[ وهي مكية ]١ روى الثعلبي وغيره، من طريق سَلام بن سليم - ويقال : سليم - المدائني، وهو متروك، عن هارون بن كثير - وقد نصّ على جهالته أبو حاتم - عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها، أو علمها أهله، أو ما٢ ملكت يمينه، هَوَّن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما " ٣.
وهذا من هذا الوجه لا يصح، لضعف إسناده بالكلية. وقد ساقه له٤ الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم، عن هارون بن كثير، به - ومن طريق شَبَابة، عن مخلد بن عبد الواحد البصري٥ عن علي بن زيد بن جدعان - وعن عطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حُبَيش، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه٦ وهو منكر من سائر طرقه.
وروى البيهقي في " الدلائل " أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم. وهو من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
٢ - في ت :"وما"..
٣ - تفسير الثعلبي (٧/ل ٦١ "المحمودية") وأورده الزيلعي في تخريج الكشاف (٢/١٧٩) من رواية الثعلبي في تفسيره، ورواه الواحدي في الوسيط (٢/٥٩٩) من طريق إبراهيم بن شريف عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم به..
٤ - في جميع النسخ :"وقد ساقه" وهذا التعبير غير صحيح"..
٥ - جميع النسخ :"محمد بن عبد الواحد النضري"، وفي أ، ت :"مخلد بن عبد الواحد النضري" والصواب ما أثبتناه..
٦ - نقله الزيلعي في تخريج الكشاف (٢/١٨٠) عن المؤلف..
ﰡ
[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ] (١)
رَوَى الثَّعْلَبِيُّ وَغَيْرُهُ، مِنْ طَرِيقِ سَلام بْنِ سُلَيْمٍ -وَيُقَالُ: سَلِيمٍ -الْمَدَائِنِيِّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ -وَقَدْ نَصَّ عَلَى جَهَالَتِهِ أَبُو حَاتِمٍ -عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: " عَلِّمُوا أَرِقَّاءَكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ أَيُّمَا مُسْلِمٍ تَلَاهَا، أَوْ عَلَّمَهَا أَهْلَهُ، أَوْ مَا (٢) مَلَكَتْ يَمِينُهُ، هَوَّن اللَّهُ عَلَيْهِ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، وَأَعْطَاهُ مِنَ الْقُوَّةِ أَلَّا يَحْسِدَ مُسْلِمًا " (٣).
وَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ، لِضَعْفِ إِسْنَادِهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ سَاقَهُ لَهُ (٤) الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ مُتَابِعًا مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ كَثِيرٍ، بِهِ -وَمِنْ طَرِيقِ شَبَابة، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْبَصَرِيِّ (٥) عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ -وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيش، عَنْ أُبي بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فَذَكَرَ نَحْوَهَ (٦) وَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ سَائِرِ طُرُقِهِ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " الدَّلَائِلِ " أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْيَهُودِ حِينَ سَمِعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو هَذِهِ السُّورَةَ أَسْلَمُوا لِمُوَافَقَتِهَا مَا عِنْدَهُمْ. وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) ﴾أَمَّا الْكَلَامُ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ".
وَقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، ﴿الْمُبِينِ﴾ أَيِ: الْوَاضِحُ الْجَلِيُّ، الَّذِي يُفْصِحُ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمُبْهَمَةِ وَيُفَسِّرُهَا وَيُبَيِّنُهَا (٧).
﴿إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ وَذَلِكَ لِأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ وَأَبْيَنُهَا وَأَوْسَعُهَا، وَأَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي الَّتِي تَقُومُ بِالنُّفُوسِ؛ فَلِهَذَا أنزلَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ، عَلَى أَشْرَفِ الرُّسُلِ، بِسِفَارَةِ (٨) أَشْرَفِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَفِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، وَابْتَدَئَ إِنْزَالُهُ فِي أَشْرَفِ
(٢) في ت: "وما".
(٣) تفسير الثعلبي (٧/ل ٦١ "المحمودية") وأورده الزيلعي في تخريج الكشاف (٢/١٧٩) من رواية الثعلبي في تفسيره، ورواه الواحدي في الوسيط (٢/٥٩٩) من طريق إبراهيم بن شريف عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم به.
(٤) في جميع النسخ: "وقد ساقه" وهذا التعبير غير صحيح".
(٥) جميع النسخ: "محمد بن عبد الواحد النضري"، وفي أ، ت: "مخلد بن عبد الواحد النضري" والصواب ما أثبتناه.
(٦) نقله الزيلعي في تخريج الكشاف (٢/١٨٠) عن المؤلف.
(٧) في ت: "وتفسيرها وتبينها".
(٨) في ت: "كسفارة".
وَقَدْ وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأوْدِيّ (١). حَدَّثَنَا حَكَّامٌ الرَّازِّيُّ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عَمْرٍو -هُوَ ابْنُ قَيْسٍ الْمُلَائِيُّ -عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا؟ فَنَزَلَتْ: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (٢).
وَرَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ مُرْسَلًا.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ (٣) الْعَطَّارُ (٤)، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، أَنْبَأَنَا خَلاد الصَّفَّارُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة (٥)، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سعد عن عَنْ سَعْدٍ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، قَالَ: فَتَلَا عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ قصصتَ عَلَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (٦). ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ زَمَانًا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ حَدَّثْتَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ الْآيَةَ [الزُّمَرِ: ٢٣]، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَويه، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ القرَشي العَنْقزي، بِهِ (٧).
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ (٨)، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ عَوْن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَلّ أصحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم مَلّةَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدثنا. [فأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ ثُمَّ مَلّوا مَلَّةً أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنَا] (٩) فَوْقَ الْحَدِيثِ وَدُونَ الْقُرْآنِ -يَعْنُوِنُ الْقَصَصَ -فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ فَأَرَادُوا الْحَدِيثَ، فدلَّهم عَلَى أَحْسَنِ الْحَدِيثِ، وَأَرَادُوا الْقَصَصَ فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحْسَنِ الْقَصَصِ (١٠).
وَمِمَّا يُنَاسِبُ ذِكْرَهُ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَدْحِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ كَافٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُبِ مَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا سُرَيْج بْنُ النُّعْمَانِ، أَخْبَرَنَا هُشَيْم، أَنْبَأَنَا مَجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أن
(٢) تفسير الطبري (١٥/٥٥٢).
(٣) في أ: "سعد".
(٤) في ت، أ: "القطان".
(٥) في ت، أ: "قرة".
(٦) في ت: " (لعلكم تعقلون) الآية".
(٧) تفسير الطبري (١٥/٥٥٣) والمستدرك (٢/٣٤٥) وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية برقم (٣٦٥٢).
(٨) في ت: "بسند".
(٩) زيادة من ت، أ، والطبري.
(١٠) تفسير الطبري (١٥/٥٥٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ: فَقُلْتُ لَهُ: أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ (٣) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رِبَّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا. قَالَ: فسُرِّي عَنِ النَّبِيِّ (٤) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ، إِنَّكُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ" (٥).
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عُرْفَطة قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ، إِذْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَنْ عَبَدَ الْقَيْسِ مَسْكَنُهُ بِالسُّوسِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَبْدِيُّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَأَنْتَ النَّازِلُ بِالسُّوسِ، قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَهُ بِقَنَاةٍ مَعَهُ، قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: اجْلِسْ. فَجَلَسَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ: ﴿بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ﴾ (٦) إِلَى قَوْلِهِ: ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ فَقَرَأَهَا (٧) ثَلَاثًا، وَضَرَبَهُ ثَلَاثًا، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: مَا لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي نَسَخْتَ كِتَابَ دَانْيَالَ! قَالَ: مُرْنِي بِأَمْرِكَ أَتَّبِعْهُ. قَالَ: انْطَلَقَ فَامْحُهُ بِالْحَمِيمِ وَالصُّوفِ الْأَبْيَضِ، ثُمَّ لَا تقْرأه (٨) وَلَا تُقرئه أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، فَلَئِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ قَرَأْتَهُ أَوْ أَقَرَأْتَهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ لَأَنْهَكَنَّكَ عُقُوبَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اجْلِسْ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا فَانْتَسَخْتُ كِتَابًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فِي أَدِيمٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا هَذَا فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ؟ ". قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كِتَابٌ نَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ (٩) بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ، ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةً، فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: أَغَضِبَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ السِّلَاحَ السِّلَاحَ. فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِيمَهُ، واختُصِر لِيَ اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بها
(٢) المسند (٣/٣٧٨).
(٣) في ت: "ما توجه".
(٤) في أ: "رسول الله".
(٥) المسند (٣/٣٦٥).
(٦) زيادة من ت.
(٧) في ت، أ: "فقرأها عليه".
(٨) في ت: "لا يقرأه".
(٩) في ت: "ليزداد".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُخْتَصَرًا، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، بِهِ. وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ هُوَ أَبُو شَيبَة (٢) الْوَاسِطِيُّ، وَقَدْ ضَعَّفُوهُ وَشَيْخَهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا يَصِحُّ حَدِيثُهُ.
قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ لَهُ شَاهِدٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْأَشْعَرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: أَنَّ جُبَير بْنَ نُفَير حَدّثهم: أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا بِحِمْصَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فِيمَنْ أَرْسَلَ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ، وَكَانَا قَدِ اكْتَتَبَا مِنَ الْيَهُودِ صلاصفة (٣) فَأَخَذَاهَا مَعَهُمَا يَسْتَفْتِيَانِ فِيهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَقُولُونَ: إِنْ رَضِيَهَا لَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ازْدَدْنَا فِيهَا رَغْبَةً. وَإِنْ نَهَانَا عَنْهَا رَفَضْنَاهَا، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَيْهِ قَالَا إِنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، وَإِنَّا نَسْمَعُ مِنْهُمْ كَلَامًا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُنَا، أَفَنَأْخَذُ مِنْهُ أَوْ نَتْرُكُ؟ فَقَالَ: لَعَلَّكُمَا كَتَبْتُمَا مِنْهُ شَيْئًا. قَالَا (٤) لَا. قَالَ: سَأُحَدِّثُكُمَا، انْطَلَقْتُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ (٥) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ خَيْبَرَ، فَوَجَدْتُ يَهُودِيًّا يَقُولُ قَوْلًا أَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ مُكْتِبِي مَا تَقُولُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَيْتُ بِأَدِيمٍ، فَأَخَذَ يُمْلِي عَلَيَّ، حَتَّى كَتَبْتُ فِي الأكرُع. فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: "ائْتِنِي بِهِ". فَانْطَلَقْتُ أَرْغَبُ عَنِ الْمَشْيِ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ أَتَيْتُ (٦) رَسُولَ اللَّهِ بِبَعْضِ مَا يُحِبُّ، فَلَمَّا أَتَيْتُ بِهِ قَالَ: "اجْلِسِ اقْرَأْ عَلَيَّ". فَقَرَأْتُ سَاعَةً، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ فَإِذَا هُوَ يَتَلَوَّنُ، فَتَحَيَّرْتُ مِنَ الفَرق، فَمَا اسْتَطَعْتُ أُجِيزُ (٧) مِنْهُ حَرْفًا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِي دَفَعه (٨) ثُمَّ جَعَلَ يُتْبِعُهُ رَسْمًا رَسْمًا فَيَمْحُوهُ بِرِيقِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: "لَا تَتَبِعُوا هَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ هَوكوا وتَهَوَّكوا"، حَتَّى مَحَا آخِرَهُ حَرْفًا حَرْفًا. قَالَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَوْ عَلِمْتُ أَنَّكُمَا كَتَبْتُمَا مِنْهُ شَيْئًا جَعَلْتُكُمَا نَكَالًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ! قَالَا وَاللَّهِ مَا نَكْتُبُ مِنْهُ شَيْئًا أَبَدًا. فَخَرَجَا بِصلَاصفَتِهِمَا (٩) فَحَفَرَا لَهَا (١٠) فَلَمْ يألُوا أَنْ يعمِّقَا، ودفناها
(٢) في ت: "ابن شيبة".
(٣) في هـ: "ملاصق" بدون نقط، والمثبت من ت، أ.
(٤) في ت، أ: "فقالا".
(٥) في ت: "النبي".
(٦) في ت: "جئت".
(٧) في ت: "أحبر".
(٨) في ت: "دفعته".
(٩) في هـ، ت: "بصفيهما" والمثبت من أ.
(١٠) في ت: "فحفراها".
وَكَذَا رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الجُعْفي، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، بِنَحْوِهِ (٢) وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلابة، عَنْ عُمَرَ نَحْوَهُ (٣). وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: اذْكُرْ لِقَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي قَصَصك عَلَيْهِمْ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ، وَأَبُوهُ هُوَ: يَعْقُوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْكَرِيمُ، ابْنُ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ".
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ، فَرَوَاهُ (٤) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بِهِ (٥) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ، عَنْ سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سُئِل رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: "أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ". قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ " قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارِكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهوا". ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ (٦).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحَيٌّ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى تَعْبِيرِ هَذَا الْمَنَامِ: أَنَّ الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا عِبَارَةٌ عَنْ إِخْوَتِهِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا [سِوَاهُ] (٧) وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عِبَارَةٌ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ. رُوي هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، والضحاك،
(٢) سبق تخريجه في المسند.
(٣) المراسيل برقم (٤٥٥).
(٤) في أ: "ورواه".
(٥) المسند (٢/٩٦) وصحيح البخاري برقم (٤٦٨٨).
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٦٨٩).
(٧) زيادة من ت.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا -فَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، [عَنْ جَابِرٍ] (١) قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مَنْ يَهُودَ يُقَالُ لَهُ: "بُسْتَانَةُ الْيَهُودِيُّ"، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ أَنَّهَا سَاجِدَةٌ لَهُ، مَا أَسْمَاؤُهَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ، وَنَزَلَ [عَلَيْهِ] (٢) جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَسْمَائِهَا. قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمَائِهَا؟ " فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "خَرْتَانِ (٣) والطارِقُ، والذَّيَّال (٤) وَذُو الكَنَفَات، وَقَابِسٌ، ووَثَّاب، وعَمُودَان، والْفَيلَقُ، والمُصَبِّحُ، والضَّرُوحُ، وَذُو الْفَرْغِ، والضِّيَاُء، والنُّور"، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إيْ وَاللَّهِ، إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا (٥).
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "الدَّلَائِلِ"، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ (٦) بْنِ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْحَافِظَانِ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مَسْنَدَيْهِمَا، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ (٧) أَمَّا أَبُو يَعْلَى فَرَوَاهُ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ شُيُوخِهِ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ ظُهَيْرٍ، بِهِ وَزَادَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَمَّا رَآهَا يُوسُفُ قَصّها عَلَى أَبِيهِ يَعْقُوبَ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: هَذَا أَمْرٌ مُتَشَتَّتٌ يَجْمَعُهُ اللَّهُ مِنْ بَعْدُ؛ قَالَ: وَالشَّمْسُ أَبُوهُ، وَالْقَمَرُ أُمُّهُ".
تَفَرَّدَ بِهِ الْحَكَمُ بْنُ ظُهَيْرٍ الْفَزَارِيُّ (٨) وَقَدْ ضَعَّفه الْأَئِمَّةُ، وَتَرَكَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَقَالَ الْجَوْزَجَانِيٌ: ساقط، وهو صاحب حديث حُسْن يوسف.
(٢) زيادة من ت، أ: ، والطبري.
(٣) في هـ: "حرثان" وفي ت، أ: "جريان" والمثبت من ميزان الاعتدال ١/٥٧٢. مستفاد من ط. الشعب.
(٤) في ت: "والدثال".
(٥) تفسير الطبري (١٥/٥٥٥).
(٦) في ت: "سعد".
(٧) دلائل النبوة للبيهقي (٦/٢٧٧) ومسند البزار برقم (٢٢٢٠) "كشف الأستار". وقد وقع اختلاف في أسماء الكواكب في هذه المصادر وليست بالمهمة، والحديث حكم عليه ابن الجوزي بالوضع.
(٨) لم يتفرد به بل توبع، فرواه الحاكم في المستدرك (٤/٣٩٦) من طريق طلحة عن أسباط بن نصر، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرِ به نحوه، وَقَالَ: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ولم يخرجاه" قال الزيلعي: "وسند الحاكم وارد على البزار في قوله: لا نعلم له طريقا غيره، وعلى البيهقي في قوله: تفرد به الحكم بن ظهير ولهما عذرهما" تخريج الكشاف (٢/١٦١).
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِوَلَدِهِ يُوسُفَ: إِنَّهُ كَمَا اخْتَارَكَ (٦) رَبُّكَ، وَأَرَاكَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ سَاجِدَةً لَكَ، ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ أَيْ: يَخْتَارُكَ وَيَصْطَفِيكَ لِنُبُوَّتِهِ، ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا.
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أَيْ: بِإِرْسَالِكَ وَالْإِيحَاءِ إِلَيْكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ﴾ وَهُوَ الْخَلِيلُ، ﴿وَإِسْحَاقَ﴾ وَلَدِهِ، وَهُوَ الذَّبِيحُ فِي قَوْلٍ، وَلَيْسَ بِالرَّجِيحِ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ: [هُوَ] (٧) أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى.
(٢) في ت: "فيحسدونه".
(٣) جاء من حديث جابر، وأم سلمة، وأبي قتادة: أما حديث جابر، فرواه مسلم في صحيحه برقم (٢٢٦٢)، وأما حديث أم سلمة، فرواه النسائي في السنن الكبرى برقم (١٠٧٤١)، وأما حديث أبي قتادة، فرواه أحمد في المسند (٥/٢٩٦) وهذا لفظه.
(٤) لم أعثر عليه من حديث معاوية، وإنما من حديث لقيط بن عامر رضي الله عنه، رواه أحمد في المسند (٤/١٠) وأبو داود في السنن برقم (٥٠٢٠) والترمذي في السنن برقم (٢٢٧٨) وابن ماجه في السنن برقم (٣٩١٤).
(٥) رواه العقيلي في الضعفاء (٢/١٠٩) وابن عدي في الكامل (٣/٤٠٤) وأبو نعيم في الحلية (٦/٩٦) من طريق سعيد بن سالم العطار عن ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن معاذ به مرفوعا، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (٢/١٦٥) وقال أبو حاتم في العلل (٢/٢٥٨) :"حديث منكر". وآفته سعيد بن سلام العطار فهو كذاب.
(٦) في ت: "اختار".
(٧) زيادة من ت.
يَقُولُ تَعَالَى: لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَخَبَرِهِ مَعَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ، أَيْ عبرةٌ ومواعظُ لِلسَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ، الْمُسْتَخْبِرِينَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ عَجِيبٌ، يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسْتَخْبَرَ عَنْهُ، ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ أَيْ: حَلَفُوا فِيمَا يَظُنُّونَ: وَاللَّهِ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ -يَعْنُونُ بِنْيَامِينَ، وَكَانَ شَقِيقَهُ لِأُمِّهِ - ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أَيْ: جَمَاعَةٌ، فَكَيْفَ أَحَبَّ ذَيْنِكَ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمَاعَةِ؛ ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ يَعْنُونَ فِي تَقْدِيمِهِمَا عَلَيْنَا، وَمَحَبَّتِهِ إِيَّاهُمَا أَكْثَرَ مِنَّا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى نُبُوَّةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَظَاهِرُ هَذَا السِّيَاقِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ. وَيَحْتَاجُ مُدّعي ذَلِكَ إِلَى دَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرُوا سوَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٣٦]، وَهَذَا فِيهِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّ بُطُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُمُ: الْأَسْبَاطُ، كَمَا يُقَالُ لِلْعَرَبِ: قَبَائِلُ، وَلِلْعَجَمِ: شُعُوبٌ؛ يَذْكُرُ تَعَالَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَذَكَرَهُمْ إِجْمَالًا لِأَنَّهُمْ كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ كُلَّ سِبْطٍ مِنْ نَسْلِ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَعْيَانِ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ يَقُولُونَ: هَذَا الَّذِي يُزَاحِمُكُمْ فِي مَحَبَّةِ أَبِيكُمْ لَكُمْ، أَعْدِمُوهُ مِنْ وَجْهِ أَبِيكُمْ، لِيَخْلُوَ لَكُمْ وَحْدَكُمْ، إِمَّا بِأَنْ تَقْتُلُوهُ، أَوْ تُلْقُوهُ فِي أَرْضٍ مِنَ الْأَرَاضِي -تَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، وَتَخْتَلُوا أَنْتُمْ بِأَبِيكُمْ، وَتَكُونُوا مِنْ (١) بَعْدِ إِعْدَامِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ. فَأَضْمَرُوا التَّوْبَةَ قَبْلَ الذَّنْبِ.
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ قَالَ قَتَادَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ أَكْبَرَهُمْ وَاسْمُهُ رُوبِيلُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي قَالَ ذَلِكَ يَهُوذَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ ﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ أَيْ: لَا تَصِلوا (٢) فِي عَدَاوَتِهِ وَبُغْضِهِ إِلَى قَتْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ (٣) سبيلٌ إِلَى قَتْلِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يُرِيدُ مِنْهُ أَمْرًا لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهِ وَإِتْمَامِهِ، مِنَ الْإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، وَمِنَ التَّمْكِينِ لَهُ بِبِلَادِ مِصْرَ وَالْحُكْمِ بِهَا، فَصَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنْهُ بِمَقَالَةِ رُوبِيلَ فِيهِ وَإِشَارَتِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَهُوَ أَسْفَلَهُ.
قَالَ قَتَادَةُ: وَهِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ أَيْ: الْمَارَّةُ مِنَ الْمُسَافِرِينَ، فَتَسْتَرِيحُوا بِهَذَا، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَتْلِهِ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ عَازِمِينَ عَلَى مَا تَقُولُونَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: لَقَدِ اجْتَمَعُوا عَلَى أمر عظيم، من قطيعة الرحم، وعقوق
(٢) في أ: "لا تغلوا".
(٣) في ت: "له".
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك، وفي هذا نظر. ويحتاج مُدّعي ذلك إلى دليل، ولم يذكروا سوَى قوله تعالى :﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ]، وهذا فيه احتمال ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم : الأسباط، كما يقال للعرب : قبائل، وللعجم : شعوب ؛ يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون، ولكن كل سبط من نسل رجل من إخوة يوسف، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم، والله أعلم.
قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس.
﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ﴾ أي : المارة من المسافرين، فتستريحوا بهذا، ولا حاجة إلى قتله.
﴿ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ أي : إن كنتم عازمين على ما تقولون.
قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم، من قطيعة الرحم، وعقوق الوالد، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة والفضل، وخطره عند الله، مع حق الوالد على ولده، ليفرقوا بينه وبين ابنه٣ وحبيبه، على كبر سنه، ورِقَّة عظمه، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا، وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين، فقد احتملوا أمرا عظيما.
رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل، عنه.
٢ - في ت :"له"..
٣ - في ت :"أبيه"..
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْهُ.
﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢) ﴾
لَمَّا تُوَاطَئُوا عَلَى أَخْذِهِ وطَرْحه فِي الْبِئْرِ، كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِمْ أَخُوهُمُ الْكَبِيرُ رُوبيل، جَاءُوا أَبَاهُمْ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالُوا: ﴿يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ وَهَذِهِ تَوْطِئَةٌ وَسَلَفٌ وَدَعْوَى، وَهُمْ يُرِيدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ لِمَا لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْحَسَدِ لِحُبِّ أَبِيهِ لَهُ، ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا﴾ أَيِ: ابْعَثْهُ مَعَنَا، ﴿غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ ﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَسْعَى وَيَنْشَطُ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ والُّسدِّي، وَغَيْرُهُمْ.
﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَحْفَظُهُ وَنَحُوطُهُ مِنْ أَجْلِكَ.
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ نَبِيِّهِ (٢) يَعْقُوبَ أَنَّهُ قَالَ لِبَنِيهِ فِي جَوَابِ مَا سَأَلُوا مِنْ إِرْسَالِ يُوسُفَ مَعَهُمْ إِلَى الرَّعْيِ فِي الصَّحْرَاءِ: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ أَيْ: يَشُقُّ عَلَيَّ مفارقتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِكُمْ بِهِ إِلَى أَنْ يَرْجِعَ، وَذَلِكَ لفَرْط مَحَبَّتِهِ لَهُ، لِمَا يَتَوَسَّمُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ، وَشَمَائِلِ النُّبُوَّةِ وَالْكَمَالِ فِي الخُلُق وَالْخَلْقِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ يَقُولُ: وَأَخْشَى أَنْ تَشْتَغِلُوا عَنْهُ بِرَمْيِكُمْ ورَعْيتكم (٣) فَيَأْتِيهِ ذِئْبٌ فَيَأْكُلُهُ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، فَأَخَذُوا مِنْ فَمِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ، وَجَعَلُوهَا عُذْرَهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَقَالُوا مُجِيبِينَ عَنْهَا فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ: ﴿لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ يَقُولُونَ: لَئِنْ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَكَلَهُ مِنْ بَيْنِنَا، وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ، إِنَّا إذًا لهالكون عاجزون.
(٢) في ت، أ: "عن نبي الله".
(٣) في ت: "ورعيكم".
قال ابن عباس : يسعى وينشط. وكذا قال قتادة، والضحاك والُّسدِّي، وغيرهم.
﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
وقوله :﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم٢ فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة :﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، ونحن جماعة، إنا إذًا لهالكون عاجزون.
٢ - في ت :"ورعيكم"..
وقوله :﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم٢ فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون، فأخذوا من فمه هذه الكلمة، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه، وقالوا مجيبين عنها في الساعة الراهنة :﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ﴾ يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، ونحن جماعة، إنا إذًا لهالكون عاجزون.
٢ - في ت :"ورعيكم"..
وَقَالَ (٣) السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِكْرَامِهِمْ لَهُ وَبَيْنَ إِظْهَارِ الْأَذَى لَهُ، إِلَّا أَنْ غَابُوا عَنْ عَيْنِ أَبِيهِ وَتَوَارَوْا عَنْهُ، ثُمَّ شَرَعُوا يُؤْذُونَهُ بِالْقَوْلِ، مِنْ شَتْمٍ وَنَحْوِهُ، وَالْفِعْلِ مِنْ ضَرْب وَنَحْوِهُ، ثُمَّ جَاءُوا بِهِ إِلَى ذَلِكَ الْجُبِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى رَمْيِهِ فِيهِ فَرَبَطُوهُ بِحَبْلٍ وَدَلُّوهُ فِيهِ، فَجَعَلَ إِذَا لَجَأَ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَطَمَهُ وشَتمه، وَإِذَا تَشَبَّثَ بِحَافَاتِ الْبِئْرِ ضَرَبُوا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ قَطَعُوا بِهِ الْحَبْلَ مِنْ نِصْفِ الْمَسَافَةِ، فَسَقَطَ فِي الْمَاءِ فَغَمَرَهُ، فَصَعِدَ إِلَى صَخْرَةٍ تَكُونُ فِي وَسَطِهِ، يُقَالُ لَهَا: "الرَّاغُوفَةُ" (٤) فَقَامَ فَوْقَهَا.
قال الله تعال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى ذَاكِرًا لُطْفَهُ وَرَحْمَتَهُ وَعَائِدَتَهُ (٥) وَإِنْزَالَهُ الْيُسْرَ فِي حَالِ الْعُسْرِ: إِنَّهُ أَوْحَى إِلَى يُوسُفَ فِي ذَلِكَ الْحَالِ الضَّيِّقِ، تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ، وَتَثْبِيتًا لَهُ: إِنَّكَ لَا تَحْزَنْ مِمَّا (٦) أَنْتَ فِيهِ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ ذَلِكَ فَرَجًا وَمُخْرَجًا حَسَنًا، وَسَيَنْصُرُكَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيُعْلِيكَ وَيَرْفَعُ دَرَجَتَكَ، وَسَتُخْبِرُهُمْ (٧) بِمَا فَعَلُوا مَعَكَ مِنْ هَذَا الصَّنِيعِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ -قَالَ [مُجَاهِدٌ و] (٨) قَتَادَةُ: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بِإِيحَاءِ اللَّهِ إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَتُنْبِئُهُمْ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا فِي حَقِّكَ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَكَ، وَلَا يَسْتَشْعِرُونَ بِكَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ عُبادة الْأَسَدِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا دَخَلَ إِخْوَةُ يُوسُفَ عَلَى يُوسُفَ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، قَالَ: جِيءَ بِالصُّوَاعِ، فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَيُخْبِرُنِي هَذَا الْجَامُ: أَنَّهُ كَانَ لَكُمْ أَخٌ مِنْ أَبِيكُمْ يُقَالُ لَهُ "يُوسُفُ"، يُدْنِيهِ دُونَكُمْ، وَأَنَّكُمُ انْطَلَقْتُمْ بِهِ فَأَلْقَيْتُمُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ -قَالَ: ثُمَّ نَقَرَهُ فَطَنَّ -فَأَتَيْتُمْ أَبَاكُمْ فَقُلْتُمْ: إِنَّ الذِّئْبَ أَكَلَهُ، وَجِئْتُمْ عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذب -قَالَ: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا الْجَامَ لَيُخْبِرُهُ بِخَبَرِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا نَرَى (٩) هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ إِلَّا فِيهِمْ: ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (١٠).
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨) ﴾
(٢) في ت، أ: "يوسف".
(٣) في ت: "فذكر".
(٤) في أ: "الراغوف".
(٥) في ت: "وعائد به".
(٦) في ت، أ: "فيما".
(٧) في ت، أ: "وسيجزيهم".
(٨) زيادة من ت.
(٩) في ت: "فلا يرى"، وفي أ: "فلا نرى".
(١٠) تفسير الطبري (١٥/٥٧٦).
وَقَوْلُهُمْ: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ تلّطفٌ عَظِيمٌ فِي تَقْرِيرِ مَا يُحَاوِلُونَهُ، يَقُولُونَ: وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا -وَالْحَالَةُ هَذِهِ -لَوْ كُنَّا عِنْدَكَ صَادِقِينَ، فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَتَّهِمُنَا فِي ذَلِكَ، لِأَنَّكَ خَشِيتَ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ، فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي تَكْذِيبِكَ لَنَا؛ لِغَرَابَةِ مَا وَقَعَ، وَعَجِيبِ مَا اتَّفَقَ لَنَا فِي أَمْرِنَا هَذَا.
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أَيْ: مَكْذُوبٍ مُفْتَرَى. وَهَذَا مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يُؤَكِّدُونَ بِهَا مَا تَمَالَئُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمَكِيدَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى سَخْلة -فِيمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ -فَذَبَحُوهَا، وَلَطَّخُوا ثَوْبَ يُوسُفَ بِدَمِهَا، مُوهِمِينَ أَنَّ هَذَا قَمِيصُهُ الَّذِي أَكَلَهُ فِيهِ الذِّئْبُ، وَقَدْ أَصَابَهُ مِنْ دَمِهِ، وَلَكِنَّهُمْ نَسُوا أَنَّ يَخْرِقُوهُ، فَلِهَذَا لَمْ يَرُج هَذَا الصَّنِيعُ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، بَلْ قَالَ لَهُمْ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِمْ إِلَى مَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ تَمَالُئِهمْ عَلَيْهِ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أَيْ: فَسَأَصْبِرُ صَبْرًا جَمِيلًا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي قَدِ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهِ، حَتَّى يُفَرِّجَهُ اللَّهُ بِعَوْنِهِ وَلُطْفِهِ، ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ أَيْ: عَلَى مَا تَذْكُرُونَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْمُحَالِ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِمَاك، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قَالَ: لَوْ أَكَلَهُ السَّبْعُ لَخَرَقَ الْقَمِيصَ. وَكَذَا قَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ الْجَمِيلُ: الَّذِي لَا جَزَعَ فِيهِ.
وَرَوَى هُشَيْم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ حبَّان بْنِ أَبِي جَبَلة قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ فَقَالَ: "صَبْرٌ لَا شَكْوَى (٣) فِيهِ" وَهَذَا مُرْسَلٌ (٤).
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ مِنَ الصَّبْرِ: أَلَّا تُحَدِّثَ بِوَجَعِكَ، وَلَا بِمُصِيبَتِكَ، وَلَا تُزَكِّيَ نَفْسَكَ (٥).
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فِي الْإِفْكِ حَتَّى ذَكَرَ قَوْلَهَا: وَاللَّهِ لَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ (٦)، ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (٧).
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "لا قوى".
(٤) تفسير الطبري (١٥/٥٨٥).
(٥) تفسير عبد الرزاق (١/٢٧٧).
(٦) في ت: "إلا يعقوب" وفي أ: "إلا أبا يوسف إذ قال".
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٠).
وقولهم :﴿ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ تلطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا - والحالة هذه - لو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك، لأنك خشيت أن يأكله الذئب، فأكله الذئب، فأنت معذور في تكذيبك لنا ؛ لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا.
٢ - زيادة من أ..
وقال الثوري، عن سِمَاك، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس :﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ قال : لو أكله السبع لخرق القميص. وكذا قال الشعبي، والحسن، وقتادة، وغير واحد.
وقال مجاهد : الصبر الجميل : الذي لا جزع فيه.
وروى هُشَيْم، عن عبد الرحمن بن يحيى، عن حبَّان بن أبي جَبَلة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ فقال :" صبر لا شكوى١ فيه " وهذا مرسل٢.
وقال عبد الرزاق : قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : ألا تحدث بوجعك، ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك٣.
وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة، رضي الله عنها، في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف٤ ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ ٥.
٢ - تفسير الطبري (١٥/٥٨٥)..
٣ - تفسير عبد الرزاق (١/٢٧٧)..
٤ - في ت :"إلا يعقوب" وفي أ :"إلا أبا يوسف إذ قال"..
٥ - صحيح البخاري برقم (٤٦٩٠)..
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا جَرَى لِيُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ أَلْقَاهُ إِخْوَتُهُ، وَتَرَكُوهُ فِي ذَلِكَ الْجُبِّ فَرِيدًا وَحِيدًا، فَمَكَثَ فِي الْبِئْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فِيمَا قَالَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ (١)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَلْقَاهُ إِخْوَتُهُ جَلَسُوا حَوْلَ الْبِئْرِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، يَنْظُرُونَ مَا يَصْنَعُ وَمَا يُصنع بِهِ، فَسَاقَ اللَّهُ لَهُ سَيَّارة، فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنْ تِلْكَ (٢) الْبِئْرِ، وَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ -وَهُوَ الَّذِي يَتَطَلَّبُ لَهُمُ الْمَاءَ -فَلَمَّا جَاءَ تِلْكَ (٣) الْبِئْرَ، وَأَدْلَى دَلْوَهُ فِيهَا، تَشَبَّثَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِيهَا، فَأَخْرَجَهُ وَاسْتَبْشَرَ بِهِ، وَقَالَ: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ﴾
وَقَرَأَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ: "يَا بُشْرَى"، زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ نَادَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي أَدْلَى دَلْوَهُ، مُعْلِمًا لَهُ أَنَّهُ أَصَابَ غُلَامًا. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ السُّدِّيِّ غَرِيبٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسبَق إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِهَذَا إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِنَّمَا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ يَرْجِعُ إِلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَيَكُونُ قَدْ أَضَافَ الْبُشْرَى إِلَى نَفْسِهِ، وَحَذَفَ يَاءَ الْإِضَافَةِ وَهُوَ يُرِيدُهَا، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: "يَا نفسُ اصْبِرِي"، وَ"يَا غُلَامُ أَقْبِلْ"، بِحَذْفِ حَرْفِ الْإِضَافَةِ، وَيَجُوزُ الْكَسْرُ حِينَئِذٍ وَالرَّفْعُ، وَهَذَا مِنْهُ، وتفسرها القراءة الأخرى ﴿يَا بُشْرَى"﴾ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ أَيْ: وَأَسَرَّهُ الْوَارِدُونَ مِنْ بَقِيَّةِ السَّيَّارَةِ وَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ وَتَبَضَّعْنَاهُ مِنْ أَصْحَابِ الْمَاءِ مَخَافَةَ أَنْ يُشَارِكُوهُمْ فِيهِ إِذَا عَلِمُوا خَبَرَهُ. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ. هَذَا قَوْلٌ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ يَعْنِي: إِخْوَةَ يُوسُفَ، أَسَرُّوا شَأْنَهُ، وَكَتَمُوا أَنْ يَكُونَ أَخَاهُمْ وَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، وَاخْتَارَ الْبَيْعَ. فَذَكَرَهُ إِخْوَتُهُ لِوَارِدِ الْقَوْمِ، فَنَادَى أَصْحَابَهُ: ﴿يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ﴾ يُبَاعُ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ وَمُشْتَرُوهُ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ ذَلِكَ وَدَفْعِهِ، وَلَكِنْ لَهُ حِكْمَةٌ وقَدرَ سَابِقٌ، فَتَرَكَ ذَلِكَ لِيُمْضَى مَا قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٤)، وَإِعْلَامُهُ لَهُ بِأَنَّنِي عَالِمٌ بِأَذَى قَوْمِكَ، وَأَنَا قَادِرٌ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي سَأُمْلِي لَهُمْ، ثُمَّ أَجْعَلُ لَكَ الْعَاقِبَةَ وَالْحُكْمَ عَلَيْهِمْ، كَمَا جَعَلْتُ لِيُوسُفَ الْحُكْمَ والعاقبة على إخوته.
(٢) في ت: "ذلك".
(٣) في ت: "ذلك".
(٤) في ت: "صلوات الله عليه" وفي أ: "صلوات الله عليه وسلامه".
والبخس : هو النقص، كما١ قال تعالى :﴿ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا ﴾ [ الجن : ١٣ ] أي : اعتاض عنه إخوته بثمن دُونٍ قليل، وكانوا مع ذلك فيه من الزاهدين، أي : ليس لهم رغبة فيه، بل لو سألوه٢ بلا شيء لأجابوا.
قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك : إن الضمير في قوله :﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ عائد على إخوة يوسف.
وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة.
والأول أقوى ؛ لأن قوله :﴿ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ إنما أراد إخوته، لا أولئك السيارة ؛ لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه، فيرجح من هذا أن الضمير في ﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ إنما هو لإخوته.
وقيل : المراد بقوله :﴿ بَخْسٍ ﴾ الحرام. وقيل : الظلم. وهذا وإن كان كذلك، لكن ليس هو المراد هنا ؛ لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال، وعلى كل أحد، لأنه نبي ابن نبي، ابن نبي، ابن خليل الرحمن، فهو الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما، أي : إنهم إخوته، وقد باعوه ومع هذا بأنقص الأثمان ؛ ولهذا قال :﴿ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ﴾ فعن ابن مسعود باعوه بعشرين درهما، وكذا قال ابن عباس، ونَوْف البَكَالي، والسُّدِّي، وقتادة، وعطية العَوْفي وزاد : اقتسموها درهمين درهمين.
وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما.
وقال محمد بن إسحاق وعِكْرِمة : أربعون درهمًا.
وقال الضحاك في قوله :﴿ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ وذلك أنهم لم يعلموا نبوته
ومنزلته عند الله عز وجل.
وقال مجاهد : لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر، فقال : من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك، وكان مسلمًا.
٢ - في أ :"لو سئلوا"..
وَالْبَخْسُ: هُوَ النَّقْصُ، كَمَا (١) قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا﴾ [الْجِنِّ: ١٣] أَيْ: اعْتَاضَ عَنْهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ دُونٍ قَلِيلٍ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، أَيْ: لَيْسَ لهم رغبة فيه، بل لو سألوه (٢) بِلَا شَيْءٍ لَأَجَابُوا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَرَوْهُ﴾ عَائِدٌ عَلَى إِخْوَةِ يُوسُفَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى السَّيَّارَةِ.
وَالْأَوَّلُ أَقْوَى؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ إِنَّمَا أَرَادَ إِخْوَتَهُ، لَا أُولَئِكَ السَّيَّارَةَ؛ لِأَنَّ السَّيَّارَةَ اسْتَبْشَرُوا بِهِ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً، وَلَوْ كَانُوا فِيهِ زَاهِدِينَ لَمَّا اشْتَرَوْهُ، فَيُرَجَّحُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ﴿وَشَرَوْهُ﴾ إِنَّمَا هُوَ لِإِخْوَتِهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿بَخْسٍ﴾ الْحَرَامُ. وَقِيلَ: الظُّلْمُ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا مَعْلُومٌ يَعَرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ ثَمَنَهُ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ، لِأَنَّهُ نَبِيٌّ ابْنُ نَبِيٍّ، ابْنِ نَبِيٍّ، ابْنِ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَهُوَ الْكَرِيمُ، ابْنُ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، ابْنِ الْكَرِيمِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا بِالْبَخْسِ النَّاقِصِ أَوِ الزُّيُوفِ أَوْ كِلَاهُمَا، أَيْ: إِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، وَقَدْ بَاعُوهُ وَمَعَ هَذَا بِأَنْقَصِ الْأَثْمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاعُوهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ونَوْف البَكَالي، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ العَوْفي وَزَادَ: اقْتَسَمُوهَا دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وعِكْرِمة: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا نُبُوَّتَهُ
وَمَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا بَاعُوهُ جَعَلُوا يَتْبَعُونَهُمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: اسْتَوْثِقُوا مِنْهُ لَا يَأْبَقْ حَتَّى وَقَفُوهُ بِمِصْرَ، فَقَالَ: مَنْ يَبْتَاعُنِي وَلْيُبْشِرْ؟ فَاشْتَرَاهُ الْمَلِكُ، وَكَانَ مُسْلِمًا.
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) ﴾
(٢) في أ: "لو سئلوا".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْمُهُ إِطْفِيرُ (٢) بْنُ رُوحَيْبٍ، وَهُوَ الْعَزِيزُ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ الريَّان بْنَ الْوَلِيدِ، رَجُلٌ مِنَ الْعَمَالِيقِ قَالَ: وَاسْمُ امْرَأَتِهِ رَاعِيلُ بِنْتُ رعَائِيلَ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: اسْمُهَا زُلَيْخَا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الَّذِي بَاعَهُ بِمِصْرَ مَالِكُ بْنُ دَعْرِ بْنِ بُويب (٣) بْنِ عُنُقَا بْنِ مَدْيَانَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: أَفَرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: عَزِيزُ مِصْرَ حِينَ قَالَ لِاِمْرَأَتِهِ: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ وَالْمَرْأَةُ الَّتِي قَالَتْ لِأَبِيهَا [عَنْ مُوسَى] (٤) :﴿يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ﴾ [الْقَصَصِ: ٢٦] وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ حِينَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (٥).
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا أَنْقَذْنَا يُوسُفَ مِنْ إِخْوَتِهِ، ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ﴾ يَعْنِي: بِلَادَ مِصْرَ، ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ تَعْبِيرُ الرُّؤْيَا، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَيْ (٦) إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَلَا يُرَدُّ وَلَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ لِمَا سِوَاهُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ أَيْ: فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يَقُولُ: لَا يَدْرُونَ حِكْمَتَهُ فِي خَلْقِهِ، وَتَلَطُّفَهُ لِمَا يُرِيدُ (٧).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ﴾ أَيْ: يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿أَشُدَّهُ﴾ أَيِ: اسْتُكْمِلَ عَقْلُهُ (٨) وَتَمَّ خَلْقُهُ. ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ يَعْنِي: النُّبُوَّةَ، إِنَّهُ حَبَاهُ بِهَا بَيْنَ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ، ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: إِنَّهُ كَانَ مُحْسِنًا فِي عَمَلِهِ، عَامِلًا بِطَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى.
وَقَدِ اختُلِف فِي مِقْدَارِ الْمُدَّةِ الَّتِي بَلَغَ فِيهَا أَشُدَّهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِضْعٌ وَثَلَاثُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثُونَ سَنَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثَمَانِيَةَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ، وَرَبِيعَةُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالشَّعْبِيُّ: الْأَشُدُّ الحلم. وقيل غير ذلك،
(٢) في ت: "إظفير".
(٣) في ت: "نويب".
(٤) زيادة من أ.
(٥) رواه الطبري في تفسيره (١٦/١٩).
(٦) في أ: "فهو".
(٧) في ت، أ: "يريده".
(٨) في أ: "خلقه".
وقد اختُلِف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاث وثلاثون. وعن ابن عباس : بضع وثلاثون. وقال الضحاك : عشرون. وقال الحسن : أربعون سنة. وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال سعيد بن جبير : ثمانية عشرة سنة. وقال الإمام مالك، وربيعة، وزيد بن أسلم، والشعبي : الأشد الحلم. وقيل غير ذلك،
والله٢ أعلم.
٢ - في ت :"فالله"..
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ الَّتِي كَانَ يُوسُفُ فِي بَيْتِهَا بِمِصْرَ، وَقَدْ أَوْصَاهَا زَوْجُهَا بِهِ وَبِإِكْرَامِهِ [ ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا] عَنْ نَفْسِهِ﴾ أَيْ: حَاوَلَتْهُ عَلَى (١) نَفْسِهِ، (٢) وَدَعَتْهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا أَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا لِجَمَالِهِ وَحُسْنِهِ وَبَهَائِهِ، فَحَمَلَهَا ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَجَمَّلَتْ لَهُ، وَغَلَّقَتْ عَلَيْهِ الْأَبْوَابَ، وَدَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا، ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ فَامْتَنَعَ مِنْ ذلك أشد الامتناع، و ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [أَحْسَنَ مَثْوَايَ] ﴾ (٣) وَكَانُوا يُطْلِقُونَ "اَلرَّبَّ" (٤) عَلَى السَّيِّدِ وَالْكَبِيرِ، أَيْ: إِنَّ بَعْلَكِ رَبِّي أَحْسَنَ (٥) مَثْوَايَ أَيْ: مَنْزِلِي وَأَحْسَنَ إِلَيَّ، فَلَا أُقَابِلُهُ بِالْفَاحِشَةِ فِي أَهْلِهِ، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ قَالَ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ، وَالسُّدِّيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ فَقَرَأَهُ كَثِيرُونَ بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَفَتْحِ التَّاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَعْنَاهُ: أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى نَفْسِهَا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ تَقُولُ: هَلُمَّ لَكَ. وَكَذَا قَالَ زِرّ بْنُ حُبَيْشٍ، وعِكْرِمة، وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ.
قَالَ عَمْرُو بْنُ عبُيَد، عَنِ الْحَسَنِ: وَهِيَ كَلِمَةٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، أَيْ: عَلَيْكَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ أَيْ: هَلُمَّ لَكَ، وَهِيَ بِالْقِبْطِيَّةِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ (٦) تَدْعُوهُ بِهَا.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ هَلُم لَكَ بالحَوْرَانية.
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُعَلَّقًا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ سُهَيْل الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا قُرَّة بْنُ قيسى، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ عَرَبِيٍّ الجَزَري (٧)، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ قَالَ: هَلُمَّ لَكَ. قَالَ: هِيَ بالْحَوْرَانِيَّةِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَحْكِي (٨) هَذِهِ الْقِرَاءَةَ -يَعْنِي: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ -وَيَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ، لِأَهْلِ حَوْران، وَقَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْحِجَازِ، مَعْنَاهَا: تَعَالَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: سَأْلَتُ شَيْخًا عَالِمًا مِنْ أَهْلِ حَوْرَانَ، فَذَكَرَ أَنَّهَا لغتهم يعرفها.
(٢) في ت، أ: "عن".
(٣) زيادة من أ.
(٤) في ت، أ: "ذلك".
(٥) في ت، أ: "أكرم".
(٦) في ت: "غريبة".
(٧) في ت: "+غربي +الحوري".
(٨) في ت، أ: "يحب".
أَبْلْغ أَمِيَر المؤمِنين... أَخا العِراَقِ إذَا أَتَينَا...
إنَّ العِراقَ وَأَهْلَهُ... عُنُقٌ إليكَ فَهَيتَ هَيْتا...
يَقُولُ: فَتَعَالَ وَاقْتَرِبْ (٢)
وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ: "هِئتُ لَكَ" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَضَمِّ التَّاءِ، بِمَعْنَى: تَهَيَّأْتُ لَكَ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: هِئْتُ لِلْأَمْرِ أهىِ هيْئَة وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَكُلُّهُمْ يُفَسِّرُهَا بِمَعْنَى: تَهَيَّأْتُ لَكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ يُنْكِرَانِ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْحَاقَ (٣) هَيْتِ"،" بِفَتْحِ الْهَاءِ وَكَسْرِ التَّاءِ: وَهِيَ غَرِيبَةٌ.
وَقَرَأَ آخَرُونَ، مِنْهُمْ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ "هَيْتُ" بِفَتْحِ الْهَاءِ، وَضَمِّ التَّاءِ، وَأَنْشَدَ (٤) قَوْلَ الشَّاعِرِ: (٥)
لَيسَ قَومِي بالأبْعَدِين إِذَا مَا... قَالَ دَاعٍ منَ العَشِيرِةَ: هَيتُ...
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَدْ سَمِعْتُ القَرَأة فَسَمِعْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ، فَاقْرَءُوا كَمَا عُلِّمتم، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ وَالِاخْتِلَافَ، فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: "هَلُمَّ" وَ"تَعَالَ" ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَقْرَءُونَهَا: "هَيْتُ [لَك] " (٦) ؟ فَقَالَ عبد الله: إني أقرأها كَمَا عُلِّمت، أَحَبُّ إِلَيَّ (٧)
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنة، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ فَقَالَ لَهُ مَسْرُوقٌ: إِنَّ نَاسًا يَقْرَءُونَهَا: "هَيْتُ لَك"؟ فَقَالَ: دَعُونِي، فَإِنِّي أَقْرَأُ كَمَا أقْرِئتُ، أَحَبُّ إِلَيَّ (٨)
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ بنصب الهاء والتاء ولا بهمز.
(٢) تفسير الطبري (١٦/٢٥).
(٣) في ت: "عبد الله بن أبي إسحاق".
(٤) في ت، أ: "وأنشدوا".
(٥) هو طرفة بن العبد، والبيت في تفسير الطبري (١٦/٣٠).
(٦) زيادة من أ.
(٧) تفسير عبد الرزاق (١/٢٧٩).
(٨) تفسير الطبري (١٦/٣١).
قَالَ أَبُو عُبَيدة مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى: "هَيْتَ" لَا تُثَنَّى وَلَا تُجْمَعُ وَلَا تُؤَنَّثُ، بَلْ يُخَاطَبُ الْجَمِيعُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فيقال: هيتَ لَك، وهيتَ لك، ِ وهيتَ لَكُمَا، وهيتَ لَكُمْ، وهيتَ لَهُنَّ (٢)
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) ﴾
اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ النَّاسِ وَعِبَارَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَطَائِفَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهَمِّهِ بِهَا هَمّ خَطَرات حَدِيثِ (٣) النَّفْسِ. حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، ثُمَّ أَوْرَدَ (٤) الْبَغَوِيُّ هَاهُنَا حَدِيثَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا هَمّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنَّ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً، فَإِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرّائي، فَإِنْ عَمَلِهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا" (٥).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ (٦) وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ، هَذَا مِنْهَا.
وَقِيلَ: هَمَّ بِضَرْبِهَا. وَقِيلَ: تَمَنَّاهَا زَوْجَةً. وَقِيلَ: ﴿وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ أَيْ: فَلَمْ يَهِمَّ بِهَا.
وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ (٧).
وَأَمَّا الْبُرْهَانُ الَّذِي رَآهُ فَفِيهِ أَقْوَالٌ أَيْضًا: فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ: رَأَى صُورَةَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ بِفَمِهِ (٨).
وَقِيلَ عَنْهُ فِي رِوَايَةٍ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِ يُوسُفَ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: رَأَى خَيَالَ (٩) الْمَلِكِ، يَعْنِي: سَيِّدَهُ، وكذا قال محمد بن إسحاق،
(٢) في أ: "لهم".
(٣) في ت، أ: "وحديث".
(٤) في أ: "وأورد".
(٥) معالم التنزيل (٤/٢٣١).
(٦) صحيح البخاري برقم (٧٥٠١) وصحيح مسلم برقم (٢٠٥).
(٧) تفسير الطبري (١٦/٣٨، ٣٩) وما ذكره الحافظ هنا في معنى الهم غير مسلم به، والراجح هو ما اختاره أبو حيان في تفسيره ونقله عنه العلامة الشنقيطي في "أضواء البيان" (٣/٦٠) وقال: "والجواب الثاني - وهو الذي اختاره أبو حيان - أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو +منفى عنه لوجود البرهان..." وانظر بقية كلامه هناك.
(٨) في ت، أ: "يعظه".
(٩) في ت، أ: "تمثال".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي مَوْدُودٍ (٢) سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي قَالَ: رَفَعَ يُوسُفُ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ، فَإِذَا كِتَابٌ فِي حَائِطِ الْبَيْتِ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٣٢]
وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مَعْشَر الْمَدَنِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ فِي: "الْبُرْهَانِ" الَّذِي رَأَى يُوسُفُ: ثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ كتاب الله ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ﴾ الْآيَةَ [الِانْفِطَارِ: ١٠]، وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ الْآيَةَ: [يُونُسَ: ٦١]، وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرَّعْدِ: ٣٣] قَالَ نَافِعٌ: سَمِعْتُ أَبَا هِلَالٍ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِ الْقُرَظِيِّ، وَزَادَ آيَةً رَابِعَةً ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٣٢]
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: رَأَى آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي الْجِدَارِ تَنْهَاهُ (٣) عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَأَى مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَا زَجَرَهُ عَمَّا كَانَ هَمَّ بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صُورَةَ يَعْقُوبَ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ [صُورَةَ] (٤) الْمَلِكِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا رَآهُ مَكْتُوبًا مِنَ الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ. وَلَا حُجَّةَ قَاطِعَةٌ عَلَى تَعْيِينِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُطْلَقَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ: وَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ أَيْ: كَمَا أَرَيْنَاهُ بُرْهَانًا صَرَفَهُ عَمَّا كَانَ فِيهِ، كَذَلِكَ نَقِيهِ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ أَيْ: مِنَ الْمُجْتَبِينَ الْمُطَهَّرِينَ الْمُخْتَارِينَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩) ﴾
(٢) في ت: "مردود".
(٣) في ت، أ: "والجدار نهاه".
(٤) زيادة من ت، أ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ: هَلْ هُوَ صَغِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ لِعُلَمَاءِ السَّلَفِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ قَالَ: ذُو لِحْيَةٍ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّهُ كَانَ رَجُلًا.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالسُّدِّيُّ: كَانَ ابْنَ عَمِّهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ خَاصَّةِ الْمَلِكِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ زُلَيْخَا كَانَتْ بِنْتَ أُخْتِ الْمَلِكِ الرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ.
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ قَالَ: كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ. وَكَذَا رُوي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهِلَالِ بْنِ يَسَاف، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزاحم: أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الدَّارِ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ -هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ -أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي
(٢) في ت، أ: "فقدت".
(٣) في ت، أ: "تعني".
(٤) في ت: "صادقا بارا".
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : ذو لحية.
وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم، والسدي : كان ابن عمها.
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : كان صبيا في المهد. وكذا رُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يَسَاف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :" تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف٥.
ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْج، وعيسى ابن مريم٦.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد : كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا. وهذا قول غريب.
وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به، ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ﴾ أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن، ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾
ثم قال آمرا ليوسف، عليه السلام، بكتمان ما وقع : يا ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]٧ صفحا، فلا تذكره لأحد، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، فقال لها :﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ أي : الذي٨ وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قَذْفه بما هو بريء منه، استغفري من هذا الذي وقع منك، ﴿ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾
٢ - في ت، أ :"فقدت"..
٣ - في ت، أ :"تعني"..
٤ - في ت :"صادقا بارا"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٥٥) ورواه أحمد في المسند (١/٣١٠) والحاكم في المستدرك (٢/٤٩٦) من طريق حماد بن سلمة به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
٦ - رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (١٦/٥٤)..
٧ - زيادة من ت..
٨ - في ت، أ :"للذي"..
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : ذو لحية.
وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم، والسدي : كان ابن عمها.
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : كان صبيا في المهد. وكذا رُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يَسَاف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :" تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف٥.
ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْج، وعيسى ابن مريم٦.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد : كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا. وهذا قول غريب.
وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به، ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ﴾ أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن، ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾
ثم قال آمرا ليوسف، عليه السلام، بكتمان ما وقع : يا ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]٧ صفحا، فلا تذكره لأحد، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، فقال لها :﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ أي : الذي٨ وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قَذْفه بما هو بريء منه، استغفري من هذا الذي وقع منك، ﴿ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾
٢ - في ت، أ :"فقدت"..
٣ - في ت، أ :"تعني"..
٤ - في ت :"صادقا بارا"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٥٥) ورواه أحمد في المسند (١/٣١٠) والحاكم في المستدرك (٢/٤٩٦) من طريق حماد بن سلمة به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
٦ - رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (١٦/٥٤)..
٧ - زيادة من ت..
٨ - في ت، أ :"للذي"..
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : ذو لحية.
وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم، والسدي : كان ابن عمها.
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : كان صبيا في المهد. وكذا رُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يَسَاف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :" تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف٥.
ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْج، وعيسى ابن مريم٦.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد : كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا. وهذا قول غريب.
وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به، ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ﴾ أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن، ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾
ثم قال آمرا ليوسف، عليه السلام، بكتمان ما وقع : يا ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]٧ صفحا، فلا تذكره لأحد، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، فقال لها :﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ أي : الذي٨ وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قَذْفه بما هو بريء منه، استغفري من هذا الذي وقع منك، ﴿ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾
٢ - في ت، أ :"فقدت"..
٣ - في ت، أ :"تعني"..
٤ - في ت :"صادقا بارا"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٥٥) ورواه أحمد في المسند (١/٣١٠) والحاكم في المستدرك (٢/٤٩٦) من طريق حماد بن سلمة به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
٦ - رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (١٦/٥٤)..
٧ - زيادة من ت..
٨ - في ت، أ :"للذي"..
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير، على قولين لعلماء السلف، فقال عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل، عن سِمَاك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : ذو لحية.
وقال الثوري، عن جابر، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والسُّدِّي، ومحمد بن إسحاق : إنه كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم، والسدي : كان ابن عمها.
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ﴾ قال : كان صبيا في المهد. وكذا رُوي عن أبي هريرة، وهلال بن يَسَاف، والحسن، وسعيد بن جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا عفان، حدثنا حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال :" تكلم أربعة وهم صغار "، فذكر فيهم شاهد يوسف٥.
ورواه غيره عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جُرَيْج، وعيسى ابن مريم٦.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد : كان من أمر الله، ولم يكن إنسيا. وهذا قول غريب.
وقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ﴾ أي : فلما تحقق زوجها صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به، ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ﴾ أي : إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن، ﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾
ثم قال آمرا ليوسف، عليه السلام، بكتمان ما وقع : يا ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ﴾ أي : اضرب عن هذا [ الأمر ]٧ صفحا، فلا تذكره لأحد، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما لا صبر لها عنه، فقال لها :﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ﴾ أي : الذي٨ وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب، ثم قَذْفه بما هو بريء منه، استغفري من هذا الذي وقع منك، ﴿ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ﴾
٢ - في ت، أ :"فقدت"..
٣ - في ت، أ :"تعني"..
٤ - في ت :"صادقا بارا"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٥٥) ورواه أحمد في المسند (١/٣١٠) والحاكم في المستدرك (٢/٤٩٦) من طريق حماد بن سلمة به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي..
٦ - رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (١٦/٥٤)..
٧ - زيادة من ت..
٨ - في ت، أ :"للذي"..
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْج، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (٢).
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْسِيًّا. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾ أَيْ: فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَوْجُهَا صدقَ يُوسُفَ وَكَذِبَهَا فِيمَا قَذَفَتْهُ وَرَمَتْهُ بِهِ، ﴿قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ أَيْ: إِنَّ هَذَا الْبُهْتَ واللَّطخ الَّذِي لَطَّخْتِ عِرْضَ هَذَا الشَّابِّ بِهِ مِنْ جُمْلَةِ كَيْدِكُنَّ، ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾
ثُمَّ قَالَ آمِرًا لِيُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِكِتْمَانِ مَا وَقَعَ: يَا ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ أَيِ: اضْرِبْ عَنْ هَذَا [الْأَمْرِ] (٣) صَفْحًا، فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ، ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ يَقُولُ لِاِمْرَأَتِهِ وَقَدْ كَانَ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ سَهْلًا أَوْ أَنَّهُ عَذَرَهَا؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ مَا لَا صَبْرَ لَهَا عَنْهُ، فَقَالَ لَهَا: ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ أَيِ: الَّذِي (٤) وَقَعَ مِنْكِ مِنْ إِرَادَةِ السُّوءِ بِهَذَا الشَّابِّ، ثُمَّ قَذْفه بِمَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، اسْتَغْفِرِي مِنْ هَذَا الَّذِي وَقَعَ مِنْكِ، ﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) ﴾
(٢) رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (١٦/٥٤).
(٣) زيادة من ت.
(٤) في ت، أ: "للذي".
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ خَبَرَ يُوسُفَ وَاِمْرَأَةِ الْعَزِيزِ شَاعَ فِي الْمَدِينَةِ، وَهِيَ مِصْرُ، حَتَّى تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ، ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ مِثْلُ نِسَاءِ الْأُمَرَاءِ [و] (١) الْكُبَرَاءِ، يُنْكِرْنَ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الْوَزِيرُ، وَيَعِبْنَ ذَلِكَ عَلَيْهَا: ﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ أَيْ: تحاول غلامها عن نفسه، وتدعوه إلى
قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّغَف: الْحُبُّ الْقَاتِلُ، والشَّغَف دُونَ ذَلِكَ، وَالشَّغَافُ: حِجَابُ الْقَلْبِ.
﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أَيْ: فِي صَنِيعِهَا هَذَا مِنْ حُبِّهَا فَتَاهَا، وَمُرَاوَدَتِهَا إِيَّاهُ عَنْ نَفْسِهِ.
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ قَالَ بَعْضُهُمْ: بِقَوْلِهِنَّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: بَلْ (١) بَلَغهُنَّ حُسْنُ يُوسُفَ، فَأَحْبَبْنَ أَنْ يَرَيْنَهُ، فَقُلْنَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلْنَ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ أَيْ: دَعَتْهُنَّ إِلَى مَنْزِلِهَا لِتُضَيِّفَهُنَّ ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الْمَجْلِسُ الْمُعَدُّ، فِيهِ مَفَارِشُ وَمَخَادُّ وَطَعَامٌ، فِيهِ مَا يُقْطَعُ بِالسَّكَاكِينِ مَنْ أُتْرُجٍّ (٢) وَنَحْوِهِ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾ وَكَانَ هَذَا مَكِيدَةً مِنْهَا، وَمُقَابَلَةً لَهُنَّ فِي احْتِيَالِهِنَّ عَلَى رُؤْيَتِهِ، ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ فِي مَكَانٍ آخَرَ، ﴿فَلَمَّا﴾ خَرَجَ وَ ﴿رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ أَيْ: أَعَظَمْنَ شَأْنَهُ، وَأَجْلَلْنَ قَدْرَهُ؛ وَجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ دَهَشا بِرُؤْيَتِهِ، وَهُنَّ يَظْنُنَّ أَنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ الْأُتْرُجَّ (٣) بِالسَّكَاكِينِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّهُنَّ حَزَّزْنَ أَيْدِيَهُنَّ بِهَا، قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ: قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ حَتَّى أَلْقَيْنَهَا، فَاللَّهُ (٤) أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أنها قالت لهن بعدما أَكَلْنَ وَطَابَتْ أَنْفُسُهُنَّ، ثُمَّ وَضَعَتْ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ أُتْرُجًّا (٥) وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا: هَلْ لَكُنَّ فِي النَّظَرِ إِلَى يُوسُفَ؟ قُلْنَ: نَعَمْ. فَبَعَثَتْ إِلَيْهِ تَأْمُرُهُ أَنِ اخْرُجْ إِلَيْهِنَّ (٦) فَلَمَّا رَأَيْنَهُ جَعَلْنَ يَقْطَعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، ثُمَّ أَمَرَتْهُ أَنْ يَرْجِعَ فَرَجَعَ لِيَرَيْنَهُ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَهُنَّ يُحَزُّزْنَ فِي أَيْدِيهِنَّ، فَلَمَّا أَحْسَسْنَ بِالْأَلَمِ جَعَلْنَ يُوَلْوِلْنَ، فَقَالَتْ: أَنْتُنَّ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلْتُنَّ هَكَذَا، فَكَيْفَ أُلَامُ أَنَا؟ فَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، ثُمَّ قُلْنَ لَهَا: وَمَا نَرَى عَلَيْكِ مِنْ لَوْمٍ بَعْدَ الَّذِي رَأَيْنَا، لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ فِي الْبَشَرِ شَبَهَهُ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٧) كَانَ قَدْ أُعْطِي شَطْرَ الْحُسْنِ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِيُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، قَالَ: "فَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ" (٨)
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُعْطِيَ يوسف وأمه شطر
(٢) في ت، أ: "أترنج".
(٣) في: "الأترج".
(٤) في أ: "والله".
(٥) في أ: "أترنجا".
(٦) في أ: "عليهن".
(٧) في ت، أ: "وسلامه".
(٨) رواه مسلم في صحيحه برقم (١٦٢) من حديث أنس رضي الله عنه.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ أَيْضًا، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ وَجْهُ يُوسُفَ مَثَلَ الْبَرْقِ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا أَتَتْهُ لِحَاجَةٍ غَطَّى وَجْهَهُ مَخَافَةَ أَنْ تَفْتَتِنَ بِهِ.
وَرَوَاهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ ثُلُثَ حُسْنِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَأُعْطِيَ النَّاسُ الثُّلُثَيْنِ -أَوْ قَالَ: أُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ الثُّلُثَيْنِ وَالنَّاسُ الثُّلُثَ" (٢)
وَقَالَ سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ رَبِيعَةَ الجُرَشي قَالَ: قُسِمَ الْحُسْنُ نِصْفَيْنِ، فَأُعْطِيَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ سَارَّةُ نِصْفَ الْحُسْنِ. وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ سَائِرِ الْخَلْقِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّهَيْلِيُّ: مَعْنَاهُ: أَنَّ يُوسُفَ كَانَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حُسْنِ آدَمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَحْسَنِهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يُوَازِيهِ فِي جَمَالِهِ، وَكَانَ يُوسُفُ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ حُسْنِهِ.
فَلِهَذَا قَالَ هَؤُلَاءِ النِّسْوَةُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ: ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: مَعَاذَ اللَّهِ، ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "مَا هَذَا بِشِرىً" أَيْ: بِمُشْتَرًى.
﴿إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ تَقُولُ هَذَا مُعْتَذِرَةً إِلَيْهِنَّ بِأَنَّ هَذَا حَقِيقٌ بِأَنْ يُحَبَّ لِجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ.
﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ أَيْ: فَامْتَنَعَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا رَأَيْنَ جَمَالَهُ الظَّاهِرَ، أَخْبَرَتْهُنَّ بِصِفَاتِهِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تَخْفَى عَنْهُنَّ، وَهِيَ (٣) الْعِفَّةُ مَعَ هَذَا الْجَمَالِ، ثُمَّ قَالَتْ تَتَوَعَّدُ (٤) ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ اسْتَعَاذَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ، وَقَالَ: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ أَيْ: مِنَ الْفَاحِشَةِ، ﴿وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ أَيْ: إِنْ وَكَّلْتَنِي إِلَى نَفْسِي، فَلَيْسَ لِي مِنْ نَفْسِي قُدْرَةٌ، وَلَا أَمَلِكُ لَهَا ضُرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا بِحَوْلِكَ وَقُوَّتِكَ، أَنْتَ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ التُّكْلَانُ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي.
﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَصَمه اللَّهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً، وَحَمَاهُ فَامْتَنَعَ منها أشد الامتناع، واختار السجن
(٢) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠).
(٣) في ت: "عليهن وهو".
(٤) في ت، أ: "تتوعده".
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، والسدي، وغيرهم : هو المجلس المعد، فيه مفارش ومخاد وطعام، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج٢ ونحوه. ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ﴾ وكان هذا مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، ﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر، ﴿ فَلَمَّا ﴾ خرج و ﴿ رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أي : أعظمن شأنه، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج٣ بالسكاكين، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد.
وعن مجاهد، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله٤ أعلم.
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن، ثم وضعت بين أيديهن أترجا٥ وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم. فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن٦ فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا، وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه، فإنه، صلوات الله عليه وسلم٧ كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف، عليه السلام، في السماء الثالثة، قال :" فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " ٨ وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " ٩ وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن.
وقال أبو إسحاق أيضا، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به.
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " ١٠ وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن. والنصف الآخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم، عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه.
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته :﴿ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله، ﴿ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ وقرأ بعضهم :" ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى.
﴿ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله.
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ أي : فامتنع. قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي١١ العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعد١٢ ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ فعند ذلك استعاذ يوسف، عليه السلام، من شرهن وكيدهن، وقال :﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي : من الفاحشة، ﴿ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي : إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي قدرة، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ وذلك أن يوسف، عليه السلام، عَصَمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في١٣ غاية الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله١٤ ورجل قلبه معلق بالمسجد١٥ إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا١٦ عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال : إني أخاف الله " ١٧
٢ - في ت، أ :"أترنج"..
٣ - في :"الأترج"..
٤ - في أ :"والله"..
٥ - في أ :"أترنجا"..
٦ - في أ :"عليهن"..
٧ - في ت، أ :"وسلامه"..
٨ - رواه مسلم في صحيحه برقم (١٦٢) من حديث أنس رضي الله عنه..
٩ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠) والحاكم في المستدرك (٢/٥٧٠) وابن عدي في الكامل (٥/٣٨٥) من طريق عفان عن حماد بن سلمة به، وقال الحاكم :"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". قال ابن عدي :"وهذا الحديث ما أعلم رفعه أحد غير عفان، وغيره أوقفه عن حماد بن سلمة، وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما ينسب إلى الضعف"..
١٠ -) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠)..
١١ - في ت :"عليهن وهو"..
١٢ - في ت، أ :"تتوعده"..
١٣ - في ت :"إلى"..
١٤ - في ت :"في طاعة الله عز وجل"..
١٥ - في ت، أ :"في المسجد"..
١٦ - في ت، أ :"وتفرقا"..
١٧ - صحيح البخاري برقم (١٤٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، والسدي، وغيرهم : هو المجلس المعد، فيه مفارش ومخاد وطعام، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج٢ ونحوه. ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ﴾ وكان هذا مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، ﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر، ﴿ فَلَمَّا ﴾ خرج و ﴿ رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أي : أعظمن شأنه، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج٣ بالسكاكين، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد.
وعن مجاهد، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله٤ أعلم.
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن، ثم وضعت بين أيديهن أترجا٥ وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم. فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن٦ فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا، وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه، فإنه، صلوات الله عليه وسلم٧ كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف، عليه السلام، في السماء الثالثة، قال :" فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " ٨ وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " ٩ وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن.
وقال أبو إسحاق أيضا، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به.
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " ١٠ وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن. والنصف الآخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم، عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه.
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته :﴿ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله، ﴿ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ وقرأ بعضهم :" ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى.
﴿ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله.
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ أي : فامتنع. قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي١١ العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعد١٢ ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ فعند ذلك استعاذ يوسف، عليه السلام، من شرهن وكيدهن، وقال :﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي : من الفاحشة، ﴿ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي : إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي قدرة، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ وذلك أن يوسف، عليه السلام، عَصَمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في١٣ غاية الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله١٤ ورجل قلبه معلق بالمسجد١٥ إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا١٦ عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال : إني أخاف الله " ١٧
٢ - في ت، أ :"أترنج"..
٣ - في :"الأترج"..
٤ - في أ :"والله"..
٥ - في أ :"أترنجا"..
٦ - في أ :"عليهن"..
٧ - في ت، أ :"وسلامه"..
٨ - رواه مسلم في صحيحه برقم (١٦٢) من حديث أنس رضي الله عنه..
٩ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠) والحاكم في المستدرك (٢/٥٧٠) وابن عدي في الكامل (٥/٣٨٥) من طريق عفان عن حماد بن سلمة به، وقال الحاكم :"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". قال ابن عدي :"وهذا الحديث ما أعلم رفعه أحد غير عفان، وغيره أوقفه عن حماد بن سلمة، وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما ينسب إلى الضعف"..
١٠ -) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠)..
١١ - في ت :"عليهن وهو"..
١٢ - في ت، أ :"تتوعده"..
١٣ - في ت :"إلى"..
١٤ - في ت :"في طاعة الله عز وجل"..
١٥ - في ت، أ :"في المسجد"..
١٦ - في ت، أ :"وتفرقا"..
١٧ - صحيح البخاري برقم (١٤٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، والسدي، وغيرهم : هو المجلس المعد، فيه مفارش ومخاد وطعام، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج٢ ونحوه. ولهذا قال تعالى :﴿ وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ﴾ وكان هذا مكيدة منها، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته، ﴿ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر، ﴿ فَلَمَّا ﴾ خرج و ﴿ رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أي : أعظمن شأنه، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج٣ بالسكاكين، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها، قاله غير واحد.
وعن مجاهد، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها، فالله٤ أعلم.
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن، ثم وضعت بين أيديهن أترجا٥ وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن : نعم. فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن٦ فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن، ثم أمرته أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا، وهن يحززن في أيديهن، فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي رأينا، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه، فإنه، صلوات الله عليه وسلم٧ كان قد أعطي شطر الحسن، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف، عليه السلام، في السماء الثالثة، قال :" فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " ٨ وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " ٩ وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال : أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن.
وقال أبو إسحاق أيضا، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به.
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " ١٠ وقال سفيان، عن منصور، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين، فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن. والنصف الآخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم، عليه السلام، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها، ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه.
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته :﴿ حَاشَ لِلَّهِ ﴾ قال مجاهد وغير واحد : معاذ الله، ﴿ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ وقرأ بعضهم :" ما هذا بِشِرىً " أي : بمشترى.
﴿ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله.
﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ أي : فامتنع. قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن، وهي١١ العفة مع هذا الجمال، ثم قالت تتوعد١٢ ﴿ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ فعند ذلك استعاذ يوسف، عليه السلام، من شرهن وكيدهن، وقال :﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ أي : من الفاحشة، ﴿ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أي : إن وكلتني إلى نفسي، فليس لي من نفسي قدرة، ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك، أنت المستعان وعليك التكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ وذلك أن يوسف، عليه السلام، عَصَمه الله عصمة عظيمة، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع، واختار السجن على ذلك، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته، وهي امرأة عزيز مصر، وهي مع هذا في١٣ غاية الجمال والمال، والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك، خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله١٤ ورجل قلبه معلق بالمسجد١٥ إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا١٦ عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب، فقال : إني أخاف الله " ١٧
٢ - في ت، أ :"أترنج"..
٣ - في :"الأترج"..
٤ - في أ :"والله"..
٥ - في أ :"أترنجا"..
٦ - في أ :"عليهن"..
٧ - في ت، أ :"وسلامه"..
٨ - رواه مسلم في صحيحه برقم (١٦٢) من حديث أنس رضي الله عنه..
٩ - رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠) والحاكم في المستدرك (٢/٥٧٠) وابن عدي في الكامل (٥/٣٨٥) من طريق عفان عن حماد بن سلمة به، وقال الحاكم :"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". قال ابن عدي :"وهذا الحديث ما أعلم رفعه أحد غير عفان، وغيره أوقفه عن حماد بن سلمة، وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن يقال فيه شيء مما ينسب إلى الضعف"..
١٠ -) رواه الطبري في تفسيره (١٦/٨٠)..
١١ - في ت :"عليهن وهو"..
١٢ - في ت، أ :"تتوعده"..
١٣ - في ت :"إلى"..
١٤ - في ت :"في طاعة الله عز وجل"..
١٥ - في ت، أ :"في المسجد"..
١٦ - في ت، أ :"وتفرقا"..
١٧ - صحيح البخاري برقم (١٤٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ (٢) وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ (٣) إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَافْتَرَقَا (٤) عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ جَمَالٍ وَمَنْصِبٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ" (٥)
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ثُمَّ ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا رَأَوْهُ أَنَّهُمْ يَسْجُنُونَهُ إِلَى حِينٍ، أَيْ: إِلَى مُدَّةٍ، وَذَلِكَ بعدما عَرَفُوا بَرَاءَتَهُ، وَظَهَرَتِ الْآيَاتُ -وَهِيَ الْأَدِلَّةُ -عَلَى صِدْقِهِ فِي عِفَّتِهِ وَنَزَاهَتِهِ. فَكَأَنَّهُمْ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -إِنَّمَا سَجَنُوهُ لَمَّا شَاعَ الْحَدِيثُ إِيهَامًا (٦) أَنَّ هَذَا رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا، وَأَنَّهُمْ سَجَنُوهُ عَلَى ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَهُ الْمَلِكُ الْكَبِيرُ فِي آخِرِ الْمُدَّةِ، امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى تَتَبَيَّنَ بَرَاءَتُهُ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ خَرَجَ وَهُوَ نَقِيّ الْعِرْضِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ.
وَذَكَرَ السُّدِّي: أَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَنُوهُ لِئَلَّا يَشِيعَ مَا كَانَ مِنْهَا (٧) فِي حَقِّهِ، وَيَبْرَأَ عِرْضُهُ فَيَفْضَحَهَا.
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) ﴾
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَحَدُهُمَا سَاقِيَ الْمَلِكِ، وَالْآخَرُ خَبَّازَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي عَلَى الشَّرَابِ "نَبَوَا"، وَالْآخَرِ "مجلثَ".
قَالَ السُّدِّيُّ: وَكَانَ سَبَبُ حَبْسِ الْمَلِكِ إِيَّاهُمَا أَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُمَا تَمَالَآ عَلَى سَمِّهِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ.
وَكَانَ (٨) يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَدِ اشْتُهِرَ فِي السِّجْنِ بِالْجُودِ (٩) وَالْأَمَانَةِ وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَحُسْنِ السَّمْتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ، وَمَعْرِفَةِ التَّعْبِيرِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى أهل السجن وعيادة
(٢) في ت: "في طاعة الله عز وجل".
(٣) في ت، أ: "في المسجد".
(٤) في ت، أ: "وتفرقا".
(٥) صحيح البخاري برقم (١٤٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٠٣١) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) في ت: "اتهاما".
(٧) في أ: "منهما".
(٨) في ت: "فكان".
(٩) في أ: "بالجودة".
قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب " نبوا "، والآخر " مجلث ".
قال السدي : وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه.
وكان١ يوسف، عليه السلام، قد اشتهر في السجن بالجود٢ والأمانة وصدق الحديث، وحسن السّمت وكثرة العبادة، صلوات الله عليه وسلامه، ومعرفة التعبير والإحسان إلى أهل السجن وعيادة
مرضاهم والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان٣ الفتيان إلى السجن، تآلفا به وأحباه حبا شديدا، وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا. قال٤ بارك الله فيكما، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر، أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها، وأحبني أبي فأوذيت بسببه، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك، فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك، ثم إنهما رأيا مناما، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا - يعني عنبا - وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود :" إني أراني أعصر عنبا ". ورواه ابن أبي حاتم، عن أحمد بن سِنَان، عن يزيد بن هارون، عن شَرِيك، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود : أنه قرأها :" أعصر عنبا ".
وقال الضحاك في قوله :﴿ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ يعني : عنبا. قال : وأهل عمان يسمُّون العنب خمرا.
وقال عكرمة : رأيت٥ فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب، فنبتت. فخرج فيه عناقيد، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك. قال٦ تمكث في السجن ثلاثة أيام، ثم تخرج فتسقيه خمرا.
وقال الآخر - وهو الخباز - :﴿ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه، وأنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن إبراهيم، عن عبد الله قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا، إنما كانا تحالما ليجربا عليه.
٢ - في أ :"بالجودة"..
٣ - في ت :"هذا"..
٤ - في ت، أ :"فقال"..
٥ - في ت :"وقال عكرمة : قال له رأيت"..
٦ - في ت، أ :"فقال"..
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ يَعْنِي: عِنَبًا. قَالَ: وَأَهْلُ عَمَّانَ يسمُّون الْعِنَبَ خَمْرًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: رَأَيْتُ (٣) فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنِّي غَرَسْتُ حَبَلة مِنْ عِنَبٍ، فَنَبَتَتْ. فَخَرَجَ فِيهِ عَنَاقِيدُ، فَعَصَرْتُهُنَّ ثُمَّ سَقَيْتُهُنَّ الْمَلِكَ. قَالَ (٤) تَمْكُثُ فِي السِّجْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَسْقِيَهُ خَمْرًا.
وَقَالَ الْآخَرُ -وَهُوَ الْخَبَّازُ -: ﴿إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾
وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّهُمَا رَأَيَا مَنَامًا وَطَلَبَا تَعْبِيرَهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع وَابْنُ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا رَأَى صَاحِبَا يُوسُفَ شَيْئًا، إِنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا عَلَيْهِ.
﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) ﴾
(٢) في ت، أ: "فقال".
(٣) في ت: "وقال عكرمة: قال له رأيت".
(٤) في ت، أ: "فقال".
يُخْبِرُهُمَا يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُمَا (١) مَهْمَا رَأَيَا فِي نَوْمِهِمَا مِنْ حُلْمٍ، فَإِنَّهُ عَارِفٌ (٢) بِتَفْسِيرِهِ وَيُخْبِرُهُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ وُقُوعِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾
(٢) في أ: "عالم".
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ -شَيْخٌ لَهُ -حَدَّثَنَا رِشْدِينُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَدْرِي لَعَلَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَعْتَافُ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنِّي أَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لِلرَّجُلَيْنِ: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ قَالَ: إِذَا جَاءَ الطَّعَامُ حُلْوًا أَوْ مُرًّا اعْتَافَ عِنْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا عُلِّمَ فَعَلَّمَ. وَهَذَا أَثَرٌ (٢) غَرِيبٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ إِيَّايَ؛ لِأَنِّي اجْتَنَبْتُ مِلَّةَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَا يَرْجُونَ ثَوَابًا وَلَا عِقَابًا فِي الْمَعَادِ. ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ يَقُولُ: هَجَرْتُ طَرِيقَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَسَلَكْتُ طَرِيقَ هَؤُلَاءِ الْمُرْسَلِينَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهَكَذَا يَكُونُ حَالُ مِنْ سَلَكَ طَرِيقَ الْهُدَى، وَاتَّبَعَ الْمُرْسَلِينَ، وَأَعْرَضَ عَنْ طَرِيقِ الظَّالِمِينَ (٣) فَإِنَّهُ يَهْدِي قَلْبَهُ وَيُعَلِّمُهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَيَجْعَلُهُ إِمَامًا يُقْتَدَى (٤) بِهِ فِي الْخَيْرِ، وَدَاعِيًا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ.
﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ﴾ هَذَا التَّوْحِيدُ -وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾ أَيْ: أَوْحَاهُ إِلَيْنَا، وَأَمَرَنَا بِهِ ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ إِذْ جَعَلَنَا دُعَاةً لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ (٥) أَيْ: لَا يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ، بَلْ ﴿بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٢٨].
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَان، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ الْجَدَّ أَبًا، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ فَمَنْ (٦) شَاءَ لَاعَنَّاهُ عِنْدَ الحجْر، مَا ذَكَرَ اللَّهُ جَدًّا وَلَا جَدَّةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى -يَعْنِي إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠) ﴾
ثُمَّ إِنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَقْبَلَ عَلَى الْفَتَيَيْنِ بِالْمُخَاطَبَةِ، وَالدُّعَاءِ لَهُمَا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَخَلْع مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَوْثَانِ الَّتِي يَعْبُدُهَا قَوْمُهُمَا، فَقَالَ: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾
(٢) في ت: "أمر".
(٣) في ت، أ: "الضالين".
(٤) في ت: "يهتدي".
(٥) في أ: "لا يعلمون".
(٦) في ت، أ: "لمن".
ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كلَّه لله، وقد أمر عباده قاطبة ألا يعبدوا إلا إياه، ثم قال : ذلك الدين القيم أي : هذا الذي أدعوكم إليه من تَوحيد الله، وإخلاص العمل له، هو الدين المستقيم، الذي أمر الله به وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي : فلهذا كان أكثرهم مشركين. ﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ].
وقد قال ابن جريج : إنما عَدَلَ بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا، لأنه عَرَف أنها ضارّة لأحدهما، فأحب أن يشغلهما بغير ذلك، لئلا يعاودوه فيها، فعاودوه، فأعاد عليهم الموعظة. ٢
وفي هذا الذي قاله نظر ؛ لأنه قد وَعَدَهما أولا بتعبيرها٣ ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وُصْلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه، والإنصات إليه، ولهذا لما فرغ من دعوتهما، شرع في تعبير رؤياهما، من غير تكرار سؤال فقال :
﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ( ٤١ ) ﴾
ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمَا أنَّ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا وَيُسَمُّونَهَا آلِهَةً، إِنَّمَا هُوَ جَهْلُ (٤) مِنْهُمْ، وَتَسْمِيَةٌ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، تَلَقَّاهَا خَلَفهم عَنْ سَلَفهم، وَلَيْسَ لِذَلِكَ مُسْتَنَدٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أَيْ: حُجَّةٍ وَلَا بُرْهَانٍ.
ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْحُكْمَ وَالتَّصَرُّفَ وَالْمَشِيئَةَ وَالْمُلْكَ كلَّه لِلَّهِ، وَقَدْ أَمَرَ عِبَادَهُ قَاطِبَةً أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، ثُمَّ قَالَ: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أَيْ: هَذَا الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِنْ تَوحيد اللَّهِ، وَإِخْلَاصِ الْعَمَلِ لَهُ، هُوَ الدِّينُ الْمُسْتَقِيمُ، الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وأَنْزَلَ بِهِ الْحُجَّةَ وَالْبُرْهَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: فَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ. ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يُوسُفَ: ١٠٣].
وَقَدْ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّمَا عَدَلَ بِهِمْ يُوسُفُ عَنْ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إِلَى هَذَا، لِأَنَّهُ عَرَف أَنَّهَا ضَارَّةٌ لِأَحَدِهِمَا، فَأَحَبَّ أَنْ يَشْغَلَهُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُعَاوِدُوهُ فِيهَا، فَعَاوَدُوهُ، فَأَعَادَ عَلَيْهِمُ الْمَوْعِظَةَ. (٥)
وَفِي هَذَا الَّذِي قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَعَدَهما أَوَّلًا بِتَعْبِيرِهَا (٦) وَلَكِنْ جَعَلَ سُؤَالَهُمَا لَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وُصْلة وَسَبَبًا إِلَى دُعَائِهِمَا إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، لِمَا رَأَى فِي سَجِيَّتِهِمَا مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْإِنْصَاتِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمَّا فَرَغَ مِنْ دَعْوَتِهِمَا، شَرَعَ فِي تَعْبِيرِ رُؤْيَاهُمَا، مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ سؤال فقال:
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) ﴾
يقول لهما: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا﴾ وَهُوَ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَعْصِرُ خَمْرًا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يعينِّه لِئَلَّا يَحْزَنَ ذَاكَ، وَلِهَذَا أَبْهَمَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾ وَهُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ الَّذِي رَأَى أَنَّهُ يَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِهِ خُبْزًا.
ثُمَّ أَعْلَمَهُمَا أَنَّ هَذَا قَدْ فُرغ مِنْهُ، وَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ مَا لَمْ تُعَبر، فَإِذَا عُبِّرَت وَقَعت.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قَالَا مَا قَالَا وَأَخْبَرَهُمَا، قَالَا مَا رَأَيْنَا شَيْئًا. فَقَالَ: ﴿قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾
(٢) في ت، أ: "دل".
(٣) في ت، أ: "وعظيم".
(٤) في ت، أ: "جعل".
(٥) تفسير الطبري (١٦/١٠٢).
(٦) في أ: "بتعبيرهما".
وَفِي مُسْنَدِ أَبِي يَعْلَى، مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ الرَّقاشي، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "الرُّؤْيَا لِأَوَّلِ عَابِرٍ" (٤)
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) ﴾
لَمَّا ظَنَّ (٥) يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نَجَاةَ أحِدهما -وَهُوَ السَّاقِي -قَالَ لَهُ يُوسُفُ خُفْيَةً عَنِ الْآخَرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِئَلَّا يُشْعِرَهُ أَنَّهُ الْمَصْلُوبُ قَالَ لَهُ: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ يَقُولُ: اذْكُرْ قِصَّتِي عِنْدَ رَبِّكَ (٦) -وَهُوَ الْمَلِكُ -فَنَسِيَ ذَلِكَ الموصَى أَنْ يُذَكِّر مَوْلَاهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ، لِئَلَّا يَطْلَعَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنَ السِّجْنِ.
هَذَا هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ عَائِدٌ عَلَى النَّاجِي، كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَيُقَالُ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ أَيْضًا، وعِكْرِمة، وَغَيْرِهِمْ. وَأَسْنَدَ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا حَدِيثًا فَقَالَ:
حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا عَمْرو بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ (٧) عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ لَمْ يَقُلْ -يَعْنِي: يُوسُفَ -الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ: مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ. حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ" (٨).
وَهَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ سُفْيَانَ بْنَ وَكِيع ضَعِيفٌ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ -هُوَ الخُوزي -أَضْعَفُ مِنْهُ أَيْضًا. وَقَدْ رُوي عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ مُرْسَلًا عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ المرسَلات هَاهُنَا لَا تُقْبَلُ لَوْ قُبِلَ الْمُرْسَلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا "الْبِضْعُ"، فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التسع. وقال وهب بن مُنَبَّه: مكث
(٢) في ت: "يعبر".
(٣) سبق تخريجه عند تفسير الآية: "٥" من هذه السورة.
(٤) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٣٩١٥) من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ يزيد الرقاشي، عن أنس موقوفا، وقال البوصيري في الزوائد (٣/٢١٦) :"هذا إسناد فيه يزيد وهو ضعيف".
(٥) في ت، أ: "علم".
(٦) في ت، أ: "الملك".
(٧) في ت: "عن يزيد".
(٨) تفسير الطبري (١٦/١١٢).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ قَالَ: ثِنْتَا (٢) عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرْبَعَ عَشَرَةَ سَنَةً.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) ﴾
(٢) في ت، أ: "ثنتى".
هَذِهِ الرُّؤْيَا مِنْ مَلك مِصْرَ مِمَّا قَدّر اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِخُرُوجِ يوسفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ السِّجْنِ مُعزَّزًا مُكَرَّمًا، وَذَلِكَ أَنَّ المَلك رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، فَهَالَتْهُ وتَعجَّب مَنْ أَمْرِهَا، وَمَا يَكُونُ تَفْسِيرُهَا، فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ والحُزَاة وَكُبَرَاءَ دَوْلَتِهِ وَأُمَرَاءَهُ وقَصَّ عَلَيْهِمْ مَا رَأَى، وَسَأَلَهُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، فَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ، وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِأَنَّ هَذِهِ ﴿أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ أَيْ: أَخْلَاطٌ اقْتَضَتْ رُؤْيَاكَ هَذِهِ (١) ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ﴾ أَيْ: وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا صَحِيحَةً مِنْ أَخْلَاطٍ، لَمَا كَانَ لَنَا مَعْرِفَةً بِتَأْوِيلِهَا، وَهُوَ تَعْبِيرُهَا. فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ ذَلِكَ الَّذِي نَجَا مِنْ ذَيْنِكَ الْفَتَيَيْنِ اللَّذَيْنِ (٢) كَانَا فِي السِّجْنِ مَعَ يُوسُفَ، وَكَانَ الشَّيْطَانُ قَدْ أَنْسَاهُ مَا وَصَّاهُ بِهِ يُوسُفُ، مِنْ ذِكْرِ أَمْرِهِ لِلْمَلِكِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَذَكَّرَ ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أَيْ: مُدَّةٍ -وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: "بَعْدَ أَمِةٍ" أَيْ: بَعْدَ نِسْيَانٍ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ وَالَّذِينَ جَمَعَهُمْ لِذَلِكَ: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ أَيْ: بِتَأْوِيلِ هَذَا الْمَنَامِ، ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ أَيْ: فَابْعَثُونِ إِلَى يُوسُفَ الصِّدِّيقِ إِلَى السِّجْنِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: فَبَعَثُوا (٣) فَجَاءَ. فَقَالَ: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا﴾ وَذَكَرَ الْمَنَامَ الَّذِي رَآهُ الْمَلِكُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ لَهُ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَعْبِيرَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْنِيفٍ لِذَلِكَ الْفَتَى فِي نِسْيَانِهِ مَا وَصَّاهُ بِهِ، وَمِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطٍ لِلْخُرُوجِ قَبْلَ ذَلِكَ، بَلْ قَالَ: ﴿تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ أَيْ (٤) يَأْتِيكُمُ الْخِصْبُ وَالْمَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ مُتَوَالِيَاتٍ، فَفَسَّرَ الْبَقَرَ بِالسِّنِينَ؛ لِأَنَّهَا تُثِيرُ الْأَرْضَ الَّتِي تُسْتغل منها الثمرات والزروع، وهن السنبلات
(٢) في ت: "الذي".
(٣) في ت: "فبعثوه".
(٤) في ت: "إذ".
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ﴾ أي : يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل٨ فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يحلبون.
٢ - في ت :"الذي"..
٣ - في ت :"فبعثوه"..
٤ - في ت :"إذ"..
٥ - في ت، أ :"استغليتم"..
٦ - في ت، أ :"سنين"..
٧ - في ت، أ :"سنين"..
٨ - في ت، أ :"ويدخل"..
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ﴾ أي : يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل٨ فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يحلبون.
٢ - في ت :"الذي"..
٣ - في ت :"فبعثوه"..
٤ - في ت :"إذ"..
٥ - في ت، أ :"استغليتم"..
٦ - في ت، أ :"سنين"..
٧ - في ت، أ :"سنين"..
٨ - في ت، أ :"ويدخل"..
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ﴾ أي : يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل٨ فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يحلبون.
٢ - في ت :"الذي"..
٣ - في ت :"فبعثوه"..
٤ - في ت :"إذ"..
٥ - في ت، أ :"استغليتم"..
٦ - في ت، أ :"سنين"..
٧ - في ت، أ :"سنين"..
٨ - في ت، أ :"ويدخل"..
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ﴾ أي : يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل٨ فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يحلبون.
٢ - في ت :"الذي"..
٣ - في ت :"فبعثوه"..
٤ - في ت :"إذ"..
٥ - في ت، أ :"استغليتم"..
٦ - في ت، أ :"سنين"..
٧ - في ت، أ :"سنين"..
٨ - في ت، أ :"ويدخل"..
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال :﴿ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ﴾
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك ﴿ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ﴾ أي : يأتيهم الغيث، وهو المَطرُ، وتُغل البلاد، ويَعصرُ الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم، من زيت ونحوه، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل٨ فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ يحلبون.
٢ - في ت :"الذي"..
٣ - في ت :"فبعثوه"..
٤ - في ت :"إذ"..
٥ - في ت، أ :"استغليتم"..
٦ - في ت، أ :"سنين"..
٧ - في ت، أ :"سنين"..
٨ - في ت، أ :"ويدخل"..
وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُنَّ لَا يُنْبِتْنَ شَيْئًا، وَمَا بَذَرُوهُ فَلَا يَرْجِعُونَ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾
ثُمَّ بَشَّرَهُمْ بَعْدَ الجَدْب الْعَامِ الْمُتَوَالِي بِأَنَّهُ يَعْقُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ أَيْ: يَأْتِيهِمُ الْغَيْثُ، وَهُوَ المَطرُ، وتُغل الْبِلَادُ، ويَعصرُ النَّاسُ مَا كَانُوا يَعْصِرُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ، مِنْ زَيْتٍ وَنَحْوِهُ، وَسُكَّرٍ وَنَحْوِهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ (٤) فِيهِ حَلْبُ اللَّبَنِ أَيْضًا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ يَحْلِبُونَ.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢) ﴾
(٢) في ت، أ: "سنين".
(٣) في ت، أ: "سنين".
(٤) في ت، أ: "ويدخل".
قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد : تقول الآن : تبين الحق وظهر وبرز.
﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ أي : في قوله :﴿ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ﴾
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ لَمَّا رَجَعُوا إِلَيْهِ بِتَعْبِيرِ رُؤْيَاهُ، الَّتِي كَانَ رَآهَا، بِمَا أَعْجَبَهُ وَأَيْنَقَهُ، فَعَرَفَ فَضْلَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعِلْمَهُ [وَحُسْنَ اطِّلَاعِهِ عَلَى رُؤْيَاهُ] (١) وَحُسْنَ أَخْلَاقِهِ عَلَى مَنْ بِبَلَدِهِ مِنْ رَعَايَاهُ، فَقَالَ ﴿ائْتُونِي بِهِ﴾ أَيْ: أَخْرِجُوهُ مِنَ السِّجْنِ وَأَحْضَرُوهُ. فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ بِذَلِكَ امْتَنَعَ مِنَ الْخُرُوجِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَلِكُ وَرَعَيَّتُهُ بَرَاءَةَ سَاحَتِهِ، وَنَزَاهَةَ عِرْضِهِ، مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَأَنَّ هَذَا السِّجْنَ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَمْرٍ يَقْتَضِيهِ، بَلْ كَانَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، قَالَ: ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾
وَقَدْ وَرَدَتِ السَّنَةُ بِمَدْحِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ، وعُلُوّ قَدْرِهِ وَصَبْرِهِ، صَلَوَاتُ الله
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لو كُنْتُ أَنَا لَأَسْرَعْتُ الْإِجَابَةَ، وَمَا ابْتَغَيْتُ الْعُذْرَ" (٢).
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَة، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، حِينَ سُئل عَنِ الْبَقَرَاتِ العِجاف والسِّمان، وَلَوْ كُنْتُ مَكَانَهُ مَا أَجَبْتُهُمْ حَتَّى أَشْتَرِطَ أَنْ يُخْرِجُونِي. وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ يُوسُفَ وَصَبْرِهِ وَكَرَمِهِ، وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ، حِينَ أَتَاهُ الرَّسُولُ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، َ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ". هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ (٣)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَلِكِ حِينَ جَمَعَ النِّسْوَةَ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ عِنْدَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ مُخَاطِبًا لَهُنَّ كُلَّهُنَّ -وَهُوَ يُرِيدُ امْرَأَةَ وَزِيرِهِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ -: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ أَيْ: شَأْنُكُنَّ وَخَبَرُكُنَّ ﴿إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الضِّيَافَةِ؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ أَيْ: قَالَتِ النِّسْوَةُ جَوَابًا لِلْمَلِكِ: حَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ يُوسُفَ مُتَّهَمَا، وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ. فَعِنْدَ ذَلِكَ ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: تَقُولُ الْآنَ: تَبَيَّنَ الْحَقُّ وَظَهَرَ وَبَرَزَ.
﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ أَيْ: فِي قَوْلِهِ: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ تَقُولُ: إِنَّمَا اعْتَرَفْتُ بِهَذَا عَلَى نَفْسِي، ذَلِكَ لِيَعْلَمَ زَوْجِي أَنْ لَمْ أَخُنْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَا وَقَعَ الْمَحْذُورُ الْأَكْبَرُ، وَإِنَّمَا رَاوَدْتُ هَذَا الشَّابَّ مُرَاوَدَةً، فَامْتَنَعَ؛ فَلِهَذَا اعترفتُ لِيَعْلَمَ أَنِّي بَرِيئَةٌ، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ تَقُولُ الْمَرْأَةُ: وَلَسْتُ أُبَرِّئُ نَفْسِي، فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَحَدَّثُ (٤) وَتَتَمَنَّى؛ وَلِهَذَا رَاوَدَتْهُ لِأَنَّهَا أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ، ﴿إِلا مَا (٥) رَحِمَ رَبِّي﴾ أَيْ: إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٦).
(٢) المسند (٢/٣٤٧) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٤٠) :"وفيه محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث".
(٣) تفسير عبد الرزاق (١/٢٨١، ٢٨٢) وقد وصله إسحاق بن راهويه في مسنده ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (١١/٢٤٩) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس مرفوعا بنحوه. وفيه إبراهيم بن يزيد وهو متروك.
(٤) في ت، أ: "تحدث".
(٥) في ت أ: "عن" وهو خطأ.
(٦) في ت: "لغفور" وهو خطأ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ فِي زَوْجَتِهِ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ الْآيَتَيْنِ أَيْ: إِنَّمَا رَدَدْتُ الرَّسُولَ لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ بَرَاءَتِي وَلِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ فِي زَوْجَتِهِ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ [الْآيَةَ] (٢) وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي لَمَّ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَلَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ سِوَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا جَمَعَ الْمَلِكُ النِّسْوَةَ فَسَأَلَهُنَّ: هَلْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ؟ ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ قَالَ يُوسُفُ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ] ﴾ (٣) قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا يَوْمَ هَمَمْتَ بِمَا هَمَمْتَ بِهِ. فَقَالَ: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (٤)
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَعِكْرِمَةُ، وَابْنُ أَبِي الهُذَيل، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدي. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْوَى وَأُظْهِرُ؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ بِحَضْرَةِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَكُنْ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُمْ، بَلْ بَعْدَ ذَلِكَ أَحْضَرَهُ الْمَلِكُ.
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلِكِ حِينَ تَحَقَقَ بَرَاءَةَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَنَزَاهَةَ عرْضه مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ، قَالَ: ﴿ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أَيْ: أَجْعَلُهُ مِنْ خَاصَّتِي وَأَهْلِ مَشُورَتِي ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ أَيْ: خَاطَبَهُ الْمَلِكُ وَعَرَفَهُ، وَرَأَى فَضْلَهُ وَبَرَاعَتَهُ، وَعَلِمَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ خَلْق وخُلُق وَكَمَالٍ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: ﴿إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ أَيْ: إِنَّكَ عِنْدَنَا قَدْ بَقِيتَ ذَا مَكَانَةٍ وَأَمَانَةٍ، فَقَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ ذَلِكَ إِذَا جُهِل أَمْرُهُ، لِلْحَاجَةِ. وَذَكَرَ أَنَّهُ ﴿حَفِيظٌ﴾ أَيْ: خَازِنٌ أَمِينٌ، ﴿عَلِيمٌ﴾ ذُو عِلْمٍ وبصرَ بِمَا يَتَوَلَّاهُ (٥).
قَالَ شَيْبَةُ بْنُ نَعَامَةَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَتْنِي، عَلِيمٌ بِسِني الجَدْب. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَسَأَلَ الْعَمَلَ لِعِلْمِهِ بِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلنَّاسِ (٦) وَإِنَّمَا سَأَلَ أَنْ يُجْعَل عَلَى
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) تفسير الطبري (١٦/١٤٣).
(٥) في ت: "نتولاه".
(٦) في ت: "مصالح الناس".
قال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني، عليم بِسِني الجَدْب. رواه ابن أبي حاتم.
وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه، ولما في ذلك من المصالح للناس٢ وإنما سأل أن يُجْعَل على خزائن٣ الأرض، وهي الأهرام التي٤ يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد، فأجيب إلى ذلك رغبةً فيه، وتكرِمَةً له ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ ﴾.
وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك :﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ قال الملك : قد فعلت. فولاه فيما ذكروا عمل إطفير٣ وعزل إطفير٤ عما كان عليه، يقول الله عز وجل :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فذكر لي - والله أعلم - أن إطفير٥ هَلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير٦ راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك٧ على ما رأيت، فيزعمون أنه وجدها عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف، وميشا بن يوسف٨ وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب، عليه السلام.
وقال الفضيل بن عياض : وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مَرّ يوسف، فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته.
٢ - في ت :"مصالح الناس"..
٣ - في ت :"خزان".
٤ - في ت :"الذي"..
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ﴾ أَيْ: أَرْضِ مِصْرَ، ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾
قَالَ السُّدِّي، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَتَّخِذُ مِنْهَا مَنْزِلًا حَيْثُ يَشَاءُ (٣) بَعْدَ الضِّيقِ وَالْحَبْسِ وَالْإِسَارِ. ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ أَيْ: وَمَا أَضَعْنَا صَبْرَ يُوسُفَ عَلَى أَذَى إِخْوَتِهِ، وَصَبْرَهُ عَلَى الْحَبْسِ بِسَبَبِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ؛ فَلِهَذَا أَعْقَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّلَامَةَ وَالنَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، ﴿وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ مَا ادَّخَرَهُ (٤) اللَّهُ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ (٥) وَأَجَلُّ، مِمَّا خَوَّلَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالنُّفُوذِ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ [ص: ٣٩، ٤٠].
وَالْغَرَضُ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَّاهُ مَلك مِصْرَ الريانُ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَزَارَةَ فِي بِلَادِ مِصْرَ، مَكَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ زَوْجِ الَّتِي رَاوَدَتْهُ، وَأَسْلَمَ الْمَلِكُ عَلَى يَدَيْ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قَالَ الْمَلِكُ: قَدْ فَعَلْتُ. فَوَلَّاهُ فِيمَا ذَكَرُوا عَمَلَ إِطْفِيرَ (٦) وَعَزَلَ إِطْفِيرَ (٧) عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ فَذُكِرَ لِي -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ إِطْفِيرَ (٨) هَلك فِي تِلْكَ اللَّيَالِي، وَأَنَّ الْمَلِكَ الرَّيَّانَ بْنَ الْوَلِيدِ زوَّج يُوسُفَ امْرَأَةَ إِطْفِيرَ (٩) رَاعِيلَ، وَأَنَّهَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كُنْتِ تُرِيدِينَ؟ قَالَ: فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، لَا تَلُمْنِي، فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً كَمَا تَرَى حَسْنَاءَ جَمِيلَةً، نَاعِمَةً فِي مُلْكٍ وَدُنْيَا، وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ فِي حُسْنِكَ وَهَيْئَتِكَ (١٠) عَلَى مَا رَأَيْتَ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ وَجَدَهَا عَذْرَاءَ، فَأَصَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ رَجُلَيْنِ أَفْرَائِيمَ بن يوسف، وميشا بن
(٢) في ت: "الذي".
(٣) في ت: "شاء".
(٤) في ت: "ذخره".
(٥) في ت: "وأكبر".
(٦) في ت: "إظفير".
(٧) في ت: "إظفير".
(٨) في ت: "إظفير".
(٩) في ت: "إظفير".
(١٠) في ت: "وهيبتك".
وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك :﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ قال الملك : قد فعلت. فولاه فيما ذكروا عمل إطفير٣ وعزل إطفير٤ عما كان عليه، يقول الله عز وجل :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ فذكر لي - والله أعلم - أن إطفير٥ هَلك في تلك الليالي، وأن الملك الريان بن الوليد زوَّج يوسف امرأة إطفير٦ راعيل، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصديق، لا تلمني، فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جميلة، ناعمة في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك٧ على ما رأيت، فيزعمون أنه وجدها عذراء، فأصابها فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف، وميشا بن يوسف٨ وولد لأفرائيم نون، والد يوشع بن نون، ورحمة امرأة أيوب، عليه السلام.
وقال الفضيل بن عياض : وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق، حتى مَرّ يوسف، فقالت : الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته، والملوك عبيدا بمعصيته.
٢ - في ت :"وأكبر"..
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: وَقَفَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، حَتَّى مَرّ يُوسُفُ، فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعَبِيدَ مُلُوكًا بِطَاعَتِهِ، وَالْمُلُوكَ عَبِيدًا بِمَعْصِيَتِهِ.
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) ﴾
ذَكَرَ السُّدي، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي أَقْدَمَ إِخْوَةَ يُوسُفَ بِلَادَ مِصْرَ، أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا بَاشَرَ الْوَزَارَةَ بِمِصْرَ، وَمَضَتِ السَّبْعُ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةُ، ثُمَّ تَلَتْهَا سنينُ الْجَدْبِ، وَعَمَّ الْقَحْطُ بِلَادَ مِصْرَ بِكَمَالِهَا، وَوَصَلَ إِلَى بِلَادِ كَنْعَانَ، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا يَعْقُوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَوْلَادُهُ. وَحِينَئِذٍ احْتَاطَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِلنَّاسِ فِي غَلَّاتِهِمْ، وَجَمَعَهَا أَحْسَنَ (٢) جَمْعٍ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ مَبْلَغٌ عَظِيمٌ، وأهراءَ مُتَعَدِّدَةٌ هَائِلَةٌ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْأَقَالِيمِ وَالْمُعَامَلَاتِ، يَمْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ، فَكَانَ لَا يُعْطَى الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِ بِعِيرٍ فِي السَّنَةِ. وَكَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يُشْبِعُ نَفْسَهُ وَلَا يَأْكُلُ هُوَ وَالْمَلِكُ وَجُنُودُهُمَا إِلَّا أَكْلَةً وَاحِدَةً فِي وَسَطِ النَّهَارِ، حَتَّى يَتَكَفَّى النَّاسُ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ مُدَّةَ السَّبْعِ سِنِينَ. وَكَانَ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ.
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّهُ بَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الْأَوْلَى بِالْأَمْوَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْمَتَاعِ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِكَذَا، وَفِي الرَّابِعَةِ بِكَذَا، حَتَّى بَاعَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بَعْدَمَا تَمَلَّك عَلَيْهِمْ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُونَ، ثُمَّ أَعْتَقَهُمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، اللَّهُ (٣) أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تَكْذَّبُ.
وَالْغَرَضُ أَنَّهُ كَانَ فِي جُمْلَةِ مِنْ وَرَدَ لِلْمِيرَةِ إخوةُ يُوسُفَ، عَنْ أَمْرِ أَبِيهِمْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ بَلَغَهُمْ أَنَّ عَزِيزَ مِصْرَ يُعْطِي النَّاسَ الطَّعَامَ بِثَمَنِهِ، فَأَخَذُوا مَعَهُمْ بِضَاعَةً يَعْتَاضُونَ بِهَا طَعَامًا، وَرَكِبُوا عَشَرَةُ نَفَرٍ، وَاحْتَبَسَ يَعْقُوبُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عِنْدَهُ بِنْيَامِينَ شَقِيقَ يُوسُفَ، عَلَيْهِمَا (٤) السَّلَامُ، وَكَانَ أَحَبَّ وَلَدِهِ إِلَيْهِ بَعْدَ يُوسُفَ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أُبَّهَتِهِ وَرِيَاسَتِهِ وَسِيَادَتِهِ، عَرَفَهُمْ حِينَ نَظَرَ إِلَيْهِمْ، ﴿وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ أَيْ: لَا يَعْرِفُونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ حَدَثٌ فَبَاعُوهُ (٥) لِلسَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهِ، وَلَا كَانُوا يَسْتَشْعِرُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنْ يَصِيرَ إِلَى مَا صَارَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ، وأما هو فعرفهم.
(٢) في ت: "أتم".
(٣) في ت: "والله".
(٤) في ت: "عليه".
(٥) في ت: "وباعوه".
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه١ على رجوعهم.
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه١ على رجوعهم.
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا، وهذا لحرصه١ على رجوعهم.
قيل : خشي يوسف، عليه السلام، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها. وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام. وقيل : أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم٢ والله أعلم.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ أَيْ: وَفَّاهم كَيْلَهُمْ، وَحَمَّلَ لَهُمْ أَحْمَالَهُمْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخِيكُمْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ، لِأَعْلَمَ صِدْقَكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ، ﴿أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ﴾ يُرَغِّبُهُمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَهَّبَهم فَقَالَ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ﴾ أَيْ: إِنْ لَمْ تَقْدَمُوا بِهِ مَعَكُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي مِيرَةٌ، ﴿وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ أَيْ: سَنَحْرِصُ عَلَى مَجِيئِهِ إِلَيْكَ بِكُلِّ مُمْكِنٍ وَلَا نُبْقِي مَجْهُودًا لِتَعْلَمَ صِدْقَنَا فِيمَا قُلْنَاهُ.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ: أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُمْ رَهَائِنَ حَتَّى يَقْدُمُوا بِهِ مَعَهُمْ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَرَغَّبَهُمْ كَثِيرًا، وَهَذَا لِحِرْصِهِ (٢) عَلَى رُجُوعِهِمْ.
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ أَيْ: غِلْمَانِهِ ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾ وَهِيَ الَّتِي قَدِمُوا بِهَا لِيَمْتَارُوا عِوَضًا عَنْهَا ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾ أَيْ: فِي أَمْتِعَتِهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ بِهَا.
قِيلَ: خَشِيَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَلَّا يَكُونَ عِنْدَهُمْ بِضَاعَةٌ أُخْرَى يَرْجِعُونَ لِلْمِيرَةِ بِهَا. وَقِيلَ: تَذَمَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ عِوَضًا عَنِ الطَّعَامِ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُمْ إِذَا وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ تَحَرُّجًا وَتَوَرُّعًا لِأَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ (٣) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) ﴾
(٢) في ت: "ولهذا بحرصه" وفي أ: "ولهذا يحرضهم".
(٣) في ت، أ: "منهم ذلك".
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ يَعْنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، إِنْ لَمْ تُرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا بِنْيَامِينَ، فَأَرْسِلْهُ مَعَنَا نَكْتَلْ.
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: [يَكْتَلْ] (١) بِالْيَاءِ، أَيْ يَكْتَلُ هُوَ، ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أَيْ: لَا تَخَفْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَيَرْجِعُ إِلَيْكَ. وَهَذَا كَمَا قَالُوا لَهُ فِي يُوسُفَ: ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (٢) ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَهُمْ: ﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: هَلْ أَنْتُمْ صَانِعُونَ بِهِ إِلَّا كَمَا صَنَعْتُمْ بِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، تُغَيِّبُونَهُ عَنِّي، وَتَحُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؟ ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حفظًا﴾ وقرأ بعضهم: "حَافِظًا"
(٢) في ت، أ: "نرتع ونلعب".
﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) ﴾
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَمَّا فَتَحَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مَتَاعَهُمْ، وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ، وَهِيَ الَّتِي كَانَ أَمَرَ يُوسُفُ فِتْيَانَهُ بِوَضْعِهَا فِي رِحَالِهِمْ، فَلَمَّا وَجَدُوهَا فِي مَتَاعِهِمْ ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ ؟ أَيْ: مَاذَا نُرِيدُ؟ ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ. مَا نَبْغِي وَرَاءَ هَذَا (١) ؟ إِنَّ بِضَاعَتَنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَقَدْ أُوفِيَ لَنَا الْكَيْلُ.
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أَيْ: إِذَا أَرْسَلْتَ أَخَانَا مَعَنَا نَأْتِي بِالْمِيرَةِ إِلَى أَهْلِنَا، ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يُعْطِي كُلَّ رَجُلٍ حِمْلَ بَعِيرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حِمْلَ حِمَارٍ. وَقَدْ يُسَمَّى فِي بَعْضِ اللُّغَاتِ بَعِيرًا، كَذَا قَالَ.
﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ وَتَحْسِينِهِ، أَيْ: إِنَّ هَذَا يَسِيرٌ فِي مُقَابَلَةِ أَخْذِ أَخِيهِمْ مَا يَعْدِلُ هَذَا.
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾ أَيْ: تَحْلِفُونَ (٢) بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا كُلُّكُمْ وَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى تَخْلِيصِهِ.
﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ أَكَّدَهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: ﴿اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ بُدًّا مَنْ بَعْثِهِمْ لِأَجْلِ الْمِيرَةِ، الَّتِي لَا غنى لهم عنها، فبعثه معهم.
﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) ﴾
(٢) في ت: "تحلفوا".
﴿ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ﴾ أكده عليهم فقال :﴿ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ﴾
قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة، التي لا غنى لهم عنها، فبعثه معهم.
وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النَّخعي في قوله :﴿ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.
وقوله :﴿ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي : هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه١ ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع٢ ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾ قالوا : هي دفع إصابة العين لهم، ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾ قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾
٢ - في ت :"لا يمانع ولا يخالف".
.
وروى ابن أبي حاتم، عن إبراهيم النَّخعي في قوله :﴿ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ﴾ قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.
وقوله :﴿ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ أي : هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه١ ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع٢ ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾ قالوا : هي دفع إصابة العين لهم، ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾ قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه، ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾
٢ - في ت :"لا يمانع ولا يخالف".
.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخّعي فِي قَوْلِهِ: ﴿وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ قَالَ: عَلِمَ أَنَّهُ سَيَلْقَى إِخْوَتَهُ فِي بَعْضِ الْأَبْوَابِ.
وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أَيْ: هَذَا الِاحْتِرَازُ لَا يَرُدُّ قَدَرَ اللَّهِ وَقَضَاءَهُ (١) ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا لَا يُخَالَفُ وَلَا يُمَانَعُ (٢) ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ قَالُوا: هِيَ دَفْعُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ لَهُمْ، ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ قَالَ قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ: لَذُو عَمَلٍ بِعِلْمِهِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: لَذُو عِلْمٍ لِتَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ، ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى يُوسُفَ وَمَعَهُمْ أَخُوهُ شَقِيقُهُ بِنْيَامِينُ، فَأَدْخَلَهُمْ دَارَ كَرَامَتِهِ وَمَنْزِلَ ضِيَافَتِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِمُ الصِّلَةَ وَالْإِلْطَافَ وَالْإِحْسَانَ، وَاخْتَلَى بِأَخِيهِ فَأَطْلَعَهُ عَلَى شَأْنِهِ، وَمَا جَرَى لَهُ، وعَرّفه أَنَّهُ أَخُوهُ، وَقَالَ لَهُ: "لَا تَبْتَئِسْ" أَيْ: لَا تَأْسَفْ عَلَى مَا صَنَعُوا بِي، وَأَمَرَهُ بِكِتْمَانِ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَأَلَّا يُطْلِعَهُمْ عَلَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ أَخُوهُ، وَتَوَاطَأَ مَعَهُ أَنَّهُ سَيَحْتَالُ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُ عِنْدَهُ، مُعزّزًا مكرما معظما.
(٢) في ت: "لا يمانع ولا يخالف".
لَمَّا جَهَّزَهُمْ وحَمَّل لَهُمْ أَبْعِرَتَهُمْ طَعَامًا، أَمَرَ بَعْضَ فِتْيَانِهِ أَنْ يَضَعَ "السِّقَايَةَ"، وَهِيَ: إِنَاءٌ مِنْ فِضَّةٍ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ. وَقِيلَ: مِنْ ذَهَبٍ -قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ -كَانَ يَشْرَبُ فِيهِ، وَيَكِيلُ لِلنَّاسِ بِهِ مِنْ عزَّة الطَّعَامِ إِذْ ذَاكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ قَالَ: كَانَ مِنْ
وقال شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس :﴿ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ قال : كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكوك، وكان للعباس مثلُه في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم :﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ فالتفتوا إلى المنادي وقالوا :﴿ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ أي : صاعه الذي يكيل به، ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ وهذا من باب الجُعَالة، ﴿ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ وهذا من باب الضمان والكفالة.
وقال شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس :﴿ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ قال : كان من فضة يشربون فيه، وكان مثل المكوك، وكان للعباس مثلُه في الجاهلية، فوضعها في متاع بنيامين من حيث لا يشعر أحد، ثم نادى مناد بينهم :﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ فالتفتوا إلى المنادي وقالوا :﴿ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ﴾ أي : صاعه الذي يكيل به، ﴿ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ﴾ وهذا من باب الجُعَالة، ﴿ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ﴾ وهذا من باب الضمان والكفالة.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) ﴾
لَمَّا اتَّهَمَهُمْ أُولَئِكَ الْفِتْيَانُ بِالسَّرِقَةِ، قَالَ لَهُمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ أَيْ: لَقَدْ تَحَقَّقْتُمْ وَعَلِمْتُمْ مُنْذُ (١) عَرَفْتُمُونَا، لِأَنَّهُمْ (٢) شَاهَدُوا مِنْهُمْ سِيرَةً حَسَنَةً، أنَّا مَا جِئْنَا لِلْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ، أَيْ: لَيْسَتْ سَجَايَانَا تَقْتَضِي هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَالَ (٣) لَهُمُ الْفِتْيَانُ: ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ﴾ أَيِ: السَّارِقُ، إِنْ كَانَ فِيكُمْ ﴿إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾ أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ عُقُوبَتَهُ إِنْ وَجَدْنَا فِيكُمْ مِنْ أَخَذَهُ (٤) ؟ ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾
وَهَكَذَا كَانَتْ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ: أَنَّ السَّارِقَ يُدْفَعُ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ، أَيْ فَتَّشَهَا قَبْلَهُ، تَوْرِيَةً، ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ فَأَخَذَهُ مِنْهُمْ بِحُكْمِ اعْتِرَافِهِمْ وَالْتِزَامِهِمْ وَإِلْزَامًا لَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ وَهَذَا مِنَ الْكَيْدِ الْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذَهُ فِي حُكْمِ مَلِكِ مِصْرَ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ.
وَإِنَّمَا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ أَنِ (٥) الْتَزَمَ لَهُ إِخْوَتُهُ بِمَا الْتَزَمُوهُ، وَهُوَ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا مَدَحَهُ تَعَالَى فَقَالَ: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ١١].
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَ عَالِمٌ إِلَّا فَوْقَهُ عَالِمٌ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بن جبير
(٢) في ت: "لا لأنهم".
(٣) في أ: "فقالت".
(٤) في أ: "فيهم من أخذها".
(٥) في ت: "أنه".
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ﴾ فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.
وقوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره.
وإنما قيض الله له أن٥ التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال :﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾ كما قال تعالى :﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [ المجادلة : ١١ ].
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم ]٦ وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال : يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا٧ قال عكرمة.
وقال قتادة :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم ".
٢ - في ت :"لا لأنهم"..
٣ - في أ :"فقالت"..
٤ - في أ :"فيهم من أخذها"..
٥ - في ت :"أنه"..
٦ - زيادة من ت، أ..
٧ - في ت، أ :"وكذا"..
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ﴾ فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.
وقوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره.
وإنما قيض الله له أن٥ التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال :﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾ كما قال تعالى :﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [ المجادلة : ١١ ].
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم ]٦ وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال : يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا٧ قال عكرمة.
وقال قتادة :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم ".
٢ - في ت :"لا لأنهم"..
٣ - في أ :"فقالت"..
٤ - في أ :"فيهم من أخذها"..
٥ - في ت :"أنه"..
٦ - زيادة من ت، أ..
٧ - في ت، أ :"وكذا"..
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد يوسف، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أي فتشها قبله، تورية، ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ﴾ فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة.
وقوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ﴾ أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر، قاله الضحاك وغيره.
وإنما قيض الله له أن٥ التزم له إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال :﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ﴾ كما قال تعالى :﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [ المجادلة : ١١ ].
﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت، الله العليم، وهو فوق كل عالم ]٦ وكذا روى سماك، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ قال : يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وهكذا٧ قال عكرمة.
وقال قتادة :﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بُدئ وتعلمت العلماء، وإليه يعود، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم ".
٢ - في ت :"لا لأنهم"..
٣ - في أ :"فقالت"..
٤ - في أ :"فيهم من أخذها"..
٥ - في ت :"أنه"..
٦ - زيادة من ت، أ..
٧ - في ت، أ :"وكذا"..
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ، مِنْهُ بُدئ وَتَعَلَّمَتِ الْعُلَمَاءُ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ "وَفَوْقَ كُلِّ عَالِمٍ عَلِيمٌ".
﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) ﴾
وَقَالَ (٣) إِخْوَةُ يُوسُفَ لَمَّا رَأَوُا الصُّوَاعَ قَدْ أُخْرِجَ مِنْ مَتَاعِ بِنْيَامِينَ: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ يَتَنَصَّلُونَ إِلَى الْعَزِيزِ مِنَ التَّشَبُّهِ (٤) بِهِ، وَيَذْكُرُونَ أَنَّ هَذَا فَعَلَ كَمَا فَعَل أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، يَعْنُونَ بِهِ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ (٥) كَانَ يُوسُفُ قَدْ سَرَقَ صَنَمًا لِجَدِّهِ، أَبِي أُمِّهِ، فَكَسَرَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَا دَخَلَ عَلَى يُوسُفَ مِنَ الْبَلَاءِ، فِيمَا بَلَغَنِي، أَنَّ عَمَّتَهُ ابْنَةَ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ أَكْبَرَ وَلَدِ إِسْحَاقَ، وَكَانَتْ إِلَيْهَا مِنْطَقَةُ إِسْحَاقَ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا بِالْكِبَرِ، فَكَانَ مَنِ اخْتَبَاهَا (٦) مِمَّنْ وَلِيَهَا كَانَ لَهُ سَلَما لَا يُنَازَعُ فِيهِ، يَصْنَعُ فِيهِ مَا يَشَاءُ (٧) وَكَانَ يَعْقُوبُ حِينَ ولُد لَهُ يُوسُفُ قَدْ حَضَنَتْهُ عَمَّتُهُ، فَكَانَ مِنْهَا وَإِلَيْهَا، فَلَمْ يُحب أحدٌ شَيْئًا مِنَ الْأَشْيَاءِ حُبَّهَا إِيَّاهُ، حَتَّى إِذَا تَرَعْرَعَ وَبَلَغَ سَنَوَاتٍ وَقَعَتْ نَفْسُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ فَأَتَاهَا، فَقَالَ: يَا أخيَّه (٨) سَلِّمِى إِلَيَّ يُوسُفَ، فَوَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا أَنَا بِتَارِكَتِهِ. ثُمَّ قَالَتْ: فَدَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَأَسْكُنُ عَنْهُ، لَعَلَّ ذَلِكَ يُسَلِّينِي عَنْهُ -أَوْ كَمَا قَالَتْ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا يَعْقُوبُ، عَمَدَتْ إِلَى مِنْطَقَةِ إِسْحَاقَ، فَحَزَمَتْهَا عَلَى يُوسُفَ مِنْ تَحْتِ ثِيَابِهِ، ثُمَّ قَالَتْ: فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَانْظُرُوا مَنْ أَخَذَهَا وَمَنْ أَصَابَهَا؟ فَالْتَمَسَتْ ثُمَّ قَالَتْ: اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ. فَكَشَفُوهُمْ فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لِي لسَلَمٌ، أَصْنَعُ فِيهِ مَا شِئْتُ. فَأَتَاهَا يَعْقُوبُ فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ لَهَا: أَنْتَ وَذَاكَ، إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَم لَكِ مَا أَسْتَطِيعُ غَيْرَ ذَلِكَ. فَأَمْسَكَتْهُ فَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ يَعْقُوبُ حَتَّى مَاتَتْ. قَالَ: فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إِخْوَةُ يُوسُفَ حِينَ صُنِعَ بِأَخِيهِ مَا صَنَعَ حِينَ أَخَذَهُ: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ (٩).
(٢) في ت، أ: "وكذا".
(٣) في ت، أ: "فقال".
(٤) في أ: "الشبه".
(٥) في ت، أ: "وقتادة".
(٦) في أ: "اختانها".
(٧) في ت، أ: "ما شاء".
(٨) في ت، أ: "يا أخته".
(٩) رواه الطبري في تفسير (١٦/١٩٦).
جَزَى بَنُوه أَبَا الْغَيْلَانِ عَنِ كبَرٍ | وحسْن فِعْلٍ (٤) كَمَا يُجزَى سِنِمَّارُ |
قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ﴾ قَالَ: أَسَرَ فِي نَفْسِهِ: ﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾
﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) ﴾
(٢) في ت: "يصفون".
(٣) هو سليط بن سعد، والبيت من شواهد ابن عقيل في شرحه على الألفية لابن مالك برقم (١٥٣).
(٤) في ت، أ: "ظن".
لَمَّا تَعَيَّنَ أخْذ بِنْيَامِينَ وَتَقَرَّرَ تَرْكُهُ عِنْدَ يُوسُفَ بِمُقْتَضَى اعْتِرَافِهِمْ، شَرَعُوا يَتَرَقَّقُونَ لَهُ وَيُعَطِّفُونَهُ عَلَيْهِمْ، فَ ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ يَعْنُونَ: وَهُوَ يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا وَيَتَسَلَّى بِهِ عَنْ وَلَدِهِ الَّذِي فَقَدَهُ، ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾ أَيْ: بَدَلَهُ، يَكُونُ عِنْدَكَ عِوَضًا عَنْهُ، ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (١) أَيْ: مِنَ الْعَادِلِينَ الْمُنْصِفَيْنِ الْقَابِلَيْنِ لِلْخَيْرِ. ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ أَيْ: كَمَا قُلْتُمْ وَاعْتَرَفْتُمْ، ﴿إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ [أَيْ] (٢) إِنْ أَخْذَنَا بَرِيئًا بِسَقِيمٍ.
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ تَخْلِيصِ أَخِيهِمْ بِنْيَامِينَ، الَّذِي قَدِ الْتَزَمُوا لِأَبِيهِمْ بِرَدِّهِ إِلَيْهِ، وَعَاهَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ، فَامْتَنَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، ﴿خَلَصُوا﴾ أَيِ: انْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ ﴿نَجِيًّا﴾ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ وَهُوَ رُوبيل، وَقِيلَ: يَهُوذَا، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِمْ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبِئْرِ عِنْدَمَا همّوا
(٢) زيادة من ت، أ.
﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ وهو رُوبيل، وقيل : يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله، قال لهم :﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ﴾ لتردنَّه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ﴾ أي : لن أفارق هذه البلدة، ﴿ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ﴾ في الرجوع إليه راضيًا عني، ﴿ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ﴾ قيل : بالسيف. وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ ١.
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه، ويبرءوا مما وقع بقولهم.
وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]٢ نعلم أن ابنك سرق٣.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق٤ له شيئا، إنما سألنا٥ ما جزاء السارق ؟
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ قيل : المراد مصر. قاله قتادة، وقيل : غيرها، ﴿ وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي : التي رافقناها، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فيما أخبرناك به، من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
٢ - زيادة من ت، أ..
٣ - في ت :"يسرق"..
٤ - في ت، أ :"سرق"..
٥ - في ت، أ :"سألناه"..
﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ وهو رُوبيل، وقيل : يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله، قال لهم :﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ﴾ لتردنَّه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ﴾ أي : لن أفارق هذه البلدة، ﴿ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ﴾ في الرجوع إليه راضيًا عني، ﴿ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ﴾ قيل : بالسيف. وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ ١.
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه، ويبرءوا مما وقع بقولهم.
وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]٢ نعلم أن ابنك سرق٣.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق٤ له شيئا، إنما سألنا٥ ما جزاء السارق ؟
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ قيل : المراد مصر. قاله قتادة، وقيل : غيرها، ﴿ وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي : التي رافقناها، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فيما أخبرناك به، من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
٢ - زيادة من ت، أ..
٣ - في ت :"يسرق"..
٤ - في ت، أ :"سرق"..
٥ - في ت، أ :"سألناه"..
﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ ﴾ وهو رُوبيل، وقيل : يهوذا، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله، قال لهم :﴿ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ ﴾ لتردنَّه إليه، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه، ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ ﴾ أي : لن أفارق هذه البلدة، ﴿ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ﴾ في الرجوع إليه راضيًا عني، ﴿ أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ﴾ قيل : بالسيف. وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴾ ١.
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه، ويبرءوا مما وقع بقولهم.
وقوله :﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾ قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]٢ نعلم أن ابنك سرق٣.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق٤ له شيئا، إنما سألنا٥ ما جزاء السارق ؟
﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ﴾ قيل : المراد مصر. قاله قتادة، وقيل : غيرها، ﴿ وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ أي : التي رافقناها، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا، ﴿ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ فيما أخبرناك به، من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
٢ - زيادة من ت، أ..
٣ - في ت :"يسرق"..
٤ - في ت، أ :"سرق"..
٥ - في ت، أ :"سألناه"..
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُخْبِرُوا أَبَاهُمْ بِصُورَةِ مَا وَقَعَ، حَتَّى يَكُونَ عُذْرًا لَهُمْ عِنْدَهُ وَيَتَنَصَّلُوا إِلَيْهِ، وَيَبْرَءُوا مِمَّا وَقَعَ بِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: مَا [كُنَّا] (٢) نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ سَرَقَ (٣).
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: مَا عَلِمْنَا فِي الْغَيْبِ أَنَّهُ يَسْرِقُ (٤) لَهُ شَيْئًا، إِنَّمَا سَأَلَنَا (٥) مَا جَزَاءُ السَّارِقِ؟
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ مِصْرُ. قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: غَيْرُهَا، ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ أَيِ: الَّتِي رَافَقْنَاهَا، عَنْ صِدْقِنَا وَأَمَانَتِنَا وَحِفْظِنَا وَحِرَاسَتِنَا، ﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ فِيمَا أَخْبَرْنَاكَ بِهِ، مِنْ أَنَّهُ سَرَقَ وَأَخَذُوهُ بِسَرِقَتِهِ.
﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) ﴾
قَالَ لَهُمْ كَمَا قَالَ لَهُمْ حِينَ جَاءُوا عَلَى قَمِيصِ يُوسُفَ بِدَمٍ كَذِبٍ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا جَاءُوا يَعْقُوبَ وَأَخْبَرُوهُ بِمَا يَجْرِي اتِّهَمَهُمْ، وَظَنَّ أَنَّهَا كَفَعْلَتِهِمْ بِيُوسُفَ ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ (٦).
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَمَّا كَانَ صَنِيعُهُمْ (٧) هَذَا مُرَتَّبًا عَلَى فِعْلِهِمُ الْأَوَّلِ، سُحب (٨) حُكْمُ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَصَحَّ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾
ثُمَّ تَرَجَّى (٩) مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَوْلَادَهُ الثَّلَاثَةَ: يُوسُفَ وأخاه بنيامين، وروبيل الذي أقام بديار
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) في ت: "يسرق".
(٤) في ت، أ: "سرق".
(٥) في ت، أ: "سألناه".
(٦) في ت، أ: "فقال" وهو خطأ.
(٧) في ت: "صبرنا".
(٨) في ت: "اسحب"، وفي أ: "استحب".
(٩) في ت: "يرجى".
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ أَيْ: أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ وَقَالَ مُتَذَكِّرًا حُزنَ يُوسُفَ الْقَدِيمَ الْأَوَّلَ: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ جَدَّد لَهُ حزنُ الِابْنَيْنِ (١) الْحُزْنَ الدَّفِينَ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ العُصْفُريّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ غيرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الِاسْتِرْجَاعَ، أَلَّا تَسْمَعُونَ إِلَى قَوْلِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ أَيْ: سَاكِتٌ لَا يَشْكُو أَمْرَهُ إِلَى مَخْلُوقٍ (٢) قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ كَمِيدٌ حَزِينٌ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ [حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى]، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ (٣) عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَكَ بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَاجْعَلْنِي لَهُمْ رَابِعًا. فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَا دَاوُدُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ بِسَبَبِي فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَإِنَّ إِسْحَاقَ بَذَلَ مُهْجَةَ (٤) دَمِهِ فِي سَبَبِي فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ، وَإِنَّ يَعْقُوبَ أَخَذْتُ مِنْهُ حَبِيبَهُ حَتَّى ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ، فَصَبَرَ، وَتِلْكَ بَلِيَّةٌ لَمْ تَنَلْكَ".
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَفِيهِ نَكَارَةٌ (٥) ؛ فَإِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ هُوَ الذَّبِيحُ، وَلَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ زَيْدِ بْنِ جُدْعَان لَهُ مَنَاكِيرُ وَغَرَائِبُ كَثِيرَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَقْرَبُ مَا فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَكَاهُ الْأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، عَنْ بَنِي (٦) إِسْرَائِيلَ كَكَعْبٍ وَوَهْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ يَنْقُلُونَ أَنَّ يَعْقُوبَ كَتَبَ إِلَى يُوسُفَ لَمَّا احْتَبَسَ أَخَاهُ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ يَتَلَطَّفُ لَهُ فِي رَدِّهِ، وَيَذْكُرُ لَهُ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتٍ مُصَابُونَ بِالْبَلَاءِ، فَإِبْرَاهِيمُ ابْتُلِيَ بِالنَّارِ، وَإِسْحَاقُ بِالذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ بِفِرَاقِ يُوسُفَ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ لَا يَصِحُّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّ لَهُ بَنُوهُ، وَقَالُوا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ بِهِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ أَيْ: لَا تُفَارِقُ تَذَكُّر يُوسُفَ، ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ أَيْ: ضَعِيفَ الْجِسْمِ، ضَعِيفَ الْقُوَّةِ، ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ يَقُولُونَ: وَإِنِ اسْتَمَرَّ بِكَ هَذَا الْحَالُ خَشِينَا عَلَيْكَ الْهَلَاكَ وَالتَّلَفَ.
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: أَجَابَهُمْ عَمَّا قَالُوا بِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي﴾
(٢) تفسير عبد الرزاق (١/٢٨٤) وروى موصولا ولا يصح.
(٣) في ت: "يزيد".
(٤) في ت: "مهجته"
(٥) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١١/٥٥٤) عَنْ عَفَّانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
(٦) في ت: "عن بعض بني".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يَعْنِي رُؤْيَا يُوسُفَ أَنَّهَا صِدْقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَهَا وَيُنْجِزَهَا. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (١) أَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ صَادِقَةٌ، وَأَنِّي سَوْفَ أَسْجُدُ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنَيَّة، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَانَ لِيَعْقُوبَ النَّبِيِّ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخٌ مُؤاخ لَهُ، فَقَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ وَقَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ قَالَ: الَّذِي (٢) أَذْهَبَ بَصَرِي الْبُكَاءُ (٣) عَلَى يُوسُفَ، وَأَمَّا الَّذِي قَوَّسَ ظَهْرِي فَالْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا يَعْقُوبُ، إِنَّ اللَّهَ يُقرئك السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَمَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَشْكُوَنِي إِلَى غَيْرِي؟ فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَشْكُو" (٤).
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، فيه نكارة.
(٢) في أ: "أما الذي".
(٣) في ت، أ: "فالبكاء".
(٤) ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٣٤٨) من طريق أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي غَنِيَّةَ، عن حفص بن عمر ابن الزبير، عن أنس بنحوه، وقال الحاكم: "حفص بن عمر بن الزبير، وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري". ورواه إسحاق بن راهويه ومن طريقه الحاكم في المستدرك (٢/٣٤٨) من طريق يحيى بن عبد الملك، عن أنس بن مالك مرسلا. ورواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" برقم (٤٧) من طريق زافر بن سليمان عن يحيى بن عبد الملك عن رجل، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعا. ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٣٤١) "مجمع البحرين" من طريق وهب بن بقية عن يحيى بن عبد المطلب عن حصين بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس مرفوعا. وبهذا يتبين أن الحديث مضطرب.
قال عبد الرزاق، أخبرنا الثوري، عن سفيان العُصْفُريّ، عن سعيد بن جبير أنه قال : لم يعط أحد غيرَ هذه الأمة الاسترجاع، ألا تسمعون إلى قول يعقوب، عليه السلام :﴿ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ أي : ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق٢ قاله قتادة وغيره.
وقال الضحاك :﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ كميد حزين.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا حماد بن سلمة [ حدثنا أبو موسى ]، عن علي بن زيد٣ عن الحسن، عن الأحنف بن قيس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن داود عليه السلام، قال : يا رب، إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب، فاجعلني لهم رابعا. فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود، إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن إسحاق بذل مهجة٤ دمه في سببي فصبر، وتلك بلية لم تنلك، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه حتى ابيضت عيناه من الحزن، فصبر، وتلك بلية لم تنلك ".
وهذا مرسل، وفيه نكارة٥ ؛ فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح، ولكن علي بن زيد بن جُدْعَان له مناكير وغرائب كثيرة، والله أعلم.
وأقرب ما في هذا أن يكون قد حكاه الأحنف بن قيس، رحمه الله، عن بني٦ إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما، والله أعلم، فإن الإسرائيليين ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رده، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء، فإبراهيم ابتلي بالنار، وإسحاق بالذبح، ويعقوب بفراق يوسف، في حديث طويل لا يصح، والله أعلم،
٢ - تفسير عبد الرزاق (١/٢٨٤) وروى موصولا ولا يصح..
٣ - في ت :"يزيد"..
٤ - في ت :"مهجته"..
٥ - ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (١١/٥٥٤) عن عفان، عن حماد بن سلمة به..
٦ - في ت :"عن بعض بني"..
أي : همي وما أنا فيه ﴿ إِلَى اللَّهِ ﴾ وحده ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أرجو منه كل خير.
وعن ابن عباس :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ [ يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وينجزها. وقال العوفي عن ابن عباس :﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ ١ أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سوف أسجد له.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غَنَيَّة، عن حفص بن عمر بن أبي الزبير، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كان ليعقوب النبي، عليه السلام، أخ مُؤاخ له، فقال له ذات يوم : ما الذي أذهب بصرك وقوّس ظهرك ؟ قال : الذي٢ أذهب بصري البكاء٣ على يوسف، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، عليه السلام، فقال : يا يعقوب، إن الله يُقرئك السلام ويقول لك : أما تستحيي أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. فقال جبريل، عليه السلام : الله أعلم بما تشكو " ٤. وهذا حديث غريب، فيه نكارة.
٢ - في أ :"أما الذي"..
٣ - في ت، أ :"فالبكاء"..
٤ - ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٣٤٨) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن حفص بن عمر ابن الزبير، عن أنس بنحوه، وقال الحاكم :"حفص بن عمر بن الزبير، وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري". ورواه إسحاق بن راهويه ومن طريقه الحاكم في المستدرك (٢/٣٤٨) من طريق يحيى بن عبد الملك، عن أنس بن مالك مرسلا. ورواه ابن أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" برقم (٤٧) من طريق زافر بن سليمان عن يحيى بن عبد الملك عن رجل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا. ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٣٤١) "مجمع البحرين" من طريق وهب بن بقية عن يحيى بن عبد المطلب عن حصين بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس مرفوعا. وبهذا يتبين أن الحديث مضطرب..
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّهُ نَدَبَ بَنِيهِ عَلَى (١) الذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ، يَسْتَعْلِمُونَ أَخْبَارَ يُوسُفَ وَأَخِيهِ بِنْيَامِينَ.
وَالتَّحَسُّسُ (٢) يَكُونُ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّجَسُّسُ يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ.
ونَهّضهم وَبَشَّرَهُمْ وَأَمْرَهُمْ أَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رُوحِ اللَّهِ، أَيْ: لَا يَقْطَعُوا رَجَاءَهُمْ وَأَمَلَهُمْ مِنَ اللَّهِ فِيمَا يَرُومُونَهُ وَيَقْصِدُونَهُ (٣) فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ الرَّجَاءَ، وَيَقْطَعُ الْإِيَاسَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَذَهَبُوا فَدَخَلُوا بلد (٥) مصر، ودخلوا على يوسف،
(٢) في ت: "والتجسس".
(٣) في ت، أ: "ويقصدون له".
(٤) في ت: "الكافرين".
(٥) في أ: "بلاد".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الرَّدِيءُ (١) لَا يَنفُق، مِثْلَ خَلَق الغِرارة، وَالْحَبْلِ، وَالشَّيْءِ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الدَّرَاهِمُ الرَّدِيئَةُ الَّتِي لَا تَجُوزُ إِلَّا بِنُقْصَانٍ. وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، والُّسدي.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ [وَعِكْرِمَةُ] (٢) هِيَ الدَّرَاهِمُ الفُسُول.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: هُوَ الصَّنَوْبَرُ وَحَبَّةُ الْخَضْرَاءِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَاسِدَةٌ لَا تُنْفَقُ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: جَاءُوا بحَبِّ البُطْم الْأَخْضَرِ وَالصَّنَوْبَرِ.
وَأَصْلُ الْإِزْجَاءِ: الدَّفْعُ لِضَعْفِ الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ حَاتِمٌ الطَّائِيُّ:
ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ | وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الَّليْلِ أرمَلا (٣) |
الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها | عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها (٤) |
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ برَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ يَقُولُونَ: تَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِقَبْضِ هَذِهِ الْبِضَاعَةِ الْمُزْجَاةِ، وَتَجَوَّزُ فِيهَا.
وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيُيْنَة: هَلْ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ: ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْهُ (٥) (٦).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحَارِثُ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا وَسُئِلَ: هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ لمن يبتغي الثواب.
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) البيت في تفسير الطبري (١٦/٢٣٥).
(٤) البيت في تفسير الطبري (١٦/٢٣٥).
(٥) في أ: "به".
(٦) تفسير الطبري (١٦/٢٤٢).
وقال ابن عباس : الرديء٢ لا يَنفُق، مثل خَلَق الغِرارة، والحبل، والشيء، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان. وكذا قال قتادة، والُّسدي.
وقال سعيد بن جبير [ وعكرمة ]٣ هي الدراهم الفُسُول.
وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء.
وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق.
وقال أبو صالح : جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر.
وأصل الإزجاء : الدفع لضعف الشيء، كما قال حاتم الطائي :
ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ *** وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الليل أرمَلا٤ وقال أعشى بني ثعلبة :
الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها *** عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها٥ وقوله إخبارا عنهم :﴿ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ﴾ أي : أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك. وقرأ ابن مسعود :" فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا ".
وقال ابن جريج :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ برَدِّ أخينا إلينا.
وقال سعيد بن جبير والسدي :﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة، وتجوز فيها.
وسئل سفيان بن عُيُيْنَة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله :﴿ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ رواه ابن جرير عن الحارث، عن القاسم، عنه ٦-٧.
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث، حدثنا القاسم، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود : سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي ؟ فقال : نعم، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.
٢ - في ت، أ :"الردي الذي لا "..
٣ - زيادة من ت، أ..
٤ - البيت في تفسير الطبري (١٦/٢٣٥)..
٥ - البيت في تفسير الطبري (١٦/٢٣٥)..
٦ - في أ :"به"..
٧ - تفسير الطبري (١٦/٢٤٢).
.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ إِخْوَتُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالضِّيقِ وَقِلَّةِ الطَّعَامِ وَعُمُومِ الْجَدْبِ، وَتَذَكَّرَ أَبَاهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ لِفَقْدِ وَلَدَيْهِ، مَعَ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ وَالتَّصَرُّفِ وَالسَّعَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَتْهُ رِقَّةٌ وَرَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ وَشَفَقَةٌ عَلَى أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ، وَبَدَرَهُ الْبُكَاءُ، فَتَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ، يُقَالُ (١) إِنَّهُ رَفَعَ التَّاجَ عَنْ جَبْهَتِهِ، وَكَانَ فِيهَا شَامَةٌ، وَقَالَ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ ؟ يَعْنِي: كَيْفَ فَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَمَلَكُمْ عَلَى هَذَا (٢) الْجَهْلُ بِمِقْدَارِ هَذَا الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ، وَقَرَأَ: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ١١٩].
وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِنَّمَا تَعَرَّفَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ إِنَّمَا أَخْفَى مِنْهُمْ نَفْسَهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ (٣) بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنْ لَمَّا ضَاقَ الْحَالُ وَاشْتَدَّ الْأَمْرُ، فَرَّج اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ الضِّيقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ (٤) [الشَّرْحِ: ٥، ٦]، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: ﴿أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ﴾ ؟
وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "أَوَ أَنْتَ (٥) يُوسُفُ"، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِن: "إنَّك لأنتَ (٦) يُوسُفُ". وَالْقِرَاءَةُ الْمَشْهُورَةُ هِيَ الْأُولَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِعْظَامِ، أَيْ: إِنَّهُمْ تَعجَّبوا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ مِنْ سَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يَعْرِفُهُمْ وَيَكْتُمُ نَفْسَهُ، فَلِهَذَا قَالُوا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِفْهَامِ: ﴿أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ ﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ أَيْ: بِجَمْعِهِ بَيْنَنَا بَعْدَ التَّفْرِقَةِ وَبَعْدَ الْمُدَّةِ، ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ يَقُولُونَ مُعْتَرِفِينَ لَهُ بِالْفَضْلِ وَالْأَثْرَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَالسَّعَةِ وَالْمُلْكِ، وَالتَّصَرُّفِ وَالنُّبُوَّةِ أَيْضًا -عَلَى قَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ أَنْبِيَاءَ -وَأَقَرُّوا لَهُ بِأَنَّهُمْ أَسَاءُوا إِلَيْهِ وَأَخْطَئُوا فِي حَقِّهِ.
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ يَقُولُ: لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَتْب عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، وَلَا أُعِيدُ (٧) ذَنْبَكُمْ فِي حَقِّي بَعْدَ اليوم.
(٢) في أ: "ذلك".
(٣) في ت، أ: "الأولتين".
(٤) في ت، أ: "إن" وهو خطأ.
(٥) في أ: "أو إنك".
(٦) في ت، أ: "وأنت".
(٧) في ت، أ: "ولا أعيد عليكم".
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف، عليه السلام، إنما تعرف إليهم بنفسه، بإذن الله له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين٣ بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾٤ [ الشرح : ٥، ٦ ]، فعند ذلك قالوا :﴿ أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ ﴾ ؟
وقرأ أبيّ بن كعب :" أو أنت٥ يُوسُفُ "، وقرأ ابن مُحَيْصِن :" إنَّك لأنتَ٦ يُوسُفُ ". والقراءة المشهورة هي الأولى ؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي : إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام :﴿ أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ﴾ ﴿ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ أي : بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.
٢ - في أ :"ذلك"..
٣ - في ت، أ :"الأولتين"..
٤ - في ت، أ :"إن" وهو خطأ..
٥ - في أ :"أو إنك"..
٦ - في ت، أ :"وأنت"..
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف، عليه السلام، إنما تعرف إليهم بنفسه، بإذن الله له في ذلك، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين٣ بأمر الله تعالى له في ذلك، والله أعلم، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق، كما قال تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾٤ [ الشرح : ٥، ٦ ]، فعند ذلك قالوا :﴿ أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ ﴾ ؟
وقرأ أبيّ بن كعب :" أو أنت٥ يُوسُفُ "، وقرأ ابن مُحَيْصِن :" إنَّك لأنتَ٦ يُوسُفُ ". والقراءة المشهورة هي الأولى ؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام، أي : إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر، وهم لا يعرفونه، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام :﴿ أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ﴾ ﴿ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ﴾ أي : بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة، ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق، والسعة والملك، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.
٢ - في أ :"ذلك"..
٣ - في ت، أ :"الأولتين"..
٤ - في ت، أ :"إن" وهو خطأ..
٥ - في أ :"أو إنك"..
٦ - في ت، أ :"وأنت"..
ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال :﴿ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
قال السدي : اعتذروا إلى يوسف، فقال :﴿ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ يقول : لا أذكر لكم ذنبكم.
وقال ابن إسحاق والثوري :﴿ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [ الْيَوْمَ ] ﴾ ٢ أي : لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ﴿ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ أي : يستر الله عليكم فيما فعلتم، ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾
٢ - زيادة من ت، أ..
قَالَ السُّدِّيُّ: اعْتَذَرُوا إِلَى يُوسُفَ، فَقَالَ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ يَقُولُ: لَا أَذْكُرُ لَكُمْ ذَنْبَكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيُّ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [الْيَوْمَ] ﴾ (١) أَيْ: لَا تَأْنِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ عِنْدِي فِيمَا صَنَعْتُمْ ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أَيْ: يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْتُمْ، ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) ﴾
يَقُولُ: اذْهَبُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ، ﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ وَكَانَ قَدْ عَميَ مِنْ كَثْرَةِ الْبُكَاءِ، ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أَيْ: بِجَمِيعِ بَنِي يَعْقُوبَ.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ أَيْ: خَرَجَتْ مِنْ مِصْرَ، ﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يَعْنِي: يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَنْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ بَنِيهِ: ﴿إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ تَنْسِبُونِي إِلَى الفَنَد والكِبَر.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي سِنَان، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الهُذَيْل قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتِ الْعِيرُ، هَاجَتْ رِيحٌ فَجَاءَتْ يَعْقُوبَ بِرِيحِ قَمِيصِ يُوسُفَ فَقَالَ: ﴿إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قَالَ: فَوَجَدَ رِيحَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ (٢).
وَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَشُعْبَةُ، وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي سِنَان، بِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ جُرَيْج: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُنْذُ افْتَرَقَا ثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: تُسَفّهون.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَيْضًا، وَالْحَسَنُ: تُهرّمون.
وَقَوْلُهُمْ: ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَفِي خَطَئِكَ الْقَدِيمِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَيْ مِنْ حُبِّ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ وَلَا تَسَلَاهُ، قَالُوا لِوَالِدِهِمْ كَلِمَةً غَلِيظَةً، لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقُولُوهَا لِوَالِدِهِمْ، وَلَا لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٣) وَكَذَا قَالَ السدي، وغيره.
(٢) تفسير عبد الرزاق (١/٢٨٦).
(٣) في أ: "عليه السلام".
قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل، عن أبي سِنَان، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْل قال : سمعت ابن عباس يقول :﴿ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ ﴾ قال : لما خرجت العير، هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال :﴿ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام١.
وكذا رواه سفيان الثوري، وشعبة، وغيرهما عن أبي سِنَان، به.
وقال الحسن وابن جُرَيْج : كان بينهما ثمانون فرسخا، وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة.
وقوله :﴿ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ قال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وسعيد بن جُبَيْر : تُسَفّهون.
وقال مجاهد أيضا، والحسن : تُهرّمون.
وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة، لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم١ وكذا قال السدي، وغيره.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: ﴿الْبَشِيرُ﴾ الْبَرِيدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ يَهُوذَا بْنُ يَعْقُوبَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: إِنَّمَا جَاءَ بِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالْقَمِيصِ وَهُوَ مُلَطَّخٌ بِدَمٍ كَذب، فَأَرَادَ (١) أَنْ يَغْسِلَ ذَلِكَ بِهَذَا، فَجَاءَ بِالْقَمِيصِ فَأَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِ أَبِيهِ، فَرَجَعَ بَصِيرًا.
وَقَالَ لِبَنِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ سَيَرُدُّهُ إليَّ، وَقَلْتُ لَكُمْ: ﴿إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ ؟. فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا لِأَبِيهِمْ مُتَرَفِّقِينَ لَهُ: ﴿يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ أَيْ: مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيّ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، وَابْنُ جُرَيْج وَغَيْرُهُمْ: أَرْجَأَهُمْ إِلَى وَقْتِ السَّحَر.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ إِسْحَاقَ يَذْكُرُ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَأْتِي الْمَسْجِدَ فَيَسْمَعُ (٢) إِنْسَانًا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُ، وَأَمَرْتَنِي فَأَطَعْتُ، وَهَذَا السَّحَرُ فَاغْفِرْ لِي". قَالَ: فَاسْتَمَعَ الصَّوْتَ فَإِذَا هُوَ مِنْ دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. فَسَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ أخَّر بَنِيهِ إِلَى السِّحْرِ بِقَوْلِهِ: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ (٣)
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ جُمُعَةٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْضًا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو (٤) أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ وعِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ يَقُولُ: حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَخِي يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ (٥).
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي رفعه نظر، والله أعلم.
(٢) في أ: "فسمع".
(٣) تفسير الطبري (١٦/٢٦١).
(٤) في ت: "بن".
(٥) تفسير الطبري (١٦/٢٦٢) وهذا إسناد فيه ثلاث علل: الأولى: عنعنه ابن جريج وهو مدلس لم يصرح بالسماع. الثانية: الوليد بن مسلم القرشي كان يهم في رفع الأحاديث ويدلس تدليس التسوية. الثالثة: سليمان بن عبد الرحمن تكلم فيه من جهة حفظه وبمثل هذا السند روي حديث دعاء نسيان القرآن، وسبق الكلام عليه في فضائل القرآن.
وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب.
قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كَذب، فأراد١ أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا.
وقال لبنيه عند ذلك :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أعلم أن الله سيرده إليَّ، وقلت لكم :﴿ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ ؟. فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له :﴿ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ أي : من تاب إليه تاب عليه.
قال ابن مسعود، وإبراهيم التَّيْمِيّ، وعمرو بن قيس، وابن جُرَيْج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السَّحَر.
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر، رضي الله عنه، يأتي المسجد فيسمع٢ إنسانا يقول :" اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحَرُ فاغفر لي ". قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود. فسأل عبد الله عن ذلك فقال : إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ ٣
وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة جمعة، كما قال ابن جرير : أيضا : حدثني المثنى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو٤ أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعِكْرِمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه٥.
وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم.
٢ - في أ :"فسمع"..
٣ - تفسير الطبري (١٦/٢٦١)..
٤ - في ت :"بن"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٢٦٢) وهذا إسناد فيه ثلاث علل : الأولى : عنعنه ابن جريج وهو مدلس لم يصرح بالسماع. الثانية : الوليد بن مسلم القرشي كان يهم في رفع الأحاديث ويدلس تدليس التسوية. الثالثة : سليمان بن عبد الرحمن تكلم فيه من جهة حفظه وبمثل هذا السند روي حديث دعاء نسيان القرآن، وسبق الكلام عليه في فضائل القرآن..
وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب.
قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كَذب، فأراد١ أن يغسل ذلك بهذا، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه، فرجع بصيرا.
وقال لبنيه عند ذلك :﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ أي : أعلم أن الله سيرده إليَّ، وقلت لكم :﴿ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ ؟. فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له :﴿ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ أي : من تاب إليه تاب عليه.
قال ابن مسعود، وإبراهيم التَّيْمِيّ، وعمرو بن قيس، وابن جُرَيْج وغيرهم : أرجأهم إلى وقت السَّحَر.
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر، رضي الله عنه، يأتي المسجد فيسمع٢ إنسانا يقول :" اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السَّحَرُ فاغفر لي ". قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود. فسأل عبد الله عن ذلك فقال : إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ ٣
وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة جمعة، كما قال ابن جرير : أيضا : حدثني المثنى، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو٤ أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جُرَيْج، عن عطاء وعِكْرِمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة، وهو قول أخي يعقوب لبنيه٥.
وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم.
٢ - في أ :"فسمع"..
٣ - تفسير الطبري (١٦/٢٦١)..
٤ - في ت :"بن"..
٥ - تفسير الطبري (١٦/٢٦٢) وهذا إسناد فيه ثلاث علل : الأولى : عنعنه ابن جريج وهو مدلس لم يصرح بالسماع. الثانية : الوليد بن مسلم القرشي كان يهم في رفع الأحاديث ويدلس تدليس التسوية. الثالثة : سليمان بن عبد الرحمن تكلم فيه من جهة حفظه وبمثل هذا السند روي حديث دعاء نسيان القرآن، وسبق الكلام عليه في فضائل القرآن..
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ وُرُودِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقُدُومِهِ بِلَادَ (١) مِصْرَ، لَمَّا كَانَ يُوسُفُ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى إِخْوَتِهِ أَنْ يَأْتُوهُ بِأَهْلِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَتُحُمِّلُوا عَنْ آخِرِهِمْ وَتَرَحَّلُوا مِنْ بِلَادِ كَنْعَانَ قَاصِدِينَ بِلَادَ (٢) مِصْرَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِاقْتِرَابِهِمْ خَرَجَ لِتَلَقِّيهِمْ، وَأَمَرَ [الْمَلِكُ] (٣) أُمَرَاءَهُ وَأَكَابِرَ النَّاسِ بِالْخُرُوجِ [مَعَ يُوسُفَ] (٤) لِتَلَقِّي نَبِيَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُقَالُ: إِنَّ الْمَلِكَ خَرَجَ أَيْضًا لِتَلَقِّيهِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ.
وَقَدْ أُشْكِلَ قَوْلُهُ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ عَلَى كَثِيرٍ (٥) مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ وَآوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، وَرَفَعَهُمَا عَلَى الْعَرْشِ.
وَقَدْ رَدَّ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا. وَأَجَادَ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ اخْتَارَ مَا حَكَاهُ عَنِ السٌّدِّي: أَنَّ يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لَمَّا تَلَقَّاهُمَا، ثُمَّ لَمَّا وَصَلُوا بَابَ الْبَلَدِ قَالَ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾
وَفِي هَذَا نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ، كَقَوْلِهِ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ وَفِي الْحَدِيثِ: "مَنْ آوَى مُحْدِثًا" وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُمْ بَعْدَمَا دَخَلُوا عَلَيْهِ وَآوَاهُمْ إِلَيْهِ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ وضمَّنه: اسْكُنُوا مِصْرَ ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ أَيْ: مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْقَحْطِ، وَيُقَالُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ بِبَرَكَةِ قُدُومِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِمْ، كَمَا رَفَعَ بَقِيَّةَ السِّنِينَ الَّتِي دَعَا بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالَ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ"، ثُمَّ لَمَّا تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ وَاسْتَشْفَعُوا لَدَيْهِ، وَأَرْسَلُوا أَبَا سُفْيَانَ فِي ذَلِكَ، فَدَعَا لَهُمْ، فَرُفِعَ عَنْهُمْ بَقِيَّةُ ذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (٦).
وَقَوْلُهُ: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: إِنَّمَا كَانَ أَبَاهُ (٧) وَخَالَتَهُ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَدْ مَاتَتْ قَدِيمًا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ: كَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ يَعِيشَانِ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى مَوْتِ أُمِّهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يدل على حياتها. وهذا الذي نصره
(٢) في ت، أ: "ديار".
(٣) زيادة من ت، أ.
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في ت: "كثيرين".
(٦) رواه البخاري في صحيحه برقم (١٠٠٧) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٧) في ت: "أبوه".
وَقَوْلُهُ: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي السَّرِيرَ، أَيْ: أَجْلَسَهُمَا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ.
﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أَيْ: سَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ وَإِخْوَتُهُ الْبَاقُونَ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا ﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيِ: الَّتِي كَانَ قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٤]
وَقَدْ كَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرَائِعِهِمْ إِذَا سلَّموا عَلَى الْكَبِيرِ يَسْجُدُونَ لَهُ، وَلَمْ يَزَلْ هَذَا جَائِزًا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى شَرِيعَةِ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَحُرِّمَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ، وجُعل السُّجُودُ مُخْتَصًّا بِجَنَابِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هَذَا مَضْمُونُ قَوْلِ قَتَادَةَ وَغَيْرِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ مُعَاذًا قَدِمَ الشَّامَ، فَوَجَدَهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ سَجَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا مُعَاذُ؟ " فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ، وَأَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يُسْجَدَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ، لَأَمَرْتُ الزَّوْجَةَ (١) أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظم (٢) حَقِّهِ عَلَيْهَا" (٣)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: أَنَّ سَلْمَانَ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ طُرُق الْمَدِينَةِ، وَكَانَ سَلْمَانُ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، فَسَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "لَا تَسْجُدْ لِي يَا سَلْمَانُ، وَاسْجُدْ لِلْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ" (٤).
وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا كَانَ جَائِزًا فِي شَرِيعَتِهِمْ؛ وَلِهَذَا خَرُّوا لَهُ سُجَّدًا، فَعِنْدَهَا قَالَ يُوسُفُ: ﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ أَيْ: هَذَا مَا آلَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، فَإِنَّ التَّأْوِيلَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٥٣] أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَأْتِيهِمْ مَا وُعِدُوا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ أَيْ: صَحِيحَةً صِدْقا، يَذْكُرُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ أَيِ: الْبَادِيَةِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْج وَغَيْرُهُ: كَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وَمَاشِيَةٍ. وَقَالَ: كَانُوا يَسْكُنُونَ بالعَربَات مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، مِنْ غَوْرِ الشَّامِ. قَالَ: وَبَعْضٌ يَقُولُ: كَانُوا بِالْأَوْلَاجِ مِنْ نَاحِيَةِ شِعْبٍ أَسْفَلَ مِنْ حسمَى، وَكَانُوا أَصْحَابَ بادية وشاء (٥) وإبل.
(٢) في ت: "عظيم".
(٣) رواه أحمد في المسند (٤/٣٨١) وابن ماجه في السنن برقم (١٨٥٣) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن حبان.
(٤) رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (٢/١٠٣) من طريق شهر بن حوشب، عن سلمان رضي الله عنه، وسيأتي عند تفسير الآية: ٥٨ من سورة الفرقان.
(٥) في أ: "وماشية".
﴿ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ﴾ أي : سجد له أبواه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر رجلا ﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ﴾ أي : التي كان قصها على أبيه ﴿ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٤ ]
وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، ولم يزل هذا جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى، عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة، وجُعل السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى.
هذا مضمون قول قتادة وغيره.
وفي الحديث أن معاذا قدم الشام، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم، فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" ما هذا يا معاذ ؟ " فقال : إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال :" لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت الزوجة١ أن تسجد لزوجها من عِظم٢ حقه عليها " ٣ وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال :" لا تسجد لي يا سلمان، واسجد للحي الذي لا يموت " ٤.
والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا، فعندها قال يوسف :﴿ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ أي : هذا ما آل إليه الأمر، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر، كما قال تعالى :﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] أي : يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر.
وقوله :﴿ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ أي : صحيحة صِدْقا، يذكر نعم الله عليه، ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ﴾ أي : البادية.
قال ابن جُرَيْج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية. وقال : كانوا يسكنون بالعَربَات من أرض فلسطين، من غور الشام. قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمَى، وكانوا أصحاب بادية وشاء٥ وإبل.
﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ﴾ [ ثم قال ]٦ ﴿ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ﴾ أي : إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره وقدره، ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ﴾ بمصالح عباده ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ في أفعاله وأقواله، وقضائه وقدره، وما يختاره ويريده.
قال أبو عثمان النهدي، عن سليمان٧ كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.
قال عبد الله بن شداد : وإليها٨ ينتهي أقصى الرؤيا. رواه ابن جرير.
وقال أيضا : حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا هشام، عن الحسن قال : كان منذ٩ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الحزن قلبه، ودموعه تجري على خديه، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب١٠.
وقال هُشَيْم، عن يونس، عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة.
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، فغاب عن أبيه ثمانين١١ سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فمات وله عشرون ومائة سنة.
وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة.
وقال محمد بن إسحاق : ذُكر - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة - قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين١٢ سنة أو نحوها، وأن يعقوب، عليه السلام، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة، ثم قبضه الله إليه.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل بنو إسرائيل مصر، وهم ثلاثة وستون إنسانا، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.
وقال أبو إسحاق، عن مسروق : دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة. والله١٣ أعلم.
وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القُرَظي، عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر. وهم ستة وثمانون إنسانا، صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.
٢ - في ت :"عظيم"..
٣ - رواه أحمد في المسند (٤/٣٨١) وابن ماجه في السنن برقم (١٨٥٣) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن حبان..
٤ - رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (٢/١٠٣) من طريق شهر بن حوشب، عن سلمان رضي الله عنه، وسيأتي عند تفسير الآية : ٥٨ من سورة الفرقان..
٥ - في أ :"وماشية"..
٦ - زيادة من ت، أ..
٧ - في أ :"عن سلمان قال"..
٨ - في ت :"وإليه"..
٩ - في ت :"مذ"..
١٠ - تفسير الطبري (١/٢٧٣)..
١١ - في أ :"ثمانون"..
١٢ - في أ : أربعون"..
١٣ - في ت، أ :"فالله"..
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ (٢) كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَتَأْوِيلِهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: وَإِلَيْهَا (٣) يَنْتَهِي أَقْصَى الرُّؤْيَا. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مُنْذُ (٤) فَارَقَ يُوسُفُ يَعْقُوبَ إِلَى أن التقيا، ثمانون سنة، لم يفارق في الْحُزْنُ قَلْبَهُ، وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ عَبَدٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ يَعْقُوبَ (٥).
وَقَالَ هُشَيْم، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ: ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً.
وَقَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ (٦) سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَمَاتَ وَلَهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ بَيْنَهُمَا خَمْسٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ذُكر -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ غَيْبَةَ يُوسُفَ عَنْ يَعْقُوبَ كَانَتْ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً -قَالَ: وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ (٧) سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا، وَأَنَّ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَقِيَ مَعَ يُوسُفَ بَعْدَ أَنَّ قَدِمَ عَلَيْهِ مِصْرَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: دَخَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِصْرَ، وَهُمْ ثَلَاثَةٌ وَسِتُّونَ إِنْسَانًا، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَسَبْعُونَ أَلْفًا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وَتِسْعُونَ مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَاِمْرَأَةٍ. وَاللَّهُ (٨) أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ: اجْتَمَعَ آلُ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ بِمِصْرَ. وَهُمْ سِتَّةٌ وَثَمَانُونَ إِنْسَانًا، صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ، وَذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ، وَخَرَجُوا مِنْهَا وَهُمْ سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ وَنَيِّفٍ.
﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ﴾
(٢) في أ: "عن سلمان قال".
(٣) في ت: "وإليه".
(٤) في ت: "مذ".
(٥) تفسير الطبري (١/٢٧٣).
(٦) في أ: "ثمانون".
(٧) في أ: أربعون".
(٨) في ت، أ: "فالله".
وَهَذَا الدُّعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَرْفَعُ أُصْبُعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى" (٢).
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّحَاقَ بِالصَّالِحِينَ إِذَا حَانَ أَجْلُهُ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ؛ لَا أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي لِغَيْرِهِ: "أَمَاتَكَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ". وَيَقُولُ الدَّاعِي: "اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ".
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ شَمْلَهُ وَأَقَرَّ عَيْنَهُ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَغْمُورٌ فِي الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا وَغَضَارَتِهَا، فَاشْتَاقَ (٣) إِلَى الصَّالِحِينَ قَبْلَهُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا تَمَنَّى نَبِيٌّ قَطُّ الْمَوْتَ قَبْلَ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ (٤) وَالسُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ دَعَا بِذَلِكَ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ. كَمَا أَنَّ نُوحًا أَوَّلُ مَنْ قَالَ: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا﴾ [نُوحٍ: ٢٨] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ نَجَازَ ذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ قَتَادَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ (٥) فِي شَرِيعَتِنَا.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ (٦) مُتَمَنِّيًا الْمَوْتَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي" (٧).
[وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُمَا: " لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ إِمَّا مُحْسِنًا فَيَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوفاة
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٤٣٧) وصحيح مسلم برقم (٢٤٤٤).
(٣) في ت، أ: "واشتاق".
(٤) في ت، أ: "جريج".
(٥) في ت، أ: "لا يجوز هذا".
(٦) في ت، أ: "كان ولا بد".
(٧) المسند (٣/١٠١).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا مُعُان بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنِي عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أمامة قَالَ: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكَّرنا ورقَّقنا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ، فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي مُتُّ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا سَعْدُ أَعِنْدِي تَتَمَنَّى الْمَوْتَ؟ " فردَّد ذَلِكَ [ثَلَاثَ] (٣) مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ: "يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ، فَمَا طَالَ (٤) عُمُرُكَ، أَوْ حَسُن مِنْ عَمَلِكَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ" (٥)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا أَبُو يُونُسَ -هُوَ سُلَيم بْنُ جُبير -عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّهُ قَالَ: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يدعوَن (٦) بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَثق بِعَمَلِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ (٧) إِلَّا خَيْرًا" تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ (٨)
وَهَذَا فِيمَا إِذَا كَانَ الضُّرُّ خَاصًّا بِهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ (٩) فِتْنَةً فِي الدِّينِ فَيَجُوزُ سُؤَالُ الْمَوْتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ السَّحَرَةِ لَمَّا أَرَادَهُمْ فِرْعَوْنُ عَنْ دِينِهِمْ وتهدَّدهم بِالْقَتْلِ قَالُوا: ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢٦] وَقَالَتْ مَرْيَمُ لَمَّا أَجَاءَهَا الْمَخَاضُ، وَهُوَ الطَّلْقُ، إِلَى جذع النخلة ﴿يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٢٣] لِمَا تَعْلَمُ مِنْ أَنَّ النَّاسَ يَقْذِفُونَهَا بِالْفَاحِشَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَقَدْ حَمَلَتْ وَوَلَدَتْ، فَيَقُولُ الْقَائِلُ أَنَّى لَهَا هَذَا؟ وَلِهَذَا وَاجَهُوهَا أَوَّلًا بِأَنْ قَالُوا: ﴿يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ [مَرْيَمَ: ٢٧، ٢٨] فَجَعَلَ اللَّهُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْحَالِ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَأَنْطَقَ الصَّبِيَّ فِي الْمَهْدِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَانَ (١٠) آيَةً عَظِيمَةً وَمُعْجِزَةً بَاهِرَةً صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ (١١) وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ، الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، فِي قِصَّةِ الْمَنَامِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي فِيهِ: "وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً، فَتَوَفَّنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ" (١٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمْرٍو عَنْ (١٣) عَاصِمٍ عَنْ (١٤) عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدم الموت، والموت خير
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٤) في ت، أ: "فأطال".
(٥) المسند (٥/٢٦٦).
(٦) في ت، أ: "لا يدعو".
(٧) في ت، أ: "عمله".
(٨) المسند (٢/٣٥٠).
(٩) في أ: "كان فيه".
(١٠) في ت: "فكان".
(١١) في ت: "عليه السلام".
(١٢) المسند (٥/٢٤٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٣٥). وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح".
(١٣) في ت: "ابن".
(١٤) في ت: "ابن".
فَعِنْدَ حُلول الْفِتَنِ فِي الدِّينِ يَجُوزُ سُؤَالُ الْمَوْتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي آخِرِ إِمَارَتِهِ لَمَّا رَأَى أَنَّ الْأُمُورَ لَا تَجْتَمِعُ لَهُ، وَلَا يَزْدَادُ الْأَمْرُ إِلَّا شَدَّةً قَالَ: اللهمَّ، خُذْنِي إِلَيْكَ، فَقَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، لَمَّا وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ الْمِحَنُ وَجَرَى لَهُ مَا جَرَى مَعَ أَمِيرِ خُرَاسَانَ: اللَّهُمَّ تَوَفَّنِي إِلَيْكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَمُرُّ بِالْقَبْرِ -أَيْ فِي زَمَانِ الدَّجَّالِ -فَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَكَ" (٣) لِمَا يَرَى مِنَ الْفِتَنِ وَالزَّلَازِلِ وَالْبَلَابِلِ وَالْأُمُورِ الْهَائِلَةِ الَّتِي هِيَ فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: وذُكِرَ أَنَّ بَنِي يَعْقُوبَ الَّذِينَ فَعَلُوا بِيُوسُفَ مَا فَعَلُوا، اسْتَغْفَرَ لَهُمْ أَبُوهُمْ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَفَا عَنْهُمْ، وَغَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ.
[ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ] (٤) :
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، عَنْ يَزِيدُ الرَّقاشي، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَ لِيَعْقُوبَ شَمْلَهُ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ (٥) خَلَا ولدُه نَجِيًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَسْتُمْ قَدْ عَلِمْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ، وَمَا لَقِيَ مِنْكُمُ الشَّيْخُ، وَمَا لَقِيَ مِنْكُمْ يُوسُفُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَيَغُرُّكُمْ عَفْوُهُمَا عَنْكُمْ، فَكَيْفَ لَكَمَ بِرَبِّكُمْ؟ فَاسْتَقَامَ أَمْرُهُمْ عَلَى أَنْ أَتَوُا الشَّيْخَ فَجَلَسُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُوسُفُ إِلَى جَنْبِ أَبِيهِ قَاعِدًا، قَالُوا: يَا أَبَانَا، إِنَّا أَتَيْنَاكَ فِي أَمْرٍ، لَمْ نَأْتِكَ فِي مَثَلِهِ قَطُّ، وَنَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ. حَتَّى حَرَّكوه، وَالْأَنْبِيَاءُ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، أَرْحَمُ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ يَا بَنيّ؟ قَالُوا: أَلَسْتَ قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَّا إِلَيْكَ، وَمَا كَانَ مِنَّا إِلَى أَخِينَا يُوسُفَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالُوا: أَوَ لَسْتُمَا قَدْ عَفَوتما؟ قَالَا بَلَى. قَالُوا: فَإِنَّ عَفْوَكُمَا لَا يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا، إِنْ كَانَ اللَّهُ لَمْ يَعْفُ عَنَّا. قَالَ: فَمَا تُرِيدُونَ يَا بَنِيَّ؟ قَالُوا: نُريدُ أَنْ تدعوَ اللَّهَ لَنَا، فَإِذَا جَاءَكَ الْوَحْيُ مِنَ اللَّهِ بِأَنَّهُ قَدْ عَفَا عَمَّا صَنَعْنَا قَرَّتْ أَعْيُنُنَا، وَاطْمَأَنَّتْ قُلُوبُنَا، وَإِلَّا فَلَا قُرّة عَيْنٍ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا لَنَا. قَالَ: فَقَامَ الشَّيْخُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَامَ يُوسُفُ خَلْفَ أَبِيهِ، وَقَامُوا خَلْفَهُمَا أذلَّة خَاشِعِينَ. قَالَ: فَدَعَا وأمَّن يُوسُفُ، فَلَمْ يُجبْ فِيهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً -قَالَ صَالِحٌ الْمُرِّيُّ (٦) يُخِيفُهُمْ -قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ رَأْسُ الْعِشْرِينَ نَزَلَ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى يَعْقُوبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكَ أُبَشِّرُكَ بِأَنَّهُ قَدْ أَجَابَ دَعْوَتَكَ فِي وَلَدِكَ، وَأَنَّهُ قد عفا عما
(٢) المسند (٥/٤٢٧).
(٣) رواه مسلم في صحيح برقم (١٥٧/٥٤) من حديث أبي هريرة بلفظ "والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني كنت مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء".
(٤) زيادة من ت، أ.
(٥) في هـ، ت، أ: "شمله بعينه" والمثبت من الطبري".
(٦) في ت: المزى".
هَذَا الْأَثَرُ مَوْقُوفٌ عَنْ أَنَسٍ، وَيَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ وَصَالِحٌ الْمُرِّيُّ (٢) ضَعِيفَانِ جَدًّا.
وَذَكَرَ السُّدِّيُّ: أَنَّ يَعْقُوبَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ، أَوْصَى إِلَى يُوسُفَ بِأَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ، فَلَمَّا مَاتَ صَبَّره وَأَرْسَلَهُ إِلَى الشَّامِ، فَدُفِنَ عِنْدُهُمَا، عَلَيْهِمُ (٣) السَّلَامُ.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) ﴾
(٢) في ت: "المزي".
(٣) في ت: "عليهما".
يقرر تعالى أنه رسوله، وأنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ؛ ومع هذا ما آمن أكثر الناس ؛ ولهذا قال :﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾
وقال ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
يَقُولُ تَعَالَى لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، لَمَّا قَصَّ عَلَيْهِ نَبَأَ إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَكَيْفَ رَفَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ لَهُ الْعَاقِبَةَ وَالنَّصْرَ وَالْمُلْكَ وَالْحُكْمَ، مَعَ مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ السُّوءِ وَالْهَلَاكِ وَالْإِعْدَامِ: هَذَا وَأَمْثَالُهُ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَخْبَارِ الْغُيُوبِ السَّابِقَةِ، ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ وَنُعْلِمُكَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْعِبْرَةِ لَكَ وَالِاتِّعَاظِ لِمَنْ خَالَفَكَ، ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ حَاضِرًا عِنْدَهُمْ وَلَا مُشَاهِدًا لَهُمْ ﴿إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ﴾ أَيْ: عَلَى إِلْقَائِهِ فِي الْجُبِّ، ﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ بِهِ، وَلَكِنَّا أَعْلَمْنَاكَ بِهِ وَحْيًّا إِلَيْكَ، وَإِنْزَالًا عَلَيْكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤٤] إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤٦] وَقَالَ ﴿وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ [الْقَصَصِ: ٤٥] وَقَالَ ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِ﴾ [ص: ٦٩، ٧٠]
يُقَرِّرُ تَعَالَى أَنَّهُ رَسُولُهُ، وَأَنَّهُ قَدْ أَطْلَعَهُ عَلَى أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ مِمَّا فِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ وَنَجَاةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَمَعَ هَذَا مَا آمَنَ أَكْثَرُ النَّاسِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ وَقَالَ ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١١٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ أَيْ: وَمَا تَسْأَلُهُمْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَذَا النُّصْحِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ وَالرُّشْدِ مَنْ أَجْرٍ، أَيْ: مِنْ جُعَالة وَلَا أُجْرَةٍ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ تَفْعَلُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَنُصْحًا لِخَلْقِهِ.
﴿إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: يَتَذَكَّرُونَ بِهِ وَيَهْتَدُونَ، وَيَنْجُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ [غَفْلَةِ] (١) أَكْثَرِ النَّاسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَلَائِلِ تَوْحِيدِهِ، بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ كَوَاكِبَ زَاهِرَاتٍ ثَوَابِتَ، وَسَيَّارَاتٍ وَأَفْلَاكٍ دَائِرَاتٍ، وَالْجَمِيعُ مُسَخَّرَاتٌ، وَكَمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قِطَعٍ مُتَجَاوِرَاتٍ وَحَدَائِقَ وَجَنَّاتٍ وَجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ، وَبِحَارٍ زَاخِرَاتٍ، وَأَمْوَاجٍ مُتَلَاطِمَاتٍ، وَقِفَارٍ شَاسِعَاتٍ، وَكَمْ مِنْ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتٍ، وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، وَثَمَرَاتٍ مُتَشَابِهَةٍ وَمُخْتَلِفَاتٍ، فِي الطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، فَسُبْحَانَ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، خَالِقِ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ، الْمُتَفَرِّدِ بِالدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ وَالصَّمَدِيَّةِ ذِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ إِيمَانِهِمْ، إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ؟ وَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ وَمَنْ خَلَقَ الْجِبَالِ؟ قَالُوا: "اللَّهُ"، وَهُمْ مُشْرِكُونَ بِهِ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
وَهَكَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (٢) أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَفِي الصَّحِيحِ: أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَالُوا: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ" يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ قَدْ"، أَيْ حَسْبُ حَسْبُ، لَا تَزِيدُوا عَلَى هَذَا (٣).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لُقْمَانَ: ١٣] وَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَعْبُدُ مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك" (٤).
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قَالَ: ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ إِذَا عَمِلَ رِيَاءَ النَّاسِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعَمَلِهِ ذَاكَ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٢].
وثمَّ شِرْكٌ آخَرُ خَفِيٌّ لَا يَشْعُرُ بِهِ غَالِبًا فَاعِلُهُ، كَمَا رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُود، عَنْ عُرْوَة قَالَ: دَخَلَ حُذَيْفَةُ عَلَى مَرِيضٍ، فَرَأَى فِي عَضُدِهِ سَيْرًا فَقَطَعَهُ -أَوِ: انْتَزَعَهُ -ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
(٢) في ت، أ: "في صحيح مسلم".
(٣) صحيح مسلم برقم (١١٨٥/٢٢).
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٤٧٧) وصحيح مسلم برقم (٦٨).
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة شرْك" (٢).
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا: " [الطيَرة شِرْكٌ] (٣) وَمَا منَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ" (٤).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِأَبْسَطِ مِنْ هَذَا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ يَحْيَى الْجَزَّارِ (٥) عَنِ ابْنِ أَخِي، زَيْنَبَ [عَنْ زَيْنَبَ] (٦) امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ (٧) وَبَزَقَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ، قَالَتْ: وَإِنَّهُ جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَتَنَحْنَحَ وَعِنْدِي عَجُوزٌ تَرْقِينِي مِنَ الحُمْرَة فَأَدْخَلْتُهَا تَحْتَ السَّرِيرِ، قَالَتْ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِي، فَرَأَى فِي عُنُقِي خَيْطًا، قَالَ: مَا هَذَا الْخَيْطُ؟ قَالَتْ: قُلْتُ: خَيْطٌ رُقِى لِي فِيهِ. قَالَتْ: فَأَخَذَهُ فَقَطَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ آلَ عَبْدِ اللَّهِ لأغنياءٌ عَنِ الشِّرْكِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ والتِّوَلة شِرْكٌ". قَالَتْ، قُلْتُ لَهُ: لِمَ تَقُولُ هَذَا وَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ، فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى فُلَانٍ الْيَهُودِيِّ يَرْقِيهَا، فَكَانَ إِذَا رَقَاهَا سَكَنَتْ؟ قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ مِنَ الشَّيْطَانِ. كَانَ يَنْخُسُهَا بِيَدِهِ، فَإِذَا رَقَيْتِهَا كَفَّ عَنْهَا: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَذْهِبِ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا" (٨).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم (٩) وَهُوَ مَرِيضٌ نَعُودُهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَعَلَّقت شَيْئًا؟ فَقَالَ: أَتَعَلَّقُ شَيْئًا! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَعَلَّق شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ" (١٠) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (١١).
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ علَّق تَمِيمَةً
(٢) المسند (١/٣٨١) وسنن أبي داود برقم (٣٨٨٣) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٣٥٣٠).
(٣) زيادة من ت، أ، والمسند وسنن أبي داود.
(٤) المسند (١/٣٨٩) وسنن أبي داود برقم (٣٩١٠).
(٥) في ت، أ: "يحيى بن الجزار".
(٦) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٧) في ت: "تنجيح".
(٨) المسند (١/٣٨١).
(٩) في ت: "حكيم".
(١٠) المسند (٤/٣١٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٠٧٢) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به، وقال الترمذي: "وحديث عبد الله بن حكيم إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن حكيم لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "كتب إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(١١) سنن النسائي (٧/١١٢).
وَعَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكه". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٢).
وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ، يُنَادِي مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ". رَوَاهُ أَحْمَدُ (٣).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا لَيْث، عَنْ يَزِيدَ -يَعْنِي: ابْنَ الْهَادِ -عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إن أخْوَف ما أخاف عليكم الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ". قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا، فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً" (٤).
وَقَدْ رَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيد، بِهِ (٥).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، أَنْبَأَنَا ابْنُ لَهِيعة، أَنْبَأَنَا ابْنُ هُبَيْرة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحُبُلي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "من رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ (٦) وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ" (٧).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ العَرْزَمي، عَنْ أَبِي عَلِيٍّ -رَجُلٍ مِنْ بَنِي كَاهِلٍ -قَالَ: خَطَبَنَا أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقَوْا هَذَا الشِّرْكَ، فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيب النَّمْلِ. فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَزْن وَقَيْسُ بْنُ الْمُضَارِبِ فَقَالَا وَاللَّهِ لَتُخْرِجَنَّ (٨) مِمَّا قُلْتَ أَوْ لَنَأْتِيَنَّ عُمَرَ مَأْذُونًا لَنَا أَوْ غَيْرَ مَأْذُونٍ، قَالَ: بَلْ أخرج مما قلت، خطبنا رسول
(٢) صحيح مسلم برقم (٢٩٨٥).
(٣) المسند (٤/٢١٥).
(٤) المسند (٥/٤٢٨) وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.
(٥) رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٣) من طريق عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ به.
(٦) في ت: "لا غير إلا غيرك".
(٧) المسند (٢/٢٢٠) ورواه ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص ٢٩٣) مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ به، فصح الحديث بحمد الله.
(٨) في ت: "ليخرجن".
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَفِيهِ أَنَّ السَّائِلَ فِي ذَلِكَ هُوَ الصِّدِّيقُ، كَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ لَيْث بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ مَعْقِل بْنِ يَسَار قَالَ: شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أَوْ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلِ الشِّرْكُ إِلَّا مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا يُذهب عَنْكَ صَغِير ذَلِكَ وَكَبِيرَهُ؟ قُلِ: اللَّهُمَّ، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا لَا أَعْلَمُ" (٤).
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ فَرُّوخ، عَنْ يَحْيَى بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا". قَالَ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ النَّجَاةُ وَالْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِشَيْءٍ إِذَا قَلْتَهُ برئتَ مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ وَصَغِيرِهِ وَكَبِيرِهِ؟ ". قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ" (٥).
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ هَذَا يُقَالُ لَهُ: "أَبُو النَّضْرِ"، مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ عَاصِمٍ (٦) سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَقُولُهُ إِذَا أصبحتُ، وَإِذَا أمسيتُ، وَإِذَا أَخَذْتُ مَضْجَعِي. قَالَ: "قُلِ: اللَّهُمَّ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ" (٧).
وَزَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لَهُ مِنْ حَدِيثِ لَيْثٍ مِنْ أَبِي سُلَيْمٍ، [عَنْ مجاهد] (٨) عن أبي بكر الصديق قال:
(٢) زيادة من ت، أ، والمسند.
(٣) المسند (٤/٤٠٣).
(٤) مسند أبي يعلى (١/٦٢) ورواه ابن جريج عن ليث، عن أبي محمد، عن حذيفة نحوه، وأخرجه أبو يعلى في المسند (١/٦٠) وأبو محمد مجهول، وليث بن أبي سليم ضعيف.
(٥) ورواه أبو نعيم في الحلية (٧/١١٢) من طريق يحيى بن محمد البختري، عن شيبان بن فروخ به نحوه، وقال: "تفرد به عن الثوري يحيى بن كثير".
(٦) في هـ، أ: "عاص" والمثبت من ت والمسند.
(٧) المسند (١/٩) وسنن أبي داود برقم (٥٠٦٧) وسنن الترمذي برقم (٣٣٩٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٧٦٩١).
(٨) زيادة من ت، أ.
وهكذا في الصحيحين١ أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وفي الصحيح : أنهم كانوا إذا قالوا :" لبيك لا شريك لك " يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قَدْ قَدْ "، أي حَسْبُ حَسْبُ، لا تزيدوا على هذا٢.
وقال الله تعالى :﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] وهذا هو الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره، كما في الصحيحين. عن ابن مسعود قلت : يا رسول الله، أيّ الذنب أعظم ؟ قال :" أن تجعل لله ندا وهو خَلَقَك " ٣.
وقال الحسن البصري في قوله :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾ قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك، يعني قوله تعالى :﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ﴾ [ النساء : ١٤٢ ].
وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله، كما روى حماد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن عُرْوَة قال : دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرًا فقطعه - أو : انتزعه - ثم قال :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾
وفي الحديث :" من حلف بغير الله فقد أشرك ". رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية ابن عمر٤
وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره، عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة شرْك " ٥.
وفي لفظ لهما :" [ الطيَرة شرك ]٦ وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل " ٧.
ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مُرّة، عن يحيى الجزار٨ عن ابن أخي، زينب [ عن زينب ]٩ امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح١٠ وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه، قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير، قالت : فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، قال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رُقِى لي فيه. قالت : فأخذه فقطعه، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك ". قالت، قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت ؟ قال : إنما ذاك من الشيطان. كان ينخسها بيده، فإذا رقيتها كف عنها : إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقَمًا " ١١.
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد، عن وَكِيع، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى بن عبد الرحمن قال : دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم١٢ وهو مريض نعوده، فقيل له : تَعَلَّقت شيئا ؟ فقال : أتعلق شيئا ! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه " ١٣ ورواه النسائي عن أبي هريرة١٤.
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من علَّق تميمة فقد أشرك " وفي رواية :" من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودَعَةً فلا ودع الله له " ١٥ وعن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك، ومن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه ". رواه مسلم١٦.
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه، ينادي مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ". رواه أحمد١٧.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس، حدثنا لَيْث، عن يزيد - يعني : ابن الهاد - عن عمرو، عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن أخْوَف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ". قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال :" الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء " ١٨.
وقد رواه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لَبِيد، به١٩.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن، أنبأنا ابن لَهِيعة، أنبأنا ابن هُبَيْرة، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ردته الطيرة عن حاجة، فقد أشرك ". قالوا : يا رسول الله، ما كفارة ذلك ؟ قال :" أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك٢٠ ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك " ٢١.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي، عن أبي علي - رجل من بني كاهل - قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال : يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دَبِيب النمل. فقام عبد الله بن حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن٢٢ مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا أو غير مأذون، قال : بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم [ ذات يوم ]٢٣ فقال :" يا أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ". فقال له من شاء الله أن يقول : فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال :" قولوا : اللهم إنا نعوذ بك [ من ]٢٤ أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه " ٢٥.
وقد روي من وجه آخر، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق، كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي، من حديث عبد العزيز بن مسلم، عن لَيْث بن أبي سليم، عن أبي محمد، عن مَعْقِل بن يَسَار قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال : حدثني أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل ". فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل ". ثم قال :" ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره ؟ قل : اللهم، أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك مما لا أعلم " ٢٦.
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي، عن شيبان بن فَرُّوخ، عن يحيى بن كثير، عن الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا ". قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله، فكيف النجاة والمخرج من ذلك ؟ فقال :" ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره وصغيره وكبيره ؟ ". قال : بلى، يا رسول الله، قال :" قل : اللهم، إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم " ٢٧.
قال الدارقطني : يحيى بن كثير هذا يقال له :" أبو النضر "، متروك الحديث.
وقد روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وصححه، والنسائي، من حديث يعلى بن عطاء، سمعت عمرو بن عاصم٢٨ سمعت أبا هريرة قال : قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه : يا رسول الله، علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ، وإذا أمسيتُ، وإذا أخذت مضجعي. قال :" قل : اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه " ٢٩.
وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث من أبي سليم، [ عن مجاهد ]٣٠ عن أبي بكر الصديق قال :
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول. . . فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره :" وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم " ٣١.
٢ - صحيح مسلم برقم (١١٨٥/٢٢)..
٣ - صحيح البخاري برقم (٤٤٧٧) وصحيح مسلم برقم (٦٨)..
٤ - سنن الترمذي برقم (١٥٣٥)..
٥ - المسند (١/٣٨١) وسنن أبي داود برقم (٣٨٨٣) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (٣٥٣٠)..
٦ - زيادة من ت، أ، والمسند وسنن أبي داود..
٧ - المسند (١/٣٨٩) وسنن أبي داود برقم (٣٩١٠)..
٨ - في ت، أ :"يحيى بن الجزار"..
٩ - زيادة من ت، أ، والمسند..
١٠ - في ت :"تنجيح"..
١١ - المسند (١/٣٨١)..
١٢ - في ت :"حكيم"..
١٣ - المسند (٤/٣١٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٢٠٧٢) من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى به، وقال الترمذي :"وحديث عبد الله بن حكيم إنما نعرفه من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن حكيم لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول :"كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
١٤ - سنن النسائي (٧/١١٢)..
١٥ - المسند (٤/١٥٦) وقال المنذري في الترغيب (٤/٣٠٧) :"رجاله ثقات"..
١٦ - صحيح مسلم برقم (٢٩٨٥)..
١٧ - المسند (٤/٢١٥)..
١٨ - المسند (٥/٤٢٨) وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام..
١٩ - رواه البغوي في شرح السنة (١٤/٣٣٣) من طريق علي بن حجر، عن إسماعيل بن جعفر به..
٢٠ - في ت :"لا غير إلا غيرك"..
٢١ - المسند (٢/٢٢٠) ورواه ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص ٢٩٣) من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة به، فصح الحديث بحمد الله..
٢٢ - في ت :"ليخرجن"..
٢٣ - زيادة من ت، أ، والمسند..
٢٤ - زيادة من ت، أ، والمسند..
٢٥ - المسند (٤/٤٠٣)..
٢٦ - مسند أبي يعلى (١/٦٢) ورواه ابن جريج عن ليث، عن أبي محمد، عن حذيفة نحوه، وأخرجه أبو يعلى في المسند (١/٦٠) وأبو محمد مجهول، وليث بن أبي سليم ضعيف..
٢٧ - ورواه أبو نعيم في الحلية (٧/١١٢) من طريق يحيى بن محمد البختري، عن شيبان بن فروخ به نحوه، وقال :"تفرد به عن الثوري يحيى بن كثير"..
٢٨ - في هـ، أ :"عاص" والمثبت من ت والمسند..
٢٩ - المسند (١/٩) وسنن أبي داود برقم (٥٠٦٧) وسنن الترمذي برقم (٣٣٩٢) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٧٦٩١)..
٣٠ - زيادة من ت، أ..
٣١ - المسند (١/١٤)..
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: أَفَأَمِنَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ [بِاللَّهِ] (٢) أَنْ يَأْتِيَهُمْ أَمْرٌ يَغْشَاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [النَّحْلِ: ٤٥ -٤٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٩٧ -٩٩].
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) ﴾
يقول [الله] (٣) تعالى لعبد وَرَسُولِهِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، آمِرًا لَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ: أَنَّ هَذِهِ سَبِيلُهُ، أَيْ طَرِيقُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِهَا عَلَى بَصِيرة مِنْ ذَلِكَ، وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ، هُوَ وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ، يَدْعُو إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ شَرْعِيٍّ وَعَقْلِيٍّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ أَيْ: وَأُنَزِّهُ اللَّهَ وَأُجِلُّهُ وَأُعَظِّمُهُ وَأُقَدِّسُهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ نَظِيرٌ، أَوْ عَدِيلٌ أَوْ نَدِيدٌ، أَوْ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ صَاحِبَةٌ، أَوْ وَزِيرٌ أَوْ مُشِيرٌ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤].
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا أرسلَ رسُلَه مِنَ الرِّجَالِ لَا مِنَ النِّسَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوحِ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِ بَنِي آدَمَ وَحي تَشْرِيعٍ.
وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ سَارَّةَ امْرَأَةَ الْخَلِيلِ، وَأُمَّ مُوسَى، وَمَرْيَمَ أَمَّ عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة
(٢) زيادة من ت، أ.
(٣) زيادة من أ.
وَهَذَا الْقَدْرُ حَاصِلٌ لَهُنَّ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُنَّ نَبِيَّاتٍ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَائِلُ بِنُبُوَّتِهِنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّشْرِيفِ، فَهَذَا لَا شَكَّ فِيهِ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ مَعَهُ فِي أَنَّ هَذَا: هَلْ يَكْفِي فِي الِانْتِظَامِ فِي سَلْكِ النُّبُوَّةِ بِمُجَرَّدِهِ أَمْ لَا؟ الَّذِي عَلَيْهِ [أَئِمَّةُ] (١) أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ عَنْهُمْ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ، وَإِنَّمَا فِيهِنَّ صِدِّيقَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَشْرَفِهِنَّ مريمَ بِنْتِ عِمْرَانَ حَيْثُ قَالَ: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٧٥] فَوَصَفَهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهَا بِالصِّدِّيقَيةِ، فَلَوْ كَانَتْ نَبِيَّةً لَذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَقَامِ التَّشْرِيفِ وَالْإِعْظَامِ، فَهِيَ صِدِّيقَةٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ (٢) أَيْ: لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا قُلْتُمْ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْتَضِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ﴾ الْآيَةَ [الْفُرْقَانِ: ٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٨، ٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ الْآيَةَ [الْأَحْقَافِ: ٩].
وَقَوْلُهُ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الْمُرَادُ بِالْقُرَى: الْمُدُنُ، لَا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَوَادِي، الَّذِينَ هُمْ أَجْفَى النَّاسِ طِبَاعًا وَأَخْلَاقًا. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ الْمَعْرُوفُ أَنَّ أَهْلَ الْمُدُنِ أَرَقُّ طِبَاعًا، وَأَلْطَفُ مِنْ أَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَأَهْلُ الرِّيفِ وَالسَّوَادِ أَقْرَبُ حَالًا مِنَ الَّذِينَ يَسْكُنُونَ فِي الْبَوَادِي؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ﴾ [التَّوْبَةِ: ٩٧].
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ وَأَحْلَمُ مَنْ أَهْلَ الْعَمُودِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَعْرَابِ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةً، فَلَمْ يَزَلْ يُعْطِيهِ وَيَزِيدُهُ حَتَّى رَضِيَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَقَدْ هَمَمْتُ أَلَّا أَتَّهِبَ هِبَةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ، أَوْ أَنْصَارِيٍّ، أَوْ ثَقَفِيٍّ، أَوْ دَوْسِي". (٣)
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، عَنْ شَيْخٍ
(٢) في ت: "يوحى".
(٣) رواه أحمد في المسند (١/٢٩٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وزعم بعضهم : أن سارة امرأة الخليل، وأم موسى، ومريم أم عيسى نبيات، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وبقوله :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾ الآية. [ القصص : ٧ ]، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى، عليه السلام، وبقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [ آل عمران : ٤٢، ٤٣ ].
وهذا القدر حاصل لهن، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك، فإن أراد القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف، فهذا لا شك فيه، ويبقى الكلام معه في أن هذا : هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا ؟ الذي عليه [ أئمة ]١ أهل السنة والجماعة، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم : أنه ليس في النساء نبية، وإنما فيهن صديقات، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت عمران حيث قال :﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ﴾ [ المائدة : ٧٥ ] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن.
وقال الضحاك، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾٢ أي : ليسوا من أهل السماء كما قلتم. وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ ﴾ الآية [ الفرقان : ٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٨، ٩ ] وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ﴾ الآية [ الأحقاف : ٩ ].
وقوله :﴿ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ المراد بالقرى : المدن، لا أنهم من أهل البوادي، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرقّ طباعا، وألطف من أهل سوادهم، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في البوادي ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾ [ التوبة : ٩٧ ].
وقال قتادة في قوله :﴿ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود.
وفي الحديث الآخر : أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقد هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي، أو أنصاري، أو ثقفي، أو دَوْسِي ". ٣
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن يحيى بن وثاب، عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الأعمش : هو [ ابن ]٤ عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ". ٥ وقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ ﴾ [ يعني : هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض ]٦ ﴿ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ أي : من الأمم المكذبة للرسل، كيف دمر الله عليهم، وللكافرين أمثالها، كقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [ الحج : ٤٦ ]، فإذا استمعوا٧ خبر ذلك، رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ﴾ ٨ أي : وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا، وهي خير لهم من الدنيا بكثير، كما قال تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ﴾ [ غافر : ٥٠، ٥١ ].
وأضاف الدار إلى الآخرة فقال :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ ﴾ كما يقال :" صلاة الأولى " و " مسجد الجامع " و " عام الأول " و " بارحة الأولى " و " يوم الخميس ". قال الشاعر :
أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ٩ عَبْسًا | ألا لله أمَّكَ من هَجين |
وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ | عَرَفْتَ الذّلّ عرْفانَ اليَقين١٠ |
٢ - في ت :"يوحى"..
٣ - رواه أحمد في المسند (١/٢٩٥) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما..
٤ - زيادة من ت، أ، والمسند..
٥ - المسند (٢/٤٣)..
٦ - زيادة من ت..
٧ - في ت، أ :"استعملوا"..
٨ - في ت، أ :"يتقون" وهو خطأ..
٩ - في ت :"وتمدح"..
١٠ - البيتان في تفسير الطبري (١٦/٢٩٥)..
وَقَوْلُهُ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ﴾ [يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ فِي الْأَرْضِ،] (٣) ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أَيْ: مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِلرُّسُلِ، كَيْفَ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا، كَقَوْلِهِ: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الْحَجِّ: ٤٦]، فَإِذَا اسْتَمَعُوا (٤) خَبَرَ ذَلِكَ، رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ الْكَافِرِينَ وَنَجَّى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ كَانَتْ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ (٥) أَيْ: وَكَمَا أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ كَتَبْنَا لَهُمُ النَّجَاةَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ أَيْضًا، وَهِيَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بِكَثِيرٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٠، ٥١].
وَأَضَافَ الدَّارَ إِلَى الْآخِرَةِ فَقَالَ: ﴿وَلَدَارُ الآخِرَةِ﴾ كَمَا يُقَالُ: "صَلَاةُ الْأُولَى" وَ"مَسْجِدُ الْجَامِعِ" وَ"عَامُ الْأَوَّلِ" وَ "بَارِحَةُ الْأُولَى" وَ"يَوْمُ الْخَمِيسِ". قَالَ الشَّاعِرُ: أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ (٦) عَبْسًا... أَلَا لِلَّهِ أمَّكَ مِنْ هَجين...
وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ | عَرَفْتَ الذُّلَّ عرْفانَ اليَقين (٧) |
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ نَصْرَهُ يَنْزِلُ عَلَى رُسُلِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، عِنْدَ ضَيِّقِ الْحَالِ وَانْتِظَارِ الْفَرَجِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤]، وَفِي قَوْلِهِ: ﴿كُذِبُوا﴾ قِرَاءَتَانِ، إِحْدَاهُمَا بِالتَّشْدِيدِ: "قَدْ كُذِّبُوا"، وَكَذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، تَقْرَؤُهَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إبراهيم بن سعد، بن صالح، عن ابن شهاب قال:
(٢) المسند (٢/٤٣).
(٣) زيادة من ت.
(٤) في ت، أ: "استعملوا".
(٥) في ت، أ: "يتقون" وهو خطأ.
(٦) في ت: "وتمدح".
(٧) البيتان في تفسير الطبري (١٦/٢٩٥).
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُرْوَة، فَقُلْتُ: لَعَلَّهَا قَدْ كُذِبوا مُخَفَّفَةً؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللَّهِ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ. (٣)
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبَى مُلَيْكة: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَرَأَهَا: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ خَفِيفَةً -قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مُلَيْكة: ثُمَّ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا بَشَرًا (٤) وَتَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٤]، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وَأَبَتْهُ، وَقَالَتْ: مَا وَعَدَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ حَتَّى مَاتَ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بِالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أنَّ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كذَّبوهم. قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَقْرَؤُهَا "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبوا" مُثْقَلَةً، لِلتَّكْذِيبِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَ إِنْسَانٌ إِلَى الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ (٥) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ فَقَالَ الْقَاسِمُ: أَخْبِرْهُ عَنِّي أَنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ تَقُولُ: كَذَّبَتْهُمْ أَتْبَاعُهُمْ. إِسْنَادٌ صَحِيحٌ أَيْضًا.
وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ بِالتَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا تَقَدَّمَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فِيمَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحى، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَرَأَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ مُخَفَّفَةً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُوَ الَّذِي تَكْرَهُ. (٦)
وَهَذَا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مُخَالِفٌ لِمَا رَوَاهُ آخَرُونَ عَنْهُمَا. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَرَوَى الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قَالَ: لَمَّا أَيِسَتِ الرُّسُلُ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُمْ قَوْمُهُمْ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم،
(٢) في ت: "يكن".
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٥، ٤٦٩٦).
(٤) في أ: "بشروا".
(٥) في ت، أ: "يقرأ".
(٦) في أ: "يكره".
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ السُّلَمِيِّ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعلي بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَارِمٌ (٢) أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ (٣) حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي حُرة (٤) الجزرِيّ قَالَ: سَأَلَ فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، كَيْفَ هَذَا الْحَرْفُ، فَإِنِّي إِذَا أَتَيْتُ عَلَيْهِ تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَا أَقْرَأُ هَذِهِ السُّورَةَ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يصدِّقوهم، وَظَنَّ المرسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ كَذَبوا. فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مزاحم: ما رأيت كاليوم قط رجل يُدْعَى إِلَى عِلْمٍ فَيَتَلَكَّأُ! لَوْ رَحَلْتُ فِي هَذِهِ إِلَى الْيَمَنِ كَانَ قَلِيلًا.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: أَنَّ مُسْلِمَ بْنَ يَسَار سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ذَلِكَ، فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْجَوَابِ، فَقَامَ إِلَى سَعِيدٍ فَاعْتَنَقَهُ، وَقَالَ: فرَّج اللَّهُ عَنْكَ كَمَا فَرجت عَنِّي.
وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ، وَكَذَا فَسَّرَهَا مُجَاهِدُ بْنُ جَبْر، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، حَتَّى إِنَّ مُجَاهِدًا قَرَأَهَا: "وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا"، بِفَتْحِ الذَّالِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ مَنْ فَسَّرَهَا كَذَلِكَ يُعِيدُ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ إِلَى أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعِيدُهُ إِلَى الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ: وَظَنَّ الْكُفَّارُ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذبوا -مُخَفَّفَةً -فِيمَا وَعَدُوا بِهِ مِنَ النَّصْرِ.
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ (٥) عَنْ جَحش (٦) بْنِ زِيَادٍ الضَّبِّيِّ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ حَذْلَم قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ (٧) وَظَنَّ قَوْمُهُمْ حِينَ أَبْطَأَ الْأَمْرُ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبوا، بِالتَّخْفِيفِ. (٨)
فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَنْ كُلٍّ مِنَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ، وَانْتَصَرَ لَهَا ابْنُ جَرِيرٍ، وَوَجَّهَ الْمَشْهُورَ عَنِ الْجُمْهُورِ، وَزَيَّفَ الْقَوْلَ الْآخَرَ بِالْكُلِّيَّةِ، وردَّهُ وأبَاه، وَلَمْ يَقْبَلْهُ وَلَا ارْتَضَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (٩)
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١) ﴾
(٢) في ت: "غارم".
(٣) في أ: "شعبة".
(٤) في ت، أ: "أبي حمزة".
(٥) في أ: "فضل".
(٦) في ت، أ: "محسن".
(٧) في ت، أ: "لهم".
(٨) في ت، أ: "مخففة".
(٩) انظر ما قالته عائشة في: تفسير الطبري (١٦/٣٠٧، ٣٠٨) ورد الطبري لقول ابن عباس (١٦/٣٠٦).
آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ وَبِهِ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التكلان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(٢) في ت: "وترجع".