يشهد بما سمع، والبصر بما ابصر، واليد بما بطشت، والرجل بما مشت، والأنف بما شم، والفم بما ذاق وتكلم، وهكذا فلا يظن انه ينجو إذا كان عمله لغير الله «وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ ١٥»
كلها بأنواعها وأجناسها فلا ينفعه ذلك لأن شاهده من نفسه قال تعالى «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ» الآية ٢٤ من ت (١٦)
كأن على ذي العقل عينا بصيرة | بمجلسه أو منظر هو ناظره |
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم | من الخوف لا يخفى عليه سرائره |
أي القرآن حينما تتلقاه من جبريل «لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ١٦»
وتسيء تلاوته على اثر فراغك من سماعه لتوقره في صدرك خشية نسيأنه كلا لا تخف هذا «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ»
وإثباته في لبّك الآن وفي المصاحف بعد، حتى لا يفلت منه حرف «وَقُرْآنَهُ ١٧»
وعلينا وبكفالتنا قراءته بلسانك على قومك وان يقرأه من بعدك الى قرب أن نرث الأرض ومن عليها «فَإِذا قَرَأْناهُ»
عليك يا حبيبي بواسطة أميننا جبريل «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ١٨»
قراءته واستمع لها وأنصت فهذا الذي عليك «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ ١٩» لك وان كان صلّى الله عليه وسلم في بدء الوحي يحفظ ما ينزل عليه، الخمس آيات والأقل والأكثر ولما حمي الوحي احتاج إلى شدة اجتهاد به حرصا على ان لا ينسى منه شيئا، وكان لشدة حرصه على وحي ربه حال سماعه يتلوه اثر سماعه وإذا أشكل عليه شيء سأل جبريل عنه فقال له ربه لا تتعب نفسك بشيء تكفلنا لك بحفظه وبيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام، هذا (وقرآنه) في الآيتين بمعنى القراءة وهي لغة معروفة عند العرب قال
ضحوا بأشمط غوان السجود له | يقطع الليل تسبيحا وقرآنا |
لذلك فإن هذه الآية كالمعترضة بين ما قبلها وما بعدها كما ترى «كَلَّا» حقا انكم لا تميلون إلى الآجلة «بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ ٢٠» الفانية فتنهكون فيها
«وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ ٢١» الباقية فلا تلتفتون إليها وكان الأحرى بكم العكس «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» يوم تكون الآخرة التي اخترتم الدنيا عليها «ناضِرَةٌ ٢٢» حسنة ناعمة جميلة مضيئة مسرورة بما رأت «إِلى رَبِّها» في جنته العالية «ناظِرَةٌ ٢٣» مبصرة مشاهدة عيانا بلا حجاب ولا كيفية ولا كمية ولا ثبوت جهة أو مسافة. قال في بدء الأمالي:
يراه المؤمنون بغير كيف | وادراك وضرب من مثال |
فينسون النعيم إذا رأوه | فيا خسران أهل الاعتزال |
وقد نظرتكم أعشاء صادرة | للورد طال بها حوري وتنساسي |
مطلب رؤية الله في الآخرة:
وقد أجمعت أهل السنة والجماعة على جواز رؤية المؤمنين ربهم بالآخرة دون الكافرين، قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) الآية ١٥ من المطففين في ج ٢ فيفهم منها صراحة ان المؤمنين غير محجوبين عن رؤيته، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة واجماع الأئمة الأصحاب فمن بعدهم من السلف الصالح والخلف الناجح على إثبات رؤية الله تعالى وقد روى ذلك أكثر من عشرين صحابيا وان الرؤية
الآية ٣٢ من سورة ص الآتية أي الشمس لم تذكر ولكن سياق الكلام أو سياق المعنى دل عليها وجاء مثله في قول حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
راجع تفسير سورة إنا أنزلناه المارة واعلم انه إذا وصلت الروح «التَّراقِيَ ٢٦» العظام المكتنفة لثغرة النحر من اليمين والشمال جمع ترقوة قال دريد بن الصمة في هذا:
ورب عظيمة دافعت عنها... وقد بلغت نفوسهم التراقى
(وَقِيلَ)
أي قال من حضر المحتضر «مَنْ راقٍ ٢٧»
أي هل من يرقيه هل من يداويه هل من ينجيه ويخلصه مما هو فيه فيشفيه مما حل فيه كلا لا شيء من ذلك يحول دون موته (وَظَنَّ) ذلك المحتضر فتيقن وتحقق (أنّه) الحال الذي نزل به هو «الْفِراقُ ٢٨» من الدنيا وما فيها من مال وأهل وولد وزوجة وحبيب وان لا نجاة من قضاء الله وقدره ولم تغن عنه الرقيا ولا الأطباء شيئا وانه الموت نفسه قد حضر «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ ٢٩» التوت الساقان على بعضها عند هلع الموت وقلقه فمات ثم لفّ في أكفانه وحمل يتوارى في برزخه الأخير ورمسه المقدر له وإذ ذاك يقال (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ) يوم الفراق يوم موته «الْمَساقُ ٣٠» إلى غيره وهو يأمر بسوقها إلى الجنة أو إلى النار وفي اضافة السوق اليه تعالى بشارة لمن حسن ظنه بالله ومات على ذلك.
قالوا غدا نأت ديار الحمى... وينزل الركب بمغناهم
فقلت لي ذنب فما حيلتي... بأي وجه أتلقّاهم
قالوا أليس العفو من شأنهم... لا سيما عمّن ترجّاهم
وقال أبو بكر الصديق في مرضه:
غدا نلقى الأحبة... محمدا وحزبه
وجواب إذا محذوف تقديره وجد الإنسان نتيجة عمله ان خيرا فخير وان شرا فشر، وحذف الجواب في مثل هذا كثير في كلام العرب وهو من محسنات البيان ومقتضيات البديع وهو في المعنى كأنه موجود ولا يخفى على من له المام باللغة
قال تعالى (فَلا
ذلك الإنسان المذكور في صدر السورة. رسول الله الذي وعظه وبشّره وأنذره «وَلا صَلَّى ٣١» لربه وسبحه وعزره (وَلكِنْ كَذَّبَ بالله وبما أنزل على رسوله «وَتَوَلَّى ٣٢» عنه ولم يؤمن به «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ٣٣» يختال ويتبختر في مشيته لانّها مأخوذة من المط أي يتمطط لأن المتبختر يمد خطاه فقلبت الطاء ياء كراهية اجتماع الأمثال (أَوْلى لَكَ أيها الفاسق الفاجر «فَأَوْلى ٣٤» لك «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ٣٥» هذا جملة موضوعة للتهديد والوعيد وفي تكرارها ما يدل على شدة ما يراد به وقيل معناه أنك أجدر وأحق بالعذاب القاسي وأولى به من غيرك وهو وجيه، منطبق على المعنى المراد، وقيل في معناها: ويل لك ثم ويل لك دعاء عليه بالهلاك، وعلى كل فهو تهديد ووعيد اليه مكرر من الله المرة بعد المرة، أي أن ذلك الإنسان السيء أجدر بهذا العذاب وأحق به من غيره. قال قتادة: ذكر لنا رسول الله لما نزلت هذه الآية (في حق عدي بن ربيعة حليف بني زهرة ختن الأخنس بن شريق الثقفي الذي كان يقول فيهما حضرة الرسول: (اللهم اكفني جاري السوء بعينهما) أخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء، وقال له (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال أبو جهل- عليه اللعنة- أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ من مشى بين جبليها، فلما كان يوم بدر صرعه الله، فأذله وقتله شر قتلة.
وكان صلّى الله عليه وسلم يقول: لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل، وأنزل الله في حقه «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» الآية ٣٩ من سورة الدخان ج ٢ أي يقال له هذا عند إدخاله جهنم بمقابلة قوله ذلك قال تعالى «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» أل فيه للجنس فيشمل كافة أفراده إذ لم يرد به إنسان مخصوص بل مطلق إنسان «أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ٣٦» هملا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ولا يكلف ولا يحاسب ولا يعذّب، (وكلمة سدّى) لم تكرر في القرآن كلا لا يترك بل لا بد له من ذلك، ثم طفق جل شأنه يذكرهم مبدأ الخلقة، ومن أين هي، وما هي؟
وعوده إلى جيفة قذرة، يتذكر الإنسان بها حالة طيشه فقال عز قوله «أَلَمْ يَكُ