تفسير سورة المطفّفين

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنية، وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسعوستون كلمة، وسبع مائة وثلاثون حرفاً
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال : أخبرنا محمد بن مطر العدل قال : حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة ).

سورة المطففين
مدنية، وهي ست وثلاثون آية، ومائة وتسع وستون كلمة، وسبع مائة وثلاثون حرفا
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال: أخبرنا محمد بن مطر العدل قال: حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال: حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة» [١٠٥] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن، وأصله من الشيء الطفيف وهو النزر القليل، وإناء طفاف إذا لم يكن ملآن، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد: هم كطف الصاع، يعني ذلك: كقرب الملء منه ناقص عن الملء «٢».
الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا أخذوا عَلَى النَّاسِ أي منهم، وعلى ومن تتعاقبان في هذا الموضع يَسْتَوْفُونَ حقوقهم منه وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، يقال: وزنتك حقّك، وكلتك طعامك بمعنى وزنت لك وكلت لك، قال الفراء: وهي لغة أهل الحجاز ومن جاوزهم من [......] «٣» قال: وسمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل.
(١) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٢٨٩.
(٢) تفسير الطبري: ٣٠/ ١١٣.
(٣) كلمة غير مقروءة في المخطوط.
149
قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين حرفين ويقف على: كالوا ووزنوا، ثمّ يبتدئ فيقول: هم يخسرون، قال: وأحسب قراءة حمزة أيضا كذلك، قال أبو عبيد: والاختيار أن يكون كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوها بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا ووزنوا بالألف على ما كتبوا الأفعال كلّها مثل: فاؤُ وجاؤُ [... ] «١»
المصاحف إلّا على إسقاطها.
والجهة الأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك ووزنت لك، وهو كلام عربي كما يقال: صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك ومثله كثير.
يُخْسِرُونَ ينقصون.
حدّثنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا ابن الشرقي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال:
حدّثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني يزيد النحوي أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله سبحانه وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل.
وقال القرطبي: كان بالمدينة تجار يطفّفون وكانت بياعتهم كشبه القمار والمنابذة والملامسة والمخاطرة فأنزل الله سبحانه هذه الآية. فخرج رسول الله ﷺ إلى السوق وقرأها عليهم
، وقال السدي: قدم رسول الله ﷺ المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو الدرداء، عبد العزيز [بن منيب] قال: حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن الضحاك ومجاهد وطاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس لخمس» قالوا: يا رسول الله وما خمس لخمس؟ قال: «ما نقض قوم العهد إلّا سلّط عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» [١٠٦] «٢».
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن ماجة قال: حدّثنا ابن أيوب قال: حدّثنا القصواني قال: حدّثنا سنان بن حاتم قال: حدّثنا حفص قال: حدّثنا مالك بن دينار قال: دخلت على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول: جبلين من نار جبلين من نار، قال: قلت: ما تقول أتهجر؟
قال: يا أبا يحيى كان لي مكيالان، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر، قال: فقمت فجعلت
(١) بياض بالمخطوط.
(٢) المعجم الكبير: ١١/ ٣٨.
150
أضرب أحدهما بالآخر فقال: يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر إزداد عظما فمات في وجعه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن صقلان قال: حدّثنا محمد بن النفاخ الباهلي قال: حدّثنا بركة بن محمد الحلبي عن عثمان بن عبد الرحمن عن النضر بن عدي قال:
سمعت عكرمة يقول: أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار، قيل له: إنّ ابنك كيال أو وزان، قال: أنا أشهد أنه في النار.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل بن الفضل قال: حدّثني عبد الله بن زكريا القاضي قال: حدّثنا العباس بن عبد الله بن أحمد قال: حدّثنا المبرد قال: حدّثنا الرياسي عن الأصمعي قال: قال لي إعرابي: لا تلتمس الحوائج ممن مروءته في رؤس المكاييل والسن الموازين، وروى عبد خير أن عليّا مرّ على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فكفا الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت، وقال نافع كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول: اتّق الله وأوف الكيل والوزن، فإن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم.
أَلا يَظُنُّ يستيقن أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن مالك قال: حدّثنا ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا وكيع عن هشام صاحب [الدستواني] عن القمر بن أبي [ابزى] قال: حدّثني من سمع ابن عمر قرأ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فلما بلغ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى حتى خرّوا وامتنع من قراءة ما بعده.
كَلَّا قال الحسن: حقا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الذي كتب فيه أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ قال عبد الله بن عمر ومغيث بن سمي وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد: هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفّار وأعمالهم، يدلّ عليه ما
أخبرنا الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب قال: حدّثنا الأعمش عن المنهال عن زادان عن البرك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سجين أسفل سبع أرضين»
[١٠٧] «١» :
وأخبرني أبو عبد الله الفنجوي قال: حدّثنا أبو علي المقرئ قال: حدّثنا أبو [القاسم بن] الفضل قال: حدّثنا محمد بن حميد قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري قال: حدّثنا حفص ابن حميد عن سمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ فقال: إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء
(١) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٢٩٢، وقريب منه في تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٥٨.
151
فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيهبط تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجّين، وهي حدّ إبليس، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة، وإليه ذهب سعيد بن جبير قال: سجّين تحت حدّ إبليس، وقال عطاء الخراساني: هي الأرض السفلى وفيها إبليس وذريته.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا الفضل قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: قراءتي على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: وحدّثني عمارة بن عيسى عن يونس بن يزيد عمّن حدّثه عن ابن عباس أنه قال لكعب الأحبار: أخبرني عن سجّين وعليّين، فقال كعب:
والذي نفسي بيده لأخبرنّك عنها إلّا بما أجد في كتاب الله المنزل، أما سجّين فإنّها شجرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها كلّ اسم شيطان، فإذا قبضت نفس الكافر عرج بها إلى السماء فغلقت أبواب السماء دونها، ثم رمى بها إلى سجين فذلك سجين، وأما عليّيون فإنّه إذا قبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى العرش، قال: فيخرج كفّ من العرش فيكتب له نزله وكرامته فذلك عليّون.
وقال الكلبي: هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السموات منها، يجعل كتاب الفجار تحتها، وقال وهب: هي آخر سلطان إبليس.
وأخبرني عقيل: إن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثني إسحاق بن وهب الواسطي قال: حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان قال: حدّثنا نصر بن خزيمة عن شعيب بن صفوان عن القرطي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال. «الفلق جبّ في جهنم مغطّى وأما سجين جبّ في جهنم مفتوح» [١٠٨] «١».
وأخبرنا أبو القمر الصفار قال: أخبرنا حاجب بن أحمد قال: حدّثنا محمد بن حماد قال:
حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله سبحانه: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ قال: سجّين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجّار تحتها، وقال عكرمة: أي لفي خسار وضلال، والمعنى أنه أراد بطلان أعمالهم وذهابها بلا محمدة ولا ثواب وهذا سائغ مستفيض في كلام الناس، يقولون لمن خمل ذكره وسقط قدره قد لزق بالحضيض، وقال الأخفش: لفي حبس ضيق شديد، وهو فعّيل من السجن كما يقال فسّيق وشرّيب قال ابن مقبل:
ورفقه يضربون البيض ضاحيّة ضربا تواصت به الأبطال سجّينا «٢»
(١) جامع البيان للطبري: ٣٠/ ١٢٠، الدر المنثور: ٦/ ٣٢٥.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٥٨.
152
وَما أَدْراكَ يا محمد ما سِجِّينٌ أي ذلك الكتاب الذي في السجّين ثم منّ فقال:
كِتابٌ أي هو كتاب مَرْقُومٌ مكتوب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به وقال قتادة: رقم لهم بشرّ وقيل: مختوم بلغة حمير. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قراءة العامة تُتْلى، وقرأ أبو حيان بالياء لتقديم الفعل.
قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ
أخبرنا الحسين قال:
حدّثنا الفضل قال: حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم التربي ببغداد قال: حدّثنا علي المكرمي قال: حدّثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت محمد بن عجلان يقول: حدّثني القعقاع بن حكم أن أبا صالح السمّان قال أن أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إنّ العبد إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب صقل قلبه وإن عاد زادت حتى يسوّد قلبه»
[١٠٩] «١» قال:
فذلك قوله سبحانه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ وكذا قال المفسرون: هو الذنب على الذنب حتى يسوّد القلب، وقال حذيفة بن اليمّان: القلب مثل الكفّ فإذا أذنب العبد انقبض وقبض إصبعا من أصابعه ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعا أخرى، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ثم يطبع عليه فكانوا يرون أنّ ذلك هو الرين، ثمّ قرأ هذه الآية.
وقال بكر بن عبد الله: إنّ العبد إذا أصاب الذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ثمّ إذا أذنب ثانيا صار كذلك فإذا كثرت الذنوب صار القلب كالمنخل أو كالغربال، وقال الحسن: هو الذنب على الذنب حتى لعله يصدئ القلب، وقال ابن عباس: طبع عليها، عطا: غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون ولا يتحاشون «٢»، وقيل: قلبها فجعل أسفلها أعلاها، نظيره قوله سبحانه وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ «٣» وأصل الرين الغلبة، يقال: رانت الخمر على عقله إذا غلبت عليه فسكر، وقال أبو زبيد الطائي:
ثم إذا رآه رانت به الخمر وأن لا يرينه باتّقاء
وقال الراجز:
لم نرو حتى هجّرت ورين بي ورين بالسّاقي الذي أمسى معي «٤»
معنى الآية غلب على قلوبهم وأحاطت بها حتى غمرتها وغشيتها.
(١) مسند أحمد: ٢/ ٢٩٧، تحفة الاحوذي: ١/ ٢٥، جامع البيان للطبري: ٣٠/ ١٢٣ بتفاوت.
(٢) تفسير الطبري: ٣٠/ ١٢٤.
(٣) سورة الأنعام: ١١٠. [.....]
(٤) جامع البيان للطبري: ٣٠/ ١٢٢.
153

[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٥ الى ٣٦]

كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قال بعضهم: من كرامته ورحمته ممنوعون، وقال قتادة: هو أن لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ... وَلا يُزَكِّيهِمْ، وقال أكثر المفسرين: عن رؤيته، قال الحسين بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته.
أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر قال: حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال:
حدّثنا الحسين بن الفضل قال: حدّثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح وعبد الواحد بن زيد قالا: قال الحسن: لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربّهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا، وقال يحيى بن سليمان: بن نضلة: يسئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال:
لها حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه، وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد [الشبوي] «١» بها يقول: سمعت أبا نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي يقول: سمعت الربيع بن سليمان يقول: كنت ذات يوم عند الشافعي رضي الله عنه وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله سبحانه: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فكتب فيه: لما حجب قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، فقلت له: أوتدين بهذا يا سيدي؟
فقال: والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أن يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا.
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ لداخلو النار ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ
أخبرني الحسين قال: حدّثنا موسى قال: حدّثنا ابن علوية قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا المسيّب عن الأعمش عن النهال عن زادان عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ قال: «عليين في السماء السابعة تحت العرش» [١١٠] «٢»
وقال ابن عباس هو لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها، وقال كعب وقتادة: هو قائمة العرش
(١) كذا في المخطوط.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٦٢.
154
اليمنى، مقاتل: ساق العرش، علي ابن أبي طلحة وعطاء عن ابن عباس: هو الجنة، عطية عنه:
أعمالهم في كتاب الله في السماء، الضحاك: سدرة المنتهى، وقال أهل المعاني: علو بعد علو وشرف بعد شرف، ولذلك جمعت بالياء والنون لجمع الرجال إذا لم يكن له نبأ من واحد ولا ثانية، قال الفراء: هو اسم موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه كقولك عشرين وثلاثين، وقال يونس النحوي: واحدها عليّ وعليّه.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا بن حمدان قال: حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي قال: حدّثنا محمد بن يونس قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا عفان قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن عصام ابن يهدله عن خيثمة عن عبد الله بن عمرو في قوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ قال: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل أشرقت الجنة وقالوا: قد طلع علينا رجل من أهل عليين.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ رقم له بخير وفي الآية تقديم وتأخير، مجازها:
إنّ كتاب الأبرار مرقوم في عليين وهي محل الملائكة، ومثله إن كتاب الفجّار كتاب مرقوم وهي سجين، وهي محل إبليس وجنوده.
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ الملائكة إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة، الأرائك: كلّ ما يتكئ عليه، وقيل: السرير في الحجلة، وقال مقاتل: ينظرون إلى [أعدائهم] «١» كيف يعذّبون، وقال ابن عطاء: على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي عصارته وبريقه ونوره يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر، وقراءة العامة تَعْرِفُ بفتح التاء وكسر الراء نَضْرَةَ نصب، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل.
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر صافية طيبة وقيل: هي الخمر العتيقة، مقاتل: الخمر البيضاء.
قال حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم بردا يصفّق بالرحيق السلسل «٢»
وقال آخر:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره أشهى إليّ من الرحيق السلسل «٣»
(١) في المخطوط: عدوّهم.
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٤٣، والبريص: نهر بدمشق، وبردى: نهر بدمشق أيضا، ويصفق: يمزج، والرحيق:
الخمر البيضاء.
(٣) لسان العرب: ١١/ ٣٤٣.
155
مَخْتُومٍ ختمت ومنعت عن أن يمسها ماس أو تنالها يد إلى أن يفكّ ختمها الأبرار يوم القيامة، وقال مجاهد: مطيّن.
خِتامُهُ طينة مِسْكٌ قال ابن زيد: خِتامُهُ عند الله سبحانه: مِسْكٌ وختامها اليوم في الدنيا طين، وقال ابن مسعود: مختوم ممزوج، ختامه خلط ومسك، وقال علقمة: طعمه وريحه مسك، وقال الآخرون: عاقبته وآخر طعمه مسك، قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك، وروى عبد الرحمن بن سابط عن أبي الدرداء في قوله سبحانه خِتامُهُ مِسْكٌ قال:
شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.
وختم كلّ شيء الفراغ منه، ومنه ختم القرآن، والأعمال بخواتيمها، وقراءة العامة (خِتامُهُ) بتقديم التاء
وقرأ الكسائي (خاتمه) وهي قراءة علي وعلقمة.
أخبرنا محمد بن عبدوس قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: أخبرنا محمد بن الجهم قال: أخبرنا يحيى بن زرارة الفراء قال: حدّثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه قرأ خاتمه مسك.
وباسناده عن الفراء قال: حدّثني أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي قال:
قرأ علقمة بن قيس (خاتمه مسك) وقال: أما رأيت المرأة تقول للعطار: اجعل لي خاتمه مسكا، تريد آخره، والخاتم والختام واحد كما يقال للرجل الكريم: الطابع والطباع، وقال الفرزدق:
فبتن بجانبي مصرّعات وبتّ أفض أغلاق الختام «١»
وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وقال مجاهد فليعمل العاملون، نظيره قوله سبحانه: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ «٢»، مقاتل بن سليمان:
فليتنازع المتنازعون، ابن حيان: فليتسارع المتسارعون، عطا: فليستبق المتسابقون، زيد بن أسلم: فليتشاح المتشاحون، ابن جرير: فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه، وأصله من الشيء النفيس، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس، ويطلبه ويتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه وينفس به على غيره أي يضن.
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ شراب ينصب عليه من علو، ومنه سنام البعير وتسنيم القبور قال الضحاك: هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب، مقاتل: يسمى تسنيما لأنه يتسنّم فيصب عليه انصبابا من فوقهم في غرفهم ومنازلهم تجري من جنّة عدن إلى أهل الجنان، قال ابن مسعود وابن عباس: هو خالص للمقربين يشربونها صرفا ويمزج لساير أهل الجنة.
(١) لسان العرب: ١٠/ ٢٩١.
(٢) سورة السجدة: ١٧.
156
وأخبرنا عبد الله بن حامد في آخرين قالوا: أخبرنا مكيّ قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال:
حدّثنا سويد بن عمرو الكلبي قال: حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يونس بن مهران عن ابن عباس وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قال: هذا مما قال الله سبحانه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «١»، وعن بعضهم: أنها عين تجري في الهواء متسنما فتصب في أواني أهل الجنّة على مقدار ملئها، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الاستقاء وهو معنى قول قتادة، وأصل الكلمة مأخوذ من علوّ المكان والمكانة، فيقال للشيء المرتفع: سنام، وللرجل الشريف: سنام وهو اسم معرفة مثل التنعيم وهو اسم جبل.
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا أي منها، وقيل يشربها الْمُقَرَّبُونَ قال الحريري والواسطي: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صرفا على بساط القرب في مجلس الأنس ورياض القدس بكأس الرضا على مشاهدة الحقّ سبحانه وتعالى.
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أشركوا أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي مكّة كانُوا مِنَ الَّذِينَ عمّار وخبّاب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين.
يَضْحَكُونَ وبهم يستهزءون ومن إسلامهم يتعجبون.
وقال مقاتل والكلبي: نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وذلك أنه جاء في نفر من المسلمين إلى النبي ﷺ فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات قبل أن يصل عليّ وأصحابه إلى رسول الله ﷺ [١١١] «٢».
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضا ويشيرون بالأعين وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حين يأتون محمد يرون أنهم على شيء وَما أُرْسِلُوا يعني المشركين عَلَيْهِمْ يعني على المؤمنين حافِظِينَ لأعمالهم موكلين بأحوالهم.
فَالْيَوْمَ يعني يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنّه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مرارا ويضحك المؤمنون منهم وهم عَلَى الْأَرائِكِ من الدر والياقوت يَنْظُرُونَ إليهم كيف يعذبون، قال كعب: بين الجنة والنار كوى فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له كان في الدنيا اطّلع من بعض تلك الكوى، دليله قوله سبحانه فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «٣» هَلْ ثُوِّبَ جوزي الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثوّب وأثاب بمعنى واحد.
(١) سورة الصافّات: ٦١.
(٢) تفسير مجمع البيان: ١٠/ ٢٩٨، وقريب منه في شواهد التنزيل ٢: ٤٢٨.
(٣) سورة الصافات: ٥٥.
157
Icon