تفسير سورة ص

التفسير المنير
تفسير سورة سورة ص من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

مناقشة المشركين في عقائدهم
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
الإعراب:
ص قرئ «صاد» بسكون الدال وفتحها وكسرها بلا تنوين وبتنوين. فمن قرأ بالسكون فعلى الأصل، لأن الأصل في حروف الهجاء البناء، والأصل في البناء أن يكون على السكون. ومن قرأ بالفتح جعله اسما للسورة، كأنه قال: اقرأ صاد. ومن قرأ بالكسر بغير تنوين فهو إما أمر من المصاداة وهي المقابلة، أي قابل القرآن بعملك، وإما بإعمال حرف القسم مع حذفه، مثل: الله لأفعلن، وفيه ضعف. ومن قرأ بالكسر مع التنوين شبهه بالأصوات التي تنون للفرق بين التعريف والتنكير، مثل صه وصه.
وَالْقُرْآنِ مجرور على القسم وجوابه إما إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ وإما بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا وإما إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ وإما كَمْ أَهْلَكْنا وتقديره: لكم أهلكنا، فحذفت اللام، كما حذفت في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس ٩١/ ٩] أي لقد أفلح.
163
وَلاتَ حِينَ مَناصٍ لاتَ: حرف بمعنى ليس، وله اسم وخبر، أي ولات الحين حين مناص. والجملة حال من فاعل نادوا. ومن قرأ وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بالرفع، أضمر الخبر، وهو شاذ لا يقاس عليه. وتاء لات لتأنيث الكلمة، وهي عند البصريين بمنزلة تاء الفعل، مثل:
ضربت وذهبت، والوقف عليها بالتاء، وعليه خط المصحف، وهي عند الكوفيين بمنزلة تاء الاسم، نحو: ضاربة وذاهبة، والوقف عليها بالهاء، والأقيس مذهب البصريين، لأن الحرف إلى الفعل أقرب منه إلى الاسم.
أَنِ امْشُوا أن مفسرة، تقديره: أي امشوا، وهو من المشاية: كثيرة النتاج، دعا لهم بكثرة الماشية.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ جُنْدٌ مبتدأ، وما زائدة، وهُنالِكَ صفة جند، تقديره: جند كائن هنالك، ومَهْزُومٌ خبر المبتدأ. وقيل:
هنالك متعلق بمهزوم، والأول أوجه.
البلاغة:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي أهل قرن، فهو مجاز مرسل، والقرن: مائة عام.
وَقالَ الْكافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير، والأصل: وقالوا، لرصد كفرهم.
كَذَّابٌ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَوَّابٌ من صيغ المبالغة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ تأكيد الجملة الخبرية بإنّ واللام لزيادة التعجب والإنكار منهم.
جُنْدٌ ما هُنالِكَ التنوين في جُنْدٌ للتقليل والتحقير، وزيادة ما لتأكيد القلة.
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ: توافق الفواصل الذي يزيد الكلام روعة وبهاء وجمالا.
المفردات اللغوية:
ص معناه: أن القرآن مركب من هذه الحروف العربية، وأنتم أيها العرب قادرون على تكوين الجمل والكلام منها، ولستم قادرين على معارضة القرآن والإتيان بمثله، فهو للدلالة على
164
التحدي والتنبيه على الإعجاز. وقيل: إن هذه الفواتح وأمثالها لها معان أخرى «١».
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ يقسم الله تعالى بالقرآن، والإقسام بالقرآن: فيه تنبيه على شرف قدره وعلوّ محله. ومعنى ذِي الذِّكْرِ: البيان، أو الشرف والشهرة، كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤]. وجواب القسم في رأي جماعة محذوف تقديره: إنه لكلام معجز، أو ما الأمر كما قال كفار مكة من تعدد الآلهة.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي لا ريب فيه قطعا، بل المشركون من أهل مكة وأمثالهم في تكبر وتجبر عن الإيمان، واعتزاز بالباطل، والعزة أيضا: الغلبة والقهر وشِقاقٍ أي خلاف وعداوة لله ولرسوله كَمْ كثير أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الماضية الذين كانوا أشد قوة وأكثر أموالا فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي نادوا حين نزول العذاب بهم أي استغاثوا، وليس ذلك الوقت وقت خلاص وفرار ومنجى. وهذا وعيد على كفرهم بالقرآن استكبارا وشقاقا.
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ تعجبوا من مجيء رسول من أنفسهم ينذرهم ويخوفهم بالعذاب بالنار إن استمروا على الكفر، وهو النبي ص وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ قالوا ذلك لما شاهدوا المعجزات الخارجة عن قدرة البشر أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً أصيّرها إلها واحدا؟ حين قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، أي كيف يكون للخلق كلهم إله واحد؟
عُجابٌ عجيب، بالغ في العجب إلى الغاية، وإنما تعجبوا، لأنه كان لكل قبيلة إله.
الْمَلَأُ الأشراف، انطلقوا من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب بعد سماعهم قول النبي ص كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب والعجم، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله أَنِ امْشُوا يقول بعضهم لبعض: امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ اثبتوا على عبادتها إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي إن هذا الذي يريده محمد ص بنا وبآلهتنا، من دعوته إلى التوحيد لشيء من ريب الزمان يراد بنا، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا.
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ هي ملة النصرانية اخْتِلاقٌ كذب اختلقه محمد ص وافتراه أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ أأنزل عليه القرآن، ونحن الرؤساء والأشراف، أكبر منه سنا، وأعظم منه شرفا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من القرآن أو الوحي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل لم يذوقوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكهم. والمعنى: إنهم لا يصدّقون به حتى يمسهم العذاب، فيلجئهم إلى تصديقه.
(١) انظر تفسير الرازي: ٢٦/ ١٧٤
165
خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ مفاتيح نعم ربك الْعَزِيزِ الغالب الْوَهَّابِ من النبوة وغيرها، حتى يعطوها لمن شاؤوا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي فليصعدوا في المعارج والوسائل التي توصلهم إلى السماء والاستيلاء على العرش، حتى يحكموا بما يريدون جُنْدٌ ما جند حقير من الكفار هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول، وتكذيب النبي مَهْزُومٌ، مِنَ الْأَحْزابِ صفتان ل جُنْدٌ فهم مغلوبون، متحزبون على الأنبياء قبلك، فقهروا وهلكوا، فكذلك نهلك هؤلاء.
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ..:
أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي ص، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم ص وَالْقُرْآنِ.. إلى قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ.
التفسير والبيان:
ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ص أحد حروف الهجاء العربية، افتتح بها هذه السورة كغيرها من السور للتحدي والتنبيه على إعجاز القرآن، وتنبيه المخاطب للإصغاء إلى الكلام الآتي بعده. وأقسم بالقرآن ذي البيان الشامل لكل ما يحتاج إليه العباد في المعاش والمعاد من الدين الجامع للعقائد الثابتة الصحيحة، والشرائع الناظمة للحياة الإنسانية، والوعد والوعيد، وهو أيضا ذو الشرف والشهرة والرفعة، أقسم به إنه لكلام معجز منزل من الله، وإن محمدا لصادق فيما يدعيه من النبوة، والرسالة من رب العالمين إلى البشرية جمعاء، وهو أيضا تذكير كقوله تعالى:
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء ٢١/ ١٠] أي تذكيركم.
166
وسبب كفر المشركين هو:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ أي إن هذا القرآن ذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون، لأنهم في استكبار عنه، وترفع عن اتباع الحق، ومخالفة لله ولرسوله ص ومعاندة ومكابرة وحرص على المخالفة.
ثم خوّفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم، فقال:
كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ، فَنادَوْا، وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي قد أهلكنا قبلهم كثيرا من الأمم الخالية بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من السماء، فاستغاثوا وجأروا إلى الله تعالى حين جاءهم العذاب، فلم يجدهم شيئا، لأن الوقت ليس وقت خلاص وفرار من العذاب، كما قال تعالى:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٢- ١٣] ويَرْكُضُونَ يهربون.
وقال سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٦٤].
وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ، وَقالَ الْكافِرُونَ: هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ أي تعجب المشركون من بعثة محمد ص بشيرا ونذيرا، وبشرا رسولا من أنفسهم، وقال الكافرون لما رأوا معجزاته الباهرة: هذا ساحر خدّاع كذاب فيما يدعيه من النبوة، وينسبه إلى الله من الوحي.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، قالَ الْكافِرُونَ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ [يونس ١٠/ ٢].
وفي الآية دلالة على أن المشركين ذوي العزة والشقاق كذبوا الرسول ص من غير حجة وبرهان، وحسدا من عند أنفسهم، وطمعا في أن يكون الرسول ص
167
أحد الزعماء والرؤساء، ولم يجدوا تهمة أرخص من اتهامه بالسحر والكذب، وذلك دليل الإفلاس.
ثم أورد الله تعالى لهم شبهات ثلاثا في وصف النبي بالكذب: الأولى تتعلق بالألوهية أو التوحيد، والثانية بالنبوة، والثالثة بالمعاد، وهنا ذكر شبهتين، والثالثة ستأتي في آية وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ.
١- توحيد الإله: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أصيّر الآلهة إلها واحدا، وقصر الألوهية على الله سبحانه، إن هذا لشيء بالغ النهاية في العجب. وإنما تعجبوا لأنه كان لكل قبيلة إله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا زلفى إلى الله، والله يملكهم، فأي ضير في هذا؟ وادعوا العجب ممن رفض الآلهة المتعددة، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون «محمد ص» وحده محقّا صادقا. وهذا مجرد تقليد أعمى وإرث منقول دون دليل عقلي ولا نقلي.
وسبب نزول هذه الآيات الكريمات كما تقدم:
ما رواه الترمذي وغيره بلفظ آخر عن ابن عباس، قال: «مرض أبو طالب، فجاءت قريش إليه، وجاء النبي ص، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه، قال:
وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ فقال: يا عم، إنما أريد منهم كلمة تذلّ لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، فقال:
وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، قال: فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟
فنزل فيهم القرآن ص، وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ حتى بلغ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ «١»
.
ورواه بلفظ آخر ابن أبي حاتم وابن جرير عن السدّي.
(١) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
168
وفي رواية: لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه شقّ على قريش إسلامه، فاجتمعوا إلى أبي طالب وقالوا: اقض بيننا وبين ابن أخيك. فأرسل أبو طالب إلى النبي ص فقال: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك السواء «١»، فلا تمل كل الميل على قومك. قال: «وماذا يسألونني؟» قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال النبي ص: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل: لله أبوك! لنعطينكها وعشر أمثالها. فقال النبي ص: «قولوا: لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقاموا، فقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ فكيف يسع الخلق كلّهم إله واحد؟
فأنزل الله فيهم هذه الآيات، إلى قوله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ.
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب قائلين: امضوا على ما كنتم فيه، واثبتوا على عبادة آلهتكم، واصبروا على ذلك، إن هذا التحول عن الآلهة لأمر عظيم يريده محمد ص، ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد.
٢- عدم وجود التوحيد في النصرانية: ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ، إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ ما سمعنا بهذه الدعوة إلى توحيد الإله في الملة الآخرة وهي النصرانية، وما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له، وليس له مستند من وحي ودين سماوي، ولا من عقل صحيح فيما يزعمون، فوجب أن يكون باطلا.
٣- تخصيص النبوة في محمد: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ استفهام إنكار، أي كيف ينزل القرآن على محمد دوننا، ونحن الرؤساء والأشراف؟ فهذا أمر مستبعد، كما حكي عنهم في آية أخرى: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٤٣/ ٣١] فرد الله عليهم قائلا:
(١) أي العدل.
169
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف ٤٣/ ٣٢].
وسبب استبعادهم هذا، الناشئ عن جهلهم وقلة عقلهم: الشك في أمر القرآن وحسد النبوة:
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي بل الحقيقة أنهم في شك من القرآن أو الوحي، بل إنما شكوا وتركوا النظر والاستدلال، لأنهم لم يذوقوا عذابي، فإذا ذاقوه صدقوا بالقرآن، وزال عنهم الشك والحسد.
ولَمَّا بمعنى «لم» وما: زائدة، مثل: عَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون ٢٣/ ٤٠] وفَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [النساء ٤/ ١٥٥ أو المائدة ٥/ ١٣].
ثم رد الله تعالى عليهم استبعادهم نبوة محمد ص وجعلها في صناديدهم قائلا:
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أي بل أهم يملكون مفاتيح نعم ربك القوي الغالب، المانح الواهب الكثير المواهب، حتى يعطوا نعمة النبوة لمن يشاءون؟ كما في آية أخرى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء ١٧/ ١٠٠].
ثم أنكر الله تعالى ما هو أشد، فقال:
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ أي بل أهم يملكون السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات والعوالم، فإن فرض أنهم يملكون، فليصعدوا في المعارج التي توصلهم إلى السماء، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العالم بما يشتهون.
ثم أجمل الله تعالى وصفهم بالقلة والحقارة فقال:
جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند مغلوبون
170
هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد ص، والذي يتحزبون فيه على المؤمنين. وهذه الآية كقوله تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر ٥٤/ ٤٤- ٤٦]. وهذا وعد من الله بنصر نبيه ص وأن الغلبة ستكون له.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله عز وجل بالقرآن العظيم ذي الشرف والشهرة والمجد على صدق نبوة محمد ص وأنه رسول من الله إلى الناس كافة.
٢- إن سبب إعراض كفار قريش عن الإيمان برسالة النبي ص هو التكبر والتجبر والاستعلاء عن اتباع الحق، ومخالفة الله تعالى ورسوله ص ومعاداتهما وإظهار مباينتهما.
٣- أنذرهم الله وحذرهم من الإهلاك كما أهلك الأمم الماضية الذين كانوا أمنع منهم وأشد قوة وأكثر أموالا وأولادا، فاستغاثوا وتابوا، ولكن في وقت لا ينفع فيه التوبة، ولا ينفع العمل.
٤- لقد تعجب كفار قريش بسبب جهلهم أن جاءهم رسول بشر من أنفسهم، يبشرهم وينذرهم، فلم يجدوا حجة للإعراض عنه إلا أن قالوا: ساحر كذاب، أي يجيء بالكلام المموّه الذي يخدع به الناس، ويكذب في دعوى النبوة.
٥- وبالغوا في التعجب من دعوته إلى التوحيد وتصييره الآلهة إلها واحدا.
٦- لم يجد هؤلاء الكفار سبيلا إلا أن أعلنوا إصرارهم على وثنيتهم، وقال
171
الرؤساء للأتباع: امضوا على ما كنتم فيه، ولا تدخلوا في دين محمد ص، واثبتوا على عبادة آلهتكم المخصصة لكل قبيلة، فإنما يريد محمد بما يقول الانقياد له ليعلو علينا، ونكون له أتباعا، فيتحكم فينا بما يريد، فاحذروا أن تطيعوه.
٧- أيدوا وثنيتهم بآخر الملل وهي النصرانية، فإن النصارى يجعلون مع الله إلها، وإن الدعوى إلى توحيد الإله ما هو في زعمهم إلا كذب وافتراء وتخرّص وابتداع على غير مثال.
٨- إن شعورهم بالعزة والاستكبار دفعهم أيضا إلى إنكار اختصاص محمد ص بإنزال القرآن عليه ونزول الوحي على قلبه، دونهم، وهم في رأيهم أحق بذلك، لأنهم السادة والرؤساء والأشراف.
٩- إن حقيقة أمرهم أنهم شكوا فيما أنزل الله تعالى على رسوله ص، هل هو من عنده أم لا؟ وكذلك اغتروا بطول الإمهال، ولو ذاقوا عذاب الله على الشرك لزال عنهم الشك، ولكن لا ينفع الإيمان حينئذ.
١٠- عجيب أمر هؤلاء المشركين، هل يملكون مفاتيح نعم الله، فيمنعون محمدا ص مما أنعم الله عز وجل به عليه من النبوة؟ فالله المالك للنعم يرسل من يشاء، لأن خزائن السموات والأرض له.
وهل يملكون عالم السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات، فإن ادّعوا ذلك، فليصعدوا إلى السموات، وليمنعوا الملائكة من إنزال الوحي على محمد ص.
١١- ما هؤلاء الكفار إلا مجرد جند من الأحزاب مهزومون، متحزبون في موضع تحزّبهم لقتال محمد ص، وذلك الموضع مكة، وهم في النهاية أذلّة لا حجة لهم، ولا قدرة لأن يصلوا إلى الاستيلاء على سلطان الله وملكه، فيتصرفوا في الناس كيف يريدون.
172
وهذا تأنيس للنبي ص، ووعد له بالنصر والغلبة، ولهم بالهزيمة، وقد تحقق هذا يوم بدر. قال الرازي: والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة.
إنذار الكفار بحال الأمم المكذبة قبلهم
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٢ الى ١٦]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦)
الإعراب:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إنما دخلت التاء في كَذَّبَتْ لتأنيث الجماعة، أي كان تأنيث قَوْمُ باعتبار المعنى.
البلاغة:
وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ استعارة مكنية، شبه الملك بخيمة كسيرة شدّت حبالها بالأوتاد لترسخ في الأرض، ولا تقتلعها الرياح، وذكر الأوتاد تخييل.
المفردات اللغوية:
ذُو الْأَوْتادِ الوتد: هو الذي يدق في الأرض أو الحائط لربط الأشياء به من حبال وغيرها، والمراد هنا ذو الملك الثابت، والبناء المحكم، والحكم الراسخ الْأَيْكَةِ الغيضة من الشجر الكثير الملتف، وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام إِنْ كُلٌّ أي ما كل أحد من الأحزاب كَذَّبَ الرُّسُلَ أي إلا وقع منه تكذيب الرسل، وجمع الرسل، لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم، لأن دعوتهم واحدة، وهي دعوة التوحيد فَحَقَّ عِقابِ وجب عقابي عليهم بتكذيبهم، وإن تأخر.
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي ينتظر كفار مكة صَيْحَةً هي نفخة القيامة، تحل بهم العذاب
173
فَواقٍ بضم الفاء وفتحها: أي توقف مقدار من الزمن وهو ما بين حلبتي الناقة أو الرضعتين، حتى يجتمع الحليب في الضرع، أو الفواق: الرجوع والترداد، فإن في الفواق يرجع اللبن بعد سويعة إلى الضرع، أي إذا جاءت الصيحة لا تتوقف مقدار فواق ناقة، وفي
الحديث الذي رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «العيادة فواق ناقة»
وَقالُوا كفار مكة استهزاء قِطَّنا قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو كتاب أعمالنا، استعجلوا ذلك استهزاء.
المناسبة:
بعد بيان أن المشركين توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال، لأنه لم ينزل بهم العذاب، بيّن الله تعالى في هذه الآيات أن أقوام سائر الأنبياء كانوا هكذا، حتى نزل بهم العقاب. والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول ص في إخباره عن نزول العقاب بهم.
التفسير والبيان:
ذكر الله ستة أصناف من الكفار الذين كذبوا الرسل في الأمم الغابرة وهم:
١- ٣: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ أي كذبت الرسل قبل قريش قوم نوح، وقبيلة عاد، وفرعون ذو الحكم الراسخ وقومه.
أما قوم نوح عليه السلام فكذبوه وآذوه وهزئوا به، وقالوا عنه: إنه مجنون، فأهلكهم الله بالغرق والطوفان، ونجّى الله نوحا ومن آمن به، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ، فَكَذَّبُوا عَبْدَنا، وَقالُوا: مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً، فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ [القمر ٥٤/ ٩- ١٤].
وأما عاد قوم هود عليه السلام فكذبوه أيضا، فأهلكهم الله بالريح، كما قال تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ
174
أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ
[الحاقة ٦٩/ ٦- ٧].
وأما فرعون الطاغية الجبار ذو الحكم الثابت الراسخ القوي، فأرسل الله تعالى إليه موسى عليه السلام بآيات أو معجزات تسع ومعه أخوه هارون، فكذب وعصى، فأهلكه الله بالغرق، ونجى موسى وقومه المؤمنين، كما قال تعالى:
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى، إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً، اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُلْ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى، فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى، فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات ٧٩/ ١٥- ٢٦]. وقال سبحانه: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، فَأَنْجَيْناكُمْ، وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة ٢/ ٥٠].
٤- ٦: وَثَمُودُ، وَقَوْمُ لُوطٍ، وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ، أُولئِكَ الْأَحْزابُ أي كذبت قبيلة ثمود قوم صالح، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، أي الغيضة، أولئك الأحزاب، أي هم الموصوفون بالقوة والكثرة، كمن تحزّب عليك أيها النبي.
أما ثمود قوم صالح عليه السلام فكذبوه، وعقروا الناقة المعجزة، فأهلكهم الله بالصيحة، أو بالطاغية، فصاروا كهشيم المحتظر، كما قال تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة ٦٩/ ٥] وقال سبحانه: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ، فَقالُوا: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ، إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى أن قال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر ٥٤/ ٢٣- ٣١].
وأما قوم لوط عليه السلام فكذبوه أيضا فأهلكوا بالخسف أو الزلزلة، كما قال تعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر ٥٤/ ٣٣- ٣٤].
175
وأما أصحاب الأيكة (أي الشجر الكثير الملتف بعضه على بعض) فهم قوم شعيب عليه السلام، كذبوه، فأهلكوا بعذاب يوم الظلّة، كما قال تعالى:
وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر ١٥/ ٧٨- ٧٩]. وقال سبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ، إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الشعراء ٢٦/ ١٨٩].
وسبب إهلاكهم تكذيبهم الرسل، كما قال تعالى:
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، فَحَقَّ عِقابِ أي ما كل أحد من هؤلاء الأقوام الغابرة إلا كذب الرسل، فوجب عقاب الله لهم، جزاء وفاقا. وهذا يعني أن علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر، وهذا مفاد الآية التالية:
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ أي ما ينتظر كفار قريش إلا عقابا بنفخة الساعة التي هي النفخة الثانية وهي نفخة الفزع التي يأمر الله إسرافيل أن يطولها، فلا يبقى أحد من أهل السموات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عز وجل. وما لها من فواق: أي ما لها من انتظار وراحة وإفاقة.
وتحدث تلك النفخة بلا توقف مقدار فواق الناقة: وهو الزمن الذي بين الحلبتين.
والمعنى: ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، وإذا حل هذا الموعد فلا تأخر عنه أبدا، كما قال تعالى:
ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس ٣٦/ ٤٩- ٥٠] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت.
ثم ذكر تعالى الشبهة الثالثة للكفار في تكذيب النبي ص وهي المتعلقة بالمعاد «١»، فقال:
(١) والشبهتان الأولى والثانية في الآيات المتقدمة: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ.. (٥- ٨).
176
وَقالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ أي وقال المشركون تهكما واستهزاء حين سمعوا بالمعاد والحساب والعقاب: ربنا عجّل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به، ولا تؤخره إلى يوم القيامة. وهذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب، كما قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وقائل ذلك: النضر بن الحارث الذي قال الله فيه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج ٧٠/ ١] أو أبو جهل، ورضي الآخرون بقوله.
ثم أمر الله رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى سفاهتهم قائلا: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي اصبر على أذى قومك المشركين، فإنهم في النهاية مقهورون أذلاء، ونبشرك على صبرك بالظفر والنصر والعاقبة الحميدة.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات عظة بليغة وعبرة مؤثرة يتأثر بها ذوو الإحساس الإنساني السليم الذي يتخلى صاحبه عن الكبر والاستعلاء. وما أعظمها عبرة وشاهدا محسوسا لكفار مكة.
إن أمامهم آثار الدمار والخراب والهلاك، أو إنهم يسمعون ما حدث للأمم التي كذّبت رسلها، وما جرى على المثيل يجري على مثيله. فإن الله القوي القاهر أغرق قوم نوح بالطوفان، وأهلك فرعون وجنوده بالإغراق في البحر، وقوم هود بالريح الصرصر العاتية، وقوم صالح بالصيحة أو بالطاغية (وهي الصيحة المجاوزة للحدّ في الشدة) وقوم لوط بالخسف أو الزلزلة، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة.
177
وما ينتظر كفار مكة إلا صيحة القيامة ليزجّ بهم في عذاب النار التي إذا جاءت لا تؤخر أبدا، أو لا تستأخر لحظة واحدة: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل ١٦/ ٦١].
ولكن اغتر الكفار بطول المهلة، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا، إكراما للنبيّ ص: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال ٨/ ٣٣] وجعل عذابهم في الآخرة، قالوا سخرية واستهزاء: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب قبل يوم القيامة والحساب إن كان الأمر كما يقول محمد ص.
وهذا غاية الجهل والسفاهة والحمق.
ثم أمر الله نبيه ص بالصبر على أذاهم وسفاهتهم لما استهزءوا به، فما بعد الصبر إلا الفرج، وسيكون النصر والظفر قريبا.
قصة داود عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ١٧ الى ٢٦]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١)
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦)
178
الإعراب:
إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا.. إِذْ الأولى تتعلق ب نَبَأُ وتَسَوَّرُوا بلفظ الجمع، لأن الخصم مصدر يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، فجمع حملا على المعنى.
وإِذْ الثانية: بدل من الأولى. وخَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، فحذف المبتدأ.
وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ عزّني بالتشديد على الأصل من عزّه: إذا غلبه، وقرئ بالتخفيف على أنه مخفف من المشدد، كما يقال في «ربّ: رب». والخطاب: مصدر خاطب أو مصدر خطب، نحو الأول: ضارب ضرابا، ونحو الثاني كتب كتابا.
بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ تقديره: بسؤاله إياك نعجتك، فحذف الهاء التي هي فاعل في المعنى، والمفعول الأول، وأضاف المصدر إلى المفعول الثاني الْخُلَطاءِ جمع خليط بوزن فعيل صفة فيجمع على فعلاء إلا إن كان فيه واو فيجمع على فعاة، نحو طويل وطوال.
وَقَلِيلٌ ما هُمْ بَعْضُهُمْ: مبتدأ، وقَلِيلٌ: خبره، وما زائدة، وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي تيقن، وقرئ فَتَنَّاهُ بالتخفيف، أراد به فتنة الملكين. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ذلِكَ منصوب ب غفرنا، ويصح جعله خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك.
البلاغة:
يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بينهما طباق، لأن المراد بهما المساء والصباح.
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ ورد بأسلوب التشويق.
وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. ورد بأسلوب الإطناب.
179
المفردات اللغوية:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنه مع علوّ شأنه، واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات، لما توهم أو ظن أنه أتى صغيرة استغفر ربه وأناب، فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان؟ ذَا الْأَيْدِ القوة والجلد في العبادة، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ويصوم نصف الليل، وينام ثلثه، ويقوم سدسه أَوَّابٌ رجاع إلى الله وإلى طاعته ومرضاته.
يُسَبِّحْنَ بتسبيحه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ بالمساء والصباح، وأصل العشي: وقت العشاء، والْإِشْراقِ وقت شروق الشمس ووضوح ضوئها مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كل جانب، تسبح معه كُلٌّ لَهُ من الجبال والطير لأجل تسبيحه أَوَّابٌ رجاع إلى التسبيح منقاد يسبح تبعا له وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه حتى ثبت، وآزرناه بالهيبة والنصر، وبالحرس والجنود الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإصابة الصواب في القول والعمل وَفَصْلَ الْخِطابِ البيان الشافي، والكلام الفاصل بين الحق والباطل.
وَهَلْ أَتاكَ أيها الرسول أي خبرهم وقصتهم، ويراد بالاستفهام هنا التعجب والتشويق إلى استماع ما بعده الْخَصْمِ جماعة الخصوم، ويطلق الخصم على المفرد والجمع، مذكرا ومؤنثا تَسَوَّرُوا أتوه من أعلى السور، ودخلوا إلى المنزل والمسجد الذي يصلي فيه، حيث منعوا الدخول عليه من الباب، لشغله بالعبادة فَفَزِعَ خاف خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، والمشهور أنهما ملكان، والأقرب أنهما بشران عاديان صاحبا نعاج أي مواشي، والخصومة حقيقية بَغى جار وظلم وَلا تُشْطِطْ لا تجر في الحكم ولا تبعد عن الحق وَاهْدِنا أرشدنا سَواءِ الصِّراطِ وسط الطريق الصواب.
إِنَّ هذا أَخِي أي على ديني نَعْجَةً أنثى الضأن أَكْفِلْنِيها اجعلني كافلها وملكنيها وَعَزَّنِي غلبني فِي الْخِطابِ في الجدال والمخاطبة والمحاجة بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ سؤاله نعجتك ليضمها إليه الْخُلَطاءِ الشركاء، والمعارف أو الأعوان الذين بينهم خلطة وامتزاج، جمع خليط وَقَلِيلٌ ما هُمْ ما زائدة لتأكيد القلة وَظَنَّ من الظن وهو رجحان تصور الشيء، أو بمعنى تيقن وعلم فَتَنَّاهُ ابتليناه أو امتحناه بتلك الحكومة، واختبرناه بهذه الحادثة فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ للظن السيء بالرجلين أنهما أتياه لقتله وهو منفرد في محرابه وَخَرَّ راكِعاً ساجدا وَأَنابَ تاب ورجع إلى الله وطاعته.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي عفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين». لَزُلْفى قرب من الله مَآبٍ مرجع في الآخرة.
180
إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور الناس وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى هوى النفس فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدلائل الدالة على الحق بِما نَسُوا بنسيانهم يَوْمَ الْحِسابِ المرتب لهم، لضلالهم عن السبيل الحق، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى.
المناسبة:
بعد إنذار قريش بحال الكفار الغابرين، وبعد أمر النبي ص بالصبر على أذى قريش وسفاهتهم، أمره الله تعالى بتذكر حال تسعة من الأنبياء، حال ثلاثة منهم تفصيلا، وحال ستة آخرين منهم إجمالا، ليتأسى بما لاقوا من أذى قومهم، محتسبين أجرهم عند الله تعالى.
وبدأ بذكر قصة داود عليه السلام، ليتذكر حال ذلك النبي الشاكر الصابر، ذي القوة في الدين والبدن معا.
ويجب أن تفهم هذه القصة- قصة المحاكمة- على النحو الظاهري المبين في القرآن الكريم، وأن تستبعد الإسرائيليات منها، لمناقضتها مبدأ عصمة الأنبياء، فقد روي في الإسرائيليات أن داود عليه السلام وقع بصره على امرأة تستحم، فأعجبته وعشقها، وكانت زوجة أحد قواده واسمه «أوريا الحثي» فأراد أن يتخلص منه ليتزوج بها، فأرسله في إحدى المعارك وحمّله الراية، وأمره بالتقدم فانتصر، فأرسله مرارا ليتخلص منه حتى قتل، فتزوجها.
قال البيضاوي: هذا هزء وافتراء، ولذلك
قال علي رضي الله عنه: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين».
وهو حد الفرية على الأنبياء، أي مضاعفا «١».
وأبطل الإمام الرازي هذه الحكاية المفتراة بوجوه ثلاثة ملخصها:
(١) تفسير البيضاوي: ٦٠٢
181
الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها.
الثاني- أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين: السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته، وكلاهما منكر.
الثالث- أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بصفات عشر، ثم وصفه أيضا بصفات كثيرة بعد هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح «١».
والرواية الصحيحة لهذه القصة: أن داود عليه السلام كان يقسم وقته الأسبوعي أثلاثا: ثلث لشؤون الملك، وثلث للقضاء بين الناس، وثلث آخر للخلوة والعبادة وترتيل الزبور في المحراب «٢»، فتجاوز خصمان هذا النظام، وتسورا عليه المحراب من فوق الجدار طلبا للمحاكمة في غير موعدها، ففزع منهما، وظن أنهما جاءا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه لعبادة ربه، والخصمان بشران لا ملكان، والنعاج: المواشي، لا النساء. إلا أنه بادر إلى الحكم والقضاء قبل سماع بينة الخصم الآخر، فعاتبه الله على ذلك، ونبهه إلى وجوب تثبت القاضي وسماع الخصم الآخر، قبل إصدار الحكم. وسأبين أن هذا أيضا محل نظر، فإنه لا يعقل أن يحكم داود عليه السلام قبل سماع قول الخصم الآخر، فهذا من مبادئ الحكم الأولية التي لا تترك.
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ١٨٩
(٢) وقال ابن عباس: جزّأ أزمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للقضاء، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما لجميع بني إسرائيل، فيعظهم ويبكيّهم، فجاءوه في غير القضاء، ففزع منهم، لأنهم نزلوا عليه من فوق، وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله، لا يتركون من يدخل عليه، فخاف أن يؤذوه. (البحر المحيط: ٧/ ٣٩١).
182
التفسير والبيان:
تضمنت قصة داود عليه السلام في هذه السورة ثلاثة موضوعات:
الأول- تعداد الصفات التي أنعم الله بها على داود والتي أهّلته لسعادة الدنيا والآخرة.
الثاني- إصدار الحكم في واقعة بين خصمين.
الثالث- استخلاف الله تعالى إياه بعد تلك الواقعة.
الموضوع الأول- صفات داود عليه السلام
ذكر الله تعالى عشر صفات لداود عليه السلام آتاه الله إياها، وهي تحقق كمال السعادة الدنيوية والأخروية.
١- ٤: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ، ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ هذا معطوف على مطلع الآية المذكور في نهاية المقطع السابق وهو وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ والمعنى: اذكر أيها الرسول لقومك قصة عبدنا داود ذي القوة في العلم والعمل وطاعة الله، قال قتادة: أعطي داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام قوة في العبادة، وفقها في الإسلام، وكان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف النهار،
ثبت في الصحيحين أن النبي ص قال: «أحبّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، وكان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى، وإنه كان أوّابا».
أي رجّاعا إلى الله عز وجل في جميع أموره وشؤونه.
وفي تاريخ البخاري عن أبي داود قال: «كان النبي ص إذا ذكر داود وحدث عنه قال:
كان أعبد البشر»
.
والصفات الأربع المذكورة هنا هي:
183
١- الصبر: فقد أمر الله تعالى محمدا ص على جلالة قدره بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله.
٢- والعبودية: فقد وصفه ربه بقوله عَبْدَنا داوُدَ وعبر عن نفسه بصيغة الجمع للتعظيم، والوصف بالعبودية لله غاية التشريف، كوصف محمد ص بها ليلة المعراج: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء ١٧/ ١]. فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسب الاجتهاد في الطاعة.
٣- والقوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، في قوله تعالى: ذَا الْأَيْدِ.
٤- والرجاع إلى طاعة الله في أموره كلها، في قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ.
٥- ٦: تسبيح الجبال والطير معه: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ ٣٤/ ١٠] قال ابن كثير: وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرّ به الطير، وهو سابح في الهواء، فسمعه، وهو يترنم بقراءة الزبور، لا يستطيع الذهاب، بل يقف في الهواء، ويسبح معه، وتجيبه الجبال الشامخات، ترجّع معه، وتسبّح تبعا له»
. وهذا ما قاله تعالى:
٧- وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً، كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، وكل من الجبال والطير مطيع، يسبح تبعا له، فكلما سبح داود جاوبته. وهذا يومئ أن داود عليه السلام كان حسن الترتيل، جميل الصوت.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٢٩
184
٨- قوة الملك: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوينا ملكه بالجند أو الحرس، وجعلنا له ملكا كاملا من جميع ما يحتاج إليه الملوك.
٩- إيتاء الحكمة: وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ أعطيناه الفهم والعقل والفطنة، والعلم، والعدل، وإتقان العمل، والحكم بالصواب. ولما كمّل الله تعالى نفس نبيه داود بالحكمة، أردفه ببيان كمال خلقه في النطق والعبادة، فقال: وَفَصْلَ الْخِطابِ.
١٠- حسن الفصل في الخصومات: وَفَصْلَ الْخِطابِ أي وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإيجاز البيان، بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
الموضوع الثاني- القضاء في خصومة
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قالُوا: لا تَخَفْ، خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ، فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَلا تُشْطِطْ، وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ هذا نبأ عجيب يشوق السامع سماعه ومعرفته، لذا ذكره الله لرسوله، ومعناه: هل علمت ذلك الخبر المهم العجيب؟
وبدأه بهذا الاستفهام، ليكون مدعاة إلى الإصغاء له والاعتبار به.
إنه نبأ جماعة من الخصوم تسلقوا سور غرفة داود المخصصة للصلاة، فدخلوا عليه وهو منهمك بالصلاة وعبادة الله وترانيم الزبور، في غير موعد المحاكمة المخصص للناس، فخاف منهم ظنا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، وهو منفرد في محرابه للعبادة، في أشرف مكان في داره- وقد كان اغتيال الأنبياء معروفا في بني إسرائيل، فقد قتلوا إشعيا وزكريا، كما قال تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران ٣/ ٢١] فقالوا له: لا تخف، نحن متخاصمان جار بعضنا على
185
بعض، فاحكم بيننا حكما عادلا، ولا تجر في الحكم، واهدنا إلى الطريق الحق العدل.
وموضوع الخصومة هو:
إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً، وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ: أَكْفِلْنِيها، وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي إن هذا أخ لي في الدين والإنسانية، يملك تسعا وتسعين شاة، وأملك شاة واحدة، فقال: ملكنيها وغلبني في المخاصمة والجدال والحجة، فأتى بحجج لم أستطع ردها. والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يقال لبقر الوحش: نعجة.
فحكم داود عليه السلام بقوله:
قالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ أي قال داود الحاكم بعد إقرار المدعى عليه بالدعوى: لقد ظلمك بهذا الطلب، وطمع عليك.
ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت، فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم.
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وإن كثيرا من الشركاء في المال أو المعارف والأعوان المتعاملين ليظلم بعضهم بعضا، إلا من آمن بالله وخاف ربه وعمل صالح الأعمال، فإنه لا يظلم، وهؤلاء الصالحون قلة، كما قال تعالى: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف ٧/ ١٠٢].
وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ أي وعلم داود وأيقن أنما اختبرناه بهذه الواقعة، وهي تعرضه للاغتيال ثم نجاته منه، فاستغفر ربه لذنبه وهو سوء ظنه بالخصمين، وأنهما أتيا لاغتياله، وهو الأصح، أو أنه حكم
186
بين الخصمين في النعاج قبل أن يسمع بيّنه الخصم الآخر، وكان الحق له، وخر ساجدا- وعبر بالركوع عن السجود- ورجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي فغفرنا له سوء ظنه أو ما كان منه مما يقال فيه: إن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، وإن له عند ربه لقربا وحسن مرجع، وهو الجنة.
والظاهر أن الذنب: هو همّ داود الانتقام من هذين الشخصين اللذين كانا يقصدان اغتياله، فاصطنعا هذه الخصومة، لأنهما رأيا أن الحرس سيقتلونهما ولن يفلتا من العقاب، ثم رأى داود أن العفو والصفح أقرب لمقام النبوة، فاستغفر ربه مما كان قد عزم عليه من الانتقام.
الموضوع الثالث- الاستخلاف في الأرض
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ يخاطب الله تعالى داود عليه السلام بأنه استخلفه حاكما بين الناس في الأرض، فله السلطة والحكم، وعليهم السمع والطاعة. ثم بيّن الله تعالى له قواعد الحكم تعليما لغيره من الناس:
١- فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي فاقض بين الناس بالعدل الذي قامت به السموات والأرض. وهذه أولى وأهم قواعد الحكم.
٢- وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى أي لا تمل في الحكم مع أهواء نفسك أو بسبب مطامع الدنيا، فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار، لذا قال:
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي إن اتباع الهوى سبب في الوقوع في الضلال والانحراف عن جادة الحق، وما عاقبته إلا الخذلان، فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ أي إن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل، لهم عقاب شديد يوم القيامة
187
والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاه الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد.
روى ابن أبي حاتم أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أخبرني، أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال:
يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال: يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عليه السلام؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة، ثم توعده في كتابه، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. الآية «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وصف الله تعالى داود عليه السلام بعشر صفات: هي كما تقدم الصبر، والعبودية لله، والقوة في الدين، وكونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وتسبيح الجبال، والطير مع تسبيحه وترنيمه، وإتيان الطير طائعة له، وتشديد ملكه في الدين والدنيا، وإيتاؤه الحكمة (الفهم والعقل والفطنة والحكم بالصواب) وحسن الفصل في الخصومات.
٢- بمناسبة تسبيح الجبال معه بالعشي والإشراق، أي في المساء والصباح، ذكر القرطبي أن صلاة الضحى نافلة مستحبة،
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرّ
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٢
188
عن النبي ص أنه قال: «يصبح على كل سلامي «١» من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «من حافظ على شفعة الضحى، غفر له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر».
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر».
وأقل الضحى كما في هذه الأحاديث وغيرها ركعتان، وأكثره ثنتا عشرة ركعة.
٣- ذكر الله تعالى لداود بعد قصة المحاكمة عشر صفات منها سؤال المغفرة من ربه فغفر له، ومنها السجود شكرا لله والإنابة، ومنها: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومنها يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ. قال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى: الدنو من الله عز وجل يوم القيامة.
٤- ليس الحاكم ملزما كل يوم بالاستعداد لفصل القضاء في الخصومات بين الناس، وإنما له تخصيص أيام في الأسبوع لتلك المهمة الخطيرة.
٥- الفزع ظاهرة إنسانية في المفاجآت، وقد فزع النبي داود عليه السلام من الرجلين اللذين أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم، أو لدخولهم عليه بغير إذنه، أو لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. وقد شاع بين بني إسرائيل قتل الأنبياء وإيذاؤهم.
(١) أصل السلامى: عظام الأصابع والأكفّ والأرجل، ثم استعمل هنا في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما في حديث آخر ثلاث مائة وستون مفصلا. [.....]
189
٦- إن القصة التي يرويها بعض المفسرين بما يتعارض مع مبدأ «عصمة الأنبياء» لا أصل لها، ولا مستند عليها، وإنما هي من الإسرائيليات الدخيلة.
٧- لم يكن خطأ داود عليه السلام في أنه قضى لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، فهذا من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر، وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادّعى، والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى «١».
وقد قال النبي ص لعلي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر».
٨- أجمع العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وفي الصغائر اختلاف، الأصح كما قرر ابن العربي وغيره أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر.
٩- استدل العلماء على مشروعية الشركة بأدلة، منها: ما ورد على لسان داود عليه السلام: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي الشركاء في المال كما تقدم.
١٠- الصلحاء في كل زمان قليلون، لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ ما هُمْ يعني الصالحين. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قول الله عز وجل:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
١١- اختلف العلماء في سجدة داود، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أو لا؟ أي هل هي سجدة تلاوة؟
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٦٢٥
190
فقال المالكية والحنفية: ليست موضع سجود، لما
في البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «ص، ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي ص يسجد فيها».
وأنكر المالكية أيضا سجدة الشكر.
وقال الشافعية والحنابلة: إنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، استدلالا بفعل النبي ص، كما نص الحديث المتقدم،
وروى النسائي أن النبي ص قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا».
١٢- ليس في استغفار داود ما يشعر بارتكاب ذنب أو أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة.
١٣- الأصل في مشروعية الأقضية أو التقاضي قوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة ٥/ ٤٩] وقوله تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء ٤/ ١٠٥] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء ٤/ ١٣٥].
١٤- إن قاعدة الحكم الأساسية الحكم بالعدل والحق: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ومن قواعده: أن القاضي لا يحكم في الوقائع إلا بالدعوى ورفع الأمر إليه، فيجب الحكم بالحق، وألا يميل القاضي إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما.
١٥- هذه الآية: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.. تمنع الحاكم من القضاء بعلمه الشخصي في الحوادث، لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه (صديقه) ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. وبذلك يمنع من هذا القضاء للتهمة، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.
191
وروي أن امرأة جاءت إلى عمر، فقالت له: احكم لي على فلان بكذا، فإنك تعلم ما لي عنده، فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم، وأما الحكم فلا.
وأخرج أبو داود وغيره عن النبي ص أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم بعلمه، وقال: «من يشهد لي؟» فقام خزيمة فشهد فحكم.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله ص قضى بيمين وشاهد.
إثبات البعث والثواب والعقاب وبيان فضل القرآن
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)
الإعراب:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ خبر مبتدأ محذوف، أي هذا كتاب.
البلاغة:
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية: مقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار، وهذا من المحسنات البديعية.
المفردات اللغوية:
باطِلًا عبثا ولعبا ذلِكَ أي خلق السماء والأرض باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مظنون كفار مكة فَوَيْلٌ هلاك وعذاب شديد، أو هو واد في جهنم أَمْ بمعنى همزة الإنكار، أي إنكار التسوية بين الفريقين أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا.. نزل لما قال كفار مكة للمؤمنين: إنا
192
نعطى في الآخرة مثلما تعطون. والآية تدل على صحة القول بالحشر والمعاد، والفجار: الأشقياء مُبارَكٌ كثير الخير والبركات والمنافع الدنيوية والأخروية لِيَدَّبَّرُوا ليتدبروا أي ليتفكروا وينظروا في معاني الآيات، فيؤمنوا وَلِيَتَذَكَّرَ يتعظ أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول، جمع لب: وهو العقل.
المناسبة:
بعد تهديد الضالين عن سبيل الله بالعذاب الشديد يوم الحساب في القيامة، أخبر تعالى بأن هذا اليوم آت لا ريب فيه، لأنه خلق الخلق لهدف معين، ثم يحاسبهم في نهاية الأمر، ثم بيّن عدم المساواة في الحساب بين المؤمنين والكفار وبين المتقين والفجار، ثم أخبر عن فضل القرآن العظيم، وأنه كثير المنافع الدينية والدنيوية.
التفسير والبيان:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي ما أوجدنا السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثا لا حكمة فيه، أو لهوا ولعبا، بل خلقناهما للدلالة على قدرتنا العظيمة، وليعمل فيهما بطاعتنا وعبادتنا وتوحيدنا، كما قال تعالى:
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات ٥١/ ٥٦].
ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أي إن الذين كفروا يظنون أن هذه الأشياء خلقت عبثا لغير غرض، فلا قيامة ولا حساب، فيا هلاك هؤلاء الكافرين في النار يوم المعاد والنشور، جزاء ما قدموا من الشرك والمعصية، وكفران نعم الله، وإنكار البعث، وظنهم الباطل. ونظير القسم الأول من الآية قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥].
193
ونظير القسم الثاني قوله سبحانه: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ [إبراهيم ١٤/ ٢] وقوله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [مريم ١٩/ ٣٧].
ثم أبان الله تعالى منهج الحساب أو عدم التسوية بين المؤمنين والكافرين، فقال: أَمْ «١» نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ أي بل أنجعل الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، وأصلحوا أعمالهم، فأدّوا ما يجب للخالق والمخلوق، كالمفسدين في الأرض بالمعاصي، أم نجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله من المسلمين؟!! فليس ذلك إن فعلناه عدلا، ولا يتفق مع الحكمة، ومقتضى أي نظام.
أي ليس من عدل الله وحكمته التسوية بين المؤمنين والكافرين، فلا يستوي الفريقان عند الله، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بدّ من دار أخرى يثاب فيها المطيع، ويعاقب فيها الفاجر، إذ لولا البعث والحساب والجزاء لكان الفريقان سواء.
ويؤيد هذا المبدأ العقول السليمة والفطر المستقيمة أنه لا بد من معاد وجزاء، فلا يعقل أن يكون جزاء المحسن كجزاء المسي، ولا تتقبل النفس الإنسانية أن يترك الظالم دون عقاب، وألا ينصف المظلوم أو المحزون أو المعدم من الظالم الباغي المترف، وألا يعوض عن كمده وحرمانه في الدنيا.
ونظير الآية قوله تعالى: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟! [القلم ٦٨/ ٣٤- ٣٦].
(١) هذه أَمْ المنقطعة التي هي بمعنى «بل» للإضراب الانتقالي، ويراد بالهمزة الاستفهامية:
الإنكار.
194
وإذا ثبت قرآنا ودينا وعقلا وفطرة أن هنالك فرقا واضحا بين المؤمن وغيره، وأن للمؤمن حياة سعيدة دائمة في الجنان، وأن للكافر عذابا أليما في النيران، فما الطريق إلى السعادة؟ الطريق قوله تعالى:
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي إن طريق السعادة الأبدية هو اتباع القرآن الذي أنزله الله هدى ورحمة للمؤمنين، وهو كثير الخير والبركة، فيه الشفاء لمن تمسك به، والنجاة لمن تبعه، وقد أنزله تعالى للناس للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر، وليتعظ أهل العقول الراجحة به وببيانه. قال الحسن البصري: والله ما تدّبره بحفظ حروفه، وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- ليس خلق السموات والأرض عبثا وهزلا ولعبا، وإنما له غاية عظمي وهدف صحيح وهو الدلالة على قدرة الله. والذين يظنون أن الله خلقهما باطلا عبثا هم الكفار، فيا ويلهم من عذاب النار.
٢- تدل هذه الآية: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ.. على إثبات الحشر والنشر والمعاد (أو القيامة) لأنه إذا لم يكن خلقهما باطلا، كان القول بالحشر والنشر لازما، وكان كل من أنكر القول بالحشر والنشر شاكّا في حكمة الله في خلق السماء والأرض.
٣- إذا لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدنى من حال العاصي، لذا وبّخ تعالى الشاكين في الحشر والنشر، وأنكر عدم التسوية بين المؤمن والكافر، وبين الصالح والمفسد.
195
٤- الآية هذه: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ رد واضح على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.
٥- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذّ (سرعة القراءة)، إذ لا يصح التدبر مع الهذّ. وقال الحسن البصري: تدبر آيات الله اتباعها.
٦- القرآن الكريم ذكرى وعظة لأولي الألباب، أي أصحاب العقول الراجحة، فالعاقل هو المستفيد من آي القرآن، والقرآن هو الذي يذكره بضرورة التوبة والإنابة إلى الله إذا زاغ أو انحرف.
قصة سليمان عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٣٠ الى ٤٠]
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)
196
الإعراب:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ المقصود بالمدح محذوف، وهو سليمان أو داود، وهو إلى سليمان أقرب.
الصَّافِناتُ الْجِيادُ الأول نائب فاعل عُرِضَ والثاني صفته، والْجِيادُ: جمع جواد، أو جمع جائد.
حُبَّ الْخَيْرِ منصوب على أنه مفعول به، والمعنى: أنه آثر حب الخير، لا أنه أحبّ حبّا، أو منصوب على المصدر، بوضع حُبَّ الاسم موضع الاحباب الذي هو المصدر، والوجه الأول أوجه.
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي الشمس، وإنما أضمر لدلالة الحال، مثل كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن ٥٥/ ٢٦] أي الأرض، لدلالة الحال، وإن لم يجر لها ذكر.
البلاغة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ المسح هنا حقيقة أي مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وقيل: المسح كناية عن العقر والذبح.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بينهما طباق، لأنهما بمعنى أعط من شئت، وامنع من شئت.
المفردات اللغوية:
نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح وهو أواب أَوَّابٌ رجّاع إلى الله بالتسبيح والذكر في جميع الأوقات، أو بالتوبة بِالْعَشِيِّ ما بعد الزوال عُرِضَ عَلَيْهِ على سليمان الصَّافِناتُ القائمات، أو القائمة على ثلاث وطرف الحافر الرابع، أي يرفع إحدى يديه أو رجليه، ويقف على مقدم حافرها، مع القوائم الأخرى، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلا في العرب الخلّص، مأخوذ من صفن يصفن صفونا. الْجِيادُ جمع جواد، وهو الذي يسرع في عدوه أو جريه، والجواد من الناس: السريع البذل. والمعنى: أن الخيول إذا استوقفت سكنت، وإن ركضت سبقت، وكانت ألف فرس عرضت عليه، كالعرض العسكري اليوم.
أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي آثرت أو أردت حب الخير وهو هنا الخيل، وأصل الخير: المال الكثير، ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها،
قال ص فيما أخرجه أحمد عن جابر: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».
197
عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أي أحببت الخيل وحصل حبها عن ذكر ربي وأمره، لا عن الشهوة والهوى. وليس المراد كما يذكر القصاصون: أنه آثر رؤية الخيل عن صلاة العصر حتى غابت الشمس تَوارَتْ بِالْحِجابِ اختفت وغابت الشمس، واستترت بما يحجبها عن الأبصار. والحجاب:
بالحاجز أو بالليل.
رُدُّوها عَلَيَّ ردوا الخيل الصافنات علي استمتاعا بالنعمة، أي كفاها ركضا وعدوا فَطَفِقَ مَسْحاً شرع يمسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها، وليس المعنى: جعل يذبحها ويعقرها بالسيف لتفويت صلاة العصر عليه، فهذا لا يليق بالنبوة. بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسيقانها وأعناقها، فيربّت عليها ويدللها ويمسح نواصيها بيده، لا أنه ذبحها وعرقب أرجلها تقربا إلى الله تعالى، حيث اشتغل بها عن الصلاة، وتصدق بلحمها، فعوضه الله خيرا منها وأسرع، وهي الريح تجري بأمره كيف شاء، فهذا من الإسرائيليات الدخيلة.
فَتَنَّا سُلَيْمانَ ابتليناه واختبرناه بمرض، وقال البيضاوي: وأظهر ما قيل فيه: ما
روي مرفوعا أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن، فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده، لو قال: إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» «١».
ومن الإسرائيليات في تفسير الابتلاء: أن الله ابتلاه بسلب ملكه، وذلك لتزوجه بامرأة عشقها، وكانت تعبد الصنم في دار من غير علمه، وكان ملكه في خاتمه، فنزعه مرة عند إرادة الخلاء ووضعه عند امرأته المسماة بالأمينة، على عادته، فجاءها جنّي في صورة سليمان، فأخذه منها.
وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح، وقيل: الجسد: هو نصف الإنسان الذي ولدته امرأته، وقيل: هو ذلك الجني، وهو صخر أو غيره، جلس على كرسي سليمان، وعكفت عليه الطير وغيرها، فخرج سليمان في غير هيئته، فرآه على كرسيه، وقال للناس: أنا سليمان، فأنكروه. وهذان التفسيران المقولان غير صحيحين في الظاهر والثاني منهما من تتمة القصة الدخيلة من الإسرائيليات.
ثُمَّ أَنابَ رجع تائبا إلى الله من ترك الأفضل وهو عدم تعليق الأمر بمشيئة الله، وهذا عظيم على نبي، لأن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صدر عني من الذنب وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي امنحني ملكا لا يكون لأحد من بعدي أن يملك مثله.
(١) أخرجه البخاري، دون أن يذكر أنه تفسير للآية.
198
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ جعلناها منقادة لأمره رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها، فلا تزعزع ولا تعصف حَيْثُ أَصابَ قصد وأراد وَالشَّياطِينَ أي وسخرنا له الشياطين كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر لاستخراج الدر واللؤلؤ منه وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وآخرين منهم مشدودين في القيود والسلاسل، وهم مردة الشياطين.
هذا عَطاؤُنا أي هذا ما أعطيناك من الملك العظيم الذي طلبته، من السيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت، وامنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال لك: كم أعطيت ولم منعت؟
لَزُلْفى قربة في الآخرة وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع، وهو الجنة.
المناسبة:
هذه هي القصة الثانية- قصة سليمان بن داود عليهما السلام، فيها تعداد النعم التي أنعم الله بها على سليمان، كما أنعم على أبيه داود من قبل، ليشكر المحسن، ويتعظ المسيء الذي يرى في قصتي داود وسليمان عظة وعبرة، فإنهما ملكا ملكا عظيما، لم يحجبهما عن شكر الله، وعبادته وطاعته، وتقدير نعمه الكثيرة، فأين ملكهما من زعامة قريش وأمثالهم؟!.
التفسير والبيان:
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي وآتينا داود ابنا نبيا، كما قال عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل ٢٧/ ١٦] وإلا فقد كان له بنون غيره، وهذا الابن ما أحقّه بالمدح والثناء، فهو نعم العبد، لأنه توّاب رجّاع إلى الله، كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل في أكثر الأوقات.
روى ابن أبي حاتم عن مكحول قال: لما وهب الله تعالى لداود سليمان قال له: يا بني ما أحسن؟ قال: سكينة الله والإيمان، قال: فما أقبح؟ قال: كفر بعد إيمان، قال: فما أحلى؟ قال: روح الله بين عباده- أي رحمته- قال: فما
199
أبرد؟ قال: عفو الله عن الناس، وعفو الناس بعضهم عن بعض، قال داود عليه السلام: فأنت نبي.
ثم ذكر الله واقعتين لسليمان من وقائع توبته فقال:
الواقعة الأولى:
قصة عرض الخيل: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ أي اذكر أيها الرسول مادحا حين عرض على سليمان عليه السلام في مملكته وسلطانه بعد العصر آخر النهار الخيول الصافنات (أي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة) والجياد: السراع في العدو، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ومدى صلاحيتها لمهامها، وليستمتع بما أنعم الله عليه منها.
فَقالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي، حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي قال سليمان: إنني أحببت هذه الخيل وآثرتها عن غيرها حبا حصل عن ذكر ربي وأمره، لا بهواي وشغفي، وكانت ذات أعداد كثيرة، تعدو حتى غابت عني بسبب الغبار وبعد المسافة. وبه يتبين أن حبه لها لم يكن إلا امتثالا لأمر الله بربط الخيل للجهاد في سبيل الله، وتقوية دينه، وتثبيت دعائمه، وقد كان ذلك مندوبا إليه في دينهم.
هذا هو التفسير المتعين الذي يتفق مع مركز النبوة وشرف الرسالة ودلالة الحال في تعداد النعم لا النقم على سليمان، فلا يصح التفسير بشيء يتنافى مع هذا، لا سيما وقد أمر الله تعالى نبينا ص أن يتأسى بداود وسليمان، كما في مطلع الآيات. واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ...
ثم أعاد سليمان عرض الصافنات أمامه قائلا:
رُدُّوها عَلَيَّ، فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي أعيدوا هذه الخيل
200
إلي، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها، تشريفا لها وتكريما وتدليلا وسرورا بها، وتفحصا لأحوالها وإصلاح ما قد يطلع عليه من عيوبها، لأنها عدة الجهاد، ووسيلة الحرب، لرد العدوان، ودفع غارات المعتدين. وقال أكثر المفسرين: معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها، أي قطعها، لأنها شغلته عن صلاة العصر. وهذا بعيد على نبي شاكر نعم ربه، يعاقب ما ليس أهلا للعقاب.
الواقعة الثانية:
إلقاؤه جسدا على كرسيه: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أي تالله لقد اختبرنا سليمان عليه السلام باختبار آخر، وهو الفتنة في جسده، كما اختار الرازي، حيث ابتلاه الله بمرض شديد في جسمه، حتى نحل جسمه، وأصبح هزيلا، ثم أناب، أي رجع إلى حال الصحة «١».
وبعض المفسرين كما ذكرت عن البيضاوي وكذا أبو حيان «٢» يفسر هذه الفتنة بما عزم عليه من الطواف على سبعين من نسائه، تأتي كل واحدة بفارس مجاهد في سبيل الله، دون أن يقول: إن شاء الله، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، هو الذي ألقي على جسده، فالجسد الملقى هو المولود شق رجل.
وقيل: إن الملقى شيطان، وهذا قول باطل من الزنادقة. قال ابن كثير:
وهذا وغيره من الإسرائيليات، وهي من المنكرات، من أشدها ذكر النساء «٣».
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ٢٠٩
(٢) البحر المحيط: ٧/ ٣٩٧
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٥ وما بعدها.
201
قالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِي قال سليمان: ربّ اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله، وهذا من سمو الإحساس بالخطيئة، فقد تكون شيئا لا يخلو عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأن الأنبياء أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما
قال ص فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».
وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وامنحني ملكا عظيما لا يتأتى لأحد غيره مثله، إنك يا ربّ أنت الكثير الهبات والعطايا، فأجب دعائي.
قال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة، ووارثا لهما، فأراد أن يطلب من ربّه معجزة، فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة، بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوته، قاهرا للمبعوث إليهم، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات، فذلك معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.
وقيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى مثله أحد، فلا يحافظ على حدود الله فيه «١».
فأجاب الله تعالى دعاءه وأعطاه نعما خمسة، فقال:
١- فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ أي فذلّلنا له الرّيح، وجعلناها منقادة لأمره، تجري ليّنة طائعة في قوّة وسرعة، دون عواصف مضطربة ولا أعاصير، تحمله إلى أي جهة قصد وأراد. ووصف الرّيح هنا بكونها رخاء لا يتعارض مع آية أخرى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ [الأنبياء ٢١/ ٨١] لأن المراد بالعاصفة هنا القوية الشديدة، لا الهائجة
(١) الكشاف: ٣/ ١٥
202
المضطربة، فهي في قوة الرياح العاصفة، لكنها كانت طيّبة غير خطرة، أو أنها كانت بحسب الحاجة، ليّنة مرة، وعاصفة أخرى.
٢- وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ أي وذلّلنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره، إما في بناء المباني الشاهقة، وإما في الغوص في البحار لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان، وإما في أعمال أخرى.
٣- وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ أي وسخرنا له شياطين آخرين هم مردة الشياطين، سخّروا له حتى قرنهم في القيود والسلاسل، قمعا لشرّهم، وعقابا لهم.
٤- هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ هذه نعمة رابعة هي حرية التصرف فيما أعطاه الله إياه من الملك العظيم، والثراء والغنى، والسيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم، فقد أذن له ربّه بأن يمنح من يشاء، ويمنع من يشاء، ولا حساب عليه في ذلك الإعطاء أو الإمساك، فلا يقال له: كم أعطيت، ولم منعت؟
٥- وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ أي وإن له في الآخرة لقربة وكرامة عند الله، وحسن مرجع، وهو الجنة، وفيض ثواب، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- من مزيد فضل الله على عبده داود عليه السلام أن وهبه ولدا ورث عنه الملك والنبوة.
٢- ومن نعم الله على عبده سليمان عليه السلام أنه أنعم عليه بالخيل
203
الصّافنات الجياد، التي تعدّ عدّة الحرب، وآلة القتال المهمة في مواجهة الأعداء، وكان عددها ألف فرس يجاهد عليها في سبيل الله تعالى.
٣- لقد أحبها سليمان عليه السلام، لأنها حققت له تنفيذ أوامر ربّه في ربطها للجهاد، فكان يعرضها أمامه في عرض عسكري مهيب، يرهب العدو، وكانت تمتاز بسرعة الجري أو العدو، حتى إنها غابت عنه بسبب شدة الغبار وبعد المسافة.
٤- لم يقتصر سليمان عليه السلام على عرضها أمامه للمرة الأولى، وإنما طلب إعادتها إليه، فشرع في مسح سيقانها ونواصيها بيده، تكريما لها، وتفحّصا لأحوالها حتى يعالج ما قد يكون بها من عيوب.
٥- امتحن الله تعالى سليمان عليه السلام بالمرض، كما يمتحن عباده المؤمنين، قيل: كان ذلك بعد عشرين سنة من ملكه، ثم ملك بعد الاختبار عشرين سنة أخرى، كما ذكر الزمخشري.
واشتدّ به المرض حتى أصبح لشدّة ضعفه- كما تقول العرب: لحما على وضم، وجسما بلا روح، ثم عاد إلى صحته وحالته الأولى.
وطلب المغفرة من ربّه على ما قد يكون من ذنب في تقديره كان سببا لمرضه، وهذا من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فقد يكون ترك الأفضل والأولى عند أصحاب السمو والدرجة العالية، وعلى رأسهم الأنبياء، بمثابة ذنب عندهم، وهو عند غيرهم ليس بذنب.
٦- أجاب الله دعاء سليمان عليه السلام، فأمده بنعم عظمي، هي: تسخير الرّيح له، تحمله إلى أي مكان أراد، وتسخير الشياطين للخدمة في مجالات الحياة المختلفة من بناء وغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والتسلّط على مردة الشياطين، حتى يقيّدهم بالأغلال والسلاسل، كفّا لشرّهم ومنع أذاهم.
204
ومنحه حرية التّصرّف في الملك والمال، فيعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، دون حساب ولا رقيب، ودون مراجعة أو نقص.
وكذلك جعله مقرّبا عند الله، مكرّما عند ربّه في الجنة، مغمورا بالثواب الجزيل، فائزا برضا ربّه.
والخلاصة: لقد منح الله سليمان خيري الدنيا والآخرة، وجمع له بين الملك والنبوة كأبيه داود عليهما السلام، وسخّر الله له ملكا عظيما وسلطة شاملة على الإنس والجن والشياطين. وهذا لم يتأت لأحد قبله ولا بعده.
قصة أيوب عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)
الإعراب:
أَيُّوبَ إِذْ نادى أَيُّوبَ: عطف بيان، وإِذْ: بدل اشتمال منه.
رَحْمَةً مِنَّا منصوب إما لأنه مصدر، أو لأنه مفعول لأجله.
البلاغة:
أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ في هذا الإسناد مراعاة الأدب مع الله تعالى، فإنه أسند المرض والضرر الذي أصابه إلى الشيطان أدبا، وإن كان الخير والشر بيد الله تعالى لحكمة يعلمها.
205
المفردات اللغوية:
أَيُّوبَ هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وامرأته ليا بنت يعقوب، الراجح أنه قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة، وكان موطنه أرض عوص: جزء من جبل سعير، أو بلاد أدوم. أَنِّي بأني. بِنُصْبٍ بضرّ، والنّصب (بالضّم) والنّصب (بفتحتين) كالرّشد والرّشد: المشقة والتعب. وَعَذابٍ ألم مضرّ، كما في آية أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء ٢١/ ٨٣]. ونسب ذلك إلى الشيطان- وإن كانت الأشياء كلها من الله- تأدّبا مع الله تعالى.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اضرب بها الأرض، فضرب فنبعت عين ماء. مُغْتَسَلٌ ماء تغتسل به وتشرب منه. بارِدٌ وَشَرابٌ تغتسل وتشرب منه، فاغتسل وشرب، فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره.
وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرّقهم، أو أحييناهم بعد موتهم. وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ أي ورزقه مثلهم. رَحْمَةً مِنَّا أي لرحمتنا عليه. وَذِكْرى عظة وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجوء إلى الله فيما يحيق بهم. لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول.
ضِغْثاً حزمة صغيرة من الحشيش والريحان ونحوهما، أو قضبان. فَاضْرِبْ بِهِ زوجتك. وَلا تَحْنَثْ بترك ضربها، والحنث في اليمين: إذا لم يفعل ما حلف عليه. روي أن زوجته ليا بنت يعقوب عليه السلام ذهبت لحاجة، وأبطأت، فحلف إن برئ ليضربنّها مائة ضربة، فحلّل الله يمينه بذلك، وهي رخصة باقية في الحدود للضرورة كمرض ونحوه. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة.
المناسبة:
هذه هي القصة الثالثة من قصص الأنبياء في هذه السورة، والمقصود بها كغيرها الاعتبار، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام ممن أفاض الله عليهما أصناف النعم، فكانت قصتهما لتعليم الشكر على النعمة، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى بأنواع البلاء، فكانت قصته لتعليم الناس الصبر على الشدائد، كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليهما السلام، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب
206
عليه السلام، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.
التفسير والبيان:
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ أي واذكر أيها الرسول لقومك صبر أيوب على مرضه مدة طويلة هي نحو من ثماني عشرة سنة، حين نادى ربّه بأني قد مسني الضّر ومسّني الشيطان بمشقة وألم مضر، وإنما نسب ذلك الضر إلى الشيطان أدبا مع الله تعالى كما تقدم. والذي يجب اعتقاده أن هذا المرض لم يكن منفّرا الناس منه، وإنما هو مجرد مرض جلدي يشفى بالمياه المعدنية أو الكبريتية، لأن شرط الأنبياء: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
إن رسول الله ص قال: «إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين «١»، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم، والله لقد أذنب أيوب ذنبا، ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة، لم يرحمه الله تعالى، فيكشف ما به، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له.
فقال أيوب عليه السلام: لا أدري ما تقول، غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان، فيذكران الله تعالى، فأرجع إلى بيتي، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق.
(١) يمكن تأويل هذا الرفض بالبعد المعتاد عن كل مريض، شفقة ورحمة، لا نفورا من المرض.
207
قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضاها، أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم، أبطأ عليها، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه السلام أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فاستبطأته، فالتفتت تنظر، فأقبل عليها، قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته، قالت: أي، بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى، فو الله القدير على ذلك، ما رأيت رجلا أشبه به منك، إذ كان صحيحا، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران: أندر للقمح، وأندر للشعير، فبعث الله تعالى سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض».
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ، هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ أي قلنا له: اضرب برجلك الأرض، فركض (ضرب) فنبعت عين جارية، فاغتسل فيها، وشرب منها، فخرج صحيحا معافى، بريئا من المرض.
وهذا دليل على أن مرضه كان من الأمراض الجلدية غير المعدية ولا المنفّرة، وإنما كانت مؤذية متعبة تحت الجلد، كالإكزيما والحكة ونحوهما، مما يمكن شفاؤه بالمياه المعدنية أو الكبريتية المفيدة في تلك الأمراض.
وكما تمّ الشفاء من المرض أعاد الله له أهله وولده وماله، فقد كان ذا مال جزيل وأولاد كثيرين وسعة من الدنيا، فقال تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، رَحْمَةً مِنَّا، وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ أي منحناه أهله وضاعفناهم، إما أن الله تعالى أحياهم بعد أن أماتهم، والله قادر على كل شيء، وإما أنه تعالى جمعهم له بعد تفرقهم، وأكثر نسلهم، وزادهم، فكانوا مثلي ما كانوا قبل ابتلائه، رحمة من الله به، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة، والإيمان أن عاقبة الصبر الفرج، وأن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن مع العسر يسرا.
208
ثم ذكر الله تعالى له رخصة في التّحلل من يمينه، فقال:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ، وَلا تَحْنَثْ أي وخذ بيدك حزمة كبيرة من القضبان، فاضرب بها زوجتك التي حلفت أن تجلدها مائة جلدة إن برئت من مرضك، ولا تحنث في يمينك، أي لا تترك العمل بمقتضى اليمين، بسبب إبطائها في الرجوع، وهي ليا بنت يعقوب، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف.
ثم أثنى الله سبحانه على أيوب عليه السلام قائلا:
إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده، وذهاب ماله وأهله وولده، نعم العبد أيوب، إنه رجّاع إلى الله بالتوبة والاستغفار، زيادة في حسناته ورفع درجته، لا بسبب ذنب جناه، فجازيناه بتفريج كربته، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، ولكن إيمان الأنبياء المطلق التام الذي يعرّفهم أن الله عليم بهم، قد لا يطلبون من الله شيئا لإذهاب همهم وغمهم.
روي عن أيوب عليه السّلام أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: «اللهم أنت أخذت، وأنت أعطيت»، وكان يقول في مناجاته: «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيا، ومعي جائع أو عريان».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- لا مانع من دعاء الله تعالى والشكوى إليه عند المصاب، وإن كان أيوب عليه السلام صبر مدة طويلة على المرض، ثم دعا ربّه لتفريج نوعين من المكروه: الألم الشديد في الجسم، والغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات، لذا ذكر الله تعالى لفظين وهما النّصب والعذاب.
209
٢- على المؤمن أن يتدرّع بالصّبر عند الشدائد، فقد أمر الله النّبي ص بالاقتداء بأيوب عليه السلام في الصبر على المكاره، وكذلك بغيره من الأنبياء مثل داود وسليمان عليهما السلام.
٣- لم يكن مرض أيوب عليه السلام منفّرا، لأن شرط النّبوة: السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا، وإنما كان مرضه تحت الجلد، كأمراض الحكمة، مما ليس بمعد، وإن كان مؤلما ومزعجا. وهو مرض حسي، تناول البدن بدليل قوله مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء ٢١/ ٨٣]، ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ، وفَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ [الأنبياء ٢١/ ٨٤]، وارْكُضْ بِرِجْلِكَ وهذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ.
٤- في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، بدليل حلف أيوب على ضرب امرأته. والذي أباحه القرآن هو ضرب النساء حال النشوز، لقوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إلى أن قال:
وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء ٤/ ٣٤]. كذلك دلّ قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء ٤/ ٣٤]، على أن للزوج ضرب امرأته تأديبا لغير نشوز.
٥- إن الضرب بالضغث رخصة من الله تعالى لأيوب عليه السلام تحلّة اليمين، جزاء على تلك الخدمة الطويلة التي قدمتها له زوجته أثناء مرضه.
واختلف العلماء بعدئذ، هل هذا الحكم عام أو خاص بأيوب وحده؟ للعلماء في ذلك رأيان:
الرأي الأول:
قالت الحنفية- الذين يقولون: شرع من قبلنا شرع لنا-: إن الحكم عام، فمن حلف ليضرب مائة ضربة، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مائة، فضرب بها، برّ في يمينه، ولا كفّارة عليه، لأن الله قد رخّص لأيوب عليه السلام هذا،
210
وجعله غير حانث به، وما دام غير حانث فهو بارّ. وهذا في المريض العليل غير الصحيح السليم «١».
وكذلك قالت الشافعية والحنابلة: يجوز إقامة الحدّ في المرض الذي لا يرجى برؤه، بأن يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة، لما
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن سهل بن حنيف: «أنّ النّبي ص أمر في رجل أضنى أن يأخذوا له مائة شمراخ، فيضربوه بها ضربة واحدة».
قال الشافعي: إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة، أو ضربا، ولم يقل: ضربا شديدا، ولم ينو ذلك بقلبه: يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية، ولا يحنث.
والشافعي الذي لا يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا اعتمد في ذلك على ما ثبت في السّنّة النّبوية. وأما الإمام أحمد فيقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا.
الرأي الثاني:
قالت المالكية الذين يرون أن شرع من قبلنا شرع لنا: إن هذه رخصة خاصة بأيوب عليه السلام، بدليل توجيه الخطاب وبما ذكر للترخيص من العلة. قال ابن العربي: وإنما انفرد مالك في هذه المسألة عن القاعدة لتأويل بديع: هو أن جريان الأيمان عند مالك في سبيل النّيّة والقصد أولى،
لقول رسول الله ص فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنّيّات»
والنّيّة أصل الشريعة وعماد الأعمال ومعيار التكليف. وقصة أيوب هذه لم يصح كيفية يمين أيوب فيها، حتى نلتزم شريعته فيها «٢». وهذا قول الليث أيضا.
ونهج ابن القيم في (أعلام الموقعين) الذي حارب فيه الحيل منهج المالكية، وقرر أن هذه الفتيا خاصة الحكم، فإنها لو كانت عامة الحكم في حقّ كل أحد، لم
(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ٤/ ٣٨٢ وما بعدها.
(٢) أحكام القرآن: ٤/ ١٦٤٠
211
يخف على نبي كريم موجب يمينه، ولم يكن في قصها علينا كبير عبرة، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره لنعتبر به، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا. ويدلّ عليه اختصاص قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل، كما في نظائرها، فعلم أن الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره، وتخفيفا عن امرأته، ورحمة بها. وأيضا فإنه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما قال: وَلا تَحْنَثْ.
٦- فضيلة الصبر عظيمة، لذا وصف الله نبيه أيوب بأنه صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله، وبأنه أوّاب، أي كثير التأويب والرجوع إلى الله في كل أموره.
قصة إبراهيم وذريته عليهم السلام- إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل-
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ الى ٥٤]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)
الإعراب:
إِبْراهِيمَ بدل من عِبادَنا أو (عبدنا) أو عطف بيان.
212
بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ على قراءة التنوين هذه تكون ذِكْرَى بدلا من بِخالِصَةٍ وتقديره: إنا أخلصناهم بذكرى الدار، ويجوز نصبه ب بِخالِصَةٍ لأنه مصدر كالعافية والعاقبة.
وقرئ بترك التنوين بجعل ذِكْرَى مجرورا بالإضافة وهي إضافة بيان.
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ جَنَّاتِ: بدل منصوب من لَحُسْنَ مَآبٍ.
ومُفَتَّحَةً صفة لجنات، وفيه ضمير عائد إلى جَنَّاتِ وتقديره: جنات عدن مفتحة هي، أو حال وعامله ما في المتقين من معنى الفعل. والْأَبْوابُ إما مرفوع ب مُفَتَّحَةً وإما مرفوع بدلا من ضمير مُفَتَّحَةً. تقول: فتحت الجنان: إذا فتحت أبوابها، قال تعالى:
وَفُتِحَتِ السَّماءُ، فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ ٧٨/ ١٩].
مُتَّكِئِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ما لَهُ: حال من: لَرِزْقُنا، أو خبر ثان ل إِنَّ.
البلاغة:
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ استعارة تصريحية، استعار الْأَيْدِي للقوة في العبادة، والْأَبْصارِ للتبصر في الدين.
هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ بينها وبين ما يأتي في المقطع الآتي مقابلة وهي: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ.
هذا ما تُوعَدُونَ التفات من الغيبة إلى الخطاب للعناية بهم.
المفردات اللغوية:
عِبادَنا وقرئ: عبدنا.
أُولِي الْأَيْدِي أصحاب القوة في العبادة. وَالْأَبْصارِ أصحاب البصائر في الدين والفقه فيه ومعرفة أسراره. أَخْلَصْناهُمْ جعلناهم خالصين لنا. بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها هي ذِكْرَى الدَّارِ أي تذكر الدار الآخرة والعمل لها.
الْمُصْطَفَيْنَ المختارين من أبناء جنسهم، جمع مصطفى. الْأَخْيارِ المفضلين عليهم في الخير، جمع خيّر: وهو المطبوع على فعل الخير. إِسْماعِيلَ هو ابن إبراهيم الخليل. وَالْيَسَعَ اللام زائدة، وهو نبي، ابن اخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثم صار نبيا.
وَذَا الْكِفْلِ ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب، واختلف في نبوته ولقبه، والأصح أنه نبي،
213
قيل: فرّ إليه مائة نبي من القتل فآواهم وكفلهم، وقيل: تكفّل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة. كُلٌّ كلهم. مِنَ الْأَخْيارِ جمع خيّر، كما تقدّم.
هذا ذِكْرٌ هذا ذكر وشرف وتنويه لهم بالثناء الجميل، أو هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر وهو القرآن. لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع في الآخرة. جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات استقرار وثبات، يقال: عدن بالمكان: أقام به. مُتَّكِئِينَ فِيها أي على الأرائك، كما في آية أخرى.
قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرن إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ جمع ترب، أي لدات متساوون في السّنّ، بنات ثلاث وثلاثين سنة، حتى لا تحصل الغيرة بينهنّ، ولأن التّحاب بين الأقران أثبت.
هذا المذكور. ما تُوعَدُونَ به. لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل الحساب، فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. نَفادٍ انقطاع، أي دائم له صفة الدوام.
المناسبة:
هذه مجموعة قصص من الأنبياء في هذه السورة، ذكر الله فيها قصص إبراهيم وذريته الأنبياء، يراد بها العظة والعبرة، والتعليم لنا، والتّخلق بأخلاقهم، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعدّ الله لهم ولأمثالهم في هذه الآيات من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. وهي معطوفة على بداية القصص في هذه السورة، كأنه تعالى قال: «فاصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا داود» [الآية ١٧] إلى أن قال: وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره، وصبر إسماعيل للذبح، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين، فيقول:
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أي واذكر العمل الصالح وصبر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة
214
والبصيرة النافذة، فإنهم دأبوا على الطاعة، وقويناهم على العمل المرضي، وأحسنوا وقدموا خيرا، وآتيناهم البصيرة في العلم والفقه في الدين، والعمل النافع فيه.
وعلة ذلك:
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ أي خصصناهم بخصلة خالصة هي العمل للآخرة، والتزام أوامرنا ونواهينا، لتذكرهم الدار الآخرة والإيمان بها، وذلك شأن الأنبياء.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ أي وإنهم لمن المختارين من أبناء جنسهم، المطبوعين على فعل الخير، فلا يميلون للأذى، ولا تنطوي قلوبهم على الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد، ولا يرتكبون شرّا ومعصية، فهم أخيار مختارون.
وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ أي واذكر أيضا صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة، فكل منهم من الأخيار المختارين للنبوة.
وبعد أن أمر الله تعالى رسوله بالصبر على سفاهة قومه وذكر جملة من الأنبياء، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين وحال الكافرين من الجزاء، ومقرّ كل واحد من الفريقين، فقال تعالى:
هذا ذِكْرٌ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ هذه الآيات القرآنية التي تعدد محاسنهم تذكّر لهم وتنويه، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به أبدا، وإن لهم وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنّته. وهذا شروع فيما أعدّ لهم ولأمثالهم من النعيم والسعادة في الدار الآخرة.
215
ثم فسّر الله تعالى المقصود بالمرجع والمآب الحسن قائلا:
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ أي إن ذلك المآب هو في جنات إقامة دائمة، مفتحة لهم أبوابها، فإذا جاءوها فتحت لهم أبوابها إكراما لهم، تفتحها لهم الملائكة ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصها لهم وبسعتها وروعتها وبهائها الذي تسرّ به النفوس.
مُتَّكِئِينَ فِيها، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ أي تراهم متكئين في الجنات على الأرائك والأسرّة، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة الكثيرة المتنوعة، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب، وغيرهما، فمهما طلبوا وجدوا، وأحضر كما أرادوا بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة ٥٦/ ١٨].
والسبب في تخصيص الفاكهة والشراب بالذكر: ترغيب العرب فيها، لأن ديارهم حارة قليلة الفواكه والأشربة، وفيه إيماء بأن طعامهم لمجرد التّفكّه والتّلذّذ لا للتّغذي، لعدم حاجتهم إليه بسبب خلق أجسامهم للدوام، فلا تحتاج لبدائل المتلفات والتّحللات.
وبعد وصف المسكن والمأكول والمشروب، ذكر تعالى الأزواج، فقال:
وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ أي ولهم زوجات قاصرات طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غيرهم، وهم لدات متساويات في السّن، متساويات في الحسن والجمال، يحب بعضهنّ بعضا، فلا تباغض ولا غيرة عندهنّ.
ثم ذكر الله تعالى ما وعد به المتقين من الثواب قائلا:
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي هذا المذكور من صفات الجنة هو الذي وعد به تعالى عباده المتقين، وهو الجزاء الأوفى الذي وعدوا به، وأجلّ ليوم الحساب في الآخرة بعد البعث والنشور من القبور.
216
وصفة هذا النعيم الدوام، فقال تعالى:
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ أي إن هذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له، ولا فناء أبدا، كقوله عزّ وجلّ: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل ١٦/ ٩٦]، وقوله جلّ وعلا: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود ١١/ ١٠٨]، وقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق ٨٤/ ٢٥]، أي غير منقطع، وقوله سبحانه: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ [الرعد ١٣/ ٣٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
جعل الله تعالى هؤلاء الصّفوة المختارة من الأنبياء مع من تقدّمهم قدوة طيبة وأسوة حسنة للنبي ص وللمؤمنين من بعده، في الصّبر والعمل الصالح، والعلم النافع، والقوة في العبادة، والفقه في الدين.
وسبب اصطفائهم إيمانهم بالدار الآخرة وتذكرهم لها، وعملهم المحقق لرضوان الله ومغفرته ودخول جنانه فيها، فهم يذكرون الآخرة، ويرغبون فيها، ويزهدون في الدنيا.
وذكرهم في القرآن المتلو إلى يوم القيامة إشادة بهم، وذكر جميل في الدنيا، وشرف يذكرون به فيها أبدا.
ولهم ولكلّ المتقين مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة، إذ لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، مفتحة الأبواب، تفتحها الملائكة تكريما لهم.
يتمتعون بنعيم الجنان في مسكن مريح يتكئون فيه على الأرائك، ولهم ما يطلبون من أنواع الفاكهة الكثيرة والشراب الكثير.
217
ولهم أيضا أزواج قاصرات الطّرف لا ينظرن إلى غيرهم، وهنّ لدات أتراب على سنّ واحدة، متساوين في الحسن والجمال والشباب، بنات ثلاث وثلاثين سنة.
ثم ذكر الله تعالى أن هذا الموصوف بهذه الصفات هو الجزاء والثواب الذي وعد به المتقين، ثم أخبر تعالى عن دوام هذا الثواب. وهذا دليل على أن نعيم الجنة لا ينقطع.
عقاب الطاغين الأشقياء
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٥٥ الى ٦٤]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)
الإعراب:
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ.. هذا: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الأمر هذا.
هذا فَلْيَذُوقُوهُ.. هذا يجوز فيه النصب والرفع، أما النصب فبتقدير فعل يفسره فَلْيَذُوقُوهُ أي فليذوقوه هذا فليذوقوه، والفاء زائدة في مذهب أبي الحسن الأخفش، مثل:
هذا زيد فاضرب. وأما الرفع: فهو على أنه مبتدأ، وخبره: حَمِيمٌ، وفَلْيَذُوقُوهُ اعتراض، والفاء للتنبيه، أو هو المخصوص بالذم، أي بئس المهاد هذا المذكور، أو مبتدأ وخبره فَلْيَذُوقُوهُ ويرفع حَمِيمٌ على تقدير (هو حميم)، أو خبر مبتدأ، تقديره: الأمر هذا، ويرفع حَمِيمٌ على تقدير: هو حميم.
218
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ: آخَرُ مبتدأ، ومِنْ شَكْلِهِ صفة له، ولهذا حسن أن يكون مبتدأ، مع كونه نكرة، وأَزْواجٌ خبر المبتدأ. ويجوز جعل أَزْواجٌ مبتدأ ثانيا، ومِنْ شَكْلِهِ خبر ل أَزْواجٌ والجملة منهما خبر المبتدأ الأول الذي هو آخَرُ.
ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ: ما في موضع رفع بالابتداء، ولَنا خبره، ولا نَرى حال من ضمير لَنا. وكُنَّا نَعُدُّهُمْ صفة ل رِجالًا. ومِنَ الْأَشْرارِ في موضع نصب، لتعلقه ب نَعُدُّهُمْ. وتجوز إمالة مِنَ الْأَشْرارِ لوجود الراء المكسورة.
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ: تَخاصُمُ إما بدل من لَحَقٌّ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره (هو تخاصم) أو خبر بعد خبر ل إِنَّ أو بدل من ذلِكَ على الموضع.
البلاغة:
الْأَشْرارِ الْأَبْصارُ أَهْلِ النَّارِ فيها مراعاة الفواصل من المحسنات البديعية.
فَبِئْسَ الْمِهادُ شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
المفردات اللغوية:
لِلطَّاغِينَ الكفار الذين كذبوا بالله ورسله، وتجاوزوا حدود الله. مَآبٍ مرجع ومصير. يَصْلَوْنَها يدخلونها. الْمِهادُ الفراش. هذا العذاب، المفهوم مما بعده.
حَمِيمٌ ماء شديد الحرارة. وَغَسَّاقٌ شديد البرودة، وهو ما يسيل من صديد أهل النار.
وَآخَرُ أي وعذاب آخر، وقرئ: «وأخر» بالجمع، أي وأنواع عذاب آخر. مِنْ شَكْلِهِ مثل المذوق في الشدة والكراهية، أو مثل المذكور من الحميم والغساق. أَزْواجٌ أصناف أو أجناس عذابهم.
هذا فَوْجٌ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار، والفوج: الجمع الكثير من أتباع الضلال. مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ داخل معكم النار بشدة. لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا سعة عليهم ولا ترحيب بهم، وهذا ما يقوله الرؤساء لأتباعهم. صالُوا النَّارِ داخلون النار بأعمالهم مثلنا.
قالُوا: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم أحق بما قلتم. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا أي الكفر. فَبِئْسَ الْقَرارُ المقر وهو جهنم، فلنا ولكم النار.
قالُوا أي الأتباع أيضا. عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا أي ذا ضعف، بأن يزيد على العذاب مثله، فيصير ضعفين، كقوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ [الأحزاب ٣٣/ ٦٨]. وَقالُوا أي الرؤساء الطاغون، وهم في النار. مِنَ الْأَشْرارِ الأراذل
219
الذين لا خير فيهم، يريدون بهم فقراء المسلمين الذين يحتقرونهم ويسترذلونهم ويسخرون بهم.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا استفهام إنكاري، إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في تسخيرهم في الدنيا، أي الأجل أنا قد اتخذناهم مسخرين في أعمالنا، ولم يكونوا كذلك، لم يدخلوا النار؟ وقرئ بضم السين، أي كنا نسخر بهم. أَمْ زاغَتْ مالت. عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي أم هم معنا، ولكن لم ترهم أعيننا، وهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب وسلمان.
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ ذلك الذي حكينا عنهم واجب وقوعه، لا بد أن يتكلموا به، ثم بيّن ما هو، فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي تنازعهم ومخاصمة بعضهم بعضا.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى ثواب المتقين ومآل السعداء، وصف بعده عقاب الطاغين وحال الأشقياء المحرومين، ليتم التقابل والمقارنة بين الفريقين، ويقترن الوعد بالوعيد، فيقبل على الطاعة، ويجتنب المعصية، ويتحقق الهدف المنشود وهو الإصلاح والتهذيب.
التفسير والبيان:
هذا، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ أي هذا المذكور هو جزاء المؤمنين، أو الأمر هذا كما ذكر، وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله عز وجل، المكذبين لرسله، لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله عز وجل:
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ أي إنهم يدخلون جهنم ويلفحهم حرها من كل جانب، فبئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، أي بئس ما تحتهم من نار جهنم، مشبها النار بالمهاد، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١].
هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ أي هذا حميم فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، وهو أمرتهكم وسخرية بذوق العذاب، وهو ماء حار شديد الحرارة
220
يشوي الجلود، وماء بارد مؤلم لا يستطاع شربه لشدة برودته، أو هو ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ أي ولهم أنواع أخرى من العذاب مثل الحميم والغساق، أشد كراهية وإيلاما كالزقوم، والصعود والسّموم، والزمهرير، يعاقبون بها، من الشيء وضده. فقوله: أَزْواجٌ أي ألوان من العذاب المختلفة المتضادة.
ثم وصف الله تعالى كلام أهل النار مع بعضهم بعضا، فقال:
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ أي تقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كبير داخل معكم، فلا مرحبا بهم، أي لا كرامة لهم، وهم يدخلون النار كما دخلناها، ويستحقونها كما استحققناها. والمراد من قولهم: لا مَرْحَباً بِهِمْ الدعاء عليهم. وهذا قول صادر من السادة أو الرؤساء والقادة عن الأتباع المنبوذين في الدنيا، والمراد به الإخبار من الله تعالى عن انقطاع المودة بين الكفار، بل إن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة.
فيجيبهم الأتباع قائلين:
١- بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ، أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا، فَبِئْسَ الْقَرارُ أي قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم لا كرامة لكم، وأنتم أحق بهذا منا، فإنكم أضللتمونا ودعوتمونا إلى هذا المصير وأوقعتمونا فيه، فبئس المقر جهنم لنا ولكم. والمراد من هذا الكلام التشفي منهم، كما قال تعالى: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها [الأعراف ٧/ ٣٨].
٢- قالُوا: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي قال الأتباع أيضا عن الرؤساء داعين عليهم: ربنا عاقب الذين أوردونا هذا المورد في
221
النار وقدموا لنا هذا العذاب عقابا مضاعفا في النار، عقابا على الكفر، وعقابا على الإضلال، كما قال تعالى: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أي لكل منكم عذاب بحسبه [الأعراف ٧/ ٣٨- ٣٩] وقال سبحانه: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٦٧- ٦٨]. ويؤيده
الحديث الصحيح عند مسلم عن جرير بن عبد الله: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها».
ثم تحدث الكفار عن أناس كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة، فقال تعالى:
وَقالُوا: ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ؟ أي قال المشركون بعضهم لبعض تعجبا وتحسرا: إننا نفتقد في النار رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم، فما لنا لا نراهم معنا في النار؟ يعنون في زعمهم فقراء المؤمنين، كعمّار وخبّاب وصهيب وبلال وسالم وسلمان.
قال مجاهد: هذا قول أبي جهل يقول: ما لي لا أرى بلالا وعمارا وصهيبا وفلانا وفلانا؟ وهذا ضرب مثل، وإلا فكل الكفار، هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار. فلما دخل الكفار النار افتقدوهم فلم يجدوهم، فقالوا هذا القول.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ أي الأجل أنا قد سخرناهم في الدنيا في أعمالنا، أو سخرنا منهم، وكانوا أهل الكرامة فأخطأنا، فلم يدخلوا النار، أم هم معنا ولكن لم نعلم مكانهم في النار؟ قال الحسن البصري: كل ذلك قد فعلوه، اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم أبصارهم، أي وهم في الجنة. وقوله:
سِخْرِيًّا بضم السين وكسرها، قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: بالكسر هو الهزء، وبالضم: هو التذليل والتسخير.
222
وهذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على اتخاذهم سخريا في الدنيا.
ثم أكد الله تعالى حدوث هذا التخاصم والتنازع قائلا:
إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ أي إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بدّ أن يتكلموا به، أو هذا الذي أخبرناك به يا محمد أمر واقع حتما يوم القيامة، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للأتباع، وما قالته الأتباع لهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر الله تعالى ألوانا من العذاب في النار للكفار يوم القيامة، وتلك الألوان أو الأنواع هي ما يأتي:
١- إن مصير الظالمين الكافرين شر مرجع ومآب ومنقلب يصيرون إليه.
٢- إنهم يصلون جهنم، أي يدخلونها، وبئس ما مهدوا لأنفسهم، أو بئس الفراش لهم، وهو ما تحتهم من النار.
٣- إن شرابهم الحميم والغسّاق، والحميم: الماء الحار الشديد الحرارة، والغساق: ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد.
٤- لهم أصناف وألوان أخرى من العذاب كالزمهرير والسموم وأكل الزقوم والصعود والهوي، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة، والجميع مما يعذبون به، ويهانون بسببه.
٥- قال ابن عباس: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فَوْجٌ يعني الأتباع، والفوج: الجماعة مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ أي داخل النار معكم، فقالت السادة: لا مَرْحَباً بِهِمْ أي لا اتسعت منازلهم في النار، والمراد به الدعاء. فقال القادة أو الملائكة: إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ كما صليناها.
223
قال أبو حيان: والظاهر أن قوله: هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ من قول رؤسائهم بعضهم لبعض.
٦- رد الأتباع على الرؤساء بقولهم: بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أنتم دعوتمونا إلى العصيان فبئس القرار لنا ولكم. وقالوا أيضا: ربنا من سوّغ لنا هذا وسنّه وتسبب في عذابنا هذا فضاعف عذابه، عذابا على الكفر، وعذابا على الإضلال.
وكل كلام من الفريقين فيه زيادة تبكيت وإيلام وإزعاج للفريق الآخر.
٧- زعم الكفار في الدنيا أن أعداءهم في الدنيا وهم فقراء المؤمنين العرب أو الموالي غير العرب، كبلال وصهيب وسلمان من أهل النار، فافتقدوهم بحسب زعمهم في النار معهم، فلم يجدوهم، فلاموا أنفسهم على خطئهم باتخاذهم سخريا في الدنيا. وهذا لون آخر من التعذيب النفسي الداخلي.
قال مجاهد وغيره: يسألون أين عمار، أين صهيب، أين فلان، يعدون ضعفاء المسلمين، فيقال لهم: أولئك في الفردوس.
٨- إن هذا التخاصم والتنازع الذي يزعج أهل النار أمر واقع حتما في النار، وهو حق ثابت، يجب الإيمان به.
بعض أدلة صدق النبي ص
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
224
الإعراب:
قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ: هُوَ نَبَأٌ مبتدأ وخبر، وعَظِيمٌ صفة، وأَنْتُمْ مبتدأ، وخبره مُعْرِضُونَ، وعَنْهُ متعلق بالخبر وهو مُعْرِضُونَ.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ: أَنَّما إما مرفوع نائب فاعل ل يُوحى وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأنما أنا نذير، وإِلَيَّ يقوم مقام نائب الفاعل ل يُوحى والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
قُلْ يا محمد لكفار مكة. مُنْذِرٌ مخوف بالنار. الْقَهَّارُ لخلقه. الْعَزِيزُ الذي لا يغلب أو الغالب على أمره.
الْغَفَّارُ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء.
قُلْ يا محمد للمشركين. هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ خبر مهم جدا. أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي إن القرآن الذي أنبأتكم به وجئتكم فيه بما لا يعلم إلا بوحي هو مهم جدا، وأنتم معرضون عنه لتمادي غفلتكم، فإن العاقل لا يعرض عن مثله.
بِالْمَلَإِ الْأَعْلى الملائكة، وهم أشراف الخلق، أي ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى.
إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأن آدم حين قال الله: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة ٢/ ٣٠].
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا أني بيّن الإنذار.
المناسبة:
هذه الآيات عود على بدء السورة الداعية إلى التوحيد وإثبات نبوة النبي ص، والمعاد، فهي تقرير للتوحيد، ووعد ووعيد للموحدين والمشركين بسبب الإعراض عن دعوة النبي محمد ص، وإثبات للبعث الذي يفصل فيه بين المؤمنين والكافرين بعد إنذار النبي ص في الدنيا بعقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.
وهذا دليل على أن السورة إلى آخرها في أحسن وجوه الترتيب والنظم.
225
التفسير والبيان:
قُلْ: إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أي قل أيها الرسول للكفار بالله، المشركين به من أهل مكة وغيرهم، المكذبين لرسوله ص: إنما أنا مخوف لكم من عقاب الله وعذابه، مبلّغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، مثل عقاب الأمم السابقة في الدنيا كعاد وثمود، وأحوال عذاب جهنم في الآخرة.
وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ أي ليس هناك إلا إله واحد لا شريك له، قهار لكل شيء سواه، قد قهر كل شيء وغلبه.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا، الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ أي مالك جميع السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات، ومتصرف فيه، وهو الذي يغلب ولا يغلب، فلا يغالبه مغالب إذا عاقب العصاة، وهو غفار الذنوب لمن أطاعه، ولمن شاء من عباده إذا تاب، ولمن التجأ إليه.
ثم توعدهم تعالى على مخالفة أمر الله تعالى ورسوله ص والإعراض عن القرآن، فقال:
قُلْ: هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ أي قل أيها الرسول لمشركي مكة وغيرهم: إن هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا، وأن الله واحد لا شريك له، وأن القرآن وحي منزل من عند الله، هو خبر عظيم مهم جدا، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، فهو ينقذكم من الضلالة إلى النور، لكنكم أنتم معرضون عما أقول، لا تتفكرون فيه. وفي هذا توبيخ لهم وتقريع، لكونهم أعرضوا عنه، فعليهم العدول عن خطأهم.
ثم ذكر تعالى ما يدل على نبوة محمد ص، فقال:
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى، إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي ما كان لي قبل أن
226
يوحى إلي علم باختلاف الملأ الأعلى في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه، فلولا الوحي من أين كنت أدري بتلك المغيبات.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إلي إلا للإنذار الواضح، والتبليغ البيّن، لا لأمر آخر من تسلط أو ملك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبان الله تعالى في هذه الآيات بعض أدلة صدق النبي ص في نبوته، وأوضح بعض مهامه وواجباته.
أما مهمته: فهي إنذار من عصاه بالنار، وتخويف عقاب الله من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد.
وكذلك تقرير التوحيد وهو أن لا إله إلا الله، المنزه عن الشريك والنظير، وأنه سبحانه القهار لكل شيء، وهذا يدل على كونه واحدا، وأن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء أصلا، مثل هذه الأوثان والجمادات التي لا تضر ولا تنفع.
ولما كانت صفة الْقَهَّارُ توجب الخوف الشديد، أردفه تعالى بذكر صفات ثلاث له دالة على الرحمة والفضل والكرم:
أولها- كونه ربا للسموات والأرض والعناصر الأربعة (الماء، والهواء، والنار، والتراب) والمواليد الثلاثة (الإنس والجن والحيوان).
ثانيها- كونه عزيزا (أي منيعا قويا لا مثل له) فهو قادر على كل الممكنات، فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء.
227
ثالثها- كونه غفارا لذنوب عباده المطيعين المخلصين في العبادة.
والمنذر به: هو الحساب والثواب والعقاب والنبوة والقرآن، وهذا خبر عظيم القدر، فلا ينبغي أن يستخف به. وليس من مهام النبي التسلط أو التجبر أو تحقيق النفوذ.
وأما بعض أدلة النبوة وإنزال الوحي عليه: فهو ما يخبر عنه القرآن الكريم من أنباء الملأ الأعلى وهم الملائكة حين اختصموا في أمر آدم حين خلق فقالوا:
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة ٢/ ٣٠] وقال إبليس:
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [الأعراف ٧/ ١٢٠] فهذا البيان من محمد ص عن قصة آدم وغيره من الغيبيات لا يتصور إلا بتأييد إلهي، وحينئذ قامت المعجزة على صدقه.
فما بالهم أعرضوا عن تدبر القرآن ليعرفوا صدقه.
وقوله: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ترغيب في النظر والاستدلال في العقائد ومنع التقليد.
قصة آدم عليه السلام
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٧١ الى ٨٥]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)
228
الإعراب:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ الحق الأول بالرفع: إما خبر مبتدأ محذوف وتقديره: أنا الحق أو فالحق قسمي أو مني، وإما مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: فالحق متى، ويقرأ بالنصب على تقدير فعل، تقديره: الزموا الحق أو اتبعوا الحق، أو بتقدير حذف حرف القسم، كقولك: الله لأفعلن، والدليل على أنه قسم: قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ.
وفَالْحَقُّ الثاني: منصوب ب أَقُولُ أي أقول الحق، وهو اعتراض بين القسم وجوابه.
وقرئ: فالحقّ والحقّ أقول، بالجر فيها على القسم، وإعمال حرف الجر في القسم مع الحذف، كما تقول: الله لأفعلن، (و) الله لأذهبن، وهي قراءة شاذة.
البلاغة:
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيد بمؤكدين: لفظ كل، ولفظ أَجْمَعُونَ.
المفردات اللغوية:
إِذْ قالَ رَبُّكَ أي اذكر حين ذلك. إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ هو آدم.
سَوَّيْتُهُ أتممته وعدّلت وأكملت خلقته. وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وأحييته بنفخ الروح فيه، وأضاف الروح إلى نفسه لشرفه وطهارته، والروح: جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه.
فَقَعُوا لَهُ فخروا له أو اسقطوا له. ساجِدِينَ تكرمة وتبجيلا له، وهو سجود تحية بالانحناء، لا سجود عبادة.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ تأكيدان، الأول لإفادة العموم، والثاني لإفادة الاجتماع في السجود.
إِبْلِيسَ هو أبو الجن، وكان من الملائكة. اسْتَكْبَرَ تعاظم. وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ في علم الله، أو باستكباره عن أمر الله تعالى، واستنكافه عن الطاعة. ما مَنَعَكَ ما صرفك وصدك. خَلَقْتُ بِيَدَيَّ خلقته بنفسي من غير توسط أب وأم، واليد: القدرة، وهو تمثيل
229
للخلق المستقل وللدلالة على أنه معتنى بخلقه، فهذا تشريف لآدم، فإن كل مخلوق تولى الله خلقه.
أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟ أي تكبرت الآن عن السجود من غير استحقاق، أم كنت من المتكبرين المتفوقين المستحقين للترفع عن طاعة الله، فتكبرت عن السجود، لكونك منهم، وهو استفهام توبيخ.
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع. فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السموات.
رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة. لَعْنَتِي طردي. فَأَنْظِرْنِي فأمهلني. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يبعث الناس. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وقت النفخة الأولى. فَبِعِزَّتِكَ بسلطانك وقهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ لأضلنهم. الْمُخْلَصِينَ المؤمنين الذين أخلصتهم للعبادة وعصمتهم من الضلالة.
فَالْحَقُّ المراد بالحق: إما اسمه عز وجل أو الحق الذي هو نقيض الباطل، عظمه الله باقسامه به، أي فالحق مني أو فالحق قسمي، وجواب القسم: لَأَمْلَأَنَّ. وَالْحَقَّ أَقُولُ أحق الحق وأقوله. مِنْكَ أي من ذريتك وجنسك. وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ أي من ذرية آدم.
المناسبة:
هذه هي القصة الأخيرة في هذه السورة، وقد ذكرت في سور: البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف. والمقصود منها منع الحسد والكبر، لأن امتناع إبليس عن السجود كان بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا ص بسبب الحسد والكبر، وذكرت هنا لتكون زاجرا للكفار عن هاتين الخصلتين المذمومتين.
التفسير والبيان:
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ أي اذكر يا محمد قصة خلق آدم أبي البشر، حين قال الله للملائكة: إني سأخلق بشرا هم آدم وذريته، مِنْ طِينٍ تراب مخلوط بالماء، كما في آية أخرى: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر ١٥/ ٢٦].
230
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فإذا أتممت خلقه وعدلته وأكملته، وجعلته حيا بعد أن كان جمادا لا حياة فيه، فاسجدوا له، أي سجود التحية والتكريم، لا سجود العبادة. وهو أمر واجب بالسجود. والنفخ تمثيل لإفاضة مادة الحياة فيه، فليس هناك نافخ ولا منفوخ.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أي فامتثل الملائكة كلهم لأمر الله، وسجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وسجدوا مجتمعين في آن واحد، لا متفرقين.
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي سجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع مستكبرا متعاظما ولم يكن من الساجدين، جهلا منه بأنه طاعة، وكان استكباره استكبار كفر، فصار من الكافرين بمخالفة أمر الله وأنفته من السجود واستكباره عن طاعة الله، أو إنه كان من الكافرين في علم الله.
قالَ: يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ، أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قال الله له: يا إبليس ما الذي صرفك وصدك عن السجود لآدم، الذي توليت بنفسي خلقه من غير واسطة أب وأم، هل استكبرت عن السجود الآن، أم أنك كنت من القوم المتعالين عن ذلك؟ والمراد إنكار الأمرين معا.
فأجاب قائلا:
قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي إنني خير من آدم، فإني مخلوق من نار، وآدم مخلوق من طين، والنار خير وأشرف من الطين في زعمه، لما فيها من صفة الارتفاع والعلو، وأما التراب فهو خامد هابط لا ارتفاع فيه.
قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ قال الله تعالى: فاخرج من الجنة أو
231
من السموات أو من زمرة الملائكة، فإنك مرجوم بالكواكب، مطرود من رحمة الله ومحل أنسه ومن كل خير.
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي وإن طردي مستمر دائم ما دامت الدنيا إلى يوم الجزاء والقيامة، ثم في الآخرة يلقى من عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق.
قالَ: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي قال إبليس: رب أمهلني حيا، ولا تعاجلني بالإماتة إلى اليوم الذي يبعث فيه الناس، أي آدم وذريته بعد موتهم. طلب هذا ليوسوس لآدم وذريته، فيثأر من آدم الذي كان سببا لطرده من رحمة الله.
قالَ: فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قال الله تعالى:
فإنك من الممهلين، إلى اليوم الذي قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الأولى. وقد طلب إبليس الإنظار (الإمهال) إلى يوم البعث، ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث، لم يمت، فأنظره الله إلى وقت الصعق لا إلى البعث. فلما أمن الهلاك تمرد وطغى وتحدى قائلا:
قالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ أي فإني أقسم بعزتك (سلطانك وقهرك) أن أضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم، إلا الذين أخلصتهم لطاعتك، وعصمتهم من الضلالة والهوى والشيطان، فهؤلاء لا أقدر على إضلالهم وإغوائهم، كما قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الحجر ١٥/ ٤٢].
فأجابه الله تعالى:
قالَ: فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
232
أي قال الله: أنا الحق أو الحق مني ملء جهنم من إبليس وأتباعه، وأقول الحق:
لأملأن جهنم من جنسك من الشياطين، وممن تبعك من ذرية آدم، فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية. فهذا قسم من الله تعالى لإبليس أنه سيدخله وأتباعه النار حتى تمتلئ منهم. وقال الزمخشري: وَالْحَقَّ أَقُولُ أي ولا أقول إلا الحق، على حكاية لفظ المقسم به، ومعناه التوكيد والتسديد.
فقه الحياة أو الأحكام:
قصة آدم عليه السلام هذه مع إبليس اللعين: تصوير بالغ للأمر الإلهي، وبيان مدى طاعته، وتقرير العقاب على المخالف، وعناصر القصة هي:
- لقد أخبر الله الملائكة أنه سيخلق بشرا من التراب، فإذا خلقه وأحياه، فيجب عليكم أن تسجدوا له إكراما وتحية، لا عبادة وتأليها.
- فامتثل الملائكة وسجدوا كلهم مجتمعين لآدم خضوعا له وتعظيما لله بتعظيمه إلا إبليس الذي كان من جنس الجن، فخانه طبعه وجبلته، فأنف من السجود لآدم، جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى.
- سأله ربه سؤال تقرير وتوبيخ عن سبب امتناعه من السجود لما خلق الله، أكان ذلك استكبارا عن السجود أم كان من المتكبرين على ربه، فتكبر لهذا؟
- أجاب إبليس بأنه خير من آدم، لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين، والنار في زعمه أشرف من الطين لما فيها من خاصية الارتفاع والاندفاع والتعالي. وهذا جهل منه، لأن الجواهر أو العناصر متجانسة متساوية، فقاس وأخطأ القياس.
233
- كان عقابه الإخراج من الجنة، والرجم بالكواكب والشهب، والطرد والإبعاد من رحمة الله إلى يوم القيامة، لأن اللعن منقطع حينئذ.
- أراد الملعون ألا يموت، فطلب تأخيره إلى يوم البعث، فلم يجبه الله إلى ذلك، وإنما أخره إلى الوقت المعلوم، وهو يوم يموت الخلق فيه، فأخّر إليه استهانة به.
- لما أمن إبليس الهلاك طغى وتمرد وتحدى ربه، وأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات والمعاصي، وإدخال الشبه عليهم، ودعوتهم إلى المعاصي، وقد علم أنه لا يتمكن إلا من الوسوسة، ولا يفسد إلا من كان لا يصلح لو لم يوسوسه.
لهذا استثنى من تسلطه عباد الله الذين أخلصهم لطاعته وعبادته وعصمهم منه.
- أقسم الله بذاته، وأخبر أنه لا يقول إلا الحق أنه سيملأ جهنم من إبليس وأتباعه، عقابا على مخالفتهم أوامر الله، وإصرارهم على ارتكاب المعاصي.
حال الداعي وحال الدعوة ومعجزة القرآن
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨٦ الى ٨٨]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)
الإعراب:
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أصله: (لتعلمون) إلا أنه لما اتصلت به نون التوكيد الثقيلة أوجبت بناءه، لأنها أكدت الفعلية، فردته إلى أصله في البناء، فحذفت النون، فاجتمع ساكنان: الواو والنون، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة قبلها. والمعنى: لتعرفنّ، لذا تعدى إلى مفعول واحد. واللام: لام قسم مقدر، أي والله لتعلمن.
234
المفردات اللغوية:
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة والوحي والقرآن. مِنْ أَجْرٍ جعل أو عوض.
الْمُتَكَلِّفِينَ المتقولين القرآن من تلقاء نفسي أو المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله، فأنتحل النبوة والقول على الله. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ما القرآن إلا عظة بليغة للإنس والجن والعقلاء، دون الملائكة.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن يا كفار مكة وغيركم خبر صدقه وعاقبة خبره وهو ما فيه من الوعد والوعيد، بإتيانه يوم القيامة، وذلك لمن آمن به ومن أعرض عنه.
المناسبة:
هذه خاتمة شريفة لهذه السورة، يتبين فيها حال الداعي وهو الرسول ص وهو أنه لا يأخذ أجرا ومالا على هذه الدعوة، ويظهر فيها كيفية الدعوة وهي أنها لا تقوّل فيها وإنما هي وحي من عند الله، ودين يشهد بصحته العقل، وتتحدد فيها مهمة القرآن بأنه عظة للعالمين، وستظهر معجزته ووعده ووعيده يوم القيامة.
التفسير والبيان:
قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك: ما أطلب منكم من جعل أو مال تعطونيه على تبليغ رسالتي ووحي الله والنصح بالقرآن وغيره من الوحي، وما أنا من المتقوّلين على الله، حتى أقول ما لا أعلم، أو أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه.
والتكلف: التصنع والتقول والاختلاق.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي ما هذا القرآن، أو ما أدعوكم إليه إلا موعظة للخلق أجمعين، والعاقل من يشهد بصحته. ولِلْعالَمِينَ الإنس والجن. ونحو الآية: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] وقوله تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
235
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ لتعرفن أيها الكفار خبره وصدقه، من الدعوة إلى الله وتوحيده، والترغيب في الجنة، والتحذير من النار، بعد زمان قريب، إما بعد الموت، وإما يوم القيامة. قال الحسن البصري: يا ابن آدم، عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لم يطلب النبي ص على تبليغ دعوته عوضا ماديا، ولم ينشد تحقيق مكسب مالي أو مطمع دنيوي كالحكم والسلطة والجاه، وهذا دليل على صدقه في نبوته، لأن من الظاهر أن الكذاب لا بدّ من أن يظهر طمعه في طلب الدنيا، وكان ص بعيدا عن الدنيا، عديم الرغبة فيها.
٢- لم يكن النبي ص متكلفا متقوّلا ولا متخرّصا ما لم يؤمر به من عند ربه، فهو مبلّغ وحي الله بأمانة متناهية دون زيادة ولا نقص. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود قال: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، فإن الله عز وجل قال لنبيكم ص: قُلْ: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ.
وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: قال رسول الله ص: «ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: هم الرحماء بينهم، قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى، قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلّفون».
٣- تتلخص دعوة النبي ص في أصول ثمانية، هي الأصول المعتبرة في دين الله، ويشهد بصحتها كل ذي عقل سليم وطبع مستقيم وهي:
236
أولا- الدعوة إلى الإقرار بوجود الله.
ثانيا- الدعوة إلى تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى ٤٢/ ١١].
ثالثا- الإقرار بكونه تعالى موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة.
رابعا- الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد.
خامسا- الامتناع عن عبادة الأوثان التي هي مجرد جمادات، ولا منفعة في عبادتها، ولا مضرة في الإعراض عنها.
سادسا- تعظيم الأرواح الطاهرة المقدسة، وهم الملائكة والأنبياء.
سابعا- الإقرار بالبعث والقيامة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
ثامنا- الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة «١».
٤- إن ما دعا إليه النبي ص من الوعد والوعيد والإيمان بالقرآن هو عظة بليغة للعالمين، أي الجن والإنس.
وسيعلم الكفار نبأ الذكر وهو القرآن أنه حق وصدق بعد زمان قريب، إما بعد الموت وإما يوم القيامة.
(١) تفسير الرازي: ٢٦/ ٢٣٦
237

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الزّمر
مكيّة، وهي خمس وسبعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الزمر لأن الله تعالى ذكر في آخرها زمرة الكفار الأشقياء مع الإذلال والاحتقار [٧١- ٧٢] وزمر المؤمنين السعداء مع الإجلال والإكرام [٧٣- ٧٥].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة ص من وجهين:
الأول- إنه تعالى ختم سورة ص واصفا القرآن بقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وابتدأ هذه السورة بقوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، فهما كالآية الواحدة، بينهما اتصال وتلاحم شديد.
الثاني- ذكر تعالى في آخر ص قصة خلق آدم عليه السلام، وذكر في القسم الأول من هذه السورة أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلا بخلق آدم المذكور في السورة المتقدمة.
238
مشتملاتها:
موضوع هذه السورة الحديث عن التوحيد وأدلة وجود الله ووحدانيته، وعن الوحي والقرآن العظيم.
ابتدأت هذه السورة ببيان تنزيل القرآن الكريم من الله تعالى على رسوله ص، وأمر الرسول ص بإخلاص الدين لله، وتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، وتوضيح شبهة المشركين في اتّخاذ الأصنام آلهة شفعاء، وعبادتها وسيلة إلى الله تعالى، والنّعي عليهم في عبادة الأوثان.
وأردفت ذلك بإقامة الأدلة على وحدانية الله، من خلق السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر، وخلق الإنسان في أطوار مختلفة متعاقبة، ثم نددت بطبيعة المشرك وتناقضه حين يدعو الله حال الضر، وينساه حال الرخاء. ثم عادت لإيراد بعض هذه الأدلة كإنزال المطر وإنبات النبات.
ثم ذكرت مقارنة بين المؤمنين وبين الكافرين، حيث يسعد الأوائل في الدنيا والآخرة، ويشقى الآخرون فيهما، ويتمنون الفداء حين يرون العذاب.
وأشادت بعظمة القرآن الكريم حيث تقشعر من آياته جلود المؤمنين الخائفين، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله، على عكس المشركين الذين تنقبض قلوبهم عند سماع توحيد الله، كما أن القرآن يتضمن أمثالا للناس لعلهم يتذكرون.
ومن هذه الأمثال يتضح الفرق بين من يعبد إلها واحدا، وبين من يعبد آلهة متعددة لا تسمع ولا تجيب، كالعبد المملوك لسيد واحد، والمملوك لعدة شركاء متخاصمين فيه. ثم رد تعالى على المشركين الذين يتخذون الأصنام شفعاء من دون الله، ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون.
239
وأخبر الله تعالى عن موت النّبي ص وموت أصحابه، وأن الله هو المهيمن على الأرواح، فيتوفّى بعضها في أجلها، ويترك بعضها إلى أجل آخر.
ثم فتح باب الأمل أمام المسرفين، ووعدهم بمغفرة ذنوبهم إذا تابوا، وأوضح ما يرى على وجوه الذين كذبوا على الله أهل النار يوم القيامة من كآبة وحزن.
وأعقب ذلك ببيان أحوال القيامة، وحدوث نفختين: الأولى للإماتة، والثانية للإحياء من القبور، ثم يأتي الحساب والقضاء بالحق، وإيفاء كل نفس ما عملت.
وختمت السورة بتقسيم الناس يوم القيامة فريقين: فريق الكافرين الذين يساقون زمرا وجماعات إلى جهنم، ويشاهدون من أهوال المحشر، وفريق المؤمنين الذين يساقون إلى الجنان وتحييهم الملائكة، ويشاهدون في الجنة النعيم المقيم الذي يستدعي الحمد التام لله رب العالمين، ويرون الملائكة حافين حول العرش يسبحون بحمد ربهم.
فضلها:
أخرج النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ص يصوم حتى نقول: ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول: ما يريد أن يصوم، وكان ص يقرأ في كل ليلة: بني إسرائيل- أي الإسراء- والزّمر.
240
Icon