﴿ بسم الله ﴾ الذي تمت كلمته فبهرت قدرته ﴿ الرحمن ﴾ الذي ظهرت الحقائق كلها بشمول رحمته ﴿ الرحيم ﴾ الذي شرف من اختاره بخدمته.
ﰡ
واعلم أن الزنا من الكبائر، ويدل عليه أمور : أحدها : أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى :﴿ ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ﴾ [ الفرقان، ٦٨ ]، ثانيها : قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً ﴾ [ الإسراء، ٣٢ ]، ثالثها : أن الله تعالى أوجب المائة فيه بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر وشرّع فيه الرجم، وروى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما اللاتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار »، وعن عبد الله قال :«قلت : يار رسول الله أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك، قلت : ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك » فأنزل الله تعالى تصديقاً لذلك :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾ » [ الفرقان، ٦٧ ]
والزنا إيلاج حشفة أو قدرها من مقطوعها من الذكر المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير منتشر، وكان ملفوفاً في خرقة بقبل محرم في نفس الأمر لعينه خال عن الشبهة المسقطة للحدّ مشتهي طبعاً بأن كان فرج آدمي حيّ ولا يشترط إزالة البكارة حتى لو كانت غوراء وأدخل الحشفة فيها، ولم يزل بكارتها ترتب عليه حد الزنا بخلاف التحليل لا بدّ فيه من إزالة البكارة لقوله صلى الله عليه وسلم :«حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك »، واختلف في اللواط هل يطلق عليه اسم الزنا أو لا ؟ فقال بعضهم : يطلق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم :«إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان »، والذي عليه أكثر أصحابنا أنه غير داخل تحت اسم الزنا لأنه لو حلف لا يزني فلاط لم يحنث، والحديث محمول على الإثم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان »، وللشافعي في حده قولان ؛ أصحهما أن الفاعل إن كان محصناً فإنه يرجم، وإلا فيجلد مائة ويغرب عاماً، وأما المفعول فلا يتصور فيه إحصان فيجلد ويغرب، والقول الثاني : يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصناً أم لا لما روي عن ابن عباس أنه قال : من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به.
وأما إتيان البهائم فحرام بإجماع الأئمة، واختلف في عقوبته على أقوال : أحدها : حد الزنا فيرجم الفاعل المحصن ويجلد غيره ويغرب، والثاني : أنه يقتل محصناً كان أو غير محصن لما روي عن ابن عباس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه »، والثالث : وهو الأصح أنه يعزر ؛ لأن الحدّ شرع للزجر عما تميل النفس إليه، وضعفوا حديث ابن عباس لضعف إسناده، وهو وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم :«نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله ».
وأما السحاق من النساء وإتيان المرأة الميتة والاستمناء باليد فلا يشرع فيه شيء من ذلك إلا التعزير والمقيم للحد هو الإمام أو نائبه، وللسيد أن يقيم الحدّ على رقيقه ولا تجوز الشفاعة في إسقاط الحدّ ولا تركه ولا تخفيفه كما قال تعالى :﴿ ولا تأخذكم ﴾ أي : على أي حال من الأحوال ﴿ بهما رأفة ﴾ أي : رحمة ورقة فتعطلوا الحدود ولا تقيموها، وقرأ ابن كثير بفتح الهمزة والباقون بسكونها، والسوسي على أصله من البدل، وقيل : معنى الرأفة أن يخففوا الضرب ﴿ في دين الله ﴾ أي : الذي شرعه لكم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :«لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها »، روي أن عمر رضي الله عنه جلد جارية له زنت، فقال للجلاد : اضرب ظهرها ورجليها، فقال له ابنه : ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله، فقال : يا بني إن الله تعالى لم يأمرنا بقتلها وقد ضربت فأوجبت. ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الحض على ذلك بقوله تعالى :﴿ إن كنتم تؤمنون بالله ﴾ أي : الذي هو أرحم الراحمين فإنه ما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانين خصوصاً فلا تزيدوا في الحد ولا تنقصوا منه شيئاً، وفي الحديث «يؤتى بوال نقص من الحدود سوطاً فيقول : رحمة لعبادك، فيقال له : أنت أرحم مني، فيؤمر به إلى النار، ويؤتي بمن زاد سوطاً فيقول : لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر به إلى النار » وعن أبي هريرة : إقامة حد بأرض خير من مطر أربعين ليلة ثم أتبع ذلك بما يرهبه بقوله تعالى :﴿ واليوم الآخر ﴾ الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي ﴿ وليشهد ﴾ أي : وليحضر ﴿ عذابهما ﴾ أي : حدهما إذا أقيم عليهما ﴿ طائفة من المؤمنين ﴾ والطائفة الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة وأقلها ثلاثة أو أربعة وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وعن ابن عباس في تفسيرها : أربعة إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله تعالى، وعن الحسن : عشرة، وعن قتادة : ثلاثة فصاعداً، وعن عكرمة : رجلان فصاعداً، وعن مجاهد : أقلها رجل فصاعداً، وقيل : رجلان وفضل قول ابن عباس ؛ لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها الزنا ولا يجب على الإمام حضور رجم ولا على الشهود لأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور ؛ لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، ويشهد له قول ابن عباس : إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله.
تنبيه : الضرب يكون بسوط لا حديد يجرح ولا خلق لا يؤلم، ويفرق بين السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج ويضرب على الرأس لقول أبي بكر رضي الله عنه : اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه، ولا يشد يده وينزع الثياب التي تمنع ألم الضرب كالفرو، ولو فرق سياط الحدّ تفريقاً لا يحصل به التنكيل مثل أن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين، فإن فرق وضرب والألم موجود كفى، وإن وجب الحدّ على حامل لا يقام عليها حتى تضع وترضعه حتى ينفطم ويندب أن يحفر للمرأة إلى صدرها إن ثبت زناها بالبينة لا بإقرارها ولا يندب للرجل مطلقاً، وإن وجب الحدّ على المريض نظر إن كان يرجى زواله كصداع انتظر أو لا يرجى كالزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط بل بعثكال عليه مائة شمراخ، فيقوم ذلك مقام جلده، وأما في حال الحر والبرد الشديدين فإن كان الحدّ رجماً لم يؤخر لأن النفس مستوفاة، وإن كان جلداً أخر إلى اعتدال الهواء، ويقبل رجوع الزاني عن إقراره، ولو في أثناء الحدّ، وإذا مات في الحدّ يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه | فكل قرين بالمقارن يقتدي |
فعلى قول هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس، وقال قوم منهم سعيد بن جبير والضحاك، ورواية عن ابن عباس : المراد من النكاح هو الجماع، ومعنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة، والزانية لا تزني إلا بزانٍ أو مشرك، وقال يزيد بن هارون : إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك وإن جامعها وهو محرم فهو زان، وعن عائشة رضي الله عنها : إن الرجل إذا زنا بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية، وإذا باشرها كان زانياً. وكان ابن مسعود يحرم نكاح الزانية ويقول : إذا تزوج الزاني الزانية فهما زانيان أبداً. وقال الحسن : الزاني المجلود لا ينكح إلا زانية مجلودة، والزانية المجلودة لا ينكحها إلا زان مجلود. وقال سعيد بن المسيب وجماعة منهم الشافعي رحمه الله تعالى : إن حكم الآية منسوخ، وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية فنسخها الله تعالى بقوله تعالى :﴿ وأنكحوا الأيامى منكم ﴾ [ النور، ٣٢ ]، وهو جمع أيم وهي من لا زوج لها، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين واحتج من جوّز نكاح الزانية بما روي عن جابر «أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال : طلقها، قال فإني أحبها وهي جميلة، قال : استمتع بها، وفي رواية غيره «أمسكها إذاً » وقد أجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال :«أوله سفاح وآخره نكاح »، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه ضرب رجلاً وامرأة زنيا، وحرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام.
﴿ والذين يرمون ﴾ أي : بالزنا ﴿ المحصنات ﴾ جمع محصنة وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة وهذا هو الحكم الثالث والذي يدل على أن المراد الرمي بالزنا أمور : أحدها : تقدم ذكر الزنا، ثانيها : أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميها بضد ذلك، ثالثها : انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا، رابعها : قوله تعالى :﴿ ثم لم يأتوا ﴾ أي : إلى الحكام ﴿ بأربعة شهداء ﴾ أي : ذكور ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير شرط إلا في الزنا وشرط القاذف الذي يحد بسبب القذف التكليف والاختيار والتزام الأحكام والعلم بالتحريم وعدم إذن المقذوف، وأن يكون غير أصل، وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض فمن الصريح قوله لرجل أو امرأة زنيت أو زنيت، أو يا زاني أو يا زانية، ولو كسر التاء في خطاب الرجل وفتحها في خطاب المرأة أو زنيت في الجبل، ومن الكناية زنأت وزنأت في الجبل بالهمز، فإن نوى بذلك القذف كان قذفاً وإلا فلا، ومن التعريض يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزانٍ، فهذا ليس بقذف وإن نواه.
فإن قيل : إذا كان ذلك القذف يشمل الذكر والأنثى فلم كانت الآية الكريمة في الإناث فقط ؟ أجيب : بأن الكلام في حقهن أشنع وتنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها، وحدّ القاذف الحر ثمانون كما قال تعالى :﴿ فاجلدوهم ﴾ أي : أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ﴿ ثمانين جلدة ﴾ لكل واحد منهم لكل محصنة وحدّ القاذف الرقيق ولو مبعضاً أو مكاتباً أربعون جلدة على النصف من الحر لآية النساء ﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى، ولا بين حدّ الزنا وحدّ القذف، ويدل على أن المراد بالآية الأحرار قوله تعالى :﴿ ولا تقبلوا لهم ﴾ أي : بعد قذفهم ﴿ شهادة ﴾ أي : شهادة كانت ﴿ أبداً ﴾ للحكم بافترائهم ؛ لأن العبد لا تقبل شهادته، وإن لم يقذف. ولما كان التقدير أنهم قد افتروا عطف عليه تحذيراً من الإقدام عليه من غير تثبت ﴿ وأولئك ﴾ أي : الذين تقدم ذمهم بالقذف فنزلت رتبتهم جدّاً ﴿ هم الفاسقون ﴾ أي : المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف، وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر وفي ذلك دليل على أن القذف من الكبائر ؛ لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة.
فإن قيل : إذا قلتم بالأول فما معنى قوله تعالى :﴿ أبداً ﴾ ؟ أجيب : بأن معنى أبداً ما دام مصراً على القذف ؛ لأن أبد كل إنسان مدته على ما يليق بحاله كما يقال : لا تقبل شهادة الكافر أبداً ؛ يراد بذلك ما دام على كفره، فإذا أسلم قبلت شهادته.
تنبيهان : الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين أو أربع كالزنا ؟ فيه قولان : أصحهما أنه يثبت برجلين بخلاف فعل الزنا ؛ لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه، وإذا شهد على فعل الزنا يجب أن يذكر الزاني ومن زنا بها ؛ لأنه قد يراه على جارية لأبيه فيظنه زناً يوجب الحد، وأن يقول في شهادته : رأيت ذكره يدخل في فرجها، وإن لم يقل دخول الميل في المكحلة لكن قوله ذلك أولى، فلو شهدوا مطلقاً أنه زنا لم يقبلوا لأنهم ربما يرون المفاخذة زناً، ويشترط أيضاً أن يفسر في إقراره كالشهود ويصح رجوعه عن الإقرار، ولو في أثناء الحدّ كما مرَّ، ولا فرق في قبول الشهادة بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين كما قاله الشافعي، وقال أبو حنيفة : إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حدّ القذف، ولو شهد على الزنا أقل من أربعة أو أربعة وفيهم الزوج لم يثبت الزنا وعليهم الحدّ ؛ لأن شهادة الزوج لا تقبل في حق زوجته ؛ قال ابن الرفعة في الكفاية : لأمرين أحدهما : أن الزنا تعرض لمحل حق الزوج، فإنّ الزاني يستمتع بالمنافع المستحقة له فشهادته في حقها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له، فلم تسمع كما إذا شهد أنه جنى على عبده، والثاني : أنّ من شهد بزنا زوجته فنفس شهادته دال على إظهار العداوة ؛ لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال الغير عليه وعلى ولده، وهو أبلغ من مؤلم الضرب وفاحش السب، ولو قذف رجل وجاء بأربعة فساق شهدوا على المقذوف بالزنا لم يحدّوا ؛ لأن شرائط الشهادة بالزنا قد وجدت عند القاضي إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحدّ عن المشهود عليه، فكذلك أوجبنا اعتبارها في نفي الحدّ عنهم.
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
تنبيه : خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول : قل أشهد بالله إلخ ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، و لو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس ؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني ؛ لأنه لا حرمة له.
وقرأ حفص : والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء.
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
تنبيه : خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول : قل أشهد بالله إلخ ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، و لو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس ؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني ؛ لأنه لا حرمة له.
وقرأ حفص : والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء.
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
تنبيه : خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول : قل أشهد بالله إلخ ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، و لو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس ؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني ؛ لأنه لا حرمة له.
وقرأ حفص : والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء.
وقد روى البخاري أيضاً عن سهل ابن سعد أنّ سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر رضي الله عنه وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدّة أسباب معاً أو متفرقة.
تنبيه : خصت المرأة بالغصب لأنه أبلغ من اللعن الذي هو الطرد لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يصدق الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد وخالطة الأنساب، ويشترط في اللعان أمر القاضي وتلقينه كلماته في الجانبين فيقول : قل أشهد بالله إلخ ؛ لأنّ اللعان يمين واليمين لا يعتد بها قبل استحلاف القاضي، وإن غلب فيه معنى الشهادة، فهي لا تؤدى عنده إلا بإذنه وأن يتأخر لعانها عن لعانه لأن لعانها لإسقاط الحدّ الذي وجب عليها بلعان الزوج كما علم مما مرّ، ويلاعن أخرس بإشارة مفهمة أو كتابة ويكرر كلمة الشهادة أربعاً أو يكتبها مرّة ويشير إليها أربعاً، ويصح اللعان بالعجمية، وإن عرف العربية ويشترط الولاء بين الكلمات الخمس فيؤثر الفصل الطويل ولا يشترط الولاء بين لعاني الزوجين، و لو أبدل لفظ شهادة بحلف ونحوه أو لفظ غضب بلعن أو عكسه أو ذكره قبل تمام الشهادة لم يصح ذلك ويصح أن يتلاعنا قائمين وإن يغلظ اللعان بزمان وهو بعد عصر الجمعة فيؤخر إليه إن لم يكن طلب أكيد وإلا فبعد عصر أي يوم كان وبمكان عند أشرف بلد اللعان فبمكة بين الحجر الأسود والمقام، وهو المسمى بالحطيم، والمدينة على المنبر، وبيت المقدس عند الصخرة، وغيرها على منبر الجامع، وتلاعن حائض بباب المسجد وذمي في بيعة للنصارى، وكنيسة لليهود وبيت نار لمجوس ؛ لأنهم يعظمونها لا بيت أصنام وثني ؛ لأنه لا حرمة له.
وقرأ حفص : والخامسة الأخيرة بالنصب، والباقون بالرفع. وقرأ نافع بتخفيف النون ساكنة وكسر الضاد ورفع الهاء من الاسم الجليل والباقون بتشديد النون منصوبة ونصب الضاد وخفض الهاء.
﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك ﴾ أي : أسوأ الكذب سمي إفكاً لكونه مصروفاً عن الحق من قولهم : أفك الشيء إذا صرفه عن جهته، وذلك أن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبويها كانت تستحق الثناء لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أفضائه.
فإن قيل : لم ترك تسميتها ؟ أجيب : بأنه تركه تنزيهاً لها عن هذا القال وإبعاداً لصون جانبها العلي عن هذا المراد، وقوله تعالى :﴿ عصبة ﴾ خبر إنّ أي : جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون وكذا العصابة وقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعائشة وصفوان ومن يعد عندكم في عداد المسلمين يريد عبد الله بن أبيّ وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم، وقوله تعالى :﴿ لا تحسبوه شرّاً لكم ﴾ مستأنف أي : لا تنشأ عنه فتنة ولا يصدقه أحد ﴿ بل هو خير لكم ﴾ لاكتسابكم به الثواب العظيم ؛ لأنه كان بلاءً مبيناً ومحنة ظاهرة، وظهور كرامتكم على الله تعالى بإنزال ثمان عشرة آية في براءتكم وتعظيم شأنكم وتهويل الوعيد لمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن بكم خيراً كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسلية له، وتبرئة لأم المؤمنين رضوان الله تعالى عليها وتطهير لأهل البيت وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به، فلم تمجه أذناه، وعدة ألطاف للسامعين والتالين إلى يوم القيامة، وفوائد دينية وأحكام وآداب لا تخفى على متأمّلها، ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له علل ذلك بقوله تعالى :﴿ لكل امرئ منهم ﴾ أي : الآفكين ﴿ ما اكتسب ﴾ أي : بخوضه فيه ﴿ من الإثم ﴾ الموجب لشقائه ﴿ والذي تولى كبره ﴾ أي : معظمه ﴿ منهم ﴾ أي : من الخائضين وهو ابن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما تابعاه بالتصريح به والذي بمعنى الذين على هذا ﴿ له عذاب عظيم ﴾ في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبيّ مطروداً مشهوراً بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر.
تنبيه : قصة الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرهما شهيرة جداً ولكن نذكر منها طرفاً تبركاً بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وبذكر السيدة عائشة وأبويها رضي الله تعالى عنهم، فنقول :«عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ؛ قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين فأذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري وإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت : وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما سار الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داعٍ ولا مجيب، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليَّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن معطل السهمي ثم الذكواني رضي الله تعالى عنه قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يدها فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك،
وكان الذي تولى كبر الإفك منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهراً والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم، ثم ينصرف فذلك الذي يريبني فيه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع، وكان متبرزناً وكنا لا نخرج إلا ليلاً وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأولى في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت لها : بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهداً بدراً، فقالت : يا هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟ قالت : وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : كيف تيكم، فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبويّ، قالت : وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ؛ قالت : فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت أبويّ فقلت لأمي : يا أماه ماذا يتحدث الناس ؟ قالت : يا بنية هوني عليك فوالله ما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها ؛ قالت : فقلت سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي ؛ قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودِّ، فقال أسامة : هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم والله إلا خيراً، وأما عليّ فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ قالت : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً وقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، ولم يدخل على أهلي إلا معي ؛ قالت : فقام سعد أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ؛ قالت : وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن حملته الحمية فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن تقتله، فقام أسيد بن حضير ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه كأنك منافق تجادل عن المنافقين قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت ؛ قالت : فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت : وأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع حتى أني لأظن أن البكاء فالق كبدي فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت : فبينما نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ؛ قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، و قد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء ؛ قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال : أما بعد يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه ؛ قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى لا أحس منه بقطرة، فقلت لأبي : أجب رسول الله فيما قال، فقال : إني والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقالت أمي : والله ما أدري ما أقول لرسول الله، فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : والله لقد علمت ما سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني فوالله لا أجد لي ولا لكم مثلاً إلا ما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه حين قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ثم تحولت واضطجعت على فراشي والله يعلم حينئذٍ أني بريئة، والله مبرئي ببراءتي ؛ ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى في بأمر، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما كان يأخذه عند الوحي من البرحاء حتى أنه لا ينحدر منه العرق مثل الجمان في اليوم الشاتي من ثقل الذي أنزل عليه فسجي بثوب، فوالله ما سرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفس أبوي ستخرجان فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس، فلما سرى عنه وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : أبشري يا عائشة قد برأك الله فكنت أشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي ؛ لقد سمعتموه فما أنكرتموه، ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى :﴿ إن الذين جاؤوا ﴾ العشر آيات كلها، فقال أبو بكر : والله لا أنفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح التي كان ينفقها عليه، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً ؛ قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت حجش عن أمري فقال لزينب : ما علمت أو رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيراً ؛ قالت عائشة : وهي التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع ؛ قالت عائشة :«والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت كنف أنثى قط، قالت : ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله تعالى » ؛ قالت : ولما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن وضرب ع
فإن قيل : هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ؟ أجيب : بأن ذلك مبالغة في التوبيخ على طريقة الالتفات وليصرح بلفظ الإيمان دالاً على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع مقالة في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير هذا إفك مبين هكذا اللفظ المصرح ببراءة ساحته لا يقول كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه.
فائدة : في مقطوعة في الرسم من ما كما ترى،
﴿ إذ ﴾ أي : مسكم حين ﴿ تلقونه ﴾ أي : تجتهدون في تلقي أي : قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه ﴿ بألسنتكم ﴾ أي : يرويه بعضكم عن بعض وذلك أن الرجل منهم كان يلقى الرجل فيقول : بلغني كذا وكذا يتلقونه تلقياً يلقيه بعضهم إلى بعض، وحذفت من الفعل إحدى التاءين ﴿ وتقولون بأفواهكم ﴾ أي : كلاماً مختصاً بالأفواه فهو كلام لا حقيقة له فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل وأكد هذا المعنى بقوله تعالى :﴿ ما ليس لكم به علم ﴾ أي : بوجه من الوجوه وتنكيره للتحقير.
فإن قيل : القول لا يكون إلا بالفم، فما معنى قوله تعالى :﴿ بأفواهكم ﴾ ؟ أجيب : بأن معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه اللسان وهذا الإفك ليس إلا قولاً يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب كقوله تعالى :﴿ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ﴾ [ آل عمران، ١٦٧ ]
﴿ وتحسبونه ﴾ بدليل سكوتكم عن إنكاره ﴿ هيناً ﴾ أي : لا إثم فيه ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ عند الله ﴾ أي : الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته ﴿ عظيم ﴾ في الوزر واستجرار العذاب فهذه ثلاثة آثام مرتبة علق بها مس العذاب العظيم تلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير تحقق واستصغارهم لذلك، وهو عند الله تعالى عظيم.
فإن قيل : كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم ؟ أجيب : بأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها وأنها لا انفكاك لها عنه فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قيل : أيّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلاً ؟ أجيب : بأن الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يذبوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم.
فإن قيل : ما معنى يكون والكلام بدونه ملتئم لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا ؟ أجيب : بأن معناه ينبغي ويصح أي : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا وما يصح لنا كما تقدم تقريره، ونحوه ﴿ ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ﴾ [ المائدة، ١١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ سبحانك ﴾ تعجب من أن يخطر ذلك بالبال في حال من الأحوال.
فإن قيل : ما معنى التعجب في كلمة التسبيح ؟ أجيب : بأن الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية التعجب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب، وقيل : تنزيه، فهو منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء القذفة، وعن أن لا يعاقبهم وعن أن تكون حرمة نبيه صلى الله عليه وسلم فاجرة، قال البيضاوي : فإن فجورها ينفر عنه ويخل بمقصود الزواج بخلاف كفرها فإنه لا ينفر أي : ولهذا كانت امرأة نوح ولوط كافرتين، وهذا يقتضي حل نكاح الكتابية مع أنها لا تحل له صلى الله عليه وسلم لأنها تكره صحبته ؛ ولأنه أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة بنكاح ولقوله تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ [ الأحزاب، ٦ ]
ولا يجوز أن تكون الكافرة أم المؤمنين، ولخبر «سألت ربي أن لا أزوج إلا من كانت معي في الجنة فأعطاني » رواه الحاكم وصحح إسناده.
أما التسري بالكافرة فلا يحرم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تسرى بريحانة وكانت يهودية من بني قريظة ولا يشكل تعليلهم السابق من أنه أشرف أن يضع ماءه في رحم كافرة ؛ لأن القصد بالنكاح أصالة التوالد فاحتيط له، وبأنه يلزم منه أن تكون الزوجة المشركة أم المؤمنين بخلاف الملك فيهما ﴿ هذا بهتان ﴾ أي : كذب يبهت من يواجه به ويحيره لشدّة ما يفعل في القوى الباطنة ؛ لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه، ثم هونه بقوله ﴿ عظيم ﴾ لعظمة المبهوت عليه، فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها، ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً ترجمه بقوله :﴿ يعظكم الله ﴾.
فإن قيل : هل يجوز أن يسمى الله واعظاً كقوله تعالى :﴿ يعظكم الله ﴾ ؟ أجيب : بأنه لا يجوز كما قاله الرازي، قال : كما لا يجوز أن يسمى الله معلماً كقوله تعالى :﴿ الرحمن ١ علم القرآن ﴾ [ الرحمن، ١ ] ؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية.
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة | على المرء من وضع الحسام المهند |
ولقد لهوت بطفلة ميالة | بلهاء تطلعني على أسرارها |
الآية، وبرّأ موسى عليه الصلاة والسلام من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرّأ مريم بإنطاق ولدها عليه الصلاة والسلام حين نادى من تحتها ﴿ إني عبد الله ﴾ [ مريم، ٣٠ ] الآية، وبرّأ عائشة رضي الله تعالى عنها بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات فانظر كيف بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على أنافة محل سيد ولد آدم وخيرة الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين، ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه وتقدم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق فليتلق ذلك من آيات الإفك وليتأمل كيف غضب الله تعالى له في حرمته، وكيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه، وقال قوم : ليس لمن قذف عائشة وبقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة ؛ لأن الله تعالى لم يذكر في قذفهن توبة، وما ذكر من أول السورة فذاك في قذف غيرهن.
فإن قيل : إن كانت عائشة هي المرادة، فكيف قيل المحصنات ؟ أجيب : بأنها لما كانت أم المؤمنين جمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان ولذا قيل : إن هذا حكم كل قاذف ما لم يتب.
فإن قيل : ما معنى قوله تعالى :﴿ هو الحق المبين ﴾ ؟ أجيب : بأن معناه ذو الحق المبين أي : العادل الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه والمحق الذي لا يوصف بباطل ومن هذه صفته كان له أن يجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه، وقرأ : يشهد ؛ حمزة والكسائي بالياء التحتية والباقون بالفوقية، ويوم ناصبه الاستقرار الذي تعلق به لهم، وقرأ أبو عمرو : يوفيهم الله، بكسر الهاء والميم، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم، والباقون بكسر الهاء وضم الميم هذا كله في الوصل، وأما الوقف فالجميع بكسر الهاء وسكون الميم.
ولا بد من إذن صريح إذا كان الداخل أجنبياً أو قريباً غير محرم سواء كان الباب مغلقاً أم لا، وإن كان محرماً فإن كان ساكناً مع صاحبه فيه لم يلزمه الاستئذان، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطء أو نحو ذلك ليستتر العريان فإن لم يكن ساكناً فإن كان الباب مغلقاً لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحاً فوجهان، والأوجه الاستئذان، وعن أبي موسى الأشعري أنه أتى باب عمر، فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ قالها ثلاثاً، ثم رجع وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«الاستئذان ثلاثاً »، و " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ألج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن، قولي له يقول : السلام عليكم أدخل، فسمع الرجل فقال : أدخل ".
وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساءً، ثم يدخل، فربما أصاب صاحب البيت مع امرأته في لحاف واحد، فصدّ الله عز وجل عن ذلك، وعلم ما هو الأحسن الأجمل، وكم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة المنسوخة قد تركوا العمل به وباب الاستئذان من ذلك.
قال الزمخشري : بينا أنت في بيتك إذ رعف عليك الباب بواحد من غير استئذان ولا تحية من تحايا إسلام ولا جاهلية، وهو ممن يسمع ما أنزل الله فيه، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أين الأذن الواعية. ﴿ ذلكم خير لكم ﴾ أي : من تحية الجاهلية، ومن أن تدخلوا من غير استئذان. «روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي ؟ قال : نعم، قال : إنها ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ قال الرجل : لا، قال : فاستأذن »، وقوله تعالى :﴿ لعلكم تذكرون ﴾ متعلق بمحذوف أي : أنزل عليكم، وقيل : بين لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد.
تنبيه : من للتبعيض، والمراد غض البصر عما لا يحل كما مرَّ والاقتصار به على ما يحل، وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة وأباه سيبويه.
فإن قيل : لم دخلت من في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ أجيب : بأن في ذلك دلالة على أن المراد أن أمر النظر أوسع بدليل جواز النظر للمحارم فيما عدا ما بين السرة والركبة، وأما نظر الفروج فالأمر فيه ضيق وكفاك فرقاً أن أبيح النظر إلا ما استثني منه، وحظر الجماع إلا ما استثني منه، ويجوز أن يراد مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء، وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار.
فإن قيل : لم قدم غض البصر على حفظ الفرج ؟ أجيب : بأن البلوى فيه أشد. وروي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فقال :«اصرف بصرك ». وعن بريدة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي :«يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية » أخرجه أبو داود والترمذي، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد » ﴿ ذلك ﴾ أي : غض البصر وحفظ الفرج ﴿ أزكى ﴾ أي : خير ﴿ لهم ﴾ لما فيه من البعد عن الريبة، سئل الشيخ الشبلي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى :﴿ يغضوا من أبصارهم ﴾، فقال : أبصار الرؤوس عن المحرمات وأبصار القلوب عن المحرمات، ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه خبير بأحوالهم وأفعالهم بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الملك الذي لا يخفى عليه شيء ﴿ خبير بما يصنعون ﴾ بسائر حواسهم وجوارحهم، فعليهم إذا عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأنه ليس بعورة في الصلاة وسائر بدنها عورة فيها، ولأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وخاصة الفقيرات، والوجه الثاني يحرم ؛ لأنه محل الفتنة ورجح حسماً للباب ﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ﴾ أي : يسترن الرؤوس والأعناق والصدور بالمقانع، فإن جيوبهن كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة فأمرن بأن يسدلنها من قدّامهن حتى تغطيها، ويجوز أن يراد بالجيوب الصدور تسمية لها باسم ما يليها ويلابسها، ومنه قولهم : ناصح الجيب بالنون والصاد أي : سليم الصدر، وقولك : ضربت بخمارها على جيبها كقولك : ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه ؛ قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : يرحم الله تعالى نساء المهاجرات لما أنزل الله وليضربن بخمرهن على جيوبهن شققن مروطهن فاختمرن بها، والمرط كساء من صوف أو خز أو كتان، وقيل : هو الإزار، وقيل : هو الدرع.
وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وعاصم بضم الجيم، والباقون بكسرها، وكرر قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن ﴾ لبيان من يحل له الإبداء، ومن لا يحل له أي : الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة ولا للأجانب وهي ما عدا الوجه والكفين ﴿ إلا لبعولتهن ﴾ أي : فإنهم المقصودون بالزينة، ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ولو الدبر ولكنه يكره، وقال ابن عباس : لا يضعن الجلباب والخمار عنهن إلا لأزواجهن ﴿ أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ﴾ فيجوز لهؤلاء أن ينظروا إلى الزينة الخفية ولا ينظروا إلى ما بين السرة والركبة، وإنما سومح في الزينة الخفية لأولئك المذكورين في الآية للحاجة المضطرّة إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولقلة الفتنة من جهتهم، ولما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار للنزول والركوب وغير ذلك ﴿ أو نسائهن ﴾ أي : المؤمنات، فإن الكافرات لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، فلا يجوز للمسلمة أن تتجرّد من ثيابها عند النساء الكافرات ؛ لأنهن أجنبيات عن الدين فكن كالرجال الأجانب، لكن يجوز أن ترى الكافرة منها ما يبدو عند المهنة، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الكتاب أن يدخلن الحمامات مع المسلمات، وقيل : النساء كلهن، وللعلماء في ذلك خلاف.
تنبيه : العورة على أربعة أقسام ؛ عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وعورة الرجل مع المرأة، أما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه ما عدا ما بين السرة والركبة، وكذلك المرأة مع المرأة، وأما المرأة مع الرجل أو الرجل مع المرأة، فلا ينظر أحدهما من الآخر شيئاً، وقيل : يجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجهها وكفيها إذا أمن الفتنة ولم تكن شهوة، وقيل : يجوز لها أن تنظر منه ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز لمن أراد أن يخطب حرة أن ينظر وجهها وكفيها، وهي تنظر منه إذا أرادت أن تتزوج به ما عدا ما بين السرة والركبة، وإن أراد أن يتزوج بأمة جاز أن ينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة، ويحرم أن ينظر بشهوة، ويحرم النظر بشهوة لكل منظور إليه إلا لمن أرد أن يتزوج بها وإلا حليلته ويباح النظر من الأجنبي لمعاملة وشهادة حتى يجوز النظر إلى الفرج للشهادة على الزنا والولادة، وإلى الثدي للشهادة على الرضاع وتعليم ومداواة بقدر الحاجة.
وكل ما حرم نظره متصلاً حرم نظره منفصلاً كشعر عانة من رجل أو قلامة ظفر من أجنبية، ويحرم اضطجاع رجلين أو امرأتين في ثوب واحد إذا كانا عاريين، وإن كان كل منهما في جانب من الفراش للخبر المتقدم، ويجب التفريق بين ابن عشر سنين وإخوته وأخواته في المضجع إذا كانا عاريين، وتسن مصافحة الرجلين والمرأتين لخبر :" ما من مسلمين يلتقيان ويتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ".
وتكره مصافحة من به عاهة كجذام أو برص، والمعانقة والتقبيل في الرأس للنهي عن ذلك إلا لقادم من سفر أو تباعد عهد، ويسن تقبيل الطفل ولو لغير أبويه شفقة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، ويسن تقبيل يد الحي لصلاح أو علم أو زهد أو نحو ذلك، ويكره لغني أو وجاهة أو نحو ذلك، وقوله تعالى :﴿ أو ما ملكت أيمانهنّ ﴾ يعم الإماء والعبيد، فيحل نظر العبد العفيف غير المبعض والمشترك والمكاتب إلى سيدته العفيفة لما روى أبو داود : أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم وما تلقى قال صلى الله عليه وسلم :" إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ".
وعن عائشة أنها قالت لعبدها ذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وأما الفاسق والمبغض والمشترك والمكاتب فكالأجنبي بل قيل : إن المراد بالآية الإماء وعبداً وأمة كالأجنبي وبه قال ابن المسيب آخراً، وقال : لا تغرنكم آية النور فإن المراد بها الإماء ﴿ أو التابعين ﴾ أي : الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم ﴿ غير أولي الإربة ﴾ أي : أصحاب الحاجة إلى النساء ﴿ من الرجال ﴾ أي : ليس لهم همة إلى ذلك ولا حاجة لهم في النساء لأنهم بله لا يعرفون شيئاً من أمرهن، وقيل : هم شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، وقيل : هم الممسوحون سواء كان حراً أم لا وهو ذاهب الذكر والأنثيين، أما ذاهب الذكر فقط أو الأنثيين فقط فكالفحل، وعن أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم. قال الزمخشري : فإن قلت : روي :«أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصي فقبله » قلت : لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف وإن صح فلعله قبله ليعتقه أو لسبب من الأسباب، انتهى. وعندنا يجوز جميع ذلك إذ لا مانع منه، وقيل : المراد بأولي الإربة هو المخنث، وقرأ ابن عامر وشعبة بنصب الراء على الاستثناء والحال، والباقون بكسرها على الوصفية، وقوله تعالى :﴿ أو الطفل ﴾ بمعنى الأطفال وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس ويبينه ما بعده، وهو قوله تعالى :﴿ الذين لم يظهروا ﴾ أي : لم يطلعوا ﴿ على عورات النساء ﴾ للجماع فيجوز لهن أن يبدين لهم ما عدا ما بين السرة والركبة ؛ قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى : إذا لم يبلغ الطفل حداً يحكي ما يراه فكالعدم أو بلغه من غير شهوة فكالمحرم، أو بشهوة فكالبالغ ﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾ وذلك أن المرأة كانت تضرب برجلها الأرض ليقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال، وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها على الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين فنهين عن ذلك لأن ذلك يورث ميلاً في الرجال، وإذا وقع النهي عن إظهار صوت الحلي فمواضع الحلي أبلغ في النهي وأوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد ولا يخلو من تقصير يقع منه فلذلك قال تعالى :﴿ وتوبوا إلى الله ﴾ أي : الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ﴿ جميعاً أيها المؤمنون ﴾ أي : مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره.
وشروط التوبة أن يقلع الشخص عن الذنب ويندم على ما مضى منه ويعزم على ألا يعود إليه ويرد الحقوق لأهلها، وقرأ ابن عامر في الوصل : أيها المؤمنون بضم الهاء لأنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها والباقون بفتحها، وأما الوقف فوقف أبو عمرو والكسائي بالألف بعد الهاء، ووقف الباقون على الهاء ساكنة ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : تنجون من ذلك بقبول التوبة منه، وفي الآية تغليب الذكور على الإناث، وعن ابن عباس توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة.
فإن قيل : على هذا قد صحت التوبة بالإسلام لأنه يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة ؟ أجيب : بأن بعض العلماء قال : إن من أذنب ذنباً ثم تاب لزمه كلما ذكره أن يجدد التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه على عدم العودة إلى أن يلقى الله تعالى، والذي عليه الأكثر أنه لا يلزمه تجديدها.
وعن أبي بردة أنه سمع الأغر يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى ربي كل يوم مائة مرة »، وعن ابن عمر قال : إنا كنا لنعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول :«رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة »، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه »، وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للّه أفرح بتوبة عبده من أحدكم يسقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة ».
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي | وإن كنت أفتى منكم أتأيم |
فإن لم تنكسر شهوته بالصوم فلا يكسرها بالكافور ونحوه بل يتزوج، ويكره لغير التائق إن فقد الأهبة أو وجدها وكان به علة كهرم فإن وجدها ولا علة به وهو غير تائق فالتخلي للعبادة أفضل من النكاح إن كان متعبداً فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل من تركه لقوله صلى الله عليه وسلم :«من أحب فطرتي فليستن بسنتي » وهي النكاح، وعنه صلى الله عليه وسلم «من كان له مال يتزوج به فلم يتزوج فليس منا »، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويلاه عصم ابن آدم مني ثلثي دينه » والأحاديث في ذلك كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدى إلى معصية أو مفسدة، وعنه صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزوبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال »، وفي رواية :«يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية، فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة »، ويندب النكاح للمرأة التائقة وفي معناها المحتاجة إلى النفقة، والخائفة من اقتحام الفجرة، ويستحب أن تكون المنكوحة بكراً إلا لعذر لقوله صلى الله عليه وسلم «هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك »، ولوداً لقوله صلى الله عليه وسلم «تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة »، وفي رواية :«يا عياض لا تتزوج عجوزاً ولا عاقراً، فإني مكاثر دينة » لما روى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال :«الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ».
وقيل : المراد بالصالحين الصالحون للنكاح والقيام بحقوقه، و قوله تعالى :﴿ إن يكونوا ﴾ أي : الأحرار ﴿ فقراء يغنهم الله ﴾ أي : بالتزويج ﴿ من فضله ﴾ ردّ لما عساه أن يمنع من النكاح والمعنى لا يمنعهن فقر الخاطب والمخطوبة من المناكحة، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غادٍ ورائح، أو وعد من الله تعالى بالغنى لقوله صلى الله عليه وسلم «اطلبوا الغنى في هذه الآية ».
لكن ينبغي أن تكون شريطة الله تعالى غير منسية في هذا الوعد ونظائره، وهي مشيئته ولا يشاء الحكيم إلا ما اقتضته الحكمة، ونحوه :﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ٢ ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ [ الطلاق، ٢ - ٣ ]، وقد جاءت الشريطة منصوصة في قوله تعالى :﴿ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ﴾ [ التوبة، ٢٨ ]، ومن لم ينس هذه الشريطة لم ينتصب معترضاً بعزب كان غنياً فأفقره النكاح.
وبفاسق تاب واتقى الله وكان له شيء ففني وأصبح مسكيناً، وورد :«التمسوا الرزق بالنكاح »، وشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجل الحاجة فقال :«عليك بالباءة » أي : النكاح، وعن عمر رضي الله عنه : عجبت لمن يبتغي الغنى بغير النكاح، والله تعالى يقول :﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ﴾، وحكي عنه أنه قال : عجبت لمن لم يطلب الغنى بالباءة، وقال طلحة بن مطرف : تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع في أخلاقكم ويزيد الله في ثروتكم ؛ قال الزمخشري : ولقد كان عندنا رجل رازح الحال ثم رأيته بعد سنين وقد انتعشت حاله وحسنت، فسألته فقال : كنت في أول أمري على ما علمت وذلك قبل أن أرزق ولداً، فلما رزقت بكر ولدي تراخيت عن الفقر فلما ولد لي الثاني ازددت خيراً فلما تتاموا ثلاثة صبَّ الله علي الخير، فأصبحت إلى ما ترى، انتهى. ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الملك كله ﴿ واسع ﴾ أي : ذو سعة لخلقه لا تنفد نعمه إذ لا تنتهي قدرته ﴿ عليم ﴾ بهم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
وسبب نزول هذه الآية ما روي أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى يقال له : الصبيح، سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فأنزل الله هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأداها، وقتل يوم حنين في الحرب وأركانها أربعة رقيق وصيغة وعوض وسيد وشرط في السيد كونه مختاراً أهل تبرع وولاء وكتابة المريض مرض الموت محسوبة من الثلث، فإن خلف مثلي قيمته صحت الكتابة في كله أو مثل قيمته صحت في ثلثيه أو لم يخلف غيره صحت في ثلثه، وشرط في الرقيق اختيار وعدم صبا وجنون وأن لا يتعلق به حق آدمي لازم، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالكتابة كأن يقول السيد لمملوكه : كاتبتك على ألفين في شهرين كل شهر ألف، فإذا أديتهما فأنت حر، فيقول العبد : قبلت ذلك، فلا يصح عقدها إلا مؤجلاً منجماً بنجمين فأكثر، كما جرى عليه الصحابة فمن بعدهم، فلا بدّ من بيان قدر العوض وصفته وعدد النجوم وقسط كل نجم فلا تجوز عند الشافعي رضي الله تعالى عنه بنجم واحد ولا بحال لأن العبد لا يملك شيئاً فعقدها بحال يمنع من حصول الغرض لأنه لا يقدر على أداء البدل عاجلاً، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تجوز حالاً ومؤجلاً ومنجماً وغير منجم ؛ لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم، وقياساً على سائر العقود وهي سنة لا واجبة، وإن طلبها الرقيق لئلا يتعطل أثر الملك وتتحكم المماليك على الملاك بطلب رقيق أمين قوي على الكسب وبهما فسر الشافعي الخير في الآية واعتبرت الأمانة لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق، والطلب والقدرة على الكسب ليوثق بتحصيل النجوم.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاث حق على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله »، فإن فقدت هذه الشروط أو بعضها فهي مباحة إذ لا يقوى رجاء العتق بها ولا تكره بحال لأنها عند فقد ما ذكر فقد تفضي إلى العتق، نعم إن كان الرقيق فاسقاً بسرقة أو نحوها، وعلم سيده أنه لو كاتبه مع العجز عن الكسب اكتسب بطريق الفسق لم يبعد تحريمها حينئذٍ لتضمنها التمكين من الفساد، وتصح على عوض قليل وكثير، ويجب أن يحط عنه قبل عتقه شيئاً متمولاً من النجوم، أو يدفعه إليه من جنسها أو من غيرها، كما قال تعالى :﴿ وآتوهم ﴾ أمر للسادة ﴿ من مال الله الذي آتاكم ﴾ ما يستعينون به في أداء ما التزموه لكم أيها السادة، وفي معنى الإيتاء حط شيء متمول مما التزموه بل الحط أولى من الدفع ؛ لأن القصد بالحط الإعانة على العتق وهي محققة فيه موهومة في الدفع إذ قد يصرف المدفوع في جهة أخرى، وكون ذلك في النجم الأخير أولى منه فيما قبله لأنه أقرب إلى العتق.
يروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمر وقال : استعن به على كتابتك، فقال : لو أخرته إلى آخر نجم، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك وكونه ربعاً من النجوم أولى، فإن لم تسمح به نفسه فكونه سبعاً أولى، روى حط الربع النسائي وغيره، وحط السبع مالك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة أمر للمسلمين على جهة الوجوب بإعانتهم للمكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال كقوله :﴿ وفي الرقاب ﴾ [ البقرة، ١٧٧ ] ولما بين تعالى ما يصح من تزويج العبيد والإماء أتبع ذلك بالحكم العاشر وهو الإكراه على الزنا المذكور في قوله تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم ﴾ أي : إماءكم ﴿ على البغاء ﴾ أي : الزنا.
كان لعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية يؤاجرون إماءهم، فلما جاء الإسلام قالت مسيكة لمعاذة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين، فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه، وإن يك شراً فقد آن لنا أن ندعه، فأنزل الله هذه الآية، وروي أنه جاءت إحدى الجاريتين يوماً ببرد، وجاءت الأخرى بدينار فقال لهما : ارجعا فازنيا، فقالا : والله لا نفعل قد جاء الإسلام وحرم الزنا، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكيا إليه فنزلت.
ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي » ﴿ إن أردن تحصناً ﴾ أي : تعففاً عنه وهذه الإرادة محل الإكراه فلا مفهوم للشرط ؛ لأن الإكراه لا يتصور إلا عند إرادة التحصن، فأما إذا لم ترد المرأة التحصن فإنها بغي الطبع طوعاً، وكلمة إن وإيثارها على إذا إيذان بأن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من حيز الشاذ النادر ولأن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكر في سبب نزول الآية، فخرج النهي على صورة صفة السبب وإن لم تكن شرطاً فيه، وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها : وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصناً، ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ﴿ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ﴾ أي : تطلبوا من أموال الدنيا بكسبهن وأولادهن ﴿ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور ﴾ أي : لهن ﴿ رحيم ﴾ بهن، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال لهن : والله لهن أي : لا للمكره إلا إذا تاب.
فإن قيل : إن المكرهة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة ؟ أجيب : بأن الزنا لا يباح بالإكراه فهي آثمة لكن لا حد عليها للإكراه.
أحدها : قوله تعالى :
﴿ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ﴾ أي : الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت فيها الأحكام والحدود، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء التحتية والباقون بفتحها ؛ لأنها واضحات تصدقها الكتب المتقدمة والعقول السليمة من بين بمعنى تبين أو لأنها بينت الأحكام والحدود.
ثانيها : قوله تعالى :﴿ ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم ﴾ أي : من جنس أمثالهم، أي : وقصة عجيبة مثل قصصهم وهي قصة عائشة رضي الله تعالى عنها، فإنها كقصة يوسف ومريم عليهما السلام.
ثالثها : قوله تعالى :﴿ وموعظة للمتقين ﴾ أي : ما وعظ به في قوله تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾ [ النور، ٢ ]، وقوله تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون ﴾ [ النور، ١٢ ] إلخ، وفي قوله تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه قلتم ﴾ [ النور، ١٦ ] إلخ، وفي قوله تعالى :﴿ يعظكم الله أن تعودوا ﴾ [ النور، ١٧ ] إلخ وتخصيصها بالمتقين لأنهم المنتفعون بها.
إذ سار عبد الله من مرو ليلة | فقد سار منها نورها وجمالها |
أي : من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض، وإما أن يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به، واختلف أيضاً في معنى قوله تعالى :﴿ مثل نوره ﴾ فقال ابن عباس : مثل نوره الذي أعطى المؤمن أي : مثل نور الله في قلب المؤمن وهو النور الذي يهتدي به كما قال تعالى :﴿ فهو على نور من ربه ﴾ [ الزمر، ٢٢ ]، وقال الحسن وزيد بن أسلم : أراد بالنور القرآن، وقال سعيد بن جبير والضحاك : هو محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : أراد بالنور : الطاعة سمى طاعة الله نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضلاً أي : صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة ﴿ كمشكاة ﴾ أي : كصفة مشكاة وهي الكوة في الجدار غير النافذة ﴿ فيها مصباح ﴾ أي : سراج ضخم ثاقب ﴿ المصباح في زجاجة ﴾ أي : قنديل من زجاج شامي أزهر وإنما ذكر الزجاجة ؛ لأن النور وضوء النهار فيها أبين من كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج.
ثم وصف الزجاجة بقوله تعالى :﴿ الزجاجة كأنها ﴾ أي : النور فيها ﴿ كوكب دري ﴾ أي : مضيء شبهها في الضوء بإحدى الدراري من الكواكب الخمسة العظام وهي المشاهير المشتري والزهرة والمريخ وزحل وعطارد.
فإن قيل : لم شبه بالكواكب ولم يشبه بالشمس والقمر ؟ أجيب : بأنهما يلحقهما الخسوف والكسوف والكواكب لا يلحقها ذلك.
وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام والباقون بضمها منسوب إلى الدر أي : اللؤلؤ في صفاته وحسنه، وإن كان الكوكب أكثر ضوء من الدر لكن يفضل الكواكب بصفائه كما يفضل الدر سائر الحب، وهمز مع المد أبو عمر وشعبة وحمزة والكسائي والباقون بغير همز وكل من أهل الهمز على مرتبته في المد ﴿ توقد من شجرة مباركة زيتونة ﴾ أي : ابتداء توقده من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه بأن رويت فتيلة المصباح بزيت الشجرة، وهي شجرة كثيرة البركة وفيها منافع كثيرة ؛ لأن الزيت يسرج به ويدهن به وهو أدام وهو أصفى الأدهان وأضوؤها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح التاء والواو وبتشديد القاف على وزن تفعل على الماضي أي : المصباح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بضم التاء الفوقية وتخفيف القاف أي : المصباح ﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾ أي : ليست بشرقية وحدها لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية وحدها فلا تصيبها الشمس إذا طلعت بل هي مصاحبة للشمس طول النهار تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ، وهذا كما يقال : فلان ليس أسود ولا أبيض أي : ليس أسود خالصاً ولا أبيض خالصاً بل اجتمع فيه كل واحد منهما، وهذا الرمان ليس بحلو ولا حامض أي : اجتمع فيه الحلاوة والحموضة، هذا قول ابن عباس والأكثرين، وقال السدي وجماعة : معناه أنها ليست مقنأة لا تصيبها الشمس ولا في مضحاة لا يصيبها الظل فهي لا تضرها شمس ولا ظل، والمقنأة بقاف فنون فهمزة وهي بفتح النون وضمها المكان الذي لا تطلع عليه الشمس، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري
وفي الحديث :«لا خير في شجرة مقنأة ولا في نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى » قال ابن حجر العسقلاني : لم أجده، وقيل : معناه أنها معتدلة ليست في شرق يصيبها الحر، ولا في غرب يضرها البرد، وقيل : معناه هي شامية لأن الشام وسط الأرض لا شرقي ولا غربي، وقيل : ليست هذه الشجرة من أشجار الدنيا لأنها لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره ﴿ يكاد زيتها ﴾ أي : من صفائه ﴿ يضيء ولو لم تمسسه نار ﴾ أي : يكاد يتلألأ ويضيء بنفسه من غير نار ﴿ نور على نور ﴾ أي : نور المصباح على نور الزجاجة.
تنبيه : اختلف أهل العلم في معنى هذا التمثيل فقال بعضهم : وقع التمثيل لنور محمد صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس لكعب الأحبار : أخبرني عن قوله تعالى :﴿ مثل نوره كمشكاة ﴾ قال كعب : هذا مثل ضربه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فالمشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة تتوقد من شجرة مباركة هي شجرة النبوة يكاد نور محمد صلى الله عليه وسلم وأمره يتبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وروى سالم عن عمر في هذه الآية قال : المشكاة جوف النبي صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى فيه، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني، توقد من شجرة مباركة إبراهيم، نور على نور نور قلب إبراهيم ونور قلب محمد صلى الله عليهما وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي : المشكاة إبراهيم والزجاجة إسماعيل عليهما السلام، والمصباح محمد صلى الله عليه وسلم سماه الله تعالى مصباحاً كما سماه سراجاً، فقال تعالى :﴿ وسراجاً منيراً ﴾ [ الأحزاب، ٤٦ ] توقد من شجرة مباركة، وهي إبراهيم عليه السلام سماه مباركاً ؛ لأن أكثر الأنبياء من صلبه، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً لأن اليهود تصلي قبل المغرب والنصارى قبل المشرق، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار تكاد محاسن محمد صلى الله عليه وسلم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، نور على نور نبي من نسل نبي نور محمد على نور إبراهيم عليهما السلام، وقال بعضهم : وقع هذا التمثيل لنور قلب المؤمن، روى أبو العالية عن أبيّ بن كعب قال : هذا مثل المؤمن فالمشكاة نفسه والزجاجة صدره، والمصباح ما جعل الله من الإيمان والقرآن في قلبه توقد من شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده، فمثله كمثل شجرة التف بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك المؤمن قد احترس من أن يصيبه شيء من الفتن، فهو بين أربع خلال ؛ إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن حكم عدل، وإن قال صدق، يكاد زيتها يضيء ؛ أي : يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته إياه، نور على نور ؛ قال أبيّ : أي : فهو يتقلب في خمسة أنوار قوله نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة ؛ قال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاء العلم ازداد هدى على هدى، ونوراً على نور، وقال الكلبي : قوله تعالى : نور على نور يعني إيمان المؤمن وعمله، وقال السدي : نور الإيمان ونور القرآن، وقال الحسن وابن زيد : هذا مثل للقرآن، فالمصباح هو القرآن فكما يستضاء بالمصباح يهتدى بالقرآن، والزجاجة قلب المؤمن والمشكاة فمه ولسانه والشجرة المباركة شجرة الوحي، يكاد زيتها يضيء يعني : تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم يقرأ، نور على نور يعني القرآن نور من الله لخلقه مع ما قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نوراً على نور ﴿ يهدي الله لنوره ﴾ قال ابن عباس : دين الإسلام وقيل : القرآن ﴿ من يشاء ﴾ فإن الأسباب بدون مشيئته لاغية، وقيل : يوفق الله لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله والإنصاف من نفسه ولم يذهب عن الجادة الموصلة إليه يميناً وشمالاً، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى، سواء عليه جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس ﴿ ويضرب ﴾ أي : يبين ﴿ الله الأمثال للناس ﴾ تقريباً للأفهام وتسهيلاً للأكدار ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ معقولاً كان أو محسوساً، ظاهراً كان أو خفياً، وفيه وعيد لمن تدبرها ولم يكترث بها.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ رجال ﴾ فاعل يسبح بكسر الباء وعلى فتحها نائب الفاعل له ورجال فاعل فعل مقدر جواب سؤال مقدر كأنه قيل : من يسبحه وحذف من قوله تعالى :﴿ وإقام الصلاة ﴾ الهاء تخفيفاً أي : وإقامة الصلاة، وأراد أداءها في وقتها لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وإنما ذكر إقام الصلاة مع أن المراد من ذكر الله الصلوات الخمس لأنه تعالى أراد بإقامة الصلاة حفظ المواقيت. روى سالم عن ابن عمر : أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فقام الناس وغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد ؛ قال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية :﴿ وإيتاء الزكاة ﴾ قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها أي : فيخرجون ما يجب إخراجه من المال للمستحقين، وقيل : هي الأعمال الصالحة ومع ما هم عليه ﴿ يخافون يوماً ﴾ هو يوم القيامة ﴿ تتقلب ﴾ أي : تضطرب ﴿ فيه القلوب ﴾ بين النجاة والهلاك ﴿ والأبصار ﴾ بين ناحيتي اليمين والشمال، وقيل : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشك إلى اليقين وتنفتح الأبصار من الأغطية.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ حتى إذا جاءه ﴾ يدل على كونه شيئاً، وقوله تعالى : لم يجده شيئاً مناقض له ؟ أجيب : بأن معناه ﴿ لم يجده شيئاً ﴾ نافعاً كما يقال : فلان ما عمل شيئاً وإن كان قد اجتهد، أو أنه إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب يرى من بعيد بسبب الكثافة كأنه ضباب وهباء، فإذا قرب منه رق وانتشر وصار كالهواء ﴿ ووجد الله عنده ﴾ أي : ووجد عقاب الله الذي توعد به الكفار أو وجد زبانية الله، أو وجده محاسباً إياه أو قدم على الله ﴿ فوفاه حسابه ﴾ أي : جزاء عمله قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة فإنه قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية، ثم كفر بالإسلام ؛ قال ابن الخازن : والأصح أن الآية عامة في حق جميع الكفار ﴿ والله سريع الحساب ﴾ لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلا يشغله محاسبة واحد عن واحد، وفي هذا رد على المشبهة قبحهم الله تعالى لأنه تعالى لو كان متكلماً بآلة كما يقولون لما صح ذلك.
فإن قيل : لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة ؟ أجيب : بأنها موصوفة تقديراً ؛ أي : ظلمات كثيرة متكاثفة، وقرأ البزي سحاب بلا تنوين وجر ظلمات وقنبل ينون سحاب ويجر ظلمات، والبزي جعل الموج المتراكم بمنزلة السحاب، وأما قنبل : فإنه جعل ظلمات بدلاً من ظلمات الأولى والباقون بتنوين سحاب، وظلمات بالرفع فيهما ﴿ إذا أخرج ﴾ أي : الكافر في هذا البحر بدلالة المعنى، وإن لم يجرِ له ذكر ﴿ يده ﴾ وهي أقرب ما يرى إليه في هذه الظلمات ﴿ لم يكد ﴾ أي : الكائن فيه ﴿ يراها ﴾ أي : لم يقرب من رؤيتها فضلاً عن أن يراها كقول ذي الرمة :
إذا غير النأي ( أي : البعد وفي نسخة الهجر )المحبين لم يكد
رسيس الهوى ( أي : ثابته بمعنى الهوى الثابت ) من حب مية يبرح
أي : يزول، والمعنى لم يقرب من البراح فضلاً عن أن يبرح.
تنبيه : في كيفية هذا التشبيه وجوه ؛ أحدها : قال الحسن : إن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمة ؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب ؛ كذا الكافر له ظلمات ثلاثة : ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، ثانيها : قال ابن عباس : شبه قلبه وسمعه وبصره بهذه الظلمات الثلاث، ثالثها : أن الكافر لا يدري ولا يدري أنه لا يدري ويعتقد أنه يدري، فهذه المراتب الثلاثة شبه تلك الظلمات الثلاث، رابعها : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم، خامسها : أن هذه الظلمات متراكمة، فكذا الكافر لشدة إصراره على كفره، قد تراكمت عليه الضلالات حتى لو ذكر عنده أظهر الدلائل لم يفهمه.
﴿ ومن لم يجعل الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ له نوراً فما له من نور ﴾، قال ابن عباس : من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً فلا دين له، وقيل : من لم يهده الله فلا هادي له ؛ لأنه تعالى قادر على ما يريد.
فإن قيل : فالتسبيح بهذا المعنى حاصل لجميع المخلوقات، فما وجه تخصيصه هاهنا بالعقلاء ؟ أجيب : بأن خلقة العقلاء أشد دلالة على وجود الصانع سبحانه وتعالى ؛ لأن العجائب والغرائب في خلقهم أكثر، وهي العقل والنطق والفهم، ولما كان أمر الطير دلالته أعجب، ولأنها قد تكون بين السماء والأرض فتكون خارجة عن حكم من فيهما خصها بالذكر من جملة الحيوان بقوله تعالى :﴿ والطير صافات ﴾ أي : باسطات أجنحتها في جو السماء لا شبهة في أنه لا يمسكها إلا الله تعالى وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة وإقداره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته تعالى.
واختلف في عود الضمائر في قوله تعالى :﴿ كل ﴾ أي : من المخلوقات ﴿ قد علم صلاته وتسبيحه ﴾ على قولين أحدهما : أنها كلها عائدة على كل أي : كل قد علم هو صلاة نفسه وتسبيحها ؛ قال ابن عادل : وهذا أولى لتوافق الضمائر، ثانيهما : أن الضمير في علم عائد إلى الله تعالى وفي صلاته وتسبيحه عائد على كل ويدل عليه قوله تعالى :﴿ والله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ عليم بما يفعلون ﴾ وقيل : إن ضرب أجنحة الطير صلاته وتسبيحه، وهذا يؤيد أن المراد من التسبيح دلالة هذه الأمور على التنزيه لا النطق باللسان روي أن أبا ثابت قال : كنت جالساً عند أبي جعفر الباقر فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس وبعد طلوعها ؟ قال : لا، قال : فإنهن يقدسن الله ربهن ويسألنه قوت يومهن ؛ قال بعض العلماء : إنا نشاهد من الطيور وسائر الحيوانات أعمالاً لطيفة يعجز عنها كثير من العقلاء، فإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يلهمها معرفته ودعاءه وتسبيحه، وبيان أنه تعالى ألهمها الأعمال اللطيفة بوجوه :
أحدها : أن الدب يرمي بالحجارة ويأخذ العصا ويرمي الإنسان حتى يتوهم أنه مات فيتركه وربما عاد يشمه ويتجسس نفسه، ويصعد الشجرة أخف صعود، ويهشم الجوز بين كفيه تفريقاً بالواحدة، وصدمة بالأخرى، ثم يفتح فاه فيذر قشره، ويتغذى به، ويحكى عن الفأر في سرقته أمور عجيبة.
ثانيها : أمر النحل وما لها من الرياسة، والبيوت المسدسة التي لا يتمكن من بنائها أفاضل المهندسين.
ثالثها : انتقال الكركي من طرف من أطراف العالم إلى الطرف الآخر طالباً لما يوافقه من الأهوية، ويقال : من خواص الخيل أن كل واحد يعرف صوت الفرس الذي قاتله وقتاً ما، والتماسيح تفتح أفواهها لطائر يقع عليها يقال لها القطقاط، وينظف ما بين أسنانها، وعلى رأس ذلك الطائر كالشوكة فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطائر تأذى من تلك الشوكة فيفتح فاه، فيخرج ذلك الطائر، والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية سعتراً جبلياً، ثم تعود وقد عوفيت من ذلك، وحكي عن بعض الثقات المجربين للصيد أنه شاهد الحبارى تقاتل الأفعى وتنهزم عنها إلى بقلة تتناول منها ثم تعود، ولا تزال كذلك، وكان ذلك الشخص قاعداً في كن، وكانت البقلة قريبة من مسكنه، فلما اشتغل الحباري بالأفعى قلع البقلة، فعاد الحباري إلى منبتها فلم يجدها فأخذ يدور حول منبتها دوراناً متتابعاً حتى خرَّ ميتاً، فعلم الشخص أنه يعالج بأكلها من اللسعة، وتلك البقلة هي الجرجير البري، وابن عرس يستظهر في مقاتلة الحية بأكل السذاب فإن النكهة السذابية تنفر منها الأفعى، والكلاب إذا مرضت بطونها أكلت سنبل القمح، وإذا جرحت داوت الجراحة بالسعتر الجبلي.
رابعها : القنافذ تحس بالشمال والجنوب قبل الهبوب، فتغير المدخل إلى جحرها، وكان رجل بالقسطنطينية قد أثرى بسبب أنه ينذر بالرياح قبل هبوبها، وينفع الناس بإنذاره، وكان السبب فيه قنفذاً في داره يفعل الصنيع المذكور فيستدل به، والخطاف صناع في اتخاذ العش من الطين، وقطع الخشب، فإن أعوزه الطين ابتل وتمرغ في التراب ليحمل جناحاه قدراً من الطين، وإذا فرخ بالغ في تعهد الفراخ وتأخذ رزقها بمنقارها، وترميها من العش، والغرانيق تصعد في الجو عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض سحاب أو ضباب أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يتبع به بعضها بعضاً، وإذا باتت على جبل فإنها تضع رأسها تحت أجنحتها إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس فيسرع انتباهه وإذا سمع جرساً صاح، وحال النمل في الذهاب إلى مواضعها على خط مستقيم يحفظ بعضهاً بعضاً أمر عجيب، وإذا كشف عن بيوتها الساتر الذي كان يسترها، وكان تحته بيض لها، فإن كل نملة تأخذ بيضة في فمها وتذهب في أسرع وقت، والاستقصاء في هذا الباب مذكور في كتاب طبائع الحيوان، والمقصود في ذلك أن الفضلاء من العقلاء يعجزون عن أمثال تلك الحيل وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يقال : إنها تسبح الله تعالى وتثني عليه، وإن كانت غير عارفة بسائر الأمور التي تعرفها الناس، ويؤيد هذا قوله تعالى :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ [ الإسراء، ٤٤ ]، وقوله صلى الله عليه وسلم «إن نوحاً عليه السلام أوصى بنيه عند موته بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن في حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء، وقال الغزالي في الإحياء : روي «أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تولت عني الدنيا، وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبها يرزقون ؛ قال : فقلت : وما هي يا رسول الله، قال : قل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله عز وجل من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه »،
فإن قيل : بين إنما تدخل على مثنى فما فوقه فلم دخلت هنا على مفرد ؟ أجيب : بأن المراد بالسحاب الجنس فعاد الضمير على حكمه أو على حذف مضاف أي : بين أجزائه كما مر وبين قطعه فإن كل قطعة سحابة، وقرأ السوسي فترى في الوصل بالإمالة بخلاف عنه والباقون بالفتح، وأما في الوقف فأبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش بالإمالة بين بين، والباقون بالفتح، ﴿ وينزل من السماء ﴾ أي : من الغمام وكل ما علا فهو سماء ﴿ من جبال فيها ﴾ أي : في السماء وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال وقوله تعالى :﴿ من برد ﴾ بيان للجبال، والمفعول محذوف أي : ينزل مبتدئاً من السماء من جبال فيها من برد برداً، فمن الأولى : لابتداء الغاية باتفاق، والثانية : للتبعيض، والثالثة : للبيان، ويجوز أن تكون الثانية لابتداء الغاية أيضاً ومجرورها بدل من الأولى بإعادة العامل والتقدير وينزل من جبال أي : من جبال فيها فهو بدل اشتمال، والأخيرة للتبعيض واقع موقع المفعول.
فإن قيل : ما معنى ﴿ من جبال فيها من برد ﴾ ؟ أجيب : بأن فيه معنيين ؛ أحدهما : أن يخلق اللّه في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر وليس في العقل قاطع يمنعه، الثاني : أن يراد الكثرة بذكر الجبال كما يقال : فلان يملك جبالاً من ذهب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي، ثم بيّن تعالى أن ذلك باختياره وإرادته بقوله تعالى :﴿ فيصيب به ﴾ أي : بكلٍ من البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة ﴿ من يشاء ﴾ أي من الناس وغيرهم ﴿ ويصرفه عن من يشاء ﴾ صرفه عنه :
فائدة : عن مقطوعة من من في الرسم، ثم نبه تعالى على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النور الذي ربما نزل منه صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار بقوله تعالى :﴿ يكاد ﴾ أي يقرب ﴿ سنا ﴾ أي ضوء ﴿ برقه ﴾ وهو اضطراب النور في خلاله ﴿ يذهب ﴾ أي هو ملتبساً ﴿ بالأبصار ﴾ أي الناظرة له أي يخطفها لشدّة لمعانه وتلألئه فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر ونذيراً بنزول الصواعق، واعلم أن البرق الذي صفته كذلك لا بد وأن يكون ناراً عظيمة خالصة، والنار ضد الماء والبرد فظهوره يقتضي ظهور الضدّ من الضدّ وذلك لا يمكن إلا بقدرة قادر حكيم.
فإن قيل : كثير من الحيوانات لم يخلق من الماء كالملائكة خلقوا من النور وهم أعظم الحيوانات عدداً، وكذا الجن وهم مخلوقون من النار وخلق آدم من التراب كما قال تعالى :﴿ خلقه من تراب ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ] وخلق عيسى من الريح، كما قال تعالى :﴿ فنفخنا فيه من روحنا ﴾ [ التحريم، ١٢ ] ونرى كثيراً من الحيوانات يتوالد لا من نطفة ؟ أجيب : بوجوه ؛ أحسنها : ما قال القفال : إن من ماء صلة كل دابة وليس هو من صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى، ثانيها : إن أصل جميع المخلوقات من الماء على ما روي «أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم قسم ذلك الماء فخلق منه النار والهواء والنور والتراب »، والمقصود من هذه الآية بيان أصل الخلقة، فكان أصل الخلقة الماء، فلهذا ذكره الله تعالى، ثالثها : المراد من الدابة التي تدب على وجه الأرض ومسكنها هنالك، فتخرج الملائكة والجن، رابعها : لما كان الغالب من هذه الحيوانات كونها مخلوقة من الماء إما لأنها متولدة من النطفة، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء أطلق عليها لفظ كل تنزيلاً للغالب منزلة الكل.
فإن قيل : لم نكر الماء في قوله تعالى ﴿ من ماء ﴾ وعرفه في قوله تعالى ﴿ من الماء كل شيء حي ﴾ [ الأنبياء، ٣٠ ] ؟ أجيب : بأنه جاء هاهنا منكراً لأن المعنى خلق كل دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة، وعرفه في قوله تعالى :﴿ من الماء كل شيء حيّ ﴾ ؛ لأن المقصود هناك كونهم مخلوقين من هذا الجنس، وهاهنا بيان أن ذلك الجنس. ينقسم إلى أنواع كثيرة ﴿ فمنهم ﴾ أي : الدواب ﴿ من يمشي على بطنه ﴾. كالحية والحيتان والديدان واستعير المشي للزحف على البطن كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ويقال فلان ما مشى له أمر أو سمي بذلك للمشاكلة بذكر الزاحف مع الماشي ﴿ ومنهم من يمشي على رجلين ﴾ أي : فقط كالآدمي والطير ﴿ ومنهم من يمشي على أربع ﴾ أي : من الأيدي والأرجل كالنعم والوحش فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي، وقد نجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والحيوان الذي له أربع وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن ؟ أجيب : بأن هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر، فكان ملحقاً بالعدم، وقال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر من أربع ؛ لأن جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع وهي قوائم مشيه وكثرة الأرجل لبعض الحيوان زيادة في الخلقة لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها وبأن قوله تعالى :﴿ يخلق الله ما يشاء ﴾ كالتنبيه على سائر الأقسام فإن قيل : لم جاءت الأجناس الثلاثة على هذا الترتيب ؟.
أجيب : بأنه قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
تنبيه : إنما أطلق من على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المفصل بمن، وهو كل دابة وكان التعبير بمن أولى ليوافق اللفظ، ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر وكانوا منكرين له أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الكمال المطلق ﴿ على كل شيء ﴾ من ذلك وغيره ﴿ قدير ﴾ لأنه القادر على الكل والعالم بالكل، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات، فأي عقل يقف عليها، وأي خاطر يصل إلى ذرة من أسرارها ؛ بل هو الذي يخلق ما يشاء كيف يشاء، ولا يمنعه منه مانع.
ومنهل من الفلا في أوسطه | غلسته قبل القطا خرّطه |
تنبيه : قوله تعالى :﴿ إليه ﴾ يجوز تعليقه بيأتوا لأن أتى وجاء قد يتعديان بإلى، ويجوز أن يتعلق بمذعنين ؛ لأنه بمعنى مسرعين في الطاعة، وصححه الزمخشري قال : لتقدم صلته ودلالته على الاختصاص ومذعنين حال.
أجيب : بأن قوله تعالى :﴿ في قلوبهم مرض ﴾ أشار به إلى النفاق، وقوله تعالى :﴿ أم ارتابوا ﴾ إشارة إلى أنهم بلغوا في حب الدنيا حيث يتركون الدين بسببه فإن قيل : هذه الثلاثة متغايرة ولكنها متلازمة فكيف أدخل عليها كلمة أم ؟ أجييب بأنه تعالى نبههم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق وكان فيها شك وارتياب وكانوا يخافون الحيف من الرسول، وكل واحد من ذلك كفر ونفاق، واختلفوا في سبب نزول هذه الآية، فقال مقاتل : نزلت في بشر المنافق وكان قد خاصم يهودياً في أرض، فقال اليهودي : نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال المنافق : نتحاكم إلى كعب بن الأشرف فإن محمداً يحيف علينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد مضت قصتها في سورة النساء.
وقال الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي رضي الله تعالى عنه أرض تقاسماها فوقع إلى علي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة : بعني أرضك فباعه إياها وتقابضا، فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء، فقال لعلي : اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها، فقال علي : بل اشتريتها ورضيتها وقبضتها وعرفت حالها لا أقبلها منك، ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة : أما محمد فلا نأتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ، فنزلت الآية.
وقال الحسن : نزلت في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
وقرأ أبو عمرو وشعبة وخلاد ويتقه بسكون الهاء بخلاف عن خلاد وقالون باختلاس كسرة الهاء وحفص بسكون القاف، وقصر كسرة الهاء، والباقون وخلاد في أحد وجهيه بإشباع كسرة الهاء.
وفي اليمين على ما أنت واعده | ما دل أنك في الميعاد متهم |
أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره أمرنا طاعة أو المطلوب طاعة، ثانيها : أنه مبتدأ والخبر محذوف، أي : أمثل أو أولى أو خير أي : طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم خير من قسمكم الذي لا تصدقون فيه، ثالثها : طاعة مبتدأ أي : هذه الحقيقة ومعروفة هو الخبر أي : معروفة منكم ومن غيركم وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها ؛ لأن العموم الذي تصلح له قد تخصص بإرادة الحقيقة كما قالوه في أعرف المعارف.
والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها عل شمائله، وكذا المعصية ؛ لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها » رواه الطبراني عن عثمان، وعن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال : لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدى هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر، وعن سعيد : لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائناً من كان ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿ خبير بما تعملون ﴾ أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم فإنه فاضحكم لا محالة، ومجازيكم على نفاقكم.
ولقد نزلت فلا تظني غيره | مني بمنزلة المحب المكرم |
والثاني : أن المفعولين هما قوله :﴿ معجزين في الأرض ﴾ قاله الكوفيون، وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب، وفتح السين ابن عامر وعاصم وحمزة، وكسرها الباقون، وقوله تعالى :﴿ ومأواهم النار ﴾ أي : مسكنهم معطوف على لا تحسبن الذين كفروا معجزين، كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون أهل ودنا أو لا يفوتوننا ومأواهم النار المراد بهم المقسمون عليه بالله جهد أيمانهم، ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد المصير إليه، قال تعالى :﴿ ولبئس المصير ﴾ أي : المرجع مصيرها، فكيف إذا كان على وجه السكنى ؟
وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد كان لها غلام كبير، فدخل عليها في وقت فكرهته فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها، فنزلت، واللام في ﴿ ليستأذنكم ﴾ للأمر، وملك اليمين يشمل العبيد والإماء.
قال بعض المفسرين : هذا الخطاب وإن كان ظاهره للرجال، فالمراد به الرجال والنساء ؛ لأن التذكير يغلب على التأنيث قال الرازي : والأولى عندي أن الحكم ثابت في النساء بقياس جلي ؛ لأن النساء في باب العورة أشد حالاً من الرجال، فهو كتحريم الضرب بالقياس على حرمة التأفيف، وقال ابن عباس : هي في الرجال والنساء أي : البالغين أو من قاربوا البلوغ يستأذنون على كل حال في الليل والنهار للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم، واختلف العلماء في هذا الأمر فقيل : للندب، وقيل : للوجوب، واستظهر ﴿ والذين ﴾ أي : وليستأذنكم الذين ظهروا على عورات النساء، ولكنهم ﴿ لم يبلغوا الحلم ﴾ وقيده بقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ ليخرج الكفار والأرقاء، وعبر عن البلوغ بالاحتلام ؛ لأنه أقوى دلائله ﴿ ثلاث مرات ﴾ في اليوم والليلة، وقيل : ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم المرّة الأولى من الأوقات الثلاث ﴿ من قبل صلاة الفجر ﴾ ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ثياب النوم ﴿ و ﴾ المرّة الثانية ﴿ حين تضعون ثيابكم ﴾ أي : التي للخروج بين الناس ﴿ من الظهيرة ﴾ أي : شدة الحرّ، وهو انتصاف النهار ﴿ و ﴾ المرّة الثالثة ﴿ من بعد صلاة العشاء ﴾ ؛ لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات ؛ لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه ؛ لأنه غير منضبط، ثم علل بقوله تعالى :﴿ ثلاث عورات ﴾ أي : اختلالات في التستر والتحفظ ﴿ لكم ﴾ ؛ لأنها من ساعات وضع الثياب والخلوة ؛ قال البيضاوي : وأصل العورة الخلل، ومنها اعورَّ المكان، ورجل أعور إذا بدا فيه خلل انتهى.
وسميت هذه الأوقات عورات ؛ لأن الإنسان يضع فيها ثيابه فربما تبدو عورته، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي في الوصل ثلاث بالنصب بتقدير أوقات منصوباً بدل من محل ما قبله قام المضاف إليه مقامه، والباقون بالرفع على أنها خبر مبتدأ مقدر بعده مضاف، وقام المضاف إليه مقامه أي : هي أوقات، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، ثم بين سبحانه وتعالى حكم ما عدا ذلك بقوله تعالى مستأنفاً ﴿ ليس عليكم ﴾ أي : في ترك الأمر ﴿ ولا عليهم ﴾ أي : المماليك والصبيان في ترك الاستئذان ﴿ جناح ﴾ أي : إثم وأصله الميل في الدخول عليكم في جميع الساعات ﴿ بعدهن ﴾ أي : بعد هذه الأوقات الثلاثة إذا هجموا عليكم، ثم علل الإباحة في غيرها مخرجاً لغيرهم بقوله تعالى :﴿ طوّافون عليكم ﴾ أي : لعمل ما تحتاجون في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام ﴿ بعضكم ﴾ طوّاف ﴿ على بعض ﴾ لعمل يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج.
فإن قيل : بما رفع ﴿ بعضكم على بعض ﴾ ؟ أجيب : بأنه رفع بالابتداء وخبره على بعض أي : طوّاف على بعض، وحذف ؛ لأنّ طوافون يدل عليه، ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمراً لتلك الدلالة ﴿ كذلك ﴾ أي : كما بين ما ذكر ﴿ يبين الله ﴾ أي : بما له من إحاطة العلم والقدرة ﴿ لكم ﴾ أيتها الأمة ﴿ الآيات ﴾ في الأحكام وغيرها بعلمه وحكمته ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة العامة بكل شيء ﴿ عليم ﴾ بكل شيء ﴿ حكيم ﴾ فيما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ، واختلف في ذلك فقال الزمخشري : عن ابن عباس أنه قال : آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الأذن، وإني لآمر جاريتي أي : زوجتي أن تستأذن علي، وسأله عطاء : أستأذن على أختي ؟ قال : نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الآية، وعنه ثلاث آيات جحدهنّ الناس ؛ الإذن كله، وقوله تعالى :﴿ إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ﴾ [ الحجرات، ١٣ ] فقال الناس : أعظمكم بيتاً، وقوله :﴿ وإذا حضر القسمة ﴾ [ النساء، ٨ ]، وعن ابن مسعود : عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم، وعن الشعبي : ليست منسوخة، فقيل له : إن الناس لا يعملون بها، فقال : الله المستعان، وعن سعيد بن جبير : إن الناس يقولون : هي منسوخة والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها، وقال قوم : هي منسوخة. روى البغوي عن ابن عباس أنه قال : لم يكن للقوم ستر، ولا حجاب فكان الخدم والولائد يدخلون، فربما يرون منهم ما لا يحبون، فأمروا بالاستئذان، وقد بسط الله الرزق واتخذ الناس الستور، فلعل الرواية اختلفت عن ابن عباس.
ما زال مذ عقدت يداه إزاره | وسما فأدرك خمسة الأشبار |
وقال سعيد بن جبير والضحاك وغيرهما : كان العرجان والعميان والمرضى يتنزهون عن مؤاكلة الأصحاء ؛ لأن الناس يستقذرون منهم ويكرهون مؤاكلتهم، وعن عكرمة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا، وكان هؤلاء يقولون : الأعمى ربما أكل أكثر، وربما سبقت يده إلى ما سبقت عين آكليه إليه، وهو لا يشعر، والأعرج ربما أخذ في مجلسه مكان اثنين فيضيق على جليسه، و المريض لا يخلو من رائحة تؤذي أو جرح يبض أو نحو ذلك فنزلت، وقال مجاهد : نزلت الآية ترخيصاً لهؤلاء في الأكل من بيوت من سمى الله في هذه الآية، وذلك أن هؤلاء كانوا يدخلون محل الرجل لطلب الطعام، فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيت أبيه وبيت أمه، وبعض من سمى الله تعالى في هذه الآية، فكان أهل الزمانة يتحرجون من هذا الطعام ويقولون : ذهب بنا إلى بيت غيره فنزلت الآية.
وقال سعيد بن المسيب : كان المسلمون إذا غزوا غلقوا منازلهم ويدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله تعالى هذه الآية رخصة لهم، وقال الحسن : نزلت رخصة لهؤلاء في التخلف عن الجهاد، وقال : تم الكلام عند قوله تعالى :﴿ ولا على المريض حرج ﴾، وقوله تعالى :﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا في بيوتكم ﴾ كلام مستأنف منقطع عما قبله فإن قيل : أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعاماً في بيته ؟ أجيب : بأن المراد من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيه بيوت الأولاد ؛ لأن بيت ولده كبيته ؛ قال صلى الله عليه وسلم «أنت ومالك لأبيك »، وقال صلى الله عليه وسلم «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه »، وقيل لما نزل قوله تعالى :﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ [ النساء، ٢٩ ] قالوا : لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد، فأنزل الله تعالى :﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ أي : لا حرج عليكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴿ أو بيوت آبائكم ﴾ أي : وإن بعدت أنسابهم قال البقاعي : ولعله جمع لذلك فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم ﴿ أو بيوت أمهاتكم ﴾ كذلك وقدم الأب ؛ لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له ﴿ أو بيوت إخوانكم ﴾ أي : من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين ؛ لأنهم منكم، وهم أولياء بيوتهم ﴿ أو بيوت أخواتكم ﴾، فإنهن بعدهم من أولي البيت، فإن كن مزوجات فلا بد من إذن الزوج ﴿ أو بيوت أعمامكم ﴾ فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أم لأم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط، فإنه أحق بالاسم ﴿ أو بيوت عماتكم ﴾ فإنهن بعد الأعمام لضعفهن ؛ ولأنهن ربما كان أولياء بيوتهن الأزواج ﴿ أو بيوت أخوالكم ﴾ لأنهم شقائق أمهاتكم ﴿ أو بيوت خالاتكم ﴾ أخرهن لما ذكر في العمات ﴿ أو ما ملكتم مفاتحه ﴾ قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته، ولا يحمل ولا يدخر، وملك المفاتح كونها في يده وحفظه، وقال الضحاك : يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم ؛ لأن السيد يملك منزل عبده والمفاتح الخزائن بقوله تعالى :﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ [ الأنعام، ٥٩ ] ويجوز أن تكون الذي يفتح به، وقال عكرمة : إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير، وقال السدي : الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه، وقيل : أو ما ملكتم مفاتحه ما خزنتموه عندكم، وقال مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم مما ادخرتم وملكتم ﴿ أو صديقكم ﴾ أي : أو بيوت أصدقائكم، والصديق هو الذي صدق في المودة ويكون واحداً وجمعاً، وكذا الخليط والقطين والعدو قال ابن عباس : نزلت في الحرث بن عمرو خرج غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال : تحرجت أكل طعامك بغير إذنك، فأنزل الله هذه الآية. يحكى عن الحسن أنه دخل داره، وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص ولطائف الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال : هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها، فأخبرته أعتقها سروراً بذلك، وعن جعفر بن محمد : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى في الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والابن والأخ.
وعن ابن عباس : الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا :﴿ فمالنا من شافعين ١٠٠ ولا صديق حميم ﴾ [ الشعراء، ١٠١ ]، والمعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر وإن لم يحضروا إذا علم رضا صاحب البيت بإذن أو قرينة ظاهرة الحال، فإن ذلك يقوم مقام الإذن الصريح، ولذلك خصص هؤلاء فإنهم يعتادون التبسط بينهم وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه، فإن قيل : إذا كان ذلك لا بد فيه من العلم بالرضا فحينئذٍ لا فرق بينهم وبين غيرهم ؟ أجيب : بأن هؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم لا بد فيه من صريح الإذن أو قرينة قوية، هذا ما ظهر لي ولم أرَ من تعرض لذلك، وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والأكل من طعامه بغير إذنه لهذه الآية، واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع ؛ لأن الله تعالى أباح لهم الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذنهم.
فإن قيل : فيلزم أن لا يقطع إذا سرق من مال صديقه ؟ أجيب : بأن من سرق من ماله لا يكون صديقاً له، وقيل : إن هذا كان أول الإسلام ثم نسخ فلا دليل له فيه، وقرأ بيوتكم وبيوت وبيوتاً ورش وأبو عمرو وحفص بضم الباء الموحدة، والباقون بالكسر، وقرأ حمزة والكسائي أمهاتكم في الوصول بكسر الهمزة، والباقون بالضم، وكسر الميم حمزة، وفتحها الباقون.
ولما ذكر تعالى معدن الأكل ذكر حاله بقوله تعالى :﴿ ليس عليكم جناح ﴾ أي : إثم ﴿ أن تأكلوا جميعاً ﴾ أي : مجتمعين ﴿ أو أشتاتاً ﴾ أي : متفرقين، واختلف في سبب نزول هذه الآية، فقال الأكثرون : نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، وكانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، وقال عطاء عن ابن عباس : كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، فيدعوه إلى طعامه، فيقول : والله إني لأجنح أي : أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير، فنزلت هذه الآية، وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاؤوا مجتمعين أو أشتاتاً متفرقين، وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً وحده، وكذلك الزمن والمريض، فبين الله تعالى لهم أن ذلك غير واجب، وقيل : تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض.
تنبيه :﴿ جميعاً ﴾ حال من فاعل تأكلوا، وأشتاتاً عطف عليه وهو جمع شتت، وشتى جمع شتيت وشتان تثنية شت، روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع، قال :«فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه »، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«كلوا جميعاً ولا تفرقوا واذكروا اسم الله فإن البركة مع الجماعة ».
ولما بين تعالى مواطن الأكل وكيفيته ذكر الحال التي عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها بقوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم ﴾ أي : بسبب ذلك أو غيره ﴿ بيوتاً ﴾ أي : من هذه البيوت ﴿ فسلموا على أنفسكم ﴾أي : على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة، جعل أنفس المؤمنين كالنفس الواحدة كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ [ النساء، ٢٩ ]
وقال ابن عباس : إذا لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال قتادة : إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق بالسلام ممن سلمت عليهم، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، حدثنا أن الملائكة ترد عليه ﴿ تحية من عند الله ﴾ أي : ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ﴿ مباركة ﴾ أي : لأنه يرجى بها زيادة الخير والثواب ﴿ طيبة ﴾ أي : تطيب بها نفس المستمع، والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله، ووصفها بالبركة والطيب ؛ لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله تعالى زيادة الخير وطيب الرزق، وعن أنس قال : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وقيل : تسع سنين، فما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا قال لي لشيء تركته : لم تركته ؟ وكنت واقفاً على رأسه أصب الماء على يديه، فرفع رأسه فقال :«ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها » قلت : بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال :«متى لقيت من أمتي أحداً فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلِّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين ».
تنبيه : تحية منصوب على المصدر من معنى فسلموا، فهو من باب قعدت جلوساً فكأنه قال : فحيوا تحية، وقال القفال : وإن كان في البيت أهل الذمة، فليقل : السلام على من اتبع الهدى، وكرر قوله تعالى :﴿ كذلك يبين الله ﴾ أي : الذي أحاط علمه بكل شيء ﴿ لكم الآيات ﴾ ثالثاً لمزيد التأكيد وتفخيم الأحكام المختتمة به، وفصل الأولين بما هو المقتضي لذلك وهذا بما هو المقصود منه، فقال تعالى :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ أي : عن الله أمره ونهيه وأدبه.
قال الضحاك ومقاتل : المراد عمر بن الخطاب وذلك «أنه استأذن في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له وقال :" انطلق فوالله ما أنت بمنافق " يريد أن يسمع المنافقون ذلك الكلام، فلما سمعوا ذلك قالوا : ما بال محمد إذا استأذنه أصحابه أذن لهم وإذا استأذناه أبى، فوالله ما نراه يعدل »، قال ابن عباس :«إن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له ثم قال : يا أبا حفص لا تنسنا من صالح دعائك »، ولما كان في الاستئذان ولو لعذر قصور ؛ لأن فيه تقديماً لأمر الدنيا على أمر الدين أمره الله تعالى بأن يستغفر لهم بقوله تعالى :﴿ واستغفر لهم الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله بعد الإذن ليكون ذلك شاملاً لمن صحت دعواه وغيره، ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار وتطييباً لقلوب أهل الأوزار بقوله تعالى :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي لا يخفى عليه شيء ﴿ غفور ﴾ أي : لفرطات العباد ﴿ رحيم ﴾ أي : بالتستر عليهم.
ولما كان بعضهم يظهر الموافقة ويبطن المخالفة حذر من ذلك بقوله تعالى :﴿ قد يعلم الله ﴾ أي : الذي لا تخفى عليه خافية ﴿ الذين يتسللون منكم ﴾ أي : ينسلون قليلاً قليلاً ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء، ونظير تسلل تدرج وتدخل، وقوله تعالى :﴿ لواذاً ﴾ حال أي : ملاوذين، واللواذ والملاوذة التستر يقال : لاذ فلان بكذا إذا استتر به، وقال ابن عباس : أي : يلوذ بعضهم ببعض، وذلك أن المنافقين كان يثقل عليهم المقام في المسجد يوم الجمعة لا سيما في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يلوذون ببعض أصحابه فيخرجون من المسجد في استتار، وقد للتحقيق وتسبب عن علمه تعالى قوله تعالى :﴿ فليحذر ﴾ أي : يوقع الحذر ﴿ الذين يخالفون عن أمره ﴾ أي : يعرضون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصرفون عنه بغير إذنه، وقال أبو بكر الرازي : الضمير في أمره لله ؛ لأنه يليه، وقال الجلال المحلي : أي : الله ورسوله وكلٌ صحيح، فإن مخالفة أمر أحدهما مخالفة أمر الآخر ﴿ أن ﴾ أي : لئلا ﴿ تصيبهم فتنة ﴾ قال مجاهد : بلاء في الدنيا، وعن ابن عباس : فتنة قتل، وعن عطاء : زلازل وأهوال، وعن جعفر بن محمد : يسلط الله عليهم سلطاناً جائراً ﴿ أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ أي : وجيع في الآخرة.
تنبيه : الآية تدل على أن الأمر للوجوب ؛ لأن تارك الأمور مخالف للأمر، ومخالف الأمر يستحق العذاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
فإن تمس مهجور الفناء فربما | أقام به بعد الوفود وفود |
أخي ثقة لا تهلك الخمر | ماله ولكنه قد يهلك المال نائله |