تفسير سورة الحجر

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة الحجر
مكية، وهي تسعون وتسع آيات.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣)
قال الله عزّ وجلّ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ أي: هذه آيات الكتاب وَقُرْآنٍ مُبِينٍ أي:
بيّن حلاله، وحرامه. والكتاب والقرآن واحد. وقال قتادة في قوله: وَقُرْآنٍ مُبِينٍ بيّن الله هداه ورشده، وخيره، رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ قرأ نافع وعاصم رُبَما بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد وقال عاصم: قرأت عند زر بن حبيش رُبَما بالتشديد.
فقال: إنك لتحب الرَّب. وقال: هي رُبَّمَا مخففة، ولكن معناهما واحد. فالتخفيف لغة بعض العرب، واللغة الظاهرة بالتشديد، أي: ربما يأتي على الكافر يوم يتمنى أنه كان أسلم. ويقال:
أقسم الله بالألف، واللام، والراء، إن هذا القرآن حق، وهو يبين لكم الحق من الباطل. وأقسم أنه رُبَّ يومٍ يأتي على الكافر يتمنى أنه ليت كان مؤمناً في الدنيا. يقول الكافر: يا ليتني كنت مؤمناً في الدنيا. أي: يوم القيامة. وذلك أن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب، ورأى حالاً من أحوال المسلمين، وَدَّ أن لو كان مسلماً. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال:
«يخرج من النار حين يقال: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. فيتمنى الكافر أن لو كان مؤمناً»، فذلك قوله رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.
وروي حماد بن أبي سليمان قال: سألت إبراهيم النخعي عن هذه الآية. قال: «نزلت في الكفار، يعيرون أهل التوحيد ويقولون: ما أغنى عنكم إيمانكم، وأنتم معنا، فيغضب الله لهم، فيأمر الله النبيين والملائكة فيشفعون، فيخرج أهل التوحيد من النار، حتى إن إبليس يتطاول رجاء أن يخرج، ويتمنى الكافر أن لو كان مسلماً في الدنيا».
قال: حدّثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا محمد بن شوكر. قال: حدّثنا القاسم قال:
حدّثنا أبو حنيفة، عن يزيد بن صهيب، عن جابر بن عبد الله. قال: سألته عن الشفاعة. فقال:
«يعذب الله قوماً من أهل الإيمان، ثم يخرجهم منها بشفاعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. قلت له: فأين قوله:
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: ٣٧] قال: اقرأ ما قبلها إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا [غافر: ١٠] الآية. يعني: إن تلك الآية نزلت في الكفار. وقال مجاهد: إذا أخرج من
النار من قال لا إله إلا الله، فعند ذلك يقولون: يا ليتنا كنا مسلمين، وعن أبي العالية مثله.
ثم قال تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا يقول: اتركهم وخلّ عنهم يا محمد في الدنيا يأكلوا ويتمتعوا يَأْكُلُوا كالأنعام، وَيَتَمَتَّعُوا بعيشهم في الدنيا، لا تهمهم الآخرة ولا يعرفون ما في غد وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يعني: يشغلهم الأمل الطويل عن الطاعة، وعن ذِكْرِ الله تعالى. ويقال: يشغلهم طول الأمل عن الطاعة، وذكر الأجل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهذا وعيد لهم، أي يعرفون ما نزل بهم من العذاب والشدة يوم القيامة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤ الى ٩]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ يعني: أهل قرية إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ أي: أجلاً مؤقتاً، ووقتاً معروفاً مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها يعني: لا يموت أحد قبل أجله وَما يَسْتَأْخِرُونَ بعد أجلهم طرفة عين. وَقالُوا يعني: أهل مكة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي: الذي يزعم أنه ينزل عليه القرآن إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ نزلت في عبد الله بن أُمية لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ يعني: هلّا تأتينا بالملائكة، فتخبرنا بأنك رسول الله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بأنك نبي مرسل، وإن العذاب نازل بنا.
قال الله تعالى: مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي: بالوحي والعذاب وبقبض الأرواح، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ يعني: إذا نزلت عليهم الملائكة، لا يؤجلون بعد نزول الملائكة. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص: مَا نُنَزِّلُ بالنون، وتشديد الزاي، ونصب الْمَلائِكَةَ من قولك: نزل ينزل. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر مَا تُنَزَّلَ بالتاء، والضم، ونصب الزاي مع التشديد، على معنى فعل ما لم يسم فاعله. وقرأ الباقون مَا تُنَزَّلَ بنصب التاء، وتشديد الزاي، فجعل الفعل للملائكة.
ثم قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي: القرآن وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ يعني: القرآن، ويقال:
محمدا صلّى الله عليه وسلّم من القتل. وقال قتادة: يعني: القرآن يحفظه الله تعالى، من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً، أو يبطل منه حقّا. وكذلك قال مقاتل.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٠ الى ١٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥)
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يعني: قد أرسلنا قَبْلِكَ يا محمد رُسُلاً فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي: في أمم وقرون الأولين قبل أمتك وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: كانوا يسخرون منهم كما سخر منك قومك كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ قرأ بعضهم نَسْلُكُهُ بضم النون، وكسر اللام. وقراءة العامة: بنصب النون، وضم اللام. وهما لغتان. يقال: سلكت الخيط في الإبرة، إذا أدخلته فيها. ومعناه: هكذا ندخل الإضلال في قلوب المجرمين أي: المشركين عقوبة ومجازاة لكفرهم. ويقال: معناه هكذا نطبع على قلوب المجرمين. ويقال: نجعل حلاوة التكذيب بالعذاب. ويقال: للشرك في قلوب المشركين الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني: لا يصدقون بالله. ويقال: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويقال:
بالعذاب إنه غير نازل بهم. وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي: مضت بالعذاب عند التكذيب.
ويقال: تقدمت سيرة الأولين بالهلاك.
قوله عز وجل: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ أي: فصاروا يصعدون فيه وينزلون، يعني: الملائكة، ويراهم المشركون، وهم أهل مكة لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا يقول: أخذت، وأغشيت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أي: ولقالوا سحرنا فلا نبصر. وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال: «لو فتح الله عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء، فظلت الملائكة يعرجون فيه لقالوا: أخذت أبصارنا». قرأ ابن كثير سُكِّرَتْ بالتخفيف. وهكذا قرأ الحسن.
وقرأ الباقون بالتشديد. وقال القتبي: سُكِّرَتْ بالتشديد أي: غُشِّيَتْ. ومنه يقال: سُكِّر النهر إذا سدّ، ومنه إذا أسكر الشراب وهو الغطاء على العقل. ومن قرأ سُكِّرَتْ بالتخفيف أي:
سحرت، يعني: إنهم لا يعتبرون به، كما لم يعتبروا بانشقاق القمر حين رأوه معاينة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ الى ٢١]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١)
ثمّ قال: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً أي: نجوماً. ويقال: هي القصور في السماء.
وقال الضحاك وسعيد بن المسيب ومجاهد: «هي النجوم» وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ أي: زينا السماء بالكواكب لمن نظر إليها وَحَفِظْناها يعني: السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي: مرجوم، ويقال: ملعون مبعد من الرحمة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ أي: لكن من اختلس السمع خلسة
فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أي: لحقه نجم حار متوهج متوقد، لا يخطئه الشهاب أن يصيبه. فإما أن يأتي على نفسه، وإمّا أن يخبله، حتى لا يعود إلى الاستماع إلى السماء.
وقال ابن عباس: «إن أهل الجاهلية من الكهنة قالوا: لا يكون كاهن إلا ومعه تابع من الجن، فينطلق الشياطين الذين كانوا مع الكهنة، فيقعدون من السماء مقاعد السمع، ويستمعون إلى ما هو كائن في الأرض من الملائكة، فينزلون به على كهنتهم فيقولون: إنه قد كان كذا وكذا من الأمر، فتفشيه كهنتهم إلى الناس، فيتكلمون به قبل أن ينزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإِذا تكلم به النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: قد علمنا قبله وكانت الشياطين لا تحجب عن الاستماع في السموات حتى بعث عيسى ابن مريم، فمنعوا من ثلاث سماوات، وكانوا يصعدون في أربع سماوات، فلما بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منعوا من السموات السبع، وكان الشيطان المارد منهم يصعد، ويكون آخر أسفل منه، فإذا استمع قال للذي أسفل منه: قد كان من الأمر كذا وكذا، فيهرب الأسفل، ويرمي الذي استمع بالشهاب، ويأتي الأسفل بالأمر الذي سمع إلى كهنتهم، فذلك قوله: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.
ثم قال: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها يقول: بسطناها على الماء وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي:
الجبال الثوابت لكي لا تتحرك من أمكنتها وَأَنْبَتْنا فِيها أي: في الجبال مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي: مقسوم معلوم. ويقال: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مما يخرج من الجبال من:
الحديد، والرصاص، والفضة، والذهب. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي: من الزرع والنبات.
ويقال: وَأَنْبَتْنا فِيها أي: في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي: معدود من الحبوب وغيره. وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ أي: خلقنا فيها معايش البهائم، والوحوش، والطيور، يعني:
أنتم لستم ترزقونها، وأنا أرزقها.
قوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي: مفاتيح رزقه. ويقال: علمه، كقوله:
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: ٥٩] وهو المطر وَما نُنَزِّلُهُ أي: المطر إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي:
بكيل ووزن معروف. قال ابن عباس: «أي، يعلمه الخزان إلا يوم الطوفان الذي أغرق الله به قوم نوح، فإِنه طغى على خزانه، وخرج وكثر فلم يحفظوا ما خرج منه يومئذ، وخرج أربعين يوما»
.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥)
قوله عز وجل: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ قال: بعث الله الريح، فتلقح السحاب، ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر، هذا قول ابن مسعود. وقال ابن عباس في قوله: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أي: ملقحات تلقّح الأشجار. وقال قتادة: لَواقِحَ أي: تلقح السحاب،
وهكذا قال الكلبي. قرأ حمزة: وَأَرْسَلْنَا الريح بلفظ الوحدان، وقرأ الباقون: بلفظ الجماعة.
ثم قال: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ يعني: بماء المطر فأرويناكم به وحبستم الماء في الغدران والحياض، لتسقوا الضياع والمواشي وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ أي: بمالكين وحافظين. ويقال: ليس مفاتيحه بأيديكم.
ثم قال عز وجل: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ أي: نحيي للبعث، ونميت في الدنيا.
ويقال نُحْيِي الأرض بالمطر أيام الربيع، ونميتها أيام الخريف وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي:
المالكون. ويقال: معناه يهلك الخلق، ويبقي الرب تبارك وتعالى.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ أي: الأموات وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ يعني: الأحياء. ويقال: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ في الصف الأول، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ في الصف الآخر. وروى أبو الجوزاء، عن ابن عباس أنه قال:
«كانت امرأة حسناء تصلي خلف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكان بعض القوم يتقدم في الصف الأول لكي يراها، ويتأخر بعضهم. فإذا ركع، نظر من تحت إبطيه، فنزلَ: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ويقال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حرض الناس على الصف الأول، وكان قوم بيوتهم قاصية من المسجد، فقالوا: لنبيعن دورنا ونشتري دوراً قريبة من المسجد حتى ندرك الصف الأول، فصارت الديار البعيدة خالية، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «مَنْ أَتَى المَسْجِدَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ آثارُهُ وَيُكْتَبُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةٍ، وتُرْفَعُ لَهُ كَذَا وَكَذَا دَرَجَةٍ» فجعل الناس يشترون الدور البعيدة من المسجد لكي يكتب لهم آثارهم، فنزل: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وإنما يؤجرون بالنية، فاطمأنوا وسكنوا. وقال مجاهد: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ أي: ما مضى وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ما بقي من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال قتادة:
الْمُسْتَقْدِمِينَ آدم ومن مات قبل نزول هذه الآية. والْمُسْتَأْخِرِينَ من لم يخلق بعد، كلهم قد علمهم. وقال الحسن: الْمُسْتَقْدِمِينَ في الخير، والْمُسْتَأْخِرِينَ، يقول: المبطئين.
قوله: وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ يوم القيامة إِنَّهُ حَكِيمٌ حكم بحشر الأولين والآخرين عَلِيمٌ بهم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي: آدم مِنْ صَلْصالٍ أي: من طين يتصلصل إذا مشيت عليه يتقلقل، وإذا تركته يتفلّق، مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي: من طين أسود منتن. وقال الأخفش: أي من طين مصبوب. ويقال: مَسْنُونٍ أي: متغير الرائحة كقوله لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة: ٢٥٩]. ويقال: الذي أتت عليه السنون. وقال القتبي: الصلصال الطين اليابس الذي لم تصبه نار، إذا ضربته صوّت، وإذا مسته النار فهو فخار. والمسنون: المتغير الرائحة،
والحمأ: جمع حمئة وهو الطين المتغير وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ وهي نار لا دخان لها، وهم في الأرض مع إبليس سكان الأرض.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٨ الى ٣٥]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قوله عزّ وجلّ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً يعني: قال ربك للملائكة سأخلق خلقاً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي: جمعت خلقه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي أي: جعلت الروح فيه فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي: فخرّوا له سجّدا فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ سجدة تحية لا سجدة عبادة وكانت التحية لآدم عليه السلام، والعبادة لله تعالى. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ روي عن الخليل أنه قال: أَجْمَعُونَ على معنى توكيد بعد توكيد. وذكر عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال: معناه سجدوا كلهم في حالة واحدة. وقال الزجاج: الأول أجود، لأن أجمعين معرفة، ولا يكون حالا. إِلَّا إِبْلِيسَ قال بعضهم: لكن إبليس لم يكن من الساجدين، لأن إبليس لم يكن من الملائكة، فلا يكون الاستثناء من غير جنس ما تقدم، بدليل قوله: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: ٥٠]. وقال بعضهم: استثنى إبليس من الملائكة، وكان من جنسهم، إلا أنه لما لم يسجد لعن وغيّر عن صورة الملائكة فذلك قوله إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي: تعظم عن السجود لآدم مع الملائكة قوله عز وجل قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي: مع الملائكة قالَ إبليس لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي: من الأرض. ويقال: من الجنة فَإِنَّكَ رَجِيمٌ أي: ملعون مطرود، فألحقه بجزائر البحور وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ أي طرد من رحمته إلى يوم الحساب.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)
قوله: قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي: أجلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي: من المؤجلين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ أي: النفخة الأولى قالَ رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي
يقال: معناه، بإغوائك إياي ويقال: أضللتني عن الهدى لأجل آدم. قال القتبي: أي بالذي أَغْوَيْتَنِى لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ما في الأرض من الشهوات واللذات وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أي لأضلنهم عن الهدى أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام أي: المخلصين في العبادة، ويقال: الموحدين.
وقرأ الكسائي ونافع وحمزة وعاصم: الْمُخْلَصِينَ بنصب اللام أي: المعصومين من الشرك.
قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر. قال: حدثنا أبو القاسم. قال: حدثنا محمد بن سلمة.
قال: حدثنا أحمد بن عبد الله. قال: حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن هشام، عن الحسن قال.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لَمَّا لُعِنَ إِبْلِيسُ، قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لا أُفَارِقُ قَلْبَ ابنِ آدَمَ حَتَّى يَمُوتُ». قال:
قيل له: «وعزتي لا أحجب عنه التوبة، حتى يغرغر بالموت» «١».
ثم قال عز وجل: قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ أي: هذا التوحيد صراط مُسْتَقِيمٌ وعلى دلالته، وهذا قول الحسن. ويقال: معناه على ممر من أطاعك، ومن عصاك. كقوله إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤] ويقال: معناه هذا بيدي، لا بيدك. وقال الضحاك: هذا سبيل الله عليّ مستقيم، أي: عليّ هدايته ودلالته كقوله وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: ٩] وروي عن ابن سيرين: أنه كان يقرأ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ بكسر اللام، ورفع الياء مع التنوين، ومعناه:
هذا صراط رفيع مستقيم، وهو قول قتادة، أي: طريق شريف لا عوج فيه.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
قوله عز وجل: إِنَّ عِبادِي أي: عبادي الَّذين لا يطيعونك لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: حجة ولا ملكا، ولا أسلطك عليهم. كقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: ٩٩].
ثم قال تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي: من أطاعك من الكافرين. ويقال: معناه إنما نفاذ دعوتك ووسوستك لمن اتبعك من المشركين.
ثم بيّن مصير من اتبعه ومصير من لم يتبعه فقال: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي:
لمصير من اتبعه لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي: سبعة منازل لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي: لكل منزل صنف ممن يعذب من الكفار، على قدر منزلته من الذنب، نصيب معروف. أسفلها هاوية وهي لآل فرعون، ولأصحاب المائدة الذين كفروا بعيسى، وللمنافقين، والزنادقة. والثانية:
لظى وهي منزلة المجوس والثنوية الذين قالوا بإلهين. والثالثة: سقر وهي منزلة المشركين وعبدة
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٧٩ إلى ابن أبي حامد وابن مردويه.
الأوثان. والرابعة: الجحيم، وهي منزلة اليهود الذين كذبوا الرسل، وقتلوا أنبياء الله بغير حق.
والخامسة: الحطمة وهي منزلة النصارى الذين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا قولاً عظيماً.
والسادسة: السعير وهي منزلة الصابئين، ومن أعرض عن دين الإسلام وخرج منه. والسابعة:
جهنم وهي أعلى المنازل، وعليها ممر الخلق كلهم، وهي منزل أهل الكبائر من المسلمين. قال ابن عباس، في رواية أبي صالح: «الباب الأول جهنم، والثاني السعير، والثالث سقر، والرابع جهنم، والخامس لظى، والسادس الحطمة، والسابع الهاوية». وقال بعضهم: جهنم اسم عام يقع على الإدراك كلها، والأول أصح: إن جهنم اسم لا يقع على الإدراك، وهكذا روي عن جماعة من الصحابة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨)
ثم قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي: الذين يتقون الشرك والفواحش، ويتقون إجابة الشيطان في بساتين، وعيون ظاهرة، ادْخُلُوها أي: الجنة بِسَلامٍ أي:
مسلمين، ويقال: سالمين، ناجين من العذاب. آمِنِينَ أي: من الموت والخوف.
قوله: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: من حسد وعداوة كانت بينهم في الدنيا، ويكونون في الآخرة إِخْواناً صار نصباً على الحال عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ أي: متزاورين متحدثين. وروى سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، أن علياً قال: «أرجو أن أكون أنا وطلحة، والزبير، من الذين قال الله فيهم: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «١» وروى ربعي بن خراش قال: قام رجل من همدان فقال: يا أمير المؤمنين: الله أعدل من ذلك، فصاح به عليٌ فقال: «إذا لم نكن نحن فمن هم» ؟ ثم قال: لاَ يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ يقول: لا يصيبهم في الجنة تعب، ولا مشقة وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي: من الجنة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٦]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣)
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦)
قوله عز وجل: نَبِّئْ عِبادِي أي: أخبر عبادي يا محمد أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ لمن تاب منهم وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ لمن مات على الكفر، ولم يتب. قال: حدّثنا أبو
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٨٥ إلى ابن جرير وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه.
جعفر. قال: حدثنا إسحاق بن عبد الرحمن. قال: حدثنا محمد بن شاذان الجوهري. قال:
حدثنا محمد بن مقاتل. قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك. قال: حدّثنا مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد، عن عطاء، عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اطلع علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، ونحن نضحك، فقال: «أَتَضْحَكُونَ؟» ثم قال: «لا أُرَاكُمْ تَضْحَكُونَ» ثم أدبر فكأن على رؤوسنا الرخم، حتى إذا كان عند الحجر، ثم رجع إلينا القهقري فقال: «جَاءَ جِبْرِيلُ. فقال: يا محمد إن الله تَعَالَى يَقُولُ: لِمَ تقنط عبادي؟ «١» نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» وقال قتادة: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو يعلم العَبْدُ قَدَرَ رَحْمَةِ الله، مَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ قطّ، ولو علم قَدَرَ عُقُوَبةِ الله، لَبَخَعَ نفسه». أي:
أهلك نفسه في عبادة الله تعالى.
ثم قال: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ أي: عن أضياف إبراهيم إلا أن هذا اللفظ مصدر، والمصدر لا يثنى ولا يجمع، وذلك حين بعث الله تعالى جبريل في اثني عشر من الملائكة.
قوله: إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أي: على إبراهيم فَقالُوا سَلاماً أي: فسلموا عليه. فرد عليهم السلام. كما قال في موضع آخر فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [الذاريات: ٢٥] وقال الكلبي: فأنكرهم إبراهيم في تلك الأرض، لأنهم لم يطعموا من طعامه. قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي: خائفين قالُوا لاَ تَوْجَلْ أي: لا تخف منا، وبشروه، فقالوا: إِنَّا نُبَشِّرُكَ قرأ حمزة نُبَشِّرُكَ بجزم الباء، مع التخفيف. ونصب النون، وضم الشين. وقرأ الباقون بالتشديد بِغُلامٍ عَلِيمٍ أي:
بإسحاق عَلِيمٍ في صغره، حليم في كبره، قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ أي: بعد ما أصابني الكبر والهرم فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قرأ نافع تُبَشِّرُونَ بكسر النون مع التخفيف، لأن أصله:
تبشروني بالياء، فأقيم الكسر مقامه. وقرأ ابن كثير فَبِمَ تُبَشِّرُونَ بكسر النون مع التشديد، لأنه في الأصل بنونين، فأدغم إحداهما في الأخرى مثل قوله تَأْمُرُونِّي وتُحاجُّونِّي
في الأصل. وقرأ الباقون تُبَشِّرُونَ بنصب النون مع التخفيف، لأنها نون الجماعة. وقال أبو عبيدة: هذا أعجب إليّ لصحتها في العربية قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالولد. ويقال: بالصدق فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي: من الآيسين من الولد. ويقال: من نعم الله قالَ إبراهيم وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ أي: من نعمة ربه إِلَّا الضَّالُّونَ أي: الجاهلون. قرأ الكسائي، وأبو عمرو، يَقْنَطُ بكسر النون، وقرأ الباقون يَقْنَطُ بالنصب، ومعناهما واحد.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٥٧ الى ٦٥]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١)
قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥)
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٨٦ إلى ابن جرير وابن مردويه.
ثم قال: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي قال إبراهيم: ما حالكم، وشأنكم، وبماذا جئتم، قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي: مشركين. قال إبراهيم: من هم؟ قالوا: قوم لوط. قال إبراهيم: أتهلكونهم، وفيهم لوط؟ فقالوا: إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني: ابنتيه زعورا وريثا.
ويقال: امرأة له أخرى غير التي أهلكت إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ قرأ حمزة والكسائي إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ بالتخفيف، وقرأ الباقون: بنصب النون، وتشديد الجيم. من أنجى، ينجي، وَنَجَّى، ينجي، بمعنى واحد إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا عليها الهلاك إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي لمن المتخلفين للهلاك. قرأ عاصم في رواية أبي بكر قَدَّرْنا بالتخفيف، وهو من القدر. وقرأ الباقون:
بالتشديد، وهو من التقدير.
قوله عز وجل: فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: لما دخلوا عليه، أنكرهم ولم يعرفهم قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: بما كانوا يشكون من نزول العذاب بهم وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي: بالعذاب، وهو العدل والصدق وَإِنَّا لَصادِقُونَ بأن العذاب نازل بهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي: في بعض الليل. قرأ ابن كثير ونافع فَأَسْرِ بجزم الألف، والباقون بالنصب، سريت وأسريت إذا سرت ليلاً وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ يقول: امش وراءهم وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ. لا يتخلف منكم أحد وَامْضُوا أي: انطلقوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي إلى المدينة وهي مدينة زغر.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦٦ الى ٧١]
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١)
قوله: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أي أمرناه بالخروج إلى الشام إلى مدينة زغر أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ أي: إنهم مستأصلون عند الصباح.
ثمّ قال: وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ بدخول الرجال منزل لوط قالَ لوط إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي يقول: أضيافي فَلا تَفْضَحُونِ فيهم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ أي: لا تذلوني في أضيافي قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي: ألم ننهك أن تضيف أحداً من الغرباء قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أي: بنات قومي أزوجكم بهنّ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي: فتزوجوا النساء، فإن الله تعالى خلق النساء للرجال، وأمر بتزويجهن.

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٩]

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩)
ثمّ قال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: بحياتك يا محمد، إنهم لفي جهالتهم وضلالتهم يَعْمَهُونَ أي: يترددون، ويتجبرون. يعني: إن أهل مكة يسمعون هذه العجائب، ولا تنفعهم، وهم على جهلهم مصرون. قال الفقيه: حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا ابن معاذ. قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبان، عن سعيد بن زيد، عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس أنه قال: «مَّا خَلَقَ الله نفساً أكرم على الله من محمد صلّى الله عليه وسلّم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره. فقال لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ.
ثم رجع إلى قصة قوم لوط فقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ أي: أخذتهم صيحة جبريل عند طلوع الشمس، وذلك أن جبريل قلع الأرض وقت الصبح، فرفعها مع الملائكة إلى قريب من السماء، ثم قلبها وأهواها إلى الأرض، وصاح بهم وقت طلوع الشمس فذلك قوله: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وقد ذكرناها إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في هلاك قوم لوط لَآياتٍ أي: علامات لِلْمُتَوَسِّمِينَ يقول: للمتفكرين.
وقال قتادة: للمعتبرين. وقال الضحاك: للناظرين. وقال مجاهد: للمفترسين. قال الفقيه:
حدثنا الخليل بن أحمد. قال: حدثنا أبو يعقوب. قال: حدّثنا عمار بن الربيع الباهلي، عن أبي صالح بن محمد، عن محمد بن مروان، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اتّقُوا فَرَاسَةَ المُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ الله»
«١». ثم قرأ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وقال الزجاج: حقيقته في اللغة، النظار المثبتون في نظرهم، حتى يعرفوا حقيقة سمة الشيء. يقال: توسمت في فلان كذا وكذا أي: عرفت ذلك من هيئته.
ثم قال: وَإِنَّها أي: قريات لوط لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي: بطريق واضح بيّن يرونها حين مروا بها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في هلاك قوم لوط لَآيَةً أي لعلامة وعبرة لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ كانَ يقول: وقد كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أي: أصحاب الغيضة، والغيضة والأيكة: الشجرة، وهم قوم شعيب. قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا أهل غيضة. وقال بعضهم: بعث شعيب إلى قومين:
أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة، وقال بعضهم: آل مدين والأيكة واحد، لأن الأيكة كانت عند مدين، وهذا أصح لَظالِمِينَ أي: لكافرين.
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٩٠- ٩١ إلى البخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبي نعيم، وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري. وعن ابن جرير عن ابن عمر وعن ثوبان.
قوله: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالعذاب وَإِنَّهُما أي: قريات لوط وشعيب لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح. وقال القتبي: أصل الإمام ما يؤتم به. قال الله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً أي: يؤتم، ويقتدى بك، ثم تستعمل لمعاني منها: يسمّى الكتاب إماماً، لأنه يؤتم بما أحصاه الكتاب. قال الله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: ٧١] أي: بكتابهم.
وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢] أي: في اللوح المحفوظ. وهو الكتاب. ويسمّى الطريق إماماً، لأن المسافر يأتم به، ويستدل به. قال الله تعالى: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي: بطريق واضح. أي: قرية شعيب وقريات قوم لوط، عليهما السلام.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وهم قوم صالح، كذبوا صالحاً، والحجر: أرض ثمود وَآتَيْناهُمْ آياتِنا أي: الناقة فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يقول: مكذبين لها وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من أن تقع عليهم الجبال. ويقال: آمِنِينَ من نزول العذاب، فلم يعرفوا نعمة الله تعالى. فعقروا الناقة، وقسموا لحمها، فأهلكهم الله تعالى بصيحة جبريل فذلك قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أي: حين أصبحوا ويقال: آمِنِينَ من العذاب بعقر الناقة فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والشرك.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦)
قوله عز وجل: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي: للحق. والباء توضع موضع اللام، أي: لينظر عبادي إليها فيعتبروا. ويقال: وما خلقناهما إلا عذراً وحجة على خلقي، وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أي: لكائنة، لا محالة فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ أي: اعرض عنهم إعراضاً جميلاً بلا جزع منك إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ أي: عليماً بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن، ويقال الْعَلِيمُ متى تقوم الساعة.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٨٧ الى ٩١]
وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)
قوله: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي أي: فاتحة الكتاب وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أي: سائر القرآن، وهذا قول: ابن عباس، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود وروى مجاهد عن ابن عباس
261
أنه قال: «السبع المثاني، السبع الطوال». وعن سعيد بن جبير قال: «البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس». قال: «لأنه يثني فيها حدود الفرائض والقرآن». ويقال: السبع المثاني، والقرآن كله وهو سبعة أسباع. سمي مثاني: لأن ذكر الأقاصيص فيه مثنى كقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: ٢٣] وقال طاوس: «القرآن كله مثاني». وقال أبو العالية: «المثاني، فاتحة الكتاب سبع آيات، وإنما سمي مثاني، لأنه يثنى مع القرآن كلما قرئ القرآن». قيل إنهم يزعمون أنها السبع الطوال. قال: لقد أنزلت هذه الآية، وما أنزل شيء من الطوال. وسئل الحسن عن قوله: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حتى أتى على آخرها. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الحمد لله رَبِّ العَالَمِينَ أُمُّ الكِتَابِ وَأَمُّ القُرْآنِ وَالسَّبْعُ المَثَانِي». وقال قتادة: السبع المثاني هي فاتحة الكتاب تثنى في كل ركعة مكتوبة أو تطوع، يعني: في كل صلاة. ويقال: مِنَ الْمَثانِي أي: مما أثني به على الله تعالى، لأن فيها حمدَ الله تعالى وتوحيده ومِنَ هاهنا على ضربين: يكون للتبعيض من القرآن أي: أعطيناك سبع آيات من جملة الآيات التي يثنى بها على الله تعالى، وآتيناك القرآن العظيم، ويجوز أن يكون السبع هي المثاني كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] أي: اجتنبوا الأوثان.
قوله: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي: لا تنظرن بعين الرغبة إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أي: إلى ما أعطيناك في الدنيا من القرآن خير وأفضل مما أعطيناهم من الأموال، فاستغن بما أعطيناك من القرآن والدين والعلم، ولا تنظر إلى أموالهم. أَزْواجاً مِنْهُمْ أي: أصنافاً منهم، وألواناً من الأموال، وقوله: مِنْهُمْ أي أعطينا رجلا من المشركين منهم وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي: على كفار مكة إن لم يؤمنوا، لأن مقدوري عليهم الكفر. ويقال: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن نزل بهم العذاب وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ يقول: ليّن جناحك عليهم أي: تواضع للمؤمنين وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أخوفكم بعذاب مبين، بلغة تعرفونها.
قال عز وجل: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي: كما أنزلنا العذاب عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الذين اقتسموا على عقاب مكة، ليردوا الناس عن دين الإسلام، وعن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
ويقال: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ بالقرآن، كما أنزلنا التوراة والإنجيل على المقتسمين، وهم اليهود والنصارى، اقتسموا فآمنوا ببعض وكفروا ببعض. وقال مجاهد: هم اليهود والنصارى، فرقوا القرآن، آمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه. ويقال: إن أهل مكة قالوا أقاويل مختلفة. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي: فرقوا القول فيه. قال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: شعر، وهذا قول قتادة. ويقال: أصله في اللغة الفرقة. يقال: فرّقوه أي: عضوه أعضاء. يقال: ليس دين الله بالتعضية أي: بالتفريق. وروى الضحاك، عن ابن عباس، أنه قال: «جزّءوه وجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور».
262

[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٢ الى ٩٦]

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
ثم قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أقسم بنفسه ليسألنهم يوم القيامة عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الشرك، وعن ترك قول: لا إله إلا الله، وعن الإيمان بالله، والرسول فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي: أظهر أمرك، وامض، لما أمرتك وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي: اتركهم حتى يجيء أمر الله تعالى. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل نزول هذه الآية مستخفياً لا يظهر شيئاً مما أنزل الله عليه، حتى نزلت هذه الآية، فأعرض عن المشركين.
قوله عز وجل: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ أي: أظهر أمرك، فقد أهلك الله المستهزئين، وهم خمسة رهط، فأهلكوا كلهم في يوم وليلة، وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أراد الخروج إلى الموسم أيام الحج ليدعو الناس، فمنعه المستهزئون، وبعثوا على كل طريق رجلاً، فإذا سألهم أحد من الغرباء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قالوا: هو ساحر كاهن. ثم قالوا: هذا دأبنا كل سنة، فشقّ على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأهلكهم الله تعالى، منهم الوليد بن المغيرة. فنزل جبريل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
كيف تجد هذا؟ فقال: «بِئْسَ الرَّجُلُ». فقال: كفيناكه. فمضى وهو يتبختر في ردائه، ويقال:
ببردته، فمر برجل يصنع السهام، فتعلق سهم بردائه، وأخذ طرف ردائه ليجعله على كتفه، فأصاب السهم أكحله، فنزف فمات.
ومنهم: العاص بن وائل السهمي، مرّ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فسأله عنه فقال: «بئس الرجل هو».
فقال: «كفيناكه» فوطئ على شوكة فتساقط لحمه عن عظامه، حتى هلك. ومنهم: الحارث بن حنظلة، أصاب ساقه شيء فانتفخ فمات. ومنهم: أسود بن عبد يغوث، أصابه العطش، فجعل يشرب الماء حتى انتفخ بطنه فمات. ومنهم: أسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزّى، ضربه جبريل بجناحه فمات. ويقال: خرج مع غلام له، فأتاه جبريل عليه السلام وهو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح برأسه الشجرة، ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال غلامه: لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك، حتى مات وهو يقول: قتلني رب محمد. وفي رواية الكلبي: أن أسود بن عبد يغوث، خرج من أهله، فأصابه السواد حتى عاد حبشياً، فأتى أهله فلم يعرفوه، وأغلقوا دونه الباب حتى مات «١».
وروي في خبر آخر أن العاص بن وائل السهمي، خرج في يوم مطير على راحلته مع ابنين له؟ فنزل شعباً من الشعاب، فلما وضع قدمه على الأرض، لدغت فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، فانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. وعن أبي بكر الهذلي أنه قال: قلت
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ٩٨ إلى ابن إسحاق وابن أبي حاتم والبيهقي، وأبي نعيم في الدلائل عن ابن عباس.
للزهري: إن سعيد بن جبير وعكرمة قد اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال سعيد: هو الحارث بن عيطلة. وقال عكرمة: هو الحارث بن قيس. فقال: صدقاً كانت أمه اسمها عيطلة، وأبوه قيس. ويقال: إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه عطش، فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقدّ فمات وهو يقول: قتلني رب محمد فنزل إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أي:
يقولون مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ماذا يفعل بهم، هذا وعيد لسائر الكفار.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من تكذيبهم إياك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يقول: صلِّ بأمر ربك. ويقال: استعن بعبادة ربك، ولا تشغل قلبك بهم وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: واستقم على التوحيد حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: الموت.
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل. قال: حدثنا محمد بن جعفر. قال: حدثنا إبراهيم بن يوسف. قال: حدثنا المحاربي، عن إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل، عن مسلم عن جبير بن نفير، عن أبي مسلم الخولاني أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا أَوْحَى الله تَعَالَى إَليَّ أَنْ أَجْمَعَ المال وأكون من التّجار، ولكن أَوْحَى إِليَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّىَ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ» «١» والله أعلم.
(١) عزاه السيوطي: ٥/ ١٠٥ إلى سعيد بن منصور وابن المنذر والحاكم في التاريخ وابن مردويه والديلمي.
Icon