تفسير سورة النساء

تفسير ابن جزي
تفسير سورة سورة النساء من كتاب التسهيل لعلوم التنزيل المعروف بـتفسير ابن جزي .
لمؤلفه ابن جُزَيِّ . المتوفي سنة 741 هـ
سورة النساء
مدنية وآياتها ١٧٦ نزلت بعد الممتحنة.

سورة النساء
مدنية وآياتها ١٧٦ نزلت بعد الممتحنة (سورة النساء) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ خطاب على العموم وقد تكلمنا على التقوى في أوّل البقرة مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام زَوْجَها هي حوّاء خلقت من ضلع آدم وَبَثَّ نشر تَسائَلُونَ بِهِ أي يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله أن تفعل كذا والْأَرْحامَ بالنصب عطفا على اسم الله أي: اتقوا الأرحام فلا تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور. وهو به، لأنّ موضعه نصب وقرئ بالخفض عطف على الضمير في به، وهو ضعيف عند البصريين، لأنّ الضمير المخفوض لا يعطف عليه إلّا بإعادة الخافض إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها استفاد مقام المراقبة وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثمر حالين: أما العلم: فهو معرفة العبد بأنّ الله مطلع عليه، ناظر إليه يرى جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله، وأما الحال: فهي ملازمة هذا العلم للقلب بحيث يغلب عليه، ولا يغفل عنه، ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال: كانت ثمرتها عند أصحاب اليمين: الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجدّ في الطاعات، وكانت ثمرتها عند المقرّبين: الشهادة التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال، وإلى هاتين الثمرتين أشار رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «١» فقوله أن تعبد الله كأنك تراه: إشارة إلى الثمرة الثانية، وهي المشاهدة الموجبة للتعظيم: كمن يشاهد ملكا عظيما، فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله فإن لم تكن تراه فإنه يراك: إشارة إلى الثمرة الأولى ومعناه إن لم تكن من أهل المشاهدة التي هي مقام المقرّبين، فأعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما
(١). جزء من الحديث المشهور أخرجه مسلم عن عمر بن الخطاب. راجع الأربعين النووية.
فسر الإحسان أوّل مرة بالمقام الأعلى رأى أنّ كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، فنزل عنه إلى المقام الآخر، واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدّم قبلها المشارطة والمرابطة، وتتأخر عنها المحاسبة والمعاقبة، فأما المشارطة: فهي اشتراط العبد على نفسه بالتزام الطاعة وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة أول الأمر تكون المراقبة إلى آخره، وبعد ذلك يحاسب العبد نفسه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد أوفى بما عاهد عليه الله: حمد الله، وإن وجد نفسه قد حل عقد المشارطة، ونقض عهد المرابطة، عاقب النفس عقابا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، فهكذا يكون حتى يلقى الله تعالى
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ.
خطاب للأوصياء، وقيل: للعرب الذين لا يورثون الصغير مع الكبير أمروا أن يورثوهم، وعلى القول بأنّ الخطاب للأوصياء، فالمراد أن يؤتوا اليتامى من أموالهم ما يأكلون ويلبسون في حال صغرهم، فيكون اليتيم على هذا حقيقة، وقيل: المراد دفع أموالهم إليهم إذا بلغوا، فيكون اليتيم على هذا مجاز، لأن اليتيم قد كبر وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف، فنهوا عن ذلك. وقيل: المعنى لا تأكلوا أموالهم وهو الخبيث، وتدعوا مالكم وهو الطيب وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ المعنى: نهي أن يأكلوا أموال اليتامى مجموعة إلى أموالهم، وقيل: نهي عن خلط أموالهم بأموال اليتامى، ثم أباح ذلك بقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم، وإنما تعدّى الفعل بإلى لأنه تضمن معنى الجمع والضم وقيل: بمعنى مع حُوباً أي ذنبا
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا الآية، قالت عائشة: نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم، فيريدون أن يتزوّجوهن ويبخسوهن في الصداق لمكان ولايتهم عليهم، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوّج بما طاب له من الأجنبيات اللاتي يوفّيهن حقوقهن، وقال ابن عباس: إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء، فنزلت الآية في ذلك: أي كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى: كذلك خافوا النساء، وقيل: إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة أو أكثر، فإذا ضاق ماله أخذ مال اليتيم، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فاقتصروا في النساء على ما طاب: أي ما حل، وإنما قال ما، ولم يقل من: لأنه أراد الجنس، وقال الزمخشري لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله: وما ملكت أيمانكم مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا
177
ينصرف «١» للعدل والوصف، وهي حال من ما طاب، وقال ابن عطية: بدل، وهي عدو له عن أعداد مكررة، ومعنى التكرار فيها أن الخطاب لجماعة، فيجوز لكل واحد منهم أن ينكح ما أراد من تلك الأعداد، فتكررت الأعداد بتكرار الناس، والمعنى أنكحوا اثنتين أو ثلاث أو أربعا في ذلك منع لما كان في الجاهلية من تزوج ما زاد على الأربع، وقال قوم لا يعبأ بقولهم: إنه يجوز الجمع بين تسع لأن مثنى وثلاث ورباع: يجمع فيه تسعة، وهذا خطأ، لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسع ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانا، وأيضا قد انعقد الإجماع على تحريم ما زاد على الرابعة فَواحِدَةً أي إن خفتم أن لا تعدلوا بين الاثنين أو الثلاث أو الأربع: فاقتصروا على واحدة، أو على ما ملكت أيمانكم من قليل أو كثير. رغبة في العدول. وانتصاب واحدة بفعل مضمر تقديره: فانكحوا واحدة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا الإشارة إلى الاقتصار على الواحدة، والمعنى: أن ذلك أقرب إلى أن لا تعولوا ومعنى تعولوا: تميلوا، وقيل يكثر عيالكم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ خطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق وليته، وقيل: نهي عن الشغار «٢» نِحْلَةً أي عطية منكم لهن، أو عطية من الله، وقيل: معنى نحلة أي شرعة وديانة، وانتصابه على المصدر من معنى آتوهن أو على الحال من ضمير المخاطبين فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ الآية: إباحة للأزواج والأولياء على ما تقدم من الخلاف أن يأخذوا ما دفعوا للنساء من صدقاتهن عن طيب أنفسهن، والضمير في منه يعود على الصداق أو على الإيتاء هَنِيئاً مَرِيئاً عبارة عن التحليل ومبالغة في الإباحة، وهما صفتان من قولك هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وهما وصف للمصدر:
أي أكلا هنيئا أو حال من ضمير الفاعل، وقيل: يوقف على فكلوه ويبدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ قيل: هم أولاد الرجل وامرأته: أي لا تؤتوهم أموالكم للتبذير، وقيل: السفهاء المحجورون، وأموالكم. أموال المحجورين، وأضافها إلى المخاطبين لأنهم ناظرون عليها وتحت أيديهم قِياماً جمع قيمة، وقيل بمعنى قياما بألف، أي تقوم بها معايشكم وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ قيل: إنها فيمن تلزم الرجال نفقته من زوجته وأولاده، وقيل: في المحجورين يرزقون ويكسون من أموالهم
(١). أي ممنوع من الصرف وهو اصطلاح نحوي معروف.
(٢). هو الزواج بالتبادل فيعطي أحدهم شقيقته إلى الآخر ويأخذ بدلا منها شقيقة الآخر أو ابنته بدون مهر لأي منهما.
178
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي ادعوا لهم بخير، أو عدوهم وعدا جميلا: أي إن شئتم دفعنا لكم أموالكم
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا رشدهم بَلَغُوا النِّكاحَ بلغوا مبلغ الرجال فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً الرشد: هو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين، واشترط قوم الدين، واعتبر مالك البلوغ والرشد، وحينئذ يدفع المال، واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفه، وقوله مخالف للقرآن وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ومعناه: مبادرة لكبرهم أي أن الوصي يستغنم أكل مال اليتيم قبل أن يكبر، وموضع أن يكبروا نصب على المفعولية ببدارا أو على المفعول من أجله تقديره: مخافة أن يكبروا فَلْيَسْتَعْفِفْ أمر الوصي الغني أن يستعفف عن مال اليتيم ولا يأكل منه شيئا وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قال عمر بن الخطاب: المعنى أن يستسلف الوصي الفقير من مال اليتيم، فإذا أيسر ردّه، وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقدر عمله وخدمته، ومعنى: بالمعروف من غير إسراف، وقيل: نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «١» فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ أمر بالتحرز والحرز فهو ندب، وقيل: فرض لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية: سببها أن بعض العرب كانوا لا يورثون النساء، فنزلت الآية ليرث الرجال النساء نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب انتصاب المصدر المؤكد لقوله: «٢» فريضة من الله، وقال الزمخشري: منصوب على التخصيص، أعني: بمعنى نصيبا وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية: خطاب للوارثين أمروا أن يتصدقوا من الميراث على قرابتهم، وعلى اليتامى وعلى المساكين، فقيل: إن ذلك على الوجوب، وقيل: على الندب وهو الصحيح، وقيل: نسخ بآية المواريث وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية معناها: الأمر لأولياء اليتامى أن يحسنوا إليهم في حفظ أموالهم، فيخافوا الله على أيتامهم كخوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، ويقدروا ذلك في أنفسهم حتى لا يفعلوا خلاف الشفقة والرحمة، وقيل: الذي يجلسون إلى المريض فيأمروه أن يتصدّق بماله حتى يجحف بورثته، فأمروا أن يخشوا على الورثة كما يخشوا على أولادهم، وحذف مفعول وليخش، وخافوا جواب لو قَوْلًا سَدِيداً على القول الأول ملاطفة الوصي لليتيم بالكلام
(١). في الآيتين ١٠، ١١ التاليتين.
(٢). في الآيتين ١٠، ١١ التاليتين.
الحسن، وعلى القول الثاني أن يقول للمورث: لا تشرف في وصيتك وارفق بورثتك
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً قيل نزلت في الذين لا يورثون الإناث، وقيل: في الأوصياء، ولفظها عام في كل من أكل مال اليتيم بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً أي: أكلهم لمال اليتامى يؤول إلى دخولهم النار، وقيل: يأكلون النار في جهنم
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من توريث النساء والأطفال، وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم ولم يقل أوصاكم تنبيها على ما مضى والشروع في حكم آخر وإنما قال يوصيكم الله بالاسم الظاهر، ولم يقل: يوصيكم لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء وإنما قال: في أولادكم ولم يقل في أبنائكم، لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى ابن الابن المتوفى وليسوا من الورثة لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ هذا بيان للوصية المذكورة، فإن قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر، فالجواب: لأن الذكر مقدم فَإِنْ كُنَّ نِساءً إنما أنث ضمير الجماعة في كن، لأنه قصد الإناث، وأصله أن يعود على الأولاد لأنه يشمل الذكور والإناث، وقيل: يعود على المتروكات، وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة والضمير مبهم ونساء تفسير فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة وقال الجمهور الثلثان، وتأولوا فوق اثنتين أن المراد ثنتان فما فوقهما، وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنة لا بالقرآن وقيل: بالقياس على الأختين وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً بالرفع فاعل، وكان تامة، وبالنصب خبر كان، وقوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ نص على أن للبنت النصف إذا انفردت، ودليل على أن للابن جميع المال إذا انفرد لأن للذكر مثل حظ الأنثيين إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد والاثنين والجماعة سواء كان للصلب، أو ولد ابن، وكلهم يرد الأبوين «١» إلى السدس وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين أحدهما عدم الولد والآخر إحاطة الأبوين بالميراث ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر، وسكت عن حظ الأب استغناء بمفهومه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا
(١). أي يحصر الولد حق الأبوين بالسدس فقط.
الثلثان ولا وارث إلّا الأبوان، فاقتضى ذلك أن الأب يأخذ بقية المال وهو الثلثان فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أجمع العلماء على أن ثلاثة من الأخوة يردّون الأم إلى السدس، واختلفوا في الاثنين فذهب الجمهور أنهما يردّانها إلى السدس، ومذهب ابن عباس أنهما لا يردّانها إليه، بل هما كالأخ الواحد. وحجته أن لفظ الإخوة لا يقع على الاثنين لأنه جمع لا تثنية، وأقل الجمع ثلاثة. وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقع على الاثنين. كقوله: وكنا لحكمهم شاهدين، وتسوروا المحراب، وأطراف النهار، واحتجوا بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «١»، وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا، ومذهبه أن أقل الجمع اثنان، فعلى هذا: يحجب الأبوان من الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين أو لأب أو لأم أو مختلفين، وسواء كانا ذكرين أو أنثيين أو ذكر أو أنثى، فإن كان معهما أب ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأم، ولا يرثون، وقال قوم: يأخذون السدس الذي حجبوه عن الأم، وإن لم يكن أب ورّثوا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قوله: من بعد يتعلق بالاستقرار المضمر في قوله: فلهنّ ثلثا ما ترك، أي: استقر لهنّ الثلثان من بعد وصية، ويمتنع أن يتعلق بترك، وفاعل يوصي الميت، وإنما قدمت الوصية على الدين، والدّين مقدم عليها في الشريعة: اهتماما بها، وتأكيدا للأمر بها، ولئلا يتهاون بها وأخّر الدين لأن صاحبه يتقاضاه، فلا يحتاج إلى تأكيد في الأمر بإخراجه وتخرج الوصية من الثلث، والدّين من رأس المال بعد الكفن وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين: ليدل على أنهما قد يكونان، وقد لا يكونان فدل ذلك على وجوب الوصية أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: بالإنفاق إذا احتيج إليه، وقيل: بالشفاعة في الآخرة، ويحتمل أن يريد نفعا بالميراث من ماله، وهو أليق بسياق الكلام
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ الآية خطاب للرجال. وأجمع العلماء على ما تضمنته هذه الآية من ميراث الزوج والزوجة، وأن ميراث الزوجة تنفرد به إن كانت واحدة، ويقسم بينهن إن كن أكثر من واحدة، ولا ينقص عن ميراث الزوج والزوجة وسائر السهام، إلّا ما نقصه العول على مذهب جمهور العلماء، خلافا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول فإن قيل: لم كرر قوله: من بعد وصية، مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلّا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين، فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو
(١). روى ابن ماجة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اثنان فما فوقهما جماعة. ولكن قيل في رواية: صفيفان.
الزوج، وكل واحدة قضية على انفرادها، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة بخلاف الأولى، فإن الموروث فيها واحد، ذكر حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيها: من بعد وصية مرة واحدة وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً الكلالة هي انقطاع عمود النسب وهو خلو الميت عن ولد ووالد، ويحتمل أن تطلق هنا على الميت الموروث، أو على الورثة، أو على القرابة، أو على المال: فإن كانت على الميت، فإعرابها خبر كان، ويورث في موضع الصفة أو يورث خبر كان، وكلالة حال من الضمير، في يورث أو تكون كان تامة وتورث في موضع الصفة وكلالة حال من الضمير وإن كانت للورثة فهي مصدر في موضع الحال، وإن كانت للقرابة فهي مفعول من أجله، وإن كانت للمال فهي مفعول ليورث، وكل وجه من هذه الوجوه على أن تكون كان تامة، ويورث في موضع الصفة، وأن تكون ناقصة ويورث خبرها وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ المراد هنا: الأخ للأم والأخت للأم بإجماع وقرأ سعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت لأمه وذلك تفسير للمعنى فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ إذا كان الأخ للأم واحد فله السدس وكذلك إذا كانت الأخت للأم واحدة فهم شركاء في الثلث إذا كان الإخوة للأم اثنين فصاعدا: فلهما الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: شركاء يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك غَيْرَ مُضَارٍّ منصوب على الحال، والعامل فيه يوصي ومضار اسم فاعل، قال ابن عباس:
الضرار في الوصية من الكبائر، ووجوه المضار كثيرة: منها الوصية لوارث، والوصية بأكثر من الثلث، أو بالثلث فرارا عن وارث محتاج، فإن علم أنه قصد بوصيته الإضرار رد ما زاد على الثلث اتفاقا، واختلف هل يرد الثلث على قولين في المذهب، والمشهور أنه ينفذ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لقوله: يوصيكم الله ويجوز أن ينتصب بغير مصدر تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما تقدم من المواريث وغيرها وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية: تعلق بها المعتزلة في قولهم: إن العصاة من المؤمنين يخلدون في النار، وتأولها الأشعرية على أنها في الكفار
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ هي هنا الزنا مِنْ نِسائِكُمْ أو من المسلمات لأن المسلمة تحدّ حدّ الزنا، وأما الكافر أو الكافرة فاختلف، هل يحدّ أو يعاقب؟ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ
قيل: إنما جعل شهداء الزنا أربعة تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ كانت عقوبة الزنا الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى المذكور بعد هذا، وهو السب والتوبيخ، وقيل: الإمساك للنساء، والأذى للرجال، فلا نسخ بينهما ورجحه ابن عطية بقوله: في الإمساك من نسائكم، وفي الأذى منكم، ثم نسخ الإمساك والأذى بالرجم للمحصن وبالجلد لغير المحصن، واستقر الأمر على ذلك، وأما الجلد فمذكور في سورة النور، وأما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه وبقي حكمه، وقد رجم صلّى الله عليه وسلّم ما عزا الأسلمي وغيره فَأَعْرِضُوا عَنْهُما لما أمر بالأذى للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو ترك الأذى إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما يقبل الله توبة من كان على هذه الصفة، وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها فيقطع بقبول الله لتوبته عند جمهور العلماء، وقال أبو المعالي: يغلب ذلك على الظن ولا يقطع به يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ أي بسفاهة وقلة تحصيل أداة إلى المعصية، وليس المعنى أنه يجهل أن ذلك الفعل يكون معصية، قال أبو العالية: أجمع الصحابة على أن كل معصية فهي بجهالة، سواء كانت عمدا أو جهلا ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ قيل: قبل المرض والموت. وقيل: قبل السياق، ومعاينة الملائكة، وفي هذا قال رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «١» وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ الآية: في الذين يصرون على الذنوب إلى حين لا تقبل التوبة، وهو معاينة الموت فإن كانوا كفارا فهم مخلدون في النار بإجماع، وإن كانوا مسلمين فهم في مشيئة الله إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم. فقوله: أعتدنا لهم عذابا أليما ثابت في حق الكفار ومنسوخ في حق العصاة من المسلمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨] فعذابهم مقيد بالمشيئة
لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤوا تزوّجها أحدهم، وإن شاؤوا زوّجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها التزوّج، فنزلت
(١). رواه النووي في رياض الصالحين وعزاه للترمذي عن عبد الله بن عمر وقال: حديث حسن.
الآية في ذلك، فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال، كما يورث المال، وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة، ليرثوا مالها من غير غبطة بها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوّج ليرثون دون الزوج وَلا تَعْضُلُوهُنَّ معطوف على أن ترثوا أو نهي والعضل المنع، قال ابن عباس: هي أيضا في أولياء الزوج الذين يمنعون زوجته من التزوّج بعد موته، إلّا أنّ قوله: ما آتيتموهن على هذا معناه ما آتاها الرجل الذي مات، وقال ابن عباس: هي في الأزواج الذين يمسكون المرأة ويسيئون عشرتها حتى تفتدي بصداقها، وهو ظاهر اللفظ في قوله: ما آتيتموهن، ويقويه قوله: وعاشروهن بالمعروف، فإن الأظهر فيه أن يكون في الأزواج، وقد يكون في غيرهم، وقيل: هي للأولياء إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قيل: الفاحشة هنا الزنا، وقيل: نشوز المرأة وبغضها في زوجها، فإذا نشزت جاز له أن يأخذ ما آتاها من صداق أو غير ذلك من مالها، وهذا جائز على مذهب مالك في الخلع، إذا كان الضرر من المرأة، والزنا أصعب عل الزوج من النشوز، فيجوز له أخذ الفدية فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ الآية: معناها إن كرهتم النساء لوجه فاصبروا عليه، فعسى أن يجعل الله الخير في وجه آخر، وقيل: الخير الكثير الولد، والأحسن العموم، وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن سخط منها خلقا رضي آخر» «١» وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ الآية: معناها المنع من أن يأخذ الرجل من المرأة فدية على الطلاق إن أراد أن يبدلها بأخرى، وعلى هذا جرى مذهب مالك وغيره في المنع من الفدية إذا كان الضرر وأرادت الفراق من الزوج، فقال قوم: إنّ هذه الآية منسوخة بقوله في البقرة: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وقال قوم:
هي ناسخة، والصحيح أنها غير ناسخة ولا منسوخة، فإنّ جواز الفدية على وجه ومنعها على وجه، فلا تعارض ولا نسخ قِنْطاراً مثال على جهة المبالغة في الكثرة، وقد استدلت به المرأة على جواز المغالاة في المهور حين نهى عمر بن الخطاب عن ذلك فقال عمر رضي الله عنه: امرأة أصابت، ورجل أخطأ، كل الناس أفقه منك يا عمر أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع مِيثاقاً غَلِيظاً قيل: عقدة النكاح، وقيل: قوله:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: ٢٢٩] وقيل: الأمر بحسن العشرة
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية
(١). أخرجه مسلم عن أبي هريرة. في كتاب الرضاعة ٢/ ١٠٩١.
تحريما لذلك، فكل امرأة تزوّجها رجل حرمت على أولاده ما سفلوا، سواء دخل بها أو لم يدخل، فالنكاح في الآية بمعنى العقد، وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهن ما، لأنّ المراد الجنس، فإن زنى رجل بامرأة فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا: فحرمه أبو حنيفة، وأجازه الشافعي، وفي المذهب قولان: واحتج من حرّمه بهذه الآية وحمل النكاح فيها على الوطء، وقال من أجازه: إنّ الآية لا تتناوله إذ النكاح فيها بمعنى العقد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي إلّا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك، وانقطع بالإسلام فقد عفى عنه فلا تؤاخذون به، ويدل على هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً بعد قوله: إلّا ما قد سلف في المرأة الأخرى في الجمع بين الأختين قال ابن عباس: كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، وقيل: المعنى إلّا ما قد سلف فانكحوه إن أمكنكم، وذلك غير ممكن فالمعنى: المبالغة في التحريم إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً كان في هذه الآية تقتضي الدوام كقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وشبه ذلك وقال المبرد: هي زائدة وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبا، وزاد هذا المقت على ما وصف من الزنا في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا: دلالة على أن هذا أقبح من الزنا
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الآية. معناها تحريم ما ذكر من النساء، والنساء المحرمات على التأبيد ثلاثة أصناف بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة. فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية، وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله [فروعه] ما سفلت، وأصوله ما علت، وفصول أبويه ما سفلت وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه أُمَّهاتُكُمْ يدخل فيه الوالدة والجدة من قبل الأم والأب ما علون وَبَناتُكُمْ يدخل فيه البنت وبنت الابن وبنت البنت ما سفلن وَأَخَواتُكُمْ يدخل فيه الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَعَمَّاتُكُمْ يدخل فيه أخت الوالد، وأخت الجد ما علا، سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَخالاتُكُمْ يدخل فيه أخت الأم وأخت الجدّ ما علت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأَخِ يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأب أو لأم وَبَناتُ الْأُخْتِ يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأب أو لأم وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم: الأم والأخت.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «١»، فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب، وهي الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وتفصيل ذلك يطول، وفي الرضاع مسائل لم نذكرها لأنها ليس لها تعلق
(١). رواه أحمد عن ابن عباس ج أول ص ٤٢٢.
بألفاظ الآية: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع: وهن زوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها، وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلّا بعد الدخول بأمها، فإن وطئها حرمت عليه بنتها بالإجماع، وإن تلذذ بها بما دون الوطء فحرّمها مالك والجمهور وإن عقد عليها ولم يدخل بها: لم تحرم بنتها إجماعا، وتحرم هذه الأربع بالرضاع كما تحرم بالنسب وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ الربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره: سميت بذلك لأنه يربيها فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله: اللاتي في حجوركم على غالب الأمر إذ الأكثر أن تكون الربيبة في حجر زوج أمّها، وهي محرّمة سواء كانت في حجره أم لا، هذا عند الجمهور من العلماء إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ اشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة، ولم يشترط في غيرها، وعلى ذلك جمهور العلماء: إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع، وقد انعقد الإجماع بعد ذلك وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيص ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل، وهو أجنبي عنه كتزويج رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم زينب بنت جحش، امرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يقال له: زيد بن محمد صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يقتضي تحريم الجمع بين الأختين سواء كانتا شقيقتين أو لأب أو لأم وذلك في الزوجتين، وأما الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، ورأوا أنه داخل في عموم لفظ الأختين، وأجازه الظاهرية لأنهم قصروا الآية على الجمع بعقد النكاح، وأما الجمع بين الأختين في الملك دون وطء فجائز باتفاق إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ المعنى: إلّا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية وانقطع بالإسلام فقد عفى عنكم فلا تؤاخذون به، وهذا أرجح الأقوال حسبما تقدم في الموضع الأول
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ المراد هنا ذوات الأزواج، وهو معطوف على المحرمات المذكورة قبله، والمعنى أنه لا يحل نكاح المرأة إذا كانت في عصمة الرجل إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد السبايا في أشهر الأقوال، والاستثناء متصل، والمعنى: أن المرأة الكافرة ذا كان لها زوج، ثم سبيت: جاز لمن ملكها من المسلمين أن يطأها، وسبب ذلك أن رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بعث جيشا إلى أوطاس، فأصابوا سبايا من العدوّ لهنّ أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهنّ، فنزلت الآية مبيحة لذلك
ومذهب مالك أن السبي يهدم النكاح سواء سبي الزوجان الكافران معا أو سبي أحدهما قبل الآخر، وقال ابن المواز: لا يهدم السبي النكاح كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدرية: أي كتب الله عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم وهو عند الكوفيين منصوب على الإغراء وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ معناه: أحلّ لكم تزويج من سوى ما حرم من النساء، وعطف أحل على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله، والفاعل هو الله أي كتب الله عليكم تحريم من ذكر، وأحل لكم ما وراء ذلكم أَنْ تَبْتَغُوا مفعول من أجله، أو بدل مما وراء ذلكم، وحذف مفعوله وهو النساء مُحْصِنِينَ هنا العفة ونصبه على الحال من الفاعل في تبتغوا غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير زناة، والسفاح هو الزنا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً قال ابن عباس وغيره: معناها إذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء فقد وجب إعطاء الأجر، وهو الصداق كاملا. وقيل: إنها في نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل من غير ميراث، وكان جائزا في أول الإسلام فنزلت هذه الآية في وجوب الصداق فيه، ثم حرم عند جمهور العلماء، فالآية على هذا منسوخة بالخبر الثابت في تحريم نكاح المتعة، وقيل نسختها آية الفرائض لأن نكاح المتعة لا ميراث فيه، وقيل: نسختها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: ٥] وروي عن ابن عباس جواز نكاح المتعة، وروي أنه رجع عنه وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من قال: إن الآية المتقدمة في مهور النساء فمعنى هذه جواز ما يتراضون به من حط النساء من الصداق، أو تأخيره بعد استقرار الفريضة ومن قال: إن الآية في نكاح المتعة. فمعنى هذا جواز ما يتراضون به من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر.
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ معناها إباحة تزويج الفتيات، وهنّ الإماء للرجل إذا لم يجد طولا للمحصنات، والطول هنا هو السعة في المال، والمحصنات هنا يراد بهنّ الحرائر غير المملوكات. ومذهب مالك وأكثر أصحابه أنه: لا يجوز للحر نكاح أمة إلّا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألا يجد ما يتزوج به حرة، والآخر: خوف العنت، وهو الزنا لقوله بعد هذا: ذلك لمن خشي العنت منكم، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين على القول بأن دليل الخطاب لا يعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة التي تتزوج لقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلّا أهل العراق فلم يشترطوه، وإعراب طولا: مفعولا بالاستطاعة، وأن ينكح بدل منه وهو في موضع نصب بتقدير لأن ينكح ويحتمل أن يكون طولا منصوبا على المصدر والعامل فيه الاستطاعة لأنها بمعنى يتقارب، وأن ينكح على هذا مفعول بالاستطاعة أو بالمصدر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ معناه أنه يعلم
بواطن الأمور ولكم ظواهرها، فإذا كانت الأمة ظاهرة الإيمان، فنكاحها صحيح، وعلم باطنها إلى الله بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي إماؤكم منكم، وهذا تأنيس بنكاح الإماء، لأن بعض العرب كان يأنف من ذلك فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي بإذن ساداتهن المالكين لهنّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي صدقاتهنّ، وهذا يقتضي أنهنّ أحق بصدقاتهنّ من ساداتهنّ، وهو مذهب مالك بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع على ما تقتضيه السنة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفيفات غير زانيات، وهو منصوب على الحال والعامل فيه فانكحوهنّ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ جمع خدن وهو الخليل، وكان من نساء الجاهلية من تتخذ خدنا تزني معه خاصة، ومنهنّ من كانت لا تردّ يد لامس فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ معنى ذلك أن الأمة إذا زنت بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة، فإن الحرة تجلد في الزنا مائة جلدة، والأمة تجلد خمسين، فإذا أحصن يريد به هنا تزوّجن، والفاحشة هنا الزنا، والمحصنات هنا الحرائر، والعذاب هنا الحدّ فاقتضت الآية حدّ الأمة إذا زنت بعد أن تزوّجت، ويؤخذ حدّ غير المتزوّجة من السنة وهو مثل حدّ المتزوّجة وهذا على قراءة أحصنّ بضم الهمزة وكسر الصاد، وقرئ بفتحهما، ومعناه أسلمن، وقيل: تزوّجن ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ الإشارة إلى تزوّج الأمة أي إنما يجوز لمن خشي على نفسه الزنا، لا لمن يملك نفسه وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ المراد الصبر عن نكاح الإماء، وهذا يندب إلى تركه، وعلته ما يؤدي إليه من استرقاق الولد يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ قال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في لا أبالك لتأكيد إضافة الأب، وقال الكوفيون اللام مصدرية مثل أن وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي يهديكم مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرر توطئة لفساد إرادة الذين يتبعون الشهوات، وهم هنا الزناة عند مجاهد، وقيل: المجوس لنكاحهم ذات المحارم، وقيل: عام في كل متبع شهوة وهو أرجح يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يقتضي سياق الكلام التخفيف الذي وقع في إباحة نكاح الإماء، وهو مع ذلك عام في كل ما خفف الله عن عباده، وجعل دينه يسرا وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً قيل: معناه لا يصبر على النساء، وذلك مقتضى سياق الكلام، واللفظ أعم من ذلك
لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يدخل فيه القمار والغصب
والسرقة وغير ذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً استثناء منقطع، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وفي إباحة التجارة دليل على أنه: يجوز للإنسان أن يشتري بدرهم سلعة تساوي مائة، والمشهور إمضاء البيع. وحكي عن ابن وهب أنه يرد إذا كان الغبن أكثر من الثلث.
وموضع أن نصب، وتجارة بالرفع «١» فاعل تكون وهي تامة، وقرئ بالنصب خبر تكون وهي ناقصة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي اتفاق. وبهذا استدل المالكية على تمام البيع وبالعقد، دون التفرق وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله صلّى الله عليه واله وسلّم:
«المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» «٢».
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قال ابن عطية أجمع المفسرون أنّ المعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، قلت: ولفظها يتناول قتل الإنسان لنفسه، وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينكره رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم إذ سمعه وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، لأنه أقرب مذكور، وقيل: إليه وإلى أكل المال بالباطل، وقيل: إلى كل ما تقدّم من المنهيات من أوّل السورة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «٣» اختلف الناس في الكبائر ما هي؟ فقال ابن عباس: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب، وقال ابن مسعود:
الكبائر هي الذنوب المذكورة من أول هذه السورة إلى أوّل هذه الآية، وقال بعض العلماء:
كل ما عصي الله به، فهو كبيرة، وعدّها بعضهم سبعة عشر، وفي البخاري عن النبي صلّى الله عليه واله وسلّم: «اتقوا السبع الموبقات: الإشراك بالله والسحر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات»، فلا شك أنّ هذه من الكبائر للنص عليها في الحديث، وزاد بعضهم عليها أشياء، وورد في الأحاديث النص على أنها كبائر، وورد في القرآن أو في الحديث وعيد عليها، فمنها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول والغلول واستطالة المرء في عرض أخيه، والجور في الحكم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وعد بغفران الذنوب الصغائر إذا اجتنب الكبائر مُدْخَلًا كَرِيماً اسم مكان وهو هنا الجنة
وَلا تَتَمَنَّوْا الآية: سببها أن النساء قلن: ليتنا استوينا
(١). قراءة المؤلف رحمه الله، وفي المصحف بالنصب وهي قراءة حفص. [.....]
(٢). رواه أحمد عن ابن عمر ج أول ص: ٦٨.
(٣). ذكره المنذري ج ٣ ص ٤٨ بلفظ: اجتنبوا السبع الموبقات وعزاه للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن أبي هريرة.
189
مع الرجال في الميراث، وشاركناهم في الغزو. فنزلت نهيا عن ذلك لأن في تمنيهم ردّ على حكم الشريعة، فيدخل في النهي تمني مخالفة الأحكام الشرعية كلها لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا الآية: أي من الأجر والحسنات، وقيل: من الميراث، ويرده لفظ الاكتساب وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الآية: في معناه وجهان أحدهما: لكل شيء من الأموال جعلنا موالي يرثونه، فمما ترك على هذا بيان لكل، والآخر: لكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، فمما ترك على هذا: يتعلق بفعل مضمر، والموالي: هنا الورثة والعصبة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ اختلف هل هي منسوخة أو محكمة؟
فالذين قالوا إنها منسوخة قالوا: معناها الميراث بالحلف الذي كان في الجاهلية، وقيل:
بالمؤاخاة التي آخى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم بين أصحابه، ثم نسخها: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: ٧٥] فصار الميراث للأقارب. والذين قالوا إنها محكمة اختلفوا، فقال ابن عباس: هي المؤازرة والنصرة بالحلف لا في الميراث به، وقال أبو حنيفة: هي في الميراث، وأن الرجلين إذا والى أحدهما الآخر، على أن يتوارثا صح ذلك، وإن لم تكن بينهما قرابة الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قوّام بناء مبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء بِما فَضَّلَ اللَّهُ الباء للتعليل، وما مصدرية، والتفضيل بالإمامة والجهاد، وملك الطلاق وكمال العقل وغير ذلك وَبِما أَنْفَقُوا هو: الصداق والنفقة المستمرة فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ أي النساء الصالحات في دينهن مطيعات لأزواجهن، أو مطيعة لله في حق أزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي تحفظ كل ما غاب عن علم زوجها، فيدخل في ذلك صيانة نفسها وحفظ ماله وبيته وحفظ أسراره بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بحفظ الله ورعايته، أو بأمره للنساء أن يطعن الزوج ويحفظنه، فما مصدرية أو بمعنى الذي وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ قيل: الخوف هنا اليقين فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ هذه أنواع من تأديب المرأة إذا نشزت على زوجها وهي على مراتب: بالوعظ في النشوز الخفيف، والهجران فيما هو أشد منه، والضرب فيما هو أشد ومتى انتهت عن النشوز بوجه من التأديب: لم يتعد إلى ما بعده، والهجران هنا هو ترك مضاجعتها، وقيل: ترك الجماع إذا ضاجعها، والضرب غير مبرح فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي إذا أطاعت المرأة زوجها فليس له أن يؤذيها
190
بهجران ولا ضرب
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الشقاق الشر والعداوة، وكان الأصل إن خفتم شقاق بينهما، ثم أضيف الظرف إلى الشقاق على طريق الاتساع لقوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: ٣٣] وأصله: مكر بالليل والنهار فَابْعَثُوا حَكَماً الآية. ذكر تعالى الحكم في نشوز المرأة، والحكم في طاعتها، ثم ذكر هنا حالة أخرى، وهي ما إذا ساء ما بين الزوجين ولم يقدر على الإصلاح بينهما، ولا علم من الظالم منهما. فيبعث حكمان مسلمان لينظرا في أمرهما. وينفذ ما ظهر لهما من تطليق وخلع من غير إذن الزوج، وقال أبو حنيفة: ليس لهما الفراق إلّا إن جعل لهما، وإن اختلفا لم يلزم شيء إلّا باتفاقهما ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث الحكمين، وقيل: يبعثهما الزوجان، وجرت عادة القضاة [في زمن المؤلف] أن يبعثوا امرأة أمينة، ولا يبعثوا حكمين، قال بعض العلماء: هذا تغيير لحكم القرآن والسنة الجارية مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها يجوز في المذهب أن يكون الحكمان من غير أهل الزوجين، والأكمل أن يكونا من أهلهما كما ذكر الله إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضمير في يريدا للحكمين، وفي بينهما للزوجين على الأظهر، وقيل: الضميران للزوجين، وقيل: للحكمين وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجنب هو الأجنبي، وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجنب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم: أربعون ذراعا من كل ناحية الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس: الرفيق في السعي، وقال عليّ بن أبي طالب: الزوجة مُخْتالًا اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه فَخُوراً شديد الفخر الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله مختالا أو نصب على الذمّ أو دفع بخبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود: نزلت في قوم منهم كحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات. وهي مع ذلك عامة في من فعل هذه الأفعال من المسلمين وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ عطف على الذين يبخلون، وقيل على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياء ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين قَرِيناً أي ملازما له يغويه
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية: استدعاء لهم كملاطفة أو توبيخ على ترك الإيمان والإنفاق، كأنه يقول أي مضرة عليهم في ذلك مِثْقالَ ذَرَّةٍ أي وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيها على الكثير وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالرفع فاعل «١»، وتك تامة، وبالنصب خبر على أنها ناقصة واسمها مضمر فيها يُضاعِفْها أي يكثرها واحد البرّ بعشر إلى سبعمائة أو أكثر وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أي من عنده تفضلا وزيادة على ثواب العمل فَكَيْفَ إِذا جِئْنا تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بِشَهِيدٍ هو نبيهم يشهد عليهم بأعمالهم وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً أي تشهد على قومك، ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم ذرفت عيناه لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يدفنوا فيها، ثم تسوّى بهم كما تسوّى بالموتى وقيل: يتمنون أن يكونوا سواء مع الأرض كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[عمّ: ٤٠] وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً استئناف إخبار أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئا فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ [الأنعام: ٢٣] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم، فكأنهم لم يكتموا، والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقات مختلفة، وقيل إن قوله: ولا يكتمون عطف على تسوّى أي يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى سببها أن جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر. قال بعض الناس: هي منسوخة بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، إنما هي نهي عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم الثابت في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكر يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمور بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب، وهذا بعيد من مقتضى اللفظ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكر أن لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أنّ السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ عطف ولا جنبا على موضع وأنتم سكارى، إذ هو في موضع الحال والجنب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج وهو واقع على
(١). حسب قراءة المؤلف وهي قراءة نافع.
192
جماعة بدليل استثناء الجمع منه. واختلف في عابري سبيل فقيل: إنه المسافر، ومعنى الآية على هذا: نهي أن يقرب الصلاة وهو جنب إلّا في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال، فمقتضى الآية. إباحة التيمم للجنب في السفر، ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث، وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد بها المسجد، لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا: النهي أن يقرب المسجد الجنب إلّا خاطرا عليه، وعلى هذا أخذ الشافعي بأنه يجوز للجنب أن يمر في المسجد، ولا يجوز له أن يقعد فيه، ومنع مالك المرور والقعود، وأجازهما داود الظاهري وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ الآية سببها عدم الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأبيح لهم التيمم لعدم الماء، ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه: أحدها: عدمه في السفر، والثاني: عدمه في المرض، فيجوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع، لأن الآية نص في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما، لقوله: وإن كنتم مرضى أو على سفر ثم قال: فلم تجدوا ماء. الوجه الثالث: عدم الماء في الحضر دون مرض، فاختلف الفقهاء فيه، فمذهب أبو حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم، لأن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يعتبر مع المرض أو السفر، ومذهب مالك والشافعي: أنه يجوز فيه التيمم فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه فيؤخذ جوازه من السنّة. وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر، ثم ذكر الإحداث دون مرض ولا سفر، ثم قال بعد ذلك كله: فلم تجدوا ماء فيرجع قوله فلم تجدوا ماء إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر فيجوز التيمم على هذا لمن عدم الماء في غير مرض ولا سفر، فيكون في الآية حجة لمالك والشافعي، ويجوز التيمم أيضا في مذهب مالك للمريض إذا وجد الماء، ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنة، وإن قلنا إن السنة تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها على أن يتناول قوله إن كنتم مرضى أن معناه مرضى لا تقدرون على مس الماء، وحدّ المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو: أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البرء، وعند الشافعي: خوف الموت لا غير، وحدّ السفر:
الغيبة عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ في أو هنا تأويلان: أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها، والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط، وإلى من لامس، سواء كانا مريضين أو مسافرين، أم حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء وهو مذهب مالك والشافعي فيكون في الآية حجة لهما وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله فلم تجدوا ماء راجعا إلى المريض والمسافر فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم
193
الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضع آخر، والراجح أن تكون أو على بابها لوجهين أحدهما أن جعلها بمعنى الواو إخراج لها عن أصلها وذلك ضعيف، والآخر إن كانت على بابها: كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تعط هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها. وهذا لا يلزم، لأن العطف بأو هنا للتنويع والتفصيل. ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماء إن كنتم مرضى أو على سفر، وأحدثتم في غير مرض ولا سفر الْغائِطِ أصله المكان المنخفض، وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين، وهو العذرة، والريح، والبول، لأن من ذهب إلى الغائط يكون منه هذه الأحداث الثلاث، وقيل: إنما هو كناية عن العذرة، وأما البول والريح، فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة، وكذلك الودي والمذي.
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اختلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيل في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم، والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب.
ويؤخذ جوازه من الحديث. والثالث: أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة فإن وجده بثمن فاختلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وهب له فاختلف هل يلزم قبوله أم لا فَتَيَمَّمُوا التيمم في اللغة: القصد، وفي الفقه: الطهارة بالتراب، وهو منقول من المعنى اللغوي صَعِيداً طَيِّباً الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان ترابا أو رملا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله، وهو عند الشافعي التراب لا غير، والطيب هنا الطاهر. واختلف في التيمم بالمعادن كالذهب وبالملح وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ لا يكون التيمم إلّا في هذين العضوين، ويقدم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل، لأنه لم يحد، وقد احتج من قال إلى المرفقين بأن هذا مطلق، فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ هم اليهود هنا، وفي الموضع الثاني قال
194
السهيلي: فالموضع الأول نزل في رفاعة بن زيد بن التابوت، وفي الثاني نزل في كعب بن الأشرف يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ عبارة عن إيثارهم الكفر على الإيمان، فالشراء مجاز كقوله:
اشتروا الضلالة بالهدى وفي تكرار قوله: كفى بالله مبالغة
مِنَ الَّذِينَ هادُوا من راجعة إلى الذين أوتوا نصيبا، أو إلى أعدائكم، فهي بيان، وقال الفارسي: هي ابتداء كلام تقديره. من الذين هادوا قوم وقيل: هي متعلقة بنصيرا على قول الفارسي يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يحتمل تحريف اللفظ أو المعنى، وقيل: الكلم هنا التوراة، وقيل: كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: لا سمعت راعِنا ذكر في [البقرة: ١٠٤] سَمِعْنا وَأَطَعْنا عوض من قولهم:
سمعنا وعصينا، واسمع عوض من قولهم: اسمع غير مسمع، وانظرنا عوض من قولهم:
راعنا، وهو النظر أو الانتظار، فهذه الأشياء الثلاثة في مقابلة الأشياء الثلاثة التي ذمهم على قولها، لما فيها من سوء الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخبر أنهم لو قالوا هذه الثلاثة الأخر عوضا عن تلك: لكان خيرا لهم، فإن هذه ليس فيها سوء أدب مُصَدِّقاً ذكر في البقرة أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً قال ابن عباس: طمسها أن تزال العيون منها، وترد في القفا، فيكون ذلك ردا على الدبر، وقيل: طمسها محو تخطيط صورها من أنف أو عين أو حاجب حتى تصير كالأدبار في خلوها عن الحواس أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي نمسخهم كما مسخ أصحاب السبت، وقد ذكر في البقرة، أو يكون من اللعن المعروف، والضمير يعود على الوجوه، والمراد أصحابها، أو على الذين أوتوا الكتاب على الالتفات
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ هذه الآية هي الحاكمة في مسألة الوعيد. وهي المبينة لما تعارض فيها من الآيات، وهي الحجة لأهل السنة، والقاطعة بالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وذلك أن مذهب أهل السنة أن العصاة من المؤمنين في مشيئة الله، إن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم، وحجتهم هذه الآية، فإنها نص في هذا المعنى، ومذهب الخوارج أن العصاة يعذبون ولا بد سواء كانت ذنوبهم صغائر أو كبائر. ومذهب المعتزلة أنهم يعذبون على الكبائر ولا بد، ويرد على الطائفتين قوله: «ويغفر ما دون ذلك» ومذهب المرجئة أن العصاة كلهم يغفر لهم ولا بدّ وأنه لا يضر ذنب مع الإيمان، ويرد عليهم قولهم: لمن يشاء، فإنه تخصيص لبعض العصاة، وقد تأولت المعتزلة الآية على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء، وهو التائب لا خلاف أنه لا يعذب، وهذا التأويل بعيد، لأن قوله: إنّ
الله لا يغفر أن يشرك به في غير التائب من الشرك وكذلك قوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ في غير التائب من العصيان ليكون أول الآية وآخرها على نسق واحد، وتأولتها المرجئة على مذهبهم، فقالوا: لمن يشاء: معناه لمن يشاء أن يؤمن، وهذا أيضا بعيد، لا يقتضيه اللفظ وقد ورد في القرآن آيات كثيرة في الوعيد فحملها المعتزلة على العصاة وحملها المرجئة على الكفار، وحملها أهل السنة على الكفار، وعلى من لا يغفر الله له من العصاة، كما حملوا آية الوعد على المؤمنين الذين لم يذنبوا، وعلى المذنبين التائبين، وعلى من يغفر الله له من العصاة غير التائبين، فعلى مذهب أهل السنة لا يبقى تعارض بين آية الوعد وآية الوعيد، بل يجمع بين معانيها، بخلاف قول غيرهم فإنّ الآيات فيه تتعارض، وتلخيص المذاهب أن الكافر إذا تاب من كفره: غفر له بإجماع، وإن مات على كفره: لم يغفر له، وخلد في النار بإجماع، وأن العاصي من المؤمنين إن تاب غفر له، وإن مات دون توبة فهو الذي اختلف الناس فيه الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ هم اليهود لعنهم الله، وتزكيتهم قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وقيل: مدحهم لأنفسهم فَتِيلًا الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفيك إذا فتلتهما، هو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء فيدل على الأكثر بطريق الأولى يَفْتَرُونَ دليل على أن تزكيتهم لأنفسهم بالباطل يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ قال ابن عباس: الجبت هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وقال عمر بن الخطاب: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وقيل الجبت الكاهن، والطاغوت الساحر، وبالجملة هما كل ما عبد وأطيع من دون الله وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الآية: سببها أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف أو غيرهما من اليهود، قالوا لكفار قريش: أنتم أهدى سبيلا من محمد وأصحابه أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ الهمزة للاستفهام مع الإنكار نَقِيراً النقير هي النقرة في ظهر النواة وهو تمثيل، وعبارة عن أقل الأشياء، والمراد وصف اليهود بالبخل لو كان لهم نصيب من الملك، وأنهم حينئذ يبخلون بالنقير الذي هو أقل الأشياء، ويبخلون بما هو أكثر منه من باب أولى
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وصفهم بالحسد مع البخل، والناس هنا يراد بهم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وأمته، والفضل النبوة، وقيل: النصر والعزة، وقيل: الناس العرب والفضل كون النبي صلّى الله عليه واله وسلّم منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ
وَالْحِكْمَةَ
المراد بآل إبراهيم ذريته من بني إسرائيل وغيرهم ممن آتاه الله الكتب التي أنزلها والحكمة التي علمها، والمقصود بالآية الردّ على اليهود في حسدهم لسيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومعناها إلزام لهم بما عرفوه من فضل الله تعالى على آل إبراهيم، فلأيّ شيء تخصون محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحسد دون غيره ممن أنعم الله عليهم مُلْكاً عَظِيماً الملك في آل إبراهيم هو ملك يوسف وداود وسليمان فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الآية قيل: المراد من اليهود من آمن بالنبي صلّى الله عليه واله وسلّم، أو بالقرآن المذكور في قوله تعالى: مصدقا لما معكم، أو بما ذكر من حديث إبراهيم، فهذه ثلاثة أوجه في ضمير به، وقيل: منهم أي من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من كفر: كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ٢٦] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ الآية قيل: تبدل لهم جلود بعد جلود أخرى، إذ نفوسهم هي المعذبة وقيل: تبديل الجلود تغيير صفاتها بالنار، وقيل: الجلود السرابيل وهو بعيد أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ذكر في البقرة ظِلًّا ظَلِيلًا صفة من لفظ الظل للتأكيد: أي دائما لا تنسخه الشمس وقيل: نفي الحر والبرد إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ الآية: قيل هي خطاب للولاة وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم، حين أخذ مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ولفظها عام، وكذلك حكمها وَأُولِي الْأَمْرِ هم: الولاة، وقيل: العلماء نزلت في عبد الله بن حذافة بعثه رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم في سرية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الردّ إلى الله هو النظر في كتابه، والردّ إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو سؤاله في حياته والنظر في سنته بعد وفاته إِنْ كُنْتُمْ يحتمل أن يكون هذا الشرط راجعا إلى قوله: فردّوه أو إلى قوله أطيعوا، والأوّل أظهر، لأنه أقرب إليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي مآلا وعاقبة وقيل: أحسن نظرا منكم الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية: نزلت في المنافقين، وقيل: في منافق ويهودي كان بينهما خصومة، فتحاكما إلى كعب بن الأشرف اليهودي. وقيل: إلى كاهن
رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ وضع الظاهر موضع المضمر ليذمهم بالنفاق، ودل ذلك على أنّ الآية المتقدّمة نزلت في المنافقين
197
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ الآية: أي كيف يكون حالهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ يحتمل أن يكون هذا معطوفا على ما قبله، أو يكون معطوفا على قوله: يصدّون، ويكون قوله: فكيف إذا أصابتهم اعتراضا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي عن معاقبتهم، وليس المراد بالإعراض القطيعة لقوله: وَعِظْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية: وعد بالمغفرة لمن استغفر، وفيه استدعاء للاستغفار والتوبة، ومعنى:
جاءوك أتوك تائبين معتذرين من ذنوبهم، يطلبون أن تستغفر لهم الله فَلا وَرَبِّكَ لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلط واختلفوا فيه، ومعنى الآية: أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي صلّى الله عليه واله وسلّم، ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا، وقيل: بسبب خصام الزبير مع رجل من الأنصار في الماء وحكمها عام وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية: معناها لو فرض عليهم ما فرض على من كان قبلهم من المشقات لم يفعلوها، لقلة انقيادهم إلّا القليل منهم الذين هم مؤمنون حقا، وقد روي أن من هؤلاء القليل أبو بكر وعمر وابن مسعود وعمار بن ياسر وثابت بن قيس إِلَّا قَلِيلٌ بالرفع بدل من المضمر، وقرأ ابن عامر وحده بالنصب على أصل الاستثناء أو على إلّا فعلا قليلا ما يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع النبي صلّى الله عليه واله وسلّم وطاعته والانقياد له وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي تحقيقا لإيمانهم وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ جواب لسؤال مقدّر عن حالهم لو فعلوا ذلك فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثواب على الطاعة أي هم معهم في الجنة، وهذه الآية مفسرة لقوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والصدّيق فعّيل من الصدق، ومن التصديق، والمراد به المبالغة، والصدّيقون أرفع الناس درجة بعد الأنبياء، والشهداء المقتولون في سبيل الله، ومن جرى مجراهم من سائر الشهداء، كالغريق وصاحب الهدم حسبما ورد في الحديث أنهم سبعة وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً الإشارة إلى الأصناف الأربعة المذكورة والرفيق يقع على الواحد والجماعة كالخليط، وهو مفرد بيّن به الجنس، ومعنى الكلام
198
إخبار واستدعاء للطاعة التي ينال بها مرافقة هؤلاء
ذلِكَ الْفَضْلُ الإشارة إلى الثواب على الطاعة بمرافقة من ذكر في الجنة، والفضل صفة أو خبر خُذُوا حِذْرَكُمْ أي تحرزوا من عدوّكم واستعدّوا له فَانْفِرُوا ثُباتٍ أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرّقين وذلك كناية عن السرايا، وقيل إنّ الثبتة ما فوق العشرة، ووزنها فعلة بفتح العين ولامها محذوفة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين في الجيش الكثيف فخيرهم في الخروج إلى الغزو في قلة أو كثرة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ الخطاب للمؤمنين، والمراد بمن المنافقين وعبر عنهم بمنكم إذ هم يزعمون أنهم من المؤمنين، ويقولون آمنا، واللام في لمن للتأكيد، وفي ليبطئن جواب قسم محذوف، ومعناه يبطئ غيره يثبطه عن الجهاد ويحمله على التخلف عن الغزو، وقيل: يبطئ يتخلف هو عن الغزو ويتثاقل فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة والمعنى أن المنافق تسره غيبته عن المؤمنين إذا هزموا وشهيدا معناه حاضرا معهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي نصر وغنيمة، والمعنى: أنّ المنافق يندم على ترك الغزو معهم إذا غنموا فيتمنى أن يكون معهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة اعتراض بين العامل ومعموله فلا يجوز الوقف عليها، وهذه المودّة في ظاهر المنافق لا في اعتقاده الَّذِينَ يَشْرُونَ أي يبيعون فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ ذكر الحالتين للمقاتل ووعد بالأجر على كل واحدة منهما وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال، ما مبتدأ ولكم الجار والمجرور خبر، ولا تقاتلون في موضع الحال، والمستضعفين هم الذين حبسهم مشركوا قريش بمكة ليفتنوهم عن الإسلام، وهو عطف على اسم الله أو مفعول معه الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها هي مكة حين كانت للمشركين يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وما بعده إخبار، قصد به تقوية قلوب المسلمين وتحريضهم على القتال
الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ الآية، قيل: هي في قوم من الصحابة كانوا قد أمروا بالكف عن القتال قبل أن يفرض الجهاد، فتمنوا أن يؤمروا به، فلما أمروا به كرهوه، لا شكا في دينهم، ولكن خوفا من الموت، وقيل: هي في المنافقين
وهو أليق في سياق الكلام مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وما بعده تحقير الدنيا فتضمن الرد عليهم في كراهتهم للموت فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي في حصون منيعة، وقيل: المشيدة المطولة وقيل المبنية بالشيد وهو الجص إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ الحسنة هنا: النصر والغنيمة وشبه ذلك من المحبوبات، والسيئة: الهزيمة والجوع وشبه ذلك، والضمير في تصبهم وفي يقولوا للذين قيل لهم: كفوا أيديكم، وهذا يدل على أنها في المنافقين، لأن المؤمنين لا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم إنّ السيئات من عنده قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رد على من نسب السيئة إلى رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وإعلام أن السيئة والحسنة والخير والشر من عند الله أي بقضائه وقدره فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ توبيخ لهم على قلة فهمهم ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم والمراد به كل مخاطب على الإطلاق، فدخل فيه غيره من الناس، وفيه تأويلان: أحدهما: نسبة الحسنة إلى الله، والسيئة إلى العبد تأدبا مع الله في الكلام، وإن كان كل شيء منه في الحقيقة، وذلك كقوله عليه الصلاة والسلام: «والخير كله بيديك والشر ليس إليك» «١» وأيضا: فنسبة السيئة إلى العبد لأنها بسبب ذنوبه، لقوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٤٢]، فهي من العبد بتسببه فيها، ومن الله بالخلقة والاختراع، والثاني: أن هذا من كلام القوم المذكورين قبل، والتقدير يقولون: كذا فمعناها كمعنى التي قبلها مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذه الآية من فضائل رسول الله صلّى الله عليه وعلى اله وسلّم، وإنما كانت طاعته كطاعة الله لأنه يأمر وينهى عن الله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي من أعرض عن طاعتك، فما أنت عليه بحفيظ تحفظ أعماله، بل حسابه وجزاؤه على الله، وفي هذا متاركة وموادعة منسوخة بالقتال
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة لك، وهي في المنافقين بإجماع بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ بيت أي: تدبر الأمر بالليل، والضمير في تَقُولُ للمخاطب، وهو النبي صلّى الله تعالى عليه
(١). هذه الجملة من دعاء نبوي ورد في الصحيحين عن علي بن أبي طالب وأوله: اللهم أنت الملك لا إله إلّا أنت أنت ربي وأنا عبدك. انظر صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء. الجمع بين الصحيحين للصاغاني.
200
وعلى اله وسلّم أو للطائفة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ حض على التفكر في معانيه لتظهر أدلته وبراهينه اخْتِلافاً كَثِيراً أي تناقضا كما في كلام البشر أو تفاوتا في الفصاحة لكن القرآن منزّه عن ذلك، فدل على أنه كلام الله، وإن عرضت لأحد شبهة وظن اختلافا في شيء من القرآن، فالواجب أن يتهم نظره ويسأل أهل العلم ويطالع تآليفهم، حتى يعلم أن ذلك ليس باختلاف وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ قيل: هم المنافقون وقيل: قوم من ضعفاء المسلمين، كانوا إذا بلغهم خبر عن السرايا والجيوش أو غير ذلك أذاعوا به، أي تكلموا به وشهروه قبل أن يعلموا صحته، وكان في إذاعتهم له مفسدة على المسلمين مع ما في ذلك من العجلة وقلة التثبت، فأنكر الله ذلك عليهم وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: لو ترك هؤلاء القوم الكلام بذلك الأمر الذي بلغهم، وردوه إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم وإلى أولي الأمر وهم كبراء الصحابة وأهل البصائر منهم، لعلمه القوم الذين يستنبطونه أي يستخرجونه من الرسول وأولي الأمر فالذين يستنبطونه على هذا طائفة من المسلمين يسألون عنه الرسول صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم وأولي الأمر، وحرف الجر في قوله يستنبطونه منهم لابتداء الغاية وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر، وقيل: الذين يستنبطونه هم أولوا الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه سمع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طلق نساءه، فدخل عليه، فقال: أطلّقت نساءك؟ فقال: لا، فقام على باب المسجد، فقال: إنّ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم لم يطلق نساءه، فأنزل الله هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا يستنبطونه هم أولو الأمر، والضمير المجرور يعود عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطه على هذا هو: سؤالهم عنه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو بالنظر والبحث، واستنباطه على التأويل الأول وهو سؤال الذين أذاعوه للرسول عليه الصلاة والسلام ولأولي الأمر وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: هداه وتوفيقه، أو بعثه للرسل، وإنزاله للكتب، والخطاب في هذه الآية للمؤمنين إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا اتباعا قليلا فالاستثناء من المصدر، والمعنى: لولا فضل الله ورحمته لاتبعتم الشيطان إلّا في أمور قليلة كنتم لا تتبعونه فيها، وقيل: إنه استثناء من الفاعل في اتبعتم أي إلّا قليلا منكم، وهو الذي يقتضيه اللفظ، وهم الذين كانوا قبل الإسلام غير متبعين للشيطان كورقة بن نوفل، والفضل والرحمة على بعث الرسول وإنزال الكتاب، وقيل: إنّ الاستثناء من قوله أذاعوا به
201
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لما تثاقل بعض الناس عن القتال قيل هذا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أي إن أفردوك فقاتل وحدك فإنما عليك ذلك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي ليس عليك في شأن المؤمنين إلّا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: عسى من الله واجبة «١»، والذين كفروا هنا قريش، وقد كفهم الله بهزيمتهم في بدر وغيرها وبفتح مكة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي عقابا وعذابا شَفاعَةً حَسَنَةً هي الشفاعة في مسلم لتفرج عنه كربة، أو تدفع مظلمة أو يجلب إليه خيرا، والشفاعة السيئة بخلاف ذلك وقيل: الشفاعة الحسنة هي الطاعة والشفاعة السيئة هي المعصية، والأول أظهر، والكفل هو النصيب مُقِيتاً قيل: قديرا، وقيل:
حفيظا، وقيل: الذي يقيت الحيوان أي يرزقهم القوت فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها معنى ذلك الأمر بردّ السلام، والتخيير بين أن يرد بمثل ما سلّم عليه أو بأحسن منه، والأحسن أفضل، مثل أن يقال له: سلام عليك فيردّ السلام ويزيد الرحمة والبركة، وردّ السلام واجب على الكفاية عند مالك والشافعي، وقال بعض الناس: هو فرض عين، واختلف في الردّ على الكفار، فقيل: يردّ عليهم لعموم الآية، وقيل: لا يردّ عليهم، وقيل:
يقال لهم عليكم، حسبما جاء في الحديث، وهو مذهب مالك ولا يبتدئون بالسلام لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف، وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدّى بإلى وَمَنْ أَصْدَقُ لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ما استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فئتين: أي طائفتين مختلفتين، وهو منصوب على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجارات، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنين؟ وقال زيد بن ثابت: نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم، ويرد هذا قوله: حتى يهاجروا أَرْكَسَهُمْ أي أضلهم، وأهلكهم
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا فَخُذُوهُمْ يريد به
(١). لم يتضح لي مراد المؤلف بقوله: واجبة، وقد ذكرها الطبري أيضا.
الأسر إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ الآية: استثناء من قوله فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. ومعناها: أن من وصل من الكفار غير المعاهدين إلى الكفار المعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهد ومهادنة فحكمه كحكمهم في المسالمة وترك قتاله، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بالقتال في أول سورة براءة، قال السهيلي وغيره: الذين يصلون هم بنو مدلج بن كنانة إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بنو خزاعة، فدخل بنو مدلج في صلح خزاعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمعنى يصلون إلى قوم: ينتهون إليهم، ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة وقيل: معنى يصلون أي ينتسبون، وهذا ضعيف جدا بدليل قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقريش، وهم أقاربه وأقارب المؤمنين فكيف لا يقاتل أقارب الكفار المعاهدين أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ، عطف على يصلّون أو على صفة قوم وهي: بينكم وبينهم ميثاق، والمعنى يختلف باختلاف ذلك، والأول أظهر، وحصرت صدورهم: في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب حصرت، ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين، وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضا أن يقاتلوا قومهم، وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم. ثم نسخ أيضا ذلك بالقتال فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي إن سالموكم فلا تقاتلوهم، والسلم هنا الانقياد سَتَجِدُونَ آخَرِينَ الآية: نزلت في قوم مخادعين، وهم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم، والفتنة هنا الكفر على الأظهر، وقيل:
الاختبار
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً نزلت بسبب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، لكن الخطأ قد يقع، والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنا إلّا على وجه الخطأ من غير قصد ولا تعد إذ هو مغلوب فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعول من أجله أو حال أو صفة لمصدر محذوف وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ فأوجب الله عليه التحرير والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل. وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيان للآية
إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره، وأجمع الفقهاء عليه، واشترط مالك في الرقبة التي تعتق أن تكون مؤمنة، ليس فيها عقد من عقود الحرية، سالمة من العيوب أما إيمانها فنص هنا، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا، واختلفوا في كفارة الظهار وكفارة اليمين، وأما سلامتها من عقود الحرية فيظهر من قوله تعالى: فتحرير رقبة، لأن ظاهره أنه ابتداء عتق عند التكفير بها وأما سلامتها من العيب، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه وفي ذلك نظر، ولم يبين في الآية مقدار الدية وهي عند مالك مائة من الإبل على أهل الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهم شرعية على أهل الورق، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مدفوعة إليهم، والأهل هنا الورثة، واختلف في مدة تسليمها، فقيل: هي حالّة عليهم، وقيل: يؤدونها في ثلاث سنين، وقيل: في أربع، ولفظ التسليم مطلق وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالك والجمهور، خلافا لأهل الظاهر، وحجتهم عود الضمير على الأولياء، وقال الجمهور، إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ معنى الآية: أن المقتول خطأ إن كان مؤمنا وقومه كفارا أعداء وهم المحاربون، فإنما في قتله التحرير خاصة دون الدية فلا تدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين، ورأى ابن عباس أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر، وخالفه غيره ورأى مالك أن الدية في هذا لبيت المال فالآية عنده منسوخة، وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ الآية: معناها أن المقتول خطأ إن كان قومه كفارا معاهدين ففي مثله تحرير رقبة والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إنّ المقتول في هذه الآية كافر، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ، وقيل: هي عامة في المؤمن والكافر، ولفظ الآية مطلق إلّا أن قيده قوله: وهو مؤمن في الآية التي قبلها وقرأ الحسن هنا وهو مؤمن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوض منه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ منصوب على المصدرية ومعناه رحمة منه وتخفيفا
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الآية: نزلت بسبب مقيس بن صبابة كان قد أخذ دية أخيه هشام المقتول خطأ، ثم قتل رجلا من القوم الذين قتلوا أخاه وارتدّ مشركا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه
واله وسلّم بقتله، والمتعمد عند الجمهور هو الذي يقصد القتل بحديدة أو حجر أو عصا أو غير ذلك، وهذه الآية معطلة على مذهب الأشعرية وغيرهم ممن يقول: لا يخلد عصاة المؤمنين في النار، واحتج بها المعتزلة وغيرهم ممن يقول بتخليد العصاة في النار لقوله:
خالدا فيها وتأولها الأشعرية بأربعة أوجه: أحدها: أن قالوا إنها في الكافر إذا قتل مؤمنا، والثاني: قالوا معنى المتعمد هنا المستحل للقتل، وذلك يؤول إلى الكفر، والثالث: قالوا الخلود فيها ليست بمعنى الدوام الأبدي، وإنما هو عبارة عن طول المدة، والرابع: أنها منسوخة بقوله تعالى: إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما المعتزلة فحملوها على ظاهرها ورأوا أنها ناسخة لقوله: ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، واحتجوا على ذلك بقول زيد بن ثابت نزلت الشديدة بعد الهينة وبقول ابن عباس: الشرك والقتل من مات عليهما خلد، وبقول رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلّا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا» «١»، وتقتضي الآية وهذه الآثار أن للقتل حكما يخصه من بين سائر المعاصي، واختلف الناس في القاتل عمدا إذا تاب، هل تقبل توبته أم لا؟ وكذلك حكى ابن رشد الخلاف في القاتل إذا اقتص منه هل يسقط عنه العقاب في الآخرة أم لا؟ والصحيح أنه يسقط عنه، لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصاب ذنبا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة» «٢»، وبذلك قال جمهور العلماء ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم في الجهاد فَتَبَيَّنُوا من البيان وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من الثبات والتفعل فيها بمعنى الاستفعال «٣» أي اطلبوا بيان الأمر وثبوته أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ بغير ألف أي انقاد وألقى بيده، وقرأ نافع وغيره السلام بمعنى التحية، ونزلت في سرية لقيت رجلا فسلم عليهم، وقال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فحمل عليه أحدهم فقتله، فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم، وكان القاتل علم بن جثامة والمقتول عامر بن الأغبط، وقيل: القاتل أسامة بن زيد والمقتول مرداس بن نهيك تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني الغنيمة، وكان للرجل المقتول غنم فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ وعد وتزهيد في غنيمة من أظهر الإسلام كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ قيل: معناه كنتم كفارا فهداكم الله للإسلام، وقيل: كنتم تخفون إيمانكم من قومكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالعزة والنصر حتى أظهرتموه
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية: معناها تفضيل المجاهدين على من لم
(١). رواه أحمد ج ٤ ص ١٣٨ عن معاوية وذكر في التيسير أنه رواه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء.
(٢). ذكره في التيسير وعزاه لأحمد عن خزيمة بن ثابت وفي سنده اضطراب.
(٣). فثبتوا.
يجاهد وهم القاعدون غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ لما نزلت الآية: قام ابن أم مكتوم الأعمى، فقال يا رسول الله هل من رخصة فإني ضرير البصر، فنزل: غير أولي الضرر وقرئ غير بالحركات الثلاث، بالرفع صفة للقاعدين، وبالنصب «١» على الاستثناء أو الحال، وبالخفض صفة للمؤمنين دَرَجَةً قيل: هي تفضيل على القاعدين من أهل العذر والدرجات على القاعدين بغير عذر، وقيل: إنّ الدرجات مبالغة وتأكيد الدرجة الْحُسْنى الجنة أَجْراً منصوب على الحال من درجات أو المصدرية من معنى فضل، وانتصب درجات على البدل من الأجر أو بفعل مضمر، وانتصب مغفرة ورحمة بإضمار فعلها: أي غفر لهم ورحمهم مغفرة ورحمة إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية: نزلت في قوم أسلموا بمكة ولم يهاجروا، فلما كان يوم بدر خرجوا مع الكفار فقتلوا منهم قيس بن الفاكه والحارث بن زمعة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، ويحتمل أن يكون توفاهم ماضيا أو مضارعا، وانتصب ظالمي على الحال قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذار عن التوبيخ الذي وبخهم به الملائكة: أي لم تقدروا على الهجرة، وكان اعتذارا بالباطل قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً رد عليهم وتكذيب لهم في اعتذارهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الذين كان استضعافهم حقا، قال ابن عباس: كنت أنا وأبي وأمي ممن عنى الله بهذه الآية مُراغَماً أي متحوّلا وموضعا يرغم عدوه بالذهاب إليه وَسَعَةً أي اتساع في الأرض وقيل: في الرزق فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي ثبت وصح وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ الآية حكمها على العموم، ونزلت في ضمرة بن القيس وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضا فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة قال: أخرجوني فهيئ له فراش فوضع عليه وخرج فمات في الطريق، وقيل: نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات قبل أن يصل إلى أرض الحبشة.
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اختلف العلماء في تأويلها على خمسة أقوال: أولها: أنها في قصر
(١). قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب وقرأ غيرهم بالرفع.
الصلاة الرباعية إلى ركعتين في السفر، ولذلك لا يجوز إلّا في حال الخوف على ظاهر الآية، وهو قول عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والثاني: أن الآية تقتضي ذلك ولكن يؤخذ القصر في السفر دون الخوف من السنة، ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب إنّ الله يقول: إن خفتم وقد أمن الناس فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قصر في السفر وهو آمن، الثالث: أن قوله: إن خفتم راجع إلى قوله:
وإذا كنت فيهم الآية التي بعد ذلك والواو زائدة وهذا بعيد، الرابع: أنها في صلاة الخوف على قول من يرى أن تصلي كل طائفة ركعة خاصة، قال ابن عباس: فرضت الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. الخامس: أنها في صلاة المسايفة، فالقصر على هذا هو من هيئة الصلاة كقوله: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا وإذا قلنا إنها في القصر في السفر، فظاهرها أن القصر رخصة، والإتمام أفضل وهو مذهب الشافعي، وقال مالك: القصر أفضل، وقيل إنهما سواء، وأوجب أبو حنيفة القصر، وليس في لفظ الآية ما يدل على مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة لأن قوله: إذا ضربتم في الأرض معناه السفر مطلقا، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر طويل أو قصير، ومذهب مالك والشافعي أن مسافة القصر ثمانية وأربعون ميلا واحتجوا بآثار عن عمر وابن عباس، وكذلك ليس في الآية ما يدل على تخصيص القصر بسفر القربة، أو السفر المباح، دون سفر المعصية فإنّ لفظها مطلق في السفر، ولذلك أجاز أبو حنيفة القصر في سفر القربة وفي المباح وفي سفر المعصية، ومنعه مالك في سفر المعصية، ومنعه ابن حنبل في المعصية، وفي المباح. وللقصر أحكام لا تتعلق بالآية فأضربنا عن ذكرها، والمراد بالفتنة في هذه الآية القتال أو التعرض بما يكره
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية في صلاة الخوف، وظاهرها يقتضي أنها لا تصلّى بعد رسول الله صلّى الله تعالى عليه واله وسلّم لأنه شرط كونه فيهم، وبذلك قال أبو يوسف، وأجازها الجمهور بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، لأنهم رأوا أن الخطاب له يتناول أمته، وقد فعلها الصحابة بعده صلّى الله عليه واله وسلّم، واختلف الناس [العلماء] في صلاة الخوف على عشرة أقوال، لاختلاف الأحاديث فيها، ولسنا نضطر إلى ذكرها فإنّ تفسيرها لا يتوقف على ذلك، وكانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه واله وسلّم لصلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يقسم الإمام المسلمين على طائفتين فيصلي بالأولى نصف الصلاة، وتقف الأخرى تحرس ثم يصلي بالثانية بقية الصلاة وتقف الأولى تحرس، واختلف هل تتم كل طائفة صلاتها وهو مذهب الجمهور، أم لا؟ وعلى القول بالإتمام: اختلف هل يتمونها في أثر صلاتهم مع الإمام أو بعد ذلك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اختلفوا في المأمور بأخذ الأسلحة، فقيل الطائفة
207
المصلية وقيل الحارسة والأول أرجح، لأنه قد قال بعد ذلك في الطائفة الأخرى:
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ، ويدل ذلك على أنهم إن قوتلوا وهم في الصلاة: جاز لهم أن يقاتلوا من قاتلهم، وإلّا لم يكن لأخذ الأسلحة معنى إذا لم يدفعوا بها من قاتلهم فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ الضمير في قوله: فإذا سجدوا للمصلين، والمعنى إذا سجدوا معك في الركعة الأولى، وقيل: إذا سجدوا في ركعة القضاء، والضمير في قوله فليكونوا من ورائكم: يحتمل أن يكون للذين سجدوا: أي إذا سجدوا فليقوموا وليرجعوا وراءكم، وعلى هذا إن كان السجود في الركعة الأولى فيقتضي ذلك أنهم يقومون للحراسة بعد انقضاء الركعة الأولى، ثم يحتمل بعد ذلك أن يقضوا بقية صلاتهم أو لا يقضونها، وإن كان السجود في ركعة القضاء، فيقتضى ذلك أنهم لا يقومون للحراسة إلّا بعد القضاء، وهو مذهب مالك والشافعي، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: فليكونوا للطائفة الأخرى أن يقفوا وراء المصلّين يحرسونهم وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى يعني الطائفة الحارسة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية: إخبار عما جرى في غزوة ذات الرقاع، من عزم الكفار على الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بصلاتهم، فنزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره بذلك، وشرعت صلاة الخوف حذرا من الكفار، وفي قوله: ميلة واحدة: مبالغة أي مفاضلة لا يحتاج منها إلى ثانية وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ الآية: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا فوضع سلاحه فعنفه بعض الناس، فرخص الله في وضع السلاح في حال المرض والمطر، ويقاس عليهما كل عذر يحدث في ذلك الوقت إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً إن قيل: كيف طابق الأمر بالحذر للعذاب المهين؟ فالجواب أن الأمر بالحذر من العدوّ: يقتضي توهم قوّتهم وعزتهم، فنفى ذلك الوهم بالإخبار أن الله يهينهم ولا ينصرهم لتقوى قلوب المؤمنين، قال ذلك الزمخشري وإنما يصح ذلك إذا كان العذاب المهين في الدنيا، والأظهر أنه في الآخرة فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ الآية: أي إذا فرغتم من الصلاة، فاذكروا الله بألسنتكم، وذكر القيام والقعود وعلى الجنوب ليعم جميع أحوال الإنسان، وقيل المعنى إذا تلبستم بالصلاة فافعلوها قياما فإن لم تقدروا فقعودا، فإن لم تقدروا فعلى جنوبكم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي إذا اطمأننتم من الخوف فأقيموا الصلاة على هيئتها المعهودة كِتاباً مَوْقُوتاً أي محدودا بالأوقات وقال ابن عباس: فرضا مفروضا
208
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تضعفوا في طلب الكفار إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الآية: معناها. إن أصابكم ألم من القتال فكذلك يصيب الكفار ألم مثله، ومع ذلك فإنكم ترجون إذا قاتلتموهم: النصر في الدنيا، والأجر في الآخرة وذلك تشجيع للمسلمين لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ يحتمل أن يريد بالوحي أو بالاجتهاد، أو بهما، وإذا تضمنت الاجتهاد، ففيها دليل على إثبات النظر والقياس خلافا لمن منع ذلك من الظاهرية وغيرهم وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً نزلت هذه الآية وما بعدها في قصة طعمة بن الأبيرق إذ سرق طعاما وسلاحا لبعض الأنصار، وجاء قومه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنه بريء، ونسبوا السرقة إلى غيره، وظن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم صادقون، فجادل عنهم ليدفع ما نسب إليهم حتى نزل القرآن فافتضحوا، فالخائنون في الآية: هم السراق بنو الأبيرق، وقال السهيلي: هم بشر وبشير ومبشر وأسيد، ومعناها: لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لغيرهم وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أي من خصامك عن الخائنين، على أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما تكلم على الظاهر وهو يعتقد براءتهم إِذْ يُبَيِّتُونَ
أي يدبرون ليلا وإنما سمي التدبير قولا، لأنه كلام النفس، وربما كان معه كلام باللسان وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
قيل: إن الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلّا عن عمد، وقيل: هما بمعنى، وكرر لاختلاف اللفظ ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كان القوم قد نسبوا السرقة إلى لبيد بن سهل لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
هم الذين جاءوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم برّأوا ابن الأبيرق من السرقة وهذه الآية وإن كانت إنما نزلت بسبب هذا القصة، فهي أيضا تتضمن أحكام غيرها، وبقية الآية تشريف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتقدير لنعم الله عليه
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلا على حذف مضاف
تقديره إلّا نجوى من أمر، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة فالاستثناء متصل وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يعاديه، والشقاق هو العداوة، ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق، لأنه ارتدّ وسار إلى المشركين ومات على الكفر، وهي عامة فيه وفي غيره وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ استدل الأصوليون بها على صحة إجماع المسلمين وأنه لا يجوز مخالفته، لأن من خالفه اتبع غير سبيل المؤمنين، وفي ذلك نظر نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نتركه مع اختياره الفاسد إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ قد تقدّم الكلام على نظيرتها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً الضمير في يدعون للكفار، ومعنى يدعون يعبدون، واختلف في الإناث هنا، فقيل: هي الأصنام، لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة: كاللات والعزى، وقيل: المراد الملائكة لقول الكفار إنهم إناث وكانوا يعبدونهم فذكر ذلك على وجه إقامة الحجة عليهم بقولهم الفاسد، وقيل: المراد الأصنام، لأنها لا تفعل فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً يعني إبليس، وإنما قال: إنهم يعبدونه، لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال، والمريد هو الشديد العتوّ والإضلال لَعَنَهُ اللَّهُ صفة للشيطان وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الضمير للشيطان: أي فرضته لنفسي من قولك فرض للجند وغيرهم، والمراد بهم أهل الضلال وَلَأُضِلَّنَّهُمْ أي أعدهم الأماني الكاذبة فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي يقطعونها، والإشارة بذلك إلى البحيرة وشبهها فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ التغيير هو الخصاء وشبهه، وقد رخص جماعة من العلماء في خصاء البهائم، إذا كان فيه منفعة، ومنعه بعضهم لظاهر الآية، وقيل: التغيير هو الوشم وشبهه، ويدل على هذا الحديث الذي لعن فيه الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، والمغيرات خلق الله «١» مَحِيصاً أي معدلا ومهربا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران: الأوّل مؤكد للوعد الذي يقتضيه قوله: سندخلهم جنات، والثاني مؤكد لوعد الله
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية: اسم
(١). الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود في كتاب اللباس والزينة ٣/ ١٦٧٨.
ليس مضمر تقديره الأمر وشبهه، والخطاب للمسلمين، وقيل: للمشركين أي لا يكون ما تتمنون، ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده، ويجازيهم بأعمالهم مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وعيد حتم في الكفار، ومقيد بمشيئة الله في المسلمين وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ دخلت من للتبعيض رفقا بالعباد، لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر وَهُوَ مُؤْمِنٌ تقييد باشتراط الإيمان، فإنه لا يقبل عمل إلّا به نَقِيراً هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، والمعنى تمثيل بأقل الأشياء وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي دين الإسلام حَنِيفاً حال من المتبع أو من إبراهيم وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي صفيا، وهو مشتق من الخلة بمعنى المودّة، وفي ذلك تشريف لإبراهيم، وترغيب في اتباعه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يسألونك عما يجب عليهم في أمر النساء وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عطف على اسم الله أي يفتيكم الله، والمتلوّ عليكم في الكتاب يعني القرآن فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ كان الرجل من العرب يتزوّج اليتيمة من أقاربه بدون ما تستحقه من الصداق، فقوله: ما كتب لهن يعني ما تستحقه المرأة من الصداق، وقوله: وترغبون أن تنكحوهن: يعني: لجمالهن وما لهن من غير توفية حقوقهن، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك أول السورة في قوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية، وهذه الآية هي التي تليت عليهم في يتامى النساء، والمستضعفين من الولدان: عطف على يتامى النساء، والذي يتلى في المستضعفين من الولدان وهو قوله: يوصيكم الله في أولادكم، لأن العرب كانت لا تورث البنت ولا الابن الصغير، فأمر الله أن يأخذوا نصيبهم من الميراث وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على المستضعفين، أي والذي يتلى عليكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط، ويجوز أن يكون منصوبا تقديره: ويأمركم أن تقوموا، أو الخطاب في ذلك للأولياء، والأوصياء، أو للقضاة وشبههم، والذي تلي عليهم في ذلك هو قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] الآية، وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة/ ١٨٨] إلى غير ذلك
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً معنى الآية إباحة الصلح بين الزوجين، إذا خافت النشوز أو الإعراض، وكما يجوز الصلح مع الخوف كذلك يجوز بعد وقوع النشوز أو الإعراض وقد تقدّم معنى
النشوز، وأما الإعراض فهو أخف، ووجوه الصلح كثيرة منها أن يعطيها الزوج شيئا أو تعطيه هي أو تسقط حقها من النفقة أو الاستمتاع أو غير ذلك، وسبب الآية أن سودة بنت زمعة لما كبرت خافت أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت له: أمسكني في نسائك ولا تقسم لي وقد وهبت يومي لعائشة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام يدخل فيه صلح الزوجين وغيرهما، وقيل: معناه صلح الزوجين خير من فراقهما فخير على هذا للتفضيل، واللام في الصلح للعهد وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معناه أن الشح جعل حاضرا مع النفوس لا يغيب عنها لأنها جبلت عليه. والشح هو أن لا يسمح الإنسان لغيره بشيء من حظوظ نفسه، وشح المرأة من هذا هو طلبها لحقها من النفقة والاستمتاع، وشح الزوج هو منع الصداق والتضييق في النفقة وزهده في المرأة لكبر سنها أو قبح صورتها وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ معناه العدل التام الكامل في الأقوال والأفعال والمحبة وغير ذلك فرفع الله ذلك عن عباده، فإنهم لا يستطيعون. وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه ثم يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك» «١» يعني: ميله بقلبه وقيل: إنّ الآية نزلت في ميله صلّى الله عليه وسلّم بقلبه إلى عائشة، ومعناها اعتذار من الله تعالى عن عباده فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا ذات زوج ولا مطلقة وَإِنْ يَتَفَرَّقا الآية: معناها إن تفرّق الزوجان بطلاق أغنى الله كل واحد منهما من فضله عن صاحبه، وهذا وعد بخير وتأنيس وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الآية:
إخبار أنّ الله وصى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي بقوم غيركم، وروي أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، وقال: هم قوم هذا
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا الآية: تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة، لأنه خير من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره، وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول، من كان يريد
(١). رواه: أحمد عن عائشة بلفظ: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. ج ٦ ص ١٦٤.
ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، وعلى الثاني من كان يريد ثواب الدنيا فليطلبه من الله فعند الله ثواب الدنيا والآخرة كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مجتهدين في إقامة العدل شُهَداءَ لِلَّهِ معناه لوجه الله ولمرضاته وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ يتعلق بشهد وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر الوالدين والأقربين، إذ هم مظنة للتعصب والميل: فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً جواب إن محذوف على الأظهر أي إن يكن المشهود عليه غنيا، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما له، وإن كان فقيرا فلا تمتنع من الشهادة عليه اتفاقا فإنّ الله أولى بالغني والفقير، أي بالنظر إليهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أن مفعول من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، فالتقدير إرادة أن تعدلوا بين الناس، أو من العدل، فالتقدير كراهة أن تعدلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا قيل: إنّ الخطاب للحكام، وقيل للشهود، واللفظ عام في الوجهين، والليّ: هو تحريف الكلام، أي تلووا عن الحكم بالعدل أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون، وقرئ إن تلوا بضم اللام من الولاية «١» : أي إن وليتم إقامة الشهادة، أو أعرضتم عنها آمِنُوا بِاللَّهِ الآية خطاب للمسلمين: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذكر، أو يكون أمرا بالدوام على الإيمان، وقيل: خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين: معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل:
خطاب للمنافقين معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر، وقيل: في اليهود والنصارى لأنهم آمنوا بأنبيائهم ثم كفروا بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، والأوّل أرجح لأنّ الكلام من هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم، ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ وازداد كفرا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابا لهم بسوء أفعالهم
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية:
(١). وهي قراءة حمزة وعامر.
إشارة إلى قوله: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: ٦٨] وغيرها، وفي الآية دليل على وجوب تجنب أهل المعاصي، والضمير في قوله: معهم يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ صفة للمنافقين: أي ينتظرون بكم دوائر الزمان أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا قال علي بن أبي طالب وغيره: ذلك في الآخرة، وقيل: السبيل هنا الحجة البالغة يُخادِعُونَ اللَّهَ
ذكر في البقرة وهو خادعهم تسمية للعقوبة باسم الذنب، لأنّ وبال خداعهم راجع عليهم مُذَبْذَبِينَ أي مضطربين متردّدين، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ أي في الطبقة السفلى من جهنم، وهي سبع طبقات وفي ذلك دليل على أنهم شرّ من الكفار إِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من المنافقين، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ المعنى أي حاجة ومنفعة لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم، وقدّم الشكر على الإيمان، لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها ثم يؤمن بالمنعم فكان الشكر سببا للإيمان: متقدّم عليه، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدا واهتماما به، والشاكر اسم الله ذكر في اللغات إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلّا جهر المظلوم فيجوز له من الجهر أن يدعو على من ظلمه، وقيل: أن يذكر ما فعل به من الظلم، وقيل: أن يرد عليه بمثل مظلمته إن كان شتمه إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ الآية: ترغيب في فعل الخير سرا وعلانية، وفي العفو عن الظلم بعد أن أباح الانتصار لأن العفو أحب إلى الله من الانتصار، وأكد ذلك بوصفه تعالى نفسه بالعفو مع القدرة
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ الآية: في اليهود والنصارى، لأنهم آمنوا بأنبيائهم، وكفروا
بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ومعنى التفريق بين الله ورسله الإيمان به والكفر برسله، وكذلك التفريق بين الرسل هو الكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم، فحكم الله على من كان كذلك بحكم الكفر الحقيقي الكامل وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية: في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم آمنوا بالله وجميع رسله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ الآية، روي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لن نؤمن بك حتى تأتينا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة، وقيل كتاب إلى فلان، وكتاب إلى فلان بأنك رسول الله، وإنما طلبوا ذلك على وجه التعنت، فذكر الله سؤالهم من موسى، وسوء أدبهم معه تسلية للنبي صلّى الله عليه واله وسلّم بالتأسي بغيره، ثم ذكر أفعالهم القبيحة ليبين أنّ كفرهم إنما هو عناد، وقد تقدّم في البقرة ذكر طلبهم للرؤيا، واتخاذهم العجل، ورفع الطور فوقهم، واعتدائهم في السبت وغير ذلك بما أشير إليه هنا فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ما زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره بسبب نقضهم فعلنا بهم ما فعلنا، أو تتعلق بقوله حرمنا عليهم، ويكون فبظلم على هذا بدلا من قوله: فبما نقضهم بُهْتاناً عَظِيماً هو أن رموا مريم بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عدّد الله في جملة قبائحهم قولهم: إنا قتلنا المسيح لأنهم قالوها افتخارا وجرأة مع أنهم كذبوا في ذلك، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوه لأنهم صلبوا الشخص الذي ألقى عليه شبهه، وهم يعتقدون أنه عيسى، وروي أن عيسى قال للحواريين أيكم يلقى عليه شبهي. فيقتل ويكون رفيقي في الجنة، فقال أحدهم أنا فألقي عليه شبه عيسى فقتل على أنه عيسى» «١» وقيل بل دلّ على عيسى يهوديّ، فألقى الله شبه عيسى على اليهودي فقتل اليهودي ورفع عيسى إلى السماء حيا، حتى ينزل إلى الأرض فيقتل الدجال رَسُولَ اللَّهِ إن قيل: كيف قالوا فيه رسول الله، وهم يكفرون به ويسبونه؟ فالجواب من
(١). أورد الطبري هذا الحديث بسنده عن القاسم بن أبي بزة وعن ابن جريج فلينظر هناك.
215
ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم قالوا ذلك على وجه التهكم والاستهزاء، والثاني: أنهم قالوه على حسب اعتقاد المسلمين فيه كأنهم قالوا رسول الله عندكم أو بزعمكم، والثالث: أنه من قول الله لا من قولهم فيوقف قبله، وفائدة تعظيم ذنبهم وتقبيح قولهم إنا قتلناه وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ردّ عليه وتكذيب لهم وللنصارى أيضا في قولهم: إنه صلب حتى عبدوا الصليب من أجل ذلك. والعجب كل العجب من تناقضهم في قولهم إنه إله أو ابن إله ثم يقولون إنه صلب وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ فيه تأويلان: أحدهما: ما ذكرناه من إلقاء شبهه على الحواري أو على اليهودي، والآخر: أنّ معناه شبه لهم الأمر أي خلط لهم القوم الذين حاولوا قتله بأنهم قتلوا رجلا آخر وصلبوه ومنعوا الناس أن يقربوا منه، حتى تغير بحيث لا يعرف، وقالوا للناس: هذا عيسى، ولم يكن عيسى، فاعتقد الناس صدقهم وكانوا متعمدين للكذب وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ روي أنه لما رفع عيسى وألقي شبهه على غيره فقتلوه، قالوا: إن كان هذا المقتول عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فاختلفوا، فقال بعضهم هو هو، وقال بعضهم ليس هو، فأجمعوا أن شخصا قتل، واختلفوا من كان إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع لأنّ العلم تحقيق والظن تردّد، وقال ابن عطية: هو متصل إذا الظن والعلم يجمعهما جنس المعتقدات، فإن قيل: كيف وصفهم بالشك وهو تردّد بين احتمالين على السواء ثم وصفهم بالظنّ وهو ترجيح أحد الاحتمالين؟
فالجواب أنهم كانوا على الشك، ثم لاحت لهم أمارات فظنوا، قاله الزمخشري، وقد يقال: الظن بمعنى الشك وبمعنى الوهم الذي هو أضعف من الشك وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً أي ما قتلوه قتلا يقينا فإعراب يقينا على هذا صفة لمصدر محذوف، وقيل: هي مصدر في موضع الحال: أي ما قتلوه متيقنين، وقيل: هو تأكيد للنفي الذي في قوله: ما قتلوه أي يتقين نفي قتله، وهو على هذا منصوب على المصدرية بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي إلى سمائه وقد ورد في حديث الإسراء أنه في السماء الثانية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فيها تأويلان: أحدهما: أنّ الضمير في موته لعيسى، والمعنى أنه كل أحد من أهل الكتاب يؤمن بعيسى حين ينزل إلى الأرض، قبل أن يموت عيسى، وتصير الأديان كلها حينئذ دينا واحدا، وهو دين الإسلام، والثاني أنّ الضمير في موته للكتاب الذي تضمنه قوله: وإن من أهل الكتاب التقدير: وإن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمن بعيسى، ويعلم أنه نبي قبل أن يموت هذا الإنسان، وذلك حين معاينة الموت، وهو إيمان لا ينفعه، وقد روي هذا المعنى عن ابن عباس وغيره، وفي مصحف أبيّ بن كعب قبل موتهم، وفي هذه القراءة تقوية للقول الثاني، والضمير في به لعيسى على الوجهين، وقيل: هو لمحمد صلّى الله عليه واله وسلّم وَبِصَدِّهِمْ يحتمل أن يكون بمعنى الإعراض، فيكون كثيرا صفة لمصدر
216
محذوف تقديره صدّا كثيرا، أو بمعنى صدّهم لغيرهم، فيكون كثيرا مفعولا بالصدّ، أي صدّوا كثيرا من الناس عن سبيل الله
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ هو عبد الله بن سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم وَالْمُقِيمِينَ منصوب على المدح بإضمار فعل، وهو جائز كثيرا في الكلام، وقالت عائشة هو من لحن كتاب المصحف، وفي مصحف ابن مسعود: والمقيمون، على الأصل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية: ردّ على اليهود الذين سألوا النبي صلّى الله عليه واله وسلّم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن الذي أتى به وحي: كما أتى من تقدّم من الأنبياء بالوحي من غير إنزال الكتاب من السماء، ولذلك أكثر من ذكر الأنبياء الذين كان شأنهم هذا لتقوم بهم الحجة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ منصوب بفعل مضمر أي أرسلنا رسلا وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تصريح بالكلام مؤكد بالمصدر، وذلك دليل على بطلان قول المعتزلة إنّ الشجرة هي التي كلمت موسى رُسُلًا مُبَشِّرِينَ منصوب بفعل مضمر أو على البدل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي بعثهم الله ليقطع حجة من يقول: لو أرسل إليّ رسولا لآمنت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية:
معناها أنّ الله يشهد بأن القرآن من عنده، وكذلك تشهد الملائكة بذلك، وسبب الآية: إنكار اليهود للوحي، فجاء الاستدراك على تقدير أنهم قالوا: لن نشهد بما أنزل إليك، فقيل:
لكن الله يشهد بذلك، وفي الآية من أدوات البيان الترديد، وهو ذكر الشهادة أولا، ثم ذكرها في آخر الآية أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ في هذا دليل لأهل السنة على إثبات علم الله، خلافا للمعتزلة في قولهم إنه عالم بلا علم، وقد تأوّلوا الآية بتأويل بعيد
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب عام، لأنّ النبي صلّى الله تعالى عليه وعلى اله وسلّم بعث إلى جميع الناس فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصب خبرا هنا، وفي قوله: انتهوا خيرا لكم بفعل مضمر لا يظهر تقديره ائتوا خيرا لكم، هذا مذهب سيبويه، وقال الخليل: انتصب بقوله آمنوا وانتهوا على المعنى، وقال الفراء فآمنوا إيمانا خيرا لكم فنصبه على النعت لمصدر محذوف، وقال الكوفيون هو خبر
217
كان المحذوفة تقديره يكن الإيمان خيرا لكم وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي هو غني عنكم لا يضره كفركم يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ هذا خطاب للنصارى لأنهم غلوا في عيسى حتى كفروا، فلفظ أهل الكتاب عموم يراد به الخصوص في النصارى، بدليل ما بعد ذلك والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد وَكَلِمَتُهُ أي مكون عن كلمته التي هي كن من غير واسطة أب ولا نطفة وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله، فمن هنا لابتداء الغاية، والمعنى من عند الله، وجعله من عند الله لأن الله أرسل به جبريل عليه السلام إلى مريم وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ نهي عن التثليث، وهو مذهب النصارى وإعراب ثلاثة خبر مبتدأ مضمر لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ برهان على تنزيهه تعالى عن الولد، لأنه مالك كل شي ءنْ يَسْتَنْكِفَ
لن يأنف كذلك، ومعناه حيث وقع لَا الْمَلائِكَةُ
فيه دليل لمن قال: إنّ الملائكة أفضل من الأنبياء، لأن المعنى لن يستنكف عيسى ومن فوقه قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ هو القرآن، وهو أيضا النور المبين، ويحتمل أن يريد بالبرهان الدلائل والحجج، وبالنور النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأنه سمّاه سراجا يَسْتَفْتُونَكَ أي يطلبون منك الفتيا، ويحتمل أن يكون هذا الفعل طلبا للكلالة، ويفتيكم أيضا طلب لها، فيكون من باب الإعمال وإعمال العامل الثاني على اختيار البصريين أو يكون يستفتونك مقطوعا عن ذلك فيوقف عليه، والأوّل أظهر، وقد تقدّم معنى الكلالة في أوّل السورة والمراد بالأخت والأخ هنا: الشقائق، والذين للأب إذا عدم الشقائق، وقد تقدّم حكم الإخوة للأم في قوله وإن كان رجلا يورث كلالة الآية إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، ولا إشكال فيما ذكر هنا من أحكام المواريث أَنْ تَضِلُّوا مفعول من أجله تقديره كراهية أن تضلوا.
218
Icon