ﰡ
وهي أربعون وخمس آية مكية
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)قوله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خالق السموات والأرض. يقال: فطر الشيء إذا بدأه. قال ابن عباس- رضي الله عنه-: ما كنت أعرف فاطر حتى اختصما لي أعرابيان في بئر. فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني: بدأتها.
ثم قال: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يعني: مرسل الملائكة بالرسالة جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت والكرام الكاتبين- عليهم السلام- أُولِي أَجْنِحَةٍ يعني: ذوي أجنحة، ولفظ أولي يستعمل في الجماعة، ولا يستعمل في الواحد وواحدها ذو.
ثم قال: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يعني: من الملائكة من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة. ومنهم كذا. ويقال: ثُلاثَ معدول من ثلاثة. يعني: ثلاثة ثلاثة. وَرُباعَ معدول من أربعة يعني: أربعة أربعة.
ثم قال: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ يعني: يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء. وروي عن ابن شهاب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سأل جبريل- عليه السلام- أن يتراءى له في صورته. فقال له جبريل: إنك لا تطيق ذلك. فقال: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَفْعَلَ». فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المصلى في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته فغشي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين رآه. ثم أفاق وجبريل- عليه السلام- يسنده، واضع إحدى يديه على صدره، والأخرى بين كتفيه. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ الله مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الخَلْقِ هَكَذا» ! فقال جبريل: فكيف لو رأيت
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الزيادة والنقصان وغيره.
ثم قال عز وجل: مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ يعني: ما يرسل الله للناس من رزق كقوله: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ [الإسراء: ٢٨] ويقال: الغيث. ويقال: مِنْ رَحْمَةٍ يعني: من كل خير فَلا مُمْسِكَ لَها يعني: لا يقدر أحد على حبسها وَما يُمْسِكْ يعني: ما يحبس من رزق فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ يعني: فلا معطي أحد بعد الله عز وجل. قال في أول الكلام:
فَلا مُمْسِكَ لَها بلفظ التأنيث، لأنه انصرف إلى اللفظ وهو الرحمة.
ثم قال: فَلا مُرْسِلَ لَهُ بلفظ التذكير، لأنه ينصرف إلى المعنى وهو المطر والرزق، ولو كان كلاهما بلفظ التذكير أو كلاهما بلفظ التأنيث لجاز في اللغة. فذكر الأول بلفظ التأنيث لأن الرحمة كانت أقرب إليه، وفي الثاني كان أبعد وقد ذكر بلفظ التذكير مجاز حذف ما ثم قال: وَهُوَ الْعَزِيزُ فيما أمسك الْحَكِيمُ فيما أرسل.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣ الى ٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني: احفظوا نعمة الله. ثم ذكر النعمة فقال: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني: النبات والمطر.
والاستثناء إذا كان بحرف إلا. فإن الإعراب يكون على ما بعده. وإذا كان الاستثناء بحرف غير، فإن الإعراب يقع على نفس الغير. فمن قرأ بالكسر، صار كسراً على البدل. ومن قرأ بالرفع فمعناه: هل خالق غير الله، لأن من موكدة. ولفظ الآية لفظ الاستفهام. والمراد به النفس يعني: أنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه، ولا يرزقكم أحد سواه.
ثم وحّد نفسه فقال: لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ يفعل بكم ذلك فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ يعني: من أين تكذبون، وأنتم تعلمون أنه لا يخلق أحد سواه.
ثم قال عز وجل: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ كما كذبك قومك، وهذا تعزية يعزي بها نبيه صلّى الله عليه وسلم ليصبر على أذاهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يعني: إليه ترجع عواقب الأمور بالبعث.
ثم قال عز وجل: يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني: يا أهل مكة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يعني: البعث بعد الموت حق كائن فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: حياتكم في الدنيا، والدنيا في الأصل هي القربى. سميت بهذا لأن حياتهم هذه أقرب إليهم. ويقال: هي فعلى من الأدون يعني: حياة الأدون وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعني: الباطل وهو الشيطان. قال: حدّثنا أبو الليث رحمه الله.
قال: حدّثني أبي. قال: حدّثنا أبو الحسن الفراء الفقيه السمرقندي. قال: حدّثنا أبو بكر الجرجاني الإمام بسمرقند ذكر بإسناده عن العلاء بن زيادة. قال: رأيت الدنيا في النوم امرأة قبيحة عمشاء، ضعيفة، عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينةٍ فقلت: من أنت. أعوذ بالله منك؟ فقالت: أنا الدُّنيا.
فإن يسرك أن يعيذك الله مني، فأبغض الدراهم يعني: لا تمسكها عن النفقة في موضع الحق.
ثم قال عز وجل: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ يعني: حين يأمركم بالكفر، ومن عداوته مع أبيكم ترك طاعة الله فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا يعني: فعادوه بطاعة الله. ومعناه: أطيعوا الله عز وجل لأنك إذا أطعت الله فقد عاديت الشيطان إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ يعني: شيعته إلى الكفر لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ يعني: من أهل النار. ثم بيّن مصير من أطاع الشيطان، ومصير من عصاه فقال الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: جحدوا بوحدانية الله عز وجل: لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بوحدانية الله، وعملوا الطاعات، واتخذوا الشيطان عدواً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في الدنيا لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ يعني: ثواباً حسناً في الجنة.
قوله عز وجل: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يعني: قبيح عمله كمن لم يزين له ذلك فَرَآهُ حَسَناً يعني: فظنه حقاً. والجواب فيه مضمرا فمن زيّن له سوء عمله كمن لم يزين له ذلك. وقال الزجاج: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يعني: أبا جهل وأصحابه، وأضله الله كمن لم يزين له ذلك وهداه الله تعالى.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٩ الى ١١]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
ثم قال عز وجل: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً أي: ترفعه وتهيجه فَسُقْناهُ يعني: نسوقه إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يعني: بعد يبسها كَذلِكَ النُّشُورُ يعني: هكذا تحيون بعد الموت يوم القيامة وروي عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن ابن الزبعرى، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: تقوم الساعة على شرار الناس. ثم يقوم ملك بالصور. فينفخ فيه، فلا يبقى خلق في السماوات والأرض إلا مات إلا ما شاء الله، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله، فيرسل الله الوباء من السماء من تحت العرش، كمني الرجال فتنبت لحومهم من ذلك الماء، كما تنبت الأرض من الندا. ثم قرأ: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ ثم ينفخ في الصور.
قوله عز وجل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً يعني: من طلب العزة بعبادة الأوثان، فليتعزز بطاعة الله عز وجل. فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً. يقول: من يتعزز بإذن الله. ويقال:
معناه من كان يريد أن يعلم لمن تكون العزة، فليعلم بأن العزة لله جميعاً. ويقال: من كان يطلب لنفسه العزة، فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً.
ثم قال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قال مقاتل: يصعد إلى السماء كلمة التوحيد وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ يقول: التوحيد يرفع العمل الصالح إلى الله تعالى في السماء، فيها تقديم. وقال الحسن البصري: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله عز وجل. فإذا كان
ثم قال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي: يعملون بالشرك، ويقال: يعملون بالرياء لا يقبل منهم لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ يعني: شرك أولئك، وفسقهم، وصنيعهم، يهلك صاحبه في الآخرة. يقال: بارت السلعة إذا كسدت لأنها إذا كسدت فقد تعرضت للهلاك.
ثم قال عز وجل: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ يعني: آدم- عليه السلام- وهو أصل الخلق ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يعني: خلقكم من نطفة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يعني: أصناما ذكراً وأنثى.
ويقال: أصنافاً، أحمر وأبيض أسود. يعني: فاذكروني ووحدوني وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ومن صلة في الكلام وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ يعني: بمشيئته وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ فيطول عمره وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ يعني: إلا وكل ذلك فِى كتاب الله. أي: قد بيّن في اللوح المحفوظ. وروي عن ابن عمر أنه قرأ مِنْ عُمُرِهِ بجزم الميم وهما لغتان مثل نكر ونكر إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: حفظه على الله هيَّن بغير كتابة.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
ثم قال عز وجل: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ العذب والمالح هذا عَذْبٌ فُراتٌ يعني:
طيّب هيّن شربه. ويقال: سلس في حلقه، حلو في شرابه سائِغٌ يعني: شهياً. ويقال:
يسوغه الشراب وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ يعني: الشديد الذي شيب بضرب إلى المرارة وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا يعني: السمك وَتَسْتَخْرِجُونَ من المالح حِلْيَةً وهي اللؤلؤ
قوله: وَتَرَى الْفُلْكَ يعني: السفن مَواخِرَ يعني: تذهب وتجيء فِيهِ يعني: في البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني: من رزقه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يعني: لكي تشكروا رب هذه النعمة. يقال في اللغة مخر يمخر إذا شقّ الماء. يعني: أن السفينة تشق الماء في حال جريها.
يقال: مخرت السفينة إذا جرت وشقت الماء في جريها.
ثم قال عز وجل: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وقد ذكرناه وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يعني: ذلّل الشمس والقمر لبني آدم. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يعني: إلى أقصى منازلها في الغروب، لأنها تغرب كل ليلة في موضع. وهو قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: ٣٠] ويقال: إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى يعني: يجريان دائماً إلى يوم القيامة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: هذا الذي فعل لكم هذا الفعل هو ربكم وخالقكم لَهُ الْمُلْكُ فاعرفوا توحيده، وادعوه ولا تدعوا غيره وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ يعني: من دون الله الأوثان وما يعبدونهم مِن دُونِ الله مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يعني: لا يقدرون أن يعطوكم ولا ينفعوكم بمقدار القطمير. والقطمير قشر النواة الأبيض الذي يكون بين النوى والتمر. وقال مجاهد:
القطمير لفاف النوى.
ثم قال: إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ يعني: ولو كانوا بحال يسمعون أيضاً فلا يجيبونكم، ولا يكشفون عنكم شيئاً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يعني: يتبرؤون من عبادتكم. ويقولون: مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ.
يقول الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني: لا يخبرك من عمل الآخرة مثل الرب تبارك وتعالى. ويقال: لا يخبرك أحد مثل الرب بأن هذا الذي ذكر عن الأصنام أنهم يتبرؤون عن عبادتهم.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
ثم قال عز وجل: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعني: يهلككم ويميتكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أفضل منكم وأطوع لله وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يعني: شديد وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني: لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى. ويقال: لا تحمل بالطوع ولكن يحمل عليها إذا كان له خصماً.
ثم قال: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها يعني: الذي أثقلته الذنوب والأوزار، إن لو دعا أحداً، ليحمل عنه بعض أوزاره، لا يحمل من وزره شيئاً. وإن كان ذا قرابة لا يحمل من وزره. وروى إبراهيم بن الحكم عن أبيه، عن عكرمة قال: إن الوالد يتعلق بولده يوم القيامة فيقول: يا بني إني كنت لك والداً فيثني عليه خيراً. فيقول: يا بني قد احتجت إلى مثقال ذرة.
وفي رواية أخرى: إلى مثقال حبة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول له ولده: ما أيسر ما طلبت ولكن لا أطيق. إني أخاف مثل الذي تخوفت. ثم يتعلق بزوجته فيقول لها: إني كنت لك زوجاً في الدنيا فيثني عليها خيراً ويقول: إني طلبت إليك حسنة واحدة لعلي أنجو بها مما ترين. فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكن لا أطيق. إني أخاف مثل الذي تخوفت فذلك قوله: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى.
ثم قال: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعني: إنما تخوف بالقرآن الذين يخافون ربهم بالغيب. يعني: آمنوا بالله وهم في غيب منه وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني: يقيمون
ثم قال: وَمَنْ تَزَكَّى يعني: توحد. ويقال: تطهر نفسه من الشرك. ويقال: من صلح فإنما صلاحه لنفسه يثاب عليه في الآخرة. ويقال: من يعطي الزكاة فإنما ثوابه لنفسه. فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجازيهم بعملهم.
قوله عز وجل: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى يعني: الكافر الأعمى عن الهدى وَالْبَصِيرُ يعني: المؤمن وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ يعني: الكفر والإيمان وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني: الجنة والنار وَلَا الْحَرُورُ هو استقرار الحر وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ قال القتبي: مثل الأعمى والبصير كالكافر والمسلم، والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان، والظل والحرور مثل الجنة والنار، وما يستوى الاحياء ولا الأموات مثل العقلاء والجهال.
ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ يعني: يفقه من يشاء وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني: لا تقدر أن تفقه الأموات وهم الكفار إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ يعني: ما أنت إلا رسول إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ يعني: بالقرآن. ويقال: لبيان الحق بَشِيراً وَنَذِيراً وقد ذكرناه وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ يعني: وما من أمة فيما مضى إلا فيهم نذير. يعني: إلا جاءهم رسول.
ثم قال: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني: بالأمر والنهي وَبِالزُّبُرِ يعني: بالكتب، وبأخبار من كان قبلهم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ يعني: المضيء. الكتاب هو نعت لما سبق ذكره من البينات والزبر ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: الذين كذبوهم فعاقبتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ يعني: كيف كان إنكاري وتغييري عليهم ثم ذكر خلقه ليعتبروا به ويوحدوه:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)
كاختلاف الثمرات.
ثم استأنف فقال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقال بعضهم: إنما يتم الكلام عند قوله: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.
ثم استأنف فقال: كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ يعني: هكذا يخشى الله من عباده العلماء. يعني: إن العلماء يعلمون خلق الله تعالى ويتفكرون في خلقه، ويعملون ثوابه وعقابه فيخشونه، ويعلمون بالطاعة طمعاً لثوابه، ويمتنعون عن المعاصي خشية عقابه.
وقال مقاتل: أشد الناس خشية أعلمهم بالله تعالى. فيها تقديم. وروى سفيان عن بعض المشيخة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه سئل: يا رسول الله أينا أعلم؟ فقال: «أَخْشَاكُمْ لله تَعَالَى إنَّمَا يخشى الله من عباده العُلَمَاءُ» قالوا: يا رسول الله فأيُّ الأصحاب أفضل؟ قال: «الذي إذا ذكرت أَعَانَكَ، وإذا نَسِيتَ ذَكَّرَكَ». قالوا: فأي الأصحاب شر؟ قال: «الذي إذا ذكرت لَمْ يُعِنْكَ، وإذا أُنْسِيتَ لَمْ يُذَكِّرْكَ». قالوا: فأيُّ الناس شر؟ قال: «اللُّهُمَّ اغْفِرْ لِلعُلَمَاءِ. وَالعَالِمُ إذا فَسَدَ فَسدَ النَّاسُ».
ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ في ملكه غَفُورٌ لمن تاب.
قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يعني: يقرءون القرآن. ويقال: معناه يتبعون كتاب الله تعالى. يقال: تلا يتلوا إذا تبعه كقوله تعالى: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) [الشمس: ٢] وَأَقامُوا الصَّلاةَ يعني: أتموا الصلوات في مواقيتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ يعني: تصدقوا مما أعطيناهم من الأموال سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ يعني: لن تهلك ولن تخسر.
ومعناه: يَرْجُونَ تِجارَةً رابحة وهي الجنة مكان الحياة الدنيا.
ثم قال عز وجل: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ يعني: يوفر ثواب أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني: من رزقه من الجزاء، والثواب في الجنة. ويقال: مِنْ فَضْلِهِ يعني: من تفضله إِنَّهُ غَفُورٌ لذنوبهم شَكُورٌ لأعمالهم اليسيرة. والشكر على ثلاثة أوجه. الشكر ممن يكون دونه الطاعة لأمره وترك مخالفته. والشكر ممن هو شكله يكون الجزاء والمكافأة.
والشكر ممن فوقه يكون رضى منه باليسير.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)ثم قال عز وجل: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني: أرسلنا إليك جبريل- عليه السلام- بالقرآن هُوَ الْحَقُّ لا شك فيه، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: موافقاً لما قبله من الكتب إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يعني: عالم بهم وبأعمالهم.
قوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ ويقال: أعطينا القرآن الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني: اخترنا من هذه الأمة. وثُمَّ بمعنى العطف. يعني: وأورثنا الكتاب. ويقال ثُمَّ بمعنى التأخير. يعني: بعد كتب الأولين أَوْرَثْنَا الْكِتابَ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ يعني: من الناس ظالم لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ.
روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين أنه قال: الظالم الكافر، والمقتصد المنافق، والسابق المؤمن. وروي عنه رواية أُخرى أنه قال: هؤلاء كلهم من المؤمنين. فالسابق الذي أسلم قبل الهجرة. والمقتصد الذي أسلم بعد الهجرة، قبل فتح مكة. والظالم الذي أسلم بعد فتح مكة. وطريق ثالث ما روى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «السابق الذي يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً، وَالظَّالِمُ الذي يُحَاسَبُ فِي طُولِ المَحْشَرِ». وطريق رابع ما روي عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه قال: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناجي، وظالمنا مغفور له. وطريق آخر ما روى أسد بن رفاعة عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه- أنه قال: سابقنا أهل الجهاد، ومقتصدنا أهل حضرنا، يعني: أهل الأمصار وهم أهل الجماعات والجمعات، وظالمنا أهل بدونا. وطريق سادس ما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها سألت عن هذه الآية فقالت: السابق النبي صلّى الله عليه وسلم ومن مضى معه، والمقتصد مثل أبي بكر ومن مضى معه، والظالم فمثلي ومثلكم. وطريق سابع ما روي عن مجاهد قال: الظالم هم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق هم السابقون بالخيرات، فكأنه استخرجه من قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ [الواقعة: ٨] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: ١٠] وطريق ثامن ما روي عن الحسن البصري- رحمه الله- أنه قال: الظالم هم المنافقون، والمقتصد هم التابعون بإحسان، والسابق هم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وطريق تاسع ما روي عن الحسن أيضاً أنه قال: السابق الذي ترك الدنيا، والمقتصد الذي أخذ من الحلال، والظالم الذي لا يبالي من أين أخذ.
وطريق ثاني عشر: السابق الذي تهيأ للصلاة قبل دخول وقتها، والمقتصد الذي تهيأ للصلاة بعد دخول وقتها، والظالم الذي ينتظر الإقامة. وطريق ثالث عشر: السابق الذي يتوكل على الله يجعل جميع جهده في طاعة الله عز وجل، والمقتصد الذي يطلب قوته ولا يطلب الزيادة، والظالم الذي يطلب فوق القوت والكفاف.
وقيل: طريق رابع عشر: السابق الذي شغله معاده عن معاشه، والمقتصد الذي يشتغل بهما جميعاً، والظالم الذي شغله معاشه عن معاده.
وقيل: طريق خامس عشر: السابق الذي ينجو نفسه وينجو غيره بشفاعته، والمقتصد الذي يدخل الجنة برحمة الله وفضله، والظالم الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين.
وطريق سادس عشر: السابق الذي يعطى كتابه بيمينه، والمقتصد الذي يعطى كتابه بشماله، والظالم الذي يعطى كتابه وراء ظهره.
وطريق سابع عشر قيل: السابق الذي ركن إلى المولى، والمقتصد الذي ركن إلى العقبى، والظالم الذي ركن إلى الدنيا. وطريق ثامن عشر: ما روي عن يحيى بن معاذ الرازي قال: الظالم الذي يضيع العمر في الشهوة، والمعصية، والمقتصد الذي يحارب فيهما، والسابق الذي يجتهد في الزلات. ثم قال: لأن محاربة الصديقين في الزلات، ومحاربة الزاهدين في الشهوات، ومحاربة التائبين في الموبقات.
وطريق تاسع عشر قال: الظالم يطلب الدنيا تمتعاً، والمقتصد الذي يطلب الدنيا تلذذاً، والسابق الذي ترك الدنيا تزهداً. وطريق العشرين قال: الظالم الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه، وهو الرزق، والمقتصد الذي يطلب ما أمر به ولم يؤمر بطلبه، والسابق الذي طلبه مرضاة الله ومحبته.
وطريق حادي عشرين قيل: الظالم أصحاب الكبائر، والمقتصد أصحاب الصغائر، والسابق المجتنب عن الصغائر والكبائر. وطريق ثاني عشرين قيل: السابق الخارج إلى الغزو والرباطات قبل الناس، والمقتصد الخارج إليها مع الناس الذي يعلم ويعلم الناس ويعمل به، والمقتصد الذي يعلم ويعلم ولا يعمل به، والظالم الذي لا يعلم ولا يرغب إلى التعليم.
وطريق رابع وعشرين، السابق الذي هو مشغول في عيب نفسه ولا يطلب عيب غيره،
وقال في آخر الآية جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [النحل: ٣١ وغيرها] فأشار إلى الأصناف الثلاثة بالآية الأولى، حيث قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، والأخرى حيث قال: يَدْخُلُونَها ولم يقل:
يدخلانها. وفي الآية الأخرى دليل أن الأصناف الثلاثة هم يدخلون الجنة. وقال بعضهم: تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح: أن الظالم كافر يعني: كفر النعمة. ومعناه:
فمنهم من كفر بهذه النعمة، ولم يشكر الله عز وجل عليها. ومنهم مقتصد يعني: يشكر ويكفر. ومنهم سابق يعني: يشكر ولا يكفر.
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال:
كان أبي مكنني جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها. فخرج أبي يوماً لحاجة. فنظرت فيها فوجدت فيها نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته، وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب. وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ويدخلون الجنة بغير حساب، وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت. وقلت: لعلّي أكون من الصنف الأول، وإن لم أكن من الصنف الأول لعلّي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث. فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ إلى قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الآية. فإن قيل: ايش الحكمة في ذكره الظالم ابتداءً وتأخيره ذكر السابق قيل له:
الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه، ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل. ثم قال تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني: الذي أورثهم من الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
ثم قال: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ يعني: لباسهم في الجنة من حرير الجنة لا كحرير الدنيا.
قوله عز وجل: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ يعني: حزن الموت وحزن خوف الخاتمة. ويقال: همّ العيش. ويقال: همّ المرور على الصراط إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ يغفر الذنوب شَكُورٌ يقبل اليسير من العمل ويعطي الجزيل عز وجل الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ يعني: الحمد لله الذي أنزلنا دار الخلود والمقامة. والمقام بمعنى واحد يعني: الإقامة والدوام من فضله وكرمه لاَ يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ يعني: لا يصيبنا تعب وعناء وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ يعني: لا يصيبنا فيها من أعباء كما يصيبنا في الدنيا.
ثم بين حال المشركين في النار:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
ثم أخبر عن حالهم فيها فقال عز وجل: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها أي: يستغيثون. يقال:
صرخ يصرخ إذا أغاث واستغاث وهو من الأضداد. ويستعمل للإغاثة والاستغاثة، لأن كل واحد منهما يصلح وهو افتعال من الصراخ. يعني: يدعون في النار ويقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
يعني: نعمل غير الشرك وغير المعصية. يقول الله تعالى:
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ يعني: أولم نعطكم من العمر والمهلة في الدنيا مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ يعني: يتعظ فيه من أراد أن يتعظ.
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ قال: العمر ستون سنة وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ يعني: الشيب والهرم. وروي أن إبراهيم الخليل أول من رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال: هذا وقار في الدنيا، ونور في الآخرة. فقال: يا رب زدني وقاراً. ويقال: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ يعني: أولم نعطكم، ونطول أعماركم وما يَتَذَكَّرُ فِيهِ من تذكر أي: مقدار ما يتعظ فيه من يتعظ.
وروى أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لَقَدَ أَعْذَرَ الله إلَى عَبْدٍ أحْيَاهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً أزَالَ عُذْرَهُ» وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي: الرسول فَذُوقُوا العذاب في النار فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يعني: ما للمشركين من مانع من عذاب الله عز وجل.
ثم قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
يعني: غيب ما يكون في السموات والأرض. يعني: أنهم لو رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عنه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
يعني:
عليم بما في قلوبهم. ويقال: عالم بما في قلوب العباد من الخير والشر.
ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ يعني: قل لهم يا محمد الله تعالى جعلكم سكان الأرض من بعد الأمم الخالية فَمَنْ كَفَرَ بتوحيد الله فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
ثم قال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: تعبدون من دون الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ يعني: أخبروني أي شيء خلقوا مما في السموات أو مما في الأرض من الخلق. وقال القتبي: من بمعنى في يعني: أروني ماذا خلقوا في الأرض.
يعني: أي شيء خلقوا في الأرض كما خلق الله عز وجل: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ يعني:
عون على خلق السموات والأرض. ويقال: نصيب في السموات. واللفظ لفظ الاستفهام والشك، والمراد به النفي. يعني: ليس لهم شرك فى السموات.
ثم قال: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يعني: أعطيناهم كتاباً. اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به النفي. يعني: كما ليس لهم كتاب فيه حجة على كفرهم فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ يعني: ليسوا على بيان مما يقولون. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وعاصم، في رواية حفص عَلى بَيِّنَةٍ بغير ألف. وقرأ الباقون: بينات بلفظ الجماعة، ومعناهما واحد، لأن الواحد ينبئ عن الجماعة.
ثم قال: بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً يعني: ما يعد الظالمون بعضهم بعضا.
يعني: الشياطين للكافرين من الشفاعة لمعبودهم إِلَّا غُرُوراً يعني: باطلا.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
ويقال: غَفُوراً حيث لم يعجل عليهم بالعقوبة، وأمسك السموات والارض أن تزولا.
وقوله عز وجل: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني: كفار مكة كانوا يعيرون اليهود والنصارى بتكذيبهم أنبياءهم، وقالوا: لو أرسل الله عز وجل إلينا رسولاً، لكنا أهدى من إحدى الأمم، وكانوا يحلفون على ذلك فذلك قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فكل من حلف بالله، فهو جهد اليمين لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني: رسول لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ يعني: أصوب ديناً من اليهود والنصارى فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمد صلّى الله عليه وسلم مَّا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً يعني: ما زادهم الرسول إلا تباعداً عن الهدى.
قوله عز وجل: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ يعني: تكبراً في الأرض، اسْتِكْباراً مفعول المعنى زادهم الرسول تكبرا هذا كقوله وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢] وكأن القرآن سببا لخسرانهم فأضاف إليهم.
ثم قال: وَمَكْرَ السَّيِّئِ يقول: قول الشرك واجتماعهم على قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قرأ حمزة وَمَكْرَ السَّيِّئِ بجزم الياء. وقرأ الباقون بالكسر لتبين الحروف، وجزم حمزة لكثرة الحركات.
ثم قال: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ يعني: لا يدور وينزل المكر السيئ إلا بأهله. يعني عقوبة المكر ترجع إليهم فَهَلْ يَنْظُرُونَ يعني: ما ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعني: عقوبة الأمم الخالية أن ينزل بهم مثل ما نزل بالأولين فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا يعني:
لصنعة الله تعالى. ويقال: لملة الله. ويقال: لسنة الله في العذاب تَبْدِيلًا يعني: لا يقدر أحد أن يبدله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا يعني: تغييراً. يعني: لا يقدر أحد أن يغير فعل الله تعالى.
ثم وعظهم ليعتبروا فقال عز وجل: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: أو لم يسافروا في
قوله عز وجل: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا يعني: لو عاقبهم مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها يعني: على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ يعني: لهلكت الدواب من قحط المطر. قال قتادة: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها من دابة إلا أهلكهم كما أهلك من كان في زمان نوح- عليه السلام- ويقال: مِنْ دَابَّةٍ يعني: من الجن والإنس فيعاقبهم بذنوبهم، فيهلكهم. وقال مجاهد: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ يعني من هوام الأرض من العقارب، ومن الخنافس.
وروي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: كاد الجعل أن يعذب في حجره بذنب بني آدم. ثم قرأ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ الآية. والعرب تكني عن الشيء إذا كان مفهوماً كما كنى ها هنا عن الأرض كقوله: مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها وَإِن لم يسبق ذكر الأرض.
ثم قال: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني: إلى الميعاد الذي وعدهم الله تعالى.
ويقال: إلى الوقت الذي وقت لهم في اللوح المحفوظ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ يعني: إلى انقضاء حياتهم. ويقال: هو البعث.
قال تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً يعني: عالماً بهم وبأعمالهم. روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: لما طعن عمر- رضي الله عنه-، قال كعب: لو دعا الله عمر لأخر في أجله. فقال الناس: سبحان الله أليس قد قال الله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: ٣٤] فقال كعب: وقد قال: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [فاطر: ١١] قال الزهري: فنرى أن ذلك ما لم يحضر الأجل فإذا حضر لم يؤخر، وليس أحد إلا وعمره مكتوب في اللوح المحفوظ، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.