تفسير سورة نوح

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة نوح من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وهي ثمان وعشرون آية

سورة نوح
مكية، وهي ثمان وعشرون آية [نزلت بعد النحل] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة نوح (٧١) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤)
أَنْ أَنْذِرْ أصله: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل: وهي أن الناصبة للفعل، والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له أنذر، أى: أرسلناه بالأمر بالإنظار. ويجوز أن تكون مفسّرة، لأنّ الإرسال فيه معنى القول. وقرأ ابن مسعود: أنذر بغير «أن» على إرادة القول. وأَنِ اعْبُدُوا نحو أَنْ أَنْذِرْ في الوجهين. فإن قلت: كيف قال وَيُؤَخِّرْكُمْ مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ قلت: قضى الله مثلا أنّ قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة، فقيل لهم: آمنوا يؤخركم إلى أجل مسمى، أى: إلى وقت سماه الله وضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه، وهو الوقت الأطول تمام الألف. ثم أخبر أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخر كما يؤخر هذا الوقت، ولم تكن لكم حيلة، فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٥ الى ٢٠]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠)
615
لَيْلًا وَنَهاراً دائبا من غير فتور مستغرقا به الأوقات كلها فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي جعل الدعاء فاعل زيادة الفرار. والمعنى على أنهم ازدادوا عنده فرارا، لأنه سبب الزيادة. ونحوه فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، فَزادَتْهُمْ إِيماناً لِتَغْفِرَ لَهُمْ ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم، فذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح لإعراضهم عنه. سدّوا مسامعهم عن استماع الدعوة وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وتغطوا بها، كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم، أو تغشيهم لئلا يبصروه كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين الله. وقيل: لئلا يعرفهم، ويعضده قوله تعالى أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ. الإصرار: من أصر الحمار على العانة «١» إذا صرّ أذنيه وأقبل عليها يكدمها ويطردها: استعير للإقبال على المعاصي والإكباب عليها وَاسْتَكْبَرُوا وأخذتهم العزة من «٢» اتباع نوح وطاعته، وذكر المصدر تأكيد ودلالة على فرط استقبالهم وعتوهم. فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا، ثم دعاهم جهارا، ثم دعاهم في السرو العلن، فيجب أن تكون ثلاث دعوات مختلفات حتى يصح العطف. قلت: قد فعل عليه الصلاة والسلام كما يفعل الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:
في الابتداء بالأهون والترقي في الأشد فالأشد، فافتتح بالمناصحة في السر، فلما لم يقبلوا ثنى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلث بالجمع بين الإسرار والإعلان. ومعنى ثُمَّ الدلالة على تباعد الأحوال، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين، أغلظ من إفراد أحدهما. وجِهاراً
(١). قوله «من أصر الحمار على العانة» هي القطيع من حمر الوحش، والكدم: العض بأدنى الفم. أفاده الصحاح. وفيه: صر الفرس أذنيه ضمها إلى رأسه، فإذا لم يوقعوا قالوا: أصر الفرس بالألف اه، يعنى: إذا لم يجعلوا الفعل متعديا إلى مفعول. (ع)
(٢). قوله «وأخذتهم العزة من اتباع نوح» لعله: عن. (ع)
616
منصوب بدعوتهم، نصب المصدر لأنّ الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنه أراد بدعوتهم جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، بمعنى دعاء جهارا، أى: مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال، أى: مجاهرا.
أمرهم بالاستغفار الذي هو التوبة عن الكفر والمعاصي، وقدّم إليهم الموعد بما هو أوقع في نفوسهم وأحبّ إليهم من المنافع الحاضرة والفوائد العاجلة، ترغيبا في الإيمان وبركاته والطاعة ونتائجها من خير الدارين، كما قال وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ وقيل: لما كذبوه بعد طول تكرير الدعوة: حبس الله عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة. وروى: سبعين.
فوعدهم أنهم إن آمنوا رزقهم الله تعالى الخصب ودفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضى الله عنه: أنه خرج يستسقى، فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت! فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر «١». شبه الاستغفار بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ.
وعن الحسن: أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال. استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا ويسألون أنواعا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار! فتلا له هذه الآية. والسماء:
المظلة لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب، ويجوز أن يراد السحاب أو المطر، من قوله.
إذا نزل السّماء بأرض قوم «٢»
والمدرار: الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال جَنَّاتٍ بساتين لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً لا تأملون له توقيرا أى تعظيما.
والمعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم في دار الثواب «٣»، لِلَّهِ بيان للموقر،
(١). أخرجه عبد الرزاق وابن أبى شيبة والطبراني في الدعاء والطبري وغيرهم من رواية الشعبي: أن عمر...
بهذا وزاد: ثم قرأ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع.
(٢).
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
تطلق السماء على المظلة، وعلى السحاب، وعلى المطر كما هنا، لما فيه من السمو والارتفاع، وتطلق على النبات مجازا، لأن المطر سببه، فلذلك قال: رعيناه، ففي الكلام استخدام، حيث أطلق السماء بمعنى، وأعاد عليها الضمير بمعنى آخر، والغضاب: جمع غضبان والمعنى: أننا شجعان دون غيرنا.
(٣). قال محمود: «ما لكم لا تكونون على حال يكون فيها تعظيم الله تعالى... الخ» قال أحمد: وهذا التفسير يبقى الرجاء على بابه الخ.
617
ولو تأخر لكان صلة للوقار. وقوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً في موضع الحال، كأنه قال: ما لكم لا تؤمنون بالله والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به، لأنه خلقكم أطوارا: أى تارات: خلقكم أوّلا ترابا، ثم خلقكم نطفا، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغا، ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر. أو لا تخافون لله حلما وترك معاجلة العقاب فتؤمنوا؟ وقيل: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ وعن ابن عباس: لا تخافون لله عاقبة، لأن العاقبة حال استقرار الأمور وثبات الثواب والعقاب، من «وقر» إذا ثبت واستقرّ. نبههم على النظر في أنفسهم أوّلا، لأنها أقرب منظور فيه منهم، ثم على النظر في العالم وما سوّى فيه من العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته وعلمه من السماوات والأرض والشمس والقمر فِيهِنَّ في السماوات، وهو في السماء الدنيا، لأنّ بين السماوات ملابسة من حيث أنها طباق «١» فجاز أن يقال: فيهنّ كذا، وإن لم يكن في جميعهنّ، كما يقال: في المدينة كذا وهو في بعض نواحيها. وعن ابن عباس وابن عمر رضى الله عنهما: أنّ الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض «٢» وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، والقمر ليس كذلك، إنما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. ومثله قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً والضياء: أقوى من النور. استعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك الله للخير، وكانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث «٣»، لأنهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات: ومنه قيل للحشوية: النابتة والنوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّلية لهم فيه «٤». ومنه قولهم: نجم فلان لبعض المارقة. والمعنى:
أنبتكم فنبتم نباتا. أو نصب بأنبتكم لتضمنه معنى نبتم ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين ثم يُخْرِجُكُمْ يوم القيامة، وأكده بالمصدر كأنه قال يخرجكم حقا ولا محالة. جعلها بساطا مبسوطة تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه فِجاجاً واسعة منفجة.
(١). قال محمود: «وإنما هو في السماء الدنيا لأن بين السماوات وبين السماء الدنيا مناسبة» قال أحمد: ويلاحظ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ.
(٢). حديث ابن عباس موقوف، أخرجه ابن مردويه في يونس من رواية حماد بن سلمة عن على بن زيد عن يوسف بن مهران عنه بهذا. بلفظ «وأقفيتهما إلى الأرض» وروى الحاكم منه ذكر القمر حسب. وحديث ابن عمر رضى الله عنهما مثله» أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال عبد الله بن عمر: فذكره موقوفا. وروى الطبري من طريق هشام الدستوائى عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر. «تنبيه» وقع في الأصل ابن عمر مصحف. وإنما هو عمر ورضى الله عنهما.
(٣). قوله «أدل على الحدوث» لعله: أدل دليل على الحدوث. (ع)
(٤). قوله «من غير أولية لهم فيه» إن كان مراده بالحشوية أهل السنة، فأوليتهم في مذهبهم: الكتاب والسنة. (ع)
618

[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢١ الى ٢٤]

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)
وَاتَّبَعُوا رؤسهم المقدمين أصحاب الأموال والأولاد، وارتسموا ما رسموا لهم من التمسك بعبادة الأصنام، وجعل أموالهم وأولادهم التي لم تزدهم إلا وجاهة ومنفعة في الدنيا زائدة خَساراً في الآخرة، وأجرى ذلك مجرى صفة لازمة لهم وسمة يعرفون بها، تحقيقا له وتثبيتا، وإبطالا لما سواه. وقرئ: وولده بضم الواو وكسرها وَمَكَرُوا معطوف على لم يزده، وجمع الضمير وهو راجع إلى من، لأنه في معنى الجمع والماكرون: هم الرؤساء.
ومكرهم: احتيالهم في الدين وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصدّهم عن الميل إليه والاستماع منه. وقولهم لهم: لا تذرون آلهتكم إلى عبادة رب نوح مَكْراً كُبَّاراً قرئ بالتخفيف والتثقيل. والكبار: أكبر من الكبير. والكبار: أكبر من الكبار، ونحوه: طوال وطوّال وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا كأن هذه المسميات كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فخصوها بعد قولهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان ودّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، ولذلك سمت العرب بعبد ودّ وعبد يغوث. وقيل هي أسماء رجال صالحين. وقيل: من أولاد آدم ماتوا، فقال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا، فلما مات أولئك قال لمن بعدهم:
إنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم. وقيل: كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر. وقرئ: ودّا، بضم الواو. وقرأ الأعمش: ولا يغوثا ويعوقا، بالصرف، وهذه قراءة مشكلة، لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف: إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة، ولعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات ودا وسواعا ونسرا، كما قرئ:
وضحاها بالإمالة، لوقوعه مع الممالات للازدواج وَقَدْ أَضَلُّوا الضمير للرؤساء. ومعناه:
وقد أضلوا كَثِيراً قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام ليسوا بأوّل من أضلوهم. أو وقد أضلوا بإضلالهم كثيرا، يعنى أنّ هؤلاء المضلين فيهم كثرة. ويجوز أن يكون للأصنام، كقوله تعالى إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ. فإن قلت: علام عطف قوله
وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ؟ قلت: على قوله رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ وبعد الواو النائبة عنه: ومعناه: قال رب إنهم عصوني، وقال: لا تزد الظالمين إلا ضلالا، أى: قال هذين القولين وهما في محل النصب، لأنهما مفعولا «قال» كقولك: قال زيد نودي للصلاة وصل في المسجد، تحكى قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه. فإن قلت: كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو الله بزيادته؟ قلت: المراد بالضلال: أن يخذلوا «١» ويمنعوا الألطاف «٢»، لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء بخلافه. ويجوز أن يريد بالضلال: الضياع والهلاك، لقوله تعالى وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً.
[سورة نوح (٧١) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)
تقديم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ لبيان أن لم يكن إغراقهم بالطوفان، فإدخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم، وأكد هذا المعنى بزيادة «ما» وفي قراءة ابن مسعود: من خطيئاتهم ما أغرقوا، بتأخير الصلة، وكفى بها مزجرة لمرتكب الخطايا، فإن كفر قوم نوح كان واحدة من خطيئاتهم، وإن كانت كبراهنّ. وقد نعيت عليهم سائر خطيئاتهم كما نعى عليهم كفرهم، ولم يفرق بينه وبينهن في استيجاب العذاب، لئلا يتكل المسلم الخاطئ على إسلامه، ويعلم أنّ معه ما يستوجب به العذاب وإن خلا من الخطيئة الكبرى. وقرئ: خطيئاتهم بالهمزة. وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها. وخطاياهم. وخطيئتهم. بالتوحيد على إرادة الجنس. ويجوز أن يراد الكفر فَأُدْخِلُوا ناراً جعل دخولهم النار في الآخرة كأنه متعقب لإغراقهم، لاقترابه، ولأنه كائن لا محالة، فكأنه قد كان. أو أريد عذاب القبر. ومن مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع والطير: أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. وعن الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب. وتنكير النار إما لتعظيمها، أو لأن الله أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله وأنها غير قادرة
(١). قوله «يخذلوا ويمنعوا مبنى على مذهب المعتزلة أنه تعالى لا يريد الشر ولا يفعله، وأجيب: بأنه إنما دعا عليهم بذلك بعد أن أعلمه الله تعالى أنهم لا يؤمنون، حيث قال له: إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.
وهذا على مذهب أهل السنة الذين أجازوا أنه تعالى يفعل الشر كخلق الضلال في القلب، لأن فعله لا يخلو عن حكمة. (ع) [.....]
(٢). قال محمود: «كيف جاز أن يريد الضلال، وأجاب بأن المراد به منع الألطاف»
قلت: هذا على قاعدته.
على نصرهم، وتهكم بهم، كأنه قال: فلم يجدوا لهم من دون الله آلهة ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا. دَيَّاراً من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيام وقيوم، وهو فيعال من الدور. أو من الدار، أصله ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيد وميت، ولو كان فعالا لكان دوّارا. فإن قلت: بم علم أن أولادهم يكفرون، وكيف وصفهم بالكفر عند الولادة؟ قلت: لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، فذاقهم وأكلهم وعرف طباعهم وأحوالهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه، ويقول: احذر هذا، فإنه كذاب، وإن أبى حذرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقد أخبره الله عزّ وجل أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، ومعنى لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً لا يلدوا إلا من سيفجر ويكفر. فوصفهم بما يصيرون إليه، كقوله عليه السلام «من قتل قتيلا فله سلبه» «١»
[سورة نوح (٧١) : آية ٢٨]
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨)
وَلِوالِدَيَّ أبوه لمك بن متوشلخ، وأمه شمخا بنت أنوش: كانا مؤمنين. وقيل. هما آدم وحواء. وقرأ الحسين بن على: ولولدي، يريد: ساما وحاما بَيْتِيَ منزلي. وقيل:
مسجدى. وقيل: سفينتي، خص أوّلا من يتصل به، لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عم المؤمنين والمؤمنات تَباراً هلاكا. فإن قلت: ما فعل صبيانهم حين أغرقوا؟ قلت: غرقوا معهم لا على وجه العقاب «٢»، ولكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الموت، وكم منهم من يموت بالغرق والحرق، وكأن ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.
(١). متفق عليه، وقد تقدم.
(٢). قال محمود: «ما موجب إغراقهم حين أغرقوا، وأجاب بأنهم ما أغرقوا لا على وجه العقاب... الخ» قال أحمد: هذا السؤال مفصح عما في باطنه من وجوب تعليل أفعال الله تعالى، وعليه يبنى أنه لا يجوز الألم من الله تعالى إلا باستحقاق سابق، أو لأعواض مترقبة، أو لغير ذلك من المصالح، بناء على القاعدة لهم في الصلاح والأصلح والصبيان لا جناية سبقت منهم ولا عوض يترقب فيهم. فبرد السؤال على ذلك. وأما أهل السنة فالله تعالى قد تكفل الجواب عنهم بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهذا الكلام بالنظر إلى خصوص واقعة قوم نوح، وينجر الكلام منها إلى حكم الله علينا في العدو إذا خيف من مقاتلتهم بالآلات على ذراريهم أن ذلك لا يوجب الاكفاف عن مقاتلتهم بالآلات المهلكة لهم والمذرية، ويستدل برمي النبي ﷺ على أهل الطائف بالمجانيق. وقيل له فيهم الذرية، فقال: هم من آبائهم، وأما رميهم بالنار وفيهم الذرية: فمنعه مالك رحمه الله، إلا أن يخاف غائلتهم فيرمون بها إن لم يندفعوا بغيرها، والله تعالى أعلم.
Icon