تفسير سورة الضحى

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلضُّحَىٰ ﴾ الخ، قدم ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾ هنا على ﴿ ٱللَّيْلِ ﴾ وفي السورة التي قبلها قدم الليل، وذلك لأن في كل مزية تقتضي تقديمه، فقدم هذا تارة، والآخر أخرى، فالليل به السكون والهدوء، ومحل الخلوات والعطايا الربانية، والنهار به النور والسعي في المصالح واجتماع الناس، أو لأن السورة المتقدمة سورة أبي بكر، وهو قد سبق له الكفر، فقدم الليل، وهذه سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهو محض نور، فقدم فيها ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾.
إن قلت: ما الحكمة في ذكر ﴿ ٱلضُّحَىٰ ﴾ وهو ساعة، وذكر ﴿ ٱللَّيْلِ ﴾ بجملته؟ أجيب: بأن ذلك إشارة إلى أن ساعة من النهار، توازي جميع الليل، كما أن محمدا يوازي جميع الخلق، وأيضا الضحى وقت سرور، والليل وقت وحشة، ففيه إشارة إلى أن سرور الدنيا أقل شرورها. قوله: (أو كله) أي وعليه، ففيه مجاز من إطلاق الجزء على الكل. قوله: ﴿ إِذَا سَجَىٰ ﴾ ﴿ إِذَا ﴾ لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم المقدر كما تقدم نظيره. قوله: (غطى بظلامه) أي كل شيء. قوله: (أو سكن) إسناد السكون له مجاز عقلي، والمعنى: سكن أهله من إسناد الشيء لزمانه. قوله: ﴿ مَا وَدَّعَكَ ﴾ بالتشديد في قراءة العامة من التوديع، وهو في الأصل مفارقة المحبوب مع التألم، أطلق وأريد منه مطلق الترك، بدليل القراءة الشاذة بالتخفيف مع الودع وهو الترك. قوله: ﴿ وَمَا قَلَىٰ ﴾ مضارعة من باب ضرب وقتل. قوله: (نزل هذا) الخ، اختلف في سبب نزول هذه الآية على أربعة أقوال، الأول: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم اشتكى ليلتين أو ثلاثاً فجاءت أم جميل امرأة أبي لهب وقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فنزلت. الثاني: أبطأ الوحي حتى شق عليه، فجاءه وهو واضع جبهته على الكعبة يدعو، وأنزل عليه الآية. الثالث: ما روي أن خولة كانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن جرواً دخل البيت فدخل تحت السرير فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم أياماً لا ينزل عليه الوحي، فقال صلى الله عليه وسلم: يا خولة ما حدث في بيتي؟ إن جبريل لا يأتيني، قالت خولة: فكنست فأوهيت بالمكنسة تحت السرير، فإذا جرو ميت، فأخذته فألقيته خلف الجدار، فجاء نبي صلى الله عليه وسلم ترعد لحياه، وكان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة، فقال: يا خولة دثريني، فلما نزل جبريل عليه سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن التأخر فقال: أما علمت أنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة؟ الرابع: ما روي أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وذي القرنين وأصحاب الكهف فقال صلى الله عليه وسلم: سأخبركم غداً، ولم يقل إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي، إلى أن نزل جبريل عليه السلام، بقوله تعالى:﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾[الكهف: ٢٣-٢٤] وأخبره بما سأل، ونزلت هذه الآية. قوله: (خمسة عشر يوماً) هذا قول ابن عباس، وقال ابن جرير: اثني عشر يوماً، وقال مقاتل: أربعون يوماً روي أنه لما جاءه جبريل قال له: ما جئت حتى اشتقت إليك، فقال جبريل: إن كنت إليك أشوق، ولكني عبد مأمور، وأنزل عليه﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ﴾[مريم: ٦٤].
قوله: ﴿ وَلَلآخِرَةُ ﴾ اللام للابتداء مؤكدة لمضمون الجملة. قوله: ﴿ خَيْرٌ لَّكَ ﴾ إنما قيد بقوله: ﴿ لَّكَ ﴾ لأنها ليست خيراً لكل أحد، بل الناس على أربعة أقسام: منهم من له الخير في الدارين، وهم أهل الطاعة الأغنياء. ومنهم من له الشر فيهما، وهم الكفرة الفقراء. ومنهم من له صورة خير في الدنيا، وشر في الآخرة، وهما الكفرة الأغنياء، ومنهم من له صورة شر في الدنيا وخير في الآخرة، وهم الفقراء المؤمنون. قال بعض أهل الإشارات: الآية اشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم دائما يترقى في الكمالات إلى غير نهاية، فمقامه في المستقبل أعلى منه في الماضي وهكذا، ويدل لذلك أيضاً قوله في الحديث:" إني ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة "فاستغفاره لكونه ارتقى مقاماً أعلى من الأول، فرأى أن الذي انتقل منه بالنسبة للذي انتقل إليه ذنباً. قوله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ ﴾ (في الآخرة) المناسب أن يبقى على عمومها، لأن اعطاءه حتى يرضى، ليس قاصراً على الآخرة، بل عام في الدنيا والآخرة، فهو وعد شامل، لما أعطاه له من كمال النفس وظهور الأمور واعلاء الدين، ولما ادخر له ما لا يعلم كنهه سواه تعالى، وقيل: عطاؤه هو الشفاعة، وقيل: يعطيك ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابها المسك، وفيها ما يليق بها، والحق التعميم بما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. قوله: (وواحد من أمتي) أي الموحدين، فالمراد أمة الإجابة وقد أشار لذلك بعض العارفين بقوله: قرأنا في الضحى ولسوف يعطى   فسر قلوبنا ذاك العطاءوحاشا يا رسول الله ترضى   وفينا من يعذب أو يساء
قوله: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً ﴾ الخ، القصد من هذا تسليته صلى الله عليه وسلم ليزداد شكراً وصبراً، والوجود بمعنى العلم فـ ﴿ يَتِيماً ﴾ مفعول ثان، والكاف مفعوله الأول، قوله: (استفهام تقريري) أي بما بعد النفي. قوله: (يفقد أبيك) مصدر مضاف لمفعوله. قوله: (قبل ولادتك) أي بعد حمله بشهرين، وقيل قبل ولادته بشهرين، وقوله: (أو بعدها) أي وعليه فقيل بشهرين، وقيل بسبعة، وقيل بتسعة أشهر، وقيل بثمانية وعشرين شهراً، والصحيح الأول، وكانت وفاته بالمدينة الشريفة، ودفن في دار التبابعة، وقيل دفن بالإبواء قرية من أعمال الفرع، وتوفيت أمه وهو ابن أربع سنوات، وقيل خمس، وقيل ست، وقيل سبع، وقيل ثمان، وقيل تسع، وقيل ثنتي عشرة سنة وشهر وعشرة آيام، وكانت وفاتها بالأبواء، وقيل بالحجون، ومات جده عبد المطلب وهو بان ثمان سنين، فكفله عمه أبو طالب، لأنه كان شقيق أبيه، وورد أنه لما مات أبواه قالت الملائكة: بقي نبيك يتمياً، فقال الله تعالى: أنا له كافل، وسئل بعض العلماء: لم يتم صلى الله عليه وسلم فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منه، فيتمه صلى الله عليه وسلم كمال، ولذا قال البوصيري: كفاك بالعمل في الأمي معجزة   في الجاهلية والتأديب في اليتمقوله: ﴿ فَآوَىٰ ﴾ العامة على قراءته بألف بعد الهمزة رباعياً، من آواه يؤويه، وأصله أأوى بهمزتين: الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، أبدلت الثانية ألفاً، ومصدره الإيواء كالإكرام، وهو متعد باتفاق، وقرئ شذوذاً بغير ألف ثلاثياً كرمى، ومصدره إيواء بوزن كتاب، وأوى بوزن فعول بالضم، وأوى بوزن ضرب، وهو يستعمل لازماً ومتعدياً. قوله: (بأن ضمك إلى عمك أبي طالب) أي بعد وفاة جدك عبد المطلب، وقيل هو من قولهم درة يتمية؛ والمعنى: ألم يجدك واحداً من قريش عديم النظير، فآواك إليه، وشرفك بنبوته، واصطفاك برسالته. قوله: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ ﴾ (عما أنت عليه الآن من الشريعة) أي وجدك خالياً من الشريعة، فهاك بإنزالها إليك، والمراد بضلاله كونه من غير شريعة، وليس المراد به الانحراف عن الحق، لكونه مستحيلاً عليه قبل النبوة وبعدها، فكذا كقوله تعالى:﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ ﴾[الشورى: ٥٢] وما ذكره المفسر أحد أقوال في تفسير الآية، وقيل الضلالة بمعنى الغفلة، قال تعالى:﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ ﴾[يوسف: ٣] وهو قريب من الأول، وقيل وجدك ضالاً، أي في قوم ضلال، فهداهم الله تعالى بك، وقيل وجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها، وقيل ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فذكرك، وقيل وجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، قال تعالى:﴿ قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾[البقرة: ١٤٤] الآية، فيكون الضلال بمعنى الطلب والحب، قال تعالى:﴿ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ ﴾[يوسف: ٩٥] أي محبتك، وقيل إن حليمة لما ضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صلى الله عليه وسلم لتردع على عبد المطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئاً لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد الله إليك النور والبهاء والجمال، قالت: فوضعته لأصلح شأني، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: يا معشر الناس أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً، فحصت: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصنم وقيل رأسه وقال: يا رب لما تزل منتك على قريش، وهذه السعدية كما تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت، فانكب على وجهه، وتساقطت الأصنام وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلاكنا على يد محمد، فألقى الشيخ عصاه وارتعد وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب وطلبوه في جميع مكة فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله تعالى أن يرده، فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد رباً لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمداً بوادي ثمامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان وبالورق، وفي رواية: ما زال عبد الملطب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟ فقال عبد المطلب: ولم؟ فقال: إن أنخت الناقة وأركبته خلفي، فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت الناقة. قال ابن عباس: رده الله تعالى إلى جده بيد عدوه، كما فعل بموسى عليه السلام، حين حفظه فرعون، وقيل: أنه عليه السلام، مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة عند خديجة، فبينما هو راكب ذت ليلة مظلمة ناقة، فجاء إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها ألى أرض الحبشة ورده إلى القافلة. قوله: ﴿ عَآئِلاً ﴾ هذه قراءة العامة، يقال: عال زيد أي افتقر، وأعال كثرت عياله، وقرئ شذوذاً عيلاً بكسر الياء المشددة. قوله: (بما قنعك به) أي بما رضاك به وقوله: (من الغنيمة) أي وإن كانت لم تحصل إلا بعد نزول هذه السورة، لكن لما كان الجهاد معلوم الوقوع كان كالواقع، وقيل: أغناك بمال خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناه بمال أبي بكر، ولما اختل ذلك أمره بالجهاد وأغناه بالغنائم، لما روي: جعل رزقي تحت ظل سيفي ورمحي. قوله: (وغيرها) أي كمال خديجة، ومال أبي بكر، وبإعانة الأنصار حين الهجرة. قوله: (عن كثرة العرض) بفتحتين المال، وفي الحديث:" قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما أتاه "قوله: ﴿ فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ ﴾ منصوب بـ ﴿ تَقْهَرْ ﴾ وهذا مفرع على قوله: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ ﴾ فالمعنى: أصنع مع عبادي كما صنعت معك. قوله: (بأخذ ماله) أي كما كانت العرب تفعل في أموال اليتامى، تأخذ أموالهم وتظلمهم حقوقهم. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:" خير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه "ثم قال بأصبعيه:" أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا "وهو يشير بأصبعيه. قوله:(أو غير ذلك) أي كإذلاله واحتقاره. قوله: ﴿ وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ ﴾ منصوب: بـ ﴿ تَنْهَرْ ﴾ والمعنى: إما أن تطعمه أو ترده برفق، وقيل: المراد بالسائل ما يشمل طالب العلم، فيكرمه وينصفه ولا يعبس في وجهه، ولا يتلقاه بمكروه، وهذا العموم أولى، وهو مفرع على قوله: ﴿ وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ ﴾ والمعنى أغن عبادي وأعطهم، كما أغنيتك وأعطيتك. قوله: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ﴾ الخ، هذا عام، وإنما أخر حق الله تعالى عن حق اليتيم والسائل لأنهما محتاجان، والله هو الغني، وتقديم المحتاج أولى، ولأن المقصود من جميع الطاعات استغراق القلب في ذكر الله تعالى وشكره، فختمت به للعموم. قوله: ﴿ فَحَدِّثْ ﴾ أي بالنعمة، لأن التحدث بها هو شكرها، والتحدث بالنعمة جائز لغيره صلى الله عليه وسلم إذا قصد به الشكر، وأن يقتدي به غيره، وأمن على نفسه الغرور والكبر، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: إذا عملت خيراً فحدث به اخوانك ليقتدوا بك. وورد أن شخصاً كان جالساً عنده صلى الله عليه وسلم فرآه رث الثياب فقال له: ألك مال؟ قال: نعم، فقال له:" إذا آتاك الله مالاً فلير أثره عليك "وورد:" إن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر النعمة على عبده "وقوله: (بالنبوة وغيرها)، أي من العلوم والقرآن وسائر عطاياه التي لا تتناهى، وقد فعل صلى الله عليه وسلم فحدث بما أعطاه ربه من النعم، فبلغ القرآن، ونشر العلوم، وأعطى حقوق ربه عز وجل. قوله: (في بعض الأفعال) أي وهو ﴿ فَآوَىٰ ﴾ ﴿ فَهَدَىٰ ﴾ ﴿ فَأَغْنَىٰ ﴾ والأصل: فأواك، فهداك، فأغناك.
Icon