تفسير سورة سبأ

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ﴾ يدخل ﴿فِي الأَرْضِ﴾ من ماء، وكنوز، ودفائن، وأموات ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من نبات وأقوات ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ﴾ من ماء، وأرزاق، وبركات، وخيرات، وصواعق، وسيول ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي وما يصعد إليها من أعمال العباد، ومن ملائكته تعالى؛ الذين ينزلون منها، ويعرجون إليها؛ بأمره جل شأنه
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ﴾ أي لا تقوم القيامة ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ كل ما غاب عن العلم والفهم ﴿لاَ يَعْزُبَ﴾ لا يغيب ﴿مِثْقَالَ﴾ وزن ﴿ذَرَّةٍ﴾ أصغر نملة تذروها الرياح؛ وهو مثال في نهاية الدقة والصغر ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ بين، وهو اللوح المحفوظ: كتب فيه تعالى ما خلق وما يخلق، وما رزق وما يرزق، وما دق، وما جل، وما عظم، وما حقر، ومن كفر ومن آمن، ومن عصى ومن أطاع؛ حتى قيام الساعة؛ و ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ ذلك
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ بإيمانهم وعملهم
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ بالرد والطعن
-[٥٢١]- ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ قرآننا الذي أنزلناه على محمد ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ مغالبين لنا، ظانين أنهم سينجون من عذابنا، مقدرين ألا بعث، ولا ثواب، ولا عقاب ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ الرجز: أسوأ العذاب
﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾ وهم مؤمنو أهل الكتاب؛ أن ﴿الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ القرآن ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾ هو ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ﴾ طريق ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب الذي لا يغلب ﴿الْحَمِيدِ﴾ المحمود في كل أفعاله
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ﴾ يعنون به محمداً ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ يخبركم أنكم ﴿إِذَآ﴾ متم و ﴿مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرقتم في قبوركم كل تفريق ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي ستخلقون يوم القيامة من جديد
﴿افْتَرَى﴾ استفهام؛ أي هل افترى بقوله هذا ﴿عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ جنون؛ فهو يعرف بما لا يعرف قال تعالى رداً على إفكهم وضلالهم ﴿بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ﴾ عن الحق في الدنيا
﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً﴾ قطعاً ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً﴾ برهاناً ﴿لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ راجع إلى الله بكليته
﴿يجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ أي رجعي التسبيح معه ﴿وَالطَّيْرُ﴾ أيضاً يسبح معه. قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ جعلناه ليناً كالطين المعجون، أو وفقناه إلى إلانته بواسطة الصهر، وعلمناه طرق صناعته، وتشكيله كما يريد
﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ دروعاً تامة؛ تغطي سائر البدن ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ أي في نسج الدروع. يقال لصانعها: سراد. ومعنى «وقدر» أي اجعل حلقاتها منسقة متناسبة ﴿وَاعْمَلُواْ صَالِحاً﴾ الخطاب لآل داود، وأمته؛ ويشمل الصلاح المأمور به: صلاح الأعمال والأفعال؛ من العبادات والصناعات سخرنا
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾ ﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ﴾
-[٥٢٢]- ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ أي جريها بالغداة مسيرة شهر، وكذلك جريها بالعشي ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ أي معدن النحاس: أذبناه له، أو وفقناه لطرق صهره، والانتفاع بصناعاته؛ كما وفقناه لصهر الحديد. والرأي الأول أولى؛ ليتفق مع المعجزة: فإلانة الحديد؛ وإذابة النحاس؛ بغير ملين، أو مذيب طبيعي: أدعى إلى الإعجاز، وتنبيه القلوب، ولفت الأنظار ﴿وَمَن يَزِغْ﴾ يعدل ويحد ﴿مَّحَارِيبَ﴾ مساجد، أو مساكن ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾
الجفان: جمع جفنة؛ وهي القصعة الكبيرة. والجوابي: جمع جابية؛ وهي الحوض الضخم
﴿اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ﴾ عملاً صالحاً ﴿شَاكِراً﴾ لله على ما آتاكم ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (انظر آية ٢٤ من سورة ص)
﴿دَابَّةُ الأَرْضِ﴾ هي الأرضة ﴿تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ عصاه. وقد مات عليه السلام وهو ممسك بها؛ وظل على ذلك الحال؛ إلى أن جاءت الأرضة فأكلت من العصا حتى كسرتها؛ وسقط جسده عليه السلام إلى الأرض ﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ ويؤخذ من ذلك أن أجساد الأنبياء عليهم السلام لا تبلى، ولا تأكلها الأرض؛ شأن كل الأجساد
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ سبأ: قبيلة باليمن سميت باسم جد لهم. وقيل: مدينة؛ وهي التي منها بلقيس ﴿جَنَّتَانِ﴾ لم يرد تعالى بالجنتين: جنتين اثنتين فحسب؛ بل أراد أن بلادهم كلها أشجار وثمار وبساتين. وإنما التثنية في أنها يمنة ويسرة؛ يؤيده قوله تعالى: ﴿عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أي حيثما سرت وجدت ﴿جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾
﴿فَأَعْرِضُواْ﴾ عن عبادة الله تعالى وطاعته ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ المطر الشديد؛ الذي يحطم كل ما يعترضه من أبنية، وأودية. و «العرم» السدود التي تبنى لتحجز المياه ﴿ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ أي ثمر مر، بشع. وقيل: هو كل شجر ذي شوك ﴿وَأَثْلٍ﴾ شجر طويل لا ثمر له ﴿وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ﴾ وهو شجر بري؛ له ثمر كالنبق؛ غير أنه مر الطعم، سام لا يؤكل ﴿ذلِكَ﴾ التبديل الذي بدلناهم به: التلف بعد الترف، والمر بعد الحلو، والداء بعد الشفاء
﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ أي بسبب كفرهم
-[٥٢٣]- ﴿وَهَلْ نُجْزِي﴾ بالشر بعد الخير، وبالعقاب بعد الثواب ﴿إِلاَّ الْكَفُورَ﴾
الذي أعرض عنا، ولم يقم بواجب شكرنا
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ وهي الشام: باركنا فيها بالماء والشجر، والزهر والثمر ﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ متتابعة؛ لا تنتهي من قرية حتى تبدو لك أخرى؛ ليستبين الفرق بين رضا الله تعالى وغضبه، وبين نعمته ونقمته ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا﴾ أي في هذه القرى ﴿السَّيْرَ﴾ فلا يكاد السائر يقبل في قرية؛ حتى يبيت في أخرى؛ فلا يحتاج إلى مزيد من الأمن والزاد؛ وهذا معنى قوله جل شأنه: ﴿سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ﴾ من الخوف والفزع، والجوع والعطش؛ فأطغتهم الراحة، وأبطرتهم النعمة، ونزغ الشيطان في نفوسهم؛ وتحرك الكفر الكامن في قلوبهم
﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ ملوا الراحة، وطلبوا الكد والتعب ﴿وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ بحرمانها من الثواب، وتعريضها للعقاب ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ يتحدث الناس بما حل بهم، ويعجبون من أحوالهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرقناهم في البلاد كل التفريق، وصيرناهم مضرباً للمثل؛ يقال: تفرقوا أيدي سبا، وذهبوا أيدي سبا ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ﴾ عظات ﴿لِّكُلِّ صَبَّارٍ﴾ كثير الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات ﴿شَكُورٍ﴾ كثير الشكرلله تعالى على أنعمه
﴿وَمَا كَانَ لَهُ﴾ أي لإبليس ﴿مِّن سُلْطَانٍ﴾ تسلط عليهم؛ ولكنهم ﴿نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ وما كان تسلط إبليس عليهم ﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ﴾ علم ظهور ويعمل لها؛ فلا يبالي بالشيطان ووسوسته، ولا يعبأ بالنفس وهواجسها:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهم
﴿مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ فليس بمستيقن حساباً، ولا ثواباً ولا عقاباً: فإذا بدت له فرصة كسب - من أي طريق - انتهزها، وإذا لاحت له بارقة لذة انغمس فيها، وإذا لوح له إبليس بما يسره اليوم ويضره غداً بادر إلى إجابته وطاعته؛ فأي شك في الآخرة أكبر من هذا الشك؟ بل وأي كفر ب الله أشد من هذا الكفر؟ ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ﴾ رقيب وعليم
﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم﴾ ألوهيتهم، وعبدتموهم ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ اطلبوا منهم أن يدفعوا عنكم ضراً أو أن يلحقوا بكم خيراً فإنهم لن يستجيبوا لكم؛ لأنهم ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ﴾ أي لا يملكون وزن نملة صغيرة في ملك الله الكبير ﴿وَمَا لَهُ﴾ جل شأنه ﴿مِنْهُمْ﴾ أي من هذه الآلهة ﴿مِّن ظَهِيرٍ﴾ من معين؛ بل هو وحده المعين الذي لا يعان عليه، المغيث الذي لا يغاث عليه
﴿وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ بها، وارتضاه شفيعاً فيمن أراد بفضله أن يمنحهم
-[٥٢٤]- رفده، ويعفو عن ذنوبهم؛ لسابقة خير أتوها، ويد برّ أسدوها ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ أي كشف الفزع، وزال عن قلوب الشافعين والمشفوع فيهم الرعب؛ بالإذن في الشفاعة، أو بقبولها من الشافعين في المشفوع لهم ﴿قَالُواْ﴾ أي قال الشفعاء لبعضهم، أو قال الأنبياء - وهم الذين يأذن الله تعالى لهم بالشفاعة - للملائكة الذين يبلغون أمر ربهم؛ قالوا لهم ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾ في شأن شفاعتنا للعصاة من أممنا؟ ﴿قَالُواْ﴾ قال ﴿الْحَقِّ﴾ الذي ارتضاه وكتبه على نفسه ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ وقد أذن بكرمه وفضله لكم في الشفاعة ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ﴾ المتعالي فوق خلقه بالقهر ﴿الْكَبِيرُ﴾ العظيم؛ الذي كل شيء - مهما عظم - دونه
﴿وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ﴾
أي ونحن أو أنتم ﴿لَعَلَى هُدًى﴾ من الله ﴿أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أيّ تلطف هذا من الله تعالى بعبيده؟ وأي منطق تشرئب له الأعناق، وتنخلع له القلوب؟ يأمر الله تعالى أهدى الهداة؛ بأن يخاطب أعتى العتاة، وأعصى العصاة؛ بقوله: إن الخلاف بيننا لا يعدو إحدى اثنتين: إما أن أكون أنا على هدى، أو في ضلال مبين؛ وأنتم كذلك. فإذا ما تبصر المخاطب في هذا الجدل الرقيق الرفيق؛ الذي إن دل على شيء؛ فإنما يدل على الحقيقة المجردة من كل زيف، والقوة المجردة من كل قسوة، واطمئنان الواثق، ووثوق المطمئن. وإذا ما تدبر المخاطب المعاند أنه لا أحد يرزقه من السموات والأرض سوى الله تعالى، وأن معبوده المزعوم لا يخلق شيئاً؛ بل يخلقه العابد له بيديه، وأنه لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأن الذي يخاطبه يسانده المنطق لا القوة، وتؤيده البراهين والآيات؛ لا الأكاذيب والترهات؛ وأنه - ولا شك - مرسل من عند الله الحق؛ ليخرجه من الظلمات إلى النور، وينجيه من عذاب السعير إذا تدبر المخاطب كل ذلك: علم أنه على ضلال وأي ضلال؛ وأن الرسول على هدى وأي هدى
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا﴾ أي يحكم
﴿شُرَكَآءَ﴾ في العبادة ﴿كَلاَّ﴾ ردع لهم عن اتخاذ الشركاء للملك الحق
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ بالقيامة والبعث، والثواب والعقاب
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ ولن نصدق أنه منزل من عند الله ﴿وَلاَ﴾ نؤمن ﴿بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي ما تقدمه من الكتب؛ كالتوراة والإنجيل ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ﴾ أي محبوسون ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ﴾ الأتباع والضعفاء ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ﴾ السادة والرؤساء ﴿لَوْلاَ أَنتُمْ﴾ وإضلالكم لنا ﴿لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ وفي عداد الناجين
﴿أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ﴾ منعناكم ﴿عَنِ الْهُدَى﴾ الإيمان، أو القرآن، أو هما معاً؛ وهو استفهام إنكاري. أي لم نصدكم عن الهدى، ولم نكرهكم على الكفر
﴿بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أصل المكر: الاحتيال والخديعة. أي بل مكركم بنا ليلاً ونهاراً، أو كفركم أمامنا ليلاً ونهاراً؛ وهو الذي صدنا ومنعنا عن الهدى؛ وذلك لأن العمل الظاهر: فيه معنى الأمر بمثله؛ فمن يكفر: يكن قدوة لغيره في الكفر، ومن يفسق يكن قدوة لغيره في الفسق ﴿أَندَاداً﴾ أمثالاً وأشباهاً ﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ﴾ أي أظهروها؛ وهو من الأضداد: يكون بمعنى الإخفاء والإبداء. أو هو مشتق من الأسارير؛ وهي محاسن الوجه، والخدان؛ أي بدت الندامة وظهرت على أساريرهم؛ مما يعتري وجوههم من الانقباض والأسى والحزن
﴿مُتْرَفُوهَآ﴾ رؤساؤها ومتنعموها
﴿وَقَالُواْ﴾ أي الكفار المترفون المتنعمون ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً﴾ من المؤمنين الفقراء ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ توهماً منهم أن الأموال والأولاد هي منجاة لهم في الآخرة؛ كما كانت منجاة لهم في الدنيا
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ في الدنيا ﴿لِمَن يَشَآءُ﴾ من عباده: كافراً كان أو مؤمناً، طائعاً أو عاصياً؛ وكثيراً ما يعطي من يبغض، ويمنع من أحب ﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويقبض عمن يشاء. وقد رد الله تعالى على هؤلاء المحتجين بغناهم، المحتجبين عن مولاهم؛ بقوله:
﴿وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى﴾ الزلفى: القربى والمنزلة. أي تقربكم عندنا منزلة ﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي إلا الإيمان والعمل الصالح؛ فهما وحدهما مقياس القرب من حضرة الرب ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ المؤمنون الصالحون ﴿لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ﴾ أي نضاعف لهم جزاء حسناتهم
-[٥٢٦]- ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ﴾ أعالي الجنة ﴿آمِنُونَ﴾ من العذاب، ومن انقطاع النعيم
﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا﴾ القرآن: يسعون في إبطاله، وإنكاره، والطعن فيه ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ مغالبين لنا، ناسبين العجز إلينا
﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويقبض ﴿وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ أي ما أنفقتم في سبيله تعالى، ومن أجل مرضاته؛ فإنه جل شأنه يعوضه لكم، ويرزقكم أضعافه. وقد ورد أن ملكاً في السماء يدعو «اللهم أعط منفقاً خلفاً، وممسكاً تلفاً» ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ لأن المخلوق يرزق الآخر لحاجة منه إليه، أو لرغبة يبتغيها عنده. أما «خير الرازقين» فيرزق بلا حاجة، ويعطي بلا مقابل
﴿قَالُواْ سُبْحَانَكَ﴾ تعاليت وتقدست، وتعاليت عن المثل، والشبيه، والنظير ﴿أَنتَ وَلِيُّنَا﴾ خالقنا، ومعيننا، وكافينا؛ الذي نخلص له في العبادة؛ فكيف نرتضي أن نعبد من دونك؟ ﴿بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾ الشياطين الذين كانوا يغوونهم بعبادتنا، وعبادة غيرنا
﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ كفروا
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ ظاهرات واضحات ﴿قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ﴾ يمنعكم ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ﴾ من الأصنام والأوثان ﴿وَقَالُواْ مَا هَذَآ﴾ القرآن ﴿إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى﴾ كذب مختلق
﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ﴾ من الأمم المتقدمة مثل تكذيبهم ﴿وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ﴾ أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار، وقوة الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد. وقيل: المعشار: عشر العشر، أو هو عشر عشر العشر؛ فيكون جزءاً من ألف. ولعله المراد: لأنه أريد به المبالغة في التقليل. وقد يكون المعنى: وما بلغ المكذبين الذين من قبلهم معشار ما آتينا أمتك من العلم والبيان، والحجة والبرهان؛ فهم أولى الأمم بالإيمان، وأجدرهم بالإيقان ﴿فَكَذَّبُواْ رُسُلِي﴾ أي كذبت الأمم السابقة رسلي؛ كما كذبك قومك ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ النكير: تغيير المنكر؛ أي فكيف كان تغييري لمنكرهم، واستئصالي وتدميري لهم؟
﴿قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي أنصحكم بكلمة واحدة: هي جماع الفضائل كلها، وأساس الإيمان واليقين والتوحيد ﴿أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ﴾ لعبادته ﴿مَثْنَى﴾ جماعات ﴿وَفُرَادَى﴾ أي مجتمعين ومتفرقين ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ﴾ فيما قلتموه، وترجعوا عما زعمتموه ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ﴾ جنون ﴿إِنْ هُوَ﴾ ما هو ﴿إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ﴾ قدام ﴿عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ هو عذاب الآخرة. قال: «بعثت بين يدي الساعة»
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ﴾ على التبليغ ﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾ المعنى: ﴿لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً﴾ والأجر الذي سألتكموه: هو لكم؛ لأن نفعه عائد عليكم ﴿قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ﴾ عالم به، ومطلع عليه
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ﴾ أي يلقيه وينزله إلى أنبيائه
﴿قُلْ جَآءَ الْحَقُّ﴾ الإسلام ﴿وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ﴾ الكفر ﴿وَمَا يُعِيدُ﴾ أي متى جاء الحق؛ فأي شيء بقي للباطل يبدؤه أو يعيده؟
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ﴾ عند البعث ﴿فَلاَ فَوْتَ﴾ فلا مهرب
﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ﴾ التناول. أي وكيف لهم تناول الإيمان بعد فوات وقته
﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ﴾ أي وقد كانوا يتكهنون بالغيب؛ ويقولون: لا بعث، ولا حساب
﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ أي حيل بينهم وبين النجاة من العذاب الذي هم فيه؛ أو حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا: من مال، وأهل، وولد، أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه: من الإيمان وقبوله منهم ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم﴾ أشباههم من الأمم السابقة.
528
سورة فاطر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

528
Icon