وآياتها ست وسبعون ومائة
كلماتها : ٣٧٤٠ ؛ حروفها : ١٤٥٣٥
ﰡ
- لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام، وإيصال حقوقهم إليهم، وحفظ أموالهم عليهم، ومن الأمر بالطهارة والصلاة والجهاد والدية، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن، إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى.
ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما ( يأيها الناس ) إحداهما في النصف الأول، وهي الرابعة من سوره، والأخرى في النصف الثاني، وهي أيضا الرابعة من سوره ؛ ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ :﴿ اتقوا ربكم الذي خلقكم ﴾، والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد :(.. إن زلزلة الساعة شيء عظيم )( ١ ) ؛ ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة، أما القيد الأول وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه، والخشوع لأوامره ونواهيه، لأن المخلوقية هي العبودية، ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه، في كل ما يأمره وينهاه، وأيضا الإيجاد غاية الإحسان، فيجب مقابلتها بغاية الإذعان، ... ، وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهرعلى وجود مدبر مختار، وحكيم قدير ؛ ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة ؛ ثم في هذا القيد فوائد أخر، منها : أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان، وكونهم متفرعين من أصل واحد، ... أعون على هذا المعنى، .. ، ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يقرأ كتابا ؛ وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا : هو آدم عليه السلام ( ٢ ) ؛ ﴿ وخلق منها زوجها ﴾ وخلق
الله من النفس الواحدة والشخص الواحد الذي هو آدم عليه السلام الزوج الثاني( ٣ ) له وهي حواء ؛ عن قتادة :﴿ وخلق منها زوجها ﴾ يعني حواء، خلقت من آدم من ضلع من أضلاعه ؛ ﴿ وبث منهما رجالا ونساء ﴾ ونشر الله تعالى وفرق من آدم وحواء وخلق منهما رجالا كثيرا ونساء كثيرات ؛ ﴿ واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام ﴾ قال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به( ٤ )، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها ؛ ﴿ إن الله كان عليكم رقيبا ﴾ أي : هو مراقب لجميع أحوالهم وأعمالهم، كما قال :(.. والله على كل شيء شهيد ) ( ٥ )، وفي الحديث الصحيح : " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة، ليعطف بعضهم على بعض، ويحثهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار، أي من عريهم وفقرهم قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته :﴿ يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ﴾ حتى ختم الآية، ثم قال :( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد.. ) ( ٦ ) ثم حضهم على الصدقة، فقال : " تصدق ( ٧ ) رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " وذكر تمام الحديث ( ٨ ).
٢ من تفسير غرائب القرآن. ورغائب الفرقان..
٣ قال ابن سيده: الزوج: الفرد الذي له قرين؛ ويدل على أن الزوجين في كلام العرب اثنان قول الله عز و جل:(وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى) فكل واحد منهما – كما ترى- زوج ذكرا كان أو أنثى؛ والرجل زوج المرأة وهي زوجه وزوجته؛ وفي حديث أبي ذر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة" قلت: وما زوجان من ماله؟ قال: عبدان أو فرسان أو بعيران من إبل؛ وكان الحسن يقول: دينارين ودرهمين وعبدين واثنين من كل شيء..
٤ حذفت من كل من الفعلين إحدى التاءين، وأصلهما: تتعاهدون وتتعاقدون..
٥ سورة البروج. من الآية ٩..
٦ سورة الحشر. من الآية ١٨..
٧ خبر يراد به الطلب، أي: ليتصدق..
٨ من تفسير القرآن العظيم..
أمر الله تعالى أن نعطي الصغار الذين فقدوا آباءهم أن نعطيهم حقوقهم كاملة وأموالهم حين بلوغهم سِن التكليف، ﴿ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ﴾ قال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها الشاة المهزولة، ويقول شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم ؛ وأقول فعلى هذا يكون المعنى : لا تفعلوا ذلك، فإن من فعل وظن أنه بهذا الاستبدال قد غنم فقد وهم، فهو بظلمه قد ترك ما كان حلالا طيبا، لأنه كسب مشروع، وأخذ سحتا وحراما لأنه حق لغيره، وإنما قلت ذلك لأن الباء تدخل على المتروك، ففي محكم التنزيل :(.. أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. ) ( ١ ) ؛ ﴿ إنه كان حوبا كبيرا ﴾ إن الاستبدال الجائر الذي يقتطع به حق اليتيم إثم عظيم، ومن الخطأ الكبير كذلك أكلكم أموالهم مع أموالكم، قال مجاهد وسعيد بن جبير : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا ؛
في صحيح البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق( ١ )، وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه ﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا ﴾، أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ؛ وفيه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى :﴿ وإن خفتم ألا تقسطوا ﴾ قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن، ويبلغوا بهم أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ؛ قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله :﴿ ويستفتونك في النساء ﴾ ( ٢ )، قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى :( وترغبون أن تنكحوهن ) رغبة أحدهم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال ؛ والإقساط : العدل، والله تعالى يقول :(.. وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) ( ٣ )، بخلاف قسط، فإنها تعني : جار وظلم، جاء في الكتاب العزيز :( وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) ( ٤ ) ؛ ﴿ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ﴾ إن غلب على ظنكم أن تجوروا وتظلموا اليتيمة التي تتولون أمرها إذا تزوجتموها فتزوجوا من يحل لكم من النساء غيرها، وتطيب به نفوسكم وتستحسنوه، إن شاء أحدكم اثنتين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا ؛ إن قيل : كيف جاءت ﴿ ما ﴾ للآدميين وإنما أصلها لما لا يعقل ؟ ؛ فعنه أجوبة خمسة : الأول أن مَن وما قد يتعاقبان ؛ قال الله تعالى :( والسماء وما بناها ) ( ٥ ) أي : ومن بناها ؛ وقال :(.. فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع.. ) ( ٦ ) ؛ ف ﴿ ما ﴾ ههنا لمن يعقل وهن النساء _( ٧ ) ﴿ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ﴾ قال الضحاك : في الميل والمحبة والجماع والعشرة، والقسم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنين، فواحدة ؛ ﴿ أو ما ملكت أيمانكم ﴾ من غلب على ظنه أنه لن يقدر على العدل بين الزوجتين أو الزوجات فليتزوج بواحدة يقتصر عليها ولا يتجاوزها، أو يستمتع بالجارية المملوكة ؛ _ وفيه دليل على أنه لا حق لمملوكات في القسم، كما يدل على ذلك جعله قسيما للواحدة في الأمن من العدل ؛ وإسناد الملك إلى اليمين، لكونها المباشرة لقبض الأموال وإقباضها، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب، .. ، قوله :﴿ ذلك أدنى ألا تعولوا ﴾ أي : ذلك أقرب إلى ألا تعولوا( ٨ )_( ٩ ) ؛
٢ سورة النساء. من الآية ١٢٧..
٣ سورة الحجرات. من الآية ٩..
٤ سورة الجن. الآية ٤٥..
٥ سورة الشمس. الآية ٥..
٦ سورة النور. الآية ٤٥..
٧ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن..
٨ عن زيد بن أسلم وجابر بن زيد، وأبي إدريس الشافعي: تعولوا: تكثر عيالهم؛ وخاف في ذلك الثعلبي وابن العربي والزجاج؛ لكن الكسائي والدوري وابن الأعرابي حكوا أن العرب تقول: عال الرجل إذا كثر عياله..
٩ من فتح القدير للشوكاني..
٢ مما جاء في تفسير غرائب القرآن.. للحسن النيسابوري القمي؛ ثم أردف يقول: على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك.. ومن هذا التقرير يظهر أن من في قوله﴿ منه﴾ للتبعيض.. ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن (من) للتبيين والمعنى: عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. ا هـ.
في الآية الثانية من هذه السورة أمَر المولى سبحانه أن نعطي اليتيم ماله دون بخس، وكأن هاتين الآيتين الكريمتين لبيان الحين الذي تدفع إليهم أموالهم فيه، فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا قد رشدوا، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد ؛ عن سعيد بن جبير : لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا ؛ _ والمراد بالرشد نوعه، وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها، ووضعها في مواضعها ؛.. واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء، فقيل : أضافها إليهم أنها بأيديهم وهم الناظرون فيها، كقوله :( فسلموا على أنفسكم.. ) ( ١ ) ؛... ، أي : ليسلم بعضكم على بعض ؛... ، ﴿ التي جعل الله لكم قياما ﴾... القيام والقوام : ما يقيمك، يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته، وهو الذي يقيم شأنه : أي يصلحه، ... ، وهو منصوب على المصدر : أي لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما، وقال الأخفش : المعنى قائمة بأموركم، فذهب إلى أنها جمع ؛ وقال البصريون : قيما جمع قيمة، .. : أي جعلها الله قيمة للأشياء_( ٢ ) ؛ ﴿ وارزقوهم فيها واكسوهم ﴾ مهما يكن السفيه ممنوعا من التصرف في ماله لصغر أو عدم رشد فإن على وصيه أن يعطيه ما لابد له من طعام وشراب وكسوة ؛ ﴿ وقولوا لهم قولا معروفا ﴾ فكما جرى له الأقوات ووفر له الكساء والأرزاق يتعهده بما يحبب إليه مكارم الأخلاق.
٢ من فتح القدير؛ بتصرف يسير..
﴿ وابتلوا اليتامى ﴾ اختبروا من كان يتيما قبل أن تسلموا إليه ماله، فليتأمل الوصي أخلاق مكفوله، فإن تبين نجابته، وقدرته على رعاية المال، وحسن التصرف فيه فلا بأس أن يدفع إليه شيئا ليرى كيف يدبره، وهو مع ذلك يراعيه لئلا يتلفه ؛ ﴿ حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾ وحين تظهر علامات البلوغ على اليتيم المحجور عليه، ومنها : الإنبات_إنبات شعر إعانة_ والاحتلام، أي الرؤيا المنامية التي تجعله ينز الماء الدافق، ومنها : بلوغ خمس عشرة سنة أو سبع عشرة على خلاف بين الفقهاء في ذلك، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى، وتختص الأنثى بالحبل والحيض.
﴿ فإن آنستم منهم رشدا ﴾ فإن رأيتم من هؤلاء الذين كانوا صغارا يتامى فبلغوا ورأيتم منهم حسن تصرف في أموالهم فادفعوها إليهم وأعطوهم إياها ؛ ﴿ ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ﴾ عن السدي والحسن : لا تسرف فيها_ وأصل الإسراف تجاوز الحد المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان ذلك في التقصير_ لا تسرف فيها، ولا تبادر، تبادرًا أن يكبروا فيأخذوا أموالهم ؛ ﴿ ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ﴾ روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها : إنما نزلت في والي اليتيم( ١ ) إذا كان فقيرا ؛ أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف ؛ والعفة : النزاهة عن الشيء ؛ وعن سعيد وغيره : يأخذ بقدر ما يحتاج إله قرضا( ٢ )، ثم إذا أيسر قضاه ؛ ﴿ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ﴾ نادى الله تعالى الأوصياء أن يشهدوا على دفع ما كان تحت وصايتهم مِن مال مَن كانوا يتامى إلى أصحابه_ وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء ؛.. ، وقالت طائفة : هو فرض، وهو ظاهر الآية_( ٣ ) ؛ ﴿ وكفى بالله حسيبا ﴾ كفى الله تعالى حاسبا لأعمالكم وشهيدا عليها ومجازا بها.
٢ أكثر العلماء على أن الاقتراض جاء في أصول الأموال، أما التناول من ألبان المواشي/ أو ركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال..
٣ من الجامع لأحكام القرآن..
" الشفعة في كل مالا يقسم فإذا وقعت الحدود فلا قسمة "، وأخرج الدارقطني _بسنده_ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم " ؛ قال أبو عبيد : هو أن يموت الرجل ويدع شيئا إن قسم بين ورثته كان في ذلك ضرر على جميعهم أو على بعضهم ؛ يقول : فلا يقسم ؛ وذلك مثل الجوهرة والحمام والطيلسان وما أشبه ذلك ؛ والتعضية : التفريق ؛ و.. ومنه قوله تعالى :( الذين جعلوا القرآن عضين ) ( ١ ) ؛ وقال تعالى :( غير مضار.. ) فنفي المضارة ؛ وكذلك قال عليه السلام : " لا ضرر ولا ضرار " _( ٢ ) ؛ قال الفراء :﴿ نصيبا مفروضا ﴾ هو كقوله : قسما واجبا، وحقا لازما ؛ فهو اسم في معنى المصدر فلهذا انتصب ؛ والمفروض :
المقدر الواجب ؛
٢ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرأن..
أخرج البخاري عن ابن عباس قال : إن ناسا يزعمون أن هذه الآية نسخت، ولا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس بها ؛ هما واليان : والٍ يرث، وذلك الذي يرزق، ووالٍ لا يرث، وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول : لا أملك لك أن أعطيك ؛ قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث ؛ قال النحاس : فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير، والشكر لله عز وجل.
عن ابن عباس : هذا وعظ للأوصياء، أي : افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأوليائكم من بعدكم ؛ وعن مجاهد وغيره : هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة ؛ وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي ؟، قال : " لا "، قال : فالشطر ؟ قال : " لا "، قال : فالثلث ؟ قال :" الثلث والثلث كثير " ثم قال رسول الله صلى اله عليه وسلم : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس "، وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الثلث والثلث كثير ".
روى الشيخان _البخاري ومسلم_ في صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " _ أي المهلكات _قيل : يا رسول الله، وما هُن ؟ قال : " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " ؛ وسمى اقتطاع مال اليتيم بغير حق أكلا أن الأثر في الإتلاف للشيء يكون بالأكل ؛ وسمى المأكول نارا باعتبار ما يئول إليه ؛ وخص البطون للتأكيد، كما في قول الله سبحانه :(.. يقولون بأفواههم.. ) ( ١ )، و { ظلما { أي : أخذا ظلما، أو : أكل ظلم، أو نصب على الحالية، أي : ظالمين لهم ؛ والسعير : الجمر المستعر ؛ والصلاء : التسخين بقرب النار، أو مباشرتها.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عَليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت ﴿ يوصيكم الله في أولادكم ﴾ يعَْلِمُكم الله سبحانه ويعهد إليكم إذا مات الميت وخلف أولادا ذكورا وإناثا فميراثه يقسم بينهم : تأخذ البنت نصف ما يأخذ الابن ؛ ﴿ فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ﴾ فإن لم يترك المتوفى أبناء وكان المتروكات بنات للميت ثنتين فأكثر، فلبناته الثلثان من ميراثه ؛ ﴿ وإن كانت واحدة فلها النصف ﴾ وإن كان المتروك للمتوفى ابنة واحدة، ليس معها ولد ذكر، فلهذه البنت نصف ميراث أبيها ؛ ﴿ ولأبويه لكل واحدة منها السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس ﴾ الآية بينت في بدايتها نصيب الأولاد حين ينفردون، وههنا بينت ماذا لهم وماذا للأبوين إذا اقتسموا التركة، ومعلوم أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى، فللأبوين سدسان والباقي للأولاد ؛ فإن انفرد الوالدان ولم يكن معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما فللأم الثلث، والباقي للأب ؛ فإذا وجد مع الأبوين إخوة وأخوات حجبوا الأم من الثلث إلى السدس ؛ ﴿ من بعد وصية يوصي بها أو دين ﴾ كل ما ذكر من أنصباء الورثة تدفع إليهم بعد إنفاذ وصية المتوفى، وبعد قضاء ما كان عليه من دين، فإن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما ؛ ﴿ آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ﴾ لا تعرفون من الذي فتح الله تعالى به أبواب الخير لكم أمَن أوصى ببعض ماله أم من لم يوص، إذ بإمضائكم وصية مَن أوصى تتعرضون لثواب الآخرة ؛ ﴿ فريضة من الله ﴾ فرض الله ذلك فرضا ؛ ﴿ إن الله كان عليما ﴾ ( بكل المعلومات، فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد ﴿ حكيما ﴾ لا يأمر إلا بما هو الأحسن.. ﴿ كان ﴾ ههنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان، ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم ؛...
٢ من الجامع البيان..
ومن تنكب طريق الله، وحاد عن سنن رسوله، وخرج على أمر ربه يسكنه في الآخرة دار البوار، ويصليه لهب النار، وتعلوه الحسرة والذل والصغار، يمكث في هذا الحريق والعذاب ؛ والعصيان إن أريد به الكفر فالخلود على بابه، وإن أريد به الكبائر وتجاوز أوامر الله تعالى فالخلود مستعار لمدة ما ؛ كما تقول : خلد الله ملكه_ " ( ١ ).
﴿ واللاتي ﴾ اسم موصول للجمع من النساء ؛ ﴿ يأتين ﴾ يرتكبن ويباشرن ويفعلن ؛ ﴿ الفاحشة ﴾ الخطيئة البالغة القبح وهي الزنا ؛ ﴿ فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ﴾ تمهلوا حتى يكتمل الشهود على إفحاشهن أربعة من الرجال العدول المسلمين، والخطاب : للحكام، وقيل : للأزواج، ﴿ فإن شهدوا ﴾ فإن شهد عليهن العدول أربعة بأنهن فعلن الفاحشة ثبتت الجريمة بشهادتهم، ﴿ فأمسكوهن في البيوت ﴾ وكانت العقوبة حبس المفحشة في بيت ولا تمكن من الخروج ﴿ حتى يتوفاهن الموت ﴾ إلى أن تقبض أرواحهن بالموت ﴿ أويجعل الله لهن سبيلا ﴾ أو يشرع الله فيهن حكما آخر، ومخرجا مما صرن إليه من الحبس ؛ في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد( ١ ) وجهه، قال : فأنزل عليه ذات يوم، فلقي كذلك، فلما سري عنه قال : " خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر( ٢ ) جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب( ٣ ) جلد( ٤ )مائة والرجم ".
٢ قال العلماء: ليس على سبيل الاشتراط، بل حد البكر: الجلد والتغريب سواء زنا بكر أم ثيب..
٣ الثيب بالثيب قال العلماء فيه ما قالوه في "البكر بالبكر" فالأمر فيهما شبيه بالتقييد الذي يخرج على الغالب، وحد الثيب الرجم سواء زنا بثيب أم بكر؛ والمراد بالبكر من الرجال والنساء من لم يجامع في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل، سواء جامع بوطء شبهة أو نكاح فاسد أو غيرها أم لا؛ والمراد بالثيب: من جامع في دهره ولو مرة في نكاح صحيح، وهو بالغ عاقل حر، والرجل والمرأة في هذا سواء، وسواء المسلم والكافر والرشيد والمحجوز عليه..
٤ مما يقول أبو جعفر: السبيل التي جعلها الله جل ثناؤه للثيبين المحصنين الرجم بالحجارة، وللبكرين جلد مائة ونفي سنة لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم ولم يجلد..
قال مجاهد وغيره : الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة، وبين بلفظي التثنية صنفي الرجال من أحصن ومن لم يحصن ؛ فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى ؛ وقال قتادة والسدي :﴿ فآذوهما ﴾ ونحوهما ؛ وقال ابن عباس : النيل باللسان والضرب بالنعال ؛ ﴿ فإن تابا ﴾ _أي من الفاحشة ؛ ﴿ وأصلحا ﴾ يعني العمل فيما بعد ذلك ؛ ﴿ فأعرضوا عنهما ﴾ أي اتركوا أذاهما وتعييرهما ؛ وإنما كان هذا قبل نزول الحدود ؛ فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية ؛ وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة مُعرض ؛ وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى ؛ والله تواب أي راجع بعباده عن المعاصي_( ١ ).
أمر الله تعالى عباده بالإنابة إليه، والعودة إلى سبيله ومنهاجه، والرجوع عما فعلوا من عصيان، فقال تقدست أسماؤه :( وأنيبوا إلى ربكم.. ) ( ١ )، وقال عز ثناؤه :(. وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) ( ٢ ) ؛ وقال :( يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا.. ) ( ٣ ) ؛ ووعد سبحانه بقبول من أناب إليه( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيآت.. ) ( ٤ )، والتائبون هم أهل الفوز برضاه :(.. إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ( ٥ ) ؛ ومن أسمائه الحسنى : التواب :(.. وأن الله تواب حكيم ) ( ٦ ) ؛ فكأن معنى الآية : ما قبول توبة من تاب إلا مِن المولى سبحانه، فإن على تأتي بمعنى مِن، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض كما في الآية الكريمة :( ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده.. ) ( ٧ )، أي : منهم ؛ وذلك القبول يمنح للذين يفعلون المعاصي ثم يتوبون دون تسويف وتأخير ؛ فهؤلاء المنيبون يتجاوز الله عن سيآتهم ؛ وأما ﴿ بجهالة ﴾ فقد نقل عن مجاهد أنه قال : الجهالة هنا العمد، وقال قتادة : أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا ؛ وقال الزجاج : اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية.
٢ من سورة النور. من الآية ٣١..
٣ من سورة التحريم. من الآية ٨..
٤ من سورة الشورى. من الآية ٢٥..
٥ من ور البقرة. من الآية ٢٢٢..
٦ من سور النور. من الآية ١٠..
٧ من سورة التوب. من الآية ١٠٤..
حضور الموت : أي حضور علاماته ؛ عن ابن عباس ما حاصله : نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين من حضره الموت وصار في حين اليأس ؛ كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان ؛ لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف ؛ ولا تقبل كذلك توبة من مات على الكفر إذ لا توبة في الآخرة ؛ و ﴿ أعتدنا ﴾ أي : هيأنا وأعددنا لمن لم يتب إلا عند حضور علامات الموت، ولمن مات على كفره دون توبة، هيأنا لهم عذابا أليما موجعا.
٢ من تفسير غرائب القرآن..
٣ المعنى: لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها، ولا ينبغي له ذلك، بل يغفر سيئتها لحسنتها، ويتغاضى عما يكره لما يحب.
في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : " الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب " قالها ثلاثا، فقال الرجل : يا رسول الله ؟ مالي ! - يعني ما أصدقها- قال : " لا مال لك إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها " وقد استدل بعض علماء الأحكام بما في الآية على جواز إغلاء المهور، واستشهدوا بآثار كريمة( ١ ) ؛ ﴿ أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا ﴾ البهتان : الكذب الذي يبهت ويحير المكذوب عليه، والباطل الذي يُتحيَر من بطلانه، والإثم المبين : الذنب الواضح الظاهر ؛ والاستفهام للإنكار والتوبيخ.
إنكار بعد إنكار، وتعجيب من حال من يفعل ذلك ؛ والإفضاء : الوصول إلى الشيء والاتصال به ومخالطته، هذا في اللغة، أما ههنا : فعن مجاهد والسدي : مجامعة النساء ؛ وعن ابن عباس : الإفضاء : المباشرة، ولكن الله كريم يكني عما يشاء. ا ه. والميثاق الغليظ الذي أخذه الله للنساء على الرجال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويشهد لهذا ما جاء في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع : " واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " ؛
نهى الله تعالى عن تزويج الابن من زوجةٍ كانت مِن قبلُ زوجةً لأبيه، لكن ما سلف من هذا الغي ومضى فاجتنبوه ودعوه ؛ - وقيل :﴿ إلا ﴾ بمعنى بعد، أي بعد ما سلف ؛ كما قال تعالى :( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى.. ) ( ١ )، أي : بعد الموتة الأولى ؛ وقيل :﴿ إلا ما قد سلف ﴾ أي : ولا ما سلف ؛ كقوله تعالى :﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ.. ﴾ أي ولا خطأ ؛... وقيل في الآية إضمار.. ﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ﴾ فإنكم إن فعلتم تعاقبون وتؤاخذون إلا ما قد سلف-( ٢ ) ؛ ﴿ إنه ﴾ إن زواج من سبق أن تزوجها الأب ﴿ كان فاحشة ﴾ كان ذنبا قبيحا مفحشا، ﴿ ومقتا ﴾ يستنزل مقت الله تعالى وسخطه، أو : يزرع البغضاء بين الابن وأبيه، ﴿ وساء سبيلا ﴾ وبئس هذا الصنيع طريقا، يُذَم مرتكبه، وتسوء عاقبته( ٣ ).
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
٣ نقل ابن كثير عن الإمام أحمد وأهل السنن عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة: أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله؛ وقال الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال مر بي عمي الحارث بن عمير ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أي عم أين بعثك النبي؟ قال: إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه..
عن ابن حميد- بسنده- عن عمرو بن سالم مولى الأنصار قال : حرم النسب سبع، ومن الصهر سبع، ﴿ حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ﴾- فهؤلاء محرمات، بالنسب- ومن الصهر :﴿ .. أمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نساءكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ﴾ ثم قال ﴿ والمحصنات من النساء.. ﴾ ومِن قبل قال تبارك وتعالى :﴿ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء.. ﴾- ( فكل هؤلاء اللواتي سماهن الله تعالى وبين تحريمهن... محرمات غير جائز نكاحهن لمن حرم الله ذلك عليه من الرجال بإجماع جميع الأمة لا اختلاف بينهم في ذلك.. ) ( ١ ) ؛ ما جاء في روح المعاني : ليس المراد تحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين، فالكلام على حذف مضاف، بدلالة العقل، والمراد : تحريم نكاحهن، لأنه معظم ما يقصد منهن، ولأنه المتبادر إلى الفهم، ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، .. والجملة إنشائية، وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي، ... و ﴿ أمهاتكم ﴾ تعم الجدات كيف كن، ... ، والمراد بالبنات : من ولدْتها أو ولدت مَن ولَدَها، ..... ، والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث- الأخت لأبوين، والأخت لأب، والأخت لأم-، وكذا الباقيات، .. ، ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات، ..... ، ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر، يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر :...... ، ﴿ { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ﴾ عطف على سابقه، ... ومعنى-الرضاعة- لغة : مص الثدي، شرعا : مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير... ، ... ، لا فرق بين المص والسقوط ونحوه، ... ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "، ...... ﴿ وأمهات نسائكم ﴾ شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب ؛ والمراد بالنساء : المنكوحات- من أبرم عقد نكاحهن- على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أو لا، وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة ؛... ﴿ وربائبكم اللاتي( ٢ ) في حجوركم ﴾.. والربيب : ولد المرأة من آخر، سمي به لأنه يربه -يرعاه- غالبا كما يرب ولده. ا ه ؛ ﴿ من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ﴾ الربيبة تحرم على من دخل بأمها، ﴿ فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ﴾ فأما إذا عقد على أم الربيبة ثم طلقها قبل الدخول فلا إثم عليه بعد تطليق أمها أن يتزوج من تلك الربيبة، وكذا إن ماتت أمها قبل أن يدخل بها. ﴿ وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ﴾ أي : وحرم الله عليكم أن تتزوجوا زوجات أبنائكم لا مَن تتبنونهم -وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإنها حرام أيضا كحليلة الابن من النسب-( ٣ )، ﴿ وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سف ﴾ وحرم الله عليكم أن تجمعوا بين الأختين في الزواج- ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة- لكن ما سلف ومضى من هذا فلا تفعلوه، بعدما كان البعض يفعل، ﴿ إن الله كان غفورا رحيما ﴾ إن المولى المعبود- تباركت آلاؤه وتقدست أسماؤه- كان وما يزال يستر زلات المستغفرين، ويصفح عن معاقبتهم عليها، واسع الرحمة أن يعذبهم بعد توبتهم.
٢ وصف الربائب بكونهن في الحجور- يعني في حضن زوج الأم- لبيان الواقع غالبا وعادة، فهو قيد لبيان الواقع وليس للاحتراز، وإلا لو قيد التحريم بقيد كونهن في الحجور لانتفى بانتفائه؛ وترتب على ذلك حل الربيبة إذا لم تكن في الحجر؛ وفي هذا خروج على الإجماع..
٣ ما أورد الألوسي..
٢ وفي رواية له عن أبي سعيد كذلك مرفوعا:" لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض..
٣ من سورة الحشر. من الآية ٧..
٤ من الجامع لأحكام القرآن..
٥ من جامع البيان..
﴿ ومن لم يستطع منكم طولا ﴾ الذي لا يجد منكم من المال سعة تمكنه ﴿ ينكح المحصنات المؤمنات ﴾ أي : يتزوج من حرة مؤمنة ﴿ فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ﴾ فليتزوج جارية مسلمة مملوكة لواحد من إخوانه المؤمنين ؛ مما يقول ابن زيد : لم يحل الله ذلك لأحد إلا لمن لا يجد ما ينكح به حرة، ( فينكح هذه الأمة، فيتعفف بها ) وينفق عليها، ولم يحل له حتى يخشى العنت ؛ ﴿ والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض ﴾ حقيقة إيمانها وإيمانه يعلمها الله سبحانه، فما دامت أظهرت الإسلام حل للمسلم الذي عجز عن التزوج من حرة مسلمة، وخاف على نفسه الوقوع في الزنا إن بقي دون زوجة أن يتخذها زوجة، ونفوض-كالشأن في كل أمر- علم الحقيقة والسرائر لله الذي لا تخفى عليه خافية ؛ ﴿ فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف ﴾ فتزوجوا من هؤلاء الجواري الإماء بإذن مواليهن وسادتهن، وأعطوهن مهورهن بما يقره الشرع ويرضاه أهل استقامة العقل والطبع، ولا يبخسوهن منه شيئا استهانة بهن لأنهن إماء ؛ ﴿ محصنات ﴾ عفائف ؛ ﴿ غير مسافحات ﴾ غير زوان معلنات بالزنى ؛ ﴿ ولا متخذات أخدان ﴾ ولا مستسرات بالزنى مع الأخلاء والأصدقاء ؛ ﴿ فإذا أحصن ﴾ فإذا صارت الجارية المؤمنة العفيفة متزوجة، ﴿ فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ﴾ قال أبو عمر : ظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألا حد على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن، فكان ذلك زيادة بيان. اه.
في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل : يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ فأوجب عليها الحد ؛ يقول أبو عبد الله القرطبي : والأمر عندنا أن أمة إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا رجم عليها، لأن الرجم لا يتنصف ؛... ؛ وذكر في الآية حد الإماء خاصة، و لم يذكر حد العبيد ؛ ولكن حد العبيد والإماء سواء، خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف وشرب الخمر أربعون ؛ لأن حد الأمة إنما نقص لنقصان الرق فدخل الذكور في ذلك بعلة المملوكية ؛...
﴿ وأن تصبروا خير لكم ﴾ أي : الصبر على الغربة خير من نكاح الأمة، ... ا ه، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ ومولانا المعبود بحق- تقدست أسماؤه- عظيم عفوه عمن لم يقدر على نكاح الحرة وخاف على نفسه الزنا، وعفوه سبحانه عميم وستره وصفحه عن كل مستغفر، ورحمته تتسع لكل مؤمن مستقيم.
﴿ يريد الله ليبين لكم ﴾ قال الفراء : العرب تعاقب بين لام كي، وأن، فتأتي باللام التي على معنى كي في موضع أن في : أردت وأمرت، فيقولون : أردت أن تفعل، وأردت لتفعل، ومنه :( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم.. )( ١ )، (.. وأمرت لأعدل بينكم.. ) ( ٢ )، (.. وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) ( ٣ ) ؛ ومن فضل الله تعالى على الناس أوضح سبحانه وبين، وأوحى إلى نبيه ما حدث به لمزيد البيان، وقال في محكم القرآن :(.. وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم..... ) ( ٤ ) ؛ ﴿ ويهديكم سنن الذين من قبلكم ﴾ ويرشدكم ويدلكم على طريق من سبقكم، فرسالة ربنا الخاتمة فيها حكم ما بيننا، ونبأ من سبقنا، وحجة وبرهان من ربنا، ( ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ) ( ٥ ) ؛ فإن أريد بالسابقين : الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فالهداية في اتباعهم :( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.. ) ( ٦ ) ؛ وإن أريد بهم من جعلهم الله نكالا، فالله يعرفنا أنهم لما تركوا أوامره وعصوا رسله، دمر عليهم، ليكون في ذلك لنا معتبرا ؛ ﴿ ويتوب عليكم ﴾ والله يريد أن يتوب عليكم، - فتلافوا ما فرط منكم بالتوبة، يغفر لكم ذنوبكم-( ٧ ) ﴿ والله عليم حكيم ﴾ ( والله ذو علم بما يصلح عباده في أديانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم، حكيم بتدبيره فيهم في تصرفاتهم فيما صرفهم فيه ) ( ٨ ).
٢ سورة الشورى. من الآية ١٥..
٣ سورة الأنعام. من الآية ٧١..
٤ سورة النحل. من الآية ٤٤..
٥ من سورة النور. الآية ٣٤..
٦ من سورة الأنعام. من الآية ٩٠..
٧ من فتح القدير..
٨ من جامع البيان..
مما جاء في روح المعاني : إذا فسر ﴿ يتوب ﴾ أولا : بقبول التوبة والإرشاد مثلا ؛ وثانيا : بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا ؛..... ، ﴿ ويريد الذين يتبعون الشهوات ﴾ يعني الفسقة، أنهم يدورون مع شهوات أنفسهم ؛..... ؛ ﴿ أن تميلوا ﴾ عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم ؛.. ﴿ ميلا عظيما ﴾ بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة، واعترف بأنها خطيئة، ولم يستحل.
﴿ تأكلوا ﴾ تأخذوا وتملكوا. ﴿ بالباطل ﴾ بما خالف الشرع.
﴿ تجارة ﴾ معاوضة ومقابلة بين شيئين.
﴿ ولا تقتلوا أنفسكم ﴾ لا يقتل بعضكم بعضا، أو : لا يفعل أحدكم ما يزهق روحه.
نهى الله تعالى أهل الإيمان أن يأخذ أحد مالا إلا على طريقة شرعها في دينه الحنيف ؛ مما قال السدي : نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا والقمار والبخس والظلم ؛ قال ابن كثير : وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في قالب الحكم الشرعي ما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ؛ ﴿ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ إلا أن تكون الأموال أموال تجارة فحذف المضاف وأقيم إليه مقامه ؛ - والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبَد عوضا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض من فعله ؛ قال الله تعالى :( يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) ( ١ ) ؛ وقال تعالى :(... يرجون تجارة لن تبور ) ( ٢ ) ؛... ؛ وهي نوعان : تقلب في الحضر من غير نقلة ولا سفر، وهذا تربص واحتكار، قد رغب عنه أولو الأقدار، وزهد فيه ذوو الأخطار ؛ والثاني تقلب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة، وأعم جدوى ومنفعة ؛.... ؛ ويستحب للتاجر ألا تشغله تجارته عن أداء الفرائض ؛ فإذا جاء وقت الصلاة ينبغي أن يترك تجارته حتى يكون من أهل هذه الآية ؛ ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.. ) ( ٣ )-( ٤ ) ؛ وهناك أموال تستفاد بالحلال ولا تسمى تجارة، كالهبة والإرث، وأخذ الصدقات، والمهور، و أروش الجراحات ؛ ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما. ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا ﴾ - أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية : النهي أن يقتل بعض الناس بعضا- ؛ ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه -( ٥ ) ؛ في الصحيحين :" من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة " وفي الصحيحين أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكينا نحر بها يده فما رفأ الدم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة " ؛
٢ سورة فاطر. من الآية ٢٩..
٣ سورة النور من الآية ٣٧..
٤ من الجامع لأحكام القرآن؛ بتصرف يسير..
٥ من الجامع لأحكام القرآن؛ بتصرف يسير..
﴿ عدوانا ﴾ تعديا على حق الغير.
﴿ وظلما ﴾ وجورا عن الحق والعدل. ﴿ نصليه ﴾ نذيق جلده.
قال ابن جرير ما حاصله :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى كل ما نهى عنه من آخر وعيد، وهو قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها.. ﴾ لأن كل ما نهى عنه من أول السورة قرن به وعيد، إلا من قوله :﴿ يأيها الذين آمنوا لا يحل لكم ﴾ فإنه لا وعيد بعده إلا قوله :﴿ ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما ﴾ وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص، أو قتل الخطأ.
﴿ كبائر ما تنهون عنه ﴾ مناهي الله التي توجب الحد أو صرح عليها بالوعيد.
من يبتعد عن فعل الذنوب العظيمة التي أوجب الله على فاعلها الحد، أو صرح عليها بوعيد، فإنه إن يفعل ذنبا صغيرا يستره ربه عليه ولا يؤاخذه به، وفوق ذلك يتفضل عليه بإدخاله دار النعيم والكرامة والخلد ؛ وهذه البشرى كالتي بينها قول الحق- تقدست أسماؤه :(.. ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.. ) ( ١ )، وقد أورد في الحديث النبوي الشريف صحاح كثيرة تبين عظائم الذنوب، روى الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " ( ٢ ) ؛ ورويا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه "، وفيهما كذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله، أي الذنب أعظم ؟ وفي رواية : أكبر ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ثم قرأ :( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب.. ) ( ٣ ) ؛ وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر " ؟ قلنا : بلى يا رسول الله، قال : " الإشراك بالله وعقوق الوالدين " - وكان متكئا فجلس، فقال : " ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور "، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت ؛ وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل : يا رسول الله، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " ؛ عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس، فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع. ( ٤ )
٢ اللؤلؤ والمرجان..
٣ حديث رقم ٤٣. والآيات من سورة الفرقان..
٤ نقل هذا ابن جبير، وروايته عن سعيد بن جبير عنه، بزيادة: غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار..
﴿ ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ﴾ التمني : نوع من الإرادة يتوجه إلى المستقبل، فمن رغب في تحقيق خير وبر له، وتمنى أن يكون له مثل ما منح آخر من غير تمني زوال منحة الغير، فهذا يسمى غبطة، ولا حرج على من كان كذلك- شرعا- لأن هذا الحال ليس فيه تحاسد ولا تباغض ؛ لكن المنهي عنه في الآية هو الرغبة في أن ينتقل إليه ما عند الآخر ؛ عن ابن عباس : لا يتمنى الرجل يقول : ليت أن لي مال فلان وأهله، فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله ؛ ومما نقل عن السدي : الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، وقالت النساء( ١ ) : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال فإنا لا نستطيع القتال، ولوكتب علينا القتال لقاتلنا ؛ ﴿ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ أورد ابن جرير – بسنده – عن أبي جرير يقول : لما نزل :﴿ للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ قالت النساء : كذلك عليهم نصيبان من الذنوب كما لهم نصيبان مِن الميراث ! فأنزل الله :﴿ للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ يعني : الذنوب ؛ ورجحه ابن جرير- رحمه الله- وعن قتادة – ومال إليه القرطبي- : يريد : من الثواب والعقاب ﴿ النساء ﴾ كذلك ؛ فللمرأة الجزاء على الحسنة بعشر أمثالها كما للرجل ؛ ونقل عن ابن عباس : المراد بذلك الميراث ؛ ﴿ واسألوا الله من فضله ﴾ نداء من ربنا إلى العباد أن يدعوه لحاجاتهم، وهو سبحانه القائل :( ادعوا ربكم تضرعا وخفية.. ) ( ٢ )، وبشر بتحقيق الرجاء ؛ ( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.. ) ( ٣ ) ؛ فاللهم يا من يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء عمن ناداه، تقبل عنا أحسن ما عملنا وتجاوز عن سيآتنا في أصحاب الجنة، وامنحنا من فضلك العظيم ما تجعلنا به وأحبابنا من سعداء الدنيا والآخرة، اللهم آمين ؛ ﴿ إن الله كان بكل شيء ﴾- بما يصلح عباده فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم ﴿ عليما ﴾ يقول : ذا علم-( ٤ ).
٢ سورة الأعراف. من الآية ٥٥..
٣ سورة الشورى. من الآية ٢٦..
٤ من جامع البيان..
قال ابن زيد : الموالي : العصبة، هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم أسماء فقال الله تبارك و تعالى :( فإن لم تعلموا آباءكم فإخوانكم في الدين ومواليكم.. ) ( ١ )، فسموا : الموالي، قال : والمولى اليوم : موليان : مولى يرث ويورث فهؤلاء ذوو الأرحام، ومولى يورث ولا يرث، فهؤلاء العتاقة ؛... ؛ ويعني بقوله :﴿ مما ترك الوالدان والأقربون ﴾ : مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث. ا ه. وأخرج البخاري عن ابن عباس : كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى رسول الله بينهم، فلما نزلت :﴿ ولكل جعلنا موالي ﴾ نسختها، ثم قال :﴿ والذين عاقدت أيمانكم ﴾ إلا ( ٢ ) النصر والرفادة ( ٣ ) والنصيحة، وقد ذهب الميراث، ويوصى له ؛ - قيل والمراد هنا : العصبة : أي : ولكل جعلنا عصبة يرثون ما أبقت الفرائض، .... والذين عاقدتهم أيمانكم فآتوهم نصيبهم : أي ما جعلتموه لهم بعقد الحلف- ( ٤ ) ؛ ﴿ إن الله كان على كل شيء شهيدا ﴾( أي : قد شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء ) ؛... ؛
٢ في رواية: من النصر..
٣ الرفادة: الصلة والعطاء..
٤ من فتح القدير..
٢ روى ابن أبي حاتم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك" قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿الرجال قوامون على النساء..﴾ إلى آخرها..
٣ أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لو كنت آمرًا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظيم حقه عليها"..
٤ أسيرات، شبههن عليه السلام بالأسيرات لنشفق عليهن ونترفق بهن..
عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما : إن رأيتهما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا ؛ وقال : أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة..... فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة ابن ربيعة ؟ ! فقال : على يسارك في النار إذا دخلتِ ؛ فشدت عليها ثيابها، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فضحك، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما، فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف ؛ فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا-( ١ )، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للرشد والبر، ويوفق به للمودة والخير ؛ ﴿ إن الله كان عليما خبيرا ﴾ هو سبحانه يعلم المفسد من المصلح، محيط بأحوال جميع الخلق، يجازي كل عامل بما عملَ ويثيب الذين أساءوا بشر ثواب، ويكرم الذين أحسنوا بأعظم مآب.
﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ﴾ ( ١ ) انقادوا لأمر المولى المستحق للعبادة والتذلل والطاعة دون سواه. ﴿ فالآية أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره ﴾ ( ٢ ) ؛ وفي هذا المعنى جاءت آيات محكمات كثيرة، منها :(.. ألا لله الدين الخالص.. ) ( ٣ )، ومنها :( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.. ) ( ٤ ) ومنها :(.. فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ( ٥ ) ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تبارك وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " ؛ وفي الصحيح : قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : " أتدري ما حق الله على العباد " ؟ قال : الله ورسوله أعلم، قال :" أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ثم قال : " أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ".
﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ ( ٦ ) أي : أمركم أن تعبدوه وحده، وأمركم بالوالدين براً بهما ؛ أو : ذلوا لله بالطاعة وأفردوه بالربوبية، واستوصوا بالوالدين إحسانا ؛ قال العلماء : فأحق الناس بعد الخالق المنان بالشكر والإحسان، والتزام البر والطاعة له والإذعان، مَن قرن الله الإحسان إليه بعبادته وطاعته، وشكره بشكره. وهما الوالدان ؛ فقال تعالى :(.. أن اشكر لي ولوالديك.. ) ( ٧ ) ؛ ﴿ وبذي القربى ﴾ وأمر سبحانه بصلة ذي القربى، وهم ذوو القرابة من قِبَل الأب أو الأم، ﴿ واليتامى ﴾ وهم الصغار الذين مات آباؤُهم، وصانا ربنا بالإحسان إليهم والحنو عليهم، لأنهم فقدوا العائل والحاني ؛ ﴿ والمساكين ﴾ المحاويج الذين لا يجدون ما ينفقون ؛ يقول اللغويون : المسكين : الذي لا شيء له، أو : لا شيء له يكفي عياله ؛ قال يونس : الفقير أحسن حالا من المسكين ؛ وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالا من الفقير، لأن الله تعالى قال :( أما السفينة فكانت لمساكين.. ) ( ٨ )، فأخبر أنهم مساكين وأن لهم سفينة تساوي جملة، كما استدل علي بن حمزة على ذلك بقول المولى عز وجل :( أو مسكينا ذا متربة ) ( ٩ )، فأكد عز وجل سوء حاله بصفة الفقر، لأن المتربة : الفقر، ولا يؤكد الشيء إلا بما هو أوكد منه. ا. ه.
وصانا ربنا البر الرحيم بالصدقة على هؤلاء ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله- وأحسبه قال- وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر " ؛ ﴿ والجار ذي القربى والجار الجنب ﴾ قال ابن عباس وعكرمة وغيرهما : الجار ذي القربى : الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب : الذي ليس بينك وبينه قرابة ؛ وقال مجاهد : الجار الجنب : الرفيق في السفر ؛ وذهب البعض إلى أن الجار ذي القربى هو الذي قرب جواره ؛ روى البخاري عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ؛ وروى عن أبي شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن " قيل : يا رسول الله، من ؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه " ( ١٠ ).
ومن إكرام الجار ما رواه مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " ؛ ﴿ والصاحب بالجنب ﴾ ( ١١ ) نقل عن علي وابن مسعود- رضي الله عنهما- أنهما قالا : هي المرأة ؛ ونقل( ١٢ )عن سعيد بن جبير، وقتادة ومجاهد : هو : الرفيق في السفر ؛ وقد تتناول الآية الجميع بالعموم ؛ ﴿ وابن السبيل ﴾- هو صاحب الطريق... الضارب فيه فله الحق على من مر به محتاجا منقطعا به إذا كان سفره في غير معصية الله أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حملان ؛ القول في تأويل قوله :﴿ وما ملكت أيمانكم ﴾ يعني بذلك جل ثناؤه : والذين ملكتموهم من أرقائكم، فأضاف الملك إلى اليمين، ... ، لأن مماليك أحدنا تحت يده، وإنما نطعم ما تناوله أيماننا.. فأضيف ملكهم إلى الأيمان لذلك، ... فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عباده إحسانا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم، فحق على عباده حفظ وصية الله فيهم، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه وسلم-( ١٣ ).
روى الشيخان- البخاري ومسلم- عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " ؛ وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال :" للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق " ؛ ﴿ إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ﴾- فنفى سبحانه محبته ورضاه عمن هذه صفته ؛ أي : لا يظهر عليه آثار نعمه في الآخرة ؛ وفي هذا ضرب من التوعد ؛ والمختال : ذو الخيلاء، أي الكبر ؛ والفخور الذي يعدد مناقبه كبرا ؛... ؛ وخص هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم-( ١٤ ).
٢ هكذا أورد صاحب الجامع لأحكام القرأن، ثم تابع يستشهد بما روى الدارقطني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يجاء يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله تعالى فيقول الله تعالى للملائكة ألقوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما رأينا إلا خيرا فيقول الله عز وجل-وهو أعلم- عن هذا كان لغيري ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما كان ابتغي به وجهي"، وروى أيضا عن الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يأيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنما للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شيء". ويتابع صاحب الجامع لأحكام القرآن: حتى لقد قال بعض علمائنا: إن من تطهر تبردا أو صام محما لمعدته ونوى مع ذلك التقرب لم يجزه: لأنه مزج في نية دنيوية وليس لله إلا العمل الخالص.. وكذلك إذا أحس الرجل بداخل في الركوع وهو إمام لم ينتظره؛ لأنه يخرج ركوعه بانتظاره عن كونه خالصا لله تعالى. ا هـ..
٣ من سورة الزمر. من الآية ٢..
٤ من سورة البينة. من الآية ٤..
٥ من سورة الكهف. من الآية ١١..
٦ قال بعض المفسرين: منصوب على الإغراء..
٧ سورة لقمان. من الآية ١٤..
٨ سورة الكهف. من الآية ٧٩..
٩ من سورة البلد. الآية ١٦..
١٠ عدوانه وظلمه وشروره، جمع بائقة؛ وهي الداهية..
١١ نقله عنهما صاحب تفسير القرآن العظيم..
١٢ نقله عنهم صاحب جامع البيان..
١٣ مما أورد الطبري..
١٤ من الجامع لأحكام القرآن..
٢ من سورة الجاثية. من الآية ٣٢..
٣ من سورة سبأ. الآية ٣٥..
٤ من سورة يس. من الآية ٤٧..
٥ من سورة الكهف. من الآية ٣٥؛ والآية ٣٦..
﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري- حديث الشفاعة- وفيه : " حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استصقاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة إخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول جل وعز ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا " ؛ فربنا البر الرحيم لا ينقص من جزاء المحسنين وزن ذرة من خير عملوه ولا يزيد على جزاء المسيئين وزن ذرة من وزر، فهو سبحانه لا يظلم قليلا ولا كثيرا، بل يتفضل فيضاعف الحسنات أضعافا قد تكون عشرة وقد تكون سبعمائة، وقد تضاعف إلى ما لا يعلمه إلا الله ؛ ويحل رضوانه على من يشاء فلا يسخط بعد ذلك أبدا، (.. ورضوان من الله أكبر.. ) ( ١ ).
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ عَليَّ " قلت : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأت عليه سورة ﴿ النساء ﴾ حتى بلغت :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ﴾ قال : " أمسك " فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل ؛ ﴿ فكيف ﴾ الفاء فصيحة، و ﴿ كيف ﴾ محلها : إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وإما النصب بفعل محذوف، ... ، - أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم ؟ أو : كيف يصنعون ؟ أو : كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال ؟ - وهو نبيهم- ؟ وجئنا بك يا خاتم الأنبياء ﴿ على هؤلاء ﴾ إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر ﴿ شهيدا ﴾ تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأضلوا، ... ، وقيل : إلى المؤمنين : لقوله تعالى :(.. لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.. ) ( ١ )، فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة، وعظيم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه ؟ ! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه-( ٢ ).
٢ من روح المعاني..
في يوم الطامة الكبرى هذا يتمنى من جحد بآيات الله وعصى رسوله صلى الله عليه وسلم لو أنهم بقوا ترابا على أصلهم، أو دفنوا وسويت الأرض فوق أجداثهم ؛ ومن البلاء الذين يحل بهم عجزهم عن كتمان ما كان من أوزارهم ( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) ( ١ )، ( حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ) ( ٢ ) ؛ عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف عليَ في القرآن، قال : ما هو، أشك في القرآن ؟ قال : ليس هو بالشك، ولكن اختلاف ؛ قال فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال : أسمع الله يقول :( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) ( ٣ )، وقال :﴿ .. ولا يكتمون الله حديثا ﴾ فقد كتموا، فقال ابن عباس : أما قوله :( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ) فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام، ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركا، جحد المشركون فقالوا :(.. والله ربنا ما كنا مشركين ) رجاء أن يغفر لهم، فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك ﴿ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ﴾.
٢ سورة فصلت. الآية ٢٠..
٣ سورة الأنعام. الآية ٢٣.
نهى الله تعالى المؤمنين عن التلبس بالصلاة والشروع في أدائها حال سكر من كان يسكر يومئذ( ١ )، ولا يؤذن له ولا يقبل منه الأداء إلا إذا كان مفيقا صاحيا، يعلم ما يصدر عنه من أفعال وأقوال ؛ ﴿ ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ﴾ عن علي رضي الله عنه قال : نزلت في السفر، ... وعابر السبيل : المسافر، إذا لم يجد ماء تيمم ؛ وعن الحكم : المسافر تصيبه الجنابة فلا يجد ماء فيتيمم ؛ فكأن المعنى : يأيها الذين آمنوا لا تقبل من أحد منكم صلاته وهو سكران إلا إذا أفاق وعاد صاحيا، ولا تقبل صلاة( ٢ ) من أجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافرا ؛ قال أهل اللغة : إذا قيل : لا تقرب بفتح الراء فمعناه : لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه : لا تَدْنُ منه ؛ والجنب : الذي يجب عليه الغسل بالجماع، أو خروج المني، قاله ابن الأثير( ٣ ) ؛ ﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء احد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ عن ابن مسعود : المريض الذي أرخص له في التيمم : الكسير والجريح، فإذا أصابته الجنابة لا يَحُل جراحتَه إلا جراحة لا يخشى عليها ؛ - وإن كنتم جرحى أو بكم.. علة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة وأنتم مقيمون غير مسافرين فتيمموا صعيدا طيبا، .. ، وإن كنتم مسافرين وأنتم أصحاء جنب فتيمموا، ... ، أو جاء أحد منكم من الغائط قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح فليتيمم صعيدا أيضا، والغائط : ما اتسع من الأودية، .. ، وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان لأن العرب كانت تختار قضاء حاجتها في الغيطان-.
وذكر عن مجاهد أنه قال في الغائط : الوادي ؛... عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع، وقال ناس من العرب : اللمس : الجماع، قال : فأتيت ابن عباس، فقلت : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي : ليس بالجماع، وقالت العرب : الجماع، قال : مِن أي الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي، قال : غلب فريق الموالي، إن المس واللمس والمباشرة : الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما يشاء ؛ ( ثم إن نظم هذين الأمرين- المجيء من الغائط ومجامعة النساء- في مسلك سببي سقوط الطهارة، والمصير إلى التيمم- يعني : المرض والسفر- مع كونهما سببي وجوبها ليس باعتبار أنفسهما، بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه :﴿ فلم تجدوا ماء ﴾ بل هو السبب في الحقيقة، ... كأنه قيل : أو : لم تكونوا مرضى ولا مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقيق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر...
﴿ فتيمموا صعيدا طيبا ﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه، .. والتيمم لغة : القصد، .. ، والصعيد : وجه الأرض، ... ، والطيب : الطاهر، ... ، والمعنى : فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر، .... ، ونصب ﴿ صعيدا ﴾ على أنه مفعول به، وقيل : إنه منصوب بنزع الخافض، أي فتيمموا( ٤ ) بصعيد- ( ٥ ) ﴿ فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ﴾ روى البخاري عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، فقال : " يا فلان ما منعك أن تصلي " ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال :" عليك بالصعيد فإنه يكفيك " ؛ ﴿ إن الله كان عفوا غفورا ﴾ إن الله لم يزل عفوا من ذنوب عباده وتركه العقوبة على كثير منها، ما لم يشركوا به، كما عفا عنكم أيها المؤمنون عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى.
﴿ غفورا ﴾- يقول : فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذاب على خطاياهم، كما ستر عليكم أيها المؤمنون بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى، يقول : فلا تعودوا لمثلها، فينالكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك منكلة-( ٦ ).
٢ نقل عن ابن مسعود وابن عباس ومالك والشافعي: عابر السبيل: هو المجتاز في المسجد، فيكون معنى الآية على هذا: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد في حالة الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب؛ ومما قال ابن جرير: فتأويل الآية: يأيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل، قال: والعابر السبيل: المجتاز مرا وقطعا.. ا هـ..
٣ وقال في معنى الحديث :"لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب": والذي يترك الاغتسال من الجنابة عادة، فيكون أكثر أوقاته جنبا، وهذا يدل على قلة دينه، وخبث باطنه؛ وقيل: أراد بالملائكة ههنا غير الحفظة، وقيل: أراد: لا تحضره الملائكة بخير؛ وقد جاء في بعض الروايات كذلك..
٤ في كيفية التيمم، وهل هو ضربة أو ضربتان ؟، وإلى أين يبلغ بالمسح ؟ وهل يصلي بتيمم واحد أكثر من فرض أم يتيمم لكل فريضة ؟ وردت في ذلك تفريعات كثيرة أفاض فيها الفقهاء..
٥ من روح المعاني؛ بتصرف..
٦ من جامع البيان..
﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ﴾ ؟ ألم ينته علمك، أو : ألم تنظر إلى من أنزل على أنبيائهم كتب ربانية سماوية ؟ ! نالوا حظا وقسما من هذا الوحي الإلهي ؛ يقول بعض المفسرين : فأما الذين آمنوا بالكتاب كله فقد قبلوا العلم دون تبعيض، كعبد الله بن سلام وأمثاله وفيهم نزل قول الحق سبحانه :(.. قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ) ( ١ ).
﴿ يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ﴾ يختارون الذهاب عن الحق، والميل إلى الغي ؛ قال الزجاج ما حاصله : والمراد تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا، وحب الرياسة ؛ ويحرصون على إضلالكم عن سبيل الرشد والهدى.
لعل المعنى : ومولانا المعبود بحق أحاط بكل شيء علما، فهو خبير بصير بمن عادانا، لا يخفى عليه من كيدهم ومكرهم وتبييتهم لنا شيء، وبحسبنا أنه مولانا، وأن الكافرين لا مولى لهم، وبحسبنا أنه يؤيدنا، وهو خير الناصرين، فلن نتولى غيره، ولن نستنصر إلا به.
﴿ وطعنا في الدين ﴾ أي : قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية، .. ، ﴿ ولو أنهم ﴾ عندما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه ﴿ قالوا ﴾ بلسان المقال، كما هو الظاهر، أو : به وبلسان الحال، كما قيل :﴿ سمعنا ﴾ سماع قبول، .. ﴿ وأطعنا ﴾ مكان قولهم :﴿ عصينا ﴾، ﴿ واسمع ﴾ بدل قولهم :﴿ اسمع غير مسمع ﴾ ﴿ وانظرنا ﴾ بدل قولهم :﴿ راعنا ﴾ ﴿ لكان ﴾ قولهم هذا ﴿ خيرا لهم ﴾ وأنفع من قولهم ذلك ﴿ وأقوم ﴾ أي : أعدل في نفسه، ...
﴿ ولكن لعنهم الله بكفرهم ﴾ أي : ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك، فخذلهم الله تعالى، وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم ﴿ فلا يؤمنون ﴾ بعد ﴿ إلا قليلا ﴾... ، إلا فريقا قليلا منهم، فإنه سبحانه لم يلعنهم ؛ فلهذا آمن من آمن منهم، كعبد الله بن سلام وأضرابه، ... ، وقيل : إنه صفة مصدر محذوف، أي : إلا إيمانا قليلا، ... وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم.. ا ه.
نداء للكتابيين أن يصدقوا ويستيقنوا بالقرآن الذي جاء مصدقا لما سبقه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليه، وتحذير لهم إن أقاموا على التكذيب أن يجعلهم الله نكالا، ويعجل لهم عقوبة في الدنيا كالتي حلت بأسلافهم ممن مسخوا قردة وخنازير، والله يفعل ما يشاء، لا يعجزه شيء أراده ؛ عن ابن عباس : يقول : أن نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.
في الصحيحين عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يترك الله منه شيئا فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك وقال :(.. إن الشرك لظلم عظيم ) ( ١ ) وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض " ؛ وعن أبي ذر قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة- حجارة صلبة سوداء- عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال : " يا أبا ذر " قلت : لبيك يا رسول الله. قال :" ما أحب أن لي أحد ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينار أرصده- يعني لدين- إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا " فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قال : ثم مشينا فقال :" يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا " فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره قال : ثم مشينا، فقال : " يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك "، قال : فانطلق حتى توارى عني، قال : فسمعت لغطا، فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له، قال : فهممت أن أتبعه، قال : فذكرت قوله :" لا تبرح حتى آتيك " فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت فقال :" ذاك جبريل أتاني فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة "، قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق " ( ٢ ) ؛ فالكافرون الذين يموتون على كفرهم لا يُغفر لهم والنار مأواهم ومصيرهم، يخلدون فيها وهي حسبهم ؛ ومن أجرم جريمة دون الشرك فهو إلى مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ؛ ذلك أن الكفر والجحود إنكار لأصول الدين، وخروج على فطرة رب العالمين.
٢ رواه أحمد والشيخان..
عن قتادة : هم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه، وقالوا : لا ذنوب لنا ؛ ومما قال ابن زيد : قال أهل الكتاب : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ؛ ومثل هذه الآية قوله تعالى :(.. فلا تزكوا أنفسهم هو أعلم بمن اتقى )( ١ ) ؛ وأصل التزكية : التنقية والتبرئة والتنزيه، في صحيح مسلم، عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال : سميت ابنتي برة : فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله نهى عن هذا الاسم، وسُميت برة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم " فقالوا : بم نسميها ؟ فقال :" سموها زينب " ؛ وكأن المنهي عنه في الآية الكريمة وفي الحديث الشريف إنما هو مدح الإنسان نفسه عجبا وافتخارا ولغير غرض صحيح مثل التحدث بنعمة الله تعالى، أو للترغيب في الاقتداء به إن كان من أهل القدوة ؛ أما التزكي العملي الذي هو تطهير النفس وتنزيهها عن القبائح، وتنمية حبها لنهج الخير والرشد، والاستزادة من العمل الصالح، فهذا هو الفلاح، وصدق الله العظيم :( قد أفلح من تزكى ) ( ٢ ) ( قد أفلح من زكاها ) ( ٣ )، وإنها لأمانة بعث بها رسولنا محمد خاتم النبيين عليه الصلوات والتسليم، يقول مولانا – تقدست أسماؤه- :( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. ) ( ٤ )، ويقول جل وعز :( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. ) ( ٥ )، ويقول تبارك و تعالى :( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم.. ) ( ٦ )، وهي دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام :( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. ) ( ٧ ) ؛ وإن أريد بالنهي أن لا يزكي بعضنا بعضا، كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ويحك قطعت عنق صاحبك- يقوله مرارا- إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسبه كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا " - فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " ويحك قطعت عنق صاحبك " ؛ وفي الحديث الآخر : " قطعتم ظهر الرجل " حين وصفوه بما ليس فيه ؛ وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : " احثوا التراب في وجوه المداحين " أن المراد به : المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه ؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه ؛ وهذا راجع إلى النيات :(.. والله يعلم المفسد من المصلح.. ) ( ٨ ) ؛ وقد مُدِحَ صلى الله عليه وسلم في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمة للأرامل |
٢ سورة الأعلى. الآية ١٤..
٣ سورة الشمس. الآية ٩..
٤ سورة آل عمران. من الآية ١١٤..
٥ سورة الجمعة. من الآية ٢..
٦ سورة البقرة. من الآية ١٥١..
٧ سورة البقرة. من الآية ١٢٩..
٨ سورة البقرة. من الآية ٢٢٠..
٩ الجامع لأحكام القرآن؛ بتصرف يسير..
١٠ جامع البيان..
تعجيب مِن حال مَن يزعم لنفسه ما ليس فيها، ويختلق على الله تعالى غير الحق، وإن كذبا على الله تعالى ليس ككذب على أحد، فبحسب هؤلاء وزرا أن يتقولوا على ربنا سبحانه ما لم يقله، من مثل قول اليهود والنصارى :(.. نحن أبناء الله وأحباؤه.. ) ( ١ ) وقولهم :(.. لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.. ) ( ٢ )، وقولهم :(.. لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.. ) ( ٣ ).
٢ سورة البقرة. من الآية ٨٠..
٣ سورة البقرة. من الآية ١١١..
عن قتادة : الجبت( ١ ) : الشيطان ؛ وعن مالك بن أنس : الطاغوت( ٢ ) ما عبد من دون الله أو خُضع له كائنا ما كان ذلك المعظم من حجر أو إنسان أو شيطان. واختار ابن جرير أن الجبت والطاغوت : اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة ؛ تعجيب مِن حال مَن أوتي هدى فاستحب الضلالة على الهدى، ودعا إلى الغواية والردى، وآثر أهل الزيغ على أهل الصلاح والتقى،
٢ قيل: كل ما يطغي الإنسان..
فهذا الباغي المسارع في ممالأة المعوجين، مبعد من رحمة البر الرحيم، لن يمنعه من نقمة الله مانع، ولن يدفع عنه مدافع ؛ عن ابن زيد قال : جاء حيي بن أخطب إلى المشركين فقالوا : يا حيي إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال : نحن وأنتم خير منهم.
عن ابن جريج : فليس لهم نصيب من الملك، فإذا لا يؤتون الناس نقيرا، ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك لم يكونوا إذا يعطون الناس نقيرا من بخلهم ؛ والنقير : النقطة التي في ظهر النواة ؛ ونقل النيسابوري ما حاصله : فإن قيل : كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيرا، وكثيرا ما يشاهد منهم بذل الأموال ؟ ! يقال : لأنهم لا يبذلون شيئا نسبته إلى ما يملكون كنسبة النقير إلى النواة، أو لأنهم لا يطيبون بذلك نفسا لغلبة الشح عليهم "، والله تعالى أعلم. ا ه.
بعد أن بين الله تعالى شح اليهود. بين حسدهم، فكأن المعنى : بل يحسد اليهود النبي وصحبَه على ما أعطاهم الله تعالى من فضل في النبوة الخاتمة، وهيمنة كتابهم على الكتب السابقة، ونصر لهم وتأييد على كل من خالفهم ؛ وليس ما آتينا محمدا وأصحابه من فضلنا ببدع فهم يعلمون أن الله يمن على من يشاء، وقد من على إبراهيم عليه السلام وذريته بالحكم والنبوة.
-﴿ فمنهم ﴾ أي اليهود، ﴿ من آمن به ﴾ أي : بالنبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ ومنهم من صد عنه ﴾ أي : أعرض عنه ؛ وقيل : الضمير في ﴿ به ﴾ راجع إلى ما ذكر من حديث ﴿ آل إبراهيم ﴾... ﴿ وكفى بجهنم سعيرا ﴾ أي : نارا مسعرة- ( ١ ).
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها
٢ ما بين العلامتين ( من تفسير غرائب القرآن)..
٣ سورة المدثر. الآية ٢٦..
٤ سورة الضحى. الآية ٥..
٥ سورة يوسف. من الآية ٩٨..
٦ من جامع البيان..
﴿ تؤدوا ﴾ تعطوا. ﴿ الأمانات ﴾ جمع، والفرد : أمانة، مصدر بمعنى المفعول، أي ما تؤتمن عليه ويتعلق بذمتك من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فعلية أو قولية أو اعتقادية.
﴿ العدل ﴾ الإنصاف والتسوية. ﴿ أهلها ﴾ أصحابها ومستحقيها.
﴿ نعما يعظكم به ﴾ نعم الذي يعظكم الله تعالى به.
﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾ عهد من الله تعالى موثق، مطلوب أن نوفيه إلى مستحقيه، دون نقص أو تأخير ؛ - تعم جميع الأمانات، فأولها : الأمانة مع الرب تعلى في كل ما أمر به ونهى عنه، قال ابن مسعود : الأمان في كل لازمة، في الوضوء والجنابة، والصلاة والزكاة والصوم، وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال : هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلا بحقها ؛ وهذا باب واسع، فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب، وكذا القول في سائر الأعضاء ؛ ثم الأمانة مع سائر الخلق، ويدخل فيه رد الودائع، وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم، ويمنعوهم عن العقائد الباطلة، والأخلاق غير الفاضلة، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب- ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد- والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية في التبعات الدائمة، وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه :( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.. ) ( ١ ) ( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ) ( ٢ )، وقال صلى الله عليه وسلم( ٣ ) : " ألا لا إيمان لمن لا أمانة له " -( ٤ ) ؛ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم مَن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " ؛ وقال ابن عباس : لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة ؛ وقال ابن المنذر : أجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار ؛ ﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ لعل الأمر يشمل الحكم عن ولاية عامة أو خاصة أو عن تحكيم ؛ في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" وكلكم راع فمسئول عن رعيته فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عنهم والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده( ٥ ) وهي مسئولة عنهم والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " قال العلماء : الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه والقيام لمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته، فإن وفى ما عليه من الرعاية كان له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر، وإلا طالبه كل أحد من رعيته بحقه( ٦ ) ؛ يقول العلماء : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء رعاة وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم حاكم، لأنه إذا أفتى حكم وقضى، وفصَل بين الحرام والحلال، والفرض والندب، والصحة والفساد فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى، ﴿ إن الله كان سميعا بصيرا ﴾- إن الله لم يزل سميعا لما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم بين الناس ولم تجاوزوهم به، ﴿ بصيرا ﴾ بما تفعلون فيما ائتمنكم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، وما تقضون به بينهم من أحكامكم، بعدل تحكمون أو جور، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظ ذلك كله، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله-( ٧ ).
٢ من سورة المؤمنون. الآية ٨..
٣ كما روى عنه صلى الله عليه وسلم أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة عام حجة الوداع:"العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مُقضى والزعيم غارم" صحيح أخرجه الترمذي وغيره، وزاد الدارقطني: فقال رجل فعهد الله ؟ قال:" عهد الله أحق ما أدى"؛ يقول علماء الأحكام: فالآية شاملة بنظمها بكل أمانة، وهي أعداد كثيرة، وأمهاتها في الأحكام: الوديعة واللقطة والرهن والعارية..
٤ من تفسير غرائب القرآن؛ بتصرف يسير..
٥ يقول الشراح: أي وغيرهم، كخدمة وأضيافه بحسن التدبير في أمرهم، والقيام بمصالحهم..
٦ وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا"..
٧ من جامع البيان..
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون " قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال :" أوفوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم "، وأخرجا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَن رأى مِن أميره شيئا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية "، وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خلع يداً مِن طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية "، وفي صحيح مسلم كذلك عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- جالس في ظل الكعبة والناس حوله، مجتمعون عليه، فأتيتهم، فجلست إليه، فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزلنا منزلا، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره( ١ )، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة ! فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور ينكرونها وتجيء فتن يرقق بعضها بعضا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر " قال : فدنوت منه، فقلت : أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيده، وقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ويقتل بعضنا بعضا، والله تعالى يقول :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾ ؛ قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله ؛ يأمر الله تعالى أهل الإيمان المستيقنين بأن يطيعوا ربهم فيأتمروا بأمره وينتهوا عن مناهيه، وأن يطيعوا الرسول، فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله ؛ وعلى أهل التصديق بالحق أن يلتزموا كتاب الله وسنة نبيه ؛ ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ قال ابن عباس : يعني أهل الفقه والدين، وقال مجاهد وعطاء : يعني العلماء ؛ لكنا قد قدمنا أن الأمر على العموم في كل أولي الأمر، وأن عهد الله أن نطيعهم في المعروف، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؛ ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ عن مجاهد قال : فإن تنازع العلماء ردوه إلى الله والرسول، قال : يقول : فردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ؛ وعن ابن جرير : فإن اختلفتم أيها المؤمنون في شيء من أمر دينكم أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم فاشتجرتم فيه، .. ، فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم أنتم بينكم، أو أنتم وأولوا الأمر فيه من عند الله، يعني بذلك من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم، وأما قوله، ﴿ والرسول ﴾ فإنه يقول : إن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضا من عند الرسول إن كان حيا، وإن كان ميتا فمن سنته، ﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ يقول : افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله واليوم الآخر، يعني بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العذاب، .... ، ﴿ ذلك خير وأحسن تأويلا ﴾.. فرد ما تنازعتم فيه من شيء إلى الله والرسول خير لكم عند الله في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة وترك التنازع والفرقة، ﴿ وأحسن تأويلا ﴾ يعني : وأحمد موئلا ومغبة، وأجمل عاقبة. اه.
﴿ ألم تر ﴾ ألم تنظر، أو : ألم ينته علمك ؟ ﴿ يزعمون ﴾ يقولون ويدعون ﴿ الطاغوت ﴾ الشيطان، وما عبد من دون الله.
﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أي : ألم تنظر، أو : ألم ينته علمك ؟ إنكار على الذين مرضت قلوبهم مع ادعائهم الإيمان( ١ ) فرغبوا عن طاعة الله تعالى والتحاكم إلى ما أنزل، ومالوا إلى حكم الظلمة الطغاة ؛ قال الليث : قولهم زعم فلان، معناه : لا نعرف أنه صدق أو كذب ؛ ومنه : زعموا : مطية الكذب ؛ وقال ابن الأعرابي : الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية : الكذب بالاتفاق ؛ - هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله-( ٢ ) ؛ وعن الشعبي وغيره أن سبب النزول شامل لهذه الآية وما بعدها إلى قوله تعالى :﴿ ... ويسلموا تسليما ﴾.
وعن طائفة من علماء القرآن ما حاصله : كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم : لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ؛ ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم ؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم ؛ فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ﴾ يعني المنافق ؛ ﴿ وما أنزل من قبلك ﴾ يعني اليهودي ؛ ﴿ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ﴾ إلى قوله :﴿ يسلموا تسليما ﴾. ا ه.
﴿ وقد أمروا أن يكفروا ﴾ يعدلون عن الاحتكام إلى شرع الله وقضاء رسوله، ويميلون إلى حكم الشيطان وأهل الطغيان، والحال أن الله سبحانه أمرهم أن يستيقنوا ببطلان كل سبيل غير سبيل المولى عز وتقدس-، ﴿ ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ﴾ يريد الأشقياء التحاكم إلى الباطل والمبطلين، ويريد إبليس وأعوانه أن يغووهم، فيعوجوا ويزيغوا زيغا لا يرجعون بعده إلى الرشد.
٢ من تفسير القرآن العظيم..
﴿ يصدون ﴾ يعرضون. ﴿ صدودا ﴾ إعراضا.
إذا ذُكروا بالحق لا يذكرون، فمهما ناديتموهم إلى الاستجابة والإذعان إلى منهج القرآن، وهدى خير الأنام، عليه الصلاة والسلام، فإنهم لنفاقهم يُعرضون عن الرسول وشرعته وسنته إعراضا، وأما صد المعتدي- أي منع غيره- فمصدرها صدا ؛ ويشهد لهذا ما يشير إليه قول الله الحكيم :(.. قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله.. ) ( ١ )
﴿ فكيف ﴾ استفهام للتعجيب.
﴿ إحسانا ﴾ إتقانا، أو إعطاء فضل فوق الحق ؛ فهو عدل وزيادة.
﴿ توفيقا ﴾ موافقة بين الخصوم، وتقريبا بينهم.
تعجيب من الذين تحاكموا إلى غير ما أنزل الله، وتحذير ووعيد لهم، أي : كيف يكون حالهم حين يصيبهم بلاء بسبب ما ارتكبوه من السوء ثم أتوا إليك يعتذرون، ويحلفون : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك ؟ ! عند ذلك ستنقطع بهم المعاذير، ولا يقدرون على الدفع ؛ قال ابن كيسان : معناه : ما أردنا إلا عدلا وحقا، مثل قوله :﴿ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى.. ) ( ١ ) ؛ فكذبهم الله تعالى بقوله :{ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾
﴿ عظهم ﴾ ذكرهم بما يدل على الهدى ويرد عن الردى.
﴿ بليغا ﴾ بالغ التأثير، موصلا إلى كنه المطلوب، مطابقا لما هو مقصود.
﴿ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ﴾ قال الزجاج : معناه : قد علم الله أنهم منافقون ؛ ﴿ فأعرض عنهم ﴾ قيل : عن عقابهم ؛ وقيل : عن قبول اعتذارهم، ﴿ وعظهم ﴾ ذكرهم بماهم إليه صائرون، ﴿ وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ﴾ – أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء ؛ الحسن : قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم-( ١ ).
﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ ( أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم، وقوله :﴿ بإذن الله ﴾... ، كقوله :﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه.. ﴾ ( ١ ) أي : عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم، وقوله :﴿ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ﴾ الآية، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والنسيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألونه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ) ( ٢ ).
٢ ما بين العلامتين ( ) من تفسير القرآن العظيم..
﴿ شجر ﴾ اشتبك واختلف واختلط. ﴿ حرجا ﴾ شكا أو ضيقا.
﴿ ويسلموا تسليما ﴾ وينقادوا لأمرك انقيادا، ويذعنوا له برضًا.
روى الشيخان، وغيرهما، من طريق الزهري أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج- مسيل ماء – من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر، فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك " - والجدر : المسقاة حول الزرع-، واستوعى رسول الله للزبير حقه، فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك :﴿ فلا وربك ﴾ الآية ؛ قال ابن جرير قوله :﴿ فلا ﴾ رد على ما تقدم ذكره، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله :﴿ وربك لا يؤمنون ﴾ ﴿ ويسلموا تسليما ﴾ قال الزجاج :﴿ تسليما ﴾ مصدر مؤكد، أي : ويسلمون لحكمك تسليما، لا يدخلون على أنفسهم شكا ولا شبهة فيه ؛ - وهذا في حياته صلى الله عليه و آله وسلم، وأما بعد موته فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة أو في أحدهما، وكان يعقل ما يرد عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالما باللغة العربية وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان، عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيرا بالسنة المطهرة، مميزا بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل، ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها ؛ وفي هذا من الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة ؛ فإنه أولا أقسم سبحانه بنفسه مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال :﴿ ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ﴾ فضم إلى التحكيم أمرا آخر، هو عدم وجود حرج، أي حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا واطمئنان، واعتلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضم إليه قوله :﴿ ويسلموا ﴾ أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال :﴿ تسليما ﴾ فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ولا يجد الحرج في صدره بما قضى عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليما لا يخالطه رد ولا تشوبه مخالفة-( ١ ).
﴿ ولو أنا كتبنا عليهم أن قاتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ﴾ عن ابن عباس ومجاهد ما حاصله : ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت أن يقتلوا أنفسهم، وأمرناهم بذلك، أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها، ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها طاعة لله ولرسوله، إلا قليل منهم ربما يفعلون رياء ؛ ﴿ ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا. وإذا لآتيناهم من لدنا لأجرا عظيما. ولهديناهم صراطا مستقيما ﴾ ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الانقياد والطاعة لله ورسوله- وسمى التكليف وعظا لاقترانه بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب- ﴿ لكان خيرا لهم ﴾ أي : أنفع وأفضل من غيره، أو : خير الدنيا والآخرة، لأن ﴿ خيرا ﴾ يستعمل بالوجهين جميعا، ﴿ وأشد تثبيتا ﴾ أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة، لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها، وتجر إلى المواظبة عليها، ولأنه حق، والحق ثابت والباطل زائل، وأيضا : الإنسان يطلب الخير أولا، فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه ؛ ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضا مستعقب للخير.
ثوابا جزيلا، و﴿ إذا ﴾ جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل : ماذا يكون لهم بعد الخير والتثبيت ؟ فقيل : هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما، وفي إيراد صيغة التعظيم في ﴿ آتينا ﴾ و ﴿ لدنا ﴾ وفي قوله :﴿ من لدنا ﴾ وفي وصف الأجر بالعِظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى ؛
ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟، فقال :" المرء مع من أحب " قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث ؛ وفي رواية عن أنس أنه قال : إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأرجو أن الله يبعثني معهم، وإن لم أعمل كعملهم ؛ وروى الشيخان واللفظ لمسلم، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم "، قالوا : يا رسول الله تلك منزل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال :" بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ؛ ﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ﴾ فمن يستدم الانقياد لأمر ربنا ونهيه، ولهدي الرسول وسننه، ويرضى بحكمه، ولا يحتكم إلى غيره فهذا المطيع يدرك من درجات النعيم في الجنة أن يرافق أصحاب الدرجات العلى : من الأنبياء، وأهل الصدق والتصديق ومن تطابق أقوالهم أفعالهم، ومن ثبتت لهم الشهادة، وأصحاب الأعمال الباقية البارة الصالحة، وما أحسن هؤلاء الرفقاء ! -
ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل، وما عداه غير معتمد عليه، وذلك الثواب المذكور هو من الله لا غيره، وكفى بالله عليما بالطاعة وكيفية الثواب عليها ؛ وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة، والاحتراز عن التقصير فيها-( ١ ).
﴿ خذوا حذركم ﴾ كونوا حذرين.
﴿ فانفروا ثبات ﴾ انهضوا لقتال العدو جماعات.
﴿ أو انفروا جميعا ﴾ أو انهضوا لقتال العدو جيشا واحدا.
ربنا الحكيم العلام خبير بمكر أعداء الإسلام، وتربصهم بالمؤمنين، وترقب غرة منهم لاستئصالهم، ولهذا عهد الله سبحانه إلى أهل اليقين أن يستصحبوا سلاحهم حذرين( ١ )، جاء في الكتاب المبين :﴿ .. وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة.. ﴾ ( ٢ )، ولم يؤذن لأهل هذا الدين المرتضى أن يتركوا أسلحتهم جانبا مع دوام المرابطة إلا حين تقهرهم الأنواء أو الأدواء :﴿ .. ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم.. ﴾ ( ٣ )، والآية هنا خطاب للمؤمنين أن يبقوا بسلاحهم مدججين، ولقتال عدوهم متابعين، فئات أو مجتمعين ﴿ يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ﴾- والمعنى : انهضوا لقتال العدو... جماعات متفرقات، .. ﴿ أو انفروا جميعا ﴾ أي مجتمعين جيشا واحدا ؛ ومعنى الآية : الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين ليكون ذلك أشد على عدوهم، وليأمنوا أن يتخطفهم الأعداء إذا نفر كل واحد منهم وحده، أو نحو ذلك-( ٤ ).
٢ سورة النساء. من الآية ١٠٢..
٣ سورة النساء. من الآية ١٠٢..
٤ من فتح القدير.﴿تفسير الشوكاني﴾..
﴿ شهيدا ﴾ مشاهدا حاضرا.
﴿ وإن منكم لمن ليبطئن ﴾ وإن ممن أظهر إيمانه لكم نفاقا، ومَن يُحسب ظاهرا من جماعتكم لمن يتأخر عن الخروج لقتال الأعداء ويؤخر غيره، يَقعد ويُقعد من استجاب لتثبيطه وتأخيره وتخذيله، واللام في ﴿ لمن ﴾ للتوكيد، وفي ﴿ ليبطئن ﴾ للقسم ؛ ﴿ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ﴾ فإن حل بكم ما تكرهون قال المنافق الشامت، المتربص المخذل، القاعد المتخلف : لقد نجوت إذ لم أشاركهم قتالهم، ولم أحضر معهم نزالهم، فلم يصبني ما أصابهم ؛ ولولا مرض قلبه، وعمى بصيرته، لعلم أن تخلفه وتأخيره وتخذيله هو الهلاك والخسران والضلال البعيد !.
وإذا قضى الله لكم نصرا ومغنما حسدكم الجبان المتأخر، وعض أنامل الغيظ عليكم، وندم أن لم يكن معكم، حتى يقاسمكم ما غنمتم ؛ وكذلك تزين لأهل النفاق أن تخالف ألسنتهم قلوبهم، ولقد هتك الذكر الحكيم أستارهم، وبين إلى من يكون ولاءهم، فجاء في آية كريمة :﴿ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين.. ﴾.
﴿ يشرون ﴾ يبيعون.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو عَليَ ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة "، - حض من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به، على أحايينهم، غالبين كانوا أو مغلوبين، .. ﴿ فليقاتل في سبيل الله ﴾ يعني : في دين الله، والدعاء إليه، والدخول فيما أمر به، أهل الكفر به، ﴿ الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ﴾ يعني : الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها، وبيعهم إياها بها : إنفاقهم أموالهم في طلب رضا الله كجهاد مَن أمر بجهاده مِن أعدائه وأعداء دينه، وبذلهم مهجهم له في ذلك، أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال :﴿ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما ﴾ يقول : ومَن يقاتِل في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله، أعداء الله.. فيقتله أعداء الله، أو يغلبهم فيظفر بهم، .. فسوف نعطيه في الآخرة ثوابا وأجرا عظيما، وليس لما سمى جل ثناؤه ﴿ عظيما ﴾ مقدار يعرف مبلغه عباد الله-( ١ ) ؛ لقد بين محكم التنزيل أن سلعة ربنا الغني الحميد تطلب بتقديم المال والروح :( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.. ) ( ٢ )، كما نادى على هذه التجارة الرابحة التي لا تبور :( يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنحيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ) ( ٣ )، ومع هذا الوعد الحق بالدرجات العلا والنعيم المقيم في دار الخلد والتكريم، فإن المولى تقدست أسماؤه تضمن تأييدهم وظفرهم وغلبتهم على من تصدى لهم :( وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ) ( ٤ ).
٢ سورة التوبة. من الآية ١١١..
٣ سورة الصف. الآيات ١٢، ١١، ١٠.
٤ سورة الصف. الآية ١٣..
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين ؛ يحرض الكتاب العزيز أهل الإيمان أن يقاتلوا لإعلاء دين الإسلام، واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من أيدي الكفرة اللئام ؛ والاستفهام في الآية قد يعني الحض والتحريض، واختار الزجاج أن ﴿ المستضعفين ﴾ معطوف على اسم الله عز وجل، أي : وفي سبيل المستضعفين، فإن خلاص المستضعفين من سبيل الله ؛ وهؤلاء المستضعفون يدعون ربهم، ويضرعون إليه أن يحفظ عليهم دينهم، ويقولون : يا ربنا خلصنا من المقام بين الظلمة الفجرة، وتول حفظنا أن نزل أو نفتن، وهيئ لنا من ترضاه عونا على الرشد، وإعلاء الدين، وإظهارا للحق.
يُقوي الله تعالى عزم المؤمنين، ويحرضهم على قتال الغاوين الكافرين، ويذكرهم بأنهم الأعلون والله معهم، فهم يقاتلون في طريق تدعو إلى طاعة الله وإتباع منهاجه والاستمساك بشرعته، أما أعداؤهم فإنما يقاتلون في سبيل مرضاة الشيطان وإغواء بني الإنسان، ﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾- فلا تهابوا أولياء الشيطان فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وهن وضعف، وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حمية، أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم، والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف-( ١ ).
﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ﴾ الاستفهام قد يراد به التعجيب، والمخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من يصلح للخطاب ؛ وربما يكون هذا في أمر ناس أسلموا قبل فرض القتال، فلما فرض كرهوه ؛ نقل نحو هذا عن السدي، ومنه : ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال، فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله... ؛ وعن مجاهد :﴿ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ﴾ إلى قوله :﴿ لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ﴾ ما بين ذلك في اليهود ؛ وعن ابن عباس : نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم ؛ وفريق من المفسرين منهم صاحب تفسير القرآن العظيم، وصاحب روح المعاني نقلوا عن ابن جرير وغيره نقولا تخالف ما أوردناه( ١ ) ؛ وهي مع قصورها عن مستوى الصحة تنسب إلى الصحب الكرام رضوان الله عليهم ما ننزههم عنه، كما أن السياق يأباه ؛ يقول الحق جل علاه :﴿ وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك ﴾، ﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾- ومعاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم يعلم أن الآجال محدودة والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين سامعين طائعين، يرون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة ؛ على ما هو معروف من سيرتهم- رضي الله عنهم-( ٢ ) ؛ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن : وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد، وهو أيضا ترتيب مطابق لما في العقول، لأن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله، ... ، يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله، أو أشد خشية من خشية أهل الله، ... ، وكلمة ﴿ أو ﴾ ليست للشك ههنا، فإن ذلك على علام الغيوب محال، ولكنها بمعنى الواو.....
﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب ﴾..... ، هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا !، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله :﴿ قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير ﴾ لا لكل الناس بل ﴿ لمن اتقى ﴾، فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر "، وأما ترجيح الآخرة : فلأن نعم الدنيا قليلة، ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منعطفة، ونعم الآخرة مؤبدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار، ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها، ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها.
٢ من الجامع لأحكام القرآن..
قال المفسرون : كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك، كما جرت سنته( ١ ) في جميع الأمم قال :( وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء.. ) ( ٢ )، فعند هذا قالت اليهود والمنافقون : ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل، نقصت ثمارنا، وغلت أسعارنا منذ قدم، فقوله تعالى :﴿ وإن تصبهم حسنة ﴾ يعني : الخصب والرخص وتتابع الأمطار ﴿ يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة ﴾ يعني : الجدب وانقطاع الأمطار :﴿ يقولوا هذه من عندك ﴾ يقولون : هذا من شؤم محمد، وهذا كقوله :(.. فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه.. ) ( ٣ )، ... ، فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله " ﴿ قل كل من عند الله ﴾ وكيف لا و جميع الممكنات، من الأفعال والذوات والصفات، لابد من استنادها إلى الواجب بالذات، ولهذا تعجب من حالهم وقال :﴿ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ﴾ فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم، فضلا عن الفقه والفهم، ... ،
٢ سورة الأعراف. من الآية ٩٤..
٣ سورة الأعراف. من الآية ١٣١..
﴿ وما أصابك ﴾ أي : يا إنسان، خطابا عاما، ﴿ فمن نفسك ﴾، فلابد من التوفيق... ، وما ذاك إلا بأن يجعل هناك بمعنى : البلية، وههنا بمعنى : المعصية، قال : وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية، فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة، مع أن كليهما من فعل العبد عندنا ؟ لأن الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه، فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى، لا بأنه فعلها، ولا بأنه أمر بها، ولا بأنه رغب فيها ؛ ا ه.
﴿ وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ﴾ قال علماء المعاني :﴿ رسولا ﴾ حال من الكاف، أي : حال كونك ذا رسالة، و ﴿ الناس ﴾ صفة ﴿ رسولا ﴾ فأصل النظم : وأرسلناك رسولا للناس، فلابد للتقديم من خاصية، هو التخصيص، أعني : ثبوت الحكم للمقدم، ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفا، لا عما عداه مطلقا، فتعين حمل اللام على الاستغراق، ليثبت الحكم كل فرد من أفراد الإنسان، وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما يزعمه الضالة من أنه مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم. ا ه.
﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾ يشهد بأنك مرسل داعيا إلى الله ومبشرا ونذيرا، وليس عليك إلا البلاغ، وربنا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" من أطاعني فقد أطاع الله ومن يعصني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني " ؛ ذلك أن الرسول لا يقول من عند نفسه، وإنما هو أمين صادق فيما يبلغ عن ربه، ( ما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى ) ( ١ ) ؛ ﴿ ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾ والذي يدبر عن هدى خاتم النبيين، ويعرض عن دعوته فلا يستجيب لها، فما ضر إلا نفسه، ولن يُسأل الرسول عن ذنبه وجرمه، فهو عليه الصلاة والسلام ليس إلا مبشرا ونذيرا، لا يملك أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.
٢ سورة القمر. الآية ١٧..
٣ سورة الفرقان. الآية ٧٣..
٤ من جامع البيان..
٥ ثم تابع يقول: واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف، فقال أبو بكر الأصم: معناه أن المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرة من المكايد، والرسول كان يخبرهم عنها حالا فحالا، فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لم يطرد صدقه، ولظهر أنواع الاختلاف والتفاوت؛ وقال أكثر المتكلمين: المراد: تجاوب معانيه وتلاؤم مقاصده، مع أنه مشتمل على علوم كثيرة وفنون غزيرة ولو كان من عند غير الله لم يخل من تناقض واضطراب، والذي تظن به التناقض كقوله:(لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) مع قوله:( لنسألنهم أجمعين) أو كقوله:(.. فإذا هي ثعبان مبين) مع قوله:( كأنها جان..) ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض: من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما..
٦ سورة محمد. الآية ٢٤..
٢ مما نقل صاحب تفسير غرائب القرآن..
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ﴾ في صحيح مسلم عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس ممن كان معه، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فقال بعضهم : نقتلهم، وقال بعضهم : لا ؛ فنزلت :
﴿ فما لكم في المنافقين فئتين ﴾ وروى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة " وفيه عن أبي هريرة :".. المدينة تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد " ( ١ ) ؛
﴿ والله أركسهم بما كسبوا ﴾ قلب حالهم، وسيرمون في النار منكسين، بسبب كسبهم الكفر ؛ ﴿ أتريدون أن تهدوا من أضل الله ﴾ الاستفهام يتضمن معنى الإنكار، فإنه ما ينبغي لمؤمن ولا لمؤمنة أن يظن بمن خذله الله خيرا، أو يرجو له صلاحا ورشدا ؛
﴿ ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ﴾ والذي يضلله الله مهما دعوته إلى الهدى فلن يهتدي، (.. وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا.. ) ( ٢ )، (.. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. ) ( ٣ ).
٢ من سورة الأعراف. من الآية ١٤٦..
٣ سورة الصف. من الآية ٥..
﴿ فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ﴾- وللهجرة ثلاث استعمالات : أحدها- الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهو الاستعمال المشهور، وثانيها- ترك المنهيات، وثالثها- الخروج للقتال، وعليه حمل الهجرة من قال : إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد، على ما حكاه خبر الشيخين، وجزم به في الخازن-( ١ ) ؛ ﴿ فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا ﴾. قال السدي : إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم ؛ ونهى الله تعالى المؤمنين عن موالاتهم ومصافاتهم، أو الاستنصار بهم ؛ -
﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم ﴾ إلى آخر الآية، إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال، لا بواسطة الاتصال، ومعنى :﴿ حصرت صدورهم ﴾ ضاقت، والحصر : الضيق والانقباض، وهو في موضع الحال بإضمار قد، ... ، ثم هؤلاء الجاءون من الكفار أو من المؤمنين ؟... ، إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر، وهما طائفتان : إحداهما الذين قصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة والنصرة إلا أنه كان في طريقهم كفار غالبون فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص، والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه، لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكافر أيضا لأنهم أقاربه، أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه، فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم، وأن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار، وعلى هذا فمعنى قوله :
﴿ ولو شاء الله لسلطهم عليكم ﴾ أي : لو شاء لقوى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم، ... ، ﴿ فإن اعتزلوكم ﴾ أي : فإن لم يتعرضوا لكم ﴿ وألقوا إليكم السلم ﴾ أي الانقياد والاستسلام ﴿ فما جعل لكم عليهم سبيلا ﴾ فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم.
﴿ فإن لم يعتزلوكم ويلقوا ﴾ أي : ولم يلقوا، ولم يكفوا ﴿ فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ﴾ حيث تمكنتم منهم، قال الأكثرون : وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم، .. ، أما قوله ﴿ سلطانا ﴾ فمعناه حجة واضحة، لانكشاف حالهم في الكفر والغدر، أو : تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم-( ١ ).
في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :' لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك( ١ ) لدينه المفارق للجماعة " وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " ( ٢ )، وفيهما عن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع :" استنصت الناس " فقال :" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " وهكذا ينفر صلى الله عليه وسلم من قتل المسلم خشية أن يصل القاتل إلى النار مأوى أهل الكفر، أو يستحل قتل المؤمن فيصبح بذلك كافرا ؛ ويحذرنا المصطفى عليه الصلاة والسلام من كل ما يفضي إلى تلك البلية المهلكة بلية القتل، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يشير( ٣ ) أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار " ( ٤ ) ؛ ﴿ وما كان ﴾ نهي وتحريم، كقوله سبحانه :(.. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله.. ) ( ٥ ) ؛ ﴿ إلا خطأ ﴾ قال سيبويه والزجاج- رحمهما الله- ﴿ إلا ﴾ بمعنى : لكن، والتقدير : ما كان له أن يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا، ومن مجيء إلا بمعنى لكن : قوله تعالى :﴿ .. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن.. ﴾- ووجوه الخطأ كثيرة... ، مثل أن يرمي صفوف المشركين فيصيب مسلما، ... ، أو يرمي إلى غرض فيصيب إنسانا، ... ﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ أي : فعليه تحرير رقبة ؛ وهذه الكفارة التي أوجبها الله تعالى في كفارة القتل والظهار أيضا، .. عن ابن عباس والحسن.. ، الرقبة المؤمنة هي التي صلت وعقلت الإيمان، ... ، ﴿ ودية مسلمة ﴾ الدية ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه ؛ ﴿ مسلمة ﴾ مدفوعة مؤداة، ... ، وثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الدية مائة من الإبل، ... ، واختلفوا فيما يجب على غير أهل الإبل ؛ فقالت طائفة : على أهل الذهب ألف دينار، ... ، وأما أهل الورق- الفضة- فاثنا عشر ألف درهم، ..... ، ثبتت الأخبار عن النبي المختار محمد صلى الله عليه وسلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة ؛... ، ﴿ إلا أن يصدقوا ﴾.. يعني : إلا أن يبرئ الأولياء ورثة ُ المقتول القاتلين مما أوجب الله لهم من الدية عليهم ؛... ، وأما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم ؛... ، ﴿ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن ﴾... فإن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قوم وهم كفرة... فلا دية فيه، وإنما كفارته تحرير الرقبة، ... ، ﴿ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ هذا في الذمي والمعاهد يُقتل خطأ فتجب الدية والكفارة ؛.... ، وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ؛... ، ﴿ فمن لم يجد ﴾ أي الرقبة ولا اتسع ماله لشرائها ؛ ﴿ فصيام شهرين ﴾ أي فعليه صيام شهرين﴿ متتابعين ﴾ حتى لو أفطر يوما استأنف ؛ هذا قول الجمهور ؛... ﴿ توبة من الله ﴾ نصب على المصدر، ومعناه : رجوعا ؛ وإنما مست حاجة المخطئ إلى التوبة لأنه لم يتحرز، وكان من حقه أن يتحفظ ؛.... ، ﴿ وكان الله ﴾ أي : في أزله وأبده ﴿ عليما ﴾ بجميع المعلومات ﴿ حكيما ﴾ فيما أحكم وأبرم-( ٦ ).
٢ ورواية أبي هريرة:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله"..
٣ نهى بلفظ الخبر كقوله تعالى:( لا تضار والدة)..
٤ قال القسطلاني ما حاصله: أي يقلعه من يده فيصيب به الآخر أو يشد يده فيصيبه، فيقع في معصية تفضي به إلى أن يقع في حفرة من النار يوم القيامة..
٥ سورة الأحزاب. من الآية ٥٣..
٦ من الجامع لأحكام القرآن..
فقد جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن الرسول صلى الله عليه وسلم : وفيه : " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه " ؛ .
وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل فأتى راهبا فسأله فقال له هل من توبة قال لا، فقتله فجعل يسأل فقال له رجل : ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي وقال قيسوا ما بينهما فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له "، يقول صاحب تفسير القرآن العظيم : وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة ؛ قال النحاس : القول فيه عند العلماء أهل النظر أنه محكم وأنه يجازيه إذا لم يتب فإن تاب فقد بين أمره بقوله :﴿ وإني لغفار لمن تاب.. ﴾ ( ١ )، فهذا لا يخرج عنه، والخلود لا يقتضي الدوام، قال الله تعالى :( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد.. ) ( ٢ ) الآية ؛ وقال تعالى :( يحسب أن ماله أخلده ) ( ٣ )، وهذا يدل على الخلد يطلق على غير معنى التأبيد.
٢ سورة الأنبياء. من الآية ٣٤..
٣ سورة الهمزة. الآية ٣..
أخرج البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عباس قال : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته ؛ فأنزل الله تعالى ذلك إلى قوله ﴿ عرض الحياة الدنيا ﴾ تلك الغنيمة( ١ ) ؛ وفي الصحيحين عن المقداد( ٢ ) بن الأسود أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار، فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال أسلمت لله، أأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :'لا تقتله " فقال : يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي ثم قال ذلك بعدما قطعها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تقتله فإنك إن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال " ؛ وفيهما عن أسامة بن زيد قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال لا إله إلا الله، فكف الأنصاري عنه، وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله " ؟ قلت : كان متعوذا ؛ فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم ؛ ﴿ كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم ﴾ كنتم قبل أن تهدوا إلى الإسلام كهؤلاء الذين قتلتموهم، لكن الله تعالى أنعم عليكم، فشرح صدوركم للحق، فترفقوا بالخلق وائتوا إليهم ما تحبون أن يؤتى إليكم، ولا تتهموا من دخل في الدين بأنه مصانع، ﴿ فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ تثبتوا من حال مَن تلقون، وتذكروا أن المولى محيط علمه بعمل كل عامل فاعملوا خيرا لتنالوا الخير.
٢ هو المقداد بن عمرو الكندي، رضي الله عنه..
روى البخاري عن البراء قال : لما نزلت ﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته، فأنزل الله :﴿ غير أولي الضرر ﴾ والضرر قد يعني : النقصان في البنية كالعمى والعرج والمرض، أو : عدم الأهبة ؛ فكأن المعنى : لا يستوي القاعدون والمجاهدون، إلا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين( ١ )، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر " رواه البخاري في الجهاد( ٢ ) ؛ ﴿ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى ﴾ قال ابن جريج والسدي : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات ؛ ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين وعده الله الحسنى، مثوبة الجنة.
٢ ورواية أنس رضي الله عنه فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة فقال: "إن أقواما بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر". وفي رواية:" إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر"..
٢ سورة الطلاق. من الآية ٢ ومن الآية ٣..
٣ قسم العلماء رضي الله عنهم الذهاب في الأرض قسمين: هربا وطلبا، فالأول ينقسم إلى ستة أقسام: الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، الخروج من أرض البدعة، الخروج من أرض غلب عليها الحرام، الفرار من الأذية في البدن، خوف المرض في البلاد الوخمة، الفرار الأذية في المال؛ وقسم الطلب ينقسم إلى قسمين: طلب الدين كالعمرة والحج والجهاد والمعاش وسفر التجارة والكسب الزائد على القوت، وطلب العلم، وقصد البقاع، والثغور للرباط بها، وزيارة الإخوان في الله تعالى، فهذه خمسة عشر قسما من أقسام الذهاب في الأرض ستة أقسان منها في الهرب، وتسعة في الطلب، وقد كتب فيها القاضي أبو بكر بن العربي بحثا وافيا مبينا فيه حكم كل منها، وهي إما واجبة أو منبوذة، ونقل هذا عن ابن العربي والقرطبي..
٤ يقول القرطبي- رحمه الله-: وفي قول عكرمة هذا دليل على شرف هذا اعلم قديما، وأن الاعتناء به حسن والمعرفة به فضل؛ أقول: ومنه قول ابن عباس؛ مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلا مهابته. ا هـ..
٥ هو من جامع البيان لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري..
﴿ وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ﴾ ضربتم : تحركتم واضطربتم في البلاد وسافرتم، وخرجتم ذاهبين فيها، لتجارة أو جهاد أو طلب علم أو رزق أو نحوها، فلا حرج عليكم ولا تضييق، بل أذن الله لكم أن تخففوا من صلاتكم، من عدد ركعات الرباعية لتصير ثنائية، وفي النافلة تصلون في سفركم على رواحلكم إن شئتم، مستقبلين القبلة وغير مستقبلين لها، - والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر، والمقصود التعميم، ... ، والقصر خلاف المد، يقال : قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، ... يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهي الرباعية-( ١ ).
أخرج الشيخان- البخاري ومسلم- عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه بركعتين ؛ أخرجا عن عبد الله بن يزيد : صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع( ٢ )، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقلبتان ؛ وفي البخاري عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وأبي بكر وعمر، وعثمان صدراً مِن إمارته ثم أتمها ؛ وروى البخاري عن أنس يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا ؛ ﴿ وإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ﴾- خرج مخرج الغالب حال نزول الآية، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة بل ما كانوا ينهضون إلا لغزو عام، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له، كقوله تعالى :﴿ .. ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا.. ﴾ وكقوله تعالى :﴿ وربائبكم اللاتي في جحوركم.. ﴾- ( ٣ ) ؛ وعن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله ابن عمر، فقال : يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر ؟ فقال عبد الله بن عمر : يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل ؛ ومما قال الشافعي : القصر في غير الخوف بالسنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنة ؛ وفي صحيح مسلم عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت :﴿ .. فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا.. ﴾ وقد أمن الناس ؛ فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " ( ٤ )- وفتنتهم إياها فيها : حملهم عليهم وهم فيها ساجدون، حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له ؛.. ﴿ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ﴾ يعني : الجاحدون وحدانية الله.. قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله ورسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة-( ٥ ).
٢ أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون..
٣ من تفسير القرآن العظيم..
٤ مما جاء في فتح القدير: فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب، والقصر مع الأمن ثابت بالسنة، ومفهوم الشرط-(إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)- لا يقوى على معارضة ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن؛ وقد قيل: إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار..
٥ من جامع البيان..
﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ﴾ يحب الجاحدون أن يباغتوكم حين تكون منكم غرة أو غفلة عن عدة حربكم، فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل، فيتمكنون من قتلكم أو أسركم إن باغتوكم وأنتم لا تشعرون ؛ ﴿ ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ﴾ وما جعل الله عليكم من حرج ولا إثم إن كنتم ممطورين، أو أعلاء أو مجروحين أن تجعلوا سلاحكم في متناولكم مع أخذ الحذر من أن يباغتكم عدوكم، واحترسوا من كيدهم ﴿ إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ﴾- تعليل للأمر بأخذ الحذر، أي : أعد لهم عذابا مذلا، وهو عذاب المغلوبية لكم، ونصرتكم عليهم، فاهتموا بأموركم، ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم، وقيل لما كان الحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين، ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة، كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك، لا للمنع عن الإقدام على الحرب-( ١ ).
٢ سورة محمد. الآية ٣٥..
٣ سورة آل عمران. الآيات ١٤٨، ١٤٧، ١٤٦..
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ شهادة من الله العظيم- وكفى به شهيدا- أن الرسول مبعوث من ربه، وأن الكتاب المنزل عليه أوحى إليه به متلبسا بالحق، وهذا توكيد لصدق الرسالة والرسول، ﴿ لتحكم بين الناس بما أراك الله ﴾ فالقرآن المجيد منهاج الله، والعباد مطالبون بالتحاكم إليه، - في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم وتعظيم وتفويض إليه، ... ﴿ بما أراك الله ﴾ معناه : على قوانين الشرع ؛ إما بوحي ونص، أو بنظر جار على سنن الوحي ؛ وهذا أصل في القياس ؛ وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئا أصاب، لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة ؛ فأما أحدنا إذا رأى شيئا يظنه فلا يقطع فيما رآه، ولم يرد رؤية العين هنا، لأن الحكم لا يرى بالعين ؛ وفي الكلام إضمار، أي : بما أراكم الله، وفيه إضمار آخر، وأمض الأحكام على ما عرفناك من غير اغترار باستزلالهم ؛.. ﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾.. قيل : خصيما مخاصما.. ، فنهى الله عز وجل رسوله عن عضد أهل التهم، والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة، ... مال الكافر محفوظ عليه كمال المسلم، إلا في الموضع الذي أباحه الله تعالى ؛.. قال العلماء : ولا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم ليحموهم ويدفعوا عنهم ؛ فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى :﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ وقوله :﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون نفسهم ﴾ ؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد منه الذين كانوا يفعلونه من المسلمين دونه، لوجهين : أحدهما- أنه تعالى أبان ذلك بما ذكره بعد بقوله :﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا ﴾ والآخر- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يُعتذر إليه ولا يَعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره.
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ﴾... والمعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتِك والمتخاصمين بالباطل، ... وقيل : الخطاب للنبي والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى :( يأيها النبي اتق الله.. ) ( ١ )، ( فإن كنت في شك.. ) ( ٢ ).
٢ سورة يونس. من الآية ٩٤..
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ هذا تعليم للأمة أن لا تنتصر لخائن، أو تدافع عنه، أو تتلمس له حجة داحضة، أو معذرة واهية، فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين، ﴿ إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ﴾ فالخائض في الخيانة، العاكف على المعاصي والآثام بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة.
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ﴾ يخاف المفترون أن يطلع الخلق على إفكهم، ولا يخافون اطلاع الخالق سبحانه على مكرهم وكيدهم، مع أنه جل وعلا سميع بصير خبير، يعلم سرهم ونجواهم :(.. ولا تعملون من عمل إلا كنا عليهم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.. ) ( ١ )، ( أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) ( ٢ ).
(.. ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة.. ) ( ٣ ).
٢ سورة الزخرف. الآيتان ٨٠، ٧٩..
٣ سورة المجادلة. من الآية ٧...
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ﴾- ها أنتم الذين جادلتم- يا معشر من جادل عن بني أبيرق في الحياة الدنيا- والهاء والميم في قوله :﴿ عنهم ﴾ من ذكر الخائنين، ﴿ فمن يجادل الله عنهم ﴾ يقول : فمن ذا يخاصم الله عنهم ﴿ يوم القيامة ﴾ أي : يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به، وإنما يعني بذلك أنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما بهم من أليم العذاب ونكال العقاب، وأما قوله :﴿ أمن يكون عليهم وكيلا ﴾ فإنه يعني : ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة، أي : ومن يتوكل لهم في خصوم ربهم عنهم يوم القيامة- ( ١ ).
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما ﴾ هكذا يبشر البر الرحيم أهل الإنابة بأنهم مهما أسرفوا على أنفسهم إثما وجرما ثم طلبوا العفو من الله فإنه سيدخلهم في رحمته، - وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر، ... وعن بعضهم : أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار، فلابد من اقترانه بالتوبة، ...
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل :﴿ من يكسب إثما ﴾ الكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة، ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك، والمقصود منه : ترغيب العاصي في الاستغفار، وكأنه قال : الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إلي، فإني منزه عن النفع والضر، ولا تيأس من قبول التوبة، ﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾ تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه.
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ومن يكسب خطيئة ﴾ صغيرة، ﴿ أو إثما ﴾ كبيرة، وقيل : الخطيئة : الذنب القاصر على فاعله، والإثم هو الذنب المتعدى إلى الغير كالظلم والقتل... ﴿ ثم يرم به ﴾ أي بأحد المذكورين، أو بالإثم، ... ، أو بذلك الكسب ﴿ بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ﴾ لأنه بكسب الإثم أثيم، وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين.
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ولولا فضل الله عليك ورحمته ﴾ ولولا أن خصك الله بالفضل، وهو النبوة، والرحمة، وهي العصمة ﴿ لهمت طائفة منهم ﴾... من الناس.. ﴿ أن يضلوك ﴾ عن القضاء الحق والحكم العدل، ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾ بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان، وشهادتهم بالزور والبهتان، لأن وباله عليهم ﴿ وما يضرونك من شيء ﴾ لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالحكم على الظواهر، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل، ثم أكد الوعيد بقوله :﴿ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ﴾ أي إنه أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات ؛ ﴿ وعلمك ما لم تكن تعلم ﴾ من أخبار الأولين، فيه معنيان : أحدهما- أن يكون كما قال :(.. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان.. ) ( ١ ) أي : أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارها، وأوقفك على حقائقهما، مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك، حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ؛ الثاني- أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب، أي : علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر به على الاحتراز منهم، ﴿ وكان فضل الله عليك عظيما ﴾ فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيما، وسمي متاع الدنيا بأسرها قليلا.
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول، والنجوى : سر بين اثنين، ... قال الفراء : قد تكون النجوى اسما ومصدرا، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضا إلا أنها في المعنى عامة والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا من أمر بصدقة، وفي محل ﴿ مَن ﴾ وجوه، ... فإن كان النجوى : السر، جاز أن يكون ﴿ من ﴾ في موضع النصب لأنه استثناء الشيء من خلاف جنسه، .. ومعناه : لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، .. وأبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف، معناه : إلا نجوى من أمر... واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة، وإن كان من الخيرات الروحانية... فهو الأمر بالمعروف، والثاني هو الإصلاح بين الناس، .. - ( ١ )،
نُقولٌ كثيرة وردت في سبب نزول هذه الآيات الاثنتي عشرة بعضها مروي عن الصحابي قتادة( ١ ) بن النعمان رضي الله عنه، وبعضها عن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما، وأخرى عن مجاهد وابن زيد وعكرمة، وهي مُجمِعة على أن مجرما من بني أبيرق كان منافقا اقترف فوق نفاقه خطيئة سرقة أو خيانة، ثم اتهم به بريئا، فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بزخرف قول المنافق ومن جادلوا عنه، لكن الله جل ثناؤه أعلم نبيه حقيقة الأمر، فلما افتضح أمر هذا الخائن فر فمات بمكة أوفي الطريق إليها مذموما مدحروا ؛ لكنهم اختلفوا في الأبيرقي، هل هو بشر أو طعمة ؟، واختلفوا في المفترى عليه، أهو لبيد بن سهل ؟ أم أبو مليك أو أبو مليل ؟، أم يهودي : يقال له : زيد بن السمين ؟، وأيا ما كان سبب النزول فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
﴿ ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ﴾ المشاقة : أن يكون هذا في جانب وشق، وذاك في شق غيره، وهي تعني : المعاداة ؛ والهدى : الرشد والبيان ؛ وسبيل المؤمنين طريقهم ﴿ نوله ما تولى ﴾ نتركه إلى ما انحاز إليه، ومن شذ شذ في النار، وإنها لأسوأ منزل وقرار ؛ وقد استنبط العلماء من القول الحكيم :﴿ ويتبع غير سبيل المؤمنين ﴾ صحة القول بالإجماع.
٢ سورة المائدة. من الآية ٧٢..
٣ مبل نستطيع القول: إن الجملة الكريمة الأولى من هذه الآية فيها الوعيد الشديد لمن أشرك وكفرن فالله ورسوله بريئان منهما، والله لا يحب كل خوان كفور، وبعدها جاء الوعد للعصاة المنيبين المستغفرين، بأنهم أنابوا إلى تواب رحيم..
٢ من روح المعاني..
٣ من جامع البيان..
٢ سورة الحشر. الآية ١٦، ومن الآية ١٧..
٣ سورة إبراهيم. الآية ٢٢..
٤ سورة الأنفال. الآية ٤٨..
قال مجاهد : قالت العرب لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى :(.. لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.. ) ( ١ )، ( ٢ )( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة.. ) ( ٣ )، ﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ عن الربيع بن زياد قال : قلت لأبي كعب ؛ قول الله تبارك وتعالى :﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ والله إن كان كل ما عملنا جزينا به : كنا ؟ قال : والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى ! إلا يصيب رجلا خدش ولا عثرة إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر حتى اللدغة والنفخة ﴿ ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت :﴿ من يعمل سوءا يجز به ﴾ بلغت من المسلمين مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قاربوا وسددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها "، - فإن حملت الآية على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير دون الله.
٢ وفي رواية: أو ؛ شك الراوي..
٣ من سورة البقرة. من الآية ٨٠..
﴿ يستفتونك ﴾ يسألونك عن حكم الله.
﴿ يفتيكم ﴾ يبين الحكم فيما سألتم عنه. ﴿ ترغبون ﴾ تميلون.
﴿ أن تنكحوهن ﴾ نكاحهن وزواجهن، بتقدير ﴿ في ﴾ أو ﴿ عن ﴾.
﴿ المستضعفين من الولدان ﴾ الصغار من البنين، والبنات.
﴿ تقوموا لليتامى ﴾ تنهضوا وتستوفوا الحق لليتامى.
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها :﴿ ويستفتونك في النساء- إلى قوله- وترغبون أن تنكحوهن ﴾ قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق( ١ )، فيرغب أن ينكحها ( أي عن أن يتزوجها ) ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها، فنزلت هذه الآية ؛ فكان المعنى : قل لمن يسأل عن أمر النساء وأحكامهن : الله يفتيكم فيهن، والقرآن يبين لكم من أحكامهن، ف ﴿ ما ﴾ في ﴿ وما يتلى عليكم ﴾ في موضع رفع، عطف على اسم الله تعالى ؛ ﴿ في يتامى النساء ﴾ أي ما يتلى عليكم في شأنهن، في شأن اليتيمة، وهي الصغيرة من النساء التي لم تبلغ وقد مات أبوها ؛ والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزوجها فتارة يرغب في أن يتزوجها، فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء، فقد وسع الله عز وجل، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر، فنهاه الله عز وجل أن يعضلها ( ٢ ) عن الأزواج، خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها، ... وقال ابن عباس :﴿ والمستضعفين من الولدان ﴾ كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات، وذلك قوله :﴿ لا تؤتونهن ما كتب لهن ﴾ فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه ؛ وعن ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : قول الله عز وجل :﴿ وترغبون أن تنكحوهن ﴾ : رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره، حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ؛ ﴿ وأن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ كما إذا كانت ذات مال وجمال نكحتها واستأثرت بها ؛ ﴿ وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما ﴾ تهييجا على فعل الخيرات وامتثالا للأوامر، وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه، ... ،
٢ يمنعها..
﴿ بعلها ﴾ زوجها. ﴿ نشوزا ﴾ تجافيا وتعاليا، أو أذى وحرمانا.
﴿ إعراضا ﴾ انصرافا وصدودا.
﴿ الشح ﴾ البخل والضن، والإفراط في الحرص على الشيء.
يقول تعالى مخبرا ومشرعا من حال الزوجين : تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حال اتفاقه معها، وتارة في حال فراقه لها.
فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له، ولا عليه في قبوله منها ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا ﴾ ؛ ثم قال :﴿ والصلح خير ﴾ أي من الفراق، وقوله :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ أي : الصلح عند المشاحة خير من الفراق-( ١ ) ؛ في الصحيحين عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة ؛ مما يقول صاحب ( فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ) : قوله :﴿ وأحضرت الأنفس الشح ﴾ إخبار منه سبحانه بأن الشح في كل واحد.. بل في كل الأنفس الإنسانية كائن، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال، وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة، فالرجل يشح بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها، والمرأة تشح على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج فلا تترك شيئا منها ؛ وشح الأنفس بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه، ومنه :(.. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ( ٢ ) ؛ قوله :﴿ وإن تحسنوا وتتقوا ﴾ أي تحسنوا عشرة النساء وتتقوا مالا يجوز من النشوز والإعراض ﴿ فإن الله كان بما تعملون خبيرا ﴾ فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه.
٢ سورة الحشر. من الآية ٩..
﴿ فتذروها ﴾ فتتركوها.
﴿ كالمعلقة ﴾ كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيم.
﴿ لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ﴾ فيما يكون من بدنه وقلبه فذلك لا يستطيع يملكه.
قوله :﴿ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ﴾ أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه البتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه، وزيادة هذه في المحبة ونقصان هذه، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم :" اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عز وجل عن أن يميلوا كل الميل، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم وداخل تحت طاقتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهن إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست بذات زوج ولا مطلقة، تشبيها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء ؛... ﴿ وإن تصلحوا ﴾ أي ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم نحوهن، ﴿ وتتقوا ﴾ وتحذروا الميل عن الحق والجور عن سنن العدل، ﴿ فإن الله كان غفورا رحيما ﴾ فإن ربنا المعبود بحق سبحانه ما زال يستر الخطايا، ويصفح عن مؤاخذة المسيئين إذا هم تابوا وسلكوا سبيل المحسنين، ويتفضل برحمة واسعة، وجنة عالية.
﴿ وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ﴾ فإن لم يتوافق الزوج وزوجته، وتعذر أن يتصالحا، وحدثت الفرقة بينهما بالطلاق، يكْفِ الله تعالى كلا منهما ما أهمه، وييسر له حياة لا يحتاج فيها إلى من فارقه ؛ ﴿ من سعته ﴾ أي : من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق، .. ﴿ وكان الله واسعا ﴾ أي : غنيا وكافيا للخلق.. ﴿ حكيما ﴾ متقنا في أفعاله وأحكامه.
﴿ ولله ما في السموات وما في الأرض ﴾ ( فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة- ولا ! ولا- وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء به- على ما قيل- لذلك ) ( ١ ) ؛ ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾ أمرناكم كما أمرنا الذين سبقوكم وبعثت إليهم الرسل ونزلت فيهم الكتب، ووثقنا العهد إليكم وإليهم بأن تعبدوا الله مخلصين له الدين ؛ ﴿ وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا. ولله ما في السموات وما في الأرض ﴾ وحذرناكم وإياهم أن تجحدوا ما علمتم أنه الحق، فمن كذب ولم يستيقن بما يجب الإيمان به فلن يضر إلا نفسه، وما ضروا الله بشيء ( فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون ) ( ٢ )، ( ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس.. ) ( ٣ )، ( ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ) ( ٤ )،
٢ سورة فصلت. الآية ٣٨..
٣ سورة الحج. من الآية ١٨..
٤ سورة النور. الآية ٤١..
٢ القرآن الكريم أورد (غير) في آية كريمة لا يكاد معناها يحتمل إلا التخالف في الجنس والوصف بين ما قبلها وما بعدها، يقول مولانا تباركت آلاه: ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) الآية ٣٧ من سورة (محمد) علي السلام، وختام الآية (ثم لا يكونوا أمثالكم) يؤكد ما ذهبنا إليه، فمن الغفلة أن يسوي بين معنى(غير) ومعنى- آخر- حتى لقد فسر البعض الآية التي من سورة النساء: ﴿ ويأت بآخرين﴾ بهذه الآية الكريمة التي ختمت بها سورة (محمد) عليه السلام، مع ما بين الآيتين من تفاوت في المعنى؛ وكتاب ربنا العزيز خير شاهد:(.. ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر..) من سورة البقرة. من الآية ١٨٥، فالأيام تجانس ما قبلها إذ هي من جنس الشهر؛ وكذا ما جاء في سورة النجم:( أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى)، الآيتان: ٢٠، ١٩، و(الأخرى) تأنيت الآخر، وصفت (مناة) بها لما جانست ما قبلها.
٢ سورة البقرة. من الآية ٢٠١..
٣ سورة الشورى. من الآية ٢٠..
٤ سورة النحل. الآية ٩٧..
٥ سورة هود. من الآية ٣..
٢ سورة الإسراء. من الآية ١٠٥..
٣ سورة الحديد. من الآية ٢٥..
٤ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن..
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة :( اهدنا الصراط المستقيم ( ١ ) أي بصرنا وزدنا هدى، وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله، كما قال تعالى :( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله.. ) ( ٢ )، وقوله :﴿ والكتاب الذي نزل على رسوله ﴾ يعني القرآن ﴿ والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة، وقال في القرآن :﴿ نزل ﴾ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة، ولهذا قال تعالى :﴿ والكتاب الذي أنزل من قبل ﴾ ( ٣ ) ؛ ﴿ ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ﴾ ؛ وكل من لم يستيقن ويصدق تصديقا جازما بالله تعالى، وبالملائكة الكرام، وبالكتب السماوية، وبالرسل عليهم الصلاة والسلام، وباليوم الآخر والبعث والحشر والحساب، والوزن والثواب والعقاب فقد ذهب عن قصد السبيل وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا، لأن من كفر بذلك خرج عن دين الله الذي ارتضاه، ولم يرتض سواه.
٢ سورة الحديد. من الآية ٢٨..
٣ من تفسير القرآن الكريم..
٢ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرأن..
﴿ بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ﴾ هذا بلاغ للناس ولينذروا به، فالذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون. الله يستهزئ بهم.. ) ( ١ ).
نهى الله أهل الإيمان أن يوادوا ويصافوا ويتابعوا مَن غضب الله عليهم ؛ وجعل ذلك مما يتميز به الخبيث من الطيب، فقال في مرضى القلوب :( ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون ) ( ١ ) ؛ وعلمنا من نوالي، فقال تقدست أسماؤه :( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون. ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) ( ٢ )، وتلك من سنته التي لا تتحول :( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده.. ) ( ٣ ) ؛ واتخاذ الكافرين أولياء بدلا من موالاة المؤمنين منكر، ومنكر أن يُطلب بمصافاة الهلكى بلوغ طرف من الجاه أو الكرامة، فإنه من يهن الله فما له من مكرم، والذين يحادون الله ورسوله هم الأذلون، فمن كان يريد العزة فليتول العزيز العليم، البر الرحيم، العلي العظيم، يمنحه فضلا وعزة ؛ ومنعة ومددا.
٢ سورة المائدة. الآيتان ٥٦، ٥٥..
٣ سورة الممتحنة. الآية ٤..
٢ من سورة المائدة. من الآية ٥٢، وتمامها:(يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين)..
٢ من سورة الحديد. من الآية١٣، وتمامها:(.. قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب)..
٢ سورة الأعراف. من الآية ١٨٦..
٣ من تفسير القرآن العظيم..
٢ سورة غافر. من الآية ٤٦..
٢ من تفسير غرائب القرآن؛ بتصرف يسير..
٣ سورة الأنفال. الآية ٣٣..
٤ سورة الفرقان. من الآية ٧٧..
٥ سورة الفتح. من الآية ١٠..
٦ سورة فاطر. من الآية ٤٣..
٧ سورة يونس. من الآية ٢٣..
نقل عن الحسن : الرجل يظلم الرجل فلا يدعو عليه، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي ؛ فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء ؛ وعن مجاهد أن المراد : لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه، إلا من ظلم، فيجوز له أن يشكو ظالمه، ويظهر أمره، ويذكره بسوء ما قد صنعه ؛ في القاموس : الجهر بالشيء : الإعلان به والإظهار ؛ وفي الصحاح : جهر بالقول : رفع صوته به- ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت، أي : لا يحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول، إلا من ظلم، أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى- ( ١ ) ؛ ويستشهد لهذا بما جاء في الصحيح ( ٢ ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لي ( ٣ ) الواجد ( ٤ ) ظلم يحل عرضه وعقوبته " ؛ قال ابن المبارك : يحل عرضه : يغلظ له، وعقوبته : يحبس له ؛ وفي صحيح مسلم ( ٥ ) :" مطل الغني ظلم " ؛ فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه : فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم، ويبيح للإمام أدبه وتعزيره ( ٦ ) حتى يرتدع عن ذلك ؛ نقل معناه عن سفيان، ﴿ وكان الله سميعا عليما ﴾، تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار، فليتق الله ولا يقل إلا الحق، ولا يقذف مستورا.
٢ جاء مرويا عن عمرو بن الشريد عن أبيه..
٣ اللي: المطل..
٤ الواجد: القادر على أداء ما عليه من دين..
٥ وأخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الحوالة، عن أبي هريرة، وزاد:" فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع".
٦ روى الحافظ أبو بكر عن أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارا يؤذيني، فقال له:" أخرج متاعك فضعه على الطريق"، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق فكل من مر به قال: مالك؟ قال: جاري يؤذيني، فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه؛ فقال الرجل: ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبدا..
نقل عن قتادة أنه قال في الآيتين الأوليين : أولئك أعداء الله تعالى، اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه السلام، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام، وكفروا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله عز وجل، وتركوا الإسلام وهو دين الله عز وجل الذي بعث به رسله ؛ وقال بعضهم : الذين يكفرون بالله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع، فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم ؛ - والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض، فمن رد نبوته.. تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا، إنما هو عن غرض وهوى وعصية، ... ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه، أو نظروا حق النظر في نبوته، - ( ١ ) ؛ مما يقول صاحب جامع البيان :﴿ ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ﴾.. أن يتخذوا بين أضعاف قولهم : نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض سبيلا، يعني طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه.
٢ من روح المعاني؛ الألوسي..
﴿ كتابا من السماء ﴾ ألواحا مكتوبة تنزل من السماء وقد سطر فيها الوحي.
﴿ فقد سألوا موسى ﴾ سأل أسلافهم وأوائلهم نبي الله موسى عليه السلام.
﴿ أرنا الله جهرة ﴾ نعاينه وننظر إليه.
﴿ الصاعقة ﴾ النار التي تنزل عليهم فتهلكهم.
﴿ اتخذوا العجل ﴾ اختاروه وعبدوه.
﴿ البينات ﴾ الدلائل الواضحات مثل العصا والحية وانفلاق البحر.
﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ فأحيينا من صعقوا منهم بعد موتهم.
﴿ وآتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ أعطينا نبينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقيقة نبوته.
﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ يخبر الله تعالى عن طائفة من أهل الكتاب الذين حُملوا أماناتها فلم يوفوا، وجاءتهم فيها البشرى بالنبي الخاتم فكانوا من أول من صد عنه، ومن تعنتهم أن سألوه إنزال ألواح من السماء سطر فيها الوحي جملة، عن السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقا أنك رسول فآتنا كتابا مكتوبا من السماء كما جاء به موسى ؛ وعن محمد بن كعب القرظي قال : جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك، فأنزل الله :﴿ يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ﴾ إلى قوله :﴿ وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾ ؛ ﴿ فقد سأل موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ﴾- توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتاب الذين سألوا رسول الله صلى االه عليه وسلم أن ينزله عليهم في مسألتهم إياه ذلك، وتقريع منه لهم، يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد لا يعظمن عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله وجراءتهم عليه واغترارهم بحلمه لو أنزلت عليك الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل واتخذوه إلها يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أراهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم، لأنهم لم يَعْدوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم، ... ﴿ ثم اتخذوا العجل ﴾ فإنه يعني : ثم اتخذ هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرة بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم العجل الذي كان السامري نبذ فيه ما نبذ من القبضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام إلها يعبدونه من دون الله، ... ﴿ من بعد ما جاءتهم البينات ﴾.. الدلالات الواضحات بأنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة، ... ، يقول الله مقبحا إليهم فعلهم ذلك، وموضحا لعباده جهلهم، ونقص عقولهم وأحلامهم، ثم أقروا للعجل بأنه لهم إله وهم يرونه عيانا، وينظرون إليه جهارا، بعد ما أراهم ربهم من الآيات ما أراهم أنهم لا يرون ربهم جهرة وعيانا في حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدقين بألوهيته ؛ وقوله :﴿ فعفونا عن ذلك ﴾ يقول : فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه... بالتوبة التي تابوها إلى ربهم بقتلهم أنفسهم وصبرهم في ذلك على أمر ربهم، ﴿ وآتينا موسى سلطانا مبينا ﴾ يقول : وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه وحقيقة نبوته، وتلك الحجة : هي الآيات البينات التي آتاه الله إياها-( ١ ).
﴿ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ﴾ أمرناهم أن يدخلوا باب المدينة الموعودة ساجدين، خضوعا لله تعالى.
﴿ وقلنا لهم لا تعدلوا في السبت ﴾ وعهدنا إليهم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحل لهم ما وراء ذلك.
﴿ ميثاقا غليظا ﴾ عهدا مؤكدا مشددا.
﴿ ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ﴾ لما لم يوفوا بعهدهم : ليعملن بالتوراة علق الله جانبا من جبل الطور فوق رءوسهم، ليبقوا على خوف من وقوعه، فيلتزموا العمل بما جاءهم في الوحي المنزل على نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام، وفي هذا جاء قول الحق سبحانه :( وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ) ( ١ ) ؛ كما جاء بيان عبادتهم العجل في الآيات من رقم ٥١ إلى ٤٥من سورة البقرة، وفي آيات من سورة الأعراف وسورة طه ؛ ﴿ وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ﴾ أمرهم الله تقدست أسماؤه أن يدخلوا باب المدينة التي وعدوها ساجدين، إقرارا بفضله سبحانه، فدخلوا يزحفون، تعظماُ أن يسجدوا وتأنفا، ﴿ وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ﴾ وأمرناهم أن لا يأكلوا الحيتان يوم السبت، ولا يعرضوا لها، وأحللنا لهم ما وراء ذلك، فتعدوا أمرنا، فأحللنا بهم بأسنا ؛ يقول مولانا العلي الكبير :( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون. وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) ( ٢ ) ؛ ﴿ وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ﴾ وأخذ الله تعالى عليهم عهدا مؤكدا مشددا أن ينهضوا بأمره وشرعه الذي أوحاه إليهم دون تفريط.
٢ من سورة الأعراف. الآيات: من ١٦٣ إلى ١٦٦..
﴿ بل طبع الله عليها ﴾ بل لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.
﴿ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ﴾ فبسبب خلفهم الوعد ونقضهم مع الله العهد، وجحودهم بآيات الله الكونية والتنزيلية، وقتلهم أنبياء الله عدوانا وظلما، ومن أجل ادعائهم أن قلوبهم لا تعي ما جاء عن ربهم، لعنهم سبحانه وغضب عليهم، وتركهم في عمايتهم وغيهم، فلا يصدقون بحق إلا تصديقا قليلا كالعدم، أو لا يصدق ويستيقن منهم إلا القليل.
﴿ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ﴾ عن ابن عباس : يعني أنهم رموها بالزنا، - فإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب، وكذا إنكارهم نبوة عيسى كفر، ونسبتهم الزنا لمريم بهتان عظيم- ( ١ ).
﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ لعنة اليهود كانت بسبب نقضهم عهد الله ليعملن بما في التوراة، وبسبب قتلهم الأنبياء ظلما كما قتلوا زكريا عليه السلام، وبسبب تكذيبهم بآيات الله الكونية والتنزيلية، وبسبب رميهم مريم النقية التقية المطهرة والمصطفاة، وافتراء الزنا عليها، وبسبب ما ادعوه من قتل المسيح عيسى عليه السلام ؛ ( وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وسخطه : وغضبه وعقابه، أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، ويصور من الطين طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان، وأنهواإليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس، فلما وصل الكتاب امتثل ولي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه، اثني عشر وقيل سبعة عشر نفرا- وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت- فحصروه هنالك فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم، قال لأصحابه : أيُكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال : أنت هو، وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى :( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك.. ) ( ١ ) الآية، فلما رُفع خرج أولئك النفر، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا- كما ظن اليهود- أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ويقال أنه خاطبها، والله أعلم، وهذا كله من امتحان الله عباده، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح الله الأمر وجلاه ؛ وبينه وأظهره في القرآن العظيم، الذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات، فقال تعالى- وهو أصدق القائلين- :﴿ وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ﴾ أي : رأوا شبهه فظنوه إياه، ولهذا قال :﴿ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ﴾ يعني بذلك من ادعى أنه قُتل من اليهود، ومن سلمه إليهم من جهال النصارى، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال ؛ ولهذا قال :﴿ وما قتلوه يقينا ﴾ أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو، بل شاكين متوهمين.
٢ صحح الحافظ ابن كثير هذا الإسناد إلى ابن عباس..
﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ﴾ سينزل عيسى عليه السلام آخر الزمان، ولا يبقى أحد من أهل التوراة والإنجيل حينئذ إلا ليصدقن بمجيئه حيا قبل أن يموت- سلام الله عليه- وفي هذا مزيد تكذيب للذين زعموا أنه قتل وصلب ؛ روى البخاري( ١ ) في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها "، ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم :﴿ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾ ؛ وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم " ؟ ! ومن حديث لمسلم عن عبد الله بن عمرو- وفيه- :" يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين.. فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه.. "، وروى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال :" لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق- أو تحشر- الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " ؛ ﴿ ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ﴾ قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله وأقر بالعبودية لله عز وجل، أقر بالعبودية على نفسه.
من سنن الله تعالى التي لا تتحول ولا تتبدل أن البطر بالنعم مجلبة للنقم، وقد مضى هذا في الأولين( وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين. وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) ( ١ ) ؛ ويسوق ربنا القول الحكيم عصمة للمتدبرين من مصائر البطرين :( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ( ٢ ) ؛ وهكذا عجل الله النقمة لليهود لقاء غيهم، وعتوهم عن أمر ربهم، يقول تقدست أسماؤه :( وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون )( ٣ )، فهم مع الكنود والجحود، والشر والكفر، والغي والبغي، وتجاوز الحد، وأمعنوا في الفتنة عن الإسلام والصد، فضلوا وأضلوا كثيرا.
٢ سورة النحل. الآية ١١٢..
٣ سورة الأنعام. الآية ١٤٦..
٢ سورة البقرة. الآية ٧٩..
٢ سورة آل عمران. من الآية ١٨..
٣ من كتاب أحكام القرآن لأبي بكر الجصاص، بتصرف.
﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ الوحي : إعلام في خفاء، يقال وحى الكلام وحيا، وأوحى إليك إيحاء ؛ في هذا تكريم للرسالة والرسول، فإنه مبعوث من لدن ربه، ولا يقول من عند نفسه، وإنما يبلغ كلمات ربنا، وإنها لتامات صادقات عادلات لا مبدل لها، وما هو ببدع من الرسل، وما رسالته إلا كسائر الرسالات، لكنها الخاتمة الدائمة، وهذا قريب من معنى قول الحق جل ثناؤه :( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم.. ) ( ١ )، فوحي الله إلى خاتم أنبيائه كوحيه سبحانه إلى نوح أول أولي العزم من الرسل، ومن جاء من بعده، وعطف الوحي إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان على الوحي إلى النبيين مع انتظامهم في سلكهم تشريفا لهم وإظهار لفضلهم، وهو من عطف الخاص على العام، كما في قوله تعالى :( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال.. ) ( ٢ )، وكما في الآية الكريمة ؛ ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) ( ٣ ) ؛ ﴿ والأسباط ﴾- وهم أولاد يعقوب عليه السلام في المشهور، وقال غير واحد : إن الأسباط في ولد إسحق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم، ... ، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء، بل الذي صح عنده- وألف فيه الجلال السيوطي رسالة- خلافه- ( ٤ ) ﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ وأعطينا داود عليه السلام وأنزلنا عليه كتابا هو الزبور، وقد نقل عن العلماء أن فيه مائة وخمسين سورة ليس فيها حُكْم من الأحكام، وإنما هي حِكَم ومواعظ، وتحميد وتمجيد، وثناء على الله تعالى شأنه، قالوا : وكان داود عليه السلام يقرأ من الزبور بصوت بالغ الحسن فيؤثر في الأسماع والقلوب.
٢ من سورة البقرة. من الآية ٩٨..
٣ من سورة الرحمن. الآية ٧..
٤ من روح المعاني..
٢ من جامع البيان..
شهد الله تعالى بالحق، وأنه أرسل محمدا خاتم النبيين بالهدى ودين الحق، فمن يعرض عن هذا الرشد، أو يجحد هذا الإسلام فقد غوى، ومن يمنع الناس عن الدخول في الملة الحنيفية فقد صد عن طريق الله القويم، ومنهاجه المستقيم، فهلك وأهلك غيره، وسيحمل يوم القيامة وزره ووزر من فتنه وأضله( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ) ( ١ ).
﴿ يأهل الكتاب ﴾ يا من تنتسبون إلى جنس الكتاب المنزل من قبل : التوراة والإنجيل.
﴿ لا تغلوا ﴾ لا تُفِْرطوا، ولا تُفَرطوا، فلا تجعلوا عيسى ربا، ولا تجعلوه لغير رشدة.
﴿ المسيح ﴾ المبارك، أو الممسوح بالبركة، أو الذي يمسح المعتل فيبرأ بإذن الله.
﴿ وكلمته ﴾ كونه الله تعالى بكلمته الحكيمة( كن ) فكان بشرا من غير أب.
﴿ وروح منه ﴾ رحمة من الله، وبرهان، أو : روح من خلق الله سبحانه، أو : رسول منه.
﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾ لا تقولوا : آلهتنا ثلاثة، أو : هو ثالث ثلاثة، أو : الآلهة ثلاثة.
﴿ انتهوا خيرا لكم ﴾ انتهوا من التثليث يكن الانتهاء عنها خيرا لكم.
﴿ سبحانه ﴾ نزهوه وقدسوه وبرءوه عن كل عيب ونقص واتخاذ صاحبة أو ولد.
﴿ يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ﴾ هذا بيان للناس وبلاغ لليهود والنصارى المنتسبين إلى التوراة والإنجيل ومن على شاكلتهم، لينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد، نهى لهم عن تجاوز الحد في الدين بالغلو فيه أو التجافي عنه، بالإفراط أو التفريط في أماناته ؛ ومن الإفراط : غلو النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، ورموا مريم الطاهرة بيوسف النجار التقي العابد ؛ ولا تزعموا أن الله تعالى حل في بدن إنسان، أو اتحد بروحه، فهذا زور وباطل ؛ وذهب جماعة من المفسرين إلى أن في النداء تجريدا وفي الخطاب تخصيصا، وأنه موجه إلى النصارى زجرا لهم عما عليه من الضلال البعيد، من قولهم : عيسى إله، أو، ابن إله، أو : ثالث ثلاثة ؛ في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى وقولوا عبد الله ورسوله " ؛ - بل قد غلوا في أتباع عيسى عليه السلام وأشياعه ممن زعم أنه على النصرانية فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوا سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا، ولهذا قال الله تعالى :( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.. ) ( ١ ).. -( ٢ ) ؛ ﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾ قال قتادة : هو كقوله :(.. كن فيكون ) ( ٣ )، وقال شاذ ابن يحيى : ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى ؛ روى البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " ؛ فعيسى عليه السلام ليس إلا نبيا كسائر إخوانه النبيين عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين :( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل.. ) ( ٤ )، ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه.. ) ( ٥ ) ؛ ﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ﴾ ( ٦ )، وهكذا كل مراد الله تعالى يتحقق بأمره سبحانه ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) ( ٧ )، ﴿ وروح منه ﴾ ( من هاهنا ) لابتداء الغاية، أي من خلقه ومن عنده، وليست للتبعيض كما تقول النصارى- عليهم لعائن الله- ومثل هذا في القرآن قول الحق جل شأنه :( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه.. ) ( ٨ )، والروح قد تعني الرحمة، كما في قوله تعالى :(.. وأيدهم بروح منه.. ) ( ٩ )، وقد تعني الرسالة، كما سمى جبريل عليه السلام ( روح القدس ) لأنه ينزل بالوحي المقدس على من يصطفيهم الله، - وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله :(.. هذه ناقة الله.. ) ( ١٠ )، وفي قوله :(.. وطهر بيتي للطائفين.. ) ( ١١ )، .. ، وهذا كله من قبيل ونمط واحد-( ١٢ ) ؛ ﴿ فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة ﴾ فصدقوا واستيقنوا بجلال الله الذي ليس كمثله شيء، وآمنوا برسله وأنهم رجال اصطفاهم من خلقه، وبعثهم برسالاته ووحيه، فهم بشر يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ليس لهم من الألوهية شيء، وعيسى واحد منهم ؛ ﴿ ولا تقولوا ثلاثة ﴾_ هي خبر مبتدأ محذوف، أي : الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد، وأنه ثلاثة بالصفات، ويسمونها : الأقانيم : أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس ؛ وربما يقولون : أقنوم الذات، وأقنوم العلم، وأقنوم الحياة ؛ أو : الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها : الأب والأم والابن، .. - سورة الحج. من الآية ٢٦. ، ( ومحصول كلامهم يئول إلى التمسك بأن عيسى إله بما كان يجريه الله على يديه من خوارق العادات على حسب دواعيه وإرادته ؛ وقالوا : قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفا بالإلهية ؛ فيقال لهم : لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلا به كان تخليص نفسه من أعدائه ودفع شرهم عنه من مقدوراته، وليس كذلك ؛ فإن اعترفت النصارى بذلك فقد سقط قولهم ودعواهم أنه كان يفعلها مستقلا به ؛ وإن لم يسلموا ذلك فلا حجة لهم أيضا ؛ لأنهم معارَضون بموسى عليه السلام، وما كان يجري على يديه من الأمور العظام، مثل قلب العصا ثعبانا، وفلق البحر، واليد البيضاء، والمن والسلوى، وغير ذلك ؛ وكذلك ما جرى على يد الأنبياء ) ( ١٣ ) ؛ مما جاء في فتح القدير، الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير : ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطلق عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، .. ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين ؛ والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ؛ وما خالفه في التوراة أو الإنجيل أو الزبور فهو من تحريف المحرفين وتلاعب المتلاعبين ؛ ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام ؛ وحاصل ما فيها جميعا أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ والضبط، وذكر ما قاله عيسى وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتابا، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوارة ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور فإنه من أوله إلى آخره من كلام داود عليه السلام ؛ وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الإنجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. ا ه ؛ ومما نقل صاحب روح المعاني : ذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة- سبحانه وتعالى عما يشركون- وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر، وانقلبت الكثرة وحدة، وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلها أزليا، مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، ...
ومن النسطورية من قال : إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، .. ، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب، وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت، فالمسيح إله تام، وإنسان تام، وهما قديم وحديث، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث، وقالوا : عن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت، ..... ، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت : ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع، وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره، ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى، بل يعتقد رسالته، وأنه مخلوق بجسمه وروحه، ففشت مقالته في النصرانية، فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نقية عند الملك قسطنطين وتناظروا، فشرح أريوس مقالته، فرد عليه الأكصيدروس بَطْريق الإسكندرية، وشنع على مقالته عند الملك، ثم تناظروا، فطال تنازعهم، فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم، وقام لهم البتِْرك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي، فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة- وأكثرهم اليوم عليها، وهي : نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء، ملك كل شيء، صانع ما يُرى وما لا يُرى، بالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد، بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم، وليس بمصنوع، إله حق، من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معاشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا، وحُبل به وولد من مريم البتول واتجع وصلب أيام فيلاطس ودفن في اليوم الثالث، .. ، ثم شرع في الرد على إفكهم، وأطال في الرد( ١٤ )، ومما قال : قولهم : إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فأما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت، ... فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال، وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهوأيضا محال، لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالحادث، وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون، فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه : الأول أن قولهم : نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء، يناقض قولهم : وبالرب الواحد المسيح مناقضة لا تكاد تخفى، الثاني أن قولهم إن يسوع المسيح ابن الله تعالى البكرمشعر بحدوث المسيح، إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه، إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود، وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول، لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولداً لم يزل أو : لم يكن، فإن قالوا : ولد ولدا لم يزل، قلنا : فما ولد شيئا، إذ الابن لم يزل، وإن ولد شيئا لم يكن فالولد حادث مخلوق، وذلك مكذب لقولهم : حق من إله حق من جوهر أبيه، .. ، الثالث أن قولهم إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل : وقد سئل عن يوم القيامة فقال : لا أعرفه ولا يعرف إلا الأب وحده، .. الرابع أن قولهم إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء، باطل مكذب لما في الإنجيل، إذ يقول متى : هذا مولد يسوع المسيح ابن داود، وأيضا خالق العالم لابد وأن يكون سابقا عليه، وأني بسبق المسيح وقد ولدته مريم ؟ وأيضا في الإنجيل
٢ من تفسير القرآن العظيم..
٣ سورة يس. من الآية ٨٢..
٤ سورة المائدة. من الآية ٧٥..
٥ سورة الزخرف. من الآية ٥٩..
٦ سورة آل عمران. الآية ٥٩..
٧ سورة النحل. الآية ٤٠..
٨ سورة الجاثية. من الآية ١٣..
٩ سورة المجادلة. من الآية ٢٢..
١٠ سورة الأعراف. من الآية ٧٣..
١١ سورة الحج. من الآية ٢٦..
١٢ مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن..
١٣ مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن: ثم قال: وقد قيل: إن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة بعد ما رفع عيسى؛ يصلون إلى القبلة؛ ويصومون شهر رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، قتل جماعة من أصحاب عيسى فقال: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا وجحدنا وإلى النار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار؛ وإني أحتال فيهم فأضلهم فيدخلون النار؛... فأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب وقال للنصارى: أنا بولس عدوكم قد نوديت من السماء أن ليست لك توبة إلا أن تتنصر، فأدخلوه في الكنيسة بيتا فأقام فيه سنة لا يخرج لا ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل؛ فخرج وقال: نوديت من السماء أن الله قد قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه، ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطورا وأعلم أن عيسى ابن مريم إله، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت، وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنس، ولا بجسم فتجسم، ولكنه ابن الله؛ وعلم رجلا يقال له يعقوب ذلك؛ ثم دعا رجلا يقال له: ملكا أو ملكان، فقال له، إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى؛ فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال له: أنت خالصتي ولقد رأيت المسيح في النوم ورضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي وأتقرب بها، فادع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه؛ فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة، فاقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث؛ فهذا كان سبب شركهم فيما يقال؛ والله أعلم..
١٤ في بحث مستفيض يزيد على أربعة ألاف كلمة..
﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ﴾ لن يأنف المسيح العبودية لله تعالى ولن يتأبى عنها، ولن تأنف الملائكة العبودية، ولن ينقطعا عنها، وكلاهما من المقربين، وقد شهد المولى سبحانه لعيسى بأنه صاحب منزلة عالية(.. وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ) ( ١ )، وشهد عز ذكره للملائكة بأنهم عباد مكرمون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون.
﴿ ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ﴾ هذا وعيد لمن تأنف عن العبودية لربه وانقطع عن أداء ما أوجب الله على العباد، وتأبى واستكبر عن الخضوع لجلال خالقه وبارئه، فإنه مردود إلى ربه، وموقوف بين يديه، ومجزي بالاستكبار في الدنيا صغارا وذلا في الآخرة ( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل.. ) ( ٢ )، (.. إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ) ( ٣ )، (... فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) ( ٤ )، والحشر يجمع الله تعالى فيه المطيعين والمستنكفين، لكنه سبحانه لا يسوي بين المسلمين والمجرمين، الذين استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة، والذين تولوا عن الهدى يدعون إلى نار جهنم دعا، ويساقون إلى المحشر سوقا مهينا(.. يوم يدع الداع إلى شيء نكر. خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر. مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر ) ( ٥ ) ؛ ( فإذا نقر في الناقور. فذلك يومئذ يوم عسير. على الكافرين غير يسير ) ( ٦ ).
٢ سورة الشورى. من الآية ٤٥..
٣ سورة غافر. من الآية ٦٠..
٤ سورة الأحقاف. من الآية ٢٠..
٥ سورة القمر. من الآية٦، والآيتان: ٨، ٧..
٦ سورة المدثر. الآيات ٨ و٩ و١٠..
٢ سورة يونس. الآية ٢٧..
ينادي الناس ويخاطبون بالرسالة الخاتمة، لأنها الرسالة التامة :( قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا... ) ( ١ )، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس.. ) ( ٢ )، والبرهان : ما يبرهن به على المطلوب، وقد جاءنا عن ربنا السلطان والحجة والبيان، في آيات كونية وتنزيلية، بشر بها ودعا إليها السراج المنير، خاتم النبيين(.. قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) ( ٣ )، وعن الثوري : البرهان يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، لأن معه البرهان وهو المعجزة ؛ وعن الحسن : النور المبين هو القرآن، لأن به تتبين الأحكام ويهتدي به من الضلالة، فهو نور مبين، أي : واضح بين ؛ ويحتمل أن يراد بالنور والبرهان كليهما القرآن
٢ سورة السبأ. من الآية ٢٨..
٣ سورة المائدة. من الآية ١٥؛ والآية ١٦..
قال البخاري عن أبي إسحق قال : سمعت البراء قال : آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت ﴿ يستفتونك ﴾ ؛ وفي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب علي فعقلت فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض ؛ وأخرج مسلم عن عمر قال : ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال :" ما تكفيك آية الصيف التي في آخرها النساء " ؟ وأخرج البخاري ومسلم عن عمر قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من الربا ؛ والمراد بالولد هنا : الابن، وهو أحد معنيي المشترك، لأن البنت لا تسقط الأخت ؛ وثبت في الصحيح أن معاذا قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف وللأخت النصف ؛ وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي ؛ فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.
﴿ يستفتونك ﴾ يسألك أصحابه يا محمد سؤال تعلم، ويطلبون بيان ما أشكل من حكم ميراث الكلالة، ﴿ قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ قل لأصحابك وسائليك وكل من يقال له : الله يحكم فيما أشكل عليكم من ميراث من لا ولد له ولا والد ؛ قال الفراء : الكلالة من القرابة ما خلا الوالد والولد، سموا كلالة لاستدارتهم بنسب الميت، الأقرب فالأقرب، من تكلله النسب إذا استدار به، وسمعته مرة يقول : الكلالة من سقط عنه طرفاه، وهما أبوه وولده ؛ فكل من مات ولا والد له ولا ولد فهو كلالة ورثته، وكل وارث ليس بوالد للميت ولا ولد له فهو كلالة مورثه ؛ وهذا مشتق من جهة العربية موافق للتنزيل والسنة ؛ فالكلالة ههنا الأخت للأب والأم، والأخوة للأب والأم، فجعل الأخت الواحدة نصف ما ترك الميت، والأختين الثلثين، والأخوة والأخوات جميع المال بينهم، للذكر مثل حظ الأثنيين ؛ أما في الآية الثانية عشرة من هذه السورة الكريمة :﴿ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ﴾ فإن الكلالة تعني : الإخوة والأخوات لأم، لكن هنا تنصرف إلى الإخوة الأشقاء- الإخوة لأب وأم- والأخوات الشقيقات كذلك.
﴿ إن امرؤ هلك ﴾ إن مات امرؤ صفته أنه لا ولد له، أو مات حال كونه لا ولد له، ﴿ وله أخت ﴾ من الأبوين أو من الأب، لأن الأخت من الأم فرضها السدس، كما بين الله تعالى في الآية رقم ١٢.
﴿ .. وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس.. ﴾، ﴿ فلها نصف ما ترك ﴾- أي بالفرض والباقي للعصبة، أو : لها بالرد إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط ﴿ وهو ﴾ أي المرء المفروض ﴿ يرثها ﴾ أي : أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب ؛ وقد سدت- كما قال أبو البقاء- مسد جواب الشرط في قوله تعالى :﴿ إن لم يكن لها ولد ﴾ ذكرا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية، لا إرثه لها في الجملة، فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب، إذ صح عنه صلى الله عليه وسلم :" ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولي عصبة ذكر " ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ، وليس ما ذكر بأول حكمين بُين أحدهما بالكتاب والآخرُ بالسنة. هو الضمير لمن يرث بالإخوة، وتثنيته محمولة على المعنى، وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما، ... ، وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين : الأول أن ضمير كانتا لا يعود على الأختين بل على الوارثين، وثم صفة محذوفة لاثنتين، والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير :﴿ فإن كانتا ﴾ أي : الوارثتان ﴿ اثنتين ﴾ من الأخوات، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ؛ والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين- كما ذكروا- ويكون خبر﴿ كان ﴾ محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا، ويكون اثنتين حالا مؤكدة، والتقدير : فإن كانتا أي الأختان له، أي للمرء الهالك، ويدل على حذف له :﴿ وله أخت ﴾ ؛ ﴿ وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ أصله : وإن كانوا إخوة وأخوات، فغلب المذكر بقرينة ﴿ رجالا ونساء ﴾ الواقع بدلا، .. ﴿ يبين الله لكم ﴾ حكم الكلالة، أو : أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها، .. ﴿ أن تضلوا ﴾ كراهة أن تضلوا في ذلك، .. وذهب الكسائي والفراء وغيرهما.. إلى تقدير اللام ولا في طرفَيْ ﴿ أن ﴾ أي : لئلا تضلوا-( ١ ) ؛ ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ والله تعالى محيط علمه بجميع الأشياء، فهو قد شرع وقدره بحكمة وخبرة وعلم.
ختم السورة ببيان كمال العلم، كما أنه ابتدأها ببيان كمال القدرة، وبهما يحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع ؛ نسأل الله العون على ذكره وشكره وحسن عبادته، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر اللهم آمين.