تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب التفسير الحديث
المعروف بـالتفسير الحديث
.
لمؤلفه
محمد عزة دروزة
.
المتوفي سنة 1404 هـ
ﰡ
سورة الفرقان
في السورة صور عديدة لمواقف الكفار من النبي ﷺ وأقوالهم وتعجيزاتهم.
وحملة تقريعية وإنذارية عليهم. وردود مفحمة ببراهين على قدرة الله وعظمته وربوبيته. وتذكير ببعض الأمم السابقة ومصائرهم. وتنويه بالمؤمنين الصالحين وأخلاقهم وحسن عاقبتهم.
وبين موضوعاتها وموضوعات السورة السابقة شيء غير يسير من التشابه والتساوق مما يمكن أن يكون قرينة على صحة ترتيب نزولها بعدها. ونظم السورة مسجع وموزون أكثر منه مرسلا. وفصولها مترابطة. وهذا وذاك مما يسوغ القول بوحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [٦٨- ٧٠] مدنيات. وانسجامها مع السياق والأسلوب وبروز الطابع المكي عليها مما يحمل على الشك في الرواية. وقد روى الطبري تفنيدا للرواية وتوكيدا بمكية الآيات. وهناك حديث رواه مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سنورده في ما بعد جاء فيه أن الآية [٧٠] مكية وهذه الآية جزء لا يتجزأ من الآيتين السابقتين لها حيث يؤيد كل هذا شكّنا في الرواية.
. (١) تبارك: تزايد خيره وعظمت بركته.
(٢) الفرقان: معناها اللغوي الفارق. وهي مصدر فرق بمعنى فصل.
ووردت في القرآن بمعان عديدة حيث وردت بمعنى التفريق بين الحقّ والباطل وبمعنى المبين للحق وبمعنى نصر الله وتأييده وللكناية عن القرآن والإشارة إليه وللكناية عن كتب الله مطلقا وعن كتب موسى عليه السلام وهي هنا للكناية عن القرآن. وقيل فيما قيل عن كنايتها للقرآن إنها تأتي أحيانا بمعنى المفرّق ضد المجموع للدلالة على نزوله مفرقا وليس جملة واحدة.
(٣) عبده: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(٤) قدّره تقديرا: خلقه بحساب وإحكام دقيقين.
(٥) نشورا: هنا بمعنى البعث بعد الموت.
بدأت السورة بالثناء على الله تعالى. وهذا المطلع من مطالع السورة المتكررة على اختلاف في الصيغ.
وقد أعقب الثناء في الآية الأولى والثانية تقرير كون الله تعالى هو الذي أرسل عبده ﷺ لينذر العالم أجمع ويبيّن لهم طريق الحق والهدى ويدعوهم إليه، وتقرير كون الله تعالى هو ملك السموات والأرض وليس له شريك فيه ولم يتخذ ولدا، وأنه خلق كل شيء على أدقّ ترتيب وحساب. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنديدا بالكافرين الجاحدين الذين يتخذون آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم أنفسهم مخلوقون ولا يملكون لأنفسهم- فضلا عن غيرهم- ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا حيث انطوى فيها تسفيه للمشركين والجاحدين بعبادتهم مثل هذه الآلهة دون الله تعالى مالك كل شيء وخالق كل شيء دون ما شريك.
ويبدو من الآيات التي جاءت بعد هذه الآيات أن هذه الآيات جاءت مقدمة لحكاية مواقف جحودية واستهزائية وتعجيزية وقفها الكفار والمشركون. وهي قوية
في السورة صور عديدة لمواقف الكفار من النبي ﷺ وأقوالهم وتعجيزاتهم.
وحملة تقريعية وإنذارية عليهم. وردود مفحمة ببراهين على قدرة الله وعظمته وربوبيته. وتذكير ببعض الأمم السابقة ومصائرهم. وتنويه بالمؤمنين الصالحين وأخلاقهم وحسن عاقبتهم.
وبين موضوعاتها وموضوعات السورة السابقة شيء غير يسير من التشابه والتساوق مما يمكن أن يكون قرينة على صحة ترتيب نزولها بعدها. ونظم السورة مسجع وموزون أكثر منه مرسلا. وفصولها مترابطة. وهذا وذاك مما يسوغ القول بوحدة نزولها أو تلاحق فصولها في النزول. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [٦٨- ٧٠] مدنيات. وانسجامها مع السياق والأسلوب وبروز الطابع المكي عليها مما يحمل على الشك في الرواية. وقد روى الطبري تفنيدا للرواية وتوكيدا بمكية الآيات. وهناك حديث رواه مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سنورده في ما بعد جاء فيه أن الآية [٧٠] مكية وهذه الآية جزء لا يتجزأ من الآيتين السابقتين لها حيث يؤيد كل هذا شكّنا في الرواية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣). (١) تبارك: تزايد خيره وعظمت بركته.
(٢) الفرقان: معناها اللغوي الفارق. وهي مصدر فرق بمعنى فصل.
ووردت في القرآن بمعان عديدة حيث وردت بمعنى التفريق بين الحقّ والباطل وبمعنى المبين للحق وبمعنى نصر الله وتأييده وللكناية عن القرآن والإشارة إليه وللكناية عن كتب الله مطلقا وعن كتب موسى عليه السلام وهي هنا للكناية عن القرآن. وقيل فيما قيل عن كنايتها للقرآن إنها تأتي أحيانا بمعنى المفرّق ضد المجموع للدلالة على نزوله مفرقا وليس جملة واحدة.
(٣) عبده: كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(٤) قدّره تقديرا: خلقه بحساب وإحكام دقيقين.
(٥) نشورا: هنا بمعنى البعث بعد الموت.
بدأت السورة بالثناء على الله تعالى. وهذا المطلع من مطالع السورة المتكررة على اختلاف في الصيغ.
وقد أعقب الثناء في الآية الأولى والثانية تقرير كون الله تعالى هو الذي أرسل عبده ﷺ لينذر العالم أجمع ويبيّن لهم طريق الحق والهدى ويدعوهم إليه، وتقرير كون الله تعالى هو ملك السموات والأرض وليس له شريك فيه ولم يتخذ ولدا، وأنه خلق كل شيء على أدقّ ترتيب وحساب. أما الآية الثالثة فقد احتوت تنديدا بالكافرين الجاحدين الذين يتخذون آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم أنفسهم مخلوقون ولا يملكون لأنفسهم- فضلا عن غيرهم- ضرّا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا حيث انطوى فيها تسفيه للمشركين والجاحدين بعبادتهم مثل هذه الآلهة دون الله تعالى مالك كل شيء وخالق كل شيء دون ما شريك.
ويبدو من الآيات التي جاءت بعد هذه الآيات أن هذه الآيات جاءت مقدمة لحكاية مواقف جحودية واستهزائية وتعجيزية وقفها الكفار والمشركون. وهي قوية
نافذة فيما احتوته من تقرير وتنديد وتسفيه.
وفي الآية الأولى تقرير جديد بكون الله عزّ وجلّ إنما أنزل القرآن ليكون نذيرا للعالمين في كل زمان ومكان. وقد سبق تقرير كون القرآن ذكرا للعالمين في سورتي القلم وص كما سبق أمر الله في سورة الأعراف للنبي ﷺ بإعلان كونه رسول الله إلى الناس جميعا حيث يتلاحق تقرير هذا الأمر منذ أوّل العهد النبوي فينطوي في ذلك ردّ قاطع متكرر على من يزعم خلاف ذلك.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
. (١) إفك: كذب.
(٢) افتراه: اخترعه.
(٣) أساطير: انظر شرحها في سورة القلم.
(٤) اكتتبها: بمعنى استكتبها على ما جاء في كشاف الزمخشري.
(٥) تملى: تتلى وتقرأ.
في الآيات حكاية لما كان يقوله كفار العرب حيث كانوا يقولون إن النبي ﷺ هو الذي يخترع القرآن وينسبه إلى الله افتراء، وإن هناك أناسا يساعدونه على ذلك، وإن القرآن مستمدّ من كتب الأولين وأساطيرهم وقصصهم، وإن النبي ﷺ كان يستكتبها ويكلّف من يتلوها عليه صباحا ومساء حتى يستظهرها. وقد ردّت عليهم الآية الرابعة ردّا قويا فوصفت أقوالهم بالظلم والزور وأمرت النبي ﷺ بالتوكيد بأن القرآن وحي أنزله عليه الله الغفور الرحيم الذي يعلم سرّ كل شيء في السموات والأرض.
وفي الآية الأولى تقرير جديد بكون الله عزّ وجلّ إنما أنزل القرآن ليكون نذيرا للعالمين في كل زمان ومكان. وقد سبق تقرير كون القرآن ذكرا للعالمين في سورتي القلم وص كما سبق أمر الله في سورة الأعراف للنبي ﷺ بإعلان كونه رسول الله إلى الناس جميعا حيث يتلاحق تقرير هذا الأمر منذ أوّل العهد النبوي فينطوي في ذلك ردّ قاطع متكرر على من يزعم خلاف ذلك.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٦]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
. (١) إفك: كذب.
(٢) افتراه: اخترعه.
(٣) أساطير: انظر شرحها في سورة القلم.
(٤) اكتتبها: بمعنى استكتبها على ما جاء في كشاف الزمخشري.
(٥) تملى: تتلى وتقرأ.
في الآيات حكاية لما كان يقوله كفار العرب حيث كانوا يقولون إن النبي ﷺ هو الذي يخترع القرآن وينسبه إلى الله افتراء، وإن هناك أناسا يساعدونه على ذلك، وإن القرآن مستمدّ من كتب الأولين وأساطيرهم وقصصهم، وإن النبي ﷺ كان يستكتبها ويكلّف من يتلوها عليه صباحا ومساء حتى يستظهرها. وقد ردّت عليهم الآية الرابعة ردّا قويا فوصفت أقوالهم بالظلم والزور وأمرت النبي ﷺ بالتوكيد بأن القرآن وحي أنزله عليه الله الغفور الرحيم الذي يعلم سرّ كل شيء في السموات والأرض.
49
والآيات معطوفة على سابقاتها والسياق متّصل ببعضه. وقد انطوى فيها وفي الآيات السابقة تقرير كون الكفار في حين يسخفون ويتخذون من دون الله آلهة لا يخلقون شيئا ولا ينفعون ولا يضرون يتواقحون فيقولون عن القرآن والنبي ﷺ هذه الأقوال الجريئة. وهكذا تستحكم الحجة ويأتي الكلام قويا لاذعا.
والمتبادر من جملة إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً في هذا المقام أنها أريد بها تقرير كون الله تعالى باتّصافه بالغفران لعباده والرحمة بهم أرسل عبده لينذرهم ويهديهم وأن ذلك جعله يمهل الكفار على ما يقولونه من أقوال ويقفونه من مواقف ولا يعجل بعذابهم. وقد قال بعض المفسرين إن في الجملة دعوة للكفار إلى التوبة إلى الله عن قولهم والرجوع إلى الحق. ولا يخلو هذا من الوجاهة وقد تكررت مثل هذه الدعوة في مختلف المواقف والمناسبات المكيّة والمدنيّة.
تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي ﷺ على القرآن
ويعزو المفسرون الأقوال الواردة في الآيات إلى النضر بن الحرث بن عبد الدار وأصحابه من مشركي قريش ويروون أنهم كانوا يقولون إن محمدا ﷺ كان يتعلّم من اليهود أو من بعض أفراد النصارى في مكة كانوا أرقاء وصناعا مثل جبرا ويسار الروميين وعبيد بن الحصر الحبشي الكاهن، ويستكتب ما عندهم من أسفار «١».
وفي الردّ الذي احتوته الآيات على أقوال الكفار إفحام قوي، فالوحي الرباني يسجّل أقوالهم في آيات تتلى على الناس جهرة ويردّ عليها ردّا فيه تكذيب لهم وتنديد بهم ونسبة الظلم والزور إليهم ويتلى كذلك على الناس جهرة فيسمع الكفار هذا وذاك ويسمعهما معهم الذين ينسب الكفار إليهم معاونة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمتبادر من جملة إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً في هذا المقام أنها أريد بها تقرير كون الله تعالى باتّصافه بالغفران لعباده والرحمة بهم أرسل عبده لينذرهم ويهديهم وأن ذلك جعله يمهل الكفار على ما يقولونه من أقوال ويقفونه من مواقف ولا يعجل بعذابهم. وقد قال بعض المفسرين إن في الجملة دعوة للكفار إلى التوبة إلى الله عن قولهم والرجوع إلى الحق. ولا يخلو هذا من الوجاهة وقد تكررت مثل هذه الدعوة في مختلف المواقف والمناسبات المكيّة والمدنيّة.
تعليق على زعم الكفار بأن أناسا يعاونون النبي ﷺ على القرآن
ويعزو المفسرون الأقوال الواردة في الآيات إلى النضر بن الحرث بن عبد الدار وأصحابه من مشركي قريش ويروون أنهم كانوا يقولون إن محمدا ﷺ كان يتعلّم من اليهود أو من بعض أفراد النصارى في مكة كانوا أرقاء وصناعا مثل جبرا ويسار الروميين وعبيد بن الحصر الحبشي الكاهن، ويستكتب ما عندهم من أسفار «١».
وفي الردّ الذي احتوته الآيات على أقوال الكفار إفحام قوي، فالوحي الرباني يسجّل أقوالهم في آيات تتلى على الناس جهرة ويردّ عليها ردّا فيه تكذيب لهم وتنديد بهم ونسبة الظلم والزور إليهم ويتلى كذلك على الناس جهرة فيسمع الكفار هذا وذاك ويسمعهما معهم الذين ينسب الكفار إليهم معاونة النبي صلى الله عليه وسلم.
(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.
50
وفي سورة النحل آية تفيد أن الكفار عادوا مرة أخرى فزعموا أن شخصا معينا يعلّم النبي صلى الله عليه وسلم. وهي هذه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) وقد ذكر المفسرون «١» أسماء جبرا ويسار أيضا في سياق هذه الآية، ولقد احتوت الآية ردّا قويا مفحما مثل الردّ الأول حيث حكت قول الكفار وكذّبته علنا على سمعهم وسمع الشخص الذي كانوا يذكرونه في معرض تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، مع زيادة مهمة هي ذكر هوية الشخص وكونه أعجمي اللسان وأنه ليس هناك أي احتمال لتعلّم النبي ﷺ منه ما يتلوه من قرآن عربي مبين.
وقد يقال إن الكفار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يشاهدوا النبي ﷺ يجتمع إلى أفراد من غير أهل مكة متنورين مثقفين مطلعين على الكتب الأولى، وقد يكون هذا واردا. وفي القرآن المكي آيات عديدة نوّهت بالذين أوتوا العلم والكتاب واستشهدت بهم وذكرت فرحهم بما أنزل على النبي ﷺ وشهادتهم بأنه حق وتصديقهم به وبرسالة النبي ﷺ الذي أنزل عليه مثل آيات سورة القصص هذه:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) وآية العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (٤٧) وآية سورة الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وآية
وقد يقال إن الكفار لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يشاهدوا النبي ﷺ يجتمع إلى أفراد من غير أهل مكة متنورين مثقفين مطلعين على الكتب الأولى، وقد يكون هذا واردا. وفي القرآن المكي آيات عديدة نوّهت بالذين أوتوا العلم والكتاب واستشهدت بهم وذكرت فرحهم بما أنزل على النبي ﷺ وشهادتهم بأنه حق وتصديقهم به وبرسالة النبي ﷺ الذي أنزل عليه مثل آيات سورة القصص هذه:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) وآيات سورة الإسراء هذه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) وآية العنكبوت هذه: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ (٤٧) وآية سورة الأنعام هذه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وآية
(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن مثلا.
51
سورة الرعد هذه: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [٣٦] ومن الممكن أن يكون من هؤلاء من اتصل به النبي ﷺ قبل بعثته أيضا. بل لقد روي أنه كان فعلا يمرّ على بعض الذين يقرأون الكتب الأولى ويسمع منهم «١».
غير أن ذلك لا يجعل للقول الذي يمكن أن يقال أهمية إيجابية في معرض دعوى الكفار بل ومن شأنه أن يحبطه. فإن جلّ الذين استشهد بهم وشهدوا بصدق القرآن والرسالة والذين من المحتمل أن يكون الكفار قد عنوهم أو عنوا بعضهم كمعلمين للنبي ﷺ بل كلهم قد انضووا إليه وآمنوا وصدقوا وخشعوا وفرحوا واستبشروا على ما ذكرته الآيات نفسها. وهذا يعني أن هؤلاء قد رأوا من صدق أعلام النبوّة ما جعلهم يؤمنون ويصدقون.
ولقد يقال أيضا إن الكفار دعموا ما قالوه بما رأوه من تشابه في المبادئ والأخبار بين القرآن والكتب الأولى فقالوا عنه إنه أساطير الأولين اكتتبها كما جاء في الآيات التي نحن في صددها وكرروا ذلك أكثر من مرة كما حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها. وليس في هذا ما يمكن أن يكون نقضا لتكذيب القرآن لهم وردّه عليهم. حتى مع التسليم بأن النبي ﷺ اطلع أو استمع لمحتويات ما كان يتداوله اليهود والنصارى من الأسفار. ففصول القرآن ليست سردا لتاريخ وقصدا إلى تدوين وقائع وتكرارا آليا لشرائع ومبادئ. وإنما هي دعوة حية جياشة إلى الله والعمل الصالح، متحدة في جوهرها مع دعوة الأنبياء الأولين وصادرة مثلها عن واجب الوجوب ووحيه كما نبهت إليه آيات سورة النساء هذه إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
غير أن ذلك لا يجعل للقول الذي يمكن أن يقال أهمية إيجابية في معرض دعوى الكفار بل ومن شأنه أن يحبطه. فإن جلّ الذين استشهد بهم وشهدوا بصدق القرآن والرسالة والذين من المحتمل أن يكون الكفار قد عنوهم أو عنوا بعضهم كمعلمين للنبي ﷺ بل كلهم قد انضووا إليه وآمنوا وصدقوا وخشعوا وفرحوا واستبشروا على ما ذكرته الآيات نفسها. وهذا يعني أن هؤلاء قد رأوا من صدق أعلام النبوّة ما جعلهم يؤمنون ويصدقون.
ولقد يقال أيضا إن الكفار دعموا ما قالوه بما رأوه من تشابه في المبادئ والأخبار بين القرآن والكتب الأولى فقالوا عنه إنه أساطير الأولين اكتتبها كما جاء في الآيات التي نحن في صددها وكرروا ذلك أكثر من مرة كما حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها. وليس في هذا ما يمكن أن يكون نقضا لتكذيب القرآن لهم وردّه عليهم. حتى مع التسليم بأن النبي ﷺ اطلع أو استمع لمحتويات ما كان يتداوله اليهود والنصارى من الأسفار. ففصول القرآن ليست سردا لتاريخ وقصدا إلى تدوين وقائع وتكرارا آليا لشرائع ومبادئ. وإنما هي دعوة حية جياشة إلى الله والعمل الصالح، متحدة في جوهرها مع دعوة الأنبياء الأولين وصادرة مثلها عن واجب الوجوب ووحيه كما نبهت إليه آيات سورة النساء هذه إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً
(١) انظر تفسير آية النحل [١٠٣] في تفسير الخازن مثلا.
52
حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) وآية سورة الشورى هذه شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) ومدعومة بما اقتضته حكمة التنزيل من دعائم ووسائل تمثيلية وتذكيرية ووعظية وإنذارية وتبشيرية في قصص الأولين وأخبارهم ومشاهدهم مما كان معروفا ومتداولا لدى سامعي القرآن أو في المشاهد والصور والأحداث القائمة والجارية في عصر النبي ﷺ وبيئته.
تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين
في العصور المتأخرة الافتراء إلى النبي ﷺ وموقفهم من رسالته العلوية ومن العجيب أن المتعصبين من الكتابيين في العصور المتأخرة لم يتأثروا ولم يكتفوا بما كان من نسبة الكفار إلى النبي ﷺ افتراء القرآن أو تلقيه من أناس آخرين وكتبهم مواجهة وبردّ القرآن عليهم بردوده القوية المفحمة النافذة إلى أعماق الضمير والتي منها الآيات التي نحن في صددها ثم آية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) وآية سورة الشورى هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ... [١٩] وآية سورة الأنعام هذه:
تعليق على نسبة المتعصبين من الكتابيين
في العصور المتأخرة الافتراء إلى النبي ﷺ وموقفهم من رسالته العلوية ومن العجيب أن المتعصبين من الكتابيين في العصور المتأخرة لم يتأثروا ولم يكتفوا بما كان من نسبة الكفار إلى النبي ﷺ افتراء القرآن أو تلقيه من أناس آخرين وكتبهم مواجهة وبردّ القرآن عليهم بردوده القوية المفحمة النافذة إلى أعماق الضمير والتي منها الآيات التي نحن في صددها ثم آية سورة الأحقاف هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) وآية سورة الشورى هذه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وآية سورة النساء هذه: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) وآية سورة الأنعام هذه: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ... [١٩] وآية سورة الأنعام هذه:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ | [٩٣] فكرروا ما قاله كفّار العرب مثيرين إشكالات ثانوية لا تمسّ بالجوهر ولا تثبت على التمحيص. |