مكية. وآيها ست – أو خمس – وأربعون. ومناسبتها لما قبلها : أن صدرها استدلال على عظم ذاته، وباهر قدرته، وتحقيق رسالة نبيه، بجعل الملائكة رسلا إليه، ففيها إزاحة للشك، وقلع للريب، الواقع في قلوب الكفرة، الذي ختمت به السورة، فكأنه تعالى حمد نفسه، على إظهار شأنه، وإن لم يحمده عتاة خلقه.
ﰡ
﴿ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
قلت :﴿ أولِي ﴾ : اسم جمع، كذُو، وهو بدل من " رسلاً "، أو نعت له، و﴿ مثْنَى وثُلاثَ ورُباع ﴾ : نعوت لأجنحة، وهو غير منصرف ؛ لأنه معدول عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وهو باعتبار الأشخاص، أي : منهم مَن له اثنان، ومنهم مَن له ثلاثة، هذا ظاهر الكشاف.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ الحمدُ لله ﴾، حمد نفسه ؛ تعليماً وتعظيماً، ﴿ فاطرِ السماواتِ والأرض ﴾ مبديهما ومبدعهما. قال ابن عباس رضي الله عنه :" ما كنت أدري معنى فاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما : أنا فطرتها، أي : ابتدأتها ". قال البيضاوي : من الفطر، بمعنى الشق، كأنه شق العدم بإخراجهما منه. قلت : وكأنه شق النور الكثيف من النور اللطيف، فنور السماوات والأرض من نوره الأزلي، وسره الخفي. ﴿ جاعلِ الملائكةِ رسلاً ﴾ إلى عباده، أي : وسائط بين الله وبين أنبيائه والصالحين من عباده، فيُبلغون إليهم رسالاته بالوحي، والإلهام، والرؤيا الصادقة. ﴿ أُولي أجنحةٍ ﴾ متعددة ﴿ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاع ﴾ أي : منهم ملائكة لهم اثنان ؛ لكل واحد جناحان، ومنهم مَن له ثلاثة، ومنهم مَن له أربعة، بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون، أو : يُسرعون نحو ما وكلهم الله عليه، يتصرفون فيه على ما أمرهم به، ولعله تعالى لم يرد الحصر ونفى ما زاد عليها، لِمَا رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج، وله ستمائة جناح١. وَرُويَ أنه طلب منه أن يريه صورته التي خلقه اللهُ عليها، فلما رآه كذلك خرّ مغشِياً عليه. وقال : ما كنت أرى شيئاً من الخلق هكذا. فقال له : لو رأيت إسرافيل، إِنَّ له لاثني عشر جناحاً بالمشرق، واثني عشر جناحاً بالمغرب، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل لعظمة الله تعالى. ه.
﴿ يَزيدُ في الخلق ما يشاء ﴾ أي : يزيد في خَلْق الأجنحة وغيره ما يريد. وقيل : هو الوجه الحسن، والشَعْر الحسن، والصوت الحسن، والحظّ الحسن. والملاحة في العينين. والآية مطلقة تتناول كلَّ زيادة في الخلق، من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة العقل، وجزالة في الرأي، وفصاحة في اللسان، وحُسن خلق في المعاشرة، ومحبة في قلوب المؤمنين وغير ذلك. ﴿ إِن الله على كل شيءٍ قدير ﴾ فيقدر على ما يشاء، من زيادةٍ في الخلق، ونقصان فيها، على حسب المشيئة السابقة.
الإشارة : الحمدُ في القرآن وقع على أربعة أقسام : حمد مطلق، وهو الواقع على عظمة ذاته، من غير أن يكون في مقابلة شيء، وهو قوله :﴿ قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ﴾ [ النمل : ٥٩ ]، ﴿ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النحل : ٧٥ ]، وحمدٌ وقع في مقابلة تنزيه ذاته عن النقائص، وهو قوله :﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً. . . ﴾ [ الإسراء : ١١١ ] الآية. وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإيجاد، وهو قوله :
﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. . . ﴾ [ الأنعام : ١ ]، وحمدٌ وقع في مقابلة نعمة الإمداد الحسي، كقوله :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾، ﴿ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاواتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ٣٦ ]، فإن التربية تقتضي وصول ما يحتاج إليه المربّي، أو الإمداد المعنوي، وهو إمداد القلوب والأرواح بالهداية، وهو قوله :
﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ [ الكهف : ١ ] ﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا. . . ﴾
[ الأعراف : ٤٣ ] فهذه أربعة : حمد مطلق، أو مقيد بشأن التنزيه، أو بنعمة الإيجاد، أو الإمداد، وما وقع هنا في إظهار تجلياته، من أرضه وسماواته، ولطائف ملائكته، فإن ذلك كله من نور جبروته.
وقوله تعالى :﴿ يَزِيدُ في الخلق ما يشاء ﴾ قال القشيري : يقال : هو الفهم عن الله، أو السخاء والجود، أو : الرضا بالتقدير، أو : علو الهمة، أو : التواضع في الشرف، أو : العفة في الفقر، أو : الظَرفُ أي : الظرافة في الشمائل، أو : أن يكون مُحَبباً في القلوب، أو : خفة الروح، أو : تحرُّر القلب عن رِقِّ الحرمان أي بالوقوف مع الأكوان أو : ألا يطْلُب لنفسه منزلةً في الدارين أي : بأن يكون عبد الله حقيقة. ه. ملخصاً.
والصواب أن الزيادة تشمل ذلك كله، وكل من خصه بشيء ؛ فإنما ذلك رحمة منه تعالى كما قال تعالى :﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾.
وعن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً :" لا تزال يدُ الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفُقْ خيارُهم بشرارهم، ويُعظّمْ بَرُّهُم فاجرَهم، وتعِنْ قراؤهم أمراءهم على معصية الله. فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم١ " قال ابن عرفة : يُؤخذ من قوله تعالى :﴿ وما يُمسك. . . ﴾ أن العدم السابق الإضافي متعلق للقدرة، وجعله بعض الأصوليين متعلقاً للإرادة أيضاً، وذلك لأن المصحح للتعلُّق الإمكان. ه. قال الأُبي : لا دليل في الآية ؛ لاحتمال أن يكون التقدير : وما يريد إمساكه، فيكون من متعلقات الإرادة، ويحتمل : وما يُمسك عن الإرسال بعد وجوده، كإمساك الماء عن النزول بعد خلقه في السحاب. ه. ﴿ وهو العزيزُ ﴾ الغالب، القادر على الإرسال والإمساك. ﴿ الحكيمُ ﴾ الذي يُرسل ويُمسك، بما تقتضي الحكمة إرساله، أو إمساكه.
الإشارة : ما يفتح الله لقلوب عباده من نفحات، وواردات، وإلهامات، وعلوم لدنية، وحِكَم ربانية، وتعرفات جمالية وجلالية، فلا ممسك لها، بل الله يفتح على مَن يشاء، ويسد الباب في وجه مَن شاء. وسدُّ الباب في وجه العبد عن معرفته الخاصة، علامته : عدم إيصاله إلى أوليائه. فكل مَن وصله إليهم، وصَحِبهم، وعظَّمهم، وخدمهم، فقد فتح الله له الباب في وصوله إليه، وكل مَن نكبه عنهم، ولم يصحبهم، كما ذكر، فقد سُدّ الباب في وجهه عن معرفته العيانية. وفي الحكم :" سبحان مَن لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يوصل إليهم إلا مَن أراد أن يوصله إليه ". وما يُمسك من ذلك فلا مرسل له من بعده، ولو صلّى وصام ألف عام. قال القشيري : ما يلوح لقلوب العارفين من أنوار التحقيق لا سحاب يستره، ولا ضباب يقهره. ويقال : ما يلزم قلوبَ أوليائه وأحوالهم من التيسير فلا مُمسك له، والذي يمنع من أعدائه بسبب ما يُلقيهم فيه من انغلاق الأمور واستصعابها فلا مُيَسِّرَ له من دونه. ه. وبالله التوفيق.
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ * ﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾.
قلت :﴿ غيرُ الله ﴾ : من رفعه فنعت للمحل، أي : هل خالق غير الله، ومن جره : فنعت للفظ. و﴿ يرزقكم ﴾ : إما استئناف، أو : صفة ثانية لخالق، و﴿ لا إله إلا هو ﴾ : مستأنفة، لا محل لها.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناس اذكروا نعمةَ اللهِ عليكم ﴾ باللسان والقلب، وهي التي تقدمت، من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل للهداية والإرشاد، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. ثم نبَّه على أصل النعم، وهو توحيد المُنْعم، فقال :﴿ هل من خالق غيرُ اللهِ يرزقكم من السماء ﴾ بالمطر ﴿ والأرض ﴾ بالنبات، بل لا خالق يرزق غيره، ﴿ لا إِله إِلا هو فأنى تُؤفكون ﴾ فمن أيِّ وجه تُصرفون عن التوحيد إِلى الشرك.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تذاكروا النعم ؛ فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري : مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ.
قلت : مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين ؛ إذ المتجلي واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين : ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، ﴿ هل من خالق غير الله... ﴾ ؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره ؛ لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
ثم قال في قوله :﴿ وإِن يُكذِّبوك... ﴾ الآية : وفي هذا إشارة للحكماء، وأرباب القلوب، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية، إلا بسَتْر حالهم عنهم، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين، والعلماء المتجمدين، الذين هم لهذه الأصول منكرون. هـ.
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : تذاكروا النعم ؛ فإن ذكرها شكر. هـ. وقال القشيري : مَنْ ذَكَرَ نعمَته فصاحبُ عبادةٍ، ونائِلُ زيادة، ومَن ذَكَرَ المُنْعِمَ فصاحبُ إرادة، ونائل زيادة، ولكنْ فرقٌ بين زيادة وزيادةً، هذا زيادته في الدارين عطاؤه، وهذا زيادته لقاؤه، اليومَ سِرًّاً بِسِرٍّ، من حيث المشاهدة، وغداً جَهْراً بِجَهْرٍ، من حيث المعاينة. هـ.
قلت : مَن تحقق بغاية الشهود لم يبقَ له فرق بين شهود الدارين ؛ إذ المتجلي واحد. ثم قال : والنعمة على قسمين : ما دَفَعَ من المِحَن، وما وضع من المِنَن، فَذِكْرُه لما دَفَعَ عنه يوجب دوامَ العصمة، وذكره لما نَفَعَه به يوجب تمام النعمة، ﴿ هل من خالق غير الله... ﴾ ؟ فائدة هذا التعريف بوحدانيته، فإذا عَرَفَ أنه لا رازق غيره ؛ لم يُعلِّق قلبَه بأحدٍ في طلب شيءٍ. وتَوَهم شيء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يُخْلِصُ في توكله وتفويضه. هـ.
ثم قال في قوله :﴿ وإِن يُكذِّبوك... ﴾ الآية : وفي هذا إشارة للحكماء، وأرباب القلوب، مع العوامِّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، وأهل الحقائق منهم أبداً في مقاساة الأذية، إلا بسَتْر حالهم عنهم، والعوام أقرب إلى هذه الطريقة من القُرَّاءِ المتعمقين، والعلماء المتجمدين، الذين هم لهذه الأصول منكرون. هـ.
﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ * ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يا أيها الناسُ إِن وعدَ الله ﴾ بالبعث والجزاء ﴿ حق ﴾ أي : كائن لا محالة، فاستعدُّوا للقائه، ﴿ فلا تَغُرنَّكم الحياةُ الدنيا ﴾ لا تخدعنكم زخارف الدنيا الغرارة، ولا يُذهلنكم التمتُّع بها، والتلذُّذ بملاذها، والاشتغال بجمعها واحتكارها، عن التأهُّب للقاء الله، وطلب ما عنده. وفي الحديث :" فلا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات علية، فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولاقى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومنقلبه ". ﴿ ولا يغرنكم بالله الغرورُ ﴾ أي : الشيطان، فإنه يُمنِّيكم الأماني الكاذبة، ويقول : إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك. أو : إن الله غفور لمَن عصاه.
[ الطلاق : ٣ ] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله :﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب المعاصي، أو حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى :﴿ إِن الشيطان لكم عدو... ﴾ الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صُنعك مع الشيطان ؟ فقال : نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه :" انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله ". وفي الحكم العطائية :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". وقال أيضاً :" وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه ". وقال :" لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك ".
قال الورتجبي : إنه عدو ؛ لأنه من عالم القهر خُلق، ونحن من عالم اللطف خُلقنا. والطبعان متخالفان أبداً، لأن القهر واللطف تسابقا في الأزل، فسبق اللطفُ القهر، فعداوته من جهة الطبع الأول، والجهل بالعصمة، وأنوار التأييد والنصرة، ومَن لا يعرفه بما وصفنا، كيف يتخذه عدواً ؟ وهو لا يعرف مكائده، ولا يعرف مكائده إلا وليّ أو صدِّيق. ه.
ثم خطّأ مَن اتبعه ؛ بأن غرضه أن يورد شيعَته موارد الهلاك، بقوله :﴿ إِنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ﴾ فهو تقرير لعداوته، وبيان لغرضه في دعوى شيعته إلى اتباع الهوى، والركون إلى الدنيا، أي : إنما يدعوهم إلى الهوى، ليكونوا من أهل النار.
[ الطلاق : ٣ ] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله :﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب المعاصي، أو حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى :﴿ إِن الشيطان لكم عدو... ﴾ الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صُنعك مع الشيطان ؟ فقال : نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه :" انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله ". وفي الحكم العطائية :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". وقال أيضاً :" وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه ". وقال :" لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك ".
[ الطلاق : ٣ ] وتولى مَن أصلح حالَه لقوله :﴿ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٦ ] ويصدق بإثابة المطيع، وعتاب المعاصي، أو حلمه عنه، وغير ذلك من المواعد كلها، فيجب على العبد كفه عن الاهتمام بالرزق، وخوف الخلق، والتشمير في الطاعة، والفرار من المعصية، إِنْ كان له ثقة بوعد ربه، وإلا فالخلل في إيمانه.
وقوله تعالى :﴿ إِن الشيطان لكم عدو... ﴾ الخ، قوم فهموا من الخطاب أنهم أُمروا بعداوة الشيطان، فاشتغلوا بعداوته ومحاربته، فشغلهم ذلك عن محبة الحبيب، وقوم فهموا من سر الخطاب : إن الشيطان لكم عدو، وأنا لكم حبيب، فاشْتَغلُوا بمحبة الحبيب، فكفاهم عداوة العدو. قيل لبعضهم : كيف صُنعك مع الشيطان ؟ فقال : نحن قوم صرفنا هِممنا إلى الله، فكفانا مَن دونه. فالشيطان كالكلب إن اشتغلت بدفعه مزّق الثياب، أو قطع الإهاب، وإن رفعته إلى مولاه كفاك شره. وكذلك النفس إن اشتغلت بتصفيتها ومجاهدتها على الدوام شغلتك عن ذكر الله، والفناء فيه، ولكن الدواء هو الغيبة عنها، والاشتغال بالله دائماً، فإذا أظهرتْ رأسها بقيام شهوتها، دُقّه، بعكس مرادها، وغِبْ عنها في ذكر الله. ومن حِكم شيخنا البوزيدي رضي الله عنه :" انس نفسك بالله، واعتمد على فضل الله، وامتثل شيئاً ما، وينوب الله ". وفي الحكم العطائية :" إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده ". وقال أيضاً :" وحرّك عليك النفس ليدوم إقبالك عليه ". وقال :" لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً. ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه، غطى وصفك بوصفه، ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليك ".
﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُواءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾.
قلت :﴿ أفمن ﴾ : مبتدأ حُذف خبره، أي : كمن هداه الله، أو ذهبت نفسك عليه حسرات. و﴿ حسرات ﴾ : مفعول له. وجَمعها لتضاعف اغتمامه، أو تعدُّد مساوئهم. و﴿ عليهم ﴾ : صلة لتذهب، كما تقول : هلك عليه حُبًّا، ومات عليه حُزناً. ولا يتعلق بحسرات ؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه صلته، إلا أن يتسامح في الجار والمجرور.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ أفمن زُيّن له سُوءُ عمله ﴾ بأنْ غلَب هواه على عقله، وجهله على علمه، حتى انعكس رأيه، ﴿ فرآه حَسَناً ﴾ فرأى الباطل حقًّا، والقبيح حسناً، كمَن هداه الله واستبصر، فرأى الحق حقًّا، والباطل باطلاً، فتبع الحق، وأعرض عن الباطل، ليس الأمر كذلك، ﴿ فإِن الله يُضِلُّ من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ فمَن أضله رأى الباطل حقًّا، فتبعه، ومَن هداه رأى الباطل باطلاً، فاجتنبه، والحق حقًّا فاتبعه. ﴿ فلا تَذْهَبْ نفسُك عليهم حسرات ﴾ أي : فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم وإصرارهم على التكذيب، فإن أمرهم بيدي، وأنا أرحم بهم منك، فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب. ﴿ إِن الله عليم بما يصنعون ﴾ فيجازيهم عليه، وهو وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.
الإشارة : إذا أراد الله إبعاد قوم غطّى نور بصيرتهم بظلمة الهوى فيُزيّن في عينهم القبيح، ويستقبح المليح، فيرون القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، كما قال الشاعر :
يُغمى على المرء في أيام مِحنته | حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن |
قلت : وكذلك مَن وقف مع الكرامات والمقامات، وحلاوة الطاعات، دون درجة المشاهدة، فقد زُين له سوء عمله. والحاصل : كل مَن وقف مع شيء، دون تحقيق الفناء في الذات، فهو مُزيَّن له سوء عمله. وكل مَن لم يصحب الرجال فهو غالط، يظن أنه واصل، وهو منقطع في أول البدايات. وبالله التوفيق. وقوله تعالى :﴿ فلا تَذهب نفسك عليهم حسرات ﴾، كذلك يقال للواعظ، إذا رأى إدبار الخلق، وعدم تأثير الوعظ فيهم، فليكتفِ بعلم الله فيهم، ولا يتأسّف على أحد، فإن التوفيق بيد الله.
﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾.
قلت :" كذلك " : خبر مقدّم، و " النشور " : مبتدأ.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ واللهُ الذي أرسلَ الرياحَ ﴾ وفي قراءة بالإفراد، للجنس، ﴿ فتُثير سحاباً ﴾ أي : تزعجه، وعبَّر بالمضارع على حكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة، التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، الدالة على كمال القدرة وباهر الحكمة. ﴿ فسُقناه إِلى بلدٍ ميتٍ ﴾ لا نبات فيه، ﴿ فأحيينا به ﴾ أي : بالمطر النازل منه ﴿ الأرضَ بعد موتها ﴾ بعد يبسها. وعدل من الغيبة إلى التكلم ؛ لأنه أدخل في الاختصاص ؛ لِمَا فيه من مزيد بديع الصنع، ﴿ كذلك النشورُ ﴾ أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات. وقيل : يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش، كمنيّ الرجال، فتنبت به الأجسادُ في قبورها، ثم يرسل الأرواح فتدخل في أشباحها. قال أبو رزين : قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال :" هل مررت بواد أهلك مَحْلاً ؟ أي جدباً قلت : نعم، قال : فكذلك يُحيي الله الموتى، وتلك آية الله في خلقه١ ".
الإشارة : والله الذي أرسل رياح الهداية، فتزعج سحاب الغين عن قلوب أهل الهداية، فسقناه أي : ريح الهداية إلى قلب ميت بالغفلة والجهل بالله، فأحيينا بالوارد الناشئ عن ريح الهداية أرضَ النفوس، بالنشاط إلى العبادة، والذكر، والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والقسوة، كذلك النشور. وذلك عِزها، كما قال تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾.
﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً ﴾ [ النساء : ١٣٩ ]، فبيَّن أن العزة إنما هي لله بقوله :" فإن العزة لله " فليطلبها مَن أرادها من عنده. فوضع قوله :﴿ فلله العزةُ ﴾ موضعه، استغناء به عنه ؛ لدلالته ؛ لأن الشيءَ لا يُطلب إلا من عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك : مَنْ أراد النصيحة ؛ فهي عند الأبرار، أي : فليطلبها من عندهم. وفي الحديث :" إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز، فمَن أراد عزّ الدارين فليُطِعِ العزيز١ ".
ثم ذكر ما يطلب به العز، وهو العمل المقبول، بقوله :﴿ إِليه يَصْعدُ الكَلِمُ الطيبُ ﴾ كلمة التوحيد : لا إله إلا الله، وما يلحقها من الأذكار، والدعاء، والقراءة. وعنه صلى الله عليه وسلم :" هو سُبحان الله والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ. إذا قالها العبدُ عَرَجَ بها الملكُ إلى السماء، فحَيّا بها وَجْهَ الرحمان٢ ". وكان القياس : الطيبة، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يُذكّر ويؤنّث. ومعنى الصعود : القبول والرضا، وكل ما اتصف بالقبول وُصف بالرفعة والصعود.
﴿ والعملُ الصالحُ ﴾ كالعبادة الخالصة ﴿ يرفعه ﴾ الله تعالى، أي : يقبله. أو : الكلم الطيب، فالرافع على هذا الكلم الطيب، والمرفوع العمل الصالح، أي : والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب ؛ لأن العمل متوقف على التوحيد، المأخوذ من الكلم الطيب ؛ وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع، والكَلِم الطيب يصعد بنفسه، ففيه ترجيح الذكر على سائر العمل. وقيل : بالعكس، أي : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب، فإذا لم يكن عمل صالح فلا يقبل منه الكلم الطيب. وقيل : والعمل الصالح يرفعُ العامل ويشرفه، أي : مَن أراد العزّة والرفعة فليعمل العمل الصالح ؛ فإنه هو الذي يرفع العبد.
ثم ذكر سبب الذل في الدارين، فقال :﴿ والذين يمكرون ﴾ المكرات ﴿ السيئاتِ ﴾ فالسيئات : صفة لمصدر محذوف ؛ لأن " مكر " لا يتعدى بنفسه. والمراد : مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة ؛ كما قال تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الأنفال : ٣٠ ] الآية. ﴿ لهم عذاب شديد ﴾ في الآخرة، ﴿ وَمَكْرُ أولئك هو يَبورُ ﴾ أي : يفسد ويبطل، دون مكر الله بهم، فالضمير يفيد الاختصاص.
الإشارة : العز على قسمين : عز الظاهر، وعز الباطن، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبُعد الصيت، واحترام الناس لصاحبه، ولمَن تعلّق به، وسببه : التقوى، والعلم، والعمل، ومكارم الأخلاق ؛ كالسخاء، والتواضع، وحسن الخلق، والإحسان إلى عباد الله. وعز الباطن : هو الغنى بالله، وبمعرفته، والتحرُّر من رق الطمع، والتحلّي بحلية الورع. وسببه الذل لله، يُظهر ذلك بين أقرانه، كما قال الشاعر :
تذلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزةً | فكم عزةٍ نالها المرء بالذُّلِّ |
إذا كان مَن تَهْوى عزيزاً ولم تكن | ذليلاً له فاقْرِ السلامَ على الوَصْلِ |
قال القشيري : وقال في آية أخرى :﴿ وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ المنافقون : ٨ ] فأثبت العزة لغيره، والجمع بينهما : أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً، ومنه لطفاً، فإذاً العزة لله جميعاً. والكلم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة، وقلب طيب، لا كدر فيه ولا أغيار، وقيل : ما ليس فيه حظ للعبد، وقيل : ما يستخرج من العبد، وهو فيه مفقود، وقيل : ما ليس فيه حاجة، ولا يطلب عليه عوض، وقيل : ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف. انظر القشيري.
ويؤخذ من قوله :﴿ والعملُ الصالحُ يرفعه ﴾ أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه، وينظر إليه، فهو علامة على عدم قبوله، إذ لو قُبل لرفع عن نظره، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده، ويختفي لديك وجوده. والذين يمكرون بالأولياء، المكرات السيئات، لهم عذاب شديد، وهو البُعد من الله، ومكر أولئك هو يبور. وأما الأولياء فهم في حجاب مستور، من كل مكر وخداع وغرور.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٤٢٥، والبيهقي في الأسماء والصفات ٢/٣٤..
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ والله خَلَقَكم ﴾ أي : أباكم ﴿ من تراب، ثم ﴾ أنشأكم ﴿ من نُطفةٍ ثم جعلكم أزواجاً ﴾ أصنافاً، أو : ذكراناً وإناثاً، ﴿ وما تحمل من أُنثى ولا تضعُ إِلا بعلمه ﴾ إلا معلومة له، وقتاً وكيفية، ﴿ وما يُعَمَّرُ من مُعَمَّرٍ ﴾ أي : وما يمد في عمر أحد فيكون طويلاً. وإنما سمّاه معمّراً لِمَا هو صائر إليه، ﴿ ولا يُنْقَصُ من عُمُرِه ﴾ أي : يكون عمره قصيراً ﴿ إِلا في كتاب ﴾ أي : اللوح المحفوظ، أو : صحيفة الإنسان. وقال ابن جبير :" مكتوب في أول الكتاب : عمره كذا وكذا، ثم يكتب أسفل ذلك : ذهب يوم، ذهب يومان، ذهب ثلاثة، حتى ينقطع عمره ". ففسر النقص بالذهاب، ولا يذهب شيء من عمره إلا في كتاب. ويمكن أن يُجري على ظاهره، باعتبار المحو والإثبات في غير أم الكتاب، كما ورد في صلة الرحم وقطعها. وانظر عند قوله :﴿ يَمْحُواْ اللهُ مَا يَشَآءُ. . . ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] إلخ. ﴿ إِنَّ ذلك على الله يسيرٌ ﴾ أي : إحصاء الأعمار، أو زيادتها ونقصانها، سهل على علم الله وقدرته.
الإشارة : أصل نشأة الأشباح من الصلصال، وأصل نشأة الأرواح من نور الكبير المتعال، فمَن غلبت طينته على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم، ومَن غلبت روحانيته على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام.
وقوله تعالى :﴿ وما يُعَمَّرُ من معمر. . . ﴾ الآية، طول العمر وقصره عند الحكماء، ليس هو بكثرة آماده، وإنما هو بكثرة أمداده. وفي الحكم :" رُبّ عمر اتسعت آماده، وقلّتْ أمداده، ورُبّ عمر قليلة آماده، كثيرة أمداده ". والأمداد : ما يجد القلب من معارف الله، وعلومه، وأنواره، وأسراره. فرُبّ قلب استمد في زمان قليل، من العلوم والمعارف والأسرار، ما لم يستمده غيره في أزمنة متطاولة. وقال أيضاً :" مَن بورك له في عمره، أدرك في يسير من الزمان من منن الله تعالى، ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة ". والغالب أن هذه الأمداد إنما تُنال بصحبة الرجال العارفين بالله، فإن المدد الذي يحصل له معهم في ساعة واحدة ؛ لا يحصل في أزمنة طويلة مع غيرهم، ولو كثرت صلاتهم وصيامهم.
وقال في القوت : فإن البركة في العمر أن تدرك في عمرك القصير، بيقظتك، ما فات غيرك في عمره الطويل بعْد، فيرتفع لك في السنة ما لا يرتفع لغيرك في عشرين سنة. وللخصوص من المقربين في مقامات القرب عند التجلي بصفات الرب إلحاق برفع الدرجات، وتدارُكٌ بما فات عند أذكارهم، وأعمال قلوبهم، اليسيرة، في هذه الأوقات. فكل ذرة من تسبيح، أو تهليل، أو حمد، أو تدبُّر، أو تبصرة، أو تفكُّر وتذكرة، لمشاهدة قرب، ووجد برب، ونظرة إلى حبيب، ودنو من قريب، أفضل من أمثال الجبال من أعمال الغافلين، الذين هم لنفوسهم واجدون، وللخلق مشاهدون. ومثال العارفين، فيما ذكرناه ؛ من قيامهم بشهادتهم ورعايتهم لأماناتهم وعهدهم، في وقت قربهم وحضورهم ؛ مثلُ العامل في ليلة القدر، العمل فيها، لمَن وافقها، خير من ألف شهر. وقد قال بعض العلماء : كل ليلة للعارف بمنزلة ليلة القدر. ه. منه.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما يستوي البحرانِ ﴾ في العذوبة والملوحة، بل هما مختلفان، والماء واحد، ﴿ هذا عذب فُرات ﴾ أي : شديد العذوبة. وقيل : هو الذي يَكْسر العطش ؛ لشدة برودته، ﴿ سائغ شَرابُهُ ﴾ أي : سهل الانحدار، مريء، لعذوبته، ﴿ وهذا مِلحٌ أُجاج ﴾ شديد الملوحة، وقيل : الذي تُحرِق ملوحته. ﴿ ومن كُلِّ ﴾ أي : من كل واحد منهما ﴿ تأكلون لحماً طرياً ﴾ وهو السمك، ﴿ وتستخرجون حِليةً ﴾ وهي اللؤلؤ والمرجان. قيل : من الملح فقط. وقيل : منهما. قال بعضهم : نسب استخراج الحلية إليهما ؛ لأنه تكون في البحر عيون عذبة، تمتزج بماء الملح، فيكون اللؤلؤ من ذلك. ه. ﴿ تلبسونها ﴾ أي : نساؤكم ؛ لأن القصد بالتزيُّن هو الرجال.
﴿ وترى الفلكَ ﴾ السفن، ﴿ فيه مواخِرَ ﴾ شواقّ للماء بجريها، يقال : مخرت السفينة الماء : شَقَّته، وهي جمع ماخرة، ﴿ لتبتغوا من فضله ﴾ من فضل الله، ولم يتقدم له ذكر في الآية ؛ ولكن فيما قبلها، ولو لم يجرِ له ذكر، لم يشكل لدلالة المعنى عليه. ﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ الله على ما أولاكم من فضله.
وقيل : هو ضرب مثل للكافر والمؤمن، فالمؤمن يجري عذب فُرات، والكافر ملحٌ أُجاج. ثم ذكر على سبيل الاستطراد ما يتعلق بالبحرين من نِعَم الله وعطائه. ويحتملُ أن يكون على غير الاستطراد، وهو أن يشبّه الجنسيْن، ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر، وهو ما خصّ به من المنافع، كاستخراج اللؤلؤ، والمرجان، والسمك، وجري الفلك فيه، وغير ذلك. والكافر خلوّ من المنافع بالكلية، فهو على طريقة قوله تعالى :﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ ثم قال :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهَ الأَنْهَارُ. . . ﴾ [ البقرة : ٧٤ ].
الإشارة : بحر الشريعة عذب فُرات، سائغ شرابه، وبحر الحقيقة مِلح أُجاج ؛ لأنه مُرّ على النفس، يحتاج ركوبه إلى بذل المُهج والنفوس، وحط الرؤوس، وبذل الأموال، ورفض الأوطان والدنيا وأهلها. بخلاف الشريعة، فلا تحتاج إلى هذا كله، وإن كانت متوقفة على مشاق التعلُّم والتدريس، ولن تُنال مع بقاء عز النفس والمال والجاه، وغير ذلك. ومن كُلٍّ تأكلون لحماً طرياً، فبحر الشريعة يُنال منه حلاوة المعاملة الظاهرة، وبحر الحقيقة يُأكل منه حلاوة الشهود والمعرفة. وترى سُفن الأفكار في بحار الأحدية، مواخر، تجول في عظمة بحر الجبروت والملكوت، ولِتبتغوا من فضله تمامَ معرفته، ولتكونوا من الشاكرين أي : ممن يعبد شُكراً، لا قهراً.
قال القشيري : وما يستوي الوقتان، هذا بسط، وصاحبه في رَوْح، وهذا قبضٌ، وصاحبه في نَوْح. هذا خوفٌ وصاحبه في اجتياح، وهذا رجاءٌ وصاحبه في ارتياح. قلت : الرجاء عذب. والخوف ملح، خلاف ما يقتضي كلامه. ثم قال : هذا فرق، وصاحبه بوصف العبودية، وهذا جمع، وصاحبه بشهود الربوبية.
﴿ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ﴾ * ﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ يُولج الليلَ في النهار ويُولج النهارَ في الليل ﴾ أي : يُدخل من ساعات أحدهما في الآخر، حتى يصير الزائدُ منهما خمس عشرة ساعة، والناقص تسعاً. ﴿ وسخَّر الشمسَ والقمرَ ﴾ ذللها لِمَا يُراد منهما، ﴿ كُلٌّ يجري لأجلٍ مسمى ﴾ أي : يوم القيامة، فينقطع جريهما، ﴿ ذلكم اللهُ ربكم ﴾ الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء، وهي : مبتدأ، و " الله " وما بعده : أخبار، ﴿ له الملكُ ﴾ له التصرف التام. ﴿ والذين تَدْعُون من دونه ﴾ من الأصنام، أي : تعبدونهم، ﴿ ما يملكون من قِطْمِير ﴾ وهي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة، كما أن النقير : النقطة في ظهره. وهما كنايتان عن حقارة الشيء وتصغيره.
طلعت شمسُ من أُحب بليلٍ | واستنارت فما تلاها غروب |
إنَّ شمسَ النهارِ تَغْربُ بالليـ | ـل وشمس القلوبِ ليستْ تغيبُ |
﴿ مَّا كُنتُم إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ [ يونس : ٢٨ ]. ﴿ ولا يُنبئك مِثْلُ خبيرٍ ﴾ أي : ولا يخبرك بالأمر على حقيقته مخبر مثل خبير به، وهو الله تعالى ؛ فإنه خبير به على الحقيقة، دون سائر المخبرين. والمراد : تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، ونفي ما يدعون لها. أو : ولا يخبرك أيها المفتون بأسباب الغرور، كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور وتحقيقها، أي : لا يخبرك بالأمور مخبر هو خبير عالم به، يريد أنَّ الخبير بالأمور وحده هو الذي يُخبرك بالحقيقة، دون سائر المخبرين. والمعنى : أنَّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق ؛ أنه خبيرٌ بما أخبرتُ به. والله تعالى أعلم.
طلعت شمسُ من أُحب بليلٍ | واستنارت فما تلاها غروب |
إنَّ شمسَ النهارِ تَغْربُ بالليـ | ـل وشمس القلوبِ ليستْ تغيبُ |
[ النساء : ٢٨ ] قلت : ويمكن أن يكون الحصر باعتبار الحق تعالى، أي : أنتم فقراء دون خالقكم، بدليل وصله بقوله :﴿ والله هو الغنيُّ الحميدُ ﴾.
وقال ذو النون رضي الله عنه : الخلقُ محتاجون إليه في كل نَفَسٍ، وطرفة، ولحظة، وكيف لا ووجودهم به، وبقاؤهم به ؟ ﴿ والله هو الغنيُّ ﴾ عن الأشياء كلها، ﴿ الحميدُ ﴾ أي : المحمود بكل لسان. ولم يَسمِّهم بالفقر للتحقير، بل للتعظيم ؛ لأن العبد إذا أظهر فقره لسيده الغني ؛ أغناه عن أشكاله وأمثاله. وذكر " الحميد " ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خَلْقه، والجواد المنعم عليهم ؛ إذ ليس كلّ غنيّ نافعاً بغناه، إلا إذا كان الغنيُّ جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم، حمده المُنعَم عليهم.
وقال القشيري : بعد كلام ـ : والفقراءُ على أقسام : فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله ؛ معلومٍ ومرسوم. ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا :
وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباً | منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها |
قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس ؛ لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا ؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه : لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي : مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ : الفقرُ خير للعبد من الغِنى ؛ لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
وقال القشيري : بعد كلام ـ : والفقراءُ على أقسام : فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله ؛ معلومٍ ومرسوم. ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا :
وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباً | منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها |
قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس ؛ لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا ؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه : لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي : مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ : الفقرُ خير للعبد من الغِنى ؛ لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
وقال القشيري : بعد كلام ـ : والفقراءُ على أقسام : فقير إلى الله، وفقير إلى شيء هو من الله ؛ معلومٍ ومرسوم. ومَن افتقر إلى شيءٍ استغنى بوجود ذلك الشيء، فالفقير إلى الله هو الغني بالله، فالافتقار إلى الله لا يخلو من الاستغناء بالله. فالفقير إليه مُسْتَغْنٍ به، والمستغنى به فقيرٌ إليه. ومن شرف الفقر اقترانه بالتواضع والخشوع، ومن آفات الغنى امتزاجُه بالتكبُّر. وشَرَفُ العبد وعزه في فقره، وذُلُّه وصغاره في توهمه الغنى، وأنشدوا :
وإذا تذلّلَت الرقابُ تَقَرُّباً | منَّا إليكَ فعِزُّها في ذُلِّها |
قال الورتجبي : فطرة الإنسانية وقعت من الغيب مضطربة متحركة إلى الأزل، بنعت الافتقار إليه، كانجذاب الحديد إلى المغناطيس ؛ لأنها وقعت بنعت العشق، والعاشق مفتقر إلى معشوقه، انفعالاً، فمَن عرفه بالأزلية والأبدية يفتقر إليه افتقاراً قطعيًّا ؛ لأن بقاءه لا يكون إلا به. وإذا كان كذلك صار غنيًّا بالله، متصفاً بغناه، غنيًّا به عن غيره، مفتقراً إليه. فإذا كان في محل الصحو يكون مفتقراً إليه، وإذا كان في محل السكر بقي في رؤية غناه عنه، فصار محجوباً عنه، ولا يدري. هـ.
وقال سهل رضي الله عنه : لَمَّا خلق الله الخلقَ حَكَمَ لنفسه بالغِنى، ولهم بالفقر، فمَن ادّعى الغِنى، حُجب عن الله، ومَن أظهر فقره أوصله فَقْرُه إليه. فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسرّ إليه، ومنقطعاً عن الغير إليه، حتى يكون عبوديّته لله محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع. هـ.
وقال الواسطي : مَن استغنى بالله لا يفتقر، ومَن يتعزّز بالله لا يَذل. وقال يحيى بن معاذ : الفقرُ خير للعبد من الغِنى ؛ لأن الذلة في الفقر، والكبر في الغِنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بكثرة الأعمال. وقيل : صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.
﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾.
قلت :" وازرة " : صفة لمحذوف، أي : نفس آثمة. و " إن تدع " : شرط، و " لا يُحمل " : جواب، و " لا " النافية لا تمنع الجواب من الجزم.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولا تَزِرُ وازرة وِزْرَ أُخرى ﴾ أي : ولا تحمل نفس آثمة إثمَ نَفْسٍ أخرى، والوزر والوِقر أخوان، ووزَر الشيء : حمله. والمعنى : أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى، كما تأخذ جبابرةُ الدنيا الظلمةُ الجارَ بجريمة الجار، والقريبَ بالقريب، فذلك ظلم محض. وأما قوله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] ففي الضالّين المضلّين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وأثقال ضلالهم، وكل ذلك أوزارهم، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قوله :﴿ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٢ ].
قال ابن عطية : مَن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زياد ونحوه، فإن ذلك، لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة، أو مواصلة، أو اطلاع على حاله، أو تقرير له، فهذا قد أخذ من الجُرم بنصيب. وهذا هو المعنى بقوله تعالى :﴿ وليحملن أثقالهم. . . ﴾ الآية ؛ لأنهم أغروهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم :" مَن سنَّ سُنَّة حسنة. . ١ " الحديث، فراجعه. قلت : لا يجوز الإقدام على ظلم أحد بمجرد الظن، فالصواب حسم هذا الباب، والتصريح بتحريمه ؛ لكثرة جوز الحُكام.
ثم قال تعالى :﴿ وإِن تَدْعُ ﴾ نفس ﴿ مثقلةً ﴾ بالذنب أحداً ﴿ إِلى حِمْلِها ﴾ أي : إلى حمل ثِقل ذنوبها، ليتحمل عنها بعض ذلك، ﴿ لا يُحْمَل منه شيءٌ ولو كان ﴾ المدعو، المفهوم من قوله :﴿ وإِن تدع ﴾، ﴿ ذا قُربى ﴾ ذا قرابة قريبة، كأب، وولد، وأخ. والفرق بين معنى قوله :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ وبين قوله :﴿ إِن تدع مثقلة إلى حِمْلها لا يُحمل منه شيء ﴾ أنَّ الأول دالّ على عدل الله في حكمه، وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني : في بيان أنه لا غياث يومئذ لمَن استغاث، فمَن أثقلته ذنوبه ثم استغاث بأحد لم يُغثه، وهذا غاية الإنذار.
ثم بيّن مَن ينتفع به بقوله :﴿ إِنما تُنذِرُ الذين يخشون ربهم ﴾ أي : إنما ينتفع بإنذارك مَن خشي ربه ﴿ بالغيب ﴾ أي : يخشون ربهم غائبين عنه، أو : يخشون عذابه غائباً عنهم، فهو حال، إما من الفاعل أو المفعول المحذوف. أو : يخشون ربهم في حال الغيب، حيث لا اطلاع للغير عليهم، فيتقون الله في السر، كما يتقون في العلانية. ﴿ وأقاموا الصلاةَ ﴾ أتقنوها في مواقيتها، ﴿ ومَن تزكَّى ﴾ أي : تطهّر بفعل الطاعات، وترك المنهيات، ﴿ فإِنما يتزكَّى لنفسه ﴾ إذ نفعه يعود لها، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم، وإقامتهم الصلاة ؛ لأنها من جملة التزكي. ﴿ وإِلى الله المصيرُ ﴾ المرجع، فيجازيهم على تزكيتهم، وهو وعد للمتزكِّين بالثواب.
الإشارة : وبال الوزر خاص بصاحبه، إلا إذا كان مقتدى به، فإنَّ عيبه أو نقصه يسري في أصحابه، حتى يطهر منه ؛ أن الصحبة صيرت الجسدين واحداً. وراجع ما تقدّم عند قوله :﴿ واتَّقُوا فِتْنَةً. . . ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ] الآية. قال القشيري :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ كلٌّ مُطَالَبٌ بعمله، ومحاسبٌ عن ديوانه. ولكلٍّ معه شأن، وله مع كلِّ أحدٍ شأن، ومن العبادات ما تجري فيها النيابة، ولكن في المعارف لا تجري النيابة ؛ ولو أن عبداً عاصياً منهمكاً في غوايته فاتته صلاةٌ مفروضةٌ، فلو قضى عنه ألفُ وليٍّ، وألفُ صَفِيٍّ، تلك الصلاة الواحدة، عن كل ركعةٍ ألف ركعةٍ لم تُقْبَلْ. ه. وقال في قوله تعالى :﴿ إِنما تُنذر. . . ﴾ الخ : الإنذار هو الإعلام بموضع المخافة. والخشيةُ هي المخافة، فمعنى الآية : لا ينتفع بالتخويف إلا صَاحِبُ الخوف طيرُ السماء على إلافها تقع. ه.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾ * ﴿ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ ﴾ * ﴿ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ ﴾ * ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴾ * ﴿ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ * ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما يستوي الأعمى والبصيرُ ﴾ أي : لا يستوي الكافر والمؤمن، أو الجاهل والعالم. وقيل : هما مثلان للصنم ولله تعالى.
قال ابن عطية : الآية تمثيل بما يحسّه البشر، ويعهده جميعنا من أنَّ الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح ؛ فلا نقول : إنها في القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجِّين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور، فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر، إنما سمعت أرواحهم، فلا تعارض بين الآية وحديث القليب. ه.
وذكر في الإحياء، في باب التوبة : أنه يشبه أن يكون مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، وعاشوا على البله وعدم المعرفة، فلم تكن لهم معرفة، ولا جحود، ولا طاعة، ولا معصية، هم أهل الأعراف ؛ لأنه لا وسيلة تقربهم، ولا جناية تُبعدهم، فما هم من أهل الجنة، ولا من أهل النار، ويُتركون في منزلة بين المنزلتين، ومقام بين المقامين. ه. وقال ابن مرزوق في شرح حديث هرَقْل١ : الدين الحق هو الإسلام، وما سواه باطل، عقلاً ونقلاً، فلا عذر لمنتحليه بالإجماع، كان متأولاً مجتهداً، أو مقلداً جاهلاً ؛ لأن أدلة الإسلام واضحة قطعية، ومخالف مقتضاها مخطئ قطعاً. ه.
وقال ابن عطية أيضاً، ما نصه : آدم عليه السلام فمن بعده، دعا إلى توحيد الله تعالى دعاءً عاماً، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن يبحث عن الشرع، الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمَن فرضناه لم يجد سبيلاً إلى العلم، فأولئك أهل الفترات، الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن قصر في النظر والبحث، فَعَبَد صنماً أو غيره، وكفر، فهذا ترك الواجب عليه، مستوجب للعقاب بالنار. ه. وقال أيضاً : إنما صاحب الفترة بفرض أنه آدمي، لم يصل إليه : أن الله بعث رسولاً، ولا دعا إلى دين وهذا قليل الوجود إلا إن شذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران. ه.
والحاصل : أن مَن بلغه خبر الشرائع السابقة، والدعاء إلى توحيد الله، لا عذر له، وإنما بُعثت الرسل بعد ذلك تجديداً، ومبالغة في إزاحة العذر، وإكمال البيان. قاله المحشي.
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وإِن يُكذّبوك ﴾ أي : قومك ﴿ فقد كَذَّب الذين مِن قبلهم ﴾ رسلهم، حال كونهم قد ﴿ جاءتهم رُسُلُهم بالبينات ﴾ بالمعجزات الواضحة، ﴿ وبالزُّبر ﴾ وبالصحف ﴿ وبالكتاب المنير ﴾ أي : التوراة، والإنجيل، والزبور. ولَمَّا كانت هذه الأشياء من جنسهم، أسند المجيء بها إليهمْ إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضُها في جميعهم، وهي البينات، وبعضها في بعضهم، وهي الزُبُر والكتاب. ويجوز أن يراد بالزُبر والكتاب واحد، والعطف لتغاير الوصفين، فكونها زُبُر باعتبار ما فيها من المواعظ التي تزبر القلوب، وكونها كتباً منيرة ؛ لِمَا فيها من الأحكام والبراهين النيِّرة.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ﴾ * ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ. . . ﴾.
قلت :﴿ مختلفاً ﴾ : نعت ﴿ ثمرات ﴾. و﴿ مختلف ألوانه ﴾ : صفة لمحذوف، أي : صنف مختلف.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به ﴾ بالماء ﴿ ثمراتٍ مختلفاً ألوانُها ﴾ أي : أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو : ألوانها : هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما. ﴿ ومن الجبال جُدَد ﴾ طُرق مختلفة اللون. جمع : جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة : الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر، أي : وطرق ﴿ بِيض وحُمْرٌ ﴾ كائنة من الجبال.
﴿ وغرابيبُ سود ﴾ أي : ومنها غرابيب سود، أي : ومن الطرق سود غرابيب ؛ جمع : غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه : الغراب. قال الهروي : هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب : شديد السواد. ه. وفي الصحاح : تقول هذا أَسود غربيب، أي : شديد السواد، وإذا قلت : غرابيب سود ؛ تجعل السود بدلاً من غرابيب ؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم. ه. تقول : أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد : أن في الآية تقديماً وتأخيراً، تقديره : وسود غرابيب. وفائدته : أن يكون المؤكد مضمراً، والمظهر تفسيراً له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معاً يدلان على معنىً واحد. ه. ولا بد من تقدير حذف مضاعف في قوله :﴿ ومن الجبال جُدَد ﴾ أي : من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب ؛ حتى يؤول إلى قولك : ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال :﴿ ثمرات مختلفاً ألوانها ﴾.
﴿ ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه وكذلك إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾.
﴿ ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه ﴾ أي : ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد. ﴿ كذلك ﴾ أي : كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري : تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضاً الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال ه.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنما يخشى اللهَ ﴾ أي : يخافه ﴿ من عباده العلماءُ ﴾ لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" أعلمكم بالله أشدكم له خشية١ " وقال صلى الله عليه وسلم :" رأس الحكمة مخافة الله٢ ".
وقال الربيع بن أنس : مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية : كفى بالزهد عِلماً، وقال ابن مسعود : كفى بخشية الله عِلماً، وبالاعتذار جهلاً. وفي الحِكَم :" خيرُ علم ما كانت الخشية معه ". وقال في التنوير : اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة ؛ فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى :﴿ إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ﴾ بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. ه.
وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه : واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحي السنية. ه.
وقال في لطائف المنن : شاهد العلم، الذي هو مطلب الله تعالى : الخشية، وشاهد الخشية : موافقة الأمر، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع، والادخار، والمباهاة، والاستكثار، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء ! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة، تُضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها. جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه. ه.
وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه : إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم. ولو عكس، بأن قال : إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى : أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز : بنصف " العلماء " ورفع " الله ". والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم. والمعنى : إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ. وعنه صلى الله عليه وسلم :" يقول الله للعلماء يوم القيامة إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده : إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ ؛ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي٣ ". قال المنذري : انظر إلى قوله :" علمي وحلمي " يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص. وفي رواية :" لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم ". وقال عليه الصلاة والسلام :" يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء٤ ".
﴿ إِن الله عزيزٌ غفور ﴾ هو تعليل لوجوب الخشية ؛ لدلالته على عقوبة العصاة ؛ لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم ؛ لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة : العلماء على قسمين : علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه : في علماء أهل الرواية : مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. ه.
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية : أن الخوف من العقاب، والرهبة من العتاب، والخشية من الإبعاد. قال القشيري : والفرق بين الخشية والرهبة : أنَّ الرهبة : خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه، فيجري في تفرقته. والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها، فيبقى مع الله. فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة، والخوف قضية الإيمان، قال تعالى :﴿ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٧٥ ]. والخشية قضية العلم والهيبة. ه. ثم قال : العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ، وانبساط في غير وقت، بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى. ه.
قال الورتجبي : الخوف عموم، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي : العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية : وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجاً بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه " ه. وفي الحديث : قيل يا رسول الله : أي الأعمال أفضل ؟ قال :" العلم " قيل : أيُّ العلم ؟ قال :" العلم بالله سبحانه٥ ". وقال صلى الله عليه وسلم :" ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه ؟ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً٦ ".
ثم قال : عن جعفر الصادق : العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. ه. ومعنى كلامه : أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم :" العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك ". وبالله التوفيق.
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٢/٢٢٥، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٨/٤٤٨، ٩/٢١١، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٤/١٥٨، والمتقي الهندي في كنز العمال ٥٨٧٣، والعجلوني في كشف الخفاء ١/٣٥٢، ٥٠٧..
٣ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٣٨١، والهيثمي في مجمع الزوائد ١/١٢٦..
٤ أخرجه السيوطي في الجامع الصغير حديث ١٠٠٢٦..
٥ أخرجه ابن عراق في تنزيه الشريعة ١/٢٧٨..
٦ أخرجه البخاري في الاعتصام حديث ٧٣٠١ ومسلم في الفضائل حديث ١٢٧..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ﴾ * ﴿ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن الذين يتلون كتابَ الله ﴾ أي : يُداومون على تلاوة القرآن ﴿ وأقاموا الصلاةَ ﴾ أتقنوها في أوقاتها، ﴿ وأنفقوا مما رزقناهم ﴾ فرضاً ونفلاً ﴿ سراً وعلانيةً ﴾ مسرّين النفل، ومعلنين الفرض، ولم يقنعوا بتلاوته عن العمل به. وخبر " إن " : قوله :﴿ يرجُونَ تجارةً لن تبور ﴾ لن تكسد، وهو ثواب أعمالهم، يعني : يطلبون تجارة ينتفي عنها الكسد، وتنفق عند الله.
أخرج ابن أبي شيبة عن بريدة، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، يقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : ما أعرفك، فيقول : أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلتك، فإنَّ كل تاجر وراء تجارته. قال : فيُعطى المُلك بيمينه، والخُلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتين، لا تُقوّم لهما الدنيا، فيقولان : بِمَ كُسِينَا هذا ؟ فيقال لهما : بأخْذِ وَلَدِكُما القرآنَ. ثم يقال له : اقرأ، واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ١ ".
وذُكر في بعض الأخبار : أن حملة القرآن يُحشرون يوم القيامة على كثبان المسك، وأنوارُ وجوههم تغشى النظار، فإذا أتوا إلى الصراط تلقتهم الملائكة ؛ الذين وُكلوا بحملة القرآن، فتأخذ بأيديهم، وتُوضع التيجان على رؤوسهم، والحُلل على أجسادهم، وتُقرب إليهم خيل من نور الجنة، عليها سُرُج المسك الأذفر، ألجمتُها من اللؤلؤ والياقوت، فيركبونها، وتطير بهم على الصراط، ويجوز في شفاعة كل واحد منهم مائة ألف ممن استوجب النار، وينادي مناد : هؤلاء أحباء الله، الذين قرأوا كتاب الله، وعَمِلوا به، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ه.
﴿ إِنه غفور شكور ﴾ غفور لهفواتهم، شكور لأعمالهم، يُعطي الجزيل، على العمل القليل.
﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ * ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ * ﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ثم أورثنا الكتابَ ﴾ أي : أوحينا إليك القرآن، وأورثناه مَنْ بعدَك، أي : حكمنا بتوريثه ﴿ الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين، وتابعيهم، ومَن بعدهم إلى يوم الدين ؛ لأنَّ الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطاً ؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بالانتساب إلى أكرم رسله. قال ابن عطية : الكتاب هنا يراد به معاني القرآن وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى أعطى أمة محمد القرآن، وهو قد تضمن معاني الكتب المنزلة قبله، فكأنه وَرَّث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. ه.
ثم رتَّبهم مراتب، فقال :﴿ فمنهم ظالم لنفسه ﴾ بالتقصير في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، ﴿ ومنهم مقتصدٌ ﴾ وهو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ﴿ ومنهم سابق بالخيرات ﴾ بأن جمع بين علمه والعمل به، وإرشاد العباد إلى اتباعه. وهذا أوفق بالحديث، فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له١ " وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، والظالمُ يُحبس، حتى يظن أنه لن ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة٢ " رواه أبو الدرداء. وقال ابن عباس رضي الله عنه : السابق، المخلص، والمقتصد : المرائي، والظالم : الكافر النعمة غير الجاحد له، لأنه حَكَمَ للثلاثة بدخول الجنة. وقال الربيع بن أنس : الظالم : صاحب الكبائر، والمقتصد : صاحب الصغائر، والسابق : المجتنب لهما. وقال الحسن : الظالم : مَن رجحت سيئاته، والسابق : مَن رجحت حسناته، والمقتصد : مَن استوت حسناته وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية فقال : كلهم مؤمنون. وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ ﴾ [ فاطر : ٣٦ ]. وأما الطبقات الثلاث فهم من الذين اصطفى من عباده ؛ لأنه قال : فمنهم، ومنهم، ومنهم، والكل راجع إلى قوله :﴿ الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ فهم أهلُ الإيمان، وعليه الجمهور.
وإنما قدّم الظالم للإيذان بكثرتهم، وأنّ المقتصد : قليلٌ بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل. وقال ابن عطاء : إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله. وقيل : إنما قدّمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربِّه. وقيل : لأن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة. وقال سهل : السابق : العالم، والمقتصد : المتعلم، والظالم : الجاهل. وقال أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد : الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل : الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق : الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق. وقيل : الظالم : مَن أخذ الدنيا حلالاً وحراماً، والمقتصد : المجتهد ألا يأخذها إلا من حلال، والسابق : مَن أعرض عنها جملة.
وقيل : الظالم : طالب الدنيا، والمقتصد : طالب الآخرة، والسابق : طالب الحق لا يبغي به بدلاً. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه. وقال عكرمة والحسن وقتادة : الأقسام الثلاثة في جميع العباد ؛ فالظالم لنفسه : الكافر، والمقتصد : المؤمن العاصي، والسابق : التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله تعالى :﴿ وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً ﴾ [ الواقعة : ٧ ] والتحقيق ما تقدّم.
وقوله :﴿ بإِذْنِ الله ﴾ أي : بأمره، أو : بتوفيقه وهدايته ﴿ ذلك ﴾ أي : إيراث الكتاب والاصطفائية. أو السبق إلى الخيرات ﴿ هو الفضلُ الكبيرُ ﴾ الذي لا أكبر منه، وهو ﴿ جناتُ عَدْنٍ يدخلونها ﴾.
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم : السالك المحض، والمقتصد : المجذوب المحض، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد : مَن استوت حالاته، والسابقُ : مَن زادت حسناته. أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو : الظالم : مَن طلبه، والمقتصد : مَن وجده، والسابق : مَن بقي معه. أو : الظالم : مَن ترك الزلة، والمقتصد : مَن ترك الغفلة، والسابق : مَن ترك العلاقة.
أو : الظالم : مَن جاد بنفسه، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه، والسابق : مَن جاد بروحه. أو : الظالم : مَن له علم اليقين، والمقتصد : مَن له عين اليقين، والسابق : مَن له حق اليقين. أو : الظالم : بترك الحرام، والمقتصد : بترك الشُّبهة، والسابق : بترك الفضل في الجملة.
أو : الظالم : صاحب سخاء، والمقتصد : صاحب جود، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء، والمقتصد : صاحب بسط، والسابق : صاحب أُنس. أو : الظالم : صاحب خوف، والمقتصد : صاحب خشية، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة، والمقتصد : له الرحمة، والسابق : له القُربة، أو : الظالم : طالب النجاة، والمقتصد : طالب الدرجات، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة، والمقتصد : طالب المثوبة، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكُّل، والمقتصد : صاحب التسليم، والسابق : صاحب التفويض، أو : الظالم : صاحب تواجد، والمقتصد : صاحب وجد، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق : مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو : الظالم : صاحب المحاضرة، والمقتصد : صاحب المكاشفة، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد : في كل يوم مرة، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن ؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة :
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرئ | أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ |
وقال أيضاً :
فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ، | كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ |
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/١٩٤، ١٩٨، ٦/٤٤٤، والحاكم في المستدرك ٢/٤٢٦..
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم : السالك المحض، والمقتصد : المجذوب المحض، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد : مَن استوت حالاته، والسابقُ : مَن زادت حسناته. أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو : الظالم : مَن طلبه، والمقتصد : مَن وجده، والسابق : مَن بقي معه. أو : الظالم : مَن ترك الزلة، والمقتصد : مَن ترك الغفلة، والسابق : مَن ترك العلاقة.
أو : الظالم : مَن جاد بنفسه، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه، والسابق : مَن جاد بروحه. أو : الظالم : مَن له علم اليقين، والمقتصد : مَن له عين اليقين، والسابق : مَن له حق اليقين. أو : الظالم : بترك الحرام، والمقتصد : بترك الشُّبهة، والسابق : بترك الفضل في الجملة.
أو : الظالم : صاحب سخاء، والمقتصد : صاحب جود، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء، والمقتصد : صاحب بسط، والسابق : صاحب أُنس. أو : الظالم : صاحب خوف، والمقتصد : صاحب خشية، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة، والمقتصد : له الرحمة، والسابق : له القُربة، أو : الظالم : طالب النجاة، والمقتصد : طالب الدرجات، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة، والمقتصد : طالب المثوبة، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكُّل، والمقتصد : صاحب التسليم، والسابق : صاحب التفويض، أو : الظالم : صاحب تواجد، والمقتصد : صاحب وجد، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق : مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو : الظالم : صاحب المحاضرة، والمقتصد : صاحب المكاشفة، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد : في كل يوم مرة، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن ؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة :
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرئ | أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ |
وقال أيضاً :
فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ، | كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ |
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم : السالك المحض، والمقتصد : المجذوب المحض، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد : مَن استوت حالاته، والسابقُ : مَن زادت حسناته. أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو : الظالم : مَن طلبه، والمقتصد : مَن وجده، والسابق : مَن بقي معه. أو : الظالم : مَن ترك الزلة، والمقتصد : مَن ترك الغفلة، والسابق : مَن ترك العلاقة.
أو : الظالم : مَن جاد بنفسه، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه، والسابق : مَن جاد بروحه. أو : الظالم : مَن له علم اليقين، والمقتصد : مَن له عين اليقين، والسابق : مَن له حق اليقين. أو : الظالم : بترك الحرام، والمقتصد : بترك الشُّبهة، والسابق : بترك الفضل في الجملة.
أو : الظالم : صاحب سخاء، والمقتصد : صاحب جود، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء، والمقتصد : صاحب بسط، والسابق : صاحب أُنس. أو : الظالم : صاحب خوف، والمقتصد : صاحب خشية، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة، والمقتصد : له الرحمة، والسابق : له القُربة، أو : الظالم : طالب النجاة، والمقتصد : طالب الدرجات، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة، والمقتصد : طالب المثوبة، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكُّل، والمقتصد : صاحب التسليم، والسابق : صاحب التفويض، أو : الظالم : صاحب تواجد، والمقتصد : صاحب وجد، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق : مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو : الظالم : صاحب المحاضرة، والمقتصد : صاحب المكاشفة، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد : في كل يوم مرة، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن ؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة :
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرئ | أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ |
وقال أيضاً :
فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ، | كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ |
وأخرج البيهقي : أن رجلاً قال يا رسول الله : إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا، فهل في الجنة من نوم ؟ فقال :" إن النوم شريك الموت - أو أخو الموت وإن أهل الجنة لا ينامون أو : ليس في الجنة موت ". وفي رواية أخرى، قال : فما راحتهم ؟ قال :" ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة١ "، فالنوم ينشأ من نصب الأبدان، ومِن ثِقل الطعام، وكلاهما منتفيان في الجنة.
قال الضحاك : إذا دخل أهل الجنة الجنة، استقبلهم الولدان والخدم، كأنهم اللؤلؤ المكنون، فيبعث الله ملَكاً من الملائكة، معه هدية من رب العالمين، وكسوة من كسوة الجنة، فيلبسه، فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت، فيقف، ومعه عشرة خواتم، فيضعها في أصابعه، مكتوب : طبتم فادخلوها خالدين، وفي الثانية : ادخلوها بسلام، ذلك يوم الخلود، وفي الثالثة : رُفعت عنكم الأحزان والهموم، وفي الرابعة : وزوجناهم بحور عين، وفي الخامسة : ادخلوها بسلام آمنين، وفي السادسة : إني جزيتهم اليوم بما صبروا، وفي السابعة : أنهم هم الفائزون. وفي الثامنة : صرتم آمنين لا تخافون أبداً، وفي التاسعة : رفقتم النبيين والصديقين والشهداء، وفي العاشرة : سكنتم في جوار مَن لا يؤذي الجيران. فلما دخلوا قالوا :﴿ الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. . . ﴾ إلى :﴿ لغوب ﴾. ه.
قلت : وهذا النوع من المتوجهين غلب عليه سُكْر المحبة، ودهش العشق، فادعى قوة الربوبية، وطلب إدراك الألوهية، ونسي ضعف عبوديته، فكان ظالماً لنفسه، من هذا المعنى ؛ إذ العبودية لا تطيق إدراك كنه الربوبية. ولو أنه طلب الوصول إليه من جهة فقره، وضعفه، لكان مقتصداً، ولو أنه طلب الوصول إلى الله بالله لكان سابقاً. فالأقسام الثلاثة تجري في المتوجهين ؛ فالظالم لنفسه : مَن غلب سُكْره على صحوه في بدايته، والمقتصد مَن غلب صحوه على سُكْره في بداية سيره، والسابق مَن اعتدل سُكره مع صحوه في نهايته أو سيره.
أو الظالم : السالك المحض، والمقتصد : المجذوب المحض، والسابق : الجامع بينهما ؛ إذ هو الذي يصلح للتربية. أو الظالم : الذي ظاهره خيرٌ من باطنه، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق : هو الذي باطنه خير من ظاهره.
وعن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ : الظالم : الآخذ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمقتصد : الآخذ بأقواله وأفعاله، والسابق : الآخذ بأقواله وأفعاله وأخلاقه. وقال القشيري : ويقال الظالم : مَن غلبت زلاَّته، والمقتصد : مَن استوت حالاته، والسابقُ : مَن زادت حسناته. أو : الظالمُ : مَنْ زهد في دنياه، والمقتصدُ : مَن رغب في عقباه، والسابق : مَن آثر على الدارين مولاه. أو : الظالم مَن نَجَمَ كوكبُ عقله، والمقتصد : مَن طَلَعَ بدرُ عِلْمه، والسابق : مَن ذَرَّت شمسُ معرفته. أو : الظالم : مَن طلبه، والمقتصد : مَن وجده، والسابق : مَن بقي معه. أو : الظالم : مَن ترك الزلة، والمقتصد : مَن ترك الغفلة، والسابق : مَن ترك العلاقة.
أو : الظالم : مَن جاد بنفسه، والمقتصد : مَن لم يبخل بقلبه، والسابق : مَن جاد بروحه. أو : الظالم : مَن له علم اليقين، والمقتصد : مَن له عين اليقين، والسابق : مَن له حق اليقين. أو : الظالم : بترك الحرام، والمقتصد : بترك الشُّبهة، والسابق : بترك الفضل في الجملة.
أو : الظالم : صاحب سخاء، والمقتصد : صاحب جود، والسابق : صاحب إيثار. أو : الظالم : صاحب رجاء، والمقتصد : صاحب بسط، والسابق : صاحب أُنس. أو : الظالم : صاحب خوف، والمقتصد : صاحب خشية، والسابق : صاحب هيبة. أو : الظالم له المغفرة، والمقتصد : له الرحمة، والسابق : له القُربة، أو : الظالم : طالب النجاة، والمقتصد : طالب الدرجات، والسابق : طالب المناجاة. أو : الظالم : أمن من العقوبة، والمقتصد : طالب المثوبة، والسابق : متحقق بالقربة. أو : الظالم : صاحب التوكُّل، والمقتصد : صاحب التسليم، والسابق : صاحب التفويض، أو : الظالم : صاحب تواجد، والمقتصد : صاحب وجد، والسابق : صاحب وجود ـ غير محجوب عنه البتة ـ. أو : الظالم : مجذوب إلى فعله، والمقصد مكاشفٌ بوصفه، والسابق : مستهلك في حقه، الذي هو وُجُودُه. أو : الظالم : صاحب المحاضرة، والمقتصد : صاحب المكاشفة، والسابق : صاحب المشاهدة. وبعضهم قال : يراه الظالم في الآخرة في كل جمعة، والمقتصد : في كل يوم مرة، والسابق : غير محجوبٍ عنه أَلْبتة. هـ باختصار.
والتحقيق : أن الأقسام الثلاثة تجري في كل من العارفين، والسائرين، والعلماء، والعُبّاد، والزهّاد، والصالحين ؛ إذ كل فن له بداية ووسط ونهاية. ذلك السبق إلى الله هو الفضل الكبير، جنات المعارف يدخلونها، يُحلَّون فيها من أساور من ذهب، وهي الأحوال، ولُؤلؤاً، وهي المقامات، ولباسهم فيها حرير، وهي خالص أعمال الشريعة ولُبها. وقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزَن ؛ إذ لا حزن مع العيان، ولا أغيار مع الأنوار، ولا أكدار مع الأسرار، ما تجده القلوب من الأحزان فَلِمَا مُنعت من العيان. ولابن الفارض رضي الله عنه في وصف الخمرة :
وإن خَطَرتْ يوماً على خاطرِ امرئ | أقامتْ بها الأفراحُ وارْتحَلَ الهَمُّ |
وقال أيضاً :
فما سَكَنَتْ والهمَّ يوماً بموضِعٍ، | كذلك لم يَسْكُنْ مع النغم الغَمُّ |
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ﴾ * ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾.
قلت :" فيموتوا " : جواب النفي.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ والذين كفروا لهم نارُ جهنَّمَ ﴾ يُخلدون فيها، ﴿ لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ﴾ أي : لا يحكم بموت ثان فيستريحوا، ﴿ ولا يُخفف عنهم من عذابها ﴾ ساعة، بل كلما خبت زِيد إسعارها، وهذا مثل قوله :﴿ لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ ﴾ [ الزخرف : ٧٥ ]، وذكر عياض انعقاد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يُثابون عليها. ولا تخفيف عذاب. وقد ورد في الصحيح سؤال عائشة عن ابن جدعان، وأنه كان يصل الرحم، ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعُه، فقال عليه السلام :" لا، فإنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ". ثم قال عياض : ولكن بعضهم يكون أشد عذاباً، بحسب جرائمهم.
وذكر أبو بكر البيهقي : أنه يجوز أن يراد بما ورد في الآيات والأخبار من بطلان خيرات الكفار : أنهم لا يتخلصون بها من النار، ولكن يُخفف عنهم ما يستوجبونه بجناية سوى الكفر، ودافعه المازري. قال شارح الصغاني بعد هذا النقل : وعلى ما قاله عياض، فما ورد في أبي طالب من النفع بشفاعته صلى الله عليه وسلم، بسبب ذبِّه عنه ونصرته له، مختص به. ه. ويرد عليه ما ورد من التخفيف في حاتم بكرمه، فالظاهر ما قاله البيهقي. والله أعلم. ومثل ما قاله في أبي طالب، قيل في انتفاع أبي لهب بعتق ثويبة، كما في الصحيح١.
والحاصل : أن التخفيف يقع في بعض الكفار، لبره في الدنيا، تفضلاً منه تعالى، لا في مقابلة عملهم ؛ لعدم شرط قبوله. انظر الحاشية.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع، ﴿ نجزي كلَّ كفور ﴾ مبالغ في الكفران.
﴿ وجاءكم النذيرُ ﴾ أي : الرسول عليه السلام، أو : الكتاب، وقيل : الشيخوخة، وزوال السن، وقيل : الشيب. قال ابن عزيز : وليس هذا شيء ؛ لأن الحجة تلحق كل بالغ وإن لم يشب. وإن كانت العرب تسمي الشيب النذير. ه. ولقوله تعالى بعدُ :﴿ فلما جاءهم نذير ﴾ فإنه يتعين كونه الرسول، وهو عطف على معنى :﴿ أو لم نعمركم ﴾ لأن لفظه استخبار، كأنه قيل : قد عمَّرناكم وجاءكم النذير. قال قتادة : احتج عليهم بطول العمر، وبالرسول، فانقطعت حجتهم. قال تعالى :﴿ فذُوقوا ﴾ العذاب ﴿ فما للظالمين من نصيرٍ ﴾ يدفع العذاب عنهم.
٢ أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٤١٩..
﴿ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن الله عالمُ غيبِ السماوات والأرض ﴾ أي : ما غاب فيهما عنكم، ﴿ إِنه عليم بذاتِ الصدور ﴾ تعليل لِمَا قبله ؛ لأنه إذا عَلِمَ ما في الصدور، وهي أخفى ما يكون، فقد عَلِمَ كل غيب في العالم. وذات الصدور : مضمراتها ووساوسها. وهي تأنيث " ذو " بمعنى : صاحب الوساوس والخطرات، تصحب الصدور وتُلازمها في الغالب، أي : عليم بما في القلوب، أو بحقائقها، على أن " ذات " بمعنى الحقيقة.
قال القشيري :﴿ إِنَّ الله عالمُ غيبِ السماواتِ والأرضِ ﴾ بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى :﴿ هو الذي جعلكم خلائف ﴾ أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه : أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.
قال القشيري :﴿ إِنَّ الله عالمُ غيبِ السماواتِ والأرضِ ﴾ بإخلاص المخلصين، وصدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وجحد الكافرين، ومَن يريد بالناس شرًّا، ومَن يُحْسِن بالله ظَنًّا. هـ.
وقال في قوله تعالى :﴿ هو الذي جعلكم خلائف ﴾ أهل كلِّ عصرٍ خليفة عصر تقدمهم، فَمِنْ قومِ هم أنفسهم جَمال، ومن قوم أراذل وأنذال، والأفاضلُ زمانهم لهم محنة، والأراذلُ هم لزمانهم محنة. وحاصل كلامه : أن قوماً عرفوا حق الخلافة، فقاموا بحقها، وشكروا الله عليها، بالقيام بطاعته، فكانوا في زمانهم جمالاً لأنفسهم، ولأهل عصرهم، لكنهم لَمَّا تحمّلوا مشاق الطاعات، وترادف الأزمات، كان زمانهم لهم محنة. وقوماً لم يعرفوا حق الخلافة، فاشتغلوا بالعصيان، فانتحس الزمان بهم، فكانوا محنة لزمانهم.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً ﴾.
قلت :" أرأيتم " : بمعنى : أخبروني، وهي تطلب مفعولين : أحدهما منصوب، والآخرُ مُشتمل على استفهام، كقولك : أرأيت زيداً ما فعل، فالأول :﴿ شركاءكم ﴾ والثاني :﴿ ماذا خلقوا ﴾. و﴿ أروني ﴾ : اعتراض، فيها تأكيد للكلام وتشديد. ويحتمل أن يكون من باب التنازع ؛ لأنه توارد على ﴿ ماذا خلقوا ﴾ :﴿ أرأيتم ﴾ و﴿ أروني ﴾، ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين. قاله أبو حيان. ولابن عطية وابن عرفة غير هذا، فانظره. و " بعضهم " : بدل من " الظالمين ".
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قل لهم أرأيتُمْ شركاءكم ﴾ أي : أخبروني عن آلهتكم التي أشركتموها في العبادة مع الله، ﴿ الذين تدْعُون ﴾ أي : تعبدونهم ﴿ من دون الله ﴾ ما سندكم في عبادتهم ؟ ﴿ أروني ماذا خَلقوا من الأرض ﴾ أي : جزء من الأرض، استبدُّوا بخلقه حتى استحقُّوا العبادة بسبب ذلك، ﴿ أم لهم شِرْكٌ في السماوات ﴾ أي : أم لهم مع الله شركة في خَلْق السماوات حتى استحقُّوا أن يُعبدوا ؟ بل لا شيء من ذلك، فبطل استحقاقها للعبادة. ﴿ أم آتيناهم كتاباً ﴾ أم معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه، ﴿ فهم على بينةٍ منه ﴾ فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب ؟ قال ابن عرفة : هذا إشارة إلى الدليل السمعي، والأول إشارة إلى الدليل العقلي، فهم لم يستندوا في عبادتهم الأصنام إلى دليل عقلي ولا سمعي، ﴿ بل إِن يَعِدُ الظالمون ﴾ أي : ما يَعِد الظالمون، وهم الرؤساء ﴿ بعضُهُم بعضاً إِلا غُروراً ﴾ باطلاً وتمويهاً، وهو قولهم :
﴿ هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ ﴾ [ يونس : ١٨ ] لَمَّا نفى أنواع الحجج العقلية والسمعية، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تقرير الأسلاف الأخلاف، والرؤساء الأتباع ؛ بأنهم شفعاء عند الله تُقربهم إليه. هذا هو التقليد الرديء، والعياذ بالله.
الإشارة : كل مَن ركن إلى مخلوق، أو اعتمد عليه، يُتلى عليه :﴿ أرأيتم شركاءكم. . . ﴾ الآية. وفي الحِكَم :" كما لا يقبل العمل المشترك، لا يُحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه ".
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِن الله يُمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولاَ ﴾ أي : يمنعهما من أن تزولا ؛ لأن إمساكهما منع. والمشهور عند المنجمين : أن السماوات هي الأفلاك التي تدور دورة بين الليل والنهار. وإنكار ابن يهود على كعب، كما في الثعلبي، تحامل ؛ إذ لا يلزم من دورانها عدم إمساكها بالقدرة، وانظر عند قوله :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا. . . ﴾ [ يس : ٣٨ ] قال القشيري : أمسكهما بقدرته، وأتقنهما بحكمته، وزينهما بمشيئته، وخلق أهلهما على موجب قضيته، فلا شبيه في إبقائهما وإمساكهما يُسَاهِمُه، ولا شريك في إيجادهما وإعدامهما يقاسمه. ه.
﴿ ولَئِن زَالَتَا ﴾ على سبيل الفرض، ﴿ إِنْ أَمْسَكَهُما من أحدٍ من بعده ﴾ من بعد إمساكه. و " من " الأولى : مزيدة، لتأكيد النفي، والثانية : ابتدائية، ﴿ إِنه كان حليماً غفوراً ﴾ غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما على مَن يشرك به ويعصيه، وكانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً، كما قال :﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ. . . ﴾ [ مريم : ٩٠ ] الآية.
الإشارة : الوجود قائم بين سماء القدرة وأرض الحكمة، بين سماء الأرواح وأرض الأشباح، بين سماء المعاني وأرض الحس، فلو زال أحدهما لاختل نظام الوجود، وبطلت حكمة الحكيم العليم. الأول : عالم التعريف، والثاني : عالم التكليف. الأول : محل التنزيه، والثاني : محل التشبيه، الأول : محل أسرار الذات، والثاني : محل أنوار الصفات، مع اتحاد المظهر ؛ إذ الصفات لا تفارق الموصوف، فافهم. وفي بعض الأثر :" إن العبد إذا عصى الله استأذنت السماء أن تسقط عليه من فوقه، والأرض أن تخسف من تحته، فيمسكهما الله تعالى بحلمه وعفوه، ثم تلى الآية :﴿ إِن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ﴾ إلى قوله :﴿ كان حليماً غفوراً ﴾ ه. بالمعنى.
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ * ﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ * ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً ﴾.
قلت :" جهد " : نصب على المصدر، أو على الحال. و " استكبار " و " مكر " : مفعول من أجله أو حال.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ أي : إقساماً وثيقاً، أو : جاهدين في أيمانهم :﴿ لئن جاءهم نذير ﴾ رسول ﴿ ليكونن أهدى من إحدى الأمم ﴾ المهتدية، بدليل قوله :﴿ أهدى ﴾ وقوله في سورة الأنعام :﴿ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٧ ] وذلك أن قريشاً قالوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا بلغهم أن أهل الكتاب كذّبوا رسلهم : لعن الله اليهود والنصارى، أتتهم الرسل فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، أي : من الأمة التي يقال فيها : هي أهدى الأمم، تفضيلاً لها على غيرها في الهُدى والاستقامة. كما يقال للداهية العظيمة : هي أهدى الدواهي. فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ ما زادهم إِلا نُفوراً ﴾ أي : ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق، وهو إسنادٌ مجازيّ ؛ إذ لا فاعل غيره.
ثم قال في قوله :﴿ أولم يسيروا... ﴾ الخ : ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
﴿ فهل ينظُرون إِلا سُنَّة الأولين ﴾ : ما ينتظرون إلا أن ينزل بهم ما نزل بالمكذبين الأولين، من العذاب المستأصل، كما هي سُنَّة الله فيمن كذّب الرسل. ﴿ فلن تجد لسُنة الله تبديلاً، ولن تجد لسُنة الله تحويلاً ﴾ بيّن أن سُنَّته التي هي الانتقام من مكذِّبي الرسل سُنَّة ماضية، لا يبدلها في ذاتها، ولا يحوّلها عن وقتها، وأنَّ ذلك مفعول لا محالة.
ثم قال في قوله :﴿ أولم يسيروا... ﴾ الخ : ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
ثم قال في قوله :﴿ أولم يسيروا... ﴾ الخ : ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدو، ولا تنال الحقيقةُ بمَن انعكس قَصْدُه، وارتدَ عليه كيدُه، دَمّر على أعدائه تدميراً، وأوسع لأوليائه فضلاً كبيراً. هـ.
﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ﴾.
يقول الحق جلَ جلاله :﴿ ولو يُؤاخِذُ اللهُ الناسَ بما كسبوا ﴾ بما اقترفوا من المعاصي ﴿ ما ترك على ظهرها ﴾ على ظهر الأرض ؛ لأنه جرى ذكرها في قوله :﴿ كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاواتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ ﴾ [ فاطر : ٤٤ ]، ﴿ من دابةٍ ﴾ من نسمة تدبُّ عليها. قيل : أهل المعاصي فقط من الناس، وقيل : من الجن والإنس. والمشهور : أنه عام في كل ما يدب ؛ لأن الكل خُلق للآدمي. وعن ابن مسعود :( إِن الجُعل١ ليُعذب في جحره بذنب ابن آدم ) ٢، يعني ما يصيبه من القحط، بشؤم معاصيه. وقال أبو هريرة : إن الحبارى٣ لتموت هزالاً في وكرها بظلم الظالم. ه.
قال القشيري : لو عَجَّل لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب، لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ، وما اتسعت أفهامُهم القصيرة له، فأخَّرَ ذلك ليوم الحَشْرِ، فإِنَّه طويل، والله على كل شيء قدير، بأمور عباده بصير، وإليه المصير ه وهذا معنى قوله :﴿ ولكن يُؤخرهم إِلى أجَلٍ مسمىً ﴾ هو يوم القيامة، ﴿ فإِذا جاء أجَلُهُم ﴾ أجل جمعهم، ﴿ فإِن الله كان بعباده بصيراً ﴾ أي : لن يخفى عليه حقيقة أمرهم، وحكمة حكمهم، فيجازيهم على قدر أعمالهم.
الإشارة : تعجيل العقوبة في دار الدنيا للمؤمن إحسان، وتأخيرها لدار الدوام استدراج وخذلان. فكل مَن له عناية سابقة ؛ عاتبه الله في الدنيا، بمصيبة في بدنه، أو ماله، أو في أهله، ومَن لا عناية له أُخرت عقوباته كلها لدار الجزاء. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه، وبسيدنا محمد نبيه صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه.
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥/٤٨٠..
٣ الحبارى: طائر معروف، وهو على شكل الإوزة..