ﰡ
﴿ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي فازَ ونَجا وسَعِدَ المصدِّقون بالله ورسولهِ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" لَمَّا خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ، فِيْهَا مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ؛ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ؛ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ، قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي، فَقَالَتْ: قَدْ أفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - ثَلاَثاً - ثُمَّ قَالَتْ: أنَا حَرَامٌ عَلَى كُلِّ بَخِيْلٍ وَمُرَاءٍ "قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف: (قَدْ أُفْلِحَ الْمُؤْمِنُونَ) على الْمَجْهُولِ؛ أي أُبْقُوا في الثواب، وحرفُ (قَدْ) في اللُّغة لتزيينِ الكلام وتحسينه، وَقِيْلَ: لتقريب الحالة الماضية الى الحالةِ الآتية، فدلَّ على أن فلاحَهم قد حصلَ وهم عليه في الحالِ، وهو أبلغُ في الصِّفة من تجريدِ ذكر الفعل، والفَلاَحُ هو البقاءُ والنجاح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾؛ أي مُتواضِعُون خائفون، ويقالُ: سَاكِنُونَ بالقلب والجوارح فلا يَلْتَفِتُونَ يَميناً ولا شِمالاً، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ رَأى رَجُلاً يَعبَثُ بلِحْيَتِهِ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَلَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ " "، وعنه صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ كَانَ إذا وَقَفَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ، فلمَّا نزلت هذه الآيةُ جعل نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ "وحقيقة الخشوع: هو جَمْعُ الْهِمَّةِ لتدبُّر الأفعال والأذكارِ. وعن الحسنِ أنه قال: (إنَّ الْخَاشِعِيْنَ هُمْ الَّذِيْنَ لاَ يَرْفَعُونَ أيْدِيَهُمْ فِي الصَّلاَةِ إلاَّ فِي التَّكْبيْرَةِ الأُوْلَى) وقال ابنِ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ خَاشِعُونَ ﴾ أيْ أذِلاَّءُ)، وقال مجاهدُ: (الْخُشُوعُ هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ). وكان الرجلُ من العلماءِ إذا قامَ إلى الصلاةِ يخافُ الرحمنَ أن يُسْنِدَ بصرَهُ إلى شيءٍ، وأن يُحَدِّثَ نفسَهُ بشيءٍ من الدُّنيا. وقال عمرُو بن دينارٍ: (لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلاَةِ). وقال عطاءُ: (هُوَ أنْ لاَ تَعْبَثَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِكَ فِي الصَّلاَةِ)، وعن أبي ذرٍّ قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:" إذا قَامَ أحَدُكُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ، فَلاَ يُحَرِّكَنَّ الْحَصَى "وَقِيْلَ: نظرَ الْحَسَنُ إلى رجلٍ يعبثُ ويقول: اللهم زوِّجني مِن الْحُور العِيْنِ، فقال لهُ الحسنُ: (بئْسَ الْخَاطِبُ أنْتَ، تَخْطُبُ وَأنْتَ تَعْبَثُ). وقال قتادةُ: (الْخُشُوعُ هُوَ وَضْعُ الْيَمِيْنِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلاَةِ). وقال بعضُهم: (هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ لَهَا وَالإعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَنِ ٱللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ﴾؛ قال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: عَنِ الْمَعَاصِي مُعْرِضُونَ)، وقال الزجَّاج: (اللَّغْوُ هُوَ كُلُّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ وَهَزْلٍ). وقيل: اللَّغْوُ الذي يُعرِضون عنه: هو كلُّ ما لا فائدةَ فيه، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ﴾[الفرقان: ٧٢] أي شَغَلَهُمُ الْجِدُّ فيما أمرَهم اللهُ به عن كلِّ باطلٍ ولَهوٍ ولعب، وعن كلِّ ما لا فائدةَ فيهِ من قولٍ وفعل. وقال مقاتلُ: اللَّغوُ (هُوَ الشَّتْمُ وَالأَذى).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ ﴾؛ أي مؤدُّون، فعبَّرَ عن التأديةِ بالفعلِ لأنه فعلٌ. قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي بهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ)، وَقِيْلَ: معناهُ: والذينَ هُم للعملِ الصالح فَاعِلُونَ، ويدخلُ في هذا كلُّ فعلٍ يُذْكَرُ به الإنسانُ ويُحمَدُ عليهِ، كما يقالُ: ما أعطَى اللهُ أحداً نعمةً إلاّ أوجبَ عليه فيها زكاةً، فزكاةُ العلمِ نشرهُ وتعليمهُ، وزكاةُ الْجَاهِ إعانةُ الملهوفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾؛ أي يحفظونَها عن الحرامِ، ويغضُّون البصرَ عما لا يحلُّ لَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾؛ أي يُلامون في إطلاقِ ما حُرِّمَ عليهم إلاّ على أزواجِهم وإمَائِهم فإنَّهم لا يُلامون فيه. قال مجاهدُ: (يُفْرَضُ عَلَى الرَّجُلِ حِفْظُ فَرْجِهِ إلاَّ مِنَ امْرَأتِهِ وَأمَتِهِ، فَإنَّهُ لاَ يُلاَمُ عَلَى ذلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ ﴾؛ أي مَن طَلَبَ للوَطْئِ طريقاً سِوَى ما أحلَّ اللهُ من النساءِ الأربع أو ما مَلكت أيْمانُهم فأولئكَ همُ الْمُجَاوزُونَ من الحلالِ إلى الحرام، فمَن زنَى فهو عَادٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾؛ أي الذين هُم لِمَا ائْتُمِنُوا عليه فيما بينَهم وبين الله وبينَ الناس حَافِظُونَ حتى يؤدُّوه على وجههِ. والرَّعْيُ: هو القيامُ على إصلاحِ ما يتولاَّهُ، كما قال صلى الله عليه وسلم:" كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ "، وقال اللهُ تعالى﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا ﴾[النساء: ٥٨].
وقرأ ابنُ كثير: (لأَمَانَتِهِمْ) بالتَّوحيدِ لأنه مصدرٌ واسمُ جنسٍ فيقعُ على الكثيرِ، والأمانةُ قد تكون بين العبيدِ، كالودائعِ وأشباهِها، وتكون بين الله وعبيدهِ كالصِّيام والاغتسالِ من الجنابة والصَّلاة، فيجبُ على المؤمنينَ الوفاءُ بجميع حقوقِ الأمانات. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ يشتملُ على طاعةِ الله تعالى التي يجبُ الوفاء بها، وعلى جميعِ العقود والأيْمَانِ والنُّذور.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾؛ أي يُوَاظِبُونَ على الصَّلواتِ، ويجتهدون في أوقاتِها المداومون فيها بفرائِضِها وسُنَنِها وآدابها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْوَارِثُونَ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفات التي ذكَرَها اللهُ من أوَّل هذه السُّورة إلى هَاهُنا هُمُ الْوَارِثُونَ الذين يَرِثُونَ يومَ القيامةِ منازلَ أهلِ النَّارِ من الْجَنَّةِ التي كانت لَهم لو أطاعُوا اللهَ ورسولَهُ. قال صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَلَهُ مَنْزِلاَنِ، مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمْنِزلٌ فِي النَّارِ، فَإنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ الفِرْدَوْسُ في اللُّغة: هو الْبُسْتَانُ الْجَامِعُ لِمَحَاسِنِ أجْنَاسِ الْكُرُومِ وَغَيْرِهَا. وقال عكرمةُ: (الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْجَنَّةُ بلُغَةِ الْحَبَشَةِ). وفي الحديثِ:" أنَّ حَارِثَةَ بْنَ سُرَاقَةَ قُتِلَ يوْمَ بدْرٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إنْ كَانَ ابْنِي مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ أبْكِ عَلَيْهِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ بَالَغْتُ فِي الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: " يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إنَّ ابْنكِ قَدْ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ " ". وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ثُمَّ قرأ ﴿ قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ إلى آخرِ الآيات العشرِ "وقال مجاهدُ: (مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَرثَ الْفِرْدَوْسَ). قال ابنُ عبَّاس: (الْفِرْدَوْسُ خَيْرُ الْجِنَانِ)، وقالَ صلى الله عليه وسلم:" " إنَّ اللهَ غَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي؛ لاَ يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَدَيُّوثٌ " قَالُواْ: مَا الدَّيُّوثُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: " الَّذِي يَرْضَى الْفَوَاحِشَ لأَهْلِهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ﴾؛ أي خلقنا آدمَ من سُلالة سُلَّتْ مِن طينٍ، والسُّلاَلَةُ: ما سُلَّ مِن الشيءِ؛ أي نُزِعَ واسْتُخْرِجَ منهُ، يقالُ للنُّطفةِ: سُلاَلَةٌ، والولدُ سَلِيْلٌ وسُلاَلَةٌ. قال مجاهدُ: (السُّلاَلَةُ مَنِيُّ بَنِي آدَمَ)، وقال عكرمةُ: (هُوَ الْمَاءُ سُلَّ مِنَ الظَّهْرِ سَلاًّ)، والمرادُ بالانسانِ وَلَدُ آدمَ، وهو اسمُ جِنْسٍ يقعُ على الجميعِ. والمعنى: خَلَقْنَا ابْنَ آدَمَ من سُلالةٍ مِن طينٍ؛ أي من صَفْوَةِ ماء آدم الذي هو من طينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴾؛ ثُم خلقنا ولدَ آدمَ من نُطفة في موضعٍ حرير يعني الرَّحِمَ، مَكَنَ فيه الماءُ بأن هُيِّأَ لاستقرارهِ فيه إلى بُلوغِ أمره الذي جُعِلَ لَهُ. وإنَّما سُمي الْمَنِيُّ سُلاَلَةً؛ لأنه سُلَّ من أصلاب الرجل وتَرائِب النِّساءِ، ثُم يكون قرارهُ في أرحامِ الأمَّهاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾؛ أي صَيَّرْنَا النطفةَ دَماً منعَقِداً، ثم صيَّرنا الدمَ لَحماً بلا عظمٍ، والْمُضْغَةُ: هي القطعةُ الصغيرة من اللَّحم. وقولهُ تعالى: ﴿ فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً ﴾؛ أي حولنا المضغة عظاماً.
﴿ فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ﴾؛ أي ثم ألبسنا العظام لحماً؛ ليكون أبهى في النظر وليكون اللحم وقاية للعظم. وقرأ ابن عامر: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْماً فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ لَحْماً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾؛ بأنْ جعلنَا فيه الرُّوحَ بعد أن لَم يكن، ثُم جعلناه ذكَراً أو أُنْثَى إلى أن أعطيناهُ الفهمَ والتمييز ليأخذ ثَدْيَ أمِّهِ عند الحاجةِ فيرتضعُ ويشتكي إذا تَضَرَّرَ بشيءٍ. وقال مجاهدُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ﴾ يَعْنِي سَوَّيْنَا شَبَابَهُ). وقال قتادةُ: (يَعْنِي أنْبَتْنَا شَعْرَهُ وَأسْنَانَهُ). وَقِيْلَ: معناهُ: أعطيناهُ العقلَ والقوَّةَ والفهمَ، ورَبَّيْنَاهُ حالاً بعد حالٍ إلى أن بلغَ أن يتقلَّبَ في البلادِ. وَقِيْلَ: إذا اجتمعَ الماءُ المتخلِّقُ منه الولدُ، فأولُ الحالاتِ أن يزيدَ، ثُم يستحيلُ ذلك الماءُ علقةً، وهو دمٌ غبيطٌ، ثُم يصيرُ مُضغةً، وفي تلك الحالةِ تظهرُ الأعضاءُ النَّفِيْسَةُ كالقلب والدِّماغ والكبدِ، فالقلبُ أول عُضْوٍ مكَوَّنٍ ثُم الدماغُ ثُم الكبد، ثُم يُنَحَّى بعضُها عن بعضٍ، وتخطَّطُ الأطرافُ، ثُم يصير لَحماً على عِظَامٍ، وعظامُ البَدَنِ مائتان وأربعونَ عَظْماً، فإذا نُفِخَ فيه الروحُ لأربعةَ أشْهُرٍ انقسمَ دمُ الحيضِ ثلاثةَ أقسامٍ: قسمٌ يتغذى به الولدُ، وقسم يَحْتَبسُ إلى النِّفَاسِ، وقسمٌ يصعدُ إلى الثَّدي. وإنَّما ينفخُ الرُّوحُ في الجنينِ لأربعةِ أشهُرٍ؛ لأنه يكون نطفةً أربعين يوماً، ثُم يكون علقةً أربعين يوماً، ثُم يصير مضغةً أربعين يوماً، ثُم ينفخُ فيه الرُّوحُ. ويكون الولدُ في بطنِ أُمِّهِ معتمداً على رجليه وراحة يدَيه على رُكبتيه وظهرهُ إلى وجهِ الأم، ووجههُ إلى ظهرِها حتى لا تتأذى الأمُّ بنَفَسِهِ. وإنَّما خَلَقَ اللهُ عَيْنَيْهِ في رأسهِ لتكونُ مشرفةً على جميعِ الأعضاء في الجهات كلها، كالطَّليعةِ للعسكرِ، وأصلحُ المواضع للطلائعِ المكانُ الْمُشْرِفُ، وجعلَهُما في كَهْفَين حراسةً لَهما وتوفيراً لضوئِهما، وجعلَ لَهما الْهُدُبَ ليدفعَ ما نظر إليهما. وخلقَ اللهُ الأنفَ لينحصرَ فيه الهواءُ الْمُسْتَنْشَقُ لترويحِ الرِّئة والدماغ. وخلقَ الفَمَ وعاءً لجميعِ الكلام، وخلقَ اللِّسان آلةً للنُّطقِ، ولتقليب الطعام الممضوغِ، والمضغُ يكون في جانِبَي الفمِ حراسةً لأداةِ النُّطق. وخلقَ الشَّفَتين غطاءً للفمِ والأسنانِ، ويَحْجُبَ اللُّعَابَ، ومُعيناً على الكلامِ، وجَمالاً في الصُّورة، والأسنانُ تُقَطِّعُ؛ والأنيابُ تكسرُ؛ والأضراسُ تطحَنُ. وخصَّ الفكَّ الأسفلَ بالتحريكِ؛ لأن تحريكَ الأخفِّ أحسنُ، لأن الأعلى يشتملُ على الأعضاءِ الشَّريفة فلم يُخاطرها في الحركةِ؛ لأن الحركةَ تُضْعِفُهَا. وجعلَ ماءَ الأُذُنِ مُرّاً لئلاَّ يقيمَ فيه الْهَوَامُ، فإذا دخلَ الأُذُنَ دابَّةً لَم يكن لَها هَمٌّ إلاّ الخروجَ. وجعلَ ماءَ العين مالحاً لئلاَّ يذوبَ، وجعل ماءَ الفمِ عَذِباً ليُطَيِّبَ طعمَ الطعام. وخلقَ اللهُ الأصابعَ آلَةً لعملِ الأشياء كالكتابةِ والصِّناعة والخياطة، وجعلَها على الكفِّ لتحفظَ ما يُجعل فيها، ولَم يخلقِ الأصابعَ خاليةً من العظامِ لتكون أفعالُها قويَّة، ولَم يجعَلْ عِظَامَها مُجَوَّفَةً لتكون أقوَى على القبضِ والحركات. وجعل القلبَ في وسطِ الصَّدر لأنه أعدلُ الأماكنِ وقد مُيِّلَ قليلاً إلى اليسار ليبعدَ عن الكبد، والرِّئةُ، وغطاءً للقلب ووقايةً له، وهو بيتُ النَّفَسِ ومنْزِل الفَرَحِ. وخلقَ اللهُ الأمعاءَ كثيرة التَّلافِيْفِ ليطولَ سَتْرُ الغذاءِ، فلا يحتاجُ الإنسانُ إلى الغذاء في كلِّ وقتٍ، وخلقَ اللهُ القدم أخْمَصَ ليمسِكَ الماشيَ في الدَّرَجِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾؛ أي الْمُصَوِّريْنَ الْمُحَوِّلِيْنَ من حال إلى حالٍ، ومعنى قولهِ ﴿ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ ﴾ أي استحقَّ التعظيمَ والثناء، وَقِيْلَ: دَامَ لَم يزل ولا يزالُ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾ لا يقتضي أن يكون معهُ خالقٌ آخر كما قال﴿ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾[الفرقان: ٢٤]، ويقال: ﴿ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾ أي أحسنُ المقدِّرين، فإنَّ الخلقَ هو التقديرُ كما قال تعالى مُخبراً عن عيسى عليه السلام﴿ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ ﴾[آل عمران: ٤٩] أي أُقَدِّرُ لكم من الطَّير. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ شُرَيْحٍ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمْلَى عَلِيْهِ هَذِهِ الآيَةَ، فَلَمَّا بَلَغَ إلَى قَوْلِهِ ﴿ آخَرَ ﴾ خَطَرَ ببَالِهِ ﴿ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾، فَلَمَّا أمْلاَهَا عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كَذلِكَ، قَالَ عَبْدُاللهِ: إنَّ مُحَمَّداً نَبِيٌّ يُوحَى إلَيْهِ، وَأنَا نَبيٌّ يُوحَى إلَيَّ. فَلَحِقَ بمَكَّةَ فَمَاتَ كَافِراً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾؛ أي بعدَ الحياة والْخَلْقِ الْحَسْنِ والصُّورة الحسنة مَيِّتُونَ عند انقضاءِ آجَالِكُمْ. قرأ أشهبُ العقيليُّ: (لَمَائِتُونَ) بالألفِ، والْمَيِّتُ وَالْمَائِتُ الذي لَم تفارقهُ الروحُ وهو سيموتُ، والْمَيْتُ بالتخفيفِ الذي فارقَهُ الروحُ، فلذلكَ لَم يخفَّف كقول﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ﴾[الزمر: ٣٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾؛ يعني مِن قُبورِكم للجزاء والحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾؛ أي سبعَ سَماواتٍ، سُميت طرائقَ؛ لأن كل شيء فوقَ شيء فهو طريقةٌ، يقالُ: طَارَقْتُ نَعْلِي إذا جعلتُ جِلداً فوقَ جلدٍ. ويقالُ: سُميت طرائقُ لأنَّها طُرُقُ الملائكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ ٱلْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾؛ أي وما كُنَّا عن حِفْظِ السَّماوات، وعن إنزالِ المطر على العبادِ وقتَ الحاجةِ غافلينَ، ولو جَازَتِ الغفلةُ لَسَقَطَتِ السَّماواتُ بعضُها على بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي أنزلنا المطرَ من السَّماء بقدر الحاجةِ إليه؛ أي بقَدْر ما يكفيهم للمعيشةِ، وَقِيْلَ: بقدرٍ يعلمهُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي جعلنا سُكْنَاهُ ومستقرُّهُ في الأرضِ مثل العيون والغُدْرَانِ والرَّكَايَا. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" أنْزَلَ اللهُ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أنْهَارٍ: سِيْحُون وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ، وَجِيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلَخ، وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرا الْعِرَاقِ، وَالنِّيْلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ، أنْزَلَهَا اللهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَي جِبْرِيْلَ. وَذلِكَ قَوْلُهُ ﴿ فَأَسْكَنَّٰهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾.
فَإذا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أرْسَلَ اللهُ جِبْرِيْلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ ذلِكَ إلَى السَّمَاءِ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَٰدِرُونَ ﴾؛ فَإذا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ فَقَدَ أهَلُهَا خَيْرَ الدِّيْنِ وَالدُّنْيَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ﴾؛ أي أخرَجنا لكم بذلك المطرِ بساتينَ من نخيلٍ وكرُومٍ، وإنَّما خصَّها بالذِّكر لأنَّها أشرفُ الثِّمار، وقولهُ تعالى: ﴿ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ ﴾؛ سِوَى النخيلِ والأعناب.
﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾؛ بإباحةِ الله لكم تأكلونَها صيفاً وشِتاءً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ ﴾؛ أي وأنْبَتْنَا بذلكَ المطرِ شجرةً وهي الزيتونةُ تخرجُ من جبلِ سَيْنَاءَ للبركةِ، كأنه قالَ: من جبلِ البركةِ. وقُرِئ (طُورِ سَيْنَاءَ) بفتح السِّين. واختلفُوا في المرادِ بالطُّورِ، قال بعضُهم: هذا الجبلُ الذي نادَى موسَى ربَّهُ عندَهُ. يقالُ: إن أصلَ شجرةِ الزيتون من ذلكَ الجبلِ؛ أي أوَّلُ ما غُرِسَتْ فيه. وقال بعضُهم: هو جبلٌ بالشَّام كثيرُ الأشجارِ والأثْمارِ. وَقِيْلَ عن الزيتونةِ: أولُ شجرةٍ نَبتَتْ في الأرضِ بعد الطُّوفانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ ﴾؛ قرأ أكثرُ القرَّاءِ (تَنْبُتُ) بفتح التاءِ وضمِّ الباء؛ أي تنبتُ بثمار الدُّهن يعني الزَّيْتَ. وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بضمِّ التاءِ وكسرِ الباء، ومعناهُ معنى الأولِ. والباءُ في قولهِ تعالى (بالدُّهْنِ) للتعدِّي، يقالُ: أنْبَتَهُ وَنَبَتَ بهِ، وَنَبَتَ الشَّيْءُ وَأنْبَتَ بمعنى واحدٍ، قال الشاعرُ: رَأيْتُ ذوي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ قَطِيْناً لَهُمْ حَتَّى إذا أنْبَتَ الْبَقْلُويجوزُ أن تكون الباءُ زائدةً على قراءةِ من ضَمَّ التاءَ، كقوله﴿ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ ﴾[البقرة: ١٩٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ ﴾ يعني الإدَامَ، لأن الزيتَ إدامٌ يُصْبَغُ به الخبزُ، يقال: صِبْغٌ وصِبَاغٌ كما يقالُ: لِبْسٌ وَلِبَاسٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي ٱلأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ﴾؛ أي لَعِظَةً ودلالةً على وحدانيَّتنا لو اعتبرتُم واستدلَلْتم.
﴿ نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا ﴾ يعني اللَّبنَ.
﴿ وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ ﴾؛ مِن الأولادِ والأوتارِ والأصواف والأشعارِ والرُّكوب على الإبلِ.
﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾؛ يعني لُحومَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾؛ أي تُحملون على الإبلِ في البَرِّ وعلى السُّفن في البحرِ، وهذا كقولهِ تعالى﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾[الاسراء: ٧٠] يقالُ: إن اللهَ تعالى جعلَ للناسِ مركَبَين، مركباً لَيِّناً لسيرِ البَرِّ، ومركباً يَابساً لسيرِ البحرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾؛ أي أرسلناهُ إليهم ليدعوَهم إلى عبادَتِنا.
﴿ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ عبادةَ غيرهِ. ﴿ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ ﴾؛ أي الأشرافُ منهم والرؤساءُ قالوا لسُفائِهم: ﴿ مَا هَـٰذَا ﴾؛ الذي يدعوكُم إلى التوحيدِ.
﴿ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾؛ أي آدَمِيٌّ مثلُكم.
﴿ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي يَتَقَدَّمَ عليكم بدعوَى النبُوَّةِ ليكونَ له الفضلُ عليكم فتكونوا له تَبَعاً.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ ﴾؛ أن يُرسِلَ إلينا رسولاً مِن عنده.
﴿ لأَنزَلَ ﴾؛ أي لأرسلَ ﴿ مَلاَئِكَةً ﴾؛ مِن عنده.
﴿ مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا ﴾؛ بمِثْلِ هذه الدَّعوةِ.
﴿ فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ ولا أرْسَلَ إليهم بشراً.
﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ ﴾؛ أي قالوا: ما نوحُ إلاَّ رجلٌ به جُنُونٌ.
﴿ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾؛ أي فانتَظِروا حتى يَموت فنستريحَ منه. فلما يَئِسَ من إيْمانِهم؛ ﴿ قَالَ رَبِّ ٱنصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾؛ أي أعِنِّي عليهم بتكذيبهم إيَّايَ وجُحُودِهم نبُوَّتِي، والمعنى: انصُرْنِي عليهم بإهلاكِهم جَزَاءً لَهم بتكذيبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾؛ أي وأرسَلْنا إليه جبريلَ أن يُعَلِّمَهُ صنعةَ الفُلْكِ ليصنَعَها بمرأى مِنَّا.
﴿ فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا ﴾؛ بنجاتِكَ وإهلاكِهم.
﴿ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ﴾؛ ونبعَ الماءُ من تنُّورِ الخسارة. وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه: (أنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ ﴾ أيْ طَلَعَ الْفَجْرُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ ﴾؛ أي احْمِلْ في السَّفينة من كلِّ ذكَرٍ وأُنثى، كما رُوي أنَّ اللهَ تعالى حَشَرَ إليه جميعَ الحيواناتِ حتى أخذ مِن كلِّ جنسٍ زوجاً، ويقرأُ (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) بالتنوينِ، فعلى هذه القراءةِ يكون الفعلُ واقعاً على زوجَين، وأما على القراءةِ الثانية فالفعلُ واقعٌ على اثنينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَهْلَكَ ﴾؛ معناهُ: واحمِلْ فيها أهلَكَ.
﴿ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ ﴾؛ أي إلاّ من حَقَّ عليه العذابُ ﴿ مِنْهُمْ ﴾، لكُفْرِهِ وهو ابنهُ كنعان وامرأتهُ وأهلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ ﴾؛ أي لا تسأَلْني نجاةَ الذين ظلَمُوا من أهلِكَ.
﴿ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ ﴾؛ مع الأجانب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ ﴾؛ أي إذا اعتدَلْتَ في السفينة رَاكباً واستقرَّ بكَ ولِمن معكَ الفلكَ في الماءِ.
﴿ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾؛ أي أحمدُ اللهَ.
﴿ ٱلَّذِي نَجَّانَا مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً ﴾؛ أي أنزِلْني من السَّفينة موضِعاً مُباركاً. وقال بعضُهم: أراد به الإنزالَ في السَّفينة وهو الأقربُ؛ لأنه إنَّما أُمِرَ بهذا الدُّعاء في حال استوائهِ على السفينة، فاقتضَى أن السفينةَ هي المنْزِلُ دون مَنْزِلٍ آخرَ. وقرأ العامةُ (مُنْزَلاً) بضمِّ الميم على المصدرِ؛ أي إنْزَالاً مُباركاً، وقرأ أبو بكرٍ بفتح الميمِ وكسر الزَّاي؛ أي مَوْضِعاً مُباركاً، قال مقاتلُ: (يَعْنِي بالْبَرَكَةِ أنَّهُمْ تَوَالَدُواْ وَكَثُرُوا). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْمُنزِلِينَ ﴾؛ أي أنتَ خيرُ المنْزِلين في الدُّنيا والآخرةِ، وهذا اللفظُ سُنَّةٌ لكلِّ مَن أرادَ أن ينْزِل منْزِلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ ﴾؛ معناهُ: أنَّ في أمرِ نوحٍ والسَّفينة وهلاكِ أعداء الله لدلالاتٌ على قُدرةِ الله ووحدانيَّته.
﴿ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾ أي ما كُنَّا إلاّ مُبْتَلِيْنَ بإرسالِ الرُّسُلِ إليهم؛ أي مختَبرين إيَّاهم كيفَ نرى طاعةَ المطيعين ومعصيةَ العاصين.
قولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ ﴾؛ أي ثُم خلَقْنا من بعدِ هلاك قومِ نوح قوماً آخرين يعنِي: عادًا.
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ ﴾؛ يعني هُوداً عليه السلام فإنَّ أولَ نَبيٍّ بعدَ نوحٍ هُودٍ عليه السلام فقال لَهم: ﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾؛ إلى آخرِ الآية.
قولهُ تعالى: ﴿ وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي جَحَدُوا البعثَ والنُّشور.
﴿ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي ٱلْحَيـاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي متَّعنَاهُم في الحياةِ الدُّنيا وأعطيناهم من نَعِيْمِ العَيْشِ ووسَّعنا عليهم ونعَّمناهم؛ أي قال أشرافُ قوم هُودٍ ورؤساؤُهم الذين جَحَدُوا بالبعثِ والنشور ومتَّعناهم في الحياةِ الدُّنيا: ﴿ مَا هَـٰذَا ﴾؛ أي ما هو ﴿ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾؛ أي آدميٌّ مثلُكم.
﴿ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾؛ أي يأكلُ مِن الطعامِ الذي تأكلونَ منه؛ ويشربُ مِن الذي تشربونَ، فليس هو بأولَى بالرِّسالة منكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾؛ معناهُ: لئِنْ أطعتُم آدميّاً بَشَراً مثلَكُم إنَّكم إذا لَمبعوثون، وهذا القولُ منهم دليلٌ على غايَةِ جهلِهم حيث عبَدُوا أصناماً لا تضُرُّ ولا تنفعُ، ولَم يعدُّوا ذلك خُسراناً، والأصنامُ أجسامٌ مثلُهم بل دونَهم. ثُم عَدُّوا عبادةَ الله وطاعتَهُ هو خُسراناً، قالوا: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ ﴾؛ أي وصرتُم.
﴿ تُرَاباً وَعِظاماً ﴾؛ بالية؛ ﴿ أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ﴾؛ أي أن تُخرجوا من قبُورِكم.
﴿ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ﴾؛ أي بُعْداً بُعْداً لِمَا تُحاوِلون من البعثِ بعدَ الموت، وهذه كلمةُ استنكارٍ واستبعاد، ويقرأُ (هَيْهَاتَ) سبعَ قراءاتٍ بالنَّصب والكسرِ والرفعِ والتنوينِ وغير التنوين والسُّكون، فمَن نصَبَ جعلَها مثل (أيْنَ وكَيْفَ)، وَقِيْلَ: لأنَّها أداةٌ مثلُ خمسةَ عشرَ وبَعْلَبَكَّ، ومَن رفعَ جعلَهُ مثلَ (مُنْذُ وَقَطُّ وحَيْثُ)، ومَن كسرَ جعله مثلُ أمس. قال الشاعرُ: تَذكَّرْتُ أيَّاماً مَضَيْنَ مِنَ الصِّبَا وهَيْهَاتَ هَيْهَاتاً إلَيْكَ رُجُوعُهَاوقال آخر: لَقَدْ باعَدَتْ أُمُّ الْحَمَارسِ دَارَهَا وَهَيْهَاتَ مِنْ أُمِّ الحمَارسِ هَيْهَاتاً هَيْهَاتومعنى (هَيْهَاتَ) بَعُدَ الأمرُ جداً حتى امتنعَ، وهو اسمٌ سُمي به الفعلُ، وهو بَعُدَ كما قالوا: صَهْ بمعنى اسْكُتْ، ومَهْ بمعنى لا تَفْعَلْ، وليسَ له اشتقاقٌ وفيه ضمير مرتفعٌ عائد إلى قولهِ (مُخْرَجُونَ)، والتقديرُ (هَيْهَاتَ) أي هو الإخراجُ، والمعنى: بَعُدَ إخراجُكم للوعدِ؛ أي الذي توعَدُون. قال أبو عمرٍو: (إذا وَقَفْتَ فَقُلْ هَيْهَاه بالْهَاءِ) وقال الفرَّاءُ: (كَانَ الْكَسَائِيُّ يَخْتَارُ الْوَقْفَ عَلَيْهَا بالْهَاءِ، وَأنَا أخْتَارُ التَّاءَ لأنَّهَا لَيْسَتْ هَاءَ التَّأْنِيْثِ). ورُوي أن سيبويه قال: (هِيَ بمَنْزِلَةِ بَيْضَات) يَعْنِي فِي التَّأْنِيْثِ، فإذا كَانَ كَذلِكَ كَانَ الْوَقْفُ بالْهَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي قالوا مَا هِيَ إلاّ حياتُنا الدُّنيا التي نحنُ فيها.
﴿ نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾؛ أي يَموت قومٌ ويَحيا قومٌ آخرون.
﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾؛ بعدَ الموتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ ٱفتَرَىٰ عَلَىٰ ٱللَّهِ كَذِباً ﴾؛ أي قالُوا: مَا هُودٌ إلاّ رَجُلٌ اختلَقَ على اللهِ كَذِباً بأنه رسولٌ إلينا، وأنَّا نُبْعَثُ.
﴿ وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي بمُصدِّقين فيما يقولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ رَبِّ ٱنْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾؛ أي قال هودُ: رب أعِنِّي عليهم بتكذيبهم إيَّايَ.
﴿ قَالَ ﴾؛ اللهُ: ﴿ عَمَّا قَلِيلٍ ﴾؛ على تكذيبهم أي عمَّا قليلٍ من الزَّمان والوقتِ، يعني عندَ الموتِ وعند نزولِ العذاب بهم.
﴿ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ﴾؛ على الكُفر والتكذيب.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي صاحَ بهم جبريلُ صيحةً واحدة فماتُوا عن آخرِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ أي باستحقَاقِهم العذابَ بكُفرهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً ﴾؛ أي صيَّرناهم بعدَ الهلاكِ كغُثَاءِ السَّيْلِ، وهو ما يكونُ على وجهِ السَّيْلِ من القَصَب والحطب والحشيشِ والأشجار اليابسة المتبقِّية الباليةِ، إذا جرَى السيلُ رأيتَ ذلك مُخالطاً زَبَدَ السَّيلِ، والمعنى: صيَّرنَاهم هَلَكاً فَيَبسُوا كما يَبسَ الغُثَاءُ مِن نَبْتِ الأرضِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي بُعْداً من رحمةِ الله للقومِ الكافرين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ﴾؛ أي ثُم خلَقْنا بعدَ هلاكِ قومِ هُودٍ أهلَ أعصَارٍ آخرينَ فسَكَنوا ديارَهم إلى أن هلكوا.
﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾؛ أي لا تَموتُ أُمةٌ قبل أجلِها ولا يتأخرُ موعدُهم عنه، وقولهُ تعالى: ﴿ مِنْ أُمَّةٍ ﴾ مِن ها هُنا صلةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ﴾؛ أي بعضُها في إثْرِ بعضٍ مُتَرَادفِين.
﴿ كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً ﴾؛ أي قوماً.
﴿ رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً ﴾؛ في الْهَلاَكِ والتعذيب.
﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾؛ لِمَن بَعْدَهم من الناسِ يتحدَّثون بأمرِهم وشأنِهم ويتمثَّلُ بهم في السرِّ. ﴿ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾.
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو: (تَتْراً) بالتنوينِ، وقرأ الباقونَ بغير تنوينٍ مثل سَكْرَى وشَكْوَى، فمَن نَوَّنَ كان الألفُ فيه كالألفِ في أنتَ زيداً أو عمراً، فإذا وقَفْتَ كان ألِفاً، يعني توقف عليه بالألفِ، ومَن لَم يُنَوِّنْ كتَبَها بالياءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱسْتَكْبَرُواْ ﴾؛ أي تكبَّرُوا عنِ الإيْمانِ بالله وعبادتهِ.
﴿ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ ﴾، أي وكانوا قوماً قاهرينَ للناسِ بالبَغْيِ والتَّطاوُلِ عليهم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[القصص: ٤]، وقال مقاتلُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ عَالِينَ ﴾ أيْ مُتَكَبرِيْنَ عَنْ تَوْحِيْدِ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾؛ أي ليسَ لَهم فضلٌ علينا.
﴿ وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴾؛ يعني بَنِي إسرائيلَ لنا مطيعونَ.
﴿ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ ٱلْمُهْلَكِينَ ﴾؛ بتكذِيبهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ ﴾؛ يعني التوراةَ.
﴿ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾؛ لكي يهتَدُوا به من الضَّلالة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً ﴾؛ أي جعلْنَا ولادةَ عيسى من غيرِ أبٍ دلالةً على التوحيدِ والبعثِ، ولَم يقل: آيَتَيْنِ؛ لأن معنى الآيةِ فيهما واحدةٌ. وَقِيْلَ: معنى كلِّ واحدٍ منهما آيةٌ، كما قال﴿ كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾[الكهف: ٣٣] أي آتَتْ كلُّ واحدةٍ أُكُلَها، وقال تعالى:﴿ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ ﴾[المائدة: ٩٠] ولَم يقُلْ أرْجَاسٌ. وَقِيْلَ: معناهُ: جعلنا شأنَهما واحداً؛ لأن عيسى وُلِدَ من غيرِ أبٍ، وأمُّهُ ولَدَت من غير مسيسٍ ذكَرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ﴾؛ أي جعلنَاهُما يَأْوِيَانِ إلى بُقعة مرتفعة ذاتِ استواءٍ واستقرار، ومكان ظاهر. والرَّبْوَةُ: المكانُ المرتفع من الأرضِ. واختَلَفُوا في هذه البُقعةِ، قال قتادةُ: (يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهُوَ أرْفَعُ مَوْضِعٍ فِي الأَرْضِ وَأقْرَبُ مَوْضِعٍ إلَى السَّمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيْلاً)، وقال أبُو هريرةَ: (هِيَ رَمْلَةُ بأَرْضِ فِلِسْطِيْنَ)، وروى الحسنُ وابنُ المسيَّب: (أنَّهَا دِمَشْقُ). وقولهُ تعالى ﴿ ذَاتِ قَرَارٍ ﴾ أي مُستَويةٍ ليستقرَّ عليها ساكِنُوها، وهي مع ذلك ساحةٌ واسعة، والْمَعِيْنُ الماءُ الجاري الطاهرُ الذي تراهُ العيون، يقال عَانَتِ الرُّكبة إذا سَالَتْ بالماءِ.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾؛ قال الحسنُ ومجاهد والسديُّ والكلبي وقتادةُ ومقاتل: (الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الآيَةِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ، إلاَّ أنَّهُ ذكَرَهُ بلَفْظِ الْجَمَاعَةِ، لِمَا فِي الْخِطَاب مِنْ تَضْمِيْنِ أنَّ الرُّسُلَ جَمِيْعاً أُمِرُواْ بهَذا الْخِطَاب، وَقِيْلَ لَهُمْ: كُلوُا مِنَ الطَّيِّبَاتِ؛ أيْ مِنَ الْحَلاَلِ، أمَرَهُمُ اللهُ أنْ لاَ يَأْكُلُواْ إلاَّ حَلاَلاً). قال الحسنُ: (أمَا وَاللهِ مَا عَنَى بهِ أصْفَرَكُمْ وَلاَ أحْمَرَكُمْ وَلاَ حُلْوَكُمْ وَلاَ حَامِضَكُمْ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: انْتَهُوا إلَى الْحَلاَلِ مِنْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾ أي اعمَلُوا ما أمَرَكم به اللهُ وأطيعوه في أمرهِ ونَهيه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللهَ أمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بَما أمَرَ بهِ الْمُرْسَلِيْنَ، فَقَالَ تَعَالَى ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾ وقال ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾، - ثُمَّ ذكَرَ - الرَّجُلُ يُطِيْلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَب يَا رَب! مَطْعَمُهُ حَرَامٌ؛ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ؛ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ؛ وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟! "ويُروى عن عيسَى: كان يأكلُ من غَزْلِ أُمِّهِ، وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كان يقولُ:" جُعِلَ رزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي "فبيَّن أن رزْقَهُ من الغَنِيْمَةِ وأطيب الطيِّبات الغنيمةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾؛ أي دِينُكم ودينُ مَن قبلَكم دينٌ واحد. وَقِيْلَ: جماعتُكم جماعةٌ واحدة كلُّكم عبادُ اللهِ.
﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ ﴾؛ أي فاتَّقُوا عذابي، وافعَلُوا ما أمَرْتُكم به واتركُوا ما نَهيتُكم عنه. قرأ الكوفيُّون: (وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) بكسرِ الهمزة على الابتداء. وقرأ الباقونَ بفتحِها مع التشديدِ، وخفَّفَ النونَ ابنُ عامر مع فتحِ الهمزة، فمَن فتحَ الهمزة وشدَّدَ النون فمعناه: وبأنَّ هذهِ، وَقِيْلَ: وَاعْلَمُوا إنَّ هذه أمَّتُكم أمةٌ واحدةٌ، أي مِلَّتُكُمْ ملَّةٌ واحدة وهي دينُ الإسلامِ، ومَن خفَّفَ مع الفتحِ جعل (أنْ) صلةً، وتقديرهُ: وهذهِ أُمَّتُكم، وَقِيْلَ: تكون مخفَّفةً من الثقيلةِ كقوله تعالى﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾[يونس: ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ﴾؛ معناه: أنتم أهلُ ملَّةٍ واحدة فلا تكونوا كالذين تفرَّقُوا واختلفوا فتقطَّعوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً؛ أي فِرَقاً، وَقِيْلَ: معناهُ: كُتُباً مختلفةً ديوانُها، فكَفَرُوا بما سِوَاها كاليهود آمَنُوا بالتوراةِ وكفرُوا بالإنجيلِ والقُرْآنِ، والنصارَى آمَنُوا بالإنجيل وكفروا بالقُرْآنِ. وقُرئ (زُبَراً) بفتح الباء ومعناهُ قِطَعاً وجماعاتٍ، ومنه زُبَرُ الحديدِ قِطَعُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾؛ أي كلُّ طائفةٍ بما عندَهم من الاعتقادِ مُعْجَبُونَ، فاترُكْهم في ضَلالتِهم وجهالتهم إلى أن يأتيَهم ما وُعِدُوا به من العذاب. وَقِيْلَ: إلى أن يَموتوا فيظهرُ لَهم الحقُّ من الباطلِ عند الْمُعَايَنَةِ في القيامةِ. وَقِيْلَ: كلُّ حِزْبٍ من المشركين واليهودِ والنصارى بما عندَهم من الدِّين رَاضُونَ، يَرَوْنَ أنَّهم على الحقِّ.
﴿ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ ﴾؛ أي في ضَلالتِهم وجهالتِهم وغفلتهم حتى يَرَوْنَ العذابَ بالسَّيف أو بالموتِ، يعني: كفارَ مكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ ﴾؛ أي يَظُنُّونَ أنَّ إمدادَنا إياهم بالمال والبنينِ مسارعةً منا لَهم في الخيراتِ لكرامتهم علينا ومنْزِلتهم عندنا.
﴿ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ أن ذلك استدراجٌ لَهم وإملاءٌ إلى حينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ ﴾؛ أي حَذِرُونَ من عذابهِ، والإشْفَاقُ هو الخوفُ، يقالُ: أنا مُشْفِقٌ مِن هذا الأمرِ؛ أي خائفٌ.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي يصدِّقون بالقُرْآنِ أنه مِن عندِ الله.
﴿ وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ﴾؛ معهُ غيرَهُ.
﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾؛ أي والذينَ يتصدَّقون بالأموالِ، ويعملون ما عَمِلُوا من الصَّالحاتِ، وقلوبُهم فَزِعَةٌ خائفةٌ أن لا يُقْبَلَ منهم ذلكَ. قال مجاهدُ: (الْمُؤْمِنُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَقَلْبُهُ وَجِلٌ)." وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا؛ قالت: سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ ﴿ وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾، فَقَالَ: " لاَ يَا ابْنَةَ الصِّدِّيْقِ، الَّذِيْنَ يَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيُصَلُّونَ وَيَعْرِفُونَ ألاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَعْرِفُونَ ألاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ " "وقال الحسنُ: (وَالَّذِيْنَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا؛ أيْ يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُواْ مِنَ الْبرِّ وَهُمْ يَرَوْنَ أنَّ ذلِكَ لاَ يُنْجِيْهمْ مِنْ عَذاب اللهِ)، قال الزجَّاجُ: وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴿ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾؛ أي لأنَّهم يوقنونَ برجوعِهم إلى اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ ﴾؛ أي أهلُ هذه الصِّفة هم الذينَ يُسارعون في الأعمالِ الصالحة.
﴿ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾؛ أي إليها سَابقُونَ، يكون (لَهَا) بمعنى إليها، كقولهِ:﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴾[الزلزلة: ٥] أي إليها. وَقِيْلَ: معناهُ: وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ في الجنَّة؛ أي مِن أجلِ مُسارعتهم في الخيراتِ سابقونَ في الجنَّة.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾؛ أي إلاَّ طَاقَتَهَا من العملِ، فمَن لَم يستطع أن يصلِّيَ قائماً فيصلِّي قاعداً. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ ﴾؛ أي عندَ ملائكَتِنا المقرَّبين كتابٌ يشهدُ لكم وعليكم، يريدُ به صحائفَ الأعمالِ، وَقِيْلَ: يعني اللوحَ الْمَحفوظَ، فيه كلُّ شيءٍ مكتوبٌ، سبقَ في علمِ الله.
﴿ يَنطِقُ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي يُبَيِّنُ الصدقَ.
﴿ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾؛ لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالِهم، ولا يزادُ على سيِّئاتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ ﴾؛ أي قلوبُ أهلِ مكَّة في غفلة وجهالةٍ.
﴿ مِّنْ هَـٰذَا ﴾ الذي تقدَّم ذكرهُ من أعمال البرِّ. وَقِيْلَ: في غفلةٍ من القُرْآنِ.
﴿ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ ﴾؛ خبيثةٌ لا يرضاها اللهُ مِن المعاصي والخطايا.
﴿ مِّن دُونِ ذٰلِكَ ﴾؛ أي من دون أعمالِ المؤمنين.
﴿ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾؛ ويجوزُ أن يكون قولهُ ﴿ مِّنْ هَـٰذَا ﴾ إشارةٌ إلى الكتاب الذي ينطقُ بالحقِّ؛ أي قلوبُهم في غفلةٍ من ذلك الكتاب، وأعمالُهم التي عَمِلُوها مُحْصَاةٌ فيه، ولَهم أعمالٌ مِن دون ما هم عليهِ لا بدَّ أن يعمَلُوها، وهو ما سَبَقَ في علمِ الله أنَّهم يعملونَهُ. والغَمْرَةُ: الغفلةُ التي تُغَطِّي القلبَ وتَغْلِبُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِٱلْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾؛ أي حتى إذا أخَذْنَا أعيانَهم ورؤساءَهم بالقتلِ يومَ بدرٍ وبما يَرَوْنَ من العذاب وقتَ المعاينة، وقال الضحَّاك: (بالْجُوعِ حِيْنَ دَعَا عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ سِنِيْنَ كَسِنِيْنِ يُوسُفَ "فَابْتَلاَهُمُ اللهُ بالْقَحْطِ حَتَّى أكَلُواْ الْعِظَامَ وَالْجِيَفَ وَالْكِلاَبَ وَالأَوْلاَدَ وَالْقَذرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ ﴾ أي يَصِيحُونَ ويصرخون بالتوبةِ، وَقِيْلَ: يَجْرَعُونَ ويستغيثونَ. وأصلُ الْجُؤَارِ رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّضَرُّعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَجْأَرُواْ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ وَعِيداً بهم كالاستهزاءِ مثل قولهِ﴿ لاَ تَرْكُضُواْ وَٱرْجِعُوۤاْ ﴾[الأنبياء: ١٣]، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ ﴾؛ أي لا تُمْنَعُونَ من عذابنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾؛ أي تُقْرَأْ عليكم في الدُّنيا، يعني الْقُرْآنَ.
﴿ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ ﴾؛ أي تُوَلُّونَ مُدبرِين وتُعرِضون عن الإيْمانِ به، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ ﴾؛ أي مُتَعَظِّمِينَ ببيتِ الله الكعبة. وَقِيْلَ: بحَرَمِ اللهِ أنهُ لا يظهرُ عليكم أحدٌ، فالكنايةُ تعودُ إلى الْحَرَمِ وهو كنايةٌ من غيرِ مذكورٍ، والمعنى: والمستكبرينَ في البيتِ الحرام لأمْنِهم فيهِ مع خوفِ سائرِ الناس في مواضعهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَامِراً تَهْجُرُونَ ﴾؛ أي سُمَّاراً تَهْجُرُونَ القُرْآنَ والنبيَّ صلى الله عليه وسلم، والَهَجْرُ: هَجْرُ الحقِّ بالإعراضِ عنه، وقد يقالُ: هَجَرَ المريضُ إذا هَدَأ في كلامهِ. والسَّمَرُ: الحديثُ باللَّيلِ، كانوا يتحدَّثون حولَ الكعبة في أوائلِ الليل بالطَّعْنِ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الإسلامِ والمسلمين، وإنَّما وحَّدَ (سَامِراً) لأنه في موضعِ المصدر. قال الحسنُ ومقاتل: (الْمَعْنَى: يَهْجُرُونَ الْقُرْآنَ وَيَرْفُضُونَهُ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ الآيةُ). ويجوزُ أن يكون معناهُ مِن الْهَجْرِ؛ وهو الكلامُ القبيح، يقالُ: هَجَرَ هَجْراً؛ إذا قالَ غيرَ الحقِّ، وهو قولُ السديِّ والكلبي وقتادةَ ومجاهدٍ، وكانوا إذا دخَلُوا البيتَ سَبُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنَ. ويقالُ أيضاً في هذا المعنى: أهْجَرَ هَجْراً؛ إذا أفْحَشَ في مَنْطِقِهِ، ومنهُ قراءةُ نافع: (تُهْجِرُونَ) أي يَفْحُشُونَ في الكلامِ، ويقولونَ الْخَنَا، وذلك أنَّهم كانوا يسبُّون النبيَّ صلى الله عليه وسلم، والْهَجْرُ هو الْفُحْشُ مِن الكلامِ، يقال في الْمَثَلِ: (مَن كَثُرَ هَجْرُهُ وَجَبَ هَجْرُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ ﴾؛ أي أفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القُرْآنَ في حُسْنِ لفظه ونَظْمِهِ، وكثرةِ فوائده ومعانيهِ، مع سلامتهِ من التناقُضِ والاختلاف، فتعلَّمُوا أنه مِن عند اللهِ، ويقالُ: معناهُ: أفَلَمْ يدَّبَّرُوا القُرْآنَ فيعرِفُوا ما فيهِ من العِبَرِ والدَّلالاتِ على صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾؛ معناهُ: أم جاءَهم أمرٌ بَدِيْعٌ لَم يأتِ آباءَهم؛ أي ألَم يعلَمُوا أن الرُّسُلَ قد أُرسِلُوا إلى مَن قبلهم؟ والمعنى: أجاءَهم ما لَم يأتِ آباءهم الأوَّلين فأنكروهُ وأعرضُوا عنه. ويحتملُ أن يكون معناهُ: بل جاءَهم ما لَم يأتِ آباءَهم الأوَّلين فأنكروهُ وتركوا التدبر له. لأن (أمْ) بمعنى: (بَلْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ ﴾؛ بالصِّدقِ والأمانة قبلَ إظهار الدَّعوة؟ ﴿ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾.
قال ابنُ عبَّاس: (كَانُوا يَعْرِفُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم صَغِيْراً وَكَبيْراً صَادِقَ اللِّسَانِ وَفِيَّ الْعَهْدِ) وفي هذا توبيخٌ لَهم بالإعراضِ عنهُ بعدَ ما عرَفُوا صدقَهُ وأمانتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ﴾؛ أي قالوا: إنَّ مُحَمَّداً مجنونٌ لِيَصُدُّوا الوجوهَ ويصرفُوها عنهُ، وقد كذبوا في ذلكَ، فإن الْمَجْنُونَ يَهْذِي ويقولُ ما لا يفعلُ.
﴿ بَلْ جَآءَهُمْ ﴾؛ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي بالقُرْآنِ الذي لا تَخفى صِحَّتُهُ وحُسْنُهُ على أحدٍ.
﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ ﴾؛ قال مقاتل والسدي: (الْحَقُّ هَوَ اللهُ) والمعنى: لو جعلَ مع نفسهِ شَريكاً كما تحبُّون.
﴿ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾؛ كقولهِ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾[الأنبياء: ٢٢].
وَقِيْلَ: معناهُ: لو وُضِعَ الحقُّ على أهوائِهم لَهَلَكَ أهلُ السَّماواتِ والأرضِ؛ لأنَّ الحقَّ يدعُو إلى الْمَحَاسِنِ، والْهَوَى يدعُو إلى الْقَبَائِحِ، ولو جُعِلَ الْهَوَى مَتْبُوعاً لبَقِيَتِ الأمورُ على الظُّلم والجهالاتِ، فتُخْلَطُ الأمورُ أقبحَ الاختلاطِ، ولَم يُوثَقْ بالوعدِ والوعيد، فأدَّى ذلك إلى الفسادِ؛ لأن الْهَوَى هو ميلُ النفسِ إلى الْمُشْتَهَى من غيرِ داعي الْهَوى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ ﴾؛ أي أعطَيناهُم القُرْآنِ الذي فيه عِزُّهُمْ وشَرَفُهُمْ، وأُمِرُوا بالعملِ بما فيه.
﴿ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ ﴾؛ الْقُرْآنَ.
﴿ مُّعْرِضُونَ ﴾؛ وهو نظيرُ قولهِ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾[الزخرف: ٤٤] وقولهِ﴿ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾[الأنبياء: ١٠] والمعنَى: تَوَلَّوا عمَّا جاءَهم به من شَرَفِ الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ ﴾؛ معناهُ: أم تسألُهم على تبليغِ الرِّسالة الْجُعْلَ فيتثاقلون لذلك، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَخَرَاجُ رَبِّكَ ﴾ أي ما وَعَدَ اللهُ لكَ من الأجرِ والثواب في الآخرة.
﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾؛ أي أفضلُ الْمُعْطِيْنَ. وأصلُ الْخَرَجِ وَالْخَرَاجِ: الضريبةُ والعلَّة، كخراجِ الأرض. وقال النضرُ بن شُميل: (سَأَلْتُ أبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلاَء عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ، فَقَالَ: الْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ وَوَجَبَ عَلَيْكَ أدَاؤُهُ، وَالْخَرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ)، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي إلى طريقٍ قائم يرضاهُ الله وهو الإسْلاَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ عَنِ ٱلصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾؛ معناهُ: وإنَّ الذينَ لا يصدِّقون بالقيامةِ عن دينِ الحقِّ لَنَاكِبُونَ؛ أي مائلونَ عَادِلُونَ، ومنه النَّكْبَاءُ. وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّهم في الآخرةِ عن صراطِ جهنَّم يسقطونَ يُمْنَةً ويُسْرَةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾؛ أي ولو رحِمْنَاهُمْ وكشَفْنا ما بهم من الشدَّة التي أصابت أهلَ مكَّة من الْجُوعِ والقحطِ الذي أخذهم سبعَ سنين لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ؛ أي لَتَمَادَواْ في ضلالَتِهم يتحيَّرونَ ويتردَّدُونَ. وَقِيْلَ: ولو رحِمنَاهُم في الآخرةِ فردَدْناهُم إلى الدُّنيا لعَادُوا إلى الكُفَرِ كما كانوا. قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾[الأنعام: ٢٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِٱلْعَذَابِ ﴾؛ يعني الجوعَ الذي أصابَهم بدعوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ سِنِيْنَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ "فَجَاعُوا حتى أكَلُوا الوبَر والدمَ.
﴿ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ﴾؛ أي فما خضعوا لربهم وما تضرَّعُوا ولا انقادُوا في الأمرِ لله وما رَغِبُوا إليه في الدُّعاء، ولو كشفَ عنهم العذابَ لَم يشكُرُوا، والاستكانةُ: طلبُ السُّكُونِ، والتَّضَرُّعُ: طلبُ كَشْفِ البلاءِ مِن القادرِ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾؛ قِيْلَ: إنه القتلُ يومَ بدرٍ، وَقِيْلَ: إنه عذابُ الآخرة.
﴿ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾؛ أي آيسُونَ يتحيِّرون، والإبْلاَسُ: اليأسُ مع التحيُّر. وَقِيْلَ: لَمَّا أصابَهم من الجوعِ ما أصابَهم،" جاءَ أبو سفيانَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالَ: أنْشِدُكَ اللهَ وَالرَّحِمَ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ؟ قَالَ: " بَلَى " قَالَ: فَإنَّكَ قَدْ قَتَلْتَ الآبَاءَ بالسَّيْفِ وَالأَبْنَاءَ بالْجُوعِ "، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالَى هذه الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنْشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾؛ أي خلقَ لكم السمعَ تسمعون به، والأبصارَ تُبصرون بها، والقلوبَ تعقِلُون بها، فشُكْرُكم فيما أُعطيَ إليكم قليلٌ، والأفئدةُ هي القلوبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي خَلَقَكم في الأرضِ.
﴿ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾؛ أي تُجمعون إلى موضعِ الحساب والجزاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ ٱلَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ﴾؛ أي يُحييكم في أرحامِ أمَّهاتكم، ويُمِيتُكم عندَ انقضاء آجالِكم.
﴿ وَلَهُ ٱخْتِلاَفُ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾؛ أي لهُ مُلْكُ اختلافِهما ومُرورهما يوماً بعد ليلةٍ، وليلةً بعد يومٍ.
﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أدِلَّةَ اللهِ تعالى تستدلُّون به على وحدانيَّة اللهِ تعالى.
قولهُ: ﴿ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ ٱلأَوَّلُونَ ﴾؛ أي لَم يَعْقِلُوا أدِلَّتَنا ولَم يستدِلُّوا بها علينا، بل كَذبُوا بالبعثِ كما كذبَ آباؤُهم قبلَهم، والمعنى: كذبت قريشُ بالبعثِ مثلَ ما كذبَ الأولون.
﴿ قَالُوۤاْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾؛ بعدَ الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَـٰذَا مِن قَبْلُ ﴾؛ أي خُوِّفْنَا بهذا الذي تُخَوِّفُنَا به من قبلِ أن تُخوِّفَنا به.
﴿ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ أي ما هذا الذي تُخوِّفُنا به يا مُحَمَّدُ إلاّ أحاديثُ الأوَّلين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل ﴾؛ لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿ لِّمَنِ ٱلأَرْضُ وَمَن فِيهَآ ﴾؛ من الخلقِ والعجائب، أجِيبُوا ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ خالِقَها. ثُم أجابَ اللهُ عنهم لَمَّا عَلِمَ أنَّهم لا يُجيبون فقال: ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ ﴾ لَهم يا مُحَمَّدُ: ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾؛ فتستدِلُّون على أنَّ مَن لهُ مُلْكُ السَّماوات والأرضِ وما فيهما قادرٌ على البعثِ والنُّشورِ، فإنَّ مَن مَلَكَ الأرضَ ومَن فيها مَلَكَ إنشاءَها بعدَ هلاكِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾؛ عِقَابَهُ على إنكارٍ البعث. ومن قرأ ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ ومعناهُ: كأنه قال: لِمَنِ السَّماواتُ؟ فقالَ: للهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾؛ أي مَن ذا الذي لهُ خزائنُ كلِّ شيء وهو يُغِيْثُ ويَمنع من السُّوء، ولا يَمنع منه مَن أرادَ به سوءً، أجيبُوا ﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾؛ ملكوتُ كلِّ شيء.
﴿ قُلْ ﴾ لَهم يا مُحَمَّدُ ﴿ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴾؛ أي تُصْرَفُونَ عن الحقِّ إلى ما ليسَ له أصلٌ ولا حقيقةٌ، وقد أُلْقِيَ إليكم حقائقَ الأدلة. والمعنى بقوله: ﴿ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ﴾ أي كيفَ يُخَيَّلُ لكمُ الحقُّ باطلاً، والصحيحُ فاسداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي جِئْنَاهُمْ بالحقِّ وبَيَّنَّا لَهم، يعني أتينَاهم بالتوحيدِ والْقُرْآنِ.
﴿ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾؛ فيما يُضِيْفُونَ إلى اللهِ من الولدِ والشَّريك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ ﴾؛ هذا ردٌّ على اليهودِ في قولِهم: عُزيرٌ ابن اللهِ، وعلى النصارى في قولِهم: المسيحُ ابن اللهِ، وعلى مَن قال مِن المشركين: الملائكةُ بنات الله.
﴿ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ ﴾، هذا ردٌّ على عَبَدَةِ الأوثانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ ﴾؛ معناهُ: لو كان معهُ آلِهةٌ لانفردَ كلُّ إلهٍ بخلقهِ، لا يرضى أن يُضافَ خلقهُ وإنعامه إلى غيرهِ.
﴿ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾؛ أي لطلبَ بعضُهم قَهْرَ بعضٍ، فلم يَنْتَظِمْ أمرُهما كما لا ينتظمُ أمر بلدٍ فيه ملِكان قاهران. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَ ٱللَّهِ ﴾؛ أي تَنْزِيْهاً للهِ ﴿ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾؛ من اتِّخاذِ الولد والشريكِ.
﴿ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ﴾؛ مَن خَفَضَهُ جعلَهُ نَعْتَ اللهِ، ومَن رفعه كان خبرَ مبتدأ محذوفٍ تقديرهُ: هو عَالِمُ، فقراءةُ الخفضِ هي قراءةُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو، وقراءةُ الباقين بالرفعِ. ومعنى الآيةِ: عَالِمِ ما غابَ عن العبادِ وما عَلِمَهُ العبادُ.
﴿ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ﴾؛ معناهُ: قُلْ يا مُحَمَّدُ رب أرنِي ما يوعدونَ من العذاب والنِّقمة؛ يعني القتلَ ببدرٍ. وَقِيْلَ: معناهُ: قل يا مُحْمَّد: يا ﴿ رَبِّ ﴾؛ إنْ أرَيْتَنِي ما يوعدونَ من العذاب.
﴿ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ ﴾؛ أي منهُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾؛ أي نحنُ قادرونَ على تعذيبهم، لكنَّ الإمهالَ لحكمةٍ تقتضي ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ ﴾؛ يعني بالإحسان الإعراضِ والصَّفحِ، والسَّيِّئَةُ: أذى المشركينَ إيَّاهُ، وهذا قبل الأمرِ بالقتالِ، والمعنى: اذكر لَهم الْمُقَاتَلَةَ والحجةَ على طريقِ التلطُّفِ والاستدعاءِ إلى الحق كما قال تعالى﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾[طه: ٤٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾؛ أي بما يكذِّبون وبما يقولونَهُ من الشِّرك فيجازيهم عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ ﴾؛ أي اعْتَصِمُ بكَ وأمتنعُ بكَ مِن هَمَزَاتِ الشَّياطينِ، وهمزاتُ الشياطينِ: دفعُهم الناسَ إلى المعاصي بالإغواءِ، ويقال: الْهَمْزَةُ هي الْوَسْوَسَةُ الشَّاغِلَةُ عن أمرِ الله تعالى.
﴿ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾؛ عندَ القراءةِ وعند الموتِ وعند الغَضَب. وعن الحسنِ:" أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إلَى الصَّلاَةِ فَهَلَّلَ وَكَبَّرَ ثلاثاً؛ وَقَالَ: " أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ، مِنْ هَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفَخِهِ " فَسُئِلَ عَنْ هَمْزِهِ؛ فَقَالَ: " هُوَ أخْذُ الشَّيْطَانِ لِلإنْسَانِ حَتَّى يُصْرَعَ وَيَجِنَّ " وَسُئِلَ عَنْ نَفْثِهِ؛ فَقَالَ: " هُوَ الشِّعْرُ " وَسُئِلَ عَنْ نَفْخِهِ؛ فَقَالَ: " إنَّهُ الْكِبْرُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ ﴾؛ أخبرَ اللهُ تعالى أن هؤلاء الكفارِ الذين يُنكرونَ البعثَ يسألونَ الرجعةَ إلى الدُّنيا عند معاينةِ الموت. والمعنى: حتَّى إذا عَايَنَ أحدُهم الموتَ وأعوانه قال: ربِّ ارْجِعُونِ إلى الدُّنيا. وإنَّما قال: ﴿ رَبِّ ٱرْجِعُونِ ﴾ بلفظ الجماعةِ لأن اللهَ تعالى يُخبر عن نفسهِ بما يخبرُ به عن الجماعةِ في قولهِ تعالى﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ ﴾[ق: ٤٣] وأمثالهِ، وكذلك العربُ تُخَاطِبُ الرجلَ الواحد بلفظِ الجماعة كما يقولُ الرجل لآخر: أنتُم تفعلونَ كذا ونحنُ نفعل كذا، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ ﴾[القصص: ٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأعْمَلُ طَاعَةَ الله) ﴿ فِيمَا تَرَكْتُ ﴾؛ أي في ما مَضَى مِن عُمري، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ كَلاَّ ﴾ لا يرجعُ إلى الدُّنيا، ولا يجوزُ أن يكون (لَعَلَّ) في هذه الآية للشَّكِّ؛ لأنه لا معنى لذلكَ مع حرصهِ على الرَّجعة والنجاةِ من الموت والعذاب، وإنَّما المعنى: لِكَي أعملَ صالحاً، و(كَلاَّ) كلمة رَدْعٍ وزَجْرٍ وتنبيهٍ أي لا يكونُ له ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهَا ﴾؛ أي من مسألةِ الرُّجوع إلى الدُّنيا.
﴿ كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا ﴾، عند موتهِ ولا فائدةَ في ذلكَ.
﴿ وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾؛ أي مِن أمَامِهم حَاجِزٌ وحجابٌ بينهم وبين الرُّجوعِ إلى الدُّنيا، وهم فيه إلى يومِ يبعثون، فالقبرُ حاجزٌ، وكل فصلٍ بين شَيئين بَرْزَخٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي النَّفَخَةَ الأُوْلَى). وَقِيْلَ: هي النفخةُ الثانية. وقولهُ تعالى: ﴿ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ﴾، قال الحسنُ: (وَاللهِ إنَّ أنْسَابَهُمْ لَقَائِمَةٌ بَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى﴿ يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾[عبس: ٣٤-٣٥] وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بأَنْسَابهِمْ وَلاَ يَتَعَاطَفُونَ عَلَيْهَا، فَكَأَنَّهُمْ لاَ أنْسَابَ لَهُمْ). وَقِيْلَ: معناهُ: لا تَفَاخُرَ بينهم كما يتفاخَرون في الدُّنيا، ولا يتساءَلون كما تسألُ العربُ في الدُّنيا: مِن أيِّ قَبيْلٍ أنتَ؟ وَقِيْلَ: لا يسألُ بعضُهم بعضاً عن خبرهِ وحاله كما كانوا في الدُّنيا؛ لشُغْلِ كلِّ واحد منهما بنفسه، ولا يسألُ بعضهم بعضاً أنْ يحملَ شيئاً من ذنوبهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾؛ يعني بالطاعاتِ؛ ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ وَقِيْلَ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ بكلمةِ التَّوحيدِ، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ، قال صلى الله عليه وسلم:" وَلَوْ وُضِعَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَمَا فِيْهِنَّ وَالأَرْضُ فِي كَفَّةٍ، رَجَحَتْ بجَمِيْعِ ذلِكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾؛ يعني بكلمة الشرك ﴿ فأُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴾؛ ظاهرُ المعنى. قوله تعالى: ﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ ﴾؛ قِيْلَ: الفَلْحُ هو الإحراقُ، يقالُ: لَفَحَتْهُ النارُ إذا أحْرَقَتْهُ، وتأثيرُ الفَلْحِ أعظمُ مِن تأثير النَّفْحِ، والنفحُ مذكورٌ في قوله﴿ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ ﴾[الأنبياء: ٤٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾؛ الْكُلُوحُ: تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ عنِ الأسْنَانِ حتى تبدُو الأسنانُ. قال الحسنُ: (تَغْلَظُ شِفَاهُهُمْ، وَتَرْتَفِعُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا، وَتَنْزِلُ شَفَتُهُ السُّفْلَى، فَتَظْهَرُ الأَسْنَانُ، فَهُوَ أقْبَحُ مَا يَكُونُ). قال صلى الله عليه وسلم:" وَتَشْوِيَهِ النَّارُ حَتَّى تُقَلِّصَ شَفَتَهُ الْعُلْيَا فَتَبْلُغَ وَسَطَ رَأسِهِ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّتَهُ "، قال ابنُ مسعود: (ألَمْ تَرَ إلَى الرَّأسِ الْمَسْمُوطِ بالنَّار كَيْفَ بَدَتْ أسْنَانُهُ وَقُلِّصَتْ شَفَتَاهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾؛ أي تَجحَدُون.
﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾؛ بكثرةِ معَاصِينا.
﴿ وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾؛ في الدُّنيا فلم نَهْتَدِ. قرأ الكوفيُّون غيرُ عاصمٍ: (شَقَاوَتُنَا) بالألف وفتح الشِّين، وهُما بمعنى واحدٍ. الشِّقْوَةُ: هي الْمَضَرَّةُ اللاَّحِقَةُ فِي العَاقِبَةِ، والسَّعَادَةُ: هي المنفعةُ التي تكون في العاقبةِ. والشَّقْوَةُ بفتحِ الشِّين بمنْزِلَةِ الفَعْلَةِ الواحدةِ، وكسرُ الشِّين في هذا دالٌّ على الكثرةِ واللُّزومِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا ﴾؛ أي مِن النار إلى الدُّنيا.
﴿ فَإِنْ عُدْنَا ﴾؛ إلى التَّكذيب والمعاصِي.
﴿ فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾؛ ﴿ ٱخْسَئُواْ ﴾ كلمةُ إهَانَةٍ وَمَذلَّةٍ؛ وهي في الأصلِ لطردِ الكِلاب، تقولُ: خَسَأْتُ الكلبَ إذا طَردْتَهُ؛ فَخَسَأَ أي تباعَدَ. قال الزجَّاجُ: (مَعْنَاهُ تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سُخْطٍ، وَابْعُدُوا بُعْدَ الْكَلْب، وَلاَ تُكَلِّمُونِ فِي رَفْعِ الْعَذاب عَنْكُمْ، وَلاَ تَسْأَلُونِ الْخُرُوجَ مِنَ النَّار، فَإنِّي لاَ أدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذابَ، وَلاَ أُهَوِّنُهُ عَلَيْكُمْ). قال عبدُالله بن عَمرو: (أنَّ أهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكاً أرْبَعِيْنَ عَاماً فَلاَ يُجِيْبُهُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: إنَّكُمْ مَاكِثُونَ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ: رَبَّنَا أخْرِجْنَا مِنْهَا فَإنْ عُدْنَا فَإنَّا ظَالِمُونَ. فَلاَ يُجِيْبُهُمْ مِقْدَارَ عُمْرِ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ: إخْسَئُواْ فِيْهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ بَعْدَ ذلِكَ، وَيَكُونُ لَهُمْ زَفِيْرٌ كَزَفِيْرِ الْحَمِيْرِ، وَشَهِيْقٌ كَشَهِيْقِ الْبغَالِ، وَعَوِيٌّ كَعَوِيِّ الْكِلاَب).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ ﴾؛ أي يقالُ لَهم: إنه كان طائفٌ من عِبادي يَقُولُونَ: ﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾؛ وهم الأنبياءُ والمؤمنون، وهذا تعليلٌ لاستحقاقِهم العذابَ بما عامَلُوا الأنبياءَ والمؤمنين باتِّخَاذِهم سِخْرِيّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ﴾؛ أي تَسْخَرُونَ منهم وتَسْتَهْزِئُونَ بهم. قرأ نافعٌ وحمزة والكسائيُّ: بضَمِّ السِّين ها هنا وفي ص، وقرأ الباقونَ بكسرِها وهُما لُغَتان، ولَم يختلفوا في الزُّخْرُفِ أنه بالضَّمِّ؛ لأنه بمعنى التَّسخيرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾؛ لاشْتِغالِكم بالسُّخرية منهم وبالضَّحكِ، فنَسَبَ الأنبياءَ إلى عبادةِ المؤمنينَ، وإنَ لَم يفعلوا؛ لِمَا أنَّهم كانوا السببَ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ ﴾؛ على أذِيَّتِكُمْ واستهزَائِكم.
﴿ أَنَّهُمْ هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ ﴾؛ في الجنَّةِ. قرأ حمزةُ والكسائيُّ (إنَّهُمْ) بالكسرِ على الاستئنافِ، وقرأ الباقونَ بالفتح على معنى جَزَيْتُهُمْ بالْفَوْز.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ﴾؛ أي كم لبثتم في القبور؟ وقيل المكث في الدنيا، يقول الله تعالى للكفار يوم البعث: كَمْ لَبثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ ﴿ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾؛ فيَرَوْنَ أنَّهم لَم يلبَثُوا إلاَّ يوماً أو بعضَ يومٍ لعِظَمِ ما هُم فيه من العذاب، نَسَوا ذلكَ. ويقالُ: يَلْحَقُهُمْ دَهْشَةٌ وَحَيرةٌ فيَنْسَوْنَ ذلكَ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ ﴾؛ يعنِي الملائكةَ الذين يحفظونَ عليهم آجالَهم. وقرأ ابنُ كثيرٍ: (قُلْ كَمْ لَبثْتُمْ) على فعلِ الأمر، وقولهُ: ﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ في جَنْب لُبْثِكُمْ في العذاب؛ ﴿ لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾؛ أي أظَنَنْتُمْ أنْا خَلَقْنَاكُمْ للعَبَثِ تأكلونَ وتشربون وتفعلونَ ما تُريدون وتَموتون.
﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي فلا تُحشرونَ للحساب، ولا تُرجعون إلى موضعٍ لا تَملِكون فيه لأنفُسِكم ضَرّاً ولا نفعاً؟قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً كَمَا خَلَقْنَا الْبَهَائِمَ، لاَ ثَوَابَ لها وَلاَ عِقَابَ عَلَيْهَا لَمَا قَالَ﴿ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾[القيامة: ٣٦] أي يُهْمَلَ كَمَا تُهْمَلُ الْبَهَائِمُ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَتَعَالَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ ﴾؛ أي هو الْمَلِكُ الْحَقُّ الذي لهُ الملكُ؛ لأنه مَلَكَ غَيْرَهُ، وكلُّ مَن مَلَكَ غَيْرَهُ فملكهُ مستعارٌ له، فإنه لا يَملِكُ إلاّ بتمليكهِ الله إياه، فكأنه لا يعتَدُّ بملكه في ملكِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ ﴾؛ سُمي العرشُ كَرِيْماً لكثرةِ خيرهِ بمن حولَهُ، يقالُ: فلانٌ كريمٌ؛ أي كثيرُ الخيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾؛ أي مَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ لَم يَنْزِلْ بعبادتهِ كتابٌ ولا بُعِثَ لَها رسولٌ ولا حُجَّةَ لَهُ عليه، فإنَّما حسابهُ عندَ ربهِ، فهو يجازيهِ بما يستحقُّ كما قال تعالى:﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾[الغاشية: ٢٦]، وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ أي لا يُسْعَدُ من جَحَدَ وكَذبَ، ولا يَأْمَنُ ولا ينجُو من عذاب الله الكافرونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُل رَّبِّ ٱغْفِرْ وَٱرْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ ﴾؛ يحتملُ أن يكون أمراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستغفارِ منهُ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" " إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ مَرَّةً "، ويُروى " مِائَةَ مَرَّةٍ " ". وعن ابنِ مسعود:" أنَّهُ مَرَّ بشَابٍّ مُبْتَلَى، فَقَرَأت فِي أُذُنِهِ ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِئَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " وَمَاذا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ؟ " فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: " وَالَّذِي بَعَثَنِي بالْحَقِّ نَبيّاً؛ لَوْ أنَّ رَجُلاً مُؤْمِناً قَرَأهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ " ".