تفسير سورة الحديد

فتح البيان
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الحديد
هي تسع وعشرون آية وهي مدنية
قال القرطبي : في قول الجميع قال ابن عباس : نزلت بالمدينة، وعن ابن الزبير مثله، وعليه الجمهور، وقال الزمخشري : إنها مكية، ويؤيده ما نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب أنه لما قرأ هذه الآيات إلى قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ وكانت مكتوبة في صحيفة عند أخته أسلم، فهذا يقتضي أن هذه الآيات مكية، فعلى هذا تستثنى على القول بأن السورة مدينة، تأمل.
" وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت سورة الحديد يوم الثلاثاء وخلق الحديد يوم الثلاثاء، وقتل ابن آدم أخاه يوم الثلاثاء، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء، أخرجه الطبراني وابن مردويه قال السيوطي بسند ضعيف.
وعن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت علي يوم الثلاثاء أخرجه الديلمي.
" وعن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : أن فيهن آية أفضل من ألف آية، أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم وفي إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال معروف.
وأخرجه النسائي عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر العرباض بن سارية فهو مرسل وأخرجه ابن الضريس.
" عن يحي بن أبي كثير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ المسبحات وكان يقول : إن فيهن آية أفضل من ألف آية " قال يحيى فنراها الآية التي في آخر الحشر " وقال ابن كثير في تفسيره والآية المشار إليها والله أعلم هي قوله :﴿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن ﴾ الآية والمسبحات هي الحديد والحشر والصف والجمعة والتغابن.

(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي نزهه ومجده قال المقاتلان: يعني كل شيء من ذي روح وغيره، وقد تقدم الكلام في تسبيح الجمادات، عند تفسير قوله: وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. والمراد بالتسبيح المسند إلى ما في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم، والحيوانات والجمادات هو ما يعم التسبيح بلسان المقال، كتسبيح الملائكة والإنس والجن، وبلسان الحال كتسبيح غيرهم، فإن كل موجود يدل على الصانع، وقد أنكر الزجاج أن يكون تسبيح غير العقلاء هو تسبيح الدلالة وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال: ولكن لا تفقهون تسبيحهم؟ وإنما هو تسبيح مقال، واستدل بقوله: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن، فلو كان هذا التسبيح من الجبال تسبيح دلالة لم تكن لتخصيص داود فائدة.
وفعل التسبيح قد يتعدى بنفسه تارة كما في قوله: وسبحوه، وباللام أخرى كهذه الآية، وأصله أن يكون متعدياً بنفسه، لأن معنى سبحته بعدته عن السوء فإذا استعمل باللام فهي إما زائدة للتأكيد كما في شكرته وشكرت
393
له، أو هي للتعليل، أي أفعل التسبيح لأجل الله سبحانه خالصاً له.
وجاء هذا الفعل في بعض هذه الفواتح، كالحشر والصف ماضياً كهذه الفاتحة. وفي بعضها كالجمعة والتغابن مضارعاً، وفي بعضها كالأعلى أمراً، وفي بني إسرائيل بلفظ المصدر، استيعاباً واستيفاءً لهذه الكلمة من جميع جهاتها المشهورة، وللإشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات، لا يختص تسبيحها بوقت دون وقت بل هي مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة في المستقبل أبداً، وبدأ بالمصدر في الإسراء لأنه الأصل، وأبلغ من حيث إنه مشعر بإطلاقه عن التعرض للفاعل والزمان، ثم بالماضي لسبق زمنه. ثم بالمضارع لشموله الحال والإستقبال، ثم بالأمر لخصوصه بالإستقبال مع تأخره في النطق به في قولهم: فعل يفعل أفعل.
(وهو العزيز) أي القادر الغالب الذي لا ينازعه منازع ولا يمانعه ممانع كائناً ما كان، قرأ قالون وأبو عمرو بسكون الهاء والباقون بضمها (الحكيم) الذي يفعل أفعال الحكمة والصواب.
394
(له ملك السموات والأرض) يتصرف فيه وحده ولا ينفذ فيهما غير تصرفه وأمره، وقيل: المراد خزائن المطر والنبات وسائر الأرزاق ذكره مرتين، وليس بتكرار، لأن الأول في الدنيا كما أشار له في التقرير، والثاني في العقبى لقوله عقبة: (وإلى الله ترجع الأمور) والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب (يحيي ويميت) الفعلان في محل رفع على أنهما خبران لمبتدأ محذوف، أو كلام مستأنف لبيان بعض أحكام الملك، أو حال من الضمير في له والعامل الاستقرار، والمعنى أنه يحيي بالإنشاء في الدنيا ويميت بعده، وقيل: يحيي النطف وهي أموات ويميت الأحياء، وقيل: يحيي الأموات للبعث (وهو على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء كائناً ما كان.
(هو الأول) قبل كل شيء بلا بداية، أو السابق على جميع الموجودات
394
من حيث إنه موجدها ومحدثها (والآخر) بعد كل شيء بلا نهاية، أو الباقي بعد فنائها، ولو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها، أو الأول خارجاً والآخر ذهناً، أو الأول الذي تبتدأ منه الأسباب وتنتهي إليه المسببات (والظاهر) العالي الغالب على كل شيء، أو الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة.
(والباطن) أي العالم بما بطن، من قولهم: فلان يبطن أمر فلان، أي يعلم داخلة أمره، أو المعنى المحتجب حقيقة ذاته عن إدراك الأبصار والحواس والعقول، فلا تكتنهها الألباب والأحلام لا في الدنيا ولا في الآخرة فاضمحل ما في الكشاف من أن فيه حجة على من جوز إدراكه في الآخرة بالحاسة، وقد فسر هذه الأسماء الأربعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعين المصير إلى ذلك كما أخرج ابن أبي شيبة ومسلم والترمذي والبيهقي.
" عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة إلى رسول الله ﷺ تسأله خادماً، فقال: قولي اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، وربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين واغننا من الفقر ".
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة من وجه آخر مرفوعاً مثل هذا في الأربعة الأسماء المذكورة، وتفسيرها، وأخرج أبو الشيخ في العظمة.
" عن عمر وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء،
395
فماذا كان قبل الله؟ فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء، والآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو الباطن دون كل شيء، وهو بكل شيء عليم ".
وأخرج أبو داود.
" عن أبي زميل قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله لا أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك قال: وضحك قال: ما تجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) الآية قال: وقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاًً فقل: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم). لا يعزب عن علمه شيء من المعلومات ".
" عن أبي هريرة قال: بينما النبي ﷺ جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ثم قال: هل تدرون ما فوقكم قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع سقف محفوظ، وموج مكفوف، ثم قال: هل تدرون كم بينكم وبينها قالوا الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها خمسمائة سنة، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم، قال سماآن بعد ما بينهما خمسمائة سنة، حتى عد سبع سموات ما بين كل سماء كما بين السماء والأرض، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك قالوا الله ورسوله أعلم، قال: فإن فوق ذلك العرش، وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين ثم قال هل تدرون ما تحتكم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما الذي تحت ذلك قالوا الله ورسوله أعلم، قال فإن تحتها أرض أخرى، بينهما مسيرة خمسائة سنة، حتى عد سبع أرضين
396
بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السابعة السفلى لهبط على الله ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم " أخرجه (١) الترمذي وقال حديث غريب.
وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: إنما أراد لهبط على علم الله وقدرته وسلطانه، وعلم الله في كل مكان، وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه، والعنان اسم للسحاب، ومعنى روايا الأرض الحوافل، والرقيع اسم لسماء الدنيا.
_________
(١) رواه الترمذي.
397
(هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة، ولو أراد أن يجعلهما في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الستة أصلاً ليكون عليها المدار، وهذا بيان لبعض ملكه للسموات والأرض وقد تقدم تفسيره في سورة الأعراف وفي غيرها مستوفى.
(ثم استوى على العرش) أي: الكرسي استواء يليق به، قاله المحلي، " وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: كنت جالساً في البطحاء في عصابة ورسول الله ﷺ إذ مرت سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله ﷺ هل تدرون ما اسم هذه؟ قلنا: نعم، هذا السحاب، قال: والمزن، قالوا: والمزن، قال: والعنان، قالوا: والعنان، ثم قال لهم: هل تدرون كم ما بين السماء والأرض، قالوا لا والله ما ندري، قال فإن بعد ما بينهما إما قال واحدة وإما قال اثنتان، وإما ثلاث وسبعون سنة، وبعد التي فوقها كذلك، وكذلك حتى عدهن سبع سموات كذلك، ثم فوق السماء السابعة بحر أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، وفوق ذلك ثمانية أوعال بين
397
أظلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والله عز وجل فوق ذلك " أخرجه الترمذي وأبو داود وزاد في رواية، وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء وقد تقدم الكلام على الاستواء مراراً في غير موضع وفي هذا الباب كتب ورسائل مستقلة وهي معروفة عند أهل العلم.
(يعلم ما يلج في الأرض) أي يدخل فيها من المطر والقطر والبذر والكنوز والموتى وغيرها (وما يخرج منها) من نبات ومعادن وغيرها (وما ينزل من السماء) من الملائكة والرحمة والعذاب والمطر وغيرها (وما يعرج فيها) أي يصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد والدعوات، وقال المحلي كالأعمال الصالحة والسيئة، واعترضه القاري بأن الذي يرفع من الأعمال هو الصالح كما في قوله تعالى (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقد تقدم تفسير هذا في سورة سبأ.
(وهو معكم أينما كنتم) بقدرته وسلطانه وعلمه عموماً، وبفضله ورحمته خصوصاً، فليس ينفك أحد من تعليق علم الله تعالى وقدرته به أينما كان من أرض أو سماء، بر أو بحر، وقيل هو معكم بالحفظ والحراسة، قال ابن عباس: عالم بكم، وهذا تمثيل للإحاطة بما يصدر منهم، أينما داروا في الأرض من بر وبحر (والله بما تعلمون بصير) لا يخفى عليه من أعمالكم شيء.
398
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا التكرير للتأكيد، وذكره مع الإعادة كما ذكره مع الإبداء، لأنه كالمقدمة لهما (وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) الأخوان وابن عامر يقرأون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً لنفاعل؟ والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن ذكره السمين.
(يولج الليل) أي يدخله (في النهار) بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار (ويولج النهار في الليل) بعكس ذلك وقد تقدم تفسير هذا في سورة
398
آل عمران، وفي مواضع (وهو عليم بذات الصدور) أي: بضمائرها ومعتقداتها ومكنوناتها، لا تخفى عليه من ذلك خافية.
399
(آمنوا بالله ورسوله) أي صدقوا بالتوحيد، وصحة الرسالة، وهذا خطاب لكفار العرب أو للجميع، ويكون المراد بالأمر بالإيمان في حق المسلمين الإستمرار عليه أو الإزدياد عليه، ثم لما أمرهم بالإيمان أمرهم بالإنفاق في سبيل الله فقال: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) أي جعلكم خلفاء في التصرف فيه، من غير أن تملكوه حقيقة، فإن المال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أن يصرفوها فيما يرضيه، وقيل: جعلكم خلفاء من كان قبلكم ممن ترثونه، وسينتقل إلى غيركم ممن يرثكم، فلا تبخلوا به، كذا قال الحسن وغيره، وفيه الترغيب إلى الإنفاق في سبل الخير وتهوين له على النفس قبل أن ينتقل عنهم، ويصير إلى غيرهم.
والظاهر أن معنى الآية الترغيب في الإنفاق في الخير وما يرضاه الله على العموم، وقيل هو خاص بالزكاة المفروضة، ولا وجه لهذا التخصيص، قال المحلي: نزل في غزوة العسرة، وهي غزوة تبوك، ويشكل هذا على القول بأن السورة مكية، وكذا على القول بأنها مدنية على استثناء هذه الآيات،
وكانت في السنة التاسعة بعد رجوعه ﷺ من الطائف، وهي آخر غزواته، ولم يقع فيها قتال، بل وقع الصلح على دفع الجزية، وإيضاح هذه القصة مذكور في سورة براءة فراجعها إن شئت.
ثم ذكر سبحانه ثواب من أنفق في سبيل الله فقال: (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا) أي: الذين جمعوا بين الإيمان بالله ورسوله، وبين الإنفاق في سبيل الله، وفيه إشارة إلى عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه جهز في غزوة العسرة ثلثمائة بعير، بأقتابها وأحلاسها وأحمالها، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله ﷺ (لهم أجر كبير) وهو الجنة.
399
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٩) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١)
400
(وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) هذا الإستفهام للتوبيخ والتقريع، والخطاب للكفار، أي: أيُّ عذر لكم؟ وأي مانع من الإيمان؟ وقد أزيحت عنكم العلل وقيل: المعنى: أي شيء لكم من الثواب في الآخرة إذا لم تؤمنوا (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي: يدعوكم للإيمان، والمعنى أي عذر لكم في ترك الإيمان، والحال أن الرسول يدعوكم إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم الكتاب الناطق بالبرهان والحجج (و) الحال أن (قد أخذ) الله (ميثاقكم) حين أخرجكم من ظهر أبيكم آدم في عالم الذر، حين أشهدكم على أنفسكم كما في قوله تعالى: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) أو بما نصب لكم من الأدلة الدالة على التوحيد ووجوب الإيمان، وركب فيكم من العقول، ومكنكم من النظر في الأدلة، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول، وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون؟ وهو اختيار القاضي، كالكشاف والأول أولى.
قرأ الجمهور قد أخذ مبنياً للفاعل، وهو الله سبحانه، لتقدم ذكره وقرىء على البناء للمفعول وهما سبعيتان (إن كنتم مؤمنين) بما أخذ عليكم من الميثاق أو بالحجج والدلائل، أو إن كنتم مؤمنين بسبب من الأسباب، فهذا من أعظم أسبابه وأوضح موجباته، لا مزيد عليه، وقيل: إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى، فإن شريعتهما تقتضي الإيمان بمحمد صلى الله عليه
400
وسلم، وقيل: مريدين للإيمان به، فبادروا إليه، وقيل: إن بمعنى إذ.
401
(هو الذي ينزل على عبده آيات بينات) أي واضحات ظاهرات، وهي الآيات القرآنية. وقيل: المعجزات، والقرآن أعظمها (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي ليخرجكم الله بتلك الآيات من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان، أو ليخرجكم الرسول بتلك الآيات أو بالدعوة منها إليه (وإن الله بكم) في إخراجكم من الكفر إلى الإيمان (لرؤوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة بليغهما، حيث أنزل كتبه، وبعث رسله، لهداية عباده، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية، فلا رأفة ولا رحمة أبلغ من هذه.
(وما لكم أن لا) والأصل في أن لا (تنفقوا)؟ فموضعه نصب أو جر، وليست أن زائدة كما يرى أبو الحسن زيادتها، بل هي مصدرية، والمعنى في عدم الإنفاق (في سبيل الله) أي: في طاعته وما يكون قربة إليه فسبيله كل خير يوصلهم إليه فهو استعارة تصريحية، والإستفهام للتوبيخ والتقريع، وفي هذه الآية دليل على أن الإنفاق المأمور به في قوله: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) هو الإنفاق في سبيل الله، كما بينا ذلك، والمعنى أي عذر لكم؟ وأي شيء يمنعكم من ذلك؟.
(ولله ميراث السموات والأرض) أي والحال أن كل ما فيهما راجع إلى الله سبحانه بانقراض العالم كرجوع الميراث إلى الوارث، ولا يبقى لهم منه شيء، وهذا أدخل في التوبيخ، وأكمل في التقريع، فإن كون تلك الأمور تخرج عن أهلها وتصير لله سبحانه، ولا يبقى أحد من مالكيها أقوى في إيجاب الإنفاق عليهم من كونها لله في الحقيقة، وهم خلفاؤه في التصرف فيها.
ثم بين سبحانه فضل من سبق بالإنفاق في سبيل الله، وتفاوت درجات المنفقين فقال:
(لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) أي فتح مكة، وبه قال أكثر المفسرين، قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك، وكذا قال مقاتل وغيره، وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية، وهو الراجح قاله الكرخي، وذكر القتال للإستطراد، وفي
401
الكلام حذف، والتقدير: لا يستوي من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لظهوره، ولدلالة ما سيأتي عليه، فإن الاستواء يكون بين الشيئين ولا يتم إلا بذكر اثنين، وإنما كانت النفقة والقتال قبل الفتح أفضل من النفقة والقتال بعده، لأن حاجة الناس كانت إذ ذاك أكثر، وهم أقل وأضعف.
وتقديم الإنفاق على القتال للإيذان بفضيلة الإنفاق لما كانوا عليه من الحاجة، فإنهم كانوا يجودون بأنفسهم ولا يجدون ما يجودون به من الأموال، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه أهم مواد الإنفاق، مع كونه في نفسه من أفضل العبادات.
والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
(أولئك) إشارة إلى (من) باعتبار معناه، وهو مبتدأ وخبره قوله: (أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) أي أرفع منزلة، وأعلى رتبة، من الذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله من بعد الفتح، وقاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عطاء: درجات الجنة تتفاضل، فالذين أنفقوا من قبل الفتح في أفضلها، قال الزجاج: لأن المتقدمين نالهم من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضاًً أنفذ.
" وقد أرشد ﷺ إلى هذه الفضيلة بقوله فيما صح عنه: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " وهذا خطاب منه ﷺ للمتأخرين صحبة، كما يرشد إلى ذلك السبب الذي ورد فيه هذا الحديث.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم.
" عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية حتى إذا كنا بعسفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم، قلنا: من هم يا رسول الله؟ أقريش؟ قال: لا، ولكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه، ألا أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس، (لا
402
يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) الآية وهذا الحديث قال ابن كثير: غريب بهذا الإسناد، وقد رواه ابن جرير ولم يذكر فيه الحديبية.
وأخرج أحمد.
" عن أنس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم " والذي في الصحيح " عن رسول الله ﷺ بلفظ: لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه (١) " وفي لفظ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
" وعن ابن عمر قال: لا تسبوا أصحاب محمد ﷺ فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره "، أخرجه ابن أبي شيبة.
(وَكُلًّا) أي كل واحد من الفريقين (وَعَدَ اللَّهُ) المثوبة (الْحُسْنَى) وهي الجنة، مع تفاوت درجاتهم فيها، قرأ الجمهور كُلاًّ على أنه مفعول مقدم وقرىء بالرفع على الابتداء أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ومثل هذا قول الشاعر:
قد أصبحت أم الخيار تدعى على ذنباً كله لم أصنع
قيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، لأنه أول من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه (والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه من ذلك شيء ثم رغب سبحانه في الصدقة فقال:
_________
(١) رواه مسلم والبخاري.
403
(من ذا الذي يقرض الله) أي ينفق ماله في سبيل الله فإنه كمن يقرضه والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً قد أقرض، من إستفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبرة، والموصول صفة له، أو بدل منه، ويصح أن يكون من ذا مبتدأ، والموصل خبره، وهذا منه تعالى في غاية اللطف بنا
403
والإحسان إلينا، حيث أعطانا الأموال من عنده وجعل رجوعها إليه منا قرضاً، مع أنه المالك الحقيقي، قال الكلبي: (قرضاً) أي صدقة (حسناً) أي محتسباً من قلبه بلا مَنٍّ ولا أذى وقال مقاتل: حسناً طيبة به نفسه.
واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث شبه الإنفاق بالإقراض، والجامع إعطاء شيء بعوض، من حيث إن الله وعد به الجنة تشببها بالقرض لأن القرض إخراج المال لاسترداد البدل.
وقيل: القرض الحسن هو النفقة على الأهل. قاله زيد بن أسلم، وقال الحسن: هو التطوع بالعبادات وقيل: أنه العمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء، والأول أولى.
وقال بعض العلماء: القرض لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة، وهي أن يكون المال من الحلال، وأن يكون من أجود المال، وأن تتصدق به وأنت محتاج إليه، وأن تصرف صدقتك إلى الأحوج إليها، وأن تكتم الصدقة ما أمكنك، وأن تتبعها بالمن والأذى، وأن تقصد بها وجه الله ولا ترائي به الناس، وأن تستحقر ما تعطي وإن كان كثيراً، وأن يكون من أحب أموالك إليك، وأن لا ترى عز نفسك وذل الفقير فهذه عشرة خصال إذا اجتمعت في الصدقة كانت قرضاً حسناً وقد تقدم تفسير الآية في سورة البقرة.
(فيضاعفه له) أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافاً مضاعفة من فضله، قرأ أهل الكوفة والبصرة بالألف وتخفيف العين، وقرىء فيضعفه وعلى كل من القراءتين فالفعل إما مرفوع أو منصوب فالقراآت أربعة وكلها سبعية قال ابن عطية: الرفع هنا على العطف أو الإستئناف والنصب بالفاء على جواب الإستفهام (وله) مع المضاعفة (أجر كريم) وهو الجنة، والمضاعفة هنا هي كون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، على اختلاف الأحوال والأشخاص والأوقات.
404
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (١٣) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (١٦)
405
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) أي: اذكر، أو يؤجرون يوم ترى، أو يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله والعامل فيه فيضاعفه، قاله أبو البقاء والخطاب لكل من يصلح له (يسعى نورهم) أي نور التوحيد والطاعات، والنور هو الضياء الذي يرى، وقيل: هو القرآن (بين أيديهم) ظرف ليسعى، أو حال من نورهم (وبأيمانهم) وذلك على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة، قال قتادة: إن المؤمن يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء له نوره إلا موضع قدميه وقال الضحاك ومقاتل: (وبأيمانهم) كتبهم التي أعطوها فكتبهم بأيمانهم ونورهم بين أيديهم وقال الضحاك أيضاًً: نورهم هداهم، وبأيمانهم كتبهم واختار هذا ابن جرير الطبري أي: ليسعى إيمانهم بين أيديهم وفي أيمانهم كتب أعمالهم.
قال ابن مسعود في الآية: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نوراً
405
من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى، قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في جهة أيمانهم، وهذا على قراءة العامة أعنى بفتح الهمزة جمع يمين، وقيل: الباء بمعنى عن، أي: عن جميع جهاتهم، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات وقرىء بكسرها على أن المراد بالإيمان ضد الكفر، وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله، والباء سببية، أي يسعى كائناً بين أيديهم وكائناً بإيمانهم، وقال أبو البقاء: تقديره وبإيمانهم استحقوه أو وبإيمانهم، يقال لهم، أي تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم، (بشراكم اليوم) أي بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
(جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) أي دخول جنات، لأن البشارة تقع بالإحداث دون الجثث (ذلك هو الفوز العظيم) لا يقادر قدره، حتى كأنه لا فوز غيره، ولا اعتداد بما سواه والإشارة إلى ما تقدم من النور والبشرى بالجنات المخلدة، هذا إذا كان قوله: (ذلك هو الفوز العظيم) قول الله تعالى، لا من جملة مقول الملائكة، وإلا فالإشارة حينئذ إلى الجنة بتأويل ما ذكر، أو لكونها فوزاً ذكره الكرخي.
406
(يوم) أي اذكر يوم (يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا) واللام للتبليغ كنظائرها: (انظرونا) أي: انتظرونا يقولون ذلك لما رأوا المؤمنين يسرع بهم إلى الجنة، قرأ الجمهور انظرونا أمراً بوصل الهمزة وضم الظاء، مشتق من النظر، بمعنى الإنتظار وقرىء من الإنظار بقطع الهمزة أي: أمهولنا وأخرونا يقال: أنظرته واستنظرته أي: امهلته واستمهلته قال الفراء: تقول العرب انظرني أي: انتظرني.
وقيل: معناه انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيؤا بنورهم، وهذا أليق بقوله: (نقتبس من نوركم) أي نستضيء منه إلا أن الشيخ أبا حيان قال: إن النظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا
406
في الشعر وإنما يتعدى بإلى، والقبس: الشعلة من النار، والسراج فلما قالوا ذلك (قيل) أي قال لهم المؤمنون أو الملائكة الموكلون بهم زجراً وتهكماً بهم (ارجعوا وراءكم) أي إلى الموضع الذي أخذنا منه النور.
(فالتمسوا) أي اطلبوا هنالك (نوراً) لأنفسكم فإنه من هنالك يقتبس وقيل: المعنى إرجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بما التمسناه به من الإيمان والأعمال الصالحة، وقيل: أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة تهكماً بهم وعن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلهم من الله إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا إلى النور اتبعوهم فأظلم الله على المنافقين، فقالوا حينئذ انظرونا نقتبس من نوركم، فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون ارجعوا وراءكم من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور.
وأخرج الطبراني وابن مردويه.
" عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً، وكل منافق نوراً فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات، فقال المنافقون: (انظرونا نقتبس من نوركم) وقال المؤمنون: (ربنا أتمم لنا نورنا) فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً "، وفي الباب أحاديث وآثار.
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) معطوف على ما قبله متفرع عليه. فإن المؤمنين أو الملائكة لما منعوا المنافقين عن اللحوق بهم والإستضاءة بأنوار معارفهم وأعمالهم، بقي المنافقون في ظلمة نفاقهم، فصاروا بذلك كأنه ضرب بينهم وبين النور الذي يؤديهم إلى الجنة سور، فعلى هذا يكون قوله (فضرب) الخ من قبيل الإستعارة التمثيلية، والسور هو الحاجز بين الشيئين والمراد به هنا الحاجز بين الجنة والنار، أو بين أهل الجنة وأهل النار وقيل: هو الحائط بينهما
407
وقيل: هو الأعراف قال الكسائي: الباء في (سور) زائدة ثم وصف سبحانه السور المذكور فقال:
(له) أي: لذلك السور (باب باطنه) أي باطن ذلك السور وهو الجانب الذي يلي أهل الجنة (فيه الرحمة) وهي الجنة أو النور (وظاهره) وهو الجانب الذي يلي أهل النار (من قبله) أي من قبل ذلك الظاهر ومن عنده ومن جهته (العذاب) أي الظلمة أو نار جهنم: وقيل إن المؤمنين يسبقونهم فيدخلون الجنة، والمنافقون يحصلون في العذاب وبينهم السور.
وقيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس، فبكى فقيل ما يبكيك؟ فقال: ههنا أخبرنا رسول الله ﷺ أنه رأى جهنم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن (فضرب بينهم بسور) هو الذي ببيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة المسجد وظاهره من قبله العذاب يعني وادي جهنم وما يليه ولا يخفاك أن تفسير السور المذكور في هذه الآية بهذا السور الكائن ببيت المقدس فيه من الأشكال ما لا يدفعه مقال، ولا سيما بعد زيادة قوله (باطنه فيه الرحمة) المسجد، فإن هذا غير ما سيقت له الآية وغير ما دلت عليه، وأين يقع بيت المقدس أو سوره بالنسبة إلى السور الحاجز بين فريقي المؤمنين والمنافقين، وأي معنى لذكر مسجد بيت المقدس ههنا؟ فإن كان المراد أن الله سبحانه ينزع سور بيت المقدس ويجعله في الدار الآخرة سوراً مضروباً بين المؤمنين والمنافقين فما معنى تفسير باطن السور وما فيه من الرحمة بالمسجد؟ وإن كان المراد أن الله يسوق فريقي المؤمنين والمنافقين إلى بيت المقدس فيجعل المؤمنين داخل السور في المسجد ويجعل المنافقين خارجه فهم إذ ذاك على الصراط وفي طريق الجنة وليسوا ببيت المقدس.
408
فإن كان مثل هذا التفسير ثابتاً عن رسول الله ﷺ قبلناه وآمنا به وإلا فلا كرامة ولا قبول، ولعله أخذ ذلك من الإسرائيليات فقد قال شريح: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى (فضرب بينهم بسور له باب) وكعب وكذا وهب كثير الرواية عن بني إسرائيل، وليس عند أهل السنة إلى قبوله سبيل.
ولما ضرب بالسور بين المؤمنين والمنافقين أخبر الله سبحانه عما قاله المنافقون إذ ذاك فقال:
409
(ينادونهم) أي ينادي المنافقون المؤمنين من وراء ذلك السور حين حجز بينهم، وبقوا في الظلمة، والجملة حالية من الضمير في بينهم أو إستئناف وهو الظاهر (ألم نكن معكم)؟ أي موافقين لكم في الظاهر، نصلي بصلاتكم في مساجدكم، ونعمل بأعمال الإسلام مثلكم، ثم أخبر الله سبحانه عما أجابهم به المؤمنون فقال (قالوا بلى) أي كنتم معنا في الظاهر (ولكنكم فتنتم أنفسكم) بالنفاق وإبطان الكفر قال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق، وقيل: بالشهوات واللذات، قاله ابن عباس، وقيل: استعملتموها في الفتنة وقيل: بالمعاصي قاله أبو سنان.
(وتربصتم) بمحمد ﷺ وبمن معه من المؤمنين حوادث الدهر والدوائر وقيل: تربصتم بالتوبة، قاله ابن عباس والأول أولى (وارتبتم) أي: شككتم في أمر الدين، ولم تصدقوا ما أنزل الله من القرآن في التوحيد ولا بالمعجزات الظاهرة (وغرتكم الأماني) الباطلة التي من جملتها ما كنتم فيه من التربص وقيل: هي طول الأمل، والطمع في امتداد الأعمار وقيل: ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين، وقال قتادة: الأماني هنا غرور الشيطان وقيل: الدنيا وقيل: هو طمعهم في المغفرة وكل هذه الأشياء تدخل في مسمى الأماني.
409
(حتى جاء أمر الله) وهو الموت قاله ابن عباس، وقيل: نصره سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقال قتادة: هو إلقاؤهم في النار (وغركم بالله الغرور) بفتح الغين وهو صفة على فعول، والمراد به الشيطان، قاله ابن عباس. أي خدعكم بحكم الله وإمهاله الشيطان، وقرىء بضمها، وهو مصدر، وقيل: غركم بأن الله عفو كريم لا يعذبكم، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده؟ وهو عظيم ومحسن وحليم، وغفور رحيم، فلا يزال بالإنسان حتى يوقعه، أو بأنه لا بعث ولا حساب، قال قتادة: ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله النار.
410
(فاليوم لا يؤخذ منكم) أيها المنافقون (فدية) تفدون بها أنفسكم من النار، وقيل: عوض وبدل، وقيل: إيمان وتوبة والأول أولى (ولا من الذين كفروا) بالله ظاهراً وباطناً، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافراً في الحقيقة لأن المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق بهذا الإعتبار فحسن عطفه على المنافق (مأواكم) أي منزلكم الذي تأوون إليه.
(النار هي مولاكم) أي هي أولى بكم، والمولى في الأصل من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن يلازمه، وقيل: مولاكم مكانكم عن قرب من الولاء، وهو القرب، أو المعنى ذات ولايتكم، وهذا على أن المولى مصدر، قيل إن الله يركب في النار الحياة والعقل فهي تتميز غيظاً على الكفارة وقيل: المعنى هي ناصركم، على طريقة قول الشاعر:
تحية بينهم ضرب وجيع
والمعنى لا ناصر لكم إلا النار كما أن معنى البيت لا تحية لهم إلا الضرب، على التهكم والمراد نفي الناصر ونفي التحية (وبئس المصير) الذي تصيرون إليه النار.
(ألم يأن للذين آمنوا)؟ يقال أنى لك يأنى إذا حان، أي: جاء أناه أي:
410
وقته، قرأ الجمهور: ألم يأن، وقرىء ألما يأن (أن تخشع قلوبهم لذكر الله) أي ألم يحضر خشوع قلوبهم؟ ولم يجيء وقته؟ هذه الآية نزلت في المؤمنين، قال الحسن: يستبطئهم وهم أحب خلقه إليه، وقيل: إن الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام دون محمد صلى الله عليه وسلم، قال الزجاج: نزلت في طائفة من المؤمنين حثوا على الرقة والخشوع، فأما من وصفهم الله بالرقة والخشوع فطبقة فوق هؤلاء، وقال السدي وغيره: المعنى: ألم يأن للذين آمنوا في الظاهر، وأسروا الكفر، أن تخشع وتلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن قلوبهم لذكر الله، وسيأتي ما يقوي قول من قال: إنها نزلت في المسلمين، والخشوع لين القلب ورقته.
والمعنى أنه ينبغي أن يورثهم الذكر خشوعاً ورقة، ولا يكونوا كمن لا يلين قلبه للذكر، ولا يخشع له.
" عن أنس عن النبي ﷺ قال: استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله: (ألم يأن) الآية " أخرجه ابن مردويه، وأخرج أيضاًً " عن عائشة قالت: خرج رسول الله ﷺ على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمراً وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم؟ ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)؟ قالوا يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم ".
وأخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وغيرهم.
" عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (ألم يأن) الخ إلا أربع سنين ".
" وعنه قال: لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض، أي شيء أحدثنا أي شيء صنعنا ".
411
" وعن ابن عباس قال إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن (ألم يأن) الآية ".
" وعن عبد العزيز ابن أبي دواد أن أصحاب النبي ﷺ ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت هذه الآية (ألم يأن) الخ ".
(وما نزل من الحق) والمراد به القرآن فيحمل الذكر المعطوف عليه على ما عداه مما فيه ذكر الله سبحانه باللسان أو خطور بالقلب وقيل: المراد بالذكر هو القرآن فيكون هذا العطف من باب عطف التفسير أو باعتبار تغاير المفهومين قرأ الجمهور نزل مشدداً مبنياً للفاعل، وقرىء على البناء للمفعول وقرىء مخففاً مبنياً للفاعل وقرىء أنزل مبنياً للفاعل (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل) قرأ الجمهور بالتحتية على الغيبة جرياً على ما تقدم، وقرىء على الخطاب التفاتاً، والمعنى النهي لهم أن يسلكوا سبيل اليهود والنصارى، الذين أوتوا التوراة والإنجيل من قبل نزول القرآن.
(فطال عليهم الأمد) أي طال عليهم الزمان بينهم وبين أنبيائهم، قرأ الجمهور الأمد بتخفيف الدال، وقرىء بتشديدها، أي الزمن الطويل، وقيل: المراد به على الأولى الأجل والغاية، يقال أمد فلان كذا أي غايته (فقست قلوبهم) بذلك السبب فلذلك حرفوا وبدلوا فنهى الله سبحانه أمة محمد ﷺ أن يكونوا مثلهم، وعن أبي بكر أن هذه الآية قرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب.
(وكثير منهم فاسقون) أي خارجون عن الطاعة الله، لأنهم تركوا العمل بما أنزل إليهم، وحرفوا وبدلوا، ولم يؤمنوا بما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم: وقيل: هم الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقيل: هم الذين ابتدعوا الرهبانية وهم أصحاب الصوامع.
412
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (٢٠)
413
(اعْلَمُوا) خطاب للمؤمنين المذكورين، وهم الصحابة الذين أكثروا المزاح فيكون في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب (أن الله يحيي الأرض بعد موتها) وهذا تمثيل لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة، أو لإحياء الأموات ترغيباً في الخشوع وزجراً عن القساوة، وهذه إستعارة تمثيلية والمعنى من قدر على ذلك فهو قادر على أن يبعث الأجسام بعد موتها، ويلين القلوب بعد قسوتها، وإنما حمل على التمثيل لترتبط هذه الآية بما قبلها (قد بينا لكم الآيات) التي من جملتها هذه الآيات (لعلكم تعقلون) أي كي تعقلوا ما تضمنته من المواعظ، وتعملوا بموجب ذلك، أو لكي تكمل عقولكم.
(إن المصدقين والمصدقات) قرأ الجمهور بتشديد الصاد في الموضعين من الصدقة، والأصل المتصدقين والمتصدقات، وقرىء على الأصل وقرىء بتخفيف الصاد في الموضعين من التصديق، أي صدقوا رسول الله ﷺ فيما جاء به (وأقرضوا الله قرضاً حسناً) معطوف على اسم الفاعل في المصدقين والمصدقات، لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حل محل
413
الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا، كذا قال أبو علي الفارسي وغيره، وقيل: صلة الموصول محذوف أي والذين أقرضوا، وقيل: جملة معترضة بين أسم إن وخبرها، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية، وصحة قصد، واحتساب أجر.
(يضاعف لهم) قرأ الجمهور بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور، أو ضمير يرجع إلى المصدقين على حذف مضاف، أي ثوابهم، وقرىء يضاعفه بكسر العين وزيادة الهاء، وقرىء يضعف بتشديد العين وفتحها، والمضاعفة هنا إن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف (ولهم أجر كريم) وهو الجنة.
414
(والذين آمنوا بالله ورسله) جميعاً (أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم) قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صديق، قال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذبوهم، وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء والزجاج، وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل: هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية إن (الذين آمنوا بالله ورسله) جميعاً بمنزلة الصديقين، والشهداء المشهورين بعلو الدرجة عند الله وقيل: إن الصديقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله وصدقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد.
أخرج ابن جرير.
" عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول مؤمنو أمتي شهداء، ثم تلا هذه الآية "، وقال ابن مسعود: كل مؤمن صديق وشهيد، وعنه قال: إن الرجل ليموت على فراشه وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية، وعن أبي هريرة نحوه، وقال ابن عباس في الآية. هذه مفصولة،
414
والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، وأخرج ابن حبان: " عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فمن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء ".
ثم بين سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال:
(لهم أجرهم ونورهم) الضمير الأول راجع إلى الموصول، والضميران الآخران راجعان إلى الصديقين والشهداء، أي لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى لهم الأجر والنور الموعودان لهم، ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم ذكر حال الكافرين وعقابهم فقال:
(والذين كفروا وكذبوا بآياتنا) أي جمعوا بين الكفر والتكذيب (أولئك أصحاب الجحيم) يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم، وظلمة دائمة، ولما ذكر سبحانه حال الفريق الثاني وما وقع منهم من الكفر والتكذيب، وذلك بسبب ميلهم إلى الدنيا وتأثيرهم بيّن لهم حقارتها وأنها أحقر من أن تؤثر على الدار الآخرة فقال:
415
(اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب) كلعب الصبيان (ولهو) كلهو الفتيان واللعب هو الباطل واللهو كل شيء يتلهى به ثم يذهب، قال قتادة: لعب ولهو أكل وشرب. قال مجاهد: كل لعب لهو، وقيل: اللعب ما رغب في الدنيا واللهو ما ألهى جمن الآخرة وشعل عنها، وقيل: اللعب الإقتناء، واللهو النساء، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة الأنعام (وزينة) كزينة النسوان، والزينة التزين بمتاع الدنيا من اللباس والحلي ونحوهما، من دون
415
عمل للآخرة (وتفاخر بينكم) كتفاخر الأقران قرأ الجمهور بتنوين تفاخر، وقرىء بالإضافة أي يفتخر به بعضكم على بعض، وقيل: يتفاخرون بالخلقة والقوة، وقيل: بالأنساب والأحساب كما كانت عليه العرب.
(وتكاثر) كتكاثر الدهقان، والتكاثر إدعاء الاستكثار (في الأموال والأولاد) أي يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ويتطاولون بذلك على الفقراء، والمعنى أن التشاغل، وشغل البال بالحياة الدنيا، دائر بين هذه الأمور الخمسة اجتمعت أم لا، قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخرة فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا، وأما الطاعات وما يعين عليها فمن أمور الآخرة.
وقال علي كرم الله وجهه لعمار بن ياسر: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثر شرابها الماء وهو يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسيج دودة، وأفضل مشمومها المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس، وعليها تقتل الرجال، وأما المنكوح فهو النساء وهن مبال في مبال.
ثم بين سبحانه لهذه الحياة شبهاً، وضرب لها مثلاً، فقال:
(كمثل غيث) أي مطر (أعجب الكفار) أي الزراع، لأنهم يكفرون البذر، أي يغطونه بالتراب كما يستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان بما يحصل منه من الجحد والطغيان (نباته) الحاصل به (ثم يهيج) أي يجف بعد نضارته وخضرته، قاله أبو السعود، وقيل: ييبس وفيه تسامح فإن حقيقته أن يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، فالمعنى يطول جداً (فتراه مصفراً) أي متغيراً عما كان عليه من الخضرة والرونق إلى لون الصفرة والذبول، وقرىء مصفاراً.
(ثم يكون حطاماً) أي متفتتاً هشيماً متكسراً متحطماً بعد يبسه، شبه
416
حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى وقوي، وأعجب به الناظرون إليه لخضرته، وكثرة نضارته، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً تبناً كائن لم يكن، وقيل: المعنى إن الحياة الدنيا كزرع أنبته الغيث وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات فبعث الله عليه العاهة فهاج واصفر، وصار حطاماً، عقوبة لهم على جحودهم كما فعل بأصحاب الجنة. وصاحب الجنتين وقد تقدم تفسير هذا المثل في سورة يونس والكهف. ثم لما ذكر سبحانه حقارة الدنيا وسرعة زوالها ذكر ما أعده للعصاة في الدار الآخرة وما أعده لأهل الطاعة فقال:
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) أخبر بأن في الآخرة عذاباً شديداً، ومغفرة منه ورضواناً، وهذا معنى حسن، وهو أنه قابل العذاب بشيئين، بالمغفرة والرضوان، فهو من باب: لن يغلب عسر يسرين، والتنكير فيهما للتعظيم. قال قتادة: عذاب شديد لأعداء الله ومغفرة من الله ورضوان لأوليائه وأهل طاعته، قال الفراء: التقدير في الآية إما عذاب شديد وإما مغفرة، فلا يوقف على شديد، ثم ذكر سبحانه بعد الترهيب والترغيب حقارة الدنيا فقال:
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور) لمن اغتر بها وركن إليها، واعتمد عليها، وعمل لها، ولم يعمل للآخرة، أي هي في نفسها غرور لا حقيقة له، وهذا يقتضي أن الإضافة بيانية، والمعنى وما التمتع بالدنيا إلا متاع أي تمتع هو الغرور، أي الإغترار، قال سعيد بن جبير: متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة ومن اشتغل بطلبها فله متاع، بلاغ إلى ما هو خير منه، وهذه الجملة مقررة للمثل المقدم، ومؤكدة له، قال ذو النون: يا معشر المريدين لا تطلبوا الدنيا وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإن الزاد منها، والمعيل في غيرها ثم ندب عباده إلى المسابقة إلى ما يوجب المغفرة من التوبة والعمل الصالح، فإن ذلك سبب إلى الجنة فقال:
417
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
418
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا مسارعة السابقين بالأعمال الصالحة التي توجب لكم المغفرة من ربكم، وتوبوا مما وقع منكم من المعاصي وقيل: المراد بالآية التكبيرة الأولى مع الإمام، قاله مكحول، وقيل: المراد الصف الأول، ولا وجه لتخصيص ما في الآية بمثل هذا بل هو من جملة ما تصدق عليه صدقاً شمولياً أو بدلياً، وحاصل المعنى لتكن مفاخرتكم ومكاثرتكم في غير ما أنتم عليه من أمور الدنيا، بل احرصوا على أن تكون مسابقتكم في طلب الآخرة.
(وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) أي كعرضهما وإذا كان هذا قدر عرضها فما ظنك بطولها، قال الحسن يعني جميع السموات السبع والأرضين السبع مبسوطات، كل واحدة إلى صاحبتها، وقيل: المراد بالجنة التي عرضها هذا العرض هي جنة كل واحد من أهل الجنة، وقال ابن كيسان: عنى به جنة واحدة من الجنات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله، وقيل: المراد بالعرض السعة لا ضد الطول كما في قوله تعالى: (فذو دعاء عريض) وقيل: إن هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، ويقع في نفوسهم وأفكارهم، والأول أولى، وقد مضى تفسير هذا في سورة آل عمران. ثم وصف سبحانه تلك الجنة بصفة أخرى فقال:
418
(أعدت للذين آمنوا بالله ورسله) هذه الجملة مستأنفة، وفي هذا دليل على أنها مخلوقة، وعلى أن استحقاق الجنة يكون بمجرد الإيمان بالله ورسله ولكن هذا مقيد بالأدلة الدالة على أنه لا يستحقها إلا من عمل بما فرض الله عليه، واجتنب ما نهاه الله عنه، وهي أدلة كثيرة في الكتاب والسنة.
(ذلك) أي ما وعد به سبحانه من المغفرة والجنة (فضل الله يؤتيه) أي يعطيه (من يشاء) إعطاءه إياه تفضلاً وإحساناً، وفيه دليل على أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بفضل الله لا بعمله (والله ذو الفضل العظيم) فهو يتفضل على من يشاء بما يشاء، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع؛ والخير كله بيده، وهو الكريم المطلق، والجواد الذي لا يبخل، فلا يبعد منه التفضل بذلك، وإن عظم قدره، ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره، وثبت في أم الكتاب، فقال:
419
(ما أصاب من مصيبة في الأرض) من زلزلة، وقحط مطر وجدب، وضعف نبات وقلته، ونقص ثمار وعاهة زرع، والمصيبة غلبت في الشر وقيل: المراد بها جميع الحوادث من خير وشر، وعلى الأول إنما خصت بالذكر دون الخير، لأنها أهم على البشر (ولا في أنفسكم) قال قتادة: بالأوصاب والأسقام، وقال مقاتل: إقامة الحدود، وقال ابن جريج: ضيق المعاش.
وقيل: موت الأولاد، واللفظ أوسع من ذلك (إلا في كتاب) أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ.
(من قبل أن نبرأها) أي نخلقها، والضمير عائد إلى المصيبة أو إلى الأنفس أو إلى الأرض أو إلى جميع ذلك، قاله المهدوي: وهو حسن، قال ابن عباس في الآية: هو شيء قد فرغ منه قبل أن تبرأ الأنفس (إن ذلك) أي إن إثباتها في الكتاب على كثرتها (على الله يسير) غير عسير.
(لكيلا تأسوا) أي أخبرناكم بأنا قد فرغنا من التقدير لكيلا تحزنوا (على ما فاتكم) من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحتها (ولا تفرحوا) أي لا تبطروا بطر المختال الفخور (بما آتاكم) منها أي أعطاكم، قرأ الجمهور بالمد. وقرىء بالقصر، أي جاءكم فإن ذلك يزول عن قريب لا يستحق أن يفرح بحصوله، ولا للحزن على فوته.
قيل: والفرح والحزن المنهى عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، وإلا
419
فليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يلزم من الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المطغي الملهي عن الشكر، كما قال ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً، ومن أصابه خير جعله شكراً، وعنه قال: يريد مصائب المعاش، ولا يريد مصائب الدين، أمرهم أن يأسوا على السيئة ويفرحوا بالحسنة، قال جعفر بن الصادق رضي الله تعالى عنه: يا ابن آدم مالك تأسف على مفقود لا يرد إليك الفوت ومالك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
(والله لا يحب كل مختال فخور) أي لا يحب من اتصف بهاتين الصفتين وهما الاختيال والافتخار، قيل: هو ذم للفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وقيل: إن من فرح بالحظوظ الدنيوية وعظمت في نفسه اختال وافتخر بها، وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الإستحقار، والأولى تفسير هاتين الصفتين بمعناهما الشرعي ثم اللغوي فمن حصلتا فيه فهو الذي لا يحبه الله.
420
(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) قرأ الجمهور بضم الباء وسكون الخاء وقرىء بفتحتين وهي لغة الأنصار، وقرىء بفتح الباء وإسكان الخاء وضمهما، كلها لغات وهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، والخبر مقدر أي الذين يبخلون بما يجب عليهم من المال كزكاة وكفارة، ومن تعليم العلم ونشره وإذاعة أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، فالله غني عنهم، وقيل: الموصول في محل جر بدل من مختال، وهو بعيد، فإن هذا البخل بما في اليد وأمر الناس بالبخل ليس هو معنى المختال الفخور، لا لغة ولا شرعاً، وقيل: نعت له، وهو أيضاًً بعيد.
ويدل على الأول قوله: (ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) أي ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه، محمود عند خلقه، لا يضره ذلك، قرأ الجمهور بإثبات ضمير الفصل وقرىء بحذفه قال سعيد بن جبير الذين يبخلون بالعلم ويأمرون الناس بالبخل لئلا يعلموا الناس شيئاًً وقال زيد بن أسلم إنه البخل بأداء حق الله، وقيل: إنه البخل بالصدقة، وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه، وقيل: أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد ﷺ في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مآكلهم، قاله السدي والكلبي.
420
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٦)
421
(لقد) لام قسم (أرسلنا رسلنا) أي الملائكة، قاله الزمخشري والمحلي، وفيه بعد، وجمهور المفسرين على حمل الرسل على البشر (بالبينات) أي بالمعجزات البينة، والشرائع الظاهرة (وأنزلنا معهم الكتاب) المراد الجنس، فيدخل فيه كتاب كل رسول (والميزان ليقوم الناس بالقسط) قال قتادة ومقاتل بن حيان: الميزان العدل، والمعنى أمرناكم بالعدل كما في قوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان)، وقوله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) وقال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل به، والمعنى ليتبعوا ما أمروا به من العدل فيتعاملوا فيما بينهم بالنصفة، والقسط العدل، وهو يدل على أن المراد بالميزان العدل، ومعنى إنزاله إنزال أسبابه وموجباته، وعلى القول بأن المراد به الآلة التي يوزن بها فيكون إنزاله بمعنى إرشاد الناس إليه، وإلهامهم الوزن به، ويكون الكلام من باب: (علفتها تبناً وماءاً بارداً).
(وأنزلنا الحديد) أي خلقناه كما في قوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وهذا قول الحسن، والمعنى أنه خلقه وأخرجه من المعادن، وعلم الناس صنعته، وقيل: إنه نزل مع آدم (فيه بأس شديد) لأنه تتخذ منه آلات الحرب، قال الزجاج: يمتنع به ويحارب، والمعنى أنه تتخذ منه آلة للدفع وآلة للضرب، قال مجاهد: فيه جنة وسلاح وقوة وشدة (ومنافع للناس) أي أنهم ينتفعون به في كثير مما يحتاجون إليه، مثل السكين والفأس والإبرة وآلات الزراعة والتجارة والعمارة، قال البيضاوي: ما من صنعة إلا والحديد آلتها أي له دخل في آلتها، وهذا الحصر كلي كما هو مشاهد.
(وليعلم الله من ينصره ورسله) معطوف على قوله: ليقوم أي لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت، ليقوم الناس، وليعلم الله علم مشاهدة
421
أو معطوف على علة مقدرة كأنه قيل: ليستعملوه وليعلم الله، والأول أولى، والمعنى أن الله أمر في الكتاب الذي أنزل بنصرة دينه ورسله فمن نصر دينه ورسله علمه ناصراً، ومن عصى علمه بخلاف ذلك، ومعنى (بالغيب) غائباً عنهم أو غائبين عنه.
(إن الله قوي عزيز) أي قادر على كل شيء غالب لكل شيء، وليس له حاجة في أن ينصره أحد من عباده وينصر رسله، بل كلفهم بذلك لينتفعوا به إذا امتثلوا، ويحصل لهم ما وعد به عباده المطيعين، قال أبو نصر العتبي: وقد كان يختلج في صدري معنى هذه الآية لجمعها بين الكتاب والميزان والحديد على تنافر ظاهرها في المناسبة، وبعدها قبل الروية والإستنباط، وسألت عدة من أعيان العلماء المذكورين بالتفسير، والمشهورين من بينهم بالتذكير فلم أحصل منهم على جواب، حتى أعملت التفكر، وأمعنت التدبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، فيرتهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، قد حظر فيه التعادي والتظالم، ورفض التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل في أقسام الأرزاق المخرجة لهم، بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما يصل منها إلى أهل الخطاب بحسب الاستحقاق بالتكسب، دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع الصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة للعدل، يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل فألهمهم الله تعالى اتخاذ الآلة التي هي الميزان، فيما يأخذونه ويعطونه، لئلا يتظالموا بمخالفته، فيهلكوا به إذ لم يكن ينتظم لهم العيش مع سوغ ظلم البعض منهم على البعض.
ويدل على هذا المعنى قوله تعالى (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) وذلك أنه تعالى جعل السماء علة للأرزاق والأقوات من أنواع الحبوب والنبات، فكان ما يخرج منها من أغذية العباد، ومرافق حياتهم، مضطراً إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف دون الجزاف، ولم يكن يتم ذلك إلا بهذه الآلة المذكورة، فنبه
422
الله تعالى على موقع الفائدة والعائدة بها، بتكرير ذكره، فكان ما تقدم ذكره معنى الكتاب والميزان.
ثم إنه من المعلوم أن الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للعامل بالسوية إنما يحفظ على إتباعهما ويضطر العالم إلى التزام أحكامهما بالسيف، الذي هو حجة الله تعالى على من جحد وعند، ونزع من صفة الجماعة اليد، وهو بارق سطوته، وشهاب نقمته، وجذوة عقابه، وعذبة عذابه، فهذا السيف هو الحديد، الذي وصفه الله تعالى بالبأس الشديد، فجمع بالقول الوجيز معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادىء والمقاطع، فظهر بهذا التأويل معنى الآية، وبان أن السلطان خليفة الله على خلقه، وأمينه على رعاية حقه، بما قلده من سيفه، ومكن له في أرضه. انتهى المقصود منه.
ولما ذكر إرسال الرسل إجمالاً أشار هنا إلى نوع تفصيل، فذكر رسالته لنوح وإبراهيم فقال:
423
(ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم) كرر القسم للتوكيد، ولإظهار مزيد الإعتناء بالأمر، ونوح هو الأب الثاني لجميع البشر، وإبراهيم أبو العرب والروم وبني إسرائيل (وجعلنا في ذريتهما) أي نوح وإبراهيم (النبوة والكتاب) أي الكتب الأربعة المنزلة على الأنبياء منهم، وقيل: جعل بعضهم أنبياء وبعضهم يتلون الكتاب، وقيل: الكتاب الخط بالقلم، يقال كتب كتابة وكتاباً.
(فمنهم مهتد) أي: فمن الذرية من اهتدى بهدي نوح وإبراهيم وقيل: المعنى فمن المرسل إليهم من قوم الأنبياء مهتد بما جاء به الأنبياء من الهدى، والأول أولى، لتقدم ذكرهم لفظاً وأما الثاني فلدلالة أرسلنا والمرسلين عليه (وكثير منهم فاسقون) أي: خارجون عن الطاعة وقيل: المراد بالفاسق هنا الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الإسم وهو يشمل الكافر وغيره، وقيل: المراد به هنا الكافر لأنه جعل الفساق ضد المهتدين.
423
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
424
(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ) أي أتبعنا على آثار الذرية، أو على آثار نوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل (برسلنا) الذين أرسلناهم إلى الأمم كموسى وإلياس وداود وسليمان وغيرهم (وقفينا بعيسى ابن مريم) أي أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم، وهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه.
(وآتيناه الإنجيل) وهو الكتاب الذي أنزله الله عليه وقد تقدم ذكر إشتقاقه في سورة آل عمران قرأ الجمهور إنجيل بكسر الهمزة وقرىء بفتحها.
(وجعلنا في قلوب الذين أتبعوه) على دينه، وهم الحواريون وأتباعهم (رأفة) أي مودة، فكان يود بعضهم بعضاً (ورحمة) يتراحمون بها، وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس، فألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأصل الرأفة اللين، والرحمة الشفقة، وقيل: الرأفة أشد الرحمة.
424
(ورهبانية ابتدعوها) أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها فالنصب على الاشغال وليس بمعطوفة على ما قبلها وقيل: معطوفة على ما قبلها أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عند أنفسهم، والأول أولى ورجحه أبو علي الفارسي والزمخشري وأبو البقاء وجماعة إلا أن هؤلاء يقولون: إنه إعراب المعتزلة وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له فالرأفة والرحمة لما كانتا من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لما لم تكن من فعل الله تعالى، بل من فعل العبد يستقل بفعلها نسب ابتداعها إليه والرهبانية بفتح الراء وضمها وقد قرىء بهما وهي بالفتح الخوف من الرهب وبالضم منسوبة إلى الرهبان، وذلك لأنهم غلوا في العبادة وحملوا على أنفسهم المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والمنكح والملبس وتعلقوا بالكهوف والصوامع والغيران والديرة، لأن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي منهم نفر قليل فترهبوا وتبتلوا، ذكر معناه الضحاك وقتادة وغيرهما وإنما خصت بذكر الابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب أمر غريزي لا تكسب للإنسان فيه بخلاف الرهبانية فإنها من أفعال البدن وللإنسان فيها تكسب.
(ما كتبناها عليهم) صفة ثانية لرهبانية أو مستأنفة مقررة، لكونها مبتدعة من جهة أنفسهم، والمعنى: ما فرضناها عليهم (إلا ابتغاء رضوان الله) الإستثناء منقطع، أي ما كتبناها نحن عليهم رأساً، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله، وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة، وقيل: متصل، أي ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا لابتغاء مرضاة الله، ويكون كتب بمعنى قضى، وهذا قول مجاهد، وقال الزجاج: معناه لم نكتب عليهم شيئاً البتة، قال: ويكون إلا ابتغاء رضوان الله بدلاً من الهاء والألف في كتبناها، والمعنى ما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.
(فما رعوها حق رعايتها) أي لم يرعوا هذه الرهبانية التي ابتدعوها من جهة أنفسهم، وما قاموا بها حق القيام، بل ضيعوها، وكفروا بدين عيسى،
425
وضموا إليها التثليث، ودخلوا في دين الملوك الذين غيروا وبدلوا، وتركوا الترهب ولم يبق على دين عيسى إلا قليل منهم، وهم المرادون بقوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذي يستحقونه بالإيمان، وذلك لأنهم آمنوا بعيسى وثبتوا على دينه حتى آمنوا بمحمد ﷺ لما بعثه الله.
(وكثير منهم فاسقون) أي: خارجون عن الإيمان بما أمروا أن يؤمنوا به، ووجه الذم لهم على تقدير أن الإستثناء منقطع، أنهم قد كانوا ألزموا أنفسهم الرهبانية معتقدين أنها طاعة، وأن الله يرضاها، فكان تركها وعدم رعايتها حق الرعاية يدل على عدم مبالاتهم بما يعتقدونه ديناً، وأما على القول بأن الإستثناء متصل، وأن التقدير: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله، بعد أن وفقناهم لإبتداعها، فوجه الذم ظاهر.
عن " ابن مسعود في الآية قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله قلت لبيك يا رسول الله ثلاث مرات، قال: هل تدري أي عرى الإسلام أوثق؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم يا عبد الله هل تدري أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً بالعمل، وإن كان يزحف على استه، واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرها، فرقة وازرت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة على موازرة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم، فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى، فقتلهم الملوك ونشرتهم المناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازرة الملوك ولا بالمقام معهم، فساحوا في الجبال وترهبوا فيها، وهم الذين قال الله:
(ورهبانية ابتدعوها) إلى قوله: (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ)، وهم الذين آمنوا بي وصدقوني، (وكثير منهم فاسقون)، هم الذين
426
جحدوني وكفروا بي، أخرجه عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب وغيرهم.
" وعن ابن عباس قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلت التوراة والإنجيل، فكان منهم مؤمنون يقرأون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شيئاًً أشد من شتم يشتمنا هؤلاء إنهم يقرأون: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون)، (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون)، مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم، فادعوهم فليقرأوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما آمنا فدعاهم فجمعهم، وعرض عليهم القتل أو ليتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منهما، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك دعونا نحن نكفيكم أنفسنا، فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانة ثم ارفعونا إليها ثم اعطونا شيئاًً نرفع به طعامنا وشرابنا. ولا نرد عليكم، وقالت طائفة: دعونا نسبح في الأرض ونهيم ونأكل مما تأكل الوحوش، ونشرب مما تشرب، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا، وقالت طائفة منهم: ابنوا لنا دوراً في الفيافي ونحتفر الآبار ونحرث البقول فلا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم، ففعلوا ذلك فأنزل الله (رهبانية ابتدعوها) الآية.
وقال الآخرون ممن تعبد من أهل الشرك، وفني من فني منهم، قالوا: نتعبد كما تعبد فلان "، ونسيح كما ساح فلان، ونتخذ دوراً كما اتخذ فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين افتدوا بهم، فلما بعث الله النبي ﷺ ولم يبق منهم إلا قليل، انحط صاحب الصومعة من صومعته، وجاء السياح من سياحته وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال الله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) الآية " أخرجه النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وغيرهم.
" وعن أنس أن النبي ﷺ قال: إن لكل أمة رهبانية،
427
ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله " أخرجه أحمد وأبو يعلى والبيهقي في الشعب، ثم أمر الله سبحانه المؤمنين بالرسل المتقدمين، بالتقوى والإيمان بمحمد ﷺ فقال:
428
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) بترك ما نهاكم عنه (وآمنوا برسوله) محمد ﷺ (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي نصيبين ضخمين بسبب إيمانكم برسوله بعد إيمانكم بمن قبله من الرسل، قال ابن عباس: أي أجرين بإيمانهم بعيسى عليه السلام، ونصب أنفسهم والتوراة والإنجيل وبإيمانهم بمحمد ﷺ وتصديقهم، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق، وإن كان منسوخاً ببركة الإسلام، وقيل: الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم، وأصل الكفل الحظ والنصيب؛ وقد تقدم الكلام على تفسيره في سورة النساء.
قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كفلين ضعفين؛ وهي بلسان الحبشة، وقال ابن عمر: الكفل ثلثمائة جزء وخمسون جزءاً من رحمة الله، " وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لهم أجران؛ رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد ﷺ والعبد المملوك الذي أدى حق مواليه وحق الله ورجل كانت عنده أمة يطؤها فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران " أخرجه الشيخان.
(ويجعل لكم نوراً تمشون به) يعني على الصراط، كما قال: (نورهم يسعى بين أيديهم)، وقيل: النور هو القرآن، وقيل: هو الهدى والبيان، أي يجعل لكم سبيلاً واضحاً في الدين تهتدون به (ويغفر لكم) ما سلف من ذنوبكم قبل الإيمان بمحمد ﷺ (والله غفور رحيم) أي بليغ المغفرة والرحمة.
(لئلا يعلم أهل الكتاب) أي التوراة، واللام متعلقة بما تقدم من الأمر بالإيمان والتقوى، أي اتقوا وآمنوا يؤتكم كذا وكذا ليعلم الذين لم يتقوا ولا آمنوا من أهل الكتاب، ولا في لئلا زائدة قاله الفراء والأخفش وغيرهما (ألا يقدرون على شيء) أي ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على أن ينالوا شيئاً (من فضل الله) الذي تفضل به على من آمن بمحمد ﷺ ولا يقدرون على دفع ذلك الفضل الذي تفضل الله به على المستحقين له، ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله، وهو مشروط بالإيمان به، وقيل: الضمير للنبي ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم؛ ولا غير مزيدة، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون على شيء من فضل الله الذي هو عبارة عما أوتوه والأول أولى.
(و) جملة (أن الفضل بيد الله) معطوفة على الجملة التي قبلها أي ليعلموا أنهم لا يقدرون، وليعلموا أن الفضل الخ (يؤتيه من يشاء) من عباده والظاهر أنه مستأنف، وقيل: هو خبر ثان عن الفضل (والله ذو الفضل العظيم) جملة مقررة لمضمون ما قبلها، والمراد بالفضل هنا ما تفضل به على الذين اتقوا وآمنوا برسوله من الأجر المضاعف، وقال الكلبي: هو رزق الله وقيل: نعم الله التي لا تحصى، وقيل هو الإسلام.
429
خاتمة الجزء الثالث عشر
تم بعون الله تعالى الجزء الثالث عشر ويليه الجزء الرابع عشر وأوله سورة المجادلة.
430
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الرابع عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الرابع عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

ويحتوي على:
- سورة المجادلة
- سورة الحشر
- سورة الممتحنة
- سورة الصف
- سورة الجمعة
- سورة المنافقون
- سورة التغابن
- سورة الطلاق
- سورة التحريم
- سورة الملك
- سورة القلم
- سورة الحاقة
- سورة المعارج
- سورة نوح
- سورة الجن
- سورة المزمل
- سورة المدثر
- سورة القيامة
- سورة الإنسان
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة المجادلة
(اثنتان وعشرون آية وهي مدنية)
قال القرطبي: في قول الجميع، إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزلت جميعها بالمدينة غير قوله: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) نزلت بمكة، وقال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله والمجادلة بكسر الدال كما ذكره السعد في حواشي الكشاف وفي الشهاب بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف كما في الكشاف وهذه السورة أول النصف الثاني من القرآن، باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وهي أول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها آية إلاَّ وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثاً وجملة ما فيها من الجلالات خمس وثلاثون.
7

بسم الله الرحمن الرحيم

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤)
9
Icon