تفسير سورة فاطر

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت ﴿ سورة فاطر ﴾ في كثير من المصاحف في المشرق والمغرب وفي كثير من التفاسير. وسميت في صحيح البخاري وفي سنن الترمذي وفي كثير من المصاحف والتفاسير ﴿ سورة الملائكة ﴾ لا غير. وقد ذكر لها كلا الاسمين صاحب الإتقان.
فوجه تسميتها ﴿ سورة فاطر ﴾ أن هذا الوصف وقع في طالعة السورة ولم يقع في أول سورة أخرى. ووجه تسميته ﴿ سورة الملائكة ﴾ أنه ذكر في أولها صفة الملائكة ولم يقع في سورة أخرى.
وهي مكية بالاتفاق وحكى الآلوسي عن الطبرسي أن الحسن استثنى آيتين : آية ﴿ أن الذين يتلون كتاب الله ﴾ الآية، وآية ﴿ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ﴾ الآية، ولم أر هذا لغيره.
وهذه السورة هي الثالثة والأربعون في ترتيب نزول سورة القرآن. نزلت بعد سورة الفرقان وقبل سورة مريم.
وقد عدت آيها في عد أهل المدينة والشام ستا وأربعين، وفي عد أهل مكة والكوفة خمسا وأربعين.
أغراض هذه السورة
اشتملت هذه السورة على إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية فافتتحت بما يدل على أنه مستحق الحمد على ما أبدع من الكائنات الدال إبداعها على تفرده تعلى بالإلهية.
وعلى إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به وأنه جاء به الرسل من قبله. وإثبات البعث والدار الآخرة.
وتذكير الناس بإنعام الله عليهم بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وما يعبد المشركون من دونه لا يغنون عنهم شيئا وقد عبدهم الذين من قبلهم فلم يغنوا عنهم.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من قومه.
وكشف نواياهم في الإعراض عن إتباع الإسلام لأنهم احتفظوا بعزتهم.
وإنذارهم أن يحل بهم ما حل بالأمم المكذبة قبلهم.
والثناء على الذين تلقوا الإسلام بالتصديق وبضد حال المكذبين.
وتذكيرهم بأنهم كانوا يودون أن يرسل إليهم رسول فلما جاءهم رسول تكبروا واستنكفوا.
وأنهم لا مفر لهم من حلول العذاب عليهم فقد شاهدوا آثار الأمم المكذبين من قبلهم، وأن لا يغتروا بإمهال الله إياهم فإن الله لا يخلف وعده.
والتحذير من غرور الشيطان والتذكير بعداوته لنوع الإنسان.

وَعَلَى إِثْبَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَنَّهُ جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ. وَإِثْبَاتِ الْبَعْثِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ.
وَتَذْكِيرِ النَّاسِ بِإِنْعَامِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَنِعْمَةِ الْإِمْدَادِ، وَمَا يَعْبُدُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يُغْنُونَ عَنْهُمْ شَيْئًا وَقَدْ عَبَدَهُمُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُمْ.
وَتَثْبِيتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَكَشْفِ نَوَايَاهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُمُ احْتَفَظُوا بِعِزَّتِهِمْ.
وَإِنْذَارِهِمْ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ قَبْلَهُمْ.
وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْإِسْلَامَ بِالتَّصْدِيقِ وَبِضِدِّ حَالِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ يُرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولٌ فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ تَكَبَّرُوا وَاسْتَنْكَفُوا.
وَأَنَّهُمْ لَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْ حُلُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ شَاهَدُوا آثَارَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ.
وَالتَّحْذِيرِ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِعَدَاوَتِهِ لنَوْع الْإِنْسَان.
[١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
افْتِتَاحُهَا بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ صِفَاتٍ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ سَتُذْكَرُ فِيهَا، وَإِجْرَاءُ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ خَلْقِهِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَفْضَلَ مَا فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُرْسَلِينَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ السُّورَةَ جَاءَتْ لِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِيذَانُ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِاسْتِحْقَاقِ اللَّهِ إِيَّاهُ دُونَ غَيْرِهِ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
248
وَالْفَاطِرُ: فَاعِلُ الْفَطْرِ، وَهُوَ الْخَلْقُ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّكَوُّنِ سَرِيعًا لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَطْرِ وَهُوَ الشَّقُّ، وَمِنْهُ تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ [الشورى: ٥] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: ١]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (أَيْ لِعَدَمِ جَرَيَانِ هَذَا اللَّفْظِ بَيْنَهُمْ فِي زَمَانِهِ) حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا، أَيْ أَنَا ابْتَدَأْتُهَا. وَأَحْسَبُ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِمَّا سَبَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٤]، وَقَوْلِهِ: وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ [١٠١] فَضُمَّهُ إِلَى مَا هُنَا.
وَأَمَّا جاعِلِ فَيُطْلَقُ بِمَعْنَى مُكَوِّنٍ، وَبِمَعْنَى مُصَيِّرٍ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ يَخْتَلِفُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: رُسُلًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِ جاعِلِ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، أَيْ لِيَكُونُوا رُسُلًا مِنْهُ تَعَالَى لِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلُوهُ بِقُوَّتِهِمُ الذَّاتِيَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَلائِكَةِ، أَيْ يَجْعَلَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنْ يُرْسَلُوا. وَلِصَلَاحِيَّةِ الْمَعْنَيَيْنِ أُوثِرَتْ مَادَّةُ الْجَعْلِ دُونَ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى مَعْمُولِ فاطِرِ.
وَتَخْصِيصُ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَيْنِ مَخْلُوقَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِشَرَفِهِمْ بِأَنَّهُمْ سُكَّانُ السَّمَاوَاتِ وَعَظِيمِ خَلْقِهِمْ.
وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ صِفَةَ أَنَّهُمْ رُسُلٌ لِمُنَاسَبَةِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ، أَيْ جَاعِلُهُمْ رُسُلًا مِنْهُ إِلَى الْمُرْسَلِينَ مِنَ الْبَشَرِ لِلْوَحْيِ بِمَا يُرَادُ تَبْلِيغُهُمْ إِيَّاهُ لِلنَّاسِ.
وَقَوْلُهُ أُولِي أَجْنِحَةٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَتَكُونَ الْأَجْنِحَةُ ذَاتِيَّةً لَهُمْ من مقومات خلقتهمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي رُسُلًا فَيَكُونُ خَاصَّةً بِحَالَةِ مَرْسُولِيَّتِهِمْ.
وأَجْنِحَةٍ جَمْعُ جَنَاحٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَهُوَ مَا يَكُونُ لِلطَّائِرِ فِي مَوْضِعِ الْيَدِ لِلْإِنْسَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِثْبَاتَ الْأَجْنِحَةِ لِلْمَلَائِكَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقِيقَةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ لِلْقُوَّةِ الَّتِي يَخْتَرِقُونَ بِهَا الْآفَاقَ السَّمَاوِيَّةَ صُعُودًا وَنُزُولًا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
ومَثْنى وَأَخَوَاتُهُ كَلِمَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعْنَى التَّكْرِيرِ لِاسْمِ الْعَدَدِ الَّتِي تُشْتَقُّ
249
مِنْهُ ابْتِدَاءً مِنَ الِاثْنَيْنِ بِصِيغَةِ مَثْنَى ثُمَّ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ بِصِيغَةِ ثُلَاثَ وَرُبَاعَ. وَالْأَكْثَرُ أَنَّهُمْ لَا يَتَجَاوَزُونَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ مَادَّةَ الْأَرْبَعَةِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَالْمَعْنَى: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ الَخْ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٦].
وَالْكَلَامُ عَلَى أُولِي تَقَدَّمَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو أَجْنِحَةٍ بَعْضُهَا مُصَفَّفَةٌ جَنَاحَيْنِ جَنَاحَيْنِ فِي الصَّفِّ، وَبَعْضُهَا ثَلَاثَةً ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهَا أَرْبَعَةً أَرْبَعَةً، وَذَلِكَ قَدْ تَتَعَدَّدُ صُفُوفُهُ فَتَبْلُغُ أَعْدَادًا كَثِيرَةً فَلَا يُنَافِي هَذَا مَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ»
. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَعْدَادُ الْأَجْنِحَةِ مُتَغَيِّرَةً لِكُلِّ مَلَكٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَغَيِّرَةٍ عَلَى حَسَبِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي يُؤْمَرُونَ بِاخْتِرَاقِهَا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْأَجْنِحَةَ لِلْمَلَائِكَةِ
مِنْ أَحْوَالِ التَّشَكُّلِ الَّذِي يَتَشَكَّلُونَ بِهِ.
وَفِي رِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ جِبْرِيلَ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ رَأَيْتَ إِسْرَافِيلَ إِنَّ لَهُ لَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ جَنَاحٍ وَإِنَّ الْعَرْشَ لَعَلَى كَاهِلِهِ»
. وَاعْلَمْ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْمَلَائِكَةِ تَتَحَصَّلُ فِيمَا ذَكَرَهُ سَعْدُ الدِّينِ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» «إِنَّهُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلَاتِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، شَأْنُهُمُ الْخَيْرُ وَالطَّاعَةُ، وَالْعِلْمُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، وَمَسْكَنُهُمُ السَّمَاوَاتُ، وَقَالَ: هَذَا ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأُمَّةِ». اهـ. وَمَعْنَى الْأَجْسَامِ اللَّطِيفَةِ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْجَوْهَرِ لَا الْعَرَضِ وَأَنَّهَا جَوَاهِرُ مِمَّا يُسَمَّى عِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِالْمُجَرَّدَاتِ.
وَعِنْدِي: أَنَّ تَعْرِيفَ صَاحِبِ «الْمَقَاصِدِ» لِحَقِيقَةِ الْمَلَائِكَةِ لَا يَخْلُو عَنْ تَخْلِيطٍ فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ لِأَنَّهُ خَلَطَ فِي التَّعْرِيفِ بَيْنَ الذَّاتِيَّاتِ وَالْعَرَضِيَّاتِ.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي فِي تَرْتِيبِ التَّعْرِيفِ أَنْ يُقَالَ: أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أَخْيَارٌ ذَوُو قُوَّةٍ عَظِيمَةٍ، وَمِنْ خَصَائِصِهِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالْعِلْمُ بِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَعْمَالُهُمْ، وَمَقَرُّهُمُ السَّمَاوَاتُ مَا لَمْ يُرْسَلُوا إِلَى جِهَةٍ مِنَ الْأَرْضِ.
وَهَذَا التَّشَكُّلُ انْكِمَاشٌ وَتَقَبُّضٌ فِي ذَرَّاتِ نَوْرَانِيَّتِهِمْ وَإِعْطَاءُ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْجُسْمَانِيَّاتِ الْكَثِيفَةِ لِذَوَاتِهِمْ. دَلَّ عَلَى تَشَكُّلِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ
250
فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢]، وَثَبَتَ تَشَكُّلُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَتَشَكُّلُهُ لَهُ
وَلِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي حَدِيثِ السُّؤَالِ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ وَالسَّاعَةِ فِي صُورَةِ «رَجُلٍ شَدِيدِ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدِ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ (أَيْ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَوضع كفيه على فَخِذَيْهِ»
الْحَدِيثَ،
وَقَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ فَارَقَهُمُ الرَّجُلُ «هَلْ تَدْرُونَ مَنِ السَّائِلُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ» كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
. وَثَبَتَ حُلُولُ جِبْرِيلَ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، وَظُهُورِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِصُورَتِهِ الَّتِي رَآهُ فِيهَا فِي غَارِ حِرَاءٍ كَمَا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ نُزُولِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ، وَرَأَى كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ نَاسًا لَا يَعْرِفُونَهُمْ عَلَى خَيْلٍ يُقَاتِلُونَ مَعَهُمْ.
وَجُمْلَةُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ
الْمَلَائِكَةِ يُثِيرُ تَعَجُّبَ السَّامِعِ أَنْ يَتَسَاءَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْعَجِيبَةِ، فَأُجِيبَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ بِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَنْحَصِرُ وَلَا تُوَقَّتُ. وَلِكُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مُقَوِّمَاتُهُ وَخَوَاصُّهُ. فَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ: الْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا، أَيْ يَزِيدُ اللَّهُ فِي بَعْضِهَا مَا لَيْسَ فِي خَلْقٍ آخَرَ. فَيَشْمَلُ زِيَادَةَ قُوَّةِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ زِيَادَةٍ فِي شَيْءٍ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْمَحَاسِنِ وَالْفَضَائِلِ مِنْ حَصَافَةِ عَقْلٍ وَجَمَالِ صُورَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَذَلْقَةِ لِسَانٍ وَلِيَاقَةِ كَلَامٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ صِفَةً ثَانِيَةً لِلْمَلَائِكَةِ، أَيْ أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي خَلْقِهِمْ مَا يَشَاءُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَأَكْثَرَ، فَمَا فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مِنْ كَثْرَةِ أَجْنِحَةِ جِبْرِيلَ يُبَيِّنُ مَعْنَى يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ. وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ مَا خُلِقَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ أَجْنِحَةً زَائِدَة على من لِبَعْضٍ آخَرَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشاءُ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ بِتَسْفِيهِ عُقُولِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرِّسَالَةَ وَقَالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إِبْرَاهِيم:
١٠]،
251
فَأُجِيبُوا بِقَوْلِ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١١].
[٢]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢]
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ تَصْدِيرِ السُّورَةِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: ١]، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَفَاتِحِ الرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ وَمُمْسِكِهَا عَنْهُمْ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَتَحَهُ وَلَا عَلَى فَتْحِ مَا أَمْسَكَهُ.
وَمَا شَرْطِيَّةٌ، أَيِ اسْمٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَأَصْلُهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَانْقَلَبَتْ صِلَتُهُ إِلَى جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ وَانْقَلَبَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ جَوَابًا وَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ لِذَلِكَ، فَأَصْلُ مَا الشَّرْطِيَّةِ هُوَ الْمَوْصُولَةُ. وَمَحَلُّ مَا الِابْتِدَاءُ وَجَوَابُ الشَّرْط أغْنى عَن الْخَبَرِ.
ومِنْ رَحْمَةٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ.
وَالْفَتْح: تَمْثِيلِيَّةٌ لِإِعْطَاءِ الرَّحْمَةِ إِذْ هِيَ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُدَّخَرَاتِ الْمُتَنَافَسِ فِيهَا فَكَانَتْ حَالَةُ إِعْطَاءِ اللَّهِ الرَّحْمَةَ شَبِيهَةً بِحَالَةِ فَتْحِ الْخَزَائِنِ لِلْعَطَاءِ، فَأُشِيرَ إِلَى هَذَا التَّمْثِيلِ بِفِعْلِ الْفَتْحِ، وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَتُهُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ مَعَ الشَّدِّ عَلَيْهِ بِهَا لِئَلَّا يَسْقُطَ أَوْ يَنْفَلِتَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، أَوْ هُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِهِ الْفَتْحُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَمْسَكَ بِكَذَا، فَالْبَاءُ إِمَّا لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]، وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاعْتِصَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لُقْمَان: ٢٢].
وَقَدْ أُوهِمَ فِي «الْقَامُوس» و «اللِّسَان» و «التَّاج» أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.
فَقَوْلُهُ هُنَا: وَما يُمْسِكْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يُمْسِكُهُ مِنْ رَحْمَةٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ بَيَانٌ اسْتِغْنَاءً بِبَيَانِهِ مِنْ فِعْلٍ.
وَالْإِرْسَالُ: ضِدُّ الْإِمْسَاكِ، وَتَعْدِيَةُ الْإِرْسَالِ بِاللَّامِ لِلتَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ هُنَا فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ.
ومِنْ بَعْدِهِ بِمَعْنَى: مِنْ دُونِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ [الجاثية: ٦]، أَيْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ دُونَ اللَّهِ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِبْطَالِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ إِعْطَاءٍ أَوْ مَنْعٍ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُرْسِلَ لَهُ مُرَاعَاةٌ لِلَفْظِ مَا لِأَنَّهَا لَا بَيَانَ لَهَا، وَتَأْنِيثُهُ فِي قَوْلِهِ: فَلا مُمْسِكَ لَها لِمُرَاعَاةِ بَيَانِ مَا فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ لِقُرْبِهِ.
وَعَطْفُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ تَذْيِيلٌ رُجِّحَ فِيهِ جَانِبُ الْإِخْبَارِ فَعُطِفَ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ مَفْصُولًا لِإِفَادَةِ أَنَّهُ يَفْتَحُ وَيُمْسِكُ لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ نَقْضَ مَا أَبْرَمَهُ فِي فَتْحِ الرَّحْمَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لَا يُمْكِنُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْلِبَهُ، فَإِنَّ نَقْضَ مَا أَبْرَمَ ضَرْبٌ مِنَ الْهَوَانِ وَالْمَذَلَّةِ. وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ شِعَارِ صَاحِبِ السُّؤْدُدِ أَنَّهُ يُبْرِمُ وَيَنْقُضُ قَالَ الْأَعْشَى:
عَلْقَمَ مَا أَنْتَ إِلَى عَامِرٍ النَّاقِضِ الْأَوْتَارِ وَالْوَاتِرِ
وَضَمِيرُ لَها وَضَمِيرُ لَهُ عَائِدَانِ إِلَى مَا مِنْ قَوْلِهِ: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ، رُوعِيَ فِي تَأْنِيثِ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ مَعْنَى مَا فَإِنَّهُ اسْمٌ صَادِقٌ عَلَى رَحْمَةٍ وَقَدْ بُيِّنَ بِهَا، وَرَوْعِيَ فِي تَذْكِيرِ الضَّمِيرِ الْآخَرِ لَفْظُ مَا لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا عَلَامَةُ تَأْنِيثٍ فِيهِ. وَهُمَا اعْتِبَارَانِ كَثِيرَانِ فِي مِثْلِهِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، فَالْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَيِّ الِاعْتِبَارَيْنِ شَاءَ.
وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفَنُّنٌ. وَأُوثِرَ بِالتَّأْنِيثِ ضَمِيرُ مَا لِأَنَّهَا مُبَيَّنَةٌ بِلَفْظٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ
مِنْ رَحْمَةٍ.
[٣]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.
لَمَّا جَرَى ذِكْرُ رَحْمَةِ اللَّهِ الَّتِي تَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَقْبَلَ عَلَى خِطَابِهِمْ بِأَنْ يَتَذَكَّرُوا
253
نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمُ الْخَاصَّةَ وَهِيَ النِّعْمَةُ الَّتِي تَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ بِخَاصَّتِهِ فَيَأْتَلِفُ مِنْهَا مَجْمُوعُ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ وَمَا هِيَ إِلَّا بَعْضُ رَحْمَةِ اللَّهِ بِمَخْلُوقَاتِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَذَكُّرِ النِّعْمَةِ شُكْرُهَا وَقَدْرُهَا قَدْرَهَا. وَمِنْ أَكْبَرِ تِلْكَ النِّعَمِ نِعْمَةُ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ فَوْزِ النَّاسِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهَا بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ. فَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُنَا التَّذَكُّرُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ فَهُوَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ مِنْ إِرَادَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ وَالذِّكْرَ بِالْقَلْبِ يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَإِلَّا لَكَانَ الْأَوَّلُ هَذَيَانًا وَالثَّانِي كِتْمَانًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ»، أَيْ وَفِي كِلَيْهِمَا فَضْلٌ.
وَوُصِفَتِ النِّعْمَةُ بِ عَلَيْكُمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّذَكُّرِ التَّذَكُّرُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الشُّكْرُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُطْلَقَ التَّذَكُّرِ بِمَعْنَى الِاعْتِبَارِ وَالنَّظَرِ فِي بَدِيعِ فَضْلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ لَهُ مَقَامٌ آخَرُ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ قَدْ تَضَمَّنَ الدَّعْوَةَ إِلَى النَّظَرِ فِي دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْفَضْلِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ وَلِذَلِكَ اقْتَرَنَ مَا بَعْدَهُ بِ مِنْ الَّتِي تُزَادُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، وَاخْتِيرَ الِاسْتِفْهَامُ بِ هَلْ دُونَ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي أَصْلِ مَعْنَى هَلْ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَالتَّصْدِيقِ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى (قَدْ) وَتُفِيدُ تَأْكِيدَ النَّفْيِ.
وَالِاهْتِمَامُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ قَبْلَ مَا هُوَ فِي قُوَّةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. وَجُعِلَ صِفَةً لِ خالِقٍ لِأَنَّ غَيْرُ صَالِحَةٌ لِلِاعْتِبَارَيْنِ وَلِذَلِكَ جَرَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى اعْتِبَارِ غَيْرُ هُنَا وَصْفًا لِ خالِقٍ، فجمهور الْقُرَّاء قرأوه بِرَفْعِ غَيْرُ عَلَى اعْتِبَارِ مَحَلِّ خالِقٍ الْمَجْرُورِ بِ مِنْ لِأَنَّ مَحَلَّهُ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرِ الرَّفْعُ لِلِاشْتِغَالِ بِحَرَكَةِ حَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِالْجَرِّ عَلَى إِتْبَاعِ اللَّفْظِ دُونَ الْمَحَلِّ. وَهُمَا اسْتِعْمَالَانِ فَصِيحَانِ فِي مِثْلِهِ اهْتَمَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِمَا سِيبَوَيْهِ فِي «كِتَابِهِ».
وَجُمْلَةُ يَرْزُقُكُمْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا ثَانِيًا لِ خالِقٍ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا.
وَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْقَيْدِ وَهُوَ جُمْلَةُ الصِّفَةِ كَمَا هِيَ سُنَّتُهُ فِي الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ
254
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى لِيَشْكُرُوا، وَيَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفِ الْخَالِقِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ خَالِقًا لَكَانَ رَازِقًا إِذِ الْخَلْقُ بِدُونِ رِزْقٍ قُصُورٌ فِي الْخَالِقِيَّةِ لَأَنَّ الْمَخْلُوقَ بِدُونِ رِزْقٍ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى الْهَلَاكِ وَالْعَدَمِ فَيَكُونُ خَلْقُهُ عَبَثًا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَوْصُوفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْحِكْمَةِ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُذَكِّرَةً بِنِعْمَتَيِ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ.
وَزِيَادَةُ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِتَعَدُّدِ مَصَادِرِ الْأَرْزَاقِ فَإِنَّ مِنْهَا سَمَاوِيَّةً كَالْمَطَرِ الَّذِي مِنْهُ شَرَابٌ، وَمِنْهُ طَهُورٌ، وَسَبَبُ نَبَاتِ أَشْجَارٍ وَكَلَأٍ، وَكَالْمَنِّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَى شَجَرٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْدِيَةٍ فِي الْجَوِّ، وَكَالضِّيَاءِ مِنَ الشَّمْسِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِالنُّجُومِ فِي اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الطَّيْرِ الَّذِي يُصَادُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ السَّمَاءِ.
وَمِنَ الْأَرْضِ أَرْزَاقٌ كَثِيرَةٌ مِنْ حُبُوبٍ وَثِمَارٍ وَزُيُوتٍ وَفَوَاكِهَ وَمَعَادِنَ وَكَلَأٍ وَكَمْأَةٍ وَأَسْمَاكِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ.
وَفِي هَذَا الْقَيْدِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَفْعُ تَوَهُّمِ الْغَفَلِ أَنَّ أَرْزَاقًا تَأْتِيهِمْ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا الَّتِي يُعْطِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي يُعَاوِضُهَا بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَإِنَّهَا لِكَثْرَةِ تَدَاوُلِهَا بَيْنَهُمْ قَدْ يُلْهِيهِمُ الشُّغْلُ بِهَا عَنِ التَّدَبُّرِ فِي أُصُولِ مَنَابِعِهَا فَإِنَّ أُصُولَ مَوَادِّهَا مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَآلَ مَا يُعْطَاهُ النَّاسُ مِنْهَا إِلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ عَلَى نَحْوِ مَا عَرَضَ لِلَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ إِذْ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [الْبَقَرَة: ٢٥٨] فَهَذَا رَجُلٌ مَحْكُومٌ بِقَتْلِهِ هَا أَنَا ذَا أَعْفُو عَنْهُ فَقَدْ أَحْيَيْتُهُ، وَهَذَا رَجُلٌ حَيٌّ هَا أَنَا ذَا آمُرُ بِهِ فَيُقْتَلُ فَأَنَا أُمِيتُ. فَانْتَقَلَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨].
لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
هَذَا نَتِيجَةٌ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ إِذْ رُتِّبَ عَلَى انْفِرَادِهِ بِالْخَالِقِيَّةِ وَالرَّازِقِيَّةِ انْفِرَادُهُ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ هُمَا أَظْهَرُ دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ النَّاسِ فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مُسْتَأْنَفَةٌ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِجُمْلَةِ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
255
وَ (أَنَّى) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يَجِيءُ بِمَعْنَى اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْحَالَةِ أَوْ عَنِ الْمَكَانِ أَوْ عَنِ الزَّمَانِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَنْ حَالَةِ انْصِرَافِهِمْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ هُنَا وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ تَبَعًا لِمَنْ يُصَرِّفُهُمْ وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ.
وتُؤْفَكُونَ مَبْنِيٌّ لِلْمَجْهُولِ مِنْ أَفَكَهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَهُ، إِذَا صَرَفَهُ وَعَدَلَ بِهِ، فَالْمَصْرُوفُ مَأْفُوكٌ. وَحُذِفَ الْفَاعِلُ هُنَا لِأَنَّ آفِكِيهِمْ أَصْنَافٌ كَثِيرُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَة بَرَاءَة [٣٠].
[٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
عَطْفٌ عَلَى جملَة اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [فاطر: ٣] أَيْ وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى انْصِرَافِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِكَ وَلَمْ يَشْكُرُوا النِّعْمَةَ بِبَعْثِكَ فَلَا عَجَبَ فَقَدْ كَذَّبَ أَقْوَامٌ مِنْ قَبْلِهِمْ رُسُلًا مِنْ قَبْلُ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ إِلَى خِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُنَاسَبَةِ جَرَيَانِ خِطَابِ النَّاسِ عَلَى لِسَانِهِ فَهُوَ مُشَاهِدٌ لِخِطَابِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِ الْخِطَابُ بَعْدَ تَوْجِيهِهِ إِلَيْهِمْ إِذِ الْمَقَامُ وَاحِدٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يُوسُف: ٢٩].
وَإِذْ قَدْ أَبَانَ لَهُمُ الْحُجَّةَ عَلَى انْفِرَادِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ حِينَ خَاطَبَهُمْ بِذَلِكَ نُقِلَ الْإِخْبَارُ عَنْ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَنْكَرُوا قَبُولَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَبَانَ صِدْقُهُ فِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ نَاسَبَ أَنْ يُعْرَضَ إِلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُ بِمِثْلِ عَاقِبَةِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ مَنْ قَبْلِهِ وَقَدْ أُدْمِجَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ تَسْلِيَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ إِيَّاهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقَامُهُ فِي ذَلِكَ دُونَ مَقَامِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ.
وَجِيءَ فِي هَذَا الشَّرْطِ بِحَرْفِ إِنْ الَّذِي أَصْلُهُ أَنْ يُعَلَّقَ بِهِ شَرْطٌ غَيْرَ مَقْطُوعٍ بِوُقُوعِهِ تَنْزِيلًا لَهُمْ بَعْدَ مَا قُدِّمَتْ إِلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ الْمُصَدِّقَةِ لِمَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَذَّبُوهُ فِيهِ، مَنْزِلَةَ مَنْ أَيْقَنَ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَلَا يَكُونُ فَرْضُ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ إِلَّا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ.
وَهَذَا وَجْهُ إِيثَارِ الشَّرْطِ هُنَا بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الَّذِي فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ يَتَمَخَّضُ لِلِاسْتِقْبَالِ، أَيْ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ بَعْدَ مَا قَرَعَ أَسْمَاعَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الدَّامِغَةِ.
وَالْمَذْكُورُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ إِنَّمَا هُوَ سَبَبٌ لِجَوَابٍ مَحْذُوفٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا يَحْزُنْكَ تَكْذِيبُهُمْ إِذْ قَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَاسْتُغْنِيَ بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعَرَّفْ رُسُلٌ وَجِيءَ بِهِ مُنَكَّرًا لِمَا فِي التَّنْكِيرِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْظِيمِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ زِيَادَةً عَلَى جَانِبِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ مِنْ جَانِبِ كَثْرَتِهِمْ وَتَنَوُّعِ آيَاتِ صِدْقِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ كَذَّبَهُمْ أَقْوَامُهُمْ.
وَعُطِفَ عَلَى هَذِهِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ مَا هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لَهُمَا وَالتَّذْكِيرِ بِعَاقِبَةِ مَضْمُونِهَا بِأَنَّ أَمْرَ الْمُكَذِّبِينَ قَدْ آلَ إِلَى لِقَائِهِمْ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمْ مِنْ لَدُنِ الَّذِي تُرْجَعُ إِلَيْهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا، فَكَانَ أَمْرُ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ وَأَمْرُ أُولَئِكَ الرُّسُلِ فِي جُمْلَةِ عُمُومِ الْأُمُورِ الَّتِي أُرْجِعَتْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَا تَخْرُجُ أُمُورُهُمْ مِنْ نِطَاقِ عُمُومِ الْأُمُورِ.
وَقَدِ اكْتَسَبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّذْيِيلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْعُمُومِ.
والْأُمُورُ جَمْعُ أَمْرٍ وَهُوَ الشَّأْنُ وَالْحَالُ، أَيْ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأَحْوَالُ كُلُّهَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيفَ يَشَاء، فَتَكُونُ الْآيَةُ تَهْدِيدًا للمكذبين وإنذارا.
[٥]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٥]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
أُعِيدَ خِطَابُ النَّاسِ إِعْذَارًا لَهُمْ وَإِنْذَارًا بِتَحْقِيقِ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَهُ مِنْ عِقَابِهِ الْمُكَذِّبِينَ فِي يَوْمِ الْبَعْثِ هُوَ وَعْدٌ وَاقِعٌ لَا يَتَخَلَّفُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ لَهُمُ التَّذْكِيرَ بِدَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَيْهَا، مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَأَنَّهُ لَا يَتَّصِفُ بِالْإِلَهِيَّةِ الْحَقِّ غَيْرُهُ.
وَبَعْدَ أَنْ أَشَارَ إِلَيْهِمْ بِأَنَّ مَا أَنْتَجَتْهُ تِلْكَ الدَّلَائِلُ هُوَ مَا أَنْبَأَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَعْلَمُونَ صِدْقَهُ فِيمَا أَنْبَأَهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَهُوَ أَكْبَرُ مَا قَرَعَ آذَانَهُمْ وَأَحْرَجُ شَيْءٍ
257
لِنُفُوسِهِمْ، فَإِذَا تَأَيَّدَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ تَمَهَّدَ السَّبِيلُ لِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي الْأُولَى يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِي الثَّانِيَةِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ مَا تَلَاهُ صَالِحٌ لِمَوْعِظَةِ الْفَرِيقَيْنِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنْكِرِينَ، وَإِمَّا لِتَغْلِيبِ فَرِيقِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى تَقْوِيَةِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْمُخْبِرِ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ
فِيمَا عَدَا الشَّرِّ، وَيُخَصُّ الشَّرُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْوَعِيدِ، يَعُمُّهُمَا وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٨].
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ تَوْطِئَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْتِي مِنْهُ الْبَاطِلُ.
وَالْحَقُّ هُنَا مُقَابِلُ الْكَذِبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صَادِقٌ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالغَة فِي حَقِيقَته.
وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَعْدُ بِحُلُولِ يَوْمِ جَزَاءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الْآيَةَ.
والغرور بِضَمِّ الْغَيْنِ وَيُقَالُ التَّغْرِيرُ: إِيهَامُ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا هُوَ ضُرٌّ وَفَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] وَعِنْدَ قَوْلِهِ:
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢].
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ: مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَهْوٍ وَتَرَفٍ، وَانْتِهَائِهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَدَمِ مِمَّا يُسَوِّلُ لِلنَّاسِ أَنْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ أُخْرَى.
وَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْغَارَّ لِلْمَرْءِ هُوَ نَفْسُهُ الْمُنْخَدِعَةُ بِأَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِهِ وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ.
258
وَالنَّهْيُ فِي الظَّاهِر موجه إِلَى النَّاس وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ مِنْ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مِنْ فِعْلِ النَّاسِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ النَّهْيُ عَنْ لَازِمِ ذَلِكَ الْإِسْنَادِ وَهُوَ الِاغْتِرَارُ لِمَظَاهِرِ الْحَيَاةِ. وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَقَوْلِهِمْ: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، وَلَا أَرَيَنَّكَ هَاهُنَا، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَة: ٢]، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ آخِرَ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦].
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ.
والغرور بِفَتْحِ الْغَيْنِ: هُوَ الشَّدِيدُ التَّغْرِيرِ. وَالْمُرَادُ بِهِ الشَّيْطَانُ، قَالَ تَعَالَى:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الْأَعْرَاف: ٢٢]. وَهُوَ يُغَيِّرُ النَّاسَ بِتَزْيِينِ الْقَبَائِحِ لَهُمْ تَمْوِيهًا بِمَا يَلُوحُ عَلَيْهَا مِنْ مَحَاسِنَ تُلَائِمُ نُفُوسَ النَّاسِ.
وَالْبَاء فِي قَول بِاللَّهِ لِلْمُلَابَسَةِ وَهِيَ دَاخِلَةٌ عَلَى مُضَافٍ مُقَدَّرٍ أَيْ، بِشَأْنِ اللَّهِ، أَيْ
يَتَطَرَّقُ إِلَى نَقْضِ هُدَى اللَّهِ فَإِنَّ فِعْلَ غَرَّ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَإِذَا أُرِيدَ تَعْدِيَتُهُ إِلَى بَعْضِ مُتَعَلِّقَاتِهِ عُدِّيَ إِلَيْهِ بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ، فَقَدْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ وَهِيَ بَاءُ الْمُلَابَسَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] وَقَوله فِي سُورَة الْحَدِيدِ [١٤] :
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ وَذَلِكَ إِذَا أُرِيدَ بَيَانُ مَنِ الْغَرُورُ مُلَابِسٌ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَاف، أَي بِحَال مِنْ أَحْوَالِهِ. وَتِلْكُ مُلَابَسَةُ الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْإِيجَازِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَاءُ بَاءَ السَّبَبِيَّةِ.
وَقَدْ تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ غُرُورَيْنِ: غُرُورًا يَغْتَرُّهُ الْمَرْءُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَيُزَيِّنُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمَظَاهِرِ الْفَاتِنَةِ الَّتِي تَلُوحُ لَهُ فِي هَذِه الدُّنْيَا مَا يَتَوَهَّمُهُ خَيْرًا وَلَا يَنْظُرُ فِي عَوَاقِبِهِ بِحَيْثُ تَخْفَى مضارّه فِي بادىء الرَّأْيِ وَلَا يَظُنُّ أَنَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَغُرُورًا يَتَلَقَّاهُ مِمَّنْ يَغُرُّهُ وَهُوَ الشَّيْطَانُ، وَكَذَلِكَ الْغُرُورُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَعْضُهُ يُمْلِيهِ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَعْضُهُ يَتَلَقَّاهُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَتُرِكَ تَفْصِيلُ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ الْآنَ اعْتِنَاءً بِالْأَصْلِ وَالْأَهَمِّ، فَإِنَّ كُلَّ غُرُورٍ يَرْجِعُ إِلَى غُرُورِ الشَّيْطَانِ. وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: ١٠].
259

[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٦]

إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
لَمَّا كَانَ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: ٥] إِبْهَامُ مَا فِي الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ بِأَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ لِيَتَقَرَّرَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْبَيَانِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ. فَجُمْلَةُ إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ تَتَنَزَّلُ مِنْ جُمْلَةِ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ مِنَ الْمُبَيَّنِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ، وَهَذَا مِنْ دَلَالَةِ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ عَلَى إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ إِذْ يَعْلَمُ السَّامِعُ مِنْ وُقُوعِ وَصْفِ الشَّيْطَانِ عَقِبَ وَصْفِ الْغَرُورِ أَنَّ الْغَرُورَ هُوَ الشَّيْطَانُ.
وَأُظْهِرَ اسْمُ الشَّيْطَانِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِفْصَاحِ عَنِ الْمُرَادِ بِالْغَرُورِ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ وَإِثَارَةُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ وَالشَّيْطَانِ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْقُرْآن تَصْرِيحًا وتضمّنا، وَهُوَ هُنَا صَرِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: ٣٦].
وَتِلْكَ عَدَاوَةٌ مُودَعَةٌ فِي جِبِلَّتِهِ كَعَدَاوَةِ الْكَلْبِ لِلْهِرِّ لِأَنَّ جِبِلَّةَ الشَّيْطَانِ مَوْكُولَةٌ بِإِيقَاعِ النَّاسِ فِي الْفَسَادِ وَأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي قَوَالِبَ مُحَسَّنَةٍ مُزَيَّنَةٍ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ تَظْهَرُ لِلْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْحَوَادِثِ حَيْثُمَا عَثَرَ عَلَيْهَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الْأَعْرَاف: ٢٧].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَر بِحرف التَّأْكِيد لِقَصْدِ تَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ بِغَفْلَتِهِمْ عَنْ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ كَحَالِ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْمُتَعَلِّقِ فَرَّعَ عَنْهُ أَنْ أُمِرُوا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَلِمُوا أَنَّهُ عَدُوٌّ لَهُمْ حَقَّ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذُهُ عَدُوًّا وَإِلَّا لَكَانُوا فِي حَمَاقَةٍ. وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ عَدَاوَتِهِمُ الدُّعَاةَ فِي الضَّلَالَةِ الْمُسْتَمِدِّينَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى لَفْظِ عَدُوٌّ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٢].
وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ الِاخْتِصَاصِ وَهِيَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الْإِضَافَةُ فَلَمَّا قَدَّمَ مَا حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا إِلَيْهِ صَرَّحَ بِاللَّامِ لِيَحْصُلَ مَعْنَى الْإِضَافَةِ.
260
وَإِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّخَاذِ الْعَدُوِّ عَدُوًّا وَلَمْ يَنْدُبْ إِلَى الْعَفْوِ عَنْهُ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ عَدَاوَتِهِ كَمَا أَمَرَ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَفْوِ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ رَجَاءَ صَلَاحِ حَالِ الْعَدُوِّ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِ عَارِضَةٌ لِأَغْرَاضٍ يُمْكِنُ زَوَالُهَا وَلَهَا حُدُودٌ لَا يُخْشَى مَعَهَا الْمَضَارُّ الْفَادِحَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: ٣٤] وَلِذَلِكَ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ فَقَالَ: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: ١] الْآيَةَ، بَلْ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنِ الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ مُنَاوَأَتَهُمْ غَيْرُ عَارِضَةٍ بَلْ هِيَ لِغَرَضِ ابْتِزَازِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [الْمَائِدَة: ٣٤] فَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لَمَّا كَانَتْ جِبِلِيَّةً لَا يُرْجَى زَوَالُهَا مَعَ مَنْ يَعْفُو عَنْهُ لَمْ يَأْمُرِ اللَّهُ إِلَّا بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُتَّخَذْ عَدُوًّا لَمْ يُرَاقِبِ الْمُسْلِمُ مَكَائِدَهُ وَمُخَادَعَتَهُ. وَمِنْ لَوَازِمِ اتِّخَاذِهِ عَدُوًّا الْعَمَلُ بِخِلَاف مَا يَدْعُو إِلَيْهِ لِتَجَنُّبِ مَكَائِدِهِ وَلِمَقْتِهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَالْإِيقَاعُ بِالنَّاسِ فِي الضُّرِّ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَلَا أَعْدَاؤُهُ وَلَكِنَّ أَوْلِيَاءَهُ يُضْمِرُ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَيَأْنَسُ بِهِمْ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِهِمْ وَطَرَهُ وَأَمَّا أَعْدَاؤُهُ فَهُوَ مَعَ عَدَاوَتِهِ لَهُمْ يَشْمَئِزُّ وَيَنْفِرُ وَيَغْتَاظُ مِنْ مُقَاوَمَتِهِمْ وَسَاوِسَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْفِرَارِ مِنْ عُظَمَاءِ الْأُمَّةِ فَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ: «إِيهِ يَا بْنَ الْخَطَّابِ مَا رَآكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ».
وَوَرَدَ فِي
«الصَّحِيحِ» «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ»
الْحَدِيثَ.
وَوَرَدَ «أَنه مَا ريء الشَّيْطَانُ أَخْسَأَ وَأَحْقَرَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ لِمَا يَرَى مِنَ الرَّحْمَةِ»
. وَأُعْقِبَ الْأَمْرُ بِاتِّخَاذِ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا بِتَحْذِيرٍ مِنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ وَحَثٍّ عَلَى وُجُوبِ الْيَقْظَةِ لِتَغْرِيرِهِ وَتَجَنُّبِ تَوَلِّيهِ بِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ضُرِّ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يُوقِعُهُمْ فِي السَّعِيرِ.
وَهَذَا يُؤَكِّدُ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِهِ عَدُوًّا لِأَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ تَضَرُّرًا بِهِ هُمْ حِزْبُهُ وَأَوْلِيَاؤُهُ.
وَجُمْلَة إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا. وَجِيءَ بِهَا فِي صِيغَةِ حَصْرٍ لِانْحِصَارِ دَعَوْتِهِ فِي الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَقِبَهَا بِلَامِ الْعِلَّةِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ دَعوته تَخْلُو عَن تِلْكَ الْغَايَةِ وَلَوْ فِي وَقْتٍ مَا.
261
وَبِهَذَا الْعُمُومِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَصْرُ صَارَتِ الْجُمْلَةُ أَيْضًا فِي مَعْنَى التذييل لما قبلهَا كُلَّهُ.
وَمُقْتَضَى وُقُوع فعل يَدْعُوا فِي حَيِّزِ الْقَصْرِ أَنَّ مَفْعُولَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: حِزْبَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ، أَيْ أَنَّهُ يَدْعُو حِزْبَهُ وَلَا يَدْعُو غَيْرَ حِزْبِهِ، وَالشَّيْطَانُ يَدْعُو النَّاسَ كُلَّهُمْ سَوَاءً فِي ذَلِكَ حِزْبُهُ وَمَنْ لَمْ يَرْكَنْ إِلَى دَعْوَتِهِ إِلَّا أَنَّ أَثَرَ دَعْوَتِهِ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي الَّذِينَ يَرْكَنُونَ لَهُ فَيَصِيرُونَ حِزْبَهُ قَالَ تَعَالَى لَهُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ [الْحجر: ٤٢]. وَحَكَى اللَّهُ عَنِ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الْحجر: ٣٩، ٤٠] فَتَعَيَّنَ أَنَّ فِي الْكَلَامِ إِيجَازَ حَذْفٍ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ دَعْوَةً بَالِغَةً مَقْصِدَهُ. وَالْقَرِينَةُ هِيَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحْذِيرِ وَلَوْ كَانَ لَا يَدْعُو إِلَّا حِزْبَهُ لَمَا كَانَ لِتَحْذِيرِ غَيْرِهِمْ فَائِدَةٌ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ يجوز أَن تكون لَامَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَكُونُ سَاعِيًا لِغَايَةِ إِيقَاعِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْعَذَابِ نِكَايَةً بِهِمْ، وَهِيَ عِلَّةٌ لِلدَّعْوَةِ مَخْفِيَّةٌ فِي خَاطِرِهِ الشَّيْطَانِيِّ وَإِنْ كَانَ لَا يَجْهَرُ بِهَا لِأَنَّ إِخْفَاءَهَا مِنْ جُمْلَةِ كَيْدِهِ وَتَزْيِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ مِثْلَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَص: ٨] قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى السَّعِيرِ إِنَّمَا اتَّفَقَ أَنْ صَار أَمرهم عَن دُعَائِهِ إِلَى ذَلِكَ.
والسَّعِيرِ: النَّارُ الشَّدِيدَةُ، وَغَلَبَ فِي لِسَانِ الشَّرْع على جنهم.
[٧]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٧]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ يُفِيدُ مَفَادَ الْفَذْلَكَةِ وَالِاسْتِنْتَاجِ مِمَّا تَقَدَّمَ. وَهَذَا الِاسْتِئْنَاف يومىء إِلَى أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ حِزْبَهُ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ وَحَكَمَ هُنَا بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ عُلِمَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ إِذْ هُوَ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ بِطَرِيقَةِ قِيَاسٍ مَطْوِيٍّ، فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ لِعُكُوفِهِمْ عَلَى مُتَابَعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يُعْلِنُوا ذَلِكَ لِاقْتِنَاعِهِ مِنْهُمْ بِمُلَازَمَةِ مَا يُمْلِيهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الْعُصَاةُ فَلَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كَيْدَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَتَّبِعُونَ بَعْضَ وَسْوَسَتِهِ بِدَافِعِ الشَّهَوَاتِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُونَهُ وَيَتَبَرَّأُونَ مِنْهُ. وَقَدْ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»
. وَذِكْرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تَتْمِيمٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حِزْبِهِ قَدْ فَازُوا بِالْخَيْرَاتِ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى طَرَفَيْنِ فِي الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ وَطَوَتْ مَا بَيْنَ ذَيْنِكَ مِنَ الْمَرَاتِبِ لِيُعْلَمَ أَنَّ مَا بَيْنَ ذَلِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ أَشْبَهِ أَحْوَالِهِمْ بِأَحْوَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي وَضْعِ الْمُسْلِمِ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، والأمل والرهبة.
[٨]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٨]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
لَمَّا جَرَى تَحْذِيرُ النَّاسِ مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَإِيقَاظُهُمْ إِلَى عَدَاوَتِهِ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ، وَتَقْسِيمُ النَّاسِ إِلَى فَرِيقَيْنِ: فَرِيقٍ انْطَلَتْ عَلَيْهِ مَكَائِدُ الشَّيْطَانِ وَاغْتَرُّوا بِغُرُورِهِ وَلَمْ يُنَاصِبُوهُ الْعَدَاءَ، وَفَرِيقٍ أَخَذُوا حِذْرَهُمْ مِنْهُ وَاحْتَرَسُوا مِنْ كَيْدِهِ وَتَجَنَّبُوا السَّيْرَ فِي مَسَالِكِهِ، ثُمَّ تَقْسِيمُهُمْ إِلَى كَافِرٍ مُعَذَّبٍ وَمُؤْمِنٍ صَالِحٍ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْإِيمَاءِ إِلَى اسْتِحْقَاقِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ عَذَابَ السَّعِيرِ، وَبِتَسْلِيَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لَمْ يَخْلُصُوا مِنْ حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ مِنْ أُمَّةِ دَعْوَتِهِ بِأُسْلُوبِ الْمُلَاطَفَةِ فِي التَّسْلِيَةِ فَفَرَّعَ عَلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ قَوْلَهُ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً إِلَى قَوْلِهِ: بِما يَصْنَعُونَ فَابْتِدَاؤُهُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ رَبْطٌ لَهُ بِمَا تَقَدَّمَ لِيَعُودَ الذِّهْنُ إِلَى مَا حُكِيَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: ٦]، ثُمَّ بِإِبْرَازِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَاجْتِلَابِ الْمَوْصُول الَّذِي تومىء صِلَتُهُ إِلَى عِلَّةِ الْخَبَرِ الْمَقْصُودِ، فَأُشِيرَ إِلَى أَنَّ وُقُوعَهُ فِي
هَذِه الْحَالة ناشىء مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ، فَالْمُزَيِّنُ لِلْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ هُوَ الشَّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النَّمْل: ٢٤] فَرَأَوْا أَعْمَالَهُمُ
263
السَّيِّئَةَ حَسَنَةً فَعَكَفُوا عَلَيْهَا وَلم يقبلُوا فِيهَا نَصِيحَةَ نَاصِحٍ، وَلَا رِسَالَةَ مُرْسَلٍ.
ومَنْ مَوْصُولَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى جَمْعٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ بَلْ وَدَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ هَذَا عَلَى قَوْله إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: ٦] ومَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعِ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ عَنْهُ مَحْذُوفٌ إِيجَازًا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [فاطر: ٧] عَقِبَ قَوْله:
إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَتَقْدِيرُهُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا اسْتَحَقَّهُ حِزْبُ الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَذَابِ: أَفَأَنْتَ تَهْدِي مَنْ زيّن لَهُ سوء عَمَلُهُ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
وَتَقْدِيره بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَسْلِيَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحْزُنْكَ مَصِيرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ أَيْ فَلَا تَفْعَلْ ذَلِكَ، أَيْ لَا يَنْبَغِي لَكَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أَوْقَعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ وَرُؤْيَتِهِمْ ذَلِكَ حَسَنًا وَهُوَ مِنْ فعل أنفسهم فَلَمَّا ذَا تَتَحَسَّرُ عَلَيْهِمْ.
وَهَذَا الْخَبَرُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر: ٧] فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ سُوءٌ وَأَنَّ الْإِيمَانَ حُسْنٌ، فَيَكُونُ «مَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» هُوَ الْكَافِرَ، وَيَكُونُ ضِدُّهُ هُوَ الْمُؤْمِنَ، وَنَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٩]، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٣٣].
وَالتَّزْيِينُ: تَحْسِينُ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ. وَقَدْ صَرَّحَ هُنَا بِضِدِّهِ فِي قَوْلِهِ:
سُوءُ عَمَلِهِ، أَيْ صُوِّرَتْ لَهُمْ أَعْمَالُهُمُ السَّيِّئَةُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ لِيُقْدِمُوا عَلَيْهَا بِشَرَهٍ وَتَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ النَّمْلِ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ مُفَرَّعَةٌ، وَهِيَ تَقْرِيرٌ
264
لِلتَّسْلِيَةِ وَتَأْيِيسٌ مِنِ اهْتِدَاءِ مَنْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِ أَسْبَابَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَحِيحِ النَّظَرِ
وَإِنْصَافِ الْمُجَادَلَةِ.
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الله إِسْنَاد بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ خَالِقُ أَسْبَابِ الضَّلَالِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ تَصَرُّفِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَهُوَ سِرٌّ مِنَ الْحِكْمَةِ عَظِيمٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ وَلَهُ أُصُولٌ وَضَوَابِطُ سَأُبَيِّنُهَا فِي «رِسَالَةِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ مُفَرَّعَةٌ عَلَى الْمُفَرَّعِ عَلَى جُمْلَةِ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ إِلَخ فتؤول إِلَى التَّفْرِيعِ على الجملتين فيؤول إِلَى أَنْ يَكُونَ النَّظْمُ هَكَذَا:
أَفَتَتَحَسَّرُ عَلَى مَنْ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ فَرَأَوْهَا حَسَنَاتٍ وَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ طَرِيقَ الضَّلَالِ فَإِنَّ اللَّهَ أَضَلَّهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ وَهُوَ قَدْ تَصَرَّفَ بِمَشِيئَتِهِ فَهُوَ أَضَلَّهُمْ وَهُدَى غَيْرَهُمْ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ الَّتِي شَاءَ بِهَا إِيجَادَ الْمَوْجُودَاتِ لَا بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ الَّذِي دَعَا بِهِ النَّاسَ إِلَى الرَّشَادِ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ وَإِنَّمَا حَسْرَتُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ رَضُوا لَهَا بِاتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ وَنَبَذُوا اتِّبَاعَ إِرْشَادِ اللَّهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَّطُوا أَنْفُسَهُمْ فِيمَا أَوْقَعُوهَا فِيهِ بِصُنْعِهِمْ.
فَاللَّهُ أَرْشَدَهُمْ بِإِرْسَالِ رَسُولِهِ لِيَهْدِيَهُمْ إِلَى مَا يُرْضِيهِ، وَاللَّهُ أَضَلَّهُمْ بِتَكْوِينِ نُفُوسِهِمْ نَافِرَةً عَنِ الْهُدَى تَكْوِينًا مُتَسَلْسِلًا مِنْ كَائِنَاتٍ جَمَّةٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا عِلْمُهُ وَكُلُّهَا مِنْ مَظَاهِرِ حِكْمَتِهِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَلَاسِلَ الْكَائِنَاتِ عَلَى غَيْرِ هَذَا النِّظَامِ فَلَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، وَكُلُّهُمْ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ إِلَى مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ فَعُدِلَ عَنِ النَّظْمِ الْمَأْلُوفِ إِلَى هَذَا النَّظْمِ الْعَجِيبِ. وَصِيغَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالنَّهْيِ التَّثْبِيتِيِّ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٩]، فَإِنَّ أَصْلَ نَظْمِهَا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَنْتَ تُنْقِذُهُ مِنَ النَّارِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ الَّذِينَ فِي النَّارِ. إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زَادَتْ بِالِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا نَهْيًا وَالْأُخْرَى عُرِّيَتْ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَكَانَ الْمُفَرَّعُ الْأَخِيرُ فِيهَا اسْتِفْهَامًا إِنْكَارِيًّا.
وَالنَّهْيُ مُوَجَّهٌ إِلَى نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَذْهَبَ حَسَرَاتٍ عَلَى الضَّالِّينَ وَلَمْ يُوَجَّهْ إِلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْسُهُ مُتَّحِدَانِ
265
فَتَوْجِيهُ النَّهْيِ إِلَى نَفْسِهِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَلَا تَذْهَبْ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الذَّهَابَ مُسْتَعَارٌ إِلَى التَّلَفِ وَالِانْعِدَامِ كَمَا يُقَال: طارت نَفسه شَعَاعًا، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِهِمْ كَثِيرٌ كَقَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ:
أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ
لِتَحْصُلَ فَائِدَةُ تَوْزِيعِ النَّهْيِ وَالْخِطَابِ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ فَهُوَ تَكْرِيرُ الْخِطَابِ وَالنَّهْيِ لِكِلَيْهِمَا. وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّجْرِيدِ الْمَعْدُودِ فِي الْمُحَسِّنَاتِ، وَفَائِدَةُ التَّكْرِيرِ الْمُوجِبِ تَقْرِيرَ الْجُمْلَةِ فِي النَّفْسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩].
وَالْحَسْرَةُ تَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٩].
وَانْتَصَبَ حَسَراتٍ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تُتْلِفْ نَفْسَكَ لِأَجْلِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ٣]، وَقَوْلِهِ:
وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ [يُوسُف: ٨٤] أَيْ مِنْ حُزْنِ نَفْسِهِ لَا مِنْ حُزْنِ الْعَيْنَيْنِ.
وَجُمِعَتِ الْحَسَرَاتُ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ صَالِحٌ للدلالة على تكْرَار الْأَفْرَادِ قَصْدًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى إِرَادَةِ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ جِنْسِ الْحَسْرَةِ لِأَنَّ تَلَفَ النَّفْسِ يَكُونُ عِنْدَ تَعَاقُبِ الْحَسَرَاتِ الْوَاحِدَةِ تِلْوَ الْأُخْرَى لِدَوَامِ الْمُتَحَسَّرِ مِنْهُ فَكُلُّ تَحَسُّرٍ يَتْرُكُ حَزَازَةً وَكَمَدًا فِي النَّفْسِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي لَا تُطِيقُهُ النَّفْسُ فَيَنْفَطِرَ لَهُ الْقَلْبُ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ فِي الطِّبِّ أَنَّ الْمَوْتَ مِنْ شِدَّةِ الْأَلَمِ كَالضَّرْبِ الْمُبَرِّحِ وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ سَبَبُهُ اخْتِلَالُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ مِنْ تَوَارُدِ الْآلَامِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ وَالْهَاءِ وَرَفْعِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ كِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ عَنْ نَهْيِهِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْهَاءِ وَنَصْبِ نَفْسُكَ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ الرَّسُولِ أَنْ يُذْهِبَ نَفْسَهُ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى فَاءَاتٍ أَرْبَعٍ كُلُّهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَالتَّفْرِيعِ وَهِيَ الَّتِي بَلَغَ بِهَا نَظْمُ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْإِيجَازِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ وَفِي اجْتِمَاعِهَا مُحَسِّنُ جَمْعِ النَّظَائِرِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ التَّصَبُّرِ وَالتَّحَلُّمِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ
266
عَلِيمٌ بِصُنْعِهِمْ فِي الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ فَكَمَا أَنَّهُ لِحِلْمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِمُؤَاخَذَتِهِمْ فَكُنْ أَنْتَ مُؤْتَسِيًا بِاللَّهِ وَمُتَخَلِّقًا بِمَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ صِفَاتِهِ وَفِي ضِمْنِ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ إِفْلَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى سُوءِ عَمَلِهِمْ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ لِأَنَّ كَمَدَ نَفْسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ تَأْخِيرِ عِقَابِهِمْ وَلَكِنْ لِأَجْلِ عَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِحَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَالِ مَنْ أَغْفَلَهُ التَّحَسُّرُ عَلَيْهِمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي إِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فَأَكَّدَ لَهُ الْخَبَرَ بِ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ، وَإِمَّا لِجَعْلِ التَّأْكِيدِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِتَكُونَ إِنَّ مُغْنِيَةً غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ فَتَتَمَخَّضَ الْجُمْلَةُ لِتَقْرِيرِ التَّسْلِيَةِ وَالتَّعْرِيضِ بِالْجَزَاءِ عَنْ ذَلِكَ.
وَعَبَّرَ بِ يَصْنَعُونَ دُونَ: يَعْمَلُونَ، لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ يُدَبِّرُونَ مَكَائِدَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ إِيذَانًا بِوُجُودِ بَاعِثٍ آخَرَ عَلَى النَّزْعِ عَنِ الْحَسْرَةِ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَبُو جهل وَحزبه.
[٩]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٩]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
لَمَّا قُدِّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ أَهْلِهَا وَذَلِكَ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ ثَنَّى هُنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِتَصْرِيفِ الْأَحْوَالِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَذَلِكَ بِإِرْسَالِ الرِّيَاحِ وَتَكْوِينِ السَّحَابِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ، فَهَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: ١].
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مقَام الْإِضْمَار دُونَ أَنْ يَقُولَ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَيَعُودُ الضَّمِيرُ إِلَى اسْمِ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [فاطر: ٨].
وَاخْتِيرَ مِنْ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ دَلَالَةُ تَجَمُّعِ أَسْبَابِ الْمَطَرِ لِيُفْضِيَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَنْظِيرِ إِحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ بَعْدَ أَحْوَالِ الْفَنَاءِ بِآثَارِ ذَلِكَ الصُّنْعِ الْعَجِيبِ وَأَنَّ الَّذِي خَلَقَ وَسَائِلَ إِحْيَاءِ الْأَرْضِ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ وَسَائِلِ إِحْيَاءِ الَّذِينَ ضَمِنَتْهُمُ الْأَرْضُ عَلَى سَبِيلِ الْإِدْمَاجِ.
267
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْقَصْدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ هُوَ وُقُوعُ الْإِحْيَاءِ وَتَقَرُّرُ وُقُوعِهِ جِيءَ بِفعل الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ: أَرْسَلَ. وَأَمَّا تَغْيِيرُهُ إِلَى الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَتُثِيرُ سَحاباً فَلِحِكَايَةِ الْحَالِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا إِثَارَةُ الرِّيَاحِ السَّحَابَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ لِلْبُلَغَاءِ فِي الْفِعْل الَّذِي فِيهِ خُصُوصِيَّة بِحَالٍ تُسْتَغْرَبُ وَتَهُمُّ السَّامِعَ. وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
بِأَنِّي قَدْ لَقِيتُ الْغُولَ تَهْوِي بِسَهْبٍ كَالصَّحِيفَةِ صَحْصَحَانِ
فَأَضْرِبُهَا بِلَا دَهَشٍ فَخَرَّتْ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْجِرَانِ
فَابْتَدَأَ بِ (لَقِيتُ) لِإِفَادَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ ثُمَّ ثَنَّى بِ (أَضْرِبُهَا) لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ
الْعَجِيبَةِ مِنْ إِقْدَامِهِ وَثَبَاتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ يُبْصِرُونَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَلَمْ يُؤْتَ بِفِعْلِ الْإِرْسَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٤٨] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ
الْآيَةَ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَا اسْتِدْلَالٌ بِمَا هُوَ وَاقِعٌ إِظْهَارًا لِإِمْكَانِ نَظِيرِهِ وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَجْدِيدِ صُنْعِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ تَقَدَّمَ غير مرّة أولاها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَفِي قَوْلِهِ: فَسُقْناهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ التَّفَاوُت مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَقَوْلُهُ: كَذلِكَ النُّشُورُ سَبِيلُهُ سَبِيلُ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطر:
٥] الْآيَاتِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّ مَا قَبْلَهُ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ فَحْوَى الدَّلَالَةِ لَمَّا ظَهَرَتْ فِي بُرْهَانِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ تَوْحِيدٍ أُخِذَ مِنْ طَرِيقِ دَلَالَةِ التَّقْرِيبِ لِوُقُوعِ الْبَعْث إِذْ عسر عَلَى عُقُولِهِمْ تَصْدِيقُ إِمْكَانِ الْإِعَادَةِ بَعْدَ الْفَنَاءِ لِيَحْصُلَ مِنْ بَارِقَةِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَارِقَةِ الْإِمْكَانِ مَا يَسُوقُ أَذْهَانَهُمْ إِلَى اسْتِقَامَةِ التَّصْدِيقِ بِوُقُوعِ الْبَعْثِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: كَذلِكَ النُّشُورُ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجْمُوعِ الْحَالَةِ الْمُصَوَّرَةِ، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الصُّنْعِ الْمُحْكَمِ الْمُتْقَنِ نَصْنَعُ صُنْعًا يَكُونُ بِهِ النشور بِأَن يهيّىء اللَّهُ حَوَادِثَ سَمَاوِيَّةً
268
أَوْ أَرْضِيَّةً أَو مَجْمُوعَة مِنْهُمَا حَتَّى إِذَا اسْتَقَامَتْ آثَارُهَا وَتَهَيَّأَتْ أَجْسَامٌ لِقَبُولِ أَرْوَاحِهَا أَمَرَ اللَّهُ بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِذَا الْأَجْسَادُ قَائِمَةٌ مَاثِلَةٌ نَظِيرَ أَمْرِ اللَّهِ بِنَفْخِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجِنَّةِ عِنْد استكمال تهيئها لِقَبُولِ الْأَرْوَاحِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبُ ذَلِكَ بِمِثْلِ هَذَا مِمَّا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ:
كَيْفَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ فَقَالَ: هَلْ مَرَرْتَ بِوَادٍ أُهْلِكَ مُمَحَّلًا ثُمَّ مَرَرْتَ بِهِ يَهْتَزُّ خَضِرًا؟ قيل: نعم. قَالَ: فَكَذَلِك يحيي اللَّهُ الْمَوْتَى وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ»

. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات عَن أبي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ أَن السَّائِل أَبُو رَزِينٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ الرِّياحَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «الرّيح» بِالْإِفْرَادِ، والمعرّف بِلَامِ الْجِنْسِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُفْرَدُ وَالْجَمْعُ.
[١٠]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.
مَضَى ذِكْرُ غُرُورَيْنِ إِجْمَالًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [فاطر: ٥]، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر: ٥] فَأَخَذَ فِي تَفْصِيلِ الْغَرُورِ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ [فاطر: ٦] وَمَا اسْتَتْبَعَهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَحْجَارِ كَيْدِهِ وَانْبِعَاثِ سُمُومِ مَكْرِهِ وَالْحَذَرِ مِنْ مَصَارِعِ مُتَابَعَتِهِ وَإِبْدَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَاقِعِينَ فِي حَبَائِلِهِ وَالْمُعَافِينَ مِنْ أَدْوَائِهِ، بِدَارًا بِتَفْصِيلِ الْأَهَمِّ وَالْأَصْلِ، وَأَبْقَى تَفْصِيلَ الْغَرُورِ الْأَوَّلِ إِلَى هُنَا.
وَإِذْ قَدْ كَانَ أَعْظَمُ غُرُورِ الْمُشْرِكِينَ فِي شِرْكِهِمْ نَاشِئًا عَنْ قَبُولِ تَعَالِيمِ كُبَرَائِهِمْ وَسَادَتِهِمْ وَكَانَ أَعْظَمُ دَوَاعِي الْقَادَةِ إِلَى تَضْلِيلِ دَهْمَائِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ، هُوَ مَا يَجِدُونَهُ من الْعِزَّة والافتنان بِحُبِّ الرِّئَاسَةِ فَالْقَادَةُ يَجْلِبُونَ الْعِزَّةَ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْأَتْبَاعُ يَعْتَزُّونَ بِقُوَّةِ قَادَتِهِمْ، لَا جَرَمَ كَانَتْ إِرَادَةُ الْعِزَّةِ مِلَاكَ تَكَاتُفِ الْمُشْرِكِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَتَأَلُّبِهِمْ عَلَى مُنَاوَأَةِ الْإِسْلَامِ، فَوَجَّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ لِكَشْفِ اغْتِرَارِهِمْ بِطَلَبِهِمُ الْعِزَّةَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مُسْتَمْسِكٍ بِحَبْلِ الشِّرْكِ مُعْرِضٌ عَنِ التَّأَمُّلِ فِي دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، لَا يُمَسِّكُهُ بِذَلِكَ إِلَّا إِرَادَةُ الْعِزَّةِ، فَلِذَلِكَ نَادَى عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ بِأَنَّ مَنْ
269
كَانَ ذَلِكَ صَارِفُهُ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ فَلْيَعْلَمْ بِأَنَّ الْعِزَّةَ الْحَقَّ فِي اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِزَّةِ كَالْعَدَمِ.
ومَنْ شَرْطِيَّةٌ، وَجُعِلَ جَوَابُهَا فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً، وَلَيْسَ ثُبُوتُ الْعِزَّةِ لِلَّهِ بِمُرَتَّبٍ فِي الْوُجُودِ عَلَى حُصُولِ هَذَا الشَّرْطِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَزَاءِ هُوَ عِلَّةُ الْجَوَابِ أُقِيمَتْ مَقَامَهُ وَاسْتُغْنِيَ بِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إِيجَازًا، وَلِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِخْرَاجِهِ مِنْ مَطَاوِي الْكَلَامِ تَقَرُّرُهُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ كَانَ يُرِيد الْعَذَاب فَلْيَسْتَجِبْ إِلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ فَفِيهَا الْعِزَّةُ لِأَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا الْعِزَّةُ الَّتِي يَتَشَبَّثُونَ بِهَا فَهِيَ كَخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ لِأَنَّهَا وَاهِيَةٌ بَالِيَةٌ.
وَهَذَا أُسْلُوبٌ مُتَّبَعٌ فِي الْمَقَامِ الَّذِي يُرَادُ فِيهِ تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِ عَلَى خَطَأٍ فِي زَعْمِهِ كَمَا فِي قَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْعَبْسِيِّ فِي مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَبْسِيِّ:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ بِاللَّيْلِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الْإِسْفَارِ
أَرَادَ أَنَّ مَنْ سَرَّهُ مَقْتَلُ مَالِكٍ فَلَا يَتَمَتَّعْ بِسُرُورِهِ وَلَا يَحْسَبْ أَنَّهُ نَالَ مُبْتَغَاهُ لِأَنَّهُ إِنْ أَتَى
سَاحَةَ نِسْوَتِنَا انْقَلَبَ سُرُورُهُ غَمًّا وَحُزْنًا إِذْ يَجِدُ دَلَائِلَ أَخْذِ الثَّأْرِ مِنْ قَاتِلِهِ بَادِيَةً لَهُ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْقَتِيلَ لَا يَنْدُبُهُ النِّسَاءُ إِلَّا إِذَا أُخِذَ ثَأْرُهُ. هَذَا مَا فَسَّرَهُ الْمَرْزُوقِيُّ وَهُوَ الَّذِي تَلَقَّيْتُهُ عَنْ شَيْخِنَا الْوَزِيرِ وَفِي الْبَيْتَيْنِ تَفْسِيرٌ آخَرُ.
وَقَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ وَهُوَ تَثْبِيتُ الْمُخَاطَبِ عَلَى عِلْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [العنكبوت: ٥].
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَا يُقْصَدُ بِهِ إِظْهَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الشَّرْطِ وَمَنِ اتَّصَفَ بِمَضْمُونِ الْجَزَاءِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
فَمَنْ يَكُنْ قَدْ قَضَى مِنْ خُلَّةٍ وَطَرًا فَإِنَّنِي مِنْكَ مَا قَضَيْتُ أوطاري
وَقَول ضابىء بْنِ الْحَارِثِ:
وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ
وَقَوْلِ الْكِلَابِيِّ:
270
فَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ يُفِيدُ قَصْرًا وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِمَا لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ عِزَّةٍ ضَئِيلَةٍ، أَيْ فَالْعِزَّةُ لِلَّهِ لَا لَهُمْ.
وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِيهِ تَرْتِيبُ الْجَوَابِ عَلَى الشَّرْطِ فِي الْوُقُوعِ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ [الْإِسْرَاء: ١٨] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها [هود: ١٥].
وجَمِيعاً أَفَادَتِ الْإِحَاطَةَ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ التَّأْكِيدِ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ فَحَصَلَتْ ثَلَاثَةُ مُؤَكِّدَاتٍ فَالْقَصْرُ بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدَيْنِ (١) وجَمِيعاً بِمَنْزِلَةِ تَأْكِيدٍ. وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [النِّسَاء: ١٣٩] فَإِنَّ فِيهِ تَأْكِيدَيْنِ: تَأْكِيدًا بِ (إِنَّ) وَتَأْكِيدًا بِ جَمِيعاً لِأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَحْتَجْ فِيهَا إِلَى تَقْوِيَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى جَمِيعاً عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً فِي سُورَةِ سَبَأٍ [٤٠].
وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْعِزَّةَ وَكَأَنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيِ الْعِزَّةُ كُلُّهَا لِلَّهِ لَا يَشِذُّ شَيْءٌ مِنْهَا فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْعِزَّةَ الْمُتَعَارَفَةَ بَيْنَ النَّاسِ كَالْعَدَمِ إِذْ لَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنِ احْتِيَاجٍ وَوَهَنٍ وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ.
وَتَعْرِيفُ الْعِزَّةَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْعِزَّةُ: الشَّرَفُ وَالْحَصَانَةُ مِنْ أَنْ يُنَالَ بِسُوءٍ.
فَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَانْصَرَفَ عَنْ دَعْوَةِ اللَّهِ إِبْقَاءً عَلَى مَا يَخَالُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ عِزَّةٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ إِذْ لَا عِزَّةَ لَهُ فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ مَاءً لِلَمْعِ سَرَابٍ. وَالْعِزَّةُ الْحَقُّ لِلَّهِ الَّذِي دَعَاهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ. وَعِزَّةُ الْمَوْلَى ينَال حزبه وأولياءه حَظّ مِنْهَا فَلَوِ اتَّبَعُوا أَمْرَ اللَّهِ فَالْتَحَقُوا بِحِزْبِهِ صَارَتْ لَهُمْ عِزَّةُ اللَّهِ وَهِيَ الْعِزَّةُ الدَّائِمَةُ فَإِنَّ عِزَّةَ الْمُشْرِكِينَ يَعْقُبُهَا ذُلُّ الِانْهِزَامِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ فِي الدُّنْيَا وَذُلُّ الْخِزْيِ وَالْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَعِزَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَزَايُدِ الدُّنْيَا وَلَهَا دَرَجَاتُ كَمَالٍ فِي الْآخِرَةِ.
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.
كَمَا أَتْبَعَ تَفْصِيلَ غُرُورِ الشَّيْطَانِ بِعَوَاقِبِهِ فِي الْآخِرَةِ بقوله: إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ
_________
(١) لقَوْل السكاكي: لَيْسَ الْحصْر والتخصيص إلّا تَأْكِيدًا على تَأْكِيد.
271
لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ [فاطر: ٦] الْآيَةَ، وَبِذِكْرِ مُقَابِلِ عَوَاقِبِهِ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، كَذَلِكَ أَتْبَعَ تَفْصِيلَ غُرُورِ الْأَنْفُسِ أَهْلَهَا بِعَوَاقِبِهِ وَبِذِكْرِ مُقَابِلِهِ أَيْضًا لِيَلْتَقِيَ مَآلُ الْغَرُورَيْنِ وَمُقَابِلِهِمَا فِي مُلْتَقًى وَاحِدٍ، وَلَكِنْ قُدِّمَ فِي الْأَوَّلِ عَاقِبَةُ أَهْلِ الْغَرُورِ بِالشَّيْطَانِ ثُمَّ ذُكِرَتْ عَاقِبَةُ أَضْدَادِهِمْ، وَعُكِسَ فِي مَا هُنَا لِجَرَيَانِ ذِكْرِ عِزَّةِ اللَّهِ فَقُدِّمَ مَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِآثَارِ عَزَّةِ اللَّهِ فِي حِزْبِهِ وَجُنْدِهِ.
وَجُمْلَةُ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا بِمُنَاسَبَةِ تَفْصِيلِ الْغَرُورِ الَّذِي يُوقَعُ فِيهِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ هِيَ الَّتِي تَنْفَعُ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ أَعْمَالَ الْمُشْرِكِينَ سَعْيٌ بَاطِلٌ. وَالْقُرُبَاتُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ، فَالْأَقْوَالُ مَا كَانَ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِغْفَارًا وَدُعَاءً، وَدُعَاءَ النَّاسِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [٧٠]. وَالْأَعْمَالُ فِيهَا قُرُبَاتٌ كَثِيرَةٌ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ بِالثَّنَاءِ وَالتَّمْجِيدِ كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أُحُدٍ: اعْلُ هُبَلَ، وَكَانُوا يَتَحَنَّثُونَ بِأَعْمَالٍ مِنْ طَوَافٍ وَحَجٍّ وَإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَشُوبًا بِالْإِشْرَاكِ لِأَنَّهُمْ يَنْوُونَ بِهَا التَّقَرُّبَ إِلَى الْآلِهَةِ فَلِذَلِكَ نَصَبُوا أَصْنَامًا فِي الْكَعْبَةِ وَجَعَلُوا هُبَلَ وَهُوَ كَبِيرُهُمْ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ، وَجَعَلُوا إِسَافَا وَنَائِلَةَ فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، لِتَكُونَ مَنَاسِكُهُمْ لِلَّهِ
مَخْلُوطَةً بِعِبَادَةِ الْآلِهَةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْإِشْرَاكِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِهِمْ.
فَلَمَّا قُدِّمَ الْمَجْرُورُ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أُفِيدَ أَنَّ كُلَّ مَا يُقَدَّمُ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ فَ الْعَمَلُ مُقَابِلُ الْكَلِمُ، أَيِ الْأَفْعَالُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْكَلَامِ، وَضَمِيرُ الرَّفْعِ عَائِدٌ إِلَى مَعَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً. وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ مِنْ يَرْفَعُهُ عَائِدٌ إِلَى الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَيِ اللَّهُ يَرْفَعُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ.
والصعود: الْإِذْهَابُ فِي مَكَانٍ عَالٍ. وَالرَّفْع: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ أَعْلَى مِنْهُ، فَالصُّعُودُ مُسْتَعَارٌ لِلْبُلُوغِ إِلَى عَظِيمِ الْقَدْرِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْقَبُولِ لَدَيْهِ.
272
وَ (الرَّفْعُ) : حَقِيقَتُهُ نَقْلُ الْجِسْمِ مِنْ مَقَرِّهِ إِلَى أَعْلَى مِنْهُ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ لِلْقَبُولِ عِنْدَ عَظِيمٍ، لِأَنَّ الْعَظِيمَ تَتَخَيَّلُهُ التَّصَوُّرَاتُ رَفِيعَ الْمَكَانِ. فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ (يَصْعَدُ) وَ (يَرْفَعُ) تَبِعَتَيْنِ قَرِينَتَيْ مَكْنِيَّةٍ بِأَنْ شُبِّهَ جَانِبُ الْقَبُولِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ مُرْتَفِعٍ لَا يَصِلُهُ إِلَّا مَا يَصْعَدُ إِلَيْهِ.
فَقَوْلُهُ: الْعَمَلُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ يَرْفَعُهُ، وَفِي بِنَاءِ الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَا يُفِيدُ تَخْصِيصَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهِ سِيَاقُ جُمْلَتِهِ عَقِبَ سِيَاقَ جُمْلَةِ الْقَصْرِ الْمُشْعِرِ بِسَرَيَانِ حُكْمِ الْقَصْرِ إِلَيْهِ بِالْقَرِينَةِ لِاتِّحَادِ الْمَقَامِ إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ يُقْصَرَ صُعُودُ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْجَانِبِ الْإِلَهِيِّ ثُمَّ يُجْعَلَ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً مَعَهُ فِي رَفْعِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، تَعَيَّنَ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، فَصَارَ الْمَعْنَى: اللَّهُ الَّذِي يَقْبَلُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ.
وَإِنَّمَا جِيءَ فِي جَانِبِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِجُمْلَةِ يَرْفَعُهُ وَلَمْ يُعْطَفْ عَلَى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ فِي حُكْمِ الصُّعُودِ إِلَى اللَّهِ مَعَ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ لفائدتين:
أولاهما: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ نَوْعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَهَمُّ مِنْ نَوْعِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ عَلَى الْجُمْلَةِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ أَوْسَعُ نَفْعًا مِنْ مُعْظَمِ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ (عَدَا كَلِمَةَ الشَّهَادَتَيْنِ وَمَا وَرَدَ تَفْضِيلُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي السُّنَّةِ مِثْلَ دُعَاءِ يَوْمِ عَرَفَةَ) فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ إِلَى اللَّهِ رَفْعُهُ بِنَفْسِهِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طيبا تلقّاها الرحمان بِيَمِينِهِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْجَبَلِ»
. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ يَتَكَيَّفُ فِي الْهَوَاءِ فَإِسْنَادُ الصُّعُودُ إِلَيْهِ مُنَاسِبٌ لِمَاهِيَّتِهِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ كَيْفِيَّاتٌ عَارِضَةٌ لِذَوَاتٍ فَاعِلَةٍ وَمَفْعُولَةٍ فَلَا يُنَاسِبُهُ إِسْنَادُ الصُّعُودِ إِلَيْهِ
وَإِنَّمَا يَحْسُنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَعَلِّقًا لِرَفْعٍ يَقَعُ عَلَيْهِ وَيُسَخِّرُهُ إِلَى الِارْتِفَاعِ.
273
وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.
هَذَا فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعِزَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠] الْآيَةَ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ فَعَطْفُهُمْ عَلَى مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ تَخْصِيصٌ لَهُمْ بِالذِّكْرِ لِمَا اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ تَدْبِيرِ الْمَكْرِ. وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِهِ.
وَالْمَكْرُ: تَدْبِيرُ إِلْحَاقِ الضُّرِّ بِالْغَيْرِ فِي خُفْيَةٍ لِئَلَّا يَأْخُذَ حِذْرَهُ، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ. وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَضْرُورِ بِوَاسِطَةِ الْبَاءِ الَّتِي لِلْمُلَابَسَةِ، يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ، وَيَتَعَلَّقُ بِوَسِيلَةِ الْمَكْرِ بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ يُقَالُ: مَكَرَ بِفُلَانٍ بِقَتْلِهِ فَانْتِصَابُ السَّيِّئاتِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لِمَصْدَرِ الْمَكْرِ نَائِبًا مَنَابَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِنَوْعِ الْفِعْلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَالَّذِينَ يمكرون الْمَكْر السيّء.
وَكَانَ حَقُّ وَصْفِ الْمَصْدَرِ أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: ٤٣] فَلَمَّا أُرِيدَ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمَكْرِ عُدِلَ عَنِ الْإِفْرَادِ إِلَى الْجَمْعِ وَأُتِيَ بِهِ جَمْعَ مُؤَنَّثٍ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَى الْفَعَلَاتِ مِنَ الْمَكْرِ، فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ مَكْرِهِمْ هِيَ سَيِّئَةٌ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ (صَالِحَةٍ) كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
فَمَنْ يُكْلَمْ يَغْرَضْ فَإِنِّي وَنَاقَتِي بِحَجْرٍ إِلَى أَهْلِ الْحِمَى غَرَضَانِ
كَيْفَ الْهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ مِنْ آلِ لَأْمٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ تَأْتِينِي
أَيْ صَالِحَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنْوَاعُ مَكَرَاتِهِمْ هِيَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠].
وَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ عِلَّةٌ فِيمَا يَرِدُ بَعْدَهَا مِنَ الْحُكْمِ، أَيْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ جَزَاءَ مَكْرِهِمْ. وَعُبِّرَ بِالْمُضَارِعِ فِي الصِّلَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ مَكْرِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِ وَأَنه دأبهم وهجّيراهم.
وَلَمَّا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى مَكْرِهِمْ أَنْبَأَهُمْ أَنَّ مَكْرَهُمْ لَا يَرُوجُ وَلَا يَنْفِقُ وَأَنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُضَرُّونَ بِسَبَبِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَالَ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ.
274
وَعُبِّرَ عَنْهُمْ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ دُونَ الضَّمِيرِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَمْيِيزِهِمْ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ، فَيُكَنَّى بِذَلِكَ عَنْ تَمْيِيزِ الْمَكْرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِمْ وَوُضُوحِهِ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَعِلْمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْهُ، فَكَأَنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى مَكْرِهِمْ بِاسْمِ إِشَارَةٍ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ مَكْرُ أُولئِكَ وَبَيْنَ يَبُورُ ضَمِيرُ فَصْلٍ إِذْ لَا يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التَّوْبَة: ١٠٤].
وَالرَّاجِحُ مِنْ أَقْوَالِ النُّحَاةِ قَوْلُ الْمَازِنِيِّ: أَنَّ ضَمِيرَ الْفَصْلِ يَلِيهِ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ، وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ دُونَ غَيْرِ الْمُضَارِعِ، وَوَافَقَهُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْإِيضَاحِ» لِأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَخَالَفَهُمَا أَبُو حَيَّانَ وَقَالَ: لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ إِلَى ذَلِكَ فِيمَا عَلِمْنَا. وَأَقُولُ: إِنَّ وَجْهَ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بَعْدَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ فَإِذَا اقْتَضَى الْمَقَامُ إِرَادَةَ إِفَادَةِ التَّجَدُّدِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ إِرَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ فِي حُصُولِ النِّسْبَةِ الْحِكْمِيَّةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى الْبَلِيغِ سَبِيلٌ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْقَصْدَيْنِ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ لِيُفِيدَ الثَّبَاتَ وَالتَّقْوِيَةَ لِتَعَذُّرِ إِفَادَةِ ذَلِك بِالْجُمْلَةِ الإسلامية. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَة: ٥]، فَالْفَصْلُ هُنَا يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ مَكْرُهُمْ يَبُورُ دُونَ غَيْرِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَهُ هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَمْكُرُ بِهِمْ مَكْرًا يُصِيبُ الْمَحَزَّ مِنْهُمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤].
وَالْبَوَارُ حَقِيقَتُهُ: كَسَادُ التِّجَارَةِ وَعَدَمُ نَفَاقِ السِّلْعَةِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِخَيْبَةِ الْعَمَلِ بِوَجْهِ الشَّبَهِ بَيْنَ مَا دَبَّرُوهُ مِنَ الْمَكْرِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى إِصَابَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضُرٍّ وَبَيْنَ مَا يُنَمِّقُهُ التَّاجِرُ وَمَا يُخْرِجُهُ مِنْ عِيَابِهِ وَيَرْصِفُهُ عَلَى مَبْنَاتِهِ وَسَطَ اللَّطِيمَةِ مَعَ السِّلَعِ لِاجْتِلَابِ شَرَهِ الْمُشْتَرِينَ.
ثُمَّ لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ فَيَرْجِعُ مِنْ لَطِيمَتِهِ لَطِيمَ كَفِّ الْخَيْبَةِ، فَارِغَ الْكَفِّ وَالْعَيْبَةِ.
[١١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً.
هَذَا عَوْدٌ إِلَى سَوْقِ دَلَائِلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةٍ عَلَيْهَا مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ بَعْدَ أَنْ قُدِّمَ لَهُمْ مَا هُوَ مِنْ دَلَالَةِ الْآفَاقِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: ٩]. فَهَذَا كَقَوْلِهِ:
275
سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: ٥٣] وَقَوْلِهِ: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: ٢١] فَابْتَدَأَهُمْ بِتَذْكِيرِهِمْ بِأَصْلِ التَّكْوِينِ الْأَوَّلِ مِنْ تُرَابٍ وَهُوَ مَا تَقَرَّرَ عِلْمُهُ لَدَى جَمِيعِ الْبَشَرِ مِنْ أَنَّ أَصْلَهُمْ وَهُوَ الْبَشَرُ الْأَوَّلُ، خُلِقَ مِنْ طِينٍ فَصَارَ ذَلِكَ حَقِيقَةً
مُقَرَّرَةً فِي عِلْمِ الْبَشَرِ وَهِيَ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْمَنْطِقِ «بِالْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ» الْقَائِمَةِ مَقَامَ الْمَحْسُوسَاتِ.
ثُمَّ اسْتَدْرَجَهُمْ إِلَى التَّكْوِينِ الثَّانِي بِدَلَالَةِ خَلْقِ النَّسْلِ مِنْ نُطْفَةٍ وَذَلِكَ عِلْمٌ مُسْتَقِرٌّ فِي النُّفُوسِ بِمُشَاهَدَةِ الْحَاضِرِ وَقِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الْمُشَاهَدِ، فَكَمَا يَجْزِمُ الْمَرْءُ بِأَنَّ نَسْلَهُ خُلِقَ مِنْ نُطْفَتِهِ يَجْزِمُ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نُطْفَةِ أَبَوَيْهِ، وَهَكَذَا يَصْعَدُ إِلَى تَخَلُّقِ أَبْنَاءِ آدَمَ وَحَوَّاءَ.
وَالنُّطْفَةُ تَقَدَّمَتْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٧].
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً يُشِيرُ إِلَى حَالَةٍ فِي التَّكْوِينِ الثَّانِي وَهُوَ شَرْطُهُ مِنَ الِازْدِوَاجِ. فَ ثُمَّ عَاطِفَةُ الْجُمْلَةِ فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ الَّذِي هُوَ أَهَمُّ فِي الْغَرَضِ أَعْنِي دَلَالَةَ التَّكْوِينِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ فَذَلِكَ مُوَزَّعٌ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ.
وَالْمَعْنَى: ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وَقَدْ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا لِتَرْكِيبِ تِلْكَ النُّطْفَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِدِقَّةِ صُنْعِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الصَّانِعِ. وَفِيهَا غُنْيَةٌ عَنِ النَّظَرِ فِي تَأَمُّلِ صُنْعِ بَقِيَّةِ الْحَيَوَانِ.
وَالْأَزْوَاجُ: جَمْعُ زَوْجٍ وَهُوَ الَّذِي يَصِيرُ بِانْضِمَامِ الْفَرْدِ إِلَيْهِ زوجا، أَي شفعا، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى صِنْفِ الذُّكُورِ مَعَ صِنْفِ الْإِنَاثِ لِاحْتِيَاجِ الْفَرْدِ الذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ إِلَى أُنْثَاهُ مِنْ صِنْفِهِ وَالْعَكْسِ.
وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.
بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ الثَّانِي مِنَ التَّلَاقُحِ بَين النطفتين اسْتدلَّ بِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْأَطْوَارِ الْعَارِضَةِ لِلنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ وَهُوَ أَطْوَارُ الْحَمْلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى الْوَضْعِ.
276
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ التَّنْبِيهِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْكَائِنَاتِ الْخَفِيَّةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَلِكَوْنِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيَّاتِ أَعْلَى قُدِّمَ ذِكْرُ الْحَمْلِ عَلَى ذِكْرِ الْوَضْعِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ عَطْفِ الْوَضْعِ أَنْ يَدْفَعَ تَوَهُّمَ وُقُوفِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْخَفِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْغَيْبِ دُونَ الظَّوَاهِرِ بِأَنْ يَشْتَغِلَ عَنْهَا بِتَدْبِيرِ خَفِيَّاتِهَا كَمَا هُوَ شَأْن عُظَمَاء الْعُلَمَاءِ مِنْ الْخَلْقِ، لظُهُور اسْتِحَالَةِ تَوَجُّهِ إِرَادَةِ الْخَلْقِ نَحْوَ مَجْهُولٍ عِنْدَ مُرِيدِهِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ. وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. وَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
لَا جَرَمَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنِ التَّكْوِينِ يَسْتَتْبِعُ ذِكْرَ الْمَوْتِ الْمَكْتُوبِ عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَجَاءَ بِذِكْرِ عِلْمِهِ الْآجَالَ وَالْأَعْمَارَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى سَعَةِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ.
وَالتَّعْمِيرُ: جَعْلُ الْإِنْسَانِ عَامِرًا، أَيْ بَاقِيًا فِي الْحَيَاةِ، فَإِنَّ الْعَمْرَ هُوَ مُدَّةُ الْحَيَاةِ يُقَالُ:
عَمِرَ فُلَانٌ كَفَرِحَ وَنَصِرَ وَضَرِبَ، إِذَا بَقِيَ زَمَانًا، فَمَعْنَى عَمَّرَهُ بِالتَّضْعِيفِ: جَعَلَهُ بَاقِيًا مُدَّةً زَائِدَةً عَلَى الْمُدَّةِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي أَعْمَارِ الْأَجْيَالِ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِالنَّقْصِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِالتَّعْمِيرِ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالْمَبْنِيِّ لِلْمَجْهُولِ فَيُقَالُ: عُمِّرَ فُلَانٌ فَهُوَ مُعَمَّرٌ. وَقَدْ غَلَبَ فِي هَذِهِ الْأَجْيَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ بَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ فَمَا بَيْنَهُمَا، فَهُوَ عُمُرٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْمُعَمَّرُ الَّذِي يَزِيدُ عُمُرُهُ عَلَى السَّبْعِينَ، وَالْمَنْقُوصُ عُمُرُهُ الَّذِي يَمُوتُ دُونَ السِّتِّينَ. وَلِذَلِكَ كَانَ أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ فِي تَعْمِيرِ الْمَفْقُودِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هُوَ الْإِبْلَاغَ بِهِ سَبْعِينَ سَنَةً مِنْ تَارِيخِ وِلَادَتِهِ وَوَقَعَ الْقَضَاءُ فِي تُونُسَ بِأَنَّهُ مَا تَجَاوَزَ ثَمَانِينَ سَنَةً، قَالُوا: لِأَنَّ الَّذِينَ يَعِيشُونَ إِلَى ثَمَانِينَ سنة غَيْرُ قَلِيلٍ فَلَا يَنْبَغِي الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ الْمَفْقُودِ مَيِّتًا إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمِيرَاثُ وَلَا مِيرَاثَ بِشَكٍّ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِهِ مَيِّتًا تُزَوَّجُ امْرَأَتُهُ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّزَوُّجِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ خَلِيَّةً مِنْ عِصْمَةٍ، وَلَا يَصِحُّ إِعْمَالُ الشَّرْطِ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ. وَهُوَ تَخْرِيجٌ فِيهِ نَظَرٌ.
وَضَمِيرُ مِنْ عُمُرِهِ عَائِدًا إِلَى مُعَمَّرٍ عَلَى تَأْوِيلِ مُعَمَّرٍ بِ (أَحَدٍ) كَأَنَّهُ
277
قِيلَ:
وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ أَحَدٍ وَلَا ينقص من عُمُرُهُ، أَيْ عُمُرُ أَحَدٍ وَآخَرَ. وَهَذَا كَلَامٌ جَارٍ عَلَى التَّسَامُحِ فِي مِثْلِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ السَّامِعِينَ يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاء: ١٢] لِظُهُورِ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ الْمَيِّتُ وَارِثًا لِمَنْ قَدْ وَرِثَهُ وَلَا وَارِثٌ مَيِّتًا مَوْرُوثًا لِوَارِثِهِ.
وَالْكِتَابُ كِنَايَةٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لَا يَغِيبُ عَنْهُ مَعْلُومٌ كَمَا أَنَّ الشَّيْءَ الْمَكْتُوبَ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ مَوْجُودَاتٍ هِيَ كَالْكُتُبِ تُسَطَّرُ فِيهَا الْآجَالُ مُفَصَّلَةً وَذَلِكَ يَسِيرٌ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أَيْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ هَذَا الضَّبْطِ عُسْرٌ وَلَا كَدٌّ.
وَقَدْ وَرَدَ هُنَا الْإِشْكَالُ الْعَامُّ النَّاشِئُ عَنِ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَدِلَّةِ جَرَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ سَابِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فِي الْأَزَلِ، وَبَيْنَ إِضَافَةِ الْأَشْيَاءِ إِلَى أَسْبَابٍ وَطَلَبِ اكْتِسَابِ الْمَرْغُوبِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَاجْتِنَابِ الْمَكْرُوهِ مِنْهَا فَكَيْفَ يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَعْمَارِ زِيَادَةٌ وَنَقْصٌ مَعَ كَوْنِهَا فِي كِتَابٍ وَعِلْمٍ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ، وَكَيْفَ يرغّب فِي الصَّدَقَة مثلا بِأَنَّهَا تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَأَنَّ صلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمُرِ.
وَالْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا وَنَحْوِهِ هُوَ الْقَاعِدَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْفَارِقَةُ بَيْنَ كَوْنِ الشَّيْءِ مَعْلُومًا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُرَادًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ وَالْمَعْدُومَةِ. وَالْإِرَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِإِيجَادِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ بِأَنَّهَا تُوجَدُ، فَالنَّاسُ مُخَاطَبُونَ بِالسَّعْيِ لِمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ فَإِذَا تَعَلَّقَتِ الْإِرَادَةُ بِالشَّيْءِ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ وُقُوعَهُ، وَمَا تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ وَمَسَاعِيهِمْ إِلَّا أَمَارَاتٌ عَلَى مَا عَلِمَهُ اللَّهُ لَهُمْ، فَصَدَقَةُ الْمُتَصَدِّقِ أَمَارَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ تَعْمِيرَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُظْهِرُ مَعْلُومَاتِهِ فِي مَظَاهِرِ تَكْرِيمٍ أَوْ تَحْقِيرٍ لِيَتِمَّ النِّظَامُ الَّذِي أَسَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِ هَذَا الْعَالَمَ وَيَلْتَئِمُ جَمِيعُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ هَذَا التَّكْوِينِ عَلَى وُجُوهٍ لَا يُخِلُّ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الْعَالِيَةِ. وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ إِلَّا هَذَا الْجَوَابُ وَجَمِيعُ مَا سِوَاهُ وَإِنْ أَقْنَعَ ابْتِدَاءً فَمَآلُهُ إِلَى حَيْثُ ابْتَدَأَ الْإِشْكَال.
278

[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٢]

وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
انْتِقَالٌ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحْوَالِ فِي الْأَجْوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بِحَارٍ وَأَنْهَارٍ وَمَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى دَلَالَةِ وُجُودِ أعيانها، على عَظِيم مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَصِيغَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أُسْلُوبٍ بَدِيعٍ إِذِ اقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى التَّنْبِيهِ عَلَى الْحِكْمَةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ نَامُوسُ تَمَايُزِهَا بِخَصَائِصَ مُخْتَلِفَةٍ وَاتِّحَادِ أَنْوَاعِهَا فِي خَصَائِصَ مُتَمَاثِلَةٍ اسْتِدْلَالًا عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ بِخَلْقِ الْبَحْرَيْنِ أَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ ذِكْرَ اخْتِلَافِ مَذَاقِهِمَا يَسْتَلْزِمُ تَذَكُّرَ تَكْوِينِهِمَا.
فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَ الْبَحْرَيْنِ الْعَذْبَ وَالْأُجَاجَ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَخَالف بَين أعراضهما، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَفَاوُتُ الْبَحْرَيْنِ فِي الْمَذَاقِ وَاقْتُصِرَ عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَفَانِينِ الدَّلَائِلِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي «الْكَشَّافِ» : ضَرَبَ الْبَحْرِينِ الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ مَثَلًا لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، ثُمَّ قَالَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ فِي صِفَةِ الْبَحْرَيْنِ وَمَا عُلِّقَ بِهِمَا مِنْ نِعْمَتِهِ وَعَطَائِهِ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا.
وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: اسْمٌ لِلْمَاءِ الْكَثِيرِ الْقَارِّ فِي سَعَةٍ، فَالْفُرَاتُ وَالدِّجْلَةُ بَحْرَانِ عَذْبَانِ وَبَحْرُ خَلِيجِ الْعَجَمِ مِلْحٌ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرَيْنِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [٥٣] وَقَدِ اتَّحَدَا فِي إِخْرَاجِ الْحِيتَانِ وَالْحِلْيَةِ، أَيِ اللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ، وَهُمَا يُوجَدُ أَجْوَدُهُمَا فِي بَحْرِ الْعَجَمِ حَيْثُ مَصَبُّ النَّهْرَيْنِ، وَلِمَاءِ النَّهْرَيْنِ الْعَذْبِ وَاخْتِلَاطِهِ بِمَاء الْبَحْر الْملح أَثَرٌ فِي جَوْدَةِ اللُّؤْلُؤِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، فَقَوْلُهُ: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا كُلِّيَّةٌ، وَقَوْلُهُ: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً كُلٌّ لَا كُلِّيَّةٌ لِأَنَّ مِنْ مَجْمُوعِهَا تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً. وَكَلِمَةُ كُلٍّ صَالِحَةٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ، فَعَطْفُ وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ.
279
فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَحْرِينِ بِالْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ دَلِيلٌ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ. وَالتَّخَالُفُ فِي بَعْضِ مُسْتَخْرَجَاتِهِمَا وَالتَّمَاثُلُ فِي بَعْضِهَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَهَذَا مِنْ أَفَانِينِ الِاسْتِدْلَالِ.
وَالْعَذْبُ: الْحُلْوُ حَلَاوَةً مَقْبُولَةً فِي الذَّوْقِ.
وَالْمِلْحُ بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون اللَّام: الشَّيْءُ الْمَوْصُوفُ بِالْمُلُوحَةِ بِذَاتِهِ لَا بِإِلْقَاءِ مِلْحٍ فِيهِ، فَأَمَّا الشَّيْءُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الْمِلْحُ حَتَّى يَكْتَسِبَ مُلُوحَةً فَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: مَالِحٌ، وَلَا يُقَالُ: مِلْحٌ.
وَمَعْنَى: سائِغٌ شَرابُهُ أَنَّ شُرْبَهُ لَا يُكَلِّفُ النَّفْسَ كَرَاهَةً، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِسَاغَةِ وَهِيَ اسْتِطَاعَةُ ابْتِلَاعِ الْمَشْرُوبِ دُونَ غُصَّةٍ وَلَا كُرْهٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَعْرُبَ:
فَسَاغَ لِيَ الشَّرَاب وَكنت قبلا أَكَادُ أَغُصُّ بِالْمَاءِ الْحَمِيمِ
وَالْأُجَاجُ: الشَّدِيدُ الْمُلُوحَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْبَحْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٩]، وَبَقِيَّةُ الْآيَةِ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ.
وَتَقْدِيمُ الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ مَواخِرَ عَلَى عَكْسِ آيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى دَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَخْلُوقَاتِ وَأُدْمِجَ فِيهِ الامتنان
بقوله: تَأْكُلُونَ.... وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً وَقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فَكَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ سِيَاقِهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ فَهُوَ الْأَهَمُّ هُنَا. وَلَمَّا كَانَ طَفْوُ الْفُلْكِ عَلَى الْمَاءِ حَتَّى لَا يَغْرَقَ فِيهِ أَظْهَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ مِنَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ وَالِامْتِنَانِ قُدِّمَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الظَّرْفِيَّةُ فِي الْبَحْرِ. وَالْمَخْرُ فِي الْبَحْرِ آيَةُ صُنْعِ اللَّهِ أَيْضًا بِخَلْقِ وَسَائِلِ ذَلِكَ وَالْإِلْهَامِ لَهُ، إلّا أَن خطور السَّفَرِ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ أَوْ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ فَأُخِّرَ هُنَا لِأَنَّهُ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ الْغَرَضِ لَا مِنْ مَقْصِدِهِ فَهُوَ يَسْتَتْبِعُ نِعْمَةَ تَيْسِيرِ الْأَسْفَارِ لِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الَّتِي لَوْ قُطِعَتْ بِسَيْرِ الْقَوَافِلِ لَطَالَتْ مُدَّةُ الْأَسْفَارِ.
وَمِنْ هُنَا يَلْمَعُ بَارِقُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي كَوْنِ فِعْلِ لِتَبْتَغُوا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِالْوَاوِ هُنَا وَمَعْطُوفًا نَظِيرُهُ فِي آيَةِ النَّحْلِ لِأَنَّ الِابْتِغَاءَ عُلِّقَ
280
هُنَا بِ مَواخِرَ إِيقَافًا عَلَى الْغَرَضِ مِنْ تَقْدِيمِ الظَّرْفِ، وَفِي آيَةِ النَّحْلِ ذُكِرَ الْمَخْرُ فِي عداد الامتنان لِأَنَّهُ بِهِ تَيْسِيرَ الْأَسْفَارِ، ثُمَّ فُصِلَ بَيْنَ مَواخِرَ وَعِلَّتِهِ بِظَرْفِ فِيهِ، فَصَارَ مَا يؤمىء إِلَيْهِ الظَّرْفُ فَصْلًا بِغَرَضٍ أُدْمِجَ إِدْمَاجًا وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَظِيمِ الصُّنْعِ بِطَفْوِ الْفُلْكِ عَلَى الْمَاءِ، فَلَمَّا أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى غَرَضٍ آخَرَ وَهُوَ الْعَوْدُ إِلَى الِامْتِنَانِ بِالْمَخْرِ لِنِعْمَةِ التِّجَارَةِ فِي الْبَحْرِ عُطِفَ الْمُغَايِرُ فِي الْغَرَضِ.
[١٣، ١٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
اسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِمْ بِمَا فِي مَظَاهِرِ السَّمَاوَاتِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ فِي أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ لِيَتَذَكَّرُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ، سِوَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ فِيهَا كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ فَعُدِّيَ فِعْلُ يَجْرِي بِاللَّامِ وَجِيءَ فِي آيَةِ سُورَةِ لُقْمَانَ تَعْدِيَةُ فِعْلِ يَجْرِي بِحَرْفِ (إِلَى)، فَقِيلَ اللَّامُ تَكُونُ بِمَعْنَى (إِلَى) فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِهَاءِ، فَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ فِي النَّظْمِ. وَهَذَا أَبَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ وَرَدَّهُ أَغْلَظَ رَدٍّ فَقَالَ:
لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تَعَاقُبِ الْحَرْفَيْنِ وَلَا يَسْلُكُ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ إِلَّا بَلِيدُ الطَّبْعِ ضَيِّقُ الْعَطَنِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَيَيْنِ أَعْنِي الِانْتِهَاءَ وَالِاخْتِصَاصَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلَائِمٌ لِصِحَّةِ الْغَرَضِ لِأَنَّ قَوْلَكَ:
يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى مَعْنَاهُ يَبْلُغُهُ، وَقَوْلَهُ: يَجْرِي لِأَجَلٍ تُرِيدُ لِإِدْرَاكِ أَجَلٍ اهـ.
وَجُعِلَ اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ وَيَجْرِي لِأَجْلِ أَجَلٍ، أَيْ لِبُلُوغِهِ وَاسْتِيفَائِهِ، وَالِانْتِهَاءُ وَالِاخْتِصَاصُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُلَائِمٌ لِلْغَرَضِ، أَيْ فَمَآلُ الْمَعْنَيَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَ طَرِيقُهُ مُخْتَلِفًا، يَعْنِي فَلَا يُعَدُّ الِانْتِهَاءُ مَعْنًى لِلَّامِ كَمَا فَعَلَ ابْنُ مَالِكٍ وَابْنُ هِشَامٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَرْمِي إِلَى تَحْقِيقِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَعَانِي الْحُرُوف وَهُوَ مِمَّا نَمِيلُ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّنَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُنْكِرَ كَثْرَةَ وُرُودِ اللَّامِ فِي مَقَامِ مَعْنَى الِانْتِهَاءِ كَثْرَةً جَعَلَتِ اسْتِعَارَةَ حَرْفِ التَّخْصِيصِ لِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَى مُسَاوِيهِ لِلْحَقِيقَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّمَخْشَرِيُّ يُرِيدُ أَنَّ الْأَجَلَ هُنَا هُوَ أَجَلُ كُلِّ إِنْسَانٍ، أَيْ عُمُرُهُ وَأَنَّ الْأَجَلَ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ هُوَ أَجَلُ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ.
وَهُوَ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ إِدْمَاجٌ لِلتَّذْكِيرِ فِي خِلَالِ الِاسْتِدْلَالِ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَّرَهُمْ
281
بِأَنَّ لِأَعْمَارِهِمْ نِهَايَةً تَذْكِيرًا مُرَادًا بِهِ الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٦٠] ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى. وَاقْتِلَاعُ الطُّغْيَانِ وَالْكِبْرِيَاءِ مِنْ نُفُوسِهِمْ.
وَيُرِيدُ ذَلِكَ أَنَّ مُعْظَمَ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَهَا: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وَفِي سُورَةِ لُقْمَانَ الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَامٌّ لِكُلِّ مُخَاطَبٍ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ فَكَانَ إِدْمَاجُ التَّذْكِيرِ فِيهِ بِأَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ انْتِهَاءً أَنْسَبَ بِالْجَمِيعِ لِيَسْتَعِدَّ لَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلِيُرْغَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْبَعْثِ لِأَنَّ نِهَايَةَ هَذَا الْعَالَمِ ابْتِدَاءٌ لِعَالَمٍ آخَرَ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ اسْتِئْنَافٌ مَوْقِعُهُ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ بَعْدَ تَفْصِيلِهَا.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُوَجَّهٌ إِلَى مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ وَالْأَخْبَارُ السَّابِقَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: ٩] الْآيَاتِ فَكَانَ اسْمُهُ حَرِيًّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ إِجْرَاءِ تِلْكَ الصِّفَاتِ إِذْ بِذِكْرِهَا يَتَمَيَّزُ عِنْدَ السَّامِعِينَ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِأَبْصَارِهِمْ مَعَ مَا فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْبُعْدِ الْمُسْتَعْمَلِ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، وَمَعَ مَا يَقْتَضِيهِ إِيرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَقِبَ أَوْصَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقٌ بِمَا سَيَرِدُ بَعْدَ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ
الصِّفَاتِ فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُ الِاسْمِ الْمُخْتَصِّ بِهِ الَّذِي لَا يَجْهَلُونَهُ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ رَبُّ الْخَلَائِقِ بَعْدَ أَنْ سَجَّلَ عَلَيْهِمْ مَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِإِنْكَارِهِ مِنْ أَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَأَنْ خَلَقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، وَقَدَّرَ آجَالَهُمْ وَأَوْجَدَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمْ مِنَ الْأَحْوَالِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَهُوَ الرَّبُّ دُونَ غَيْرِهِ وَهُوَ الَّذِي الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ أَفَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ، فَانْتَهِضِ الدَّلِيلَ.
282
وَعُطِفَ عَلَيْهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنَ الْمُلْكِ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا وَهُوَ الْمُمَثَّلُ بِالْقِطْمِيرِ.
وَالْقِطْمِيرُ: الْقِشْرَةُ الَّتِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ كَالْخَيْطِ الدَّقِيقِ. فَالْمَعْنَى: لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَوْ حَقِيرًا، فَكَوْنُهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْقِطْمِيرِ مَعْلُومٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ أَصْنَامَهُمْ حِجَارَةٌ جَاثِمَةٌ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا بِتَكَسُّبٍ وَلَا تَحُوزُهُ بِهِبَةٍ، فَإِذَا انْتَفَى أَنَّهَا تَمْلِكُ شَيْئًا انْتَفَى عَنْهَا وَصْفُ الْإِلَهِيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، فَنُفِيَ مَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ.
وَجُمْلَةُ إِنْ تَدْعُوهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ [فاطر: ١٣]. وَالْمَقْصِدُ مِنْهَا تَنْبِيهُ الْمُشْرِكِينَ إِلَى عَجْزِ أَصْنَامِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ اسْتِدْلَالًا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ فَلِذَلِكَ كَانُوا يُكَلِّمُونَهَا وَيُوَجِّهُونَ إِلَيْهَا مَحَامِدَهُمْ وَمَدَائِحَهُمْ، وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى الْخَبَرِ وَهِيَ جُمْلَةُ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ فَإِنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ، وَلَيْسَتِ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، أَيْ وَلَوْ سَمِعُوا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ وَمُجَارَاةِ مَزَاعِمِكُمْ حِينَ تَدَّعُونَهَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَجِيبُ لِدَعْوَتِكُمْ، أَيْ لَا تُرَدُّ عَلَيْكُمْ بِقَبُولٍ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ سَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ، فَطَالَمَا دَعَوُا الْأَصْنَامَ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهَا جَوَابًا وَطَالَمَا دَعَوْهَا فَلَمْ يَحْصُلْ مَا دَعَوْهَا لِتَحْصِيلِهِ مَعَ أَنَّهَا حَاضِرَةٌ بِمَرْأًى مِنْهُمْ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ، فَعَدَمُ إِجَابَتِهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْمَعُ، لِأَنَّ شَأْنَ الْعَظِيمِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِأَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي مَرْضَاتِهِ، فَقَدْ لَزِمَهُمْ إِمَّا عَجْزُهَا وَإِمَّا أَنَّهَا لَا تَفْقَهُ إِذْ لَيْسَ فِي أَوْلِيَائِهَا مَغْمَزٌ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُرْضَيْنَ لِهَذَا. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُوَطَّأِ بِمُقَدِّمَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: مَا اسْتَجابُوا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ الْمُنَادِي بِكَلِمَاتِ الْجَوَابِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى إِجَابَةِ السَّائِلِ بِتَنْوِيلِهِ مَا سَأَلَهُ. وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي
مَعْنَيَيْهِ.
وَلَمَّا كُشِفَ حَالُ الْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِمَا فِيهِ تَأْيِيسٌ مِنِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَا فِيهَا كَمُلَ كَشْفُ أَمْرِهَا فِي الْآخِرَةِ بِأَنَّ تِلْكَ الْأَصْنَامَ يُنْطِقُهَا اللَّهُ فَتَتَبَرَّأُ مِنْ شِرْكِهِمْ، أَيْ تَتَبَرَّأُ مِنْ أَنْ تَكُونَ دَعَتْ لَهُ أَوْ رَضِيَتْ بِهِ.
283
وَالْكُفْرُ: جُحْدٌ فِي كَرَاهَةٍ.
وَالشِّرْكُ أُضِيفَ إِلَى فَاعِلِهِ، أَيْ بِشِرْكِكُمْ إِيَّاهُمْ فِي الْإِلَهِيَّةِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأُجْرِيَ عَلَى الْأَصْنَامِ مَوْصُولُ الْعَاقِلِ وَضَمَائِرُ الْعُقَلَاءِ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ [فاطر: ١٣] إِلَى قَوْلِهِ: يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ عَلَى تَنْزِيلِ الْأَصْنَامِ مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ مُجَارَاةً لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَقَوْلُهُ: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ تَذْيِيلٌ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِهَا هُوَ الْخَبِيرُ بِهَا وَبِغَيْرِهَا وَلَا يُخْبِرُكَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا يُخْبِرُكَ هُوَ.
وَعَبَّرَ بِفِعْلِ الْإِنْبَاءِ لِأَنَّ النَّبَأَ هُوَ الْخَبَرُ عَنْ حَدَثٍ خَطِيرٍ مُهِمٍّ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: يُنَبِّئُكَ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ سَمَاعُ هَذَا الْكَلَامِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ أُرْسِلَتْ مُرْسَلَ الْأَمْثَالِ فَلَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ مَضْمُونِهَا بِمُخَاطَبٍ مُعَيَّنٍ.
وخَبِيرٍ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَبُرَ، بِضَمِّ الْبَاءِ، فُلَانٌ الْأَمْرَ، إِذَا عَلِمَهُ عِلْمًا لَا شَكَّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِ خَبِيرٍ جِنْسُ الْخَبِيرِ، فَلَمَّا أَرْسَلَ هَذَا الْقَوْلَ مَثَلًا وَكَانَ شَأْنُ الْأَمْثَالِ أَنْ تَكُونَ مُوجَزَةً صِيغَ عَلَى أُسْلُوبِ الْإِيجَازِ فَحُذِفَ مِنْهُ متعلّق فعل (ينبّىء) ومتعلّق وَصْفِ خَبِيرٍ، وَلَمْ يُذْكَرْ وَجْهُ الْمُمَاثَلَةِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ. وَجُعِلَ خَبِيرٍ نَكِرَةً مَعَ أَن المُرَاد بِهِ خَبِيرٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْمُتَكَلِّمُ فَكَانَ حَقُّهُ التَّعْرِيفَ، فَعُدِلَ إِلَى تَنْكِيرِهِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ إِضَافَةَ كَلِمَةِ مِثْلُ إِلَى خَبِير لَا تفيده تَعْرِيفًا. وَجُعِلَ نَفْيُ فِعْلِ الْإِنْبَاءِ كِنَايَةً عَنْ نَفْيِ الْمُنْبِئِ. وَلَعَلَّ التَّرْكِيبَ: وَلَا يُوجَدُ أَحَدٌ يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ يُمَاثِلُ هَذَا الْخَبِيرَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِهِ، فَإِذَا أَرْدَفَ مُخْبِرٌ خَبَرَهُ بِهَذَا الْمَثَلِ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ الْمُخْبِرِ بِالْخَبَرِ الْمَخْصُوصِ يُرِيدُ بِ خَبِيرٍ نَفْسَهُ لِلتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ وَبَيْنَ تَمَثُّلِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ.
فَالْمَعْنَى: وَلَا يُنَبِّئُكَ بِهَذَا الْخَبَرِ مِثْلِي لِأَنِّي خَبِرْتُهُ، فَهَذَا تَأْوِيلُ هَذَا التَّرْكِيب وَقد أغفل المفسّرون بَيَان هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَالْمِثْلُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ: الْمُسَاوِي إِمَّا فِي قَدْرٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى ضَعْفٍ، وَإِمَّا الْمُسَاوِي فِي صِفَةٍ فَيَكُونُ بِمَعْنَى شَبِيهٍ وَهُوَ بِوَزْن فعل بِمَعْنى فَاعل وَهُوَ قَلِيلٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: شِبْهٌ، وندّ، وخدن.
284

[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٥]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)
لَمَّا أُشْبِعَ الْمَقَامُ أَدِلَّةً، وَمَوَاعِظَ، وَتَذْكِيرَاتٍ، مِمَّا فِيهِ مَقْنَعٌ لِمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الِانْتِفَاعِ وَالِاقْتِنَاعِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ أَحْوَالِ الْقَوْمِ مَا يُتَوَسَّمُ مِنْهُ نَزْعُهُمْ عَنْ ضَلَالِهِمْ وَرُبَّمَا أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِ أَهْلِ الْعِزَّةِ مِنْهُمْ إِعْجَابًا بِأَنْفُسِهِمْ وَاغْتِرَارًا بِأَنَّهُمْ مَرْغُوبٌ فِي انْضِمَامِهِمْ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَزِيدُهُمْ ذَلِكَ الْغَرُورُ قَبُولًا لِتَسْوِيلِ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ لَهُمْ أَنْ يَعْتَصِمُوا بِشِرْكِهِمْ، نَاسَبَ أَنْ يُنَبِّئَهُمُ اللَّهُ بِأَنَّهُ غَنِي عَنْهُم وَأَنَّ دِينَهُ لَا يَعْتَزُّ بِأَمْثَالِهِمْ وَأَنَّهُ مُصَيِّرُهُمْ إِلَى الْفَنَاءِ وَآتٍ بِنَاسٍ يَعْتَزُّ بِهِمُ الْإِسْلَامُ.
فَالْمُرَاد ب يَا أَيُّهَا النَّاسُ هُمُ الْمُشْرِكُونَ كَمَا هُوَ غَالِبُ اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ، وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ آنِفًا ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر: ١٣] الْآيَاتِ.
وَقَبْلَ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَيْهِمُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ وُجِّهَ إِلَيْهِمْ إِعْلَامٌ بِأَنَّهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ لِلذِّلَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِمْ مِنَ الشُّعُورِ بِأَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يوقنون بِأَنَّهُم فُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَلَكِنَّهُمْ لَا يُوقِنُونَ بالمقصد الَّذِي يُفْضِي إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ، فَأُرِيدَ إِبْلَاغُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ وَلَكِنْ عَلَى وَجْهِ قَرْعِ أَسْمَاعِهِمْ بِمَا لَمْ تكن تقرع بِهِ مِنْ قَبْلُ عَسَى أَنْ يَسْتَفِيقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ وَيَتَكَعْكَعُوا عَنْ غُرُورِ أَنْفُسِهِمْ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُو جَمْعُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عُقُولٍ صَالِحَةٍ لِلْوُصُولِ إِلَى حَقَائِقِ الْحَقِّ فَأُولَئِكَ إِذَا قُرِعَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِمَا لَمْ يَكُونُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ قَبْلُ ازْدَادُوا يَقِينًا بِمُشَاهَدَةِ مَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ بَصَائِرِهِمْ بِأَسْتَارِ الِاشْتِغَالِ بِفِتْنَةِ ضَلَالِهِمْ عَسَى أَنْ يُؤْمِنَ مَنْ هَيَّأَهُ اللَّهُ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ، فَمَنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ كَانَ بَقَاؤُهُ مَشُوبًا بِحِيرَةٍ وَمَرَّ طَعْمُ الْحَيَاةِ عِنْدَهُ، فَأَيْنَ مَا كَانَتْ تَتَلَقَّاهُ مَسَامِعُهُمْ مِنْ قَبْلِ تَمْجِيدِهِمْ وَتَمْجِيدِ آبَائِهِمْ وَتَمْجِيدِ آلِهَتِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا عَاتَبُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مُرَاجَعَتِهِمْ عَدُّوا عَلَيْهِ شَتْمَ آبَائِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَتَانِ.
وَجُمْلَةُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ تُفِيدُ الْقَصْرَ لِتَعْرِيفِ جُزْأَيْهَا، أَيْ قَصْرَ صِفَةِ الْفَقْرِ عَلَى النَّاسِ الْمُخَاطَبِينَ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، أَيْ أَنْتُمُ الْمُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِمُفْتَقِرٍ إِلَيْكُمْ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: ٧] الْمُشْعِرُ بِأَنَّهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يَغِيظُونَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَدَمِ قَبُولِ دَعْوَتِهِ. فَالْوَجْهُ حَمْلُ الْقَصْرِ
الْمُسْتَفَادِ مِنْ جُمْلَةِ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ على الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، وَأَمَّا حَمْلُ الْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ ثُمَّ تَكَلُّفُ أَنَّهُ ادِّعَائِيٌّ فَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ.
وَإِتْبَاعُ صِفَةِ الْغَنِيُّ بِ الْحَمِيدُ تَكْمِيلٌ، فَهُوَ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَنِيًّا عَنِ اسْتِجَابَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ فَهُمْ مَعْذُورُونَ فِي أَنْ لَا يَعْبُدُوهُ، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَمْدِ لِمَنْ عَبَدَهُ وَاسْتَجَابَ لِدَعْوَتِهِ كَمَا أَتْبَعَ الْآيَةَ الْأُخْرَى إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر: ٧] بِقَوْلِهِ: إِلَى اللَّهِ كَمَا وَقَعَ الْغَنِيُّ فِي مُقَابلَة قَوْله: الْفُقَراءُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ فَقْرَهُمْ بِالْكَوْنِ إِلَى اللَّهِ قَيَّدَ غِنَى اللَّهِ تَعَالَى بِوَصْفِ الْحَمِيدُ لِإِفَادَةِ أَنَّ غِنَاهُ تَعَالَى مُقْتَرِنٌ بِجُودِهِ فَهُوَ يَحْمِدُ مَنْ يتَوَجَّه إِلَيْهِ.
[١٦، ١٧]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧)
وَاقِعٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥] مِنْ مَعْنَى قِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ مَعْنَى رِضَاهُ عَلَى مَنْ يَعْبُدُهُ فَهُوَ تَعَالَى لِغِنَاهُ عَنْهُمْ وَغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ لَوْ شَاءَ لَأَبَادَهُمْ وَأَتَى بِخَلْقٍ آخَرِينَ يَعْبُدُونَهُ فَخَلُصَ الْعَالَمُ مِنْ عُصَاةِ أَمْرِ اللَّهِ وَذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ وَلَكِنَّهُ أَمْهَلَهُمْ إِعْمَالًا لِصِفَةِ الْحِلْمِ.
فَالْمَشِيئَةُ هُنَا الْمَشِيئَةُ النَّاشِئَةُ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِهْلَاكَهُمْ وَلَكِنَّهُ أَمْهَلَهُمْ، لَا أَصْلُ الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ كَوْنُهُ مُخْتَارًا فِي فِعْلِهِ لَا مُكْرِهَ لَهُ لِأَنَّهَا لَا يُحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ بِهَا.
وَالْإِذْهَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِهْلَاكِ، أَيِ الْإِعْدَامِ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُسَلِّطْ عَلَيْهِمْ مَوْتًا يَعُمُّهُمْ فَكَأَنَّهُ أَذَهْبَهُمْ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ لِأَنَّهُ يَأْتِي بهم إِلَى الدَّار الْآخِرَةِ.
وَالْإِتْيَانُ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِحْدَاثِ نَاسٍ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ وَلَا مُتَرَقَّبًا وَجُودُهُمْ، أَيْ يُوجِدُ خَلْقًا مِنَ النَّاسِ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
فَالْخَلْقُ هُنَا بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لُقْمَان: ١١].
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا
يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ
[مُحَمَّد: ٣٨].
وَلَيْسَ الْمَعْنَى: أَنَّهُ إِنْ يَشَأْ يُعَجِّلْ بِمَوْتِهِمْ فَيَأْتِي جِيلُ أَبْنَائِهِمْ مُؤْمِنِينَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ يَنْبُو عَنْهُ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَكَانَ هَيِّنًا عَلَيْهِ وَمَا هُوَ عَلَيْهِ بعزيز.
والعزيز: الْمُمْتَنع الْغَالِبُ، وَهَذَا زِيَادَةٌ فِي الْإِرْهَابِ وَالتَّهْدِيدِ لِيَكُونُوا مُتَوَقِّعِينَ حُلُولَ هَذَا بِهِمْ.
وَمَفْعُولُ فِعْلِ الْمَشِيئَةِ مَحْذُوفٌ اسْتِغْنَاءً بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ يُذْهِبْكُمْ أَيْ إِنْ يَشَأْ إِذْهَابَكُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ لِمَفْعُولِ الْمَشِيئَةِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: وَما ذلِكَ عَائِدَةٌ إِلَى الْإِذْهَابِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِ يُذْهِبْكُمْ أَوْ إِلَى مَا تَقَدَّمَ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ.
[١٨]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ١٨]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى.
لَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ مَسُوقًا فِي غَرَضِ التَّهْدِيدِ وَكَانَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ أُرِيدَتْ طَمْأَنَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَوَاقِبِ التَّهْدِيدِ، فَعُقِّبَ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ وِزْرًا لَا يَنَالُهُ جَزَاءُ الْوَازِرِ فِي الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مَرْيَم: ٧٢]. وَقَدْ يَكُونُ وَعْدًا بِالْإِنْجَاءِ مِنْ عَذَاب الدُّنْيَا إِذا نَزَلَ بِالْمُهَدَّدِينَ الْإِذْهَابُ وَالْإِهْلَاكُ مِثْلَمَا أُهْلِكَ فَرِيقُ الْكُفَّارِ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُنْجِيَ فَرِيقُ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ هَذَا وَعْدًا خَاصًّا لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الْأَنْفَال: ٢٥] وَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ»
. فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا
287
عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يُوسُف: ١١٠]. وَلِهَذَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا تَأْمِينٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الِاسْتِئْصَالِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الْأَنْفَال: ٣٣] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَقِبَهُ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُوَ تَأْمِينٌ مِنْ تَعْمِيمِ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ جَمِيعًا وَلَا يُعَذِّبِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَعم وَأحسن. وأيّاما كَانَ فَإِنَّ قَضِيَّةَ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى كُلِّيَّةٌ عَامَّةٌ فَكَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [١٣]، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ أَنْ يَحْمِلَ أَحَدٌ وِزْرَ آخَرَ لَا مُشَارَكَةَ لَهُ لِلْحَامِلِ عَلَى اقْتِرَافِ الْوِزْرِ، وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ فَمَوْرِدُهَا فِي زُعَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ مَوَّهُوا الضَّلَالَةَ وَثَبَتُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَوَّلَ تِلْكَ الْآيَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢]، وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَرْوِحُونَ مِنْهُ الْإِقْبَالَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْأَحْرَى.
وَأَصْلُ الْوِزْرِ بِكَسْرِ الْوَاوِ: هُوَ الْوِقْرُ بِوَزْنِهِ وَمَعْنَاهُ. وَهُوَ الْحِمْلُ بِكَسْرِ الْحَاءِ، أَيْ مَا يُحْمَلُ، وَيُقَالُ: وَزِرَ إِذَا حَمَلَ. فَالْمَعْنَى: وَلَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، أَيْ لَا يُحَمِّلُ اللَّهُ نَفْسًا حِمْلًا جَعَلَهُ لِنَفْسٍ أُخْرَى عَدْلًا مِنْهُ تَعَالَى لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَدْلَ وَقَدْ نَفَى عَنْ شَأْنِهِ الظُّلْمَ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ إِنَّمَا هُوَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ.
وَجَرَى وَصْفُ الْوَازِرَةِ عَلَى التَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ النَّفْسُ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ بِتَأْوِيلِ النَّفْسِ دُونَ أَنْ يَجْرِيَ الْإِضْمَارُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِتَأْوِيلِ الشَّخْصِ، لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ لِلْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاكْتِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٦٤]، وَقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [٣٨]، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ الْعَادِلَ مُطَّرِدٌ مُسْتَمِرٌّ حَتَّى لَوِ اسْتَغَاثَتْ نفس مثقلة بالأوزار مَنْ يُنْتَدَبُ لَحَمْلِ أَوْزَارِهَا أَوْ بَعْضِهَا لَمْ تَجِدْ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا، لِئَلَّا يَقِيسَ النَّاسُ الَّذِينَ فِي الدُّنْيَا أَحْوَالَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ،
288
فَإِنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفُوا النَّجْدَةَ إِذَا اسْتُنْجِدُوا وَلَوْ كَانَ لِأَمْرٍ يَضُرُّ بِالْمُنْجِدِ. وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ «لَوْ دُعِيَ الْكَرِيمُ إِلَى حَتْفِهِ لَأَجَابَ»، وَقَالَ وَدَّاكُ بن ثُمَيْلٍ الْمَازِنِيُّ:
إِذَا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسْأَلُوا مَنْ دَعَاهُمُ لِأَيَّةِ حَرْبٍ أَمْ بِأِيِّ مَكَانِ
وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَلَبُ الْحِمْلِ هُنَا دُعَاءً لِأَنَّ فِي الدُّعَاءِ مَعْنَى الِاسْتِغَاثَةِ.
وَحَذْفُ مَفْعُولِ تَدْعُ لِقَصْدِ الْعُمُومِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَيَّ مَدْعُوٍّ.
وَقَوْلُهُ: إِلى حِمْلِها مُتَعَلِّقٌ بِ تَدْعُ، وَجُعِلَ الدُّعَاءُ إِلَى الْحِمْلِ لِأَنَّ الْحِمْلَ سَبَبُ الدُّعَاءِ وَعِلَّتُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَيْهَا لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلَ عَنْهَا حِمْلَهَا، فَحُذِفَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَيِ الْفِعْلِ الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ وَمُتَعَلِّقِهِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا سَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَوِ اسْتُصْرِخَتْ نَفْسٌ مَنْ يَحْمِلُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ أَوْزَارِهَا، كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ أَوْ غَيْرِهِمْ، لَا تَجِدُ مَنْ يُجِيبُهَا لِذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مُثْقَلَةٌ. ولَوْ وَصْلِيَّةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١].
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي كانَ عَائِدٌ إِلَى مَفْعُولِ تَدْعُ الْمَحْذُوفِ، إِذْ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أَحَدًا إِلَى حِمْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَا. فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ ذَا قُرْبَى، فَإِنَّ الْعُمُومَ الشُّمُولِيَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يَصِيرُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ عُمُومًا بَدَلِيًّا.
وَوَجْهُ مَا اقْتَضَتْهُ الْمُبَالَغَةُ مِنْ لَوْ الْوَصْلِيَّةِ أَنَّ ذَا الْقُرْبَى أَرَقُّ وَأَشْفَقُ عَلَى قَرِيبِهِ، فَقَدْ يَظُنُّ أَنَّهُ يُغْنِي عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُقَاسِمَهُ الثِّقَلَ الَّذِي يُؤَدِّي بِهِ إِلَى الْعَذَابِ فَيَخِفُّ عَنْهُ الْعَذَابُ بِالِاقْتِسَامِ.
289
وَالْإِطْلَاقُ فِي الْقُرْبَى يَشْمَلُ قَرِيبَ الْقَرَابَةِ كَالْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَيْنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس: ٣٤، ٣٥].
وَهَذَا إِبْطَالٌ لِاعْتِقَادِ الْغَنَاءِ الذَّاتِيِّ بِالتَّضَامُنِ وَالتَّحَامُلِ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقِيسُونَ أُمُورَ الْآخِرَة على أُمُور الدُّنْيَا فَيُعَلِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ إِذَا هُدِّدُوا بِالْبَعْثِ بِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ شُفَعَاءَ وَأَنْصَارًا، فَهَذَا سِيَاقُ تَوْجِيهِ هَذَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ هُوَ بِعُمُومِهِ يَنْسَحِبُ حُكْمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَلَا يَحْمِلُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ إِثْمَهُ. وَهَذَا لَا يُنَافِي الشَّفَاعَةَ الْوَارِدَةَ فِي الْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سَبَأٍ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَكُونُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى إِظْهَارًا لكرامة نبيئه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يُنَافِي مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ من مكفّرات للذنوب كَمَا وَرَدَ أَنَّ أَفْرَاطَ الْمُؤْمِنِينَ يَشْفَعُونَ لِأُمَّهَاتِهِمْ، فَتِلْكَ شَفَاعَةٌ جَعْلِيَّةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ كَرَامَةً لِلْأُمَّهَاتِ الْمُصَابَةِ مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ.
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
اسْتِئْنَاف بياني لِأَن الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُرُ فِي نَفْسِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ عَدَمِ تَأَثُّرِ أَكْثَرِ الْمُشْرِكِينَ بِإِنْذَارِهِ فَأُجِيبَ بِأَنَّ إِنْذَارَهُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ تَهَيَّأُوا لِلْإِيمَانِ.
وَإِيرَادُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الَّتِي قَبْلَهَا يُؤَكِّدُ أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ وَتَخْوِيفُهُمْ، وَإِبْلَاغُ الْحَقِيقَةِ إِلَيْهِمْ لِاقْتِلَاعِ مَزَاعِمِهِمْ وَأَوْهَامِهِمْ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. فَأَقْبَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِطَابِ لِيَشْعُرَ بِأَنَّ تِلْكَ المواعظ لم تَجِد فيهم وَأَنَّهَا إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ أَيْضًا يُؤَكِّدُ مَا فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ التَّعْرِيضِ بِتَأْمِينِ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ.
وَأُطْلِقَ الْإِنْذَارُ هُنَا عَلَى حُصُولِ أَثَرِهِ، وَهُوَ الِانْكِفَافُ أَوِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الْإِنْذَارِ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ تَوَقُّعِ مَكْرُوهٍ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ صَادِقَةٌ عَنِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهِيَ قَرِينَةُ تَكَرُّرِ الْإِنْذَارِ لِلْمُشْرِكِينَ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَمَا هُوَ بِبَعِيدٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْذَرَ الْمُشْرِكِينَ طُولَ مُدَّةِ دَعْوَتِهِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْفِعْلِ الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ بِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ تَعَلُّقٌ عَلَى مَعْنَى حُصُولِ أَثَرِ الْفِعْلِ.
290
فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ أَنَّهُ قَصْرُ قَلْبٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنْ لَا يَظُنَّ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتِفَاعَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِنِذَارَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ صَالِحَةً لِمَعْنَى الْقَصْرِ الْحَقِيقِيِّ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الْمَقَامِ يُعَيِّنُ اعْتِبَارَ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ يس [١١] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَقَوْلُهُ: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فِي سُورَةِ ق [٤٥]، مَعَ أَنَّ التَّذْكِيرَ بِالْقُرْآنِ يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ.
وَالْغَيْبُ: مَا غَابَ عَنْكَ، أَيِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِي خَلْوَاتِهِمْ وَعِنْدَ غَيْبَتِهِمْ عَنِ الْعِيَانِ، أَيِ الَّذِينَ آمَنُوا حَقًّا غَيْرَ مُرَائِينَ أَحَدًا.
وأَقامُوا الصَّلاةَ أَيْ لَمْ يُفَرِّطُوا فِي صَلَاةٍ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ فِعْلُ الْإِقَامَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَاتَانِ الصِّفَتَانِ مِنْ خَصَائِصِ الْمُسْلِمِينَ صَارَ الْمَعْنَى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَعَدَلَ عَنِ اسْتِحْضَارِهِمْ بِأَشْهَرِ أَلْقَابِهِمْ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ إِلَى اسْتِحْضَارِهِمْ بِصِلَتَيْنِ مَعَ
مَا فِيهِمَا مِنَ الْإِطْنَابِ، تَذَرُّعًا بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الصِّلَتَيْنِ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ تَذْيِيلٌ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ. وَذِكْرُ التَّذْيِيلِ عَقِبَ الْمُذَيَّلِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْمُذَيَّلُ دَاخِلٌ فِي التذييل بادىء ذِي بَدْءٍ مِثْلَ دُخُولِ سَبَبِ الْعَامِّ فِي عُمُومِهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ دُونَ أَنْ يُخَصَّ الْعَامُّ بِهِ، فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِينَ خَشَوْا رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ هُمْ مِمَّنْ تَزَكَّى فَانْتَفَعُوا بِتَزْكِيَتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِالنِّذَارَةِ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فَأُولَئِكَ تَزَكَّوْا بِهَا وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ أَنَّ قَبُولَهُمُ النِّذَارَةَ كَانَ لِفَائِدَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ لَمْ يَعْبَأُوا بِنِذَارَتِهِ تَرَكُوا تَزْكِيَةَ أَنْفُسِهِمْ بِهَا فَكَانَ تَرْكُهُمْ ضُرًّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ تَكْمِيلٌ لِلتَّذْيِيلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَصِيرُ
291
لِلْجِنْسِ، أَيِ الْمَصِيرُ كُلُّهُ إِلَى اللَّهِ سَوَاءً فِيهِ مَصِيرُ الْمُتَزَكِّي وَمَصِيرُ غَيْرِ الْمُتَزَكِّي، أَيْ وَكُلٌّ يُجَازَى بِمَا يُنَاسِبُهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَصِيرٌ إِلَى مَنِ اقْتَضَى اسْمُهُ الْجَلِيلُ الصِّفَاتِ الْمُنَاسِبَةَ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ وَإِفَاضَةِ الْفَضْلِ مَعَ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ.
[١٩- ٢٣]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ١٩ الى ٢٣]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
أَرْبَعَةُ أَمْثَالٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَلِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، شُبِّهَ الْكَافِرُ بِالْأَعْمَى، وَالْكُفْرُ بِالظُّلُمَاتِ، وَالْحَرُورُ وَالْكَافِرُ بِالْمَيِّتِ، وَشُبِّهَ الْمُؤْمِنُ بِالْبَصِيرِ وَشُبِّهَ الْإِيمَان بِالنورِ والظل، وَشُبِّهَ الْمُؤْمِنُ بِالْحَيِّ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ. فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ قِلَّةَ نَفْعِ النِّذَارَةِ لِلْكَافِرِينَ وَأَنَّهَا لَا يَنْتَفِعُ بِهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ ضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ أَمْثَالًا كَاشِفَةً عَنِ اخْتِلَافِ حَالَيْهِمَا، وَرُوعِيَ فِي هَذِهِ الْأَشْبَاهِ تَوْزِيعُهَا عَلَى صِفَةِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ، وَعَلَى حَالَةِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَعَلَى أَثَرِ الْإِيمَانِ وَأَثَرِ الْكُفْرِ.
وَقُدِّمَ تَشْبِيهُ حَالِ الْكَافِرِ وَكُفْرِهِ عَلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَإِيمَانِهِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَهَمَّ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ هُوَ تَفْظِيعُ حَالِ الْكَافِرِ ثُمَّ الِانْتِقَالُ إِلَى حُسْنِ حَالِ ضِدِّهِ لِأَنَّ هَذَا التَّشْبِيهَ جَاءَ لِإِيضَاحِ مَا أَفَادَهُ الْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ قَصْرٌ إِضَافِيٌّ قَصْرُ قَلْبٍ، فَالْكَافِرُ شَبِيهٌ بِالْأَعْمَى فِي اخْتِلَاطِ أَمْرِهِ بَيْنَ عَقْلٍ وَجَهَالَةٍ، كَاخْتِلَاطِ أَمْرِ الْأَعْمَى بَيْنَ إِدْرَاكٍ وَعَدَمِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ يُدْرِكُ بِهِ الْأُمُورَ فَإِنَّ عَقْلَهُ تَمَحَّضَ لِإِدْرَاكِ أَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَانَ كَالْعَدَمِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الرّوم: ٧]، فَحَالُهُ الْمُقَسَّمُ بَيْنَ انْتِفَاعٍ بِالْعَقْلِ وَعَدَمِهِ يُشْبِهُ حَالَ الْأَعْمَى فِي إِدْرَاكِهِ أَشْيَاءَ وَعَدَمِ إِدْرَاكِهِ.
وَالْعَمَى يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الضَّلَالِ، قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
292
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ
ثُمَّ شَبَّهَ الْكُفْرَ بِالظُّلُمَاتِ فِي أَنَّهُ يَجْعَلُ الَّذِي أَحَاطَ هُوَ بِهِ غَيْرَ مُتَبَيِّنٍ لِلْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الظُّلْمَةِ إِخْفَاءَ الْأَشْيَاءِ، وَالْكَافِرُ خَفِيَتْ عَنهُ الْحَقَائِق الاعتقادية، وَكُلَّمَا بَيَّنَهَا لَهُ الْقُرْآنُ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى أَجْلَى، كَمَا لَوْ وَصَفْتَ الطَّرِيقَ لِلسَّائِرِ فِي الظلام.
وجي فِي الظُّلُماتُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَهُمْ لَا يَذْكُرُونَ الظُّلْمَةَ إِلَّا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فِي الْأَنْعَامِ [١].
وَضُرِبَ الظِّلُّ مَثَلًا لِأَثَرِ الْإِيمَانِ، وَضِدُّهُ وَهُوَ الْحَرُورُ مَثَلًا لِأَثَرِ الْكُفْرِ فَالظِّلُّ مَكَانُ نَعِيمٍ فِي عُرْفِ السَّامِعِينَ الْأَوَّلِينَ، وَهُمُ الْعَرَبُ أَهْلُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ الَّتِي تَتَطَلَّبُ الظِّلَّ لِلنَّعِيمِ غَالِبًا إِلَّا فِي بَعْضِ فَصْلِ الشِّتَاءِ، وَقُوبِلَ بِالْحَرُورِ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ وَمُعَذِّبٌ فِي عُرْفِهِمْ كَمَا عَلِمْتَ، وَفِي مُقَابَلَتِهِ بِالْحَرُورِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُهُ بِالظِّلِّ فِي حَالَةِ اسْتِطَابَتِهِ.
والْحَرُورُ حَرُّ الشَّمْسِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الرِّيحِ الْحَارَّةِ وَهِيَ السَّمُومُ، أَوِ الْحَرُورُ: الرِّيحُ الْحَارَّةُ الَّتِي تَهُبُّ بِلَيْلٍ وَالسَّمُومُ تَهُبُّ بِالنَّهَارِ.
وَقُدِّمَ فِي هَذِهِ الْفِقْرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَكْسِ الْفِقْرَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي قَبْلَهَا لِأَجْلِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ بِكَلِمَةِ الْحَرُورُ. وَفَوَاصِلُ الْقُرْآنِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ فَصَاحَتِهِ، فَلَهَا حَظٌّ مِنَ الْإِعْجَازِ.
فَحَالُ الْمُؤْمِنِ يُشْبِهُ حَالَ الظِّلَّ تَطْمَئِنُّ فِيهِ الْمَشَاعِرُ، وَتَصْدُرُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَنْ تَبَصُّرٍ وَتَرَيُّثٍ وَإِتْقَانٍ. وَحَالُ الْكَافِرِ يُشْبِهُ الْحَرُورَ تَضْطَرِبُ فِيهِ النُّفُوسُ وَلَا تتمكن مَعَه الْعُقُول مِنَ
التَّأَمُّلِ وَالتَّبَصُّرِ وَتَصْدُرُ فِيهَا الْآرَاءُ وَالْمَسَاعِي مُعَجَّلَةً مُتَفَكِّكَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَرْكِيبَ الْآيَةِ عَجِيبٌ فَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى وَاوَاتِ عَطْفٍ وَأَدَوَاتِ نَفْيٍ فَكُلٌّ مِنَ الْوَاوَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الظُّلُماتُ الَخْ، وَقَوْلِهِ: الظِّلُّ الَخْ عَاطِفٌ جُمْلَةً عَلَى جملَة وعاطف تشبيهات ثَلَاثَةً بَلْ تَشْبِيهٌ مِنْهَا يَجْمَعُ الْفَرِيقَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلَا تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ وَلَا يَسْتَوِي الظِّلُّ وَالْحَرُورُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمُقَدَّرِ أَخِيرًا فِي قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.
293
وَأَمَّا الْوَاوَاتُ الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِهِ: وَالْبَصِيرُ وَلَا النُّورُ وَلَا الْحَرُورُ فَكُلُّ وَاوٍ عَاطِفٌ مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ، فَهِيَ سِتَّةُ تَشْبِيهَاتٍ مُوَزَّعَةٌ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ فَ الْبَصِيرُ عُطِفَ عَلَى الْأَعْمى، والنُّورُ عُطِفَ عَلَى الظُّلُماتُ، والْحَرُورُ عُطِفَ عَلَى الظِّلُّ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ حَرْفُ النَّفْيِ.
وَأَمَّا أَدَوَاتُ النَّفْيِ فَاثْنَانِ مِنْهَا مُؤَكَّدَانِ لِلتَّغَلُّبِ الْمُوَجَّهِ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمَعْطُوفَتَيْنِ الْمَحْذُوفِ فِعْلَاهُمَا وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا الظِّلُّ، وَاثْنَانِ مُؤَكَّدَانِ لِتَوَجُّهِ النَّفْيِ إِلَى الْمُفْرَدَيْنِ الْمَعْطُوفَيْنِ عَلَى مُفْرَدَيْنِ فِي سِيَاقِ نَفْيِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا عُطِفَا عَلَيْهِمَا وَهُمَا وَاوُ وَلَا النُّورُ، وَوَاوُ وَلَا الْحَرُورُ، وَالتَّوْكِيدُ بَعْضُهُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ حَرْفُ لَا وَبَعْضُهُ بِالْمُرَادِفِ وَهُوَ حَرْفُ مَا وَلَمْ يُؤْتَ بِأَدَاةِ نَفْيٍ فِي نَفْيِ الِاسْتِوَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ الَّذِي ابْتُدِئَ بِهِ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ الْمُؤَكَّدِ مِنْ بَعْدُ فَهُوَ كُلُّهُ تَأْيِيسٌ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ قُرْآنِيٌّ بَدِيعٌ فِي عَطْفِ الْمَنْفِيَّاتِ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ فِي سُورَةِ فُصِّلَتْ [٣٤].
وَجُمْلَةُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ أُظْهِرَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلُ الَّذِي قُدِّرَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا وَهُوَ فِعْلُ يَسْتَوِي لِأَنَّ التَّمْثِيلَ هُنَا عَادَ إِلَى تَشْبِيهِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكَافِرِينَ إِذْ شَبَّهَ حَالَ الْمُسْلِمِ بِحَالِ الْأَحْيَاءِ وَحَالَ الْكَافِرِينَ بِحَالِ الْأَمْوَاتِ، فَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي تَشْبِيهِ الْحَالَيْنِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالْبَصِيرِ وَالْكَافِرِ بِالْأَعْمَى إِلَى تَشْبِيهِ الْمُؤْمِنِ بِالْحَيِّ وَالْكَافِرِ بِالْمَيِّتِ، وَنَظِيرُهُ فِي إِعَادَةِ فِعْلِ الِاسْتِوَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [١٦] :
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ.
فَلَمَّا كَانَتِ الْحَيَاةُ هِيَ مَبْعَثُ الْمَدَارِكِ وَالْمَسَاعِي كُلِّهَا وَكَانَ الْمَوْتُ قَاطِعًا لِلْمَدَارِكِ وَالْمَسَاعِي شُبِّهَ الْإِيمَانُ بِالْحَيَاةِ فِي انْبِعَاثِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْهُ وَفِي تَلَقِّي ذَلِكَ وَفَهْمِهِ،
وَشُبِّهَ الْكُفْرُ بِالْمَوْتِ فِي الِانْقِطَاعِ عَنِ الْأَعْمَالِ وَالْمُدْرَكَاتِ النَّافِعَةِ كُلِّهَا وَفِي عَدَمِ تَلَقِّي مَا يُلْقَى إِلَى صَاحِبِهِ فَصَارَ الْمُؤْمِنُ شَبِيهًا بِالْحَيِّ مُشَابَهَةً كَامِلَةً لَمَّا خَرَجَ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ، فَكَأَنَّهُ بِالْإِيمَانِ نُفِخَتْ فِيهِ الْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٢٢] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَكَانَ الْكَافِرُ شَبِيهًا بِالْمَيِّتِ مَا دَامَ عَلَى كُفْرِهِ. وَاكْتُفِيَ بِتَشْبِيهِ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي مَوْضِعَيْنِ عَنْ
294
تَشْبِيهِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَبِالْعَكْسِ لِتَلَازُمِهِمَا، وَأُوتِيَ تَشْبِيهُ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي مَوْضِعَيْنِ لِكَوْنِ وَجْهِ الشَّبَهِ فِي الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ أَوْضَحَ، وَعَكْسُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ أَوْضَحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْآخَرَيْنِ.
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ [٢٢] إِلَّا نَذِيرٌ [٢٣].
لَمَّا كَانَ أَعْظَمُ حِرْمَانٍ نَشَأَ عَنِ الْكُفْرِ هُوَ حِرْمَانُ الِانْتِفَاعِ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ وَأَصْدَقِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ كَانَ حَالُ الْكَافِرِ الشَّبِيهِ بِالْمَوْتِ أَوْضَحَ شَبَهًا بِهِ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِالْقُرْآنِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ سَمَاعِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦]، وَكَانَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَكْسِ ذَلِكَ إِذْ تَلَقَّوُا الْقُرْآنَ وَدَرَسُوهُ وَتَفَقَّهُوا فِيهِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر: ١٨]، وَأُعْقِبَ تَمْثِيلُ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ بِحَالِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ بِتَوْجِيهِ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْذِرَةً لَهُ فِي التَّبْلِيغِ لِلْفَرِيقَيْنِ، وَفِي عَدَمِ قَبُولِ تَبْلِيغِهِ لَدَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَتَسْلِيَةً لَهُ عَنْ ضَيَاعِ وَابِلِ نُصْحِهِ فِي سِبَاخِ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ قَبُولَ الَّذِينَ قَبِلُوا الْهُدَى وَاسْتَمَعُوا إِلَيْهِ كَانَ بِتَهْيِئَةِ اللَّهِ تَعَالَى نُفُوسَهُمْ لِقَبُولِ الذِّكْرِ وَالْعِلْمِ، وَأَنَّ عَدَمَ انْتِفَاعِ الْمُعْرِضِينَ بِذَلِكَ هُوَ بِسَبَبِ مَوْتِ قُلُوبِهِمْ فَكَأَنَّهُمُ الْأَمْوَاتُ فِي الْقُبُورِ وَأَنْتَ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسْمِعَ الْأَمْوَاتَ، فَجَاءَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ عَلَى مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ مُقَابَلَةَ اللَّفِّ بِالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨]، لِأَنَّ مَعْنَى الْقَصْرِ يَنْحَلُّ إِلَى إِثْبَاتٍ وَنَفْيٍ فَكَانَ مُفِيدًا فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا انْتَفَعَ بِالْإِنْذَارِ، وَفَرِيقًا لَمْ يَنْتَفِعْ، فَعُلِّلَ ذَلِكَ بِ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ.
وَقَوْلُهُ: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُسْمِعَهُمْ إِنْذَارَكَ.
وَاسْتُعِيرَ مَنْ فِي الْقُبُورِ لِلَّذِينِ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِمُ النُّذُرُ، وَعَبَّرَ عَنِ الْأَمْوَاتِ بِ مَنْ فِي
الْقُبُورِ
لِأَنَّ مَنْ فِي الْقُبُورِ أَعْرَقُ فِي الِابْتِعَادِ عَنْ بُلُوغِ الْأَصْوَاتِ لِأَنَّ
295
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُنَادِي حَاجِزُ الْأَرْضِ. فَهَذَا إِطْنَابٌ أَفَادَ مَعْنًى لَا يُفِيدُهُ الْإِيجَازُ بِأَنْ يُقَالَ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ الْمَوْتَى.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ الْأَحْياءُ والْأَمْواتُ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ بَعْدَ أَنْ أُورِدَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ بِالْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْمُفْرَدَ وَالْجَمْعَ فِي الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ سَوَاءٌ إِذَا كَانَ اسْمًا لَهُ أَفْرَادٌ بِخِلَافِ النُّورِ وَالظِّلِّ وَالْحَرُورِ، وَأَمَّا جَمْعُ الظُّلُماتُ فَقَدْ عَلِمْتَ وَجْهَهُ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أَفَادَتْ قَصْرًا إِضَافِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُعَالَجَةِ تَسْمِيعِهِمُ الْحَقَّ، أَيْ أَنْتَ نَذِيرٌ لِلْمُشَابِهِينَ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَلَسْتَ بمدخل الْإِيمَان فِي قُلُوبِهِمْ، وَهَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْمَعْذِرَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَتِهِ إِذْ كَانَ مُهْتَمًّا مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ.
وَالنَّذِيرُ: الْمُنْبِئُ عَنْ تَوَقُّعِ حُدُوثِ مَكْرُوهٍ أَوْ مُؤْلِمٍ.
وَالِاقْتِصَارُ عَلَى وَصْفِهِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مَسَاقَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُصَمِّمِينَ على الْكفْر.
[٢٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٤]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤)
اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَبِالْإِسْلَامِ. وَفِيهِ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ قَصْرُهُ عَلَى النِّذَارَةِ قَصْرًا حَقِيقًا لِتَبَيُّنِ أَنَّ قَصْرَهُ عَلَى النِّذَارَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ شَابَهَ حَالُهُمْ حَالَ أَصْحَابِ الْقُبُورِ، أَيْ إِنَّ رِسَالَتَكَ تَجْمَعُ بِشَارَةً وَنِذَارَةً فَالْبِشَارَةُ لِمَنْ قَبِلَ الْهُدَى، وَالنِّذَارَةُ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقٌّ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ الْقَبُولِ، فَهِيَ رِسَالَةٌ مُلَابِسَةٌ لِلْحَقِّ وَوَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا.
فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي أَرْسَلْناكَ أَيْ مُحِقِّينَ غَيْرَ لَاعِبِينَ، أَوْ مِنْ كَافِ الْخِطَابِ، أَيْ مُحِقًّا أَنْتَ غَيْرَ كَاذِبٍ، أَوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِرْسَالًا مُلَابَسًا بِالْحَقِّ لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ مِنَ الْبَاطِلِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ إِبْطَالٌ لِاسْتِبْعَادِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ بَشَرًا مِنْهُمْ، فَإِنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ مَا صَدَّهُمْ عَنِ التَّصْدِيقِ
296
بِهِ، فَلِذَلِكَ أُتْبِعَتْ دَلَائِلُ الرِّسَالَةِ بِإِبْطَالِ الشُّبْهَةِ الْحَاجِبَةِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٩].
وَأَيْضًا فِي ذَلِكَ تَسْفِيهٌ لِأَحْلَامِهِمْ إِذْ رَضُوا أَنْ يَكُونُوا دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي شَرُفَتْ بِالرِّسَالَةِ.
وَوَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ هُنَا دُونَ الْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَصْفِ الْبَشِيرِ هُوَ مُرَاعَاةُ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ، فَإِنَّ مِنَ الْأُمَمِ مَنْ لَمْ تَحْصُلْ لَهَا بِشَارَةٌ لِأَنَّهَا لَمْ يُؤْمِنْ مِنْهَا أَحَدٌ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ النَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ مَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، وَالنَّبِيءُ يَمُرُّ وَحْدَهُ»
الْحَدِيثَ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ مَرُّوا وَحْدَهُمْ هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ عَدَمُ ذِكْرِ وَصْفِ الْبِشَارَةِ لِلِاكْتِفَاءِ بِذِكْرِ قَرِينَةٍ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ وَصْفُ النَّذِيرِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِمَقَامِ خِطَابِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمَعْنَى الْأُمَّةِ هُنَا: الْجَذْمُ الْعَظِيمُ مِنْ أَهْلِ نَسَبٍ يَنْتَهِي إِلَى جَدٍّ وَاحِدٍ جَامِعٍ لِقَبَائِلَ كَثِيرَةٍ لَهَا مَوَاطِنُ مُتَجَاوِرَةٌ مِثْلَ أُمَّةِ الْفُرْسِ وَأُمَّةِ الرُّومِ وَأُمَّةِ الصِّينِ وَأُمَّةِ الْهِنْد وَأمة اليونان وَأُمَّةِ إِسْرَائِيلَ وَأُمَّةِ الْعَرَبِ وَأُمَّةِ الْبَرْبَرِ فَمَا مِنْ أُمَّةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَ فِيهَا نَذِيرٌ، أَيْ رَسُولٌ أَوْ نَبِيءٌ يُنْذِرُهُمْ بِالْمُهْلِكَاتِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. فَمِنَ الْمُنْذِرِينَ مَنْ عَلِمْنَاهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْذَرُوا وَانْقَرَضُوا وَلَمْ يَبْقَ خَبَرُهُمْ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غَافِر: ٧٨].
وَالْحِكْمَةُ فِي الْإِنْذَارِ أَنْ لَا يَبْقَى الضَّلَالُ رَائِجًا وَأَنْ يَتَخَوَّلَ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ سَوَاءً عمِلُوا بهَا أَو لم يعلمُوا فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ أَثَرٍ صَالِحٍ فِيهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُسَمِّ الْقُرْآنُ إِلَّا الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْأُمَمِ السَّامِيَّةِ الْقَاطِنَةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَمَا جَاوَرَهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ حِينَ نُزُولِهِ ابْتَدَأَ بِخِطَابِ الْعَرَبِ وَلَهُمْ عِلْمٌ بِهَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ فَقَدْ عَلِمُوا أَخْبَارَهُمْ وَشَهِدُوا آثَارَهُمْ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِهِمْ أَوْقَعَ، وَلَوْ ذُكِرَتْ لَهُمْ رُسُلُ أُمَمٍ لَا يَعْرِفُونَهُمْ لَكَانَ إِخْبَارُهُمْ عَنْهُمْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اسْتِدْلَال وَاعْتِبَار.
297

[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٢٥ إِلَى ٢٦]

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
أُعَقِبَ الثَّنَاءُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَسْلِيَتِهِ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِهِ وَتَأْنِيسِهِ بِأَنَّ تِلْكَ سُنَّةُ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِ الْأُمَمِ جُعِلَتِ التَّسْلِيَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِحَالِ الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ عَكْسَ مَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٨٤] : فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ لِأَنَّ سِيَاقَ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ كَانَ فِي رَدِّ مُحَاوَلَةِ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَبْلَهَا الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ [آل عمرَان: ١٨٣].
وَقَدْ خُولِفَ أَيْضًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُسْلُوبُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ إِذْ قُرِنَ كُلٌّ مِنَ «الزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ» هُنَا بِالْبَاءِ، وَجُرِّدَا مِنْهَا فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ وَذَلِكَ لِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ جَرَتْ فِي سِيَاقِ زَعْمِ الْيَهُودِ أَنْ لَا تُقْبَلَ مُعْجِزَةُ رَسُولٍ إِلَّا مُعْجِزَةَ قُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَقِيلَ فِي التَّفَرُّدِ بِبُهْتَانِهِمْ: قَدْ كُذِّبَتِ الرُّسُلُ الَّذِينَ جَاءَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِأَصْنَافِ الْمُعْجِزَاتِ مِثْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِمْ قَرَابِينُ تَأْكُلُهَا النَّارُ فَكَذَّبْتُمُوهُمْ، فَتَرْكُ إِعَادَةِ الْبَاءِ هُنَالِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّسُلَ جَاءُوا بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقَامُ هُنَا لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسَبَ أَنْ يُذْكَرَ ابْتِلَاءُ الرُّسُلِ بِتَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ فَمِنْهُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِآيَاتٍ، أَيْ خَوَارِقِ عَادَاتٍ فَقَطْ مِثْلُ صَالِحٍ وَهُودٍ وَلُوطٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَتَوْا بِالزُّبُرِ وَهِيَ الْمَوَاعِظُ الَّتِي يُؤْمَرُ بِكِتَابَتِهَا وَزَبْرِهَا، أَيْ تَخْطِيطِهَا لِتَكُونَ مَحْفُوظَةً وَتُرَدَّدَ عَلَى الْأَلْسُنِ كَزَبُورِ دَاوُدَ وَكُتُبِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلَ أَرْمِيَاءَ وَإِيلِيَاءَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَاءُوا بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ، يَعْنِي كِتَابَ الشَّرَائِعِ مِثْلَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى، فَذكر الْبَاء مشير إِلَى تَوْزِيعِ أَصْنَافِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى أَصْنَافِ الرُّسُلِ.
فَزَبُورُ إِبْرَاهِيمَ صُحُفُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الْأَعْلَى:
١٩].
وَزَبُورُ مُوسَى كَلَامُهُ فِي الْمَوَاعِظِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَبْلِيغٌ عَنِ اللَّهِ مِثْلَ دُعَائِهِ الَّذِي
298
دَعَا بِهِ فِي قَادِشَ الْمَذْكُورِ فِي الْإِصْحَاحِ التَّاسِعِ مِنْ سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، وَوَصِيَّتِهِ فِي عَبْرِ الْأُرْدُنِ الَّتِي فِي الْإِصْحَاحِ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنَ السِّفْرِ الْمَذْكُورِ، وَمِثْلَ نَشِيدِهِ الْوَعْظِيِّ الَّذِي نَطَقَ بِهِ وَأَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحِفْظِهِ وَالتَّرَنُّمِ بِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ، وَمِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي بَارَكَ بِهِ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ فِي عَرَبَاتِ مُؤَابَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّالِثِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْهُ.
وَزَبُورُ عِيسَى أَقْوَالُهُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْأَنَاجِيلِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إِلَى الْوَحْيِ.
فَالضَّمِيرُ فِي «جَاءُوا» لِلرُّسُلِ وَهُوَ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ جَاءَ مَجْمُوعُهُمْ بِهَذِهِ الْأَصْنَافِ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَجِيءَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْهُمْ بِجَمِيعِهَا كَمَا يُقَالُ بَنُو فُلَانٍ قَتَلُوا فُلَانًا.
وَجَوَابُ إِنْ يُكَذِّبُوكَ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ عِلَّتُهُ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ
قَبْلِكَ
[فاطر: ٤]. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَلَا تَحْزَنْ، وَلَا تَحْسَبْهُمْ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قَدْ كَذَّبَ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ عَاقَبْنَاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ.
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَاءٌ فَصِيحَةٌ أَوْ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَجُمْلَةُ جاءَتْهُمْ صِلَةُ الَّذِينَ، ومِنْ قَبْلِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنِ اسْمِ الْمَوْصُولِ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ أَوْ مُتَعَلِّقٍ بِ جاءَتْهُمْ.
وثُمَّ عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ أَخَذْتُ عَلَى جُمْلَةِ جاءَتْهُمْ أَيْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ، وَأُظْهِرَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مَوْضِعِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ لِأَجْلِ مَا تَضَمَّنَتْهُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا.
وَالْأَخْذُ مُسْتَعَارٌ لِلِاسْتِئْصَالِ وَالْإِفْنَاءِ شُبِّهَ إِهْلَاكُهُمْ جَزَاءً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِإِتْلَافِ الْمُغِيرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ يَقْتُلُونَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَتَبْقَى دِيَارُهُمْ بَلْقَعًا كَأَنَّهُمْ أُخِذُوا مِنْهَا.
وَ (كَيْفَ) اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِهِمْ وَهُوَ مُفَرَّعٌ بِالْفَاءِ عَلَى أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالْمَعْنَى: أَخَذْتُهُمْ أَخْذًا عَجِيبًا كَيْفَ تَرَوْنَ أُعْجُوبَتَهُ.
299
وَأَصْلُ (كَيْفَ) أَنْ يُسْتَفْهَمَ بِهِ عَنِ الْحَالِ فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ أَخْذِهِمْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ مَعْرُوفًا، أَيْ يَعْرِفُهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مَنْ بَلَغَتْهُ أَخْبَارُهُمْ فَعَلَى تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ الْمَشْهُورَةِ بُنِيَ التَّعْجِيبُ.
وَالنَّكِيرُ: اسْمٌ لِشِدَّةِ الْإِنْكَارِ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْعِقَابِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ يَسْتَلْزِمُ الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ بِالْعِقَابِ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا وَلِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّ الْفَوَاصِلَ يعْتَبر فِيهَا الْوَقْت، وَتَقَدَّمَ فِي سَبَأٍ.
[٢٧]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٧]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاء فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها.
اسْتِئْنَافٌ فِيهِ إِيضَاحُ مَا سَبَقَهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي قَبُولِ الْهُدَى وَرَفْضِهِ بِسَبَبِ مَا تَهَيَّأَتْ خِلْقَةُ النُّفُوسِ إِلَيْهِ لِيَظْهَرَ بِهِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْأَصْنَافِ وَالْأَنْوَاعِ نَامُوسٌ جَبَلِيٌّ فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَخْلُوقَاتِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ.
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْفَعَ عَنْهُ اغْتِمَامَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ عَدَمِ انْتِفَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ.
وَضُرِبَ اخْتِلَافُ الظَّوَاهِرِ فِي أَفْرَادِ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ مَثَلًا لِاخْتِلَافِ الْبَوَاطِنِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ، فَكَانَ هَذَا الِاسْتِئْنَافُ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّقْرِيبِ مِمَّا تَشْرَئِبُّ إِلَيْهِ الْأَفْهَامُ عِنْدَ سَمَاعِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ [فاطر: ٢٢].
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ، وَجَاءَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٨] وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى.
وَضَمِيرُ فَأَخْرَجْنا الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ.
وَالْأَلْوَانُ: جَمْعُ لَوْنٍ وَهُوَ عَرَضٌ، أَيْ كَيْفِيَّةٌ تَعْرِضُ لِسُطُوحِ الْأَجْسَامِ يُكَيِّفُهُ النُّورُ كَيْفِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةً عَلَى اخْتِلَافِ مَا يَحْصُلُ مِنْهَا عِنْدَ انْعِكَاسِهَا إِلَى عَدَسَاتِ الْأَعْيُنِ
300
مِنْ شِبْهِ الظُّلْمَةِ وَهُوَ لَوْنُ السَّوَادِ وَشِبْهِ الصُّبْحِ هُوَ لَوْنُ الْبَيَاضِ، فَهُمَا الْأَصْلَانِ لِلْأَلْوَانِ، وَتَنْشَقُّ مِنْهَا أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ وُضِعَتْ لَهَا أَسْمَاءٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ وَتَشْبِيهِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٩]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الِاعْتِبَارِ هُوَ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْأَصْنَافِ مِنَ النَّوْعِ الْوَاحِدِ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ التُّفَّاحِ مَعَ أَلْوَانِ السَّفَرْجَلِ، وَأَلْوَانِ الْعِنَبِ مَعَ أَلْوَانِ التِّينِ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ الْأَفْرَادِ مِنَ الصِّنْفِ الْوَاحِدِ تَارَاتٍ كَاخْتِلَافِ أَلْوَانِ التُّمُورِ وَالزَّيْتُونِ وَالْأَعْنَابِ وَالتُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ.
وَذِكْرُ إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ إِدْمَاجٌ فِي الْغَرَضِ لِلِاعْتِبَارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنِ اتِّحَادِ أَصْلِ نَشْأَةِ الْأَصْنَافِ وَالْأَنْوَاعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تُسْقَى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرَّعْد: ٤] وَذَلِكَ أَرْعَى لِلِاعْتِبَارِ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَتَيْنِ الْفِعْلِيَّتَيْنِ فِي أَنْزَلَ وَ «أَخْرَجْنَا» لِأَنَّ إِنْزَالَ الْمَاءِ وَإِخْرَاجَ الثَّمَرَاتِ مُتَجَدِّدٌ آنًا فَآنًا.
وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَ وَقَوْلِهِ: «أَخْرَجْنَا» لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْسَبُ بِمَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ الِاسْمُ الْجَامِعُ لِمَعَانِي الصِّفَاتِ.
وَضَمِيرُ التَّكَلُّمِ أَنْسَبُ بِمَا فِيهِ امْتِنَانٌ.
وَقُدِّمَ الِاعْتِبَارُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الثَّمَرَاتِ لِأَنَّ فِي اخْتِلَافِهَا سَعَةً تُشْبِهُ سَعَةَ اخْتِلَافِ
النَّاسِ فِي الْمَنَافِعِ وَالْمَدَارِكِ وَالْعَقَائِدِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا»
. وَجُرِّدَ مُخْتَلِفاً مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ جَمْعٌ وَشَأْنُ النَّعْتِ السَّبَبِيِّ أَنْ يُوَافِقَ مرفوعه فِي التَّذَكُّر وَضِدِّهِ وَالْإِفْرَادِ وَضِدِّهِ، وَلَا يُوَافِقُ فِي ذَلِكَ مَنْعُوتَهُ،
301
لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْفَاعِلُ جَمْعًا لِمَا لَا يَعْقِلُ وَهُوَ الْأَلْوَانُ كَانَ حَذْفُ التَّاءِ فِي مِثْلِهِ جَائِزًا فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَآثَرَهُ الْقُرْآنُ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ.
وَالْمُرَادُ بِالثَّمَرَاتِ: ثَمَرَاتُ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَغَيْرِهَا، فَثَمَرَاتُ النَّخِيلِ أَكْثَرُ الثَّمَرَاتِ أَلْوَانًا، فَإِنَّ أَلْوَانَهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَطْوَارِهَا، فَمِنْهَا الْأَخْضَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ.
وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ فَهِيَ مِثْلُهَا مُسْتَأْنَفَةٌ، وَعَطْفُهَا عَلَيْهَا لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ.
وجُدَدٌ مُبْتَدَأٌ وَمِنَ الْجِبالِ خَبَرُهُ. وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلتَّشْوِيقِ لِذِكْرِ الْمُبْتَدَأِ حَثًّا عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ.
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى مَعْنَى: وَبَعْضُ تُرَابِ الْجِبَالِ جُدَدٌ، فَفِي الْجَبَلِ الْوَاحِدِ تُوجَدُ جُدَدٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْجُدَدِ بَعْضُهَا فِي بَعْضِ الْجِبَالِ وَبَعْضٌ آخَرُ فِي بَعْضٍ آخَرَ.
وجُدَدٌ: جَمْعُ جُدَّةٍ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ وَالْخُطَّةُ فِي الشَّيْءِ تَكُونُ وَاضِحَةً فِيهِ. يُقَالُ لِلْخُطَّةِ السَّوْدَاءِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الْحِمَارِ جُدَّةٌ، وَلِلظَّبْيِ جُدَّتَانِ مِسْكِيَّتَا اللَّوْنِ تَفْصِلَانِ بَيْنَ لَوْنَيْ ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ، وَالْجُدَدُ الْبِيضُ الَّتِي فِي الْجِبَالِ هِيَ مَا كَانَتْ صُخُورًا بَيْضَاءَ مِثْلَ الْمَرْوَةِ، أَوْ كَانَتْ تَقْرُبُ مِنَ الْبَيَاضِ فَإِنَّ مِنَ التُّرَابِ مَا يَصِيرُ فِي لون الأصهب فَيُقَالُ:
تُرَابٌ أَبْيَضُ، وَلَا يَعْنُونَ أَنَّهُ أَبْيَضُ كَالْجِيرِ وَالْجِصِّ بَلْ يَعْنُونَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِغَالِبِ أَلْوَانِ التُّرَابِ، وَالْجُدَدُ الْحُمْرُ هِيَ ذَاتُ الْحِجَارَةِ الْحَمْرَاءِ فِي الْجِبَالِ.
وغَرابِيبُ جَمْعُ غِرْبِيبٍ، وَالْغِرْبِيبُ: اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْأَسْوَدِ الْحَالِكِ سَوَادُهُ، وَلَا تُعْرَفُ لَهُ مَادَّةٌ مُشْتَقٌّ هُوَ مِنْهَا، وَأَحْسَبُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَامِدِ، وَهُوَ الْغُرَابُ لِشُهْرَةِ الْغُرَابِ بِالسَّوَادِ.
وسُودٌ جَمْعُ أَسْوَدَ وَهُوَ الَّذِي لَوْنُهُ السَّوَادُ.
302
فَالْغِرْبِيبُ يَدُلُّ عَلَى أَشَدَّ مِنْ مَعْنَى أَسْوَدَ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ غَرابِيبُ مُتَأَخِّرًا عَنْ سُودٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ، كَمَا يَقُولُونَ: أَبْيَضُ يَقَقٌ وَأَصْفَرُ فَاقِعٌ وَأَحْمَرُ قَانٍ، وَلَا يَقُولُونَ: غِرْبِيبٌ أَسَوْدُ وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْوَاوِ وَالْيَاءِ السَّاكِنَتَيْنِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: ١٥]، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى أَن يكون غربيبا تَابِعًا لِأَسْوَدَ نَظَرًا وَالْآيَةُ تُؤَيِّدُ هَذَا النَّظَرَ، وَدَعْوَى كَوْنِ غَرابِيبُ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سُودٌ تَكَلُّفٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَغَرَضُ التَّوْكِيدِ حَاصِلٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
[٢٨]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢٨]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.
مَوْقِعُهُ كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ: وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧]، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُسَوِّغُ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعْنًى آخَرَ فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْخَبَرِ هُنَا سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ.
وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ النَّاسِ مِنْهُ اخْتِلَافٌ عَامٌّ وَهُوَ أَلْوَانُ أَصْنَافِ الْبَشَرِ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَحْمَرُ حَسَبَ الِاصْطِلَاحِ الْجُغْرَافِيِّ. وَلِلْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ تَقْسِيمٌ آخَرُ لِأَلْوَانِ أَصْنَافِ الْبَشَرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٢٢].
ومِنَ تَبْعِيضِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُخْتَلِفَ أَلْوَانُهُ بَعْضٌ مِنَ النَّاسِ، وَمَجْمُوعُ الْمُخْتَلِفَاتِ كُلُّهُ هُوَ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ وَالْأَنْعَامُ، وَهُوَ نَظْمٌ دَقِيقٌ دَعَا إِلَيْهِ الْإِيجَازُ.
وَجِيءَ فِي جُمْلَةِ وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ [فاطر: ٢٧] ومِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بِالِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَمَا فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ أَلْوَانِ الْجِبَالِ وَالْحَيَوَانِ الدَّالِّ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْإِيجَادِ اخْتِلَافًا دَائِمًا لَا يَتَغَيَّرُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ الْخَلْقِ وَعِنْدَ تَوَلُّدِ النَّسْلِ.
303
كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ.
الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَذلِكَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِالنَّتِيجَةِ عَقِبَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ. وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ أَمْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ظَوَاهِرِ الْأَشْيَاءِ الْمُشَاهَدِ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنْ تَفْصِيلِ الِاسْتِنْتَاجِ بِقَوْلِهِ: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ أَيْ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُخْتَلِفَةِ أَلْوَانُهُمُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، فَجُمْلَةُ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَنْ جُمْلَةِ كَذلِكَ. وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ دَلَّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْعُلَمَاءِ لَا تَتَأَتَّى مِنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْبَشَرَ فِي أَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ مُخْتَلِفُونَ. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: ١٨].
وَأُوثِرَ هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي الدَّلَالَةِ تَخَلُّصًا لِلتَّنْوِيهِ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِيَنْتَقِلَ إِلَى تَفْصِيلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: ٢٩] الْآيَةَ...
فَقَوْلُهُ: كَذلِكَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ. وَالتَّقْدِيرُ: كَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، أَوْ كَذَلِكَ الْأَمْرُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٩١] : كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً وَهُوَ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ وَلِذَلِكَ يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَيُسْتَأْنَفُ مَا بَعْدَهُ.
وَأَمَّا جَعْلُ كَذلِكَ مِنْ تَوَابِعِ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يُنَاسِبُ نَظْمَ الْقُرْآنِ لِضَعْفِهِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ لَا يَخْشَاهُ الْجُهَّالُ، وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ فَإِنَّ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِهِمْ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَيْ عَدَمِ الْعِلْمِ فَالْمُؤْمِنُونَ يَوْمَئِذٍ هُمُ الْعُلَمَاءُ، وَالْمُشْرِكُونَ جَاهِلُونَ نُفِيَتْ عَنْهُمْ خَشْيَةُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ الْعُلَمَاءَ فِي مَرَاتِبِ الْخَشْيَةِ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَتَقْدِيمُ مَفْعُولِ يَخْشَى عَلَى فَاعِلِهِ لِأَنَّ الْمَحْصُورَ فِيهِمْ خَشْيَةُ اللَّهِ هُمُ الْعُلَمَاءُ فَوَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَلَى سُنَّةِ تَأْخِيرِ الْمَحْصُورِ فِيهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ: الْعُلَمَاءُ بِاللَّهِ وَبِالشَّرِيعَةِ، وَعَلَى حَسَبِ مِقْدَارِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ تَقْوَى الْخَشْيَةُ فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ بِعُلُومٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ مَعْرِفَةً عَلَى
304
وَجْهِهَا فَلَيْسَتْ عُلُومُهُمْ بِمُقَرِّبَةٍ لَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ لَا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ حَقَائِقُ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ يَفْهَمُ مَوَاقِعَهَا حَقَّ الْفَهْمِ وَيَرْعَاهَا فِي مَوَاقِعِهَا وَيَعْلَمُ عَوَاقِبَهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَهُوَ يَأْتِي وَيَدَعُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا فِيهِ مُرَادُ اللَّهِ وَمَقْصِدُ شَرْعِهِ، فَإِنْ هُوَ خَالَفَ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ الشَّرِيعَةُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِدَاعِي شَهْوَةٍ أَوْ هَوًى أَوْ تَعَجُّلِ نَفْعٍ دُنْيَوِيٍّ كَانَ فِي حَالِ الْمُخَالَفَةِ مُوقِنًا أَنَّهُ مُوَرَّطٌ فِيمَا لَا تُحْمَدُ عُقْبَاهُ، فَذَلِكَ الْإِيقَانُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمُخَالَفَةِ بِالْإِقْلَاعِ أَوِ الْإِقْلَالِ.
وَغَيْرُ الْعَالِمِ إِنِ اهْتَدَى بِالْعُلَمَاءِ فَسَعْيُهُ مِثْلُ سَعْيِ الْعُلَمَاءِ وَخَشْيَتُهُ مُتَوَلِّدَةٌ عَنْ خَشْيَةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَالْعِلْمُ دَلِيلٌ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إِلَيْهَا، وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَوْلَاهُمْ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَفِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً».
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تَكْمِيلٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ إِيمَانِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ لَهُمُ الْخَيْرَ. وَلَمَّا كَانَ فِي هَذَا الْوَصْفِ ضَرْبٌ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ مِمَّا قَدْ يُحْدِثُ يَأْسًا فِي نُفُوسِ الْمُقَارِبِينَ مِنْهُمْ، أُلِّفَتْ قُلُوبُهُمْ بِاتِّبَاعِ وَصْفِ عَزِيزٌ، بِوَصْفِ غَفُورٌ أَيْ فَهُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ مِنْهُمْ إِنْ تَابُوا إِلَى مَا دَعَاهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ فِي صِفَةِ غَفُورٌ حَظًّا عَظِيمًا لِأَحَدِ طرفِي الْقصر وهم الْعُلَمَاءُ، أَيْ غَفُور لَهُم.
[٢٩، ٣٠]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠)
اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ جُمْلَةِ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨] الْآيَةَ، فَالَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ هُمُ الْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ، وَقَدْ تُخُلِّصَ إِلَى بَيَانِ فَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الذّكر وخشوا الرحمان بِالْغَيْبِ فَإِنَّ حَالَهُمْ مُضَادٌّ لِحَالِ الَّذِينَ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ وَكَانُوا عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِهِ كَحَالِ أَهْلِ الْقُبُورِ لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا. فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ ثَنَاءً إِجْمَالِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ، وَأَجْمَلَ حُسْنَ جَزَائِهِمْ بِذِكْرِ
305
صفة غَفُورٌ [فاطر: ٢٨] وَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ فُصِّلَ ذَلِكَ الثَّنَاءُ وَذُكِرَتْ آثَارُهُ وَمَنَافِعُهُ.
فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ لِأَنَّهُمُ اشْتُهِرُوا بِذَلِكَ وَعُرِفُوا بِهِ وَهُمُ الْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ. قَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:
٤٩]. وَهُوَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَتْلُو الْكِتَابَ إِلَّا مَنْ صَدَّقَ بِهِ وَتَلَقَّاهُ بِاعْتِنَاءٍ.
وَتَضَمَّنَ هَذَا أَنَّهُمْ يَكْتَسِبُونَ مِنَ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالتَّكَالِيفِ، فَقَدْ أَشْعَرَ الْفِعْلُ الْمُضَارِعُ بِتَجَدُّدِ تِلَاوَتِهِمْ فَإِنَّ نُزُولَ الْقُرْآنِ مُتَجَدِّدٌ فَكُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ مِقْدَارٌ تَلَقَّوْهُ وَتَدَارَسُوهُ.
وَكِتَابُ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَعَدَلَ عَنِ اسْمِهِ الْعَلَمِ إِلَى اسْمِ الْجِنْسِ الْمُضَافِ لِاسْمِ الْجَلَالَةِ لِمَا فِي إِضَافَته إِلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِ.
وَأَتْبَعَ مَا هُوَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ بِهِ بِعَلَامَةٍ أُخْرَى وَهِيَ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، ثُمَّ أُتْبِعَتْ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي الْمَالِ وَهِيَ الْإِنْفَاقُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْفَاقِ حَيْثُمَا أُطْلِقَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الصَّدَقَاتُ وَاجِبُهَا وَمُسْتَحَبُّهَا وَمَا وَرَدَ الْإِنْفَاقُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ إِلَّا وَالْمُرَادُ بِهِ الصَّدَقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ إِذْ لَمْ تَكُنِ الزَّكَاةُ قَدْ فُرِضَتْ أَيَّامَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ مَفْرُوضَةً دُونَ نُصُبٍ وَلَا تَحْدِيدٍ ثُمَّ حُدِّدَتْ بِالنُّصُبِ وَالْمَقَادِيرِ.
وَجِيءَ فِي جَانِبِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْإِنْفَاقِ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ قَدْ تَقَرَّرَ وَعَمِلُوا بِهِ فَلَا تَجَدُّدَ فِيهِ، وَامْتِثَالُ الَّذِي كلفوا بِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُدَاوِمُونَ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِدْمَاجٌ لِلِامْتِنَانِ وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْفَاقُ شُكْرٍ عَلَى نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فَهُمْ يُعْطُونَ مِنْهُ أَهْلَ الْحَاجَةِ.
وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كِتابَ اللَّهِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلِامْتِنَانِ.
306
وَانْتَصَبَ سِرًّا وَعَلانِيَةً عَلَى الصِّفَةِ لِمَصْدَرِ أَنْفَقُوا مَحْذُوفٍ، أَيْ إِنْفَاقَ سِرٍّ وَإِنْفَاقَ عَلَانِيَةٍ وَالْمَصْدَرُ مُبَيِّنٌ لِلنَّوْعِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ مِنَ الْإِنْفَاقِ إِلَّا مَرْضَاةَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُرَاءُونَ بِهِ، فَهُمْ يُنْفِقُونَ حَيْثُ لَا يَرَاهُمْ أَحَدٌ وَيُنْفِقُونَ بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ فَلَا يَصُدُّهُمْ مُشَاهَدَةُ النَّاسِ عَنِ الْإِنْفَاقِ.
وَفِي تَقْدِيمِ السِّرِّ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ لِانْقِطَاعِ شَائِبَةِ الرِّيَاءِ مِنْهُ، وَذِكْرُ الْعَلَانِيَةِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَصُدُّهُمْ مَرْأَى الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِنْفَاقِ فَهُمْ قَدْ أَعْلَنُوا بِالْإِيمَانِ وَشَرَائِعِهِ حُبَّ مَنْ حَبَّ أَوْ كُرْهَ مَنْ كَرِهَ.
ويَرْجُونَ تِجارَةً هُوَ خَبَرُ إِنَّ.
وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ التَّبْشِيرِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَرْجُوا تِجَارَةً، وَزَادَهُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ التَّبْشِيرِ.
وَالتِّجَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِأَعْمَالِهِمْ مِنْ تِلَاوَةٍ وَصَلَاةٍ وَإِنْفَاقٍ.
وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُشَابَهَةُ تَرَتُّبِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بِتَرَتُّبِ الرِّبْحِ عَلَى التِّجَارَةِ.
وَالْمَعْنَى: لِيَرْجُوا أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُمْ كَتِجَارَةٍ رَابِحَةٍ.
وَالْبَوَارُ: الْهَلَاكُ. وَهَلَاكُ التِّجَارَةِ: خَسَارَةُ التَّاجِرِ. فَمَعْنَى لَنْ تَبُورَ أَنَّهَا رَابِحَةٌ.
ولَنْ تَبُورَ صِفَةُ تِجارَةً. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَرْجُونَ عَدَمَ بَوَارِ التِّجَارَةِ.
فَالصِّفَةُ مَنَاطُ التَّبْشِيرِ وَالرَّجَاءِ لَا أَصْلُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ الْعَمَلِ الْفَظِيعِ لِعَمَلِ التَّاجِرِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ.
ولِيُوَفِّيَهُمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَرْجُونَ، أَيْ بَشَّرْنَاهُمْ بِذَلِكَ وَقَدَّرْنَاهُ لَهُمْ لِنُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ.
وَوَقَعَ الِالْتِفَاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِ: مِمَّا رَزَقْناهُمْ إِلَى الْغَيْبَةِ رُجُوعًا إِلَى سِيَاقِ الْغَيْبَةِ مِنْ قَوْلِهِ: يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أَيْ لِيُوَفِّيَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَهُ.
وَالتَّوْفِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَافِيًا، أَيْ تَامًّا لَا نَقِيصَةَ فِيهِ وَلَا غَبْنَ.
وَأَسْجَلَ عَلَيْهِمُ الْفَضْلَ بِأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ عَلَى مَا تَسْتَحِقُّهُ أَعْمَالُهُمْ ثَوَابًا مِنْ فَضْلِهِ،
307
أَيْ كَرَمِهِ، وَهُوَ مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَاتِ الْوَارِدَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [الْبَقَرَة: ٢٦١] الْآيَةَ.
وَذُيِّلَ هَذَا الْوَعْدُ بِمَا يُحَقِّقُهُ وَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ وَالشُّكْرَانَ مِنْ شَأْنِهِ، فَإِنَّ مِنْ صِفَاتِهِ الْغَفُورَ الشَّكُورَ، أَيِ الْكَثِيرَ الْمَغْفِرَةِ وَالشَّدِيدَ الشُّكْرِ.
فَالْمَغْفِرَةُ تَأْتِي عَلَى تَقْصِيرِ الْعِبَادِ الْمُطِيعِينَ، فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ الْحَقَّ الَّتِي هِيَ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَلِ وَالْخَوَاطِرِ لَا يَبْلُغُ حَقَّ الْوَفَاءِ بِهَا إِلَّا الْمَعْصُومُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنِ الْأُمَّةِ فِيمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، وَفِيمَا هَمَّتْ بِهِ وَلَمْ تَفْعَلْهُ، وَفِي اللَّمَمِ، وَفِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْمَاضِيَةِ بِالتَّوْبَةِ، وَالشُّكْرُ كِنَايَةٌ عَنْ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ عَلَى أَعْمَالهم فَهُوَ شكر بِالْعَمَلِ لِأَنَّ الَّذِي يُجَازِي عَلَى عَمَلٍ الْمَجْزِيُّ بِجَزَاءٍ وَافِرٍ يَدُلُّ جَزَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ حَمِدَ لِلْفَاعِلِ فِعْلَهُ.
وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ زِيَادَةً فِي تَحْقِيقِهِ، وَلِمَا فِي التَّأْكِيدِ مِنَ الْإِيذَانِ بِكَوْنِ ذَلِكَ عِلَّةً لِتَوْفِيَةِ الْأُجُورِ وَالزِّيَادَةِ فِيهَا.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَشْمَلُ ثَوَابَ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ يَصْدُقُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مِنَ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَلَوْ لَمْ يُصَاحِبْهُمُ التَّدَبُّرُ فِي الْقُرْآنِ فَإِنَّ لِلتِّلَاوَةِ حَظَّهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالتَّنَوُّرِ بِأَنْوَارِ كَلَامِ اللَّهِ.
[٣١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣١]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.
لَمَّا كَانَ الْمُبْدَأُ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ ثَوَابِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ تِلَاوَتُهُمْ كِتَابَ اللَّهِ أُعْقِبَ التَّنْوِيهُ بِهِمْ بِالتَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ لِلتَّذْكِيرِ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِجَلَالِ الْقُرْآنِ وَشَرَفِهِ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ اسْتِحْقَاقِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ مَا اسْتَحَقُّوا. وَابْتُدِئَ التَّنْوِيهُ بِهِ بِأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى رَسُولِهِ، وَنَاهِيكَ بِهَذِهِ الصِّلَةِ تَنْوِيهًا بِالْكِتَابِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَنْوِيهًا بِشَأْنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، فَفِي هَذَا مَسَرَّةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِشَارَةٌ لَهُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الرُّسُلِ وَأَنَّ كِتَابَهُ أَفْضَلُ الْكُتُبِ.
308
وَهَذِهِ نُكْتَةُ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ كَوْنِهِ الْحَقَّ الْكَامِلَ، دُونَ الْإِضْمَارِ الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يُقَالَ: وَهُوَ الْكِتَابُ الْحَقُّ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي الْكِتابِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ.
ومِنَ بَيَانِيَّةٌ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنَ الْإِبْهَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَالْكِتَابُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هُوَ الْحَقُّ. فَقُدِّمَ الْمَوْصُولُ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَقَعَ صِفَةً لِلْكِتَابِ تَقْدِيمًا لِلتَّشْوِيقِ بِالْإِبْهَامِ لِيَقَعَ بَعْدَهُ التَّفْصِيلُ فَيَتَمَكَّنَ مِنَ الذِّهْنِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ.
فَجُمْلَةُ وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: ٢٩] فَهِيَ مِثْلُهَا فِي حُكْمِ الِاسْتِئْنَافِ.
وَضَمِيرُ هُوَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا أَفَادَهُ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ مِنَ الْقَصْرِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْحَقُّ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَأَفَادَ تَعْرِيفُ الْجُزْأَيْنِ قَصْرَ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرَ جِنْسِ الْحَقِّ عَلَى الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَقِّيَّةِ مَا عَدَاهُ من الْكتب.
فَأَما الْكُتُبِ غَيْرُ الْإِلَهِيَّةِ مِثْلُ (الزَّنْدِ فِسْتَا) كِتَابِ (زِرَادِشْتَ) وَمِثْلُ كُتُبِ الصَّابِئَةِ فَلِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَلِيلِ الْحَقِّ قَدْ غُمِرَ بِالْبَاطِلِ وَالْأَوْهَامِ.
وَأَمَّا الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ كَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ كَالزَّبُورِ وَكِتَابِ أَرْمِيَا مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَمَا شَهِدَ الْقُرْآنُ بِحَقِّيَّتِهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا جَاءَ نَسْخُهُ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ بَيَّنَ النَّسْخُ تَحْدِيدَ صَلَاحِيَّتِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ أَيْضًا
تَصْدِيقٌ لَهَا لِأَنَّهُ يَدْفَعُ مَوْهِمَ بُطْلَانِهَا عِنْدَ مَنْ يَجِدُ خِلَافَهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ نُقِلَ عَلَى تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا أَخْرَجَهُ الْقَصْرُ. وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ مُعْظَمَهُ وَكَشَفَ عَنْ مَوَاقِعِهِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ [الْبَقَرَة: ٨٥].
وَمَعْنَى «مَا بَيْنَ يَدَيْهِ» مَا سَبَقَهُ لِأَنَّ السَّابِقَ يَجِيءُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمَسْبُوقِ فَكَأَنَّهُ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ: ٤٦].
309
وَالْمُرَادُ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَأَهَمُّهَا شَرِيعَةُ مُوسَى وَشَرِيعَةُ عِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
وَانْتَصَبَ مُصَدِّقاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الْكِتابِ وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ فِعْلُ أَوْحَيْنا لِيُفِيدَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ حَقًّا بَالِغًا فِي الْحَقِّيَّةِ فَهُوَ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ الْحَقَّةِ، وَمُقَرِّرٌ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ.
إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.
تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ قَبْلَهُ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ عِبَادِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ وَمِنِ انْطِوَاءِ ضَمَائِرِهِمْ عَلَى الْخَشْيَةِ وَعَدَمِهَا، وَإِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ وَإِعْرَاضِ بَعْضٍ، وَمِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ عَلَى بَعْضٍ الْمُقْتَضِي أَيْضًا تَفْضِيلَ بَعْضِ الْمُرْسَلِينَ بِهَا عَلَى بَعْضٍ، فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ مَوْقِعُ إِقْنَاعِ السَّامِعِينَ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِعِبَادِهِ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِحَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْهُمْ، وَيَصْطَفِي مِنْهُمْ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كُفْئًا لِاصْطِفَائِهِ، فَأَلْقَمَ بِهَذَا الَّذِينَ قَالُوا: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: ٨] حَجَرًا، وَكَأُولَئِكَ أَيْضًا الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ مُبْطِلًا لِكِتَابِهِمْ.
وَالْخَبِيرُ: الْعَالِمُ بِدَقَائِقِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ وَالْمَحْسُوسَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَالْخَفِيَّةِ.
وَالْبَصِيرُ: الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ الْمُبْصَرَةِ. وَتَقْدِيمُ الْخَبِيرُ عَلَى الْبَصِيرُ لِأَنَّهُ أَشْمَلُ. وَذِكْرُ الْبَصِيرُ عَقِبَهُ لِلْعِنَايَةِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْمُبْصَرَاتِ وَهِيَ غَالِبُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِرْدَافُ الْخَبِيرِ بِالْبَصِيرِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ وَاللَّامِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْخَبَر.
[٣٢]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٢]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢)
ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ فَهِيَ هُنَا لِعَطْفِ الْجُمَلِ
310
عَطْفًا
ذِكْرِيًّا، فَالْمُتَعَاطِفَاتُ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَأْنَفَاتِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْمُسْتَأْنَفَةِ، وثُمَّ لِلتَّرَقِّي فِي الِاسْتِئْنَافِ. وَهَذَا ارْتِقَاءٌ فِي التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ الْمُتَضَمِّنِ التَّنْوِيهَ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرُوجٌ فِي مَسَرَّتِهِ وَتَبْشِيرِهِ، فَبَعْدَ أَنْ ذُكِّرَ بِفَضِيلَةِ كِتَابِهِ وَهُوَ أَمْرٌ قَدْ تَقَرَّرَ لَدَيْهِ زِيدَ تَبْشِيرًا بِدَوَامِ كِتَابِهِ وَإِيتَائِهِ أُمَّةً هُمُ الْمُصْطَفَوْنَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَبْشِيرِهِ بِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِهِ وَلَا يَتْرُكُونَهُ كَمَا تَرَكَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِهِ كُتُبَهُمْ وَرُسُلَهُمْ، لِقَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الْآيَةَ، فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ أَهَمُّ عِنْدَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ مُصَدِّقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُ فَوَقْعُهَا أَهَمُّ.
وَحَمَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ ثُمَّ هُنَا عَلَى التَّرَاخِي الزَّمَنِيِّ فَاحْتَاجَ إِلَى تَكَلُّفٍ فِي إِقَامَةِ الْمَعْنَى.
وَالْمُرَادُ بِ الْكِتابَ الْكِتَابُ الْمَعْهُودُ وَهُوَ الَّذِي سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [فاطر: ٣١] أَيِ الْقُرْآنِ.
وأَوْرَثْنَا جَعَلْنَا وَارِثِينَ. يُقَالُ: وَرِثَ، إِذَا صَارَ إِلَيْهِ مَالُ مَيِّتٍ قَرِيبٍ. وَيَسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكَسْبِ عَنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ وَلَا عِوَضٍ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: جَعَلْنَاهُمْ آخِذِينَ الْكِتَابَ مِنَّا، أَوْ نَجْعَلُ الْإِيرَاثَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْأَمْرِ بِالتَّلَقِّي، أَيْ أَمَرْنَا الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَرِثُوا الْقُرْآنَ، أَيْ يَتَلَقَّوْهُ مِنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَفِي الْإِيرَاثِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ فِعْلُ أَوْرَثْنَا حَقِيقًا بِأَنْ يَنْصِبَ مَفْعُولَيْنِ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَفْعُولَيْنِ الَّذِي هُوَ الْآخِذُ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ وَالْآخَرُ ثَانِيًا، وَإِنَّمَا خُولِفَ هُنَا فَقُدِّمَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِأَمْنِ اللَّبْسِ قَصْدًا لِلِاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ الْمُعْطَى. وَأَمَّا التَّنْوِيهُ بِآخِذِي الْكِتَابِ فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الصِّلَةِ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ اصْطَفَاهُمُ اللَّهُ: الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا إِلَى قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ [الْحَج: ٧٧، ٧٨]. وَقَدِ اخْتَارَ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ أَفْضَلَ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ رُوِيَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ ذَكَرَهَا ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ».
وَلَمَّا أُرِيدَ تَعْمِيمُ الْبِشَارَةِ مَعَ بَيَانِ أَنَّهُمْ مَرَاتِبُ فِيمَا بُشِّرُوا بِهِ جِيءَ بِالتَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ:
فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ تَفْصِيلٌ لِمَرَاتِبِ الْمُصْطَفَيْنَ لِتَشْمَلَ الْبِشَارَةُ
311
جَمِيعَ أَصْنَافِهِمْ وَلَا يُظَنَّ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ مَحْرُومٌ مِنْهَا، فَمَنَاطُ الِاصْطِفَاءِ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ وَهُوَ الِانْقِيَادُ بِالْقَوْلِ وَالِاسْتِسْلَامُ.
وَقُدِّمَ فِي التَّفْصِيلِ ذِكْرُ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ حِرْمَانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَتَعْجِيلًا لِمَسَرَّتِهِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الَخْ تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ أَيْ أُعْطَوُا الْقُرْآنَ. وَضَمِيرُ «مِنْهُمُ» الْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا، وَذَلِكَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ. وَقِيلَ هُوَ عَائِدٌ إِلَى عِبادِنا أَيْ وَمن عبادنَا علمه وَالْإِطْلَاق. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَعَلَيْهِ فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ هُوَ الْكَافِرُ. وَيَسْرِي أَثَرُ هَذَا الْخِلَافِ فِي مَحْمَلِ ضَمِيرِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣] وَلِذَلِكَ يَكُونُ قَوْلُ الْحَسَنِ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو وَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
وَالظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ هُمُ الَّذِينَ يَجُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ الْمَرْءِ رَبَّهُ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُوَرِّطُهَا فِي الْعُقُوبَةِ الْمُعَيَّنَةِ لِلْمَعَاصِي عَلَى تَفْصِيلِهَا وَذَلِكَ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَيْهَا إِذْ قَصَّرَ بِهَا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْخَيِّرَاتِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَوَرَّطَهَا فِيمَا تَجِد جَزَاء ذَمِيمًا عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ حِينَ خَالَفَا مَا نُهِيَا عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ قَالَا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الْأَعْرَاف: ٢٣] وَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النِّسَاء: ١١٠] وَقَالَ: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [١١]، وَقَالَ: قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [٥٣].
وَاللَّامُ فِي لِنَفْسِهِ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ الْعَامِلَ فَرْعٌ فِي الْعَمَلِ إِذْ هُوَ اسْمُ فَاعِلٍ.
وَالْمُقْتَصِدُ: هُوَ غَيْرُ الظَّالِمِ نَفْسَهُ كَمَا تَقْتَضِيهِ الْمُقَابَلَةُ، فَهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا الْكِبَارَ وَلَمْ يَحْرِمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَقَدْ يُلِمُّونَ بِاللَّمَمِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ مِنَ اللَّهِ، وَلَمْ يَأْتُوا بِمُنْتَهَى الْقُرُبَاتِ الرَّافِعَةِ لِلدَّرَجَاتِ، فَالِاقْتِصَادُ افْتِعَالٌ مِنَ الْقَصْدِ وَهُوَ ارْتِكَابُ
312
الْقَصْدِ وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ يُبَيِّنُهُ الْمَقَامُ، فَلَمَّا ذُكِرَ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الظَّالِمِ وَالسَّابِقِ عُلِمَ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَالَةً بَيْنِ تَيْنِكَ الْحَالَتَيْنِ فَهُوَ لَيْسَ بِظَالِمٍ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِسَابِقٍ.
وَالسَّابِقُ أَصْلُهُ: الْوَاصِلُ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ قَبْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَاشِينَ إِلَيْهَا. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ لِإِحْرَازِ الْفَضْلِ لِأَنَّ السَّابِقَ يُحْرِزُ السَّبَقَ (بِفَتْحِ الْبَاءِ)، أَوْ مَجَازٌ فِي بَذْلِ الْعِنَايَةِ لِنَوَالِ رِضَى اللَّهِ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فِي الْمَجَازِ فَهُوَ مُكَنًّى عَنِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ لِأَنَّ السَّبْقَ يَسْتَلْزِمُ إِسْرَاعَ الْخُطُوَاتِ، وَالْإِسْرَاعُ إِكْثَارٌ. وَفِي هَذَا السَّبْقِ تَفَاوُتٌ أَيْضًا كَخَيْلِ الْحَلَبَةِ.
وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَالْخَيْرُ: النَّافِعُ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الطَّاعَاتُ لِأَنَّهَا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ نَافِعَةٌ لِعَامِلِهَا وَلِلنَّاسِ بِآثَارِهَا.
وَالْبَاءُ لِلظَّرْفِيَّةِ، أَيْ فِي الْخَيْرَاتِ كَقَوْلِهِ: يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ [الْمَائِدَة:
٦٢].
وَفِي ذِكْرِ الْخَيْرَاتِ فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا مُرَادَةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى ظَالِمٍ لِنَفْسِهِ فِي الْخَيْرَاتِ وَمُقْتَصِدٍ فِي الْخَيْرَاتِ أَيْضًا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ مَعْنَى ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أَنَّهُ نَاقِصُهَا مِنَ الْخَيْرَاتِ كَقَوْلِهِ: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أَيْ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ مُعْتَادِهَا فِي الْإِثْمَارِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٣].
وَالْإِذْنُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّيْسِيرِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ سابِقٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِفِعْلِ الْخَيْرِ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى بِهِ وَمن قصّر بِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْبَاءَ لِلْمُلَابَسَةِ وَتَجْعَلَهَا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ سابِقٌ أَيْ مُتَلَبِّسًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَكُونُ الْإِذْنُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، أَيْ سَابِقٌ مَلَابِسٌ لِمَا أَذِنَ اللَّهُ بِهِ، أَيْ لَمْ يُخَالِفْهُ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ هُوَ تَنْوِيهٌ بِالسَّابِقِينَ بِأَنَّ سَبْقَهُمْ كَانَ بِعَوْنٍ مِنَ اللَّهِ وَتَيْسِيرٍ مِنْهُ.
وَفِيمَا رَأَيْتَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْمَرَاتِبِ الثَّلَاثِ فِي الْآيَةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ كَلَامِ الْأَئِمَّةِ،
313
مَعَ ضَمِيمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا. تَسْتَغْنِي عَنِ التِّيهِ فِي مَهَامِّهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ فِي تَفْسِيرِهَا تَجَاوَزَتِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلًا.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إِلَى الِاصْطِفَاءِ الْمَفْهُومِ مِنِ اصْطَفَيْنا أَوْ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ الِاصْطِفَاءِ وَإِيرَاثِ الْكِتَابِ.
والْفَضْلُ: الزِّيَادَةُ فِي الْخَيْرِ، والْكَبِيرُ مُرَادٌ بِهِ ذُو الْعِظَمِ الْمَعْنَوِيِّ وَهُوَ الشَّرَفُ وَهُوَ فَضْلُ الْخُرُوجِ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. وَهَذَا الْفَضْلُ مَرَاتِبُ فِي الشَّرَفِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ تَقْسِيمُ أَصْحَابِهِ إِلَى: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِتَأْكِيدِ الْقَصْرِ الْحَاصِلِ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْأَيْنِ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ لِأَنَّ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ مُنْحَصِرٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ فَضْلٍ هُوَ غَيْرُ كَبِيرٍ إِلَّا ذَلِكَ الْفَضْلَ.
وَوَجْهُ هَذَا الِانْحِصَارِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِفَاءَ وَإِيرَاثَ الْكِتَابِ جَمَعَ فَضِيلَةَ الدُّنْيَا وَفَضْلَ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧]، وَقَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً [النُّور: ٥٥].
[٣٣]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٣]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
الْأَظْهَرُ أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: ٣٢] فَإِنَّ مِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ دُخُولَهُمُ الْجَنَّةَ كَمَا عَلِمْتَ وَتَخْصِيصُ هَذَا الْفَضْلِ مِنْ بَيْنِ أَصْنَافِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْفَضْلِ لِأَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ عَنْهُمْ حِينَ إِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِبَيَانِ الْفَضْلِ الْكَبِيرِ وَقَدْ بُيِّنَ بِأَعْظَمِ أَصْنَافِهِ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي يَدْخُلُونَها رَاجِعٌ إِلَى الَّذِينَ اصْطَفَيْنا [فاطر: ٣٢] الْمُقَسَّمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ظَالِمٍ، وَمُقْتَصِدٍ، وَسَابِقٍ، أَيْ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ مَآلُهُمُ الْجَنَّةُ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي تَكَاثَرَتْ. وَقَدْ
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولَانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ «أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر:
٣٢] قَالَ: «هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ»

. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ هُمُ الَّذِينَ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ [٨- ١٠] : أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- وأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- والسَّابِقُونَ. وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ أَصْحَابَ الْمَشْأَمَةِ فِي النَّارِ الْحَامِيَةِ، وَأَصْحَابَ سُورَةِ فَاطِرٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُمْ بَيْنَ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ فَأَمَّا الْفَاتِحَةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: ٣٢] فَجَعَلَهُمْ مُصْطَفَيْنَ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣] وَلَا يُصْطَفَى إِلَّا مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَكِنَّ أَهْلِ الْجَنَّةِ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: ٣٢] وَهُوَ الْعَاصِي وَالظَّالِمُ الْمُطْلَقُ
هُوَ الْكَافِرُ، وَقِيلَ عَنْهُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ رِفْقًا بِهِ، وَقِيلَ لِلْآخَرِ: السَّابِقِ بِإِذْنِ اللَّهِ إِنْبَاءً أَنَّ ذَلِكَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ لَا مِنْ حَالِ الْعَبْدِ اهـ.
وَفِي الْإِخْبَارِ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ إِفَادَةٌ تُقَوِّي الْحُكْمَ وَصَوْغُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِأَنَّهُ مُسْتَقْبِلٌ، وَكَذَلِكَ صَوْغُ يُحَلَّوْنَ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ عَنْ جَنَّاتُ عَدْنٍ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ الْحَجِّ فَانْظُرْهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَلُؤْلُؤاً بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ أَساوِرَ لِأَنَّهُ لَمَّا جُرَّ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ كَانَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِفِعْلِ يُحَلَّوْنَ فَجَازَ فِي الْمَعْطُوفِ أَنْ يُنْصَبَ عَلَى مُرَاعَاةِ مَحَلِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْجَرِّ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ، وهما وَجْهَان.
[٣٤، ٣٥]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٣٤ إِلَى ٣٥]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
الْأَظْهَرُ أَنَّ جُمْلَةَ وَقالُوا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضمير يُحَلَّوْنَ [فاطر: ٣٣] لِئَلَّا يَلْزَمَ تَأْوِيلُ
315
الْمَاضِي بِتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ فِي قَوْله: يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣].
وَتِلْكَ الْمَقَالَةُ مُقَارِنَةٌ لِلتَّحْلِيَةِ وَاللِّبَاسِ، وَهُوَ كَلَامٌ يَجْرِي بَيْنَهُمْ سَاعَتَئِذٍ لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَلَى مَا خَوَّلَهُمْ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْكَرَامَةِ.
وَإِذْهَابُ الْحَزَنِ مَجَازٌ فِي الْإِنْجَاءِ مِنْهُ فَتَصْدُقُ بِإِزَالَتِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَيَصْدُقُ بِعَدَمِ حُصُولِهِ.
والْحَزَنَ الْأَسَفُ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ لَمَّا أُعْطَوْا مَا أُعْطَوْهُ زَالَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا فِيهِ قَبْلُ مِنْ هَوْلِ الْمَوْقِفِ وَمِنْ خَشْيَةِ الْعِقَابِ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّابِقِينَ وَالْمُقْتَصِدِينَ وَمِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ عِقَابٍ بِالنِّسْبَةِ لِظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اسْتِئْنَافُ ثَنَاءٍ عَلَى اللَّهِ شَكَرُوا بِهِ نِعْمَةَ السَّلَامَةِ أَثْنَوْا عَلَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ لِمَا تَجَاوَزَ عَمَّا اقْتَرَفُوهُ مِنَ اللَّمَمِ وَحَدِيثِ الْأَنْفُسِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ، وَلِمَا تَجَاوَزَ عَنْهُ مِنْ تَطْوِيلِ الْعَذَابِ وَقَبُولِ الشَّفَاعَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمُخْتَلَفِ أَحْوَالِ الظَّالِمِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَثْنَوْا عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ شَكُورٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ إِفَاضَتِهِ الْخَيْرَاتِ عَلَيْهِمْ وَمُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ مِمَّا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ صَالِحَاتِ أَعْمَالِهِمْ. وَهَذَا عَلَى نَحْوِ
مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: ٣٠].
والْمُقامَةِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَقَامَ بِالْمَكَانِ إِذَا قَطَنَهُ. وَالْمُرَادُ: دَارُ الْخُلُودِ. وَانْتَصَبَ دارَ الْمُقامَةِ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ أَحَلَّنا أَيْ أَسْكَنَنَا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ فَضْلِهِ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ دارَ الْمُقامَةِ.
وَالْفَضْلُ: الْعَطَاءُ، وَهُوَ أَخُو التَّفَضُّلِ فِي أَنَّهُ عَطَاءٌ مِنْهُ وَكَرَمٌ.
وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ جَعَلَ لَهُمُ الْجَنَّةَ جَزَاءً عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَمَا جَعَلَ لِلصَّالِحَاتِ عَطَاءً وَلَكَانَ جَزَاؤُهَا مُجَرَّدَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعِقَابِ، وَكَانَ أَمْرُ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْخُلُودَ فِي النَّارِ كِفَافًا، أَيْ لَا عِقَابَ وَلَا ثَوَابَ فَيَبْقَى كَالسَّوَائِمِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا مِنْ هَذَا تَمَامَ الشُّكْرِ وَالْمُبَالَغَةَ فِي التَّأَدُّبِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ حَالٌ ثَانِيَةٌ.
316
وَالْمَسُّ: الْإِصَابَةُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهَا، وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ مِنْ نَحْوِ شِدَّةِ حَرٍّ وَشِدَّةِ بَرْدٍ.
وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ مِنْ جَرَّاءِ عَمَلٍ أَوْ جَرْيٍ.
وَإِعَادَةُ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ لِتَأْكِيدِ انْتِفَاء المسّ.
[٣٦]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)
مُقَابَلَةُ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لِلَّذِينِ أُورِثُوا الْكِتَابَ بِذِكْرِ الْكَافِرِينَ يَزِيدُنَا يَقِينًا بِأَنَّ تِلْكَ الْأَقْسَامَ أَقْسَامُ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُقَابَلَةُ جَزَاءِ الْكَافِرِينَ بِنَارِ جَهَنَّمَ يُوَضِّحُ أَنَّ الْجَنَّةَ دَارٌ لِلْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ نَارَ عِقَاب الْمُؤمنِينَ خَفِيفَة عَنْ نَارِ الْمُشْرِكِينَ.
فَجُمْلَةُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [فاطر: ٣٣].
وَوَقَعَ الْإِخْبَارُ عَنْ نَارِ جَهَنَّمَ بِأَنَّهَا لَهُمْ بِلَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤] وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
[١٣١]، فَنَارُ عِقَابِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ نَارٌ مُخَالِفَةٌ أَوْ أَنَّهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ.
وَإِنَّمَا دَخَلَ فِيهَا مَنْ أُدْخِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ لِاقْتِرَافِهِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تَكُونَ لِلْكَافِرِينَ.
وَقُدِّمَ الْمَجْرُورُ فِي لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ عَلَى الْمسند إِلَيْهِ للتشويق إِلَى ذكر الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَتَّى إِذَا سَمِعَهُ السَّامِعُونَ تَمَكَّنَ مِنْ نُفُوسِهِمْ تَمَامَ التَّمَكُّنِ.
وَجُمْلَةُ لَا يُقْضى عَلَيْهِمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ، وَالْقَضَاءُ:
حَقِيقَتُهُ الْحُكْمُ، وَمِنْهُ قَضَاءُ اللَّهِ حُكْمُهُ وَمَا أَوْجَدَهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَمَاتَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [الْقَصَص: ١٥]. وَهُوَ هُنَا مُحْتَمِلٌ
لِلْحَقِيقَةِ، أَيْ لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ مَوْتَهُمْ، فَقَوْلُهُ: فَيَمُوتُوا مُسَبَّبٌ عَلَى الْقَضَاءِ. وَالْمَعْنَى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ فَيَمُوتُوا، وَمُحْتَمِلٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَتَفْرِيعُ فَيَمُوتُوا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ إِلَّا الْإِمَاتَةَ الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَلَيْهَا الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يَزُولُ عِنْدَهُ الْإِحْسَاسُ، فَيُفِيد أَنهم يماتون مَوْتًا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَّا آلَامُهُ دُونَ رَاحَتِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَنادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: ٧٧] وَقَالَ تَعَالَى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النِّسَاء: ٥٦].
وَضَمِيرُ عَذابِها عَائِدٌ إِلَى جَهَنَّمَ لِيَشْمَلَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُعَذَّبِينَ يُعَذَّبُونَ بِالنَّارِ وَيُعَذَّبُونَ بِالزَّمْهَرِيرِ وَهُوَ شِدَّةُ الْبَرْدِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ.
وَوَقَعَ كَذلِكَ مَوْقِعَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِقَوْلِهِ: نَجْزِي أَيْ نَجْزِيهِمْ جَزَاءً كَذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ تَذْيِيلٌ. وَالْكَفُورُ: الشَّدِيدُ الْكُفْرِ، وَهُوَ الْمُشْرِكُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَجْزِي بِنُونِ الْعَظَمَةِ وَنَصْبِ كُلَّ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ يُجْزَى بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ وَرَفْعِ كُلَّ.
[٣٧]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٣٧]
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.
الضَّمِيرُ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [فاطر: ٣٦] وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ
[فاطر: ٣٦] وَلَا تُجْعَلُ حَالًا لِأَنَّ التَّذْيِيلَ آذَنَ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ وَبِاسْتِقْبَالِ كَلَامٍ جَدِيدٍ.
ويَصْطَرِخُونَ مُبَالَغَةٌ فِي (يَصْرُخُونَ) لِأَنَّهُ افْتِعَالٌ مِنَ الصُّرَاخِ وَهُوَ الصِّيَاحُ بِشِدَّةٍ وَجُهْدٍ، فَالِاصْطِرَاخُ مُبَالَغَةٌ فِيهِ، أَيْ يَصِيحُونَ مِنْ شِدَّةِ مَا نَابَهُمْ.
وَجُمْلَةُ رَبَّنا أَخْرِجْنا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَصْطَرِخُونَ، يَحْسَبُونَ أَنَّ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ أَقْرَبُ إِلَى عِلْمِ الله بندائهم ولإظهار عَدَمِ إِطَاقَةِ مَا هُمْ فِيهِ.
318
وَقَوْلُهُمْ: نَعْمَلْ صالِحاً وَعْدٌ بِالتَّدَارُكِ لِمَا فَاتَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَلَكِنَّهَا إِنَابَةٌ بَعْدَ إِبَانِهَا.
وَلِإِرَادَةِ الْوَعْدِ جُزِمَ نَعْمَلْ صالِحاً فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تُخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا.
وغَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نَعْتٌ لِ صالِحاً، أَيْ عَمَلًا مُغَايِرًا لِمَا كُنَّا نَعْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَهَذَا نَدَامَةٌ عَلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ لِأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِفَسَادِ عَمَلِهِمْ وَضُرِّهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ عَالَمُ الْحَقَائِقِ.
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ.
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ فِعْلَ قَوْلٍ مَحْذُوفًا لِعِلْمِهِ مِنَ السِّيَاقِ بِحَسَبِ الضَّمِيرِ فِي نُعَمِّرْكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها فَإِنَّ صُرَاخَهُمْ كَلَامٌ مِنْهُمْ، وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا وَنَقُولُ أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٌ لِلتَّوْبِيخِ، وَجُعِلَ التَّقْرِيرُ عَلَى النَّفْيِ تَوْطِئَةً لِيُنْكِرَهُ الْمُقَرَّرُ حَتَّى إِذَا قَالَ: بَلَى عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَسَعْهُ الْإِنْكَارُ حَتَّى مَعَ تَمْهِيدِ وطاء الْإِنْكَار إِلَيْهِ.
وَالتَّعْمِيرُ: تَطْوِيلُ الْعُمُرِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٦]، وَقَوْلِهِ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١١].
وَمَا ظَرْفِيَّةٌ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ زَمَانَ تَعْمِيرِ مُعَمَّرٍ.
وَجُمْلَةُ يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ صِفَةٌ لِ مَا، أَيْ زَمَانًا كَافِيًا بِامْتِدَادِهِ لِلتَّذَكُّرِ وَالتَّبْصِيرِ.
والنَّذِيرُ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَجُمْلَةُ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ «أَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ» لِأَنَّ مَعْنَاهَا الْخَبَرُ
319
فَعُطِفَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ جَائِزٌ عَلَى التَّحْقِيقِ وَهُوَ هُنَا حَسَنٌ.
وَوَصْفُ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ الْأَهَمَّ مِنْ شَأْنِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ هُوَ النِّذَارَةُ.
وَالْفَاءُ فِي فَذُوقُوا لِلتَّفْرِيعِ. وَحَذْفُ مَفْعُولِ «ذُوقُوا» لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ ذُوقُوا الْعَذَابَ.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ فَذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الدَّوَامِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْخَلَاصِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُهُ: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْحِكَايَةِ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ تَذْيِيلُ لَهُ وَتَفْرِيعٌ عَلَيْهِ لِتَأْيِيسِهِمْ مِنَ الْخَلَاصِ يَعْنِي: فَأَيْنَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُكُمْ وَنُصَرَاؤُكُمْ فَمَا لَكُمْ مَنْ نَصِيرٍ.
وَعُدِلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ أَنْ يُقَالَ: فَمَا لَكُمَ مِنْ نَصِيرٍ، إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ بِوَصْفِ «الظَّالِمِينَ» لِإِفَادَةِ سَبَبِ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ، أَيْ لِأَنَّكُمْ ظَالِمُونَ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مَنْ نَصِيرٍ، فَالْمَقْصُودُ ابْتِدَاءُ نَفْيِ النَّصِيرِ عَنْهُمْ وَيَتْبَعُهُ التَّعْمِيمُ بِنَفْيِ النَّصِيرِ عَنْ كُلِّ مَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مُفَرَّعًا عَلَى الْقِصَّةِ ذُيِّلَتْ بِهِ لِلسَّامِعِينَ مِنْ قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ [فاطر: ٣٦]، فَلَيْسَ فِيهِ عُدُولٌ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِفَادَةُ شُمُولِ هَذَا الْحُكْمِ لِكُلِّ ظَالِمٍ فَيَدْخُلُ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فِي الْعُمُومِ.
وَالظُّلْمُ: هُوَ الِاعْتِدَاءُ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ حَقٍّ، وَأَعْظَمُهُ الشِّرْكُ لِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى اللَّهِ بإنكار صفته النفيسة وَهِي الْوَحْدَانِيَّةُ، وَاعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِ على نَفسه إِذْ أَقْحَمَهَا فِي الْعَذَابِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣].
وَتَعْمِيمُ «الظَّالِمِينَ» وَتَعْمِيمُ «النَّصِيرِ» يَقْتَضِي أَنَّ نَصْرَ الظَّالِمِ تَجَاوُزٌ لِلْحَقِّ، لِأَنَّ الْحَقَّ أَنْ لَا يَكُونَ لِلظَّالِمِ نَصِيرٌ، إِذْ وَاجِبُ الْحِكْمَةِ وَالْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقْتَدِرُ عَلَى يَدِ كُلِّ ظَالِمٍ لِأَنَّ الْأُمَّةَ مُكَلَّفَةٌ بِدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ جَمَاعَتِهَا.
320
وَفِي هَذَا إِبْطَالٌ لِخُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ الْقَائِلِينَ فِي أَمْثَالِهِمُ «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ
مَظْلُومًا»
. وَقَدْ أَلْقَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ إِبْطَالُ ذَلِكَ فَسَاقَ لَهُمْ هَذَا الْمَثَلَ حَتَّى سَأَلُوا عَنْهُ ثُمَّ أَصْلَحَ مَعْنَاهُ مَعَ بَقَاءِ لَفْظِهِ فَقَالَ: «إِذَا كَانَ ظَالِمًا تَنْصُرُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَتَكُفُّهُ عَن ظلمه».
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
اسْتِئْنَافٌ وَاصِلٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: ٣١] وَبَيْنَ جُمْلَةِ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: ٤٠] الْآيَةَ، فَتَسَلْسَلَتْ مَعَانِيهِ فَعَادَ إِلَى فَذْلَكَةِ الْغَرَضِ السَّالِفِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: ٢٥- ٣١]، فَكَانَتْ جُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
كَالتَّذْيِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ.
وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ يُجَازِي كُلَّ ذِي نِيَّةٍ عَلَى حَسَبِ مَا أَضْمَرَهُ لِيَزْدَادَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِينًا بِأَن الله غير عَالِمٌ بِمَا يُكِنُّهُ الْمُشْرِكُونَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
مُسْتَأْنَفَةٌ هِيَ كَالنَّتِيجَةِ لِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
لِأَنَّ مَا فِي الصُّدُورِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُغَيَّبَةِ فَيَلْزَمُ مِنْ عِلْمِ الله بِغَيْب السَّمَوَات وَالْأَرْضِ عِلْمُهُ بِمَا فِي صُدُورِ النَّاسِ.
وَ «ذَاتِ الصُّدُورِ» ضَمَائِرِ النَّاسِ وَنِيَّاتِهِمْ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٤٣].
وَجِيءَ فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِ اللَّهِ بِالْغَيْبِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ، وَفِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إِخْبَارِ الْمُخَاطَبِينَ تَنْبِيِهُهُمْ عَلَى أَنَّهُ
321
كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ أَنْ يَفُوتَ عِلْمَهُ تَعَالَى شَيْءٌ. وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فَهِيَ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
الْآيَةَ وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ.
وَالْخَلَائِفُ: جَمْعُ خَلِيفَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي أَمْرٍ كَانَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٠]، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أُمَمٍ مَضَتْ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٤] فَيَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أَيْ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَكَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا غَابَ فِي قُلُوبِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الْملك: ١٤] وَيكون مَا صدف ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ مُتَصَرِّفِينَ فِي الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الْأَعْرَاف: ١٢٩]، فَيَكُونَ الْكَلَامُ بِشَارَةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ سُلْطَانٍ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أُمَمٍ تَدَاوَلَتْ سِيَادَةَ الْعَالَمِ وَيَظْهَرُ بِذَلِكَ دِينُ الْإِسْلَامِ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُفِيدَةٌ تُقَوِّي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ اللَّهِ الْمُخَاطَبِينَ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ.
وَقَدْ تَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ
قَوْلُهُ: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَهُوَ شَرْطٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِأَمْرِ دَوَامِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَكَانَ مُقْتَضَى ظَاهِرِ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ لَا تُعْطَفَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يُعْطَفُ عَلَى الْمُبَيَّنِ، وَإِنَّمَا خُولِفَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْبَيَانِ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا بِالْقَصْدِ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهِ فَعُطِفَتْ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُبَيَّنَةِ بِمَضْمُونِهَا تَنْبِيهًا عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْلَالِ، وَهَذَا مَقْصِدٌ يَفُوتُ لَوْ تُرِكَ الْعَطْفُ، أَمَّا مَا تُفِيدُهُ مِنَ الْبَيَانِ فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَفُوتُ لِأَنَّهُ تَقْتَضِيهِ نِسْبَةُ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَعْنَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى.
322
وَالْمَقْتُ: الْبُغْضُ مَعَ خِزْيٍ وَصَغَارٍ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٢٢]، أَيْ يَزِيدُهُمْ مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَمَقْتُ اللَّهِ مَجَازٌ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ إِمْسَاكُ لُطْفِهِ عَنْهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ بِأَشَدِّ الْعِقَابِ.
وَتَرْكِيبُ جُمْلَةِ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً تَرْكِيبٌ عَجِيبٌ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا قَبْلَ الْكُفْرِ مَمْقُوتِينَ عِنْدَ اللَّهِ فَلَمَّا كَفَرُوا زَادَهُمْ كُفْرُهُمْ مَقْتًا عِنْدَهُ، فِي حَالِ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ مَقْتِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَكْفُرُوا لَمَا مَقَتَهُمُ اللَّهُ. فَتَأْوِيلُ
الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَمَّا وُصِفُوا بِالْكُفْرِ ابْتِدَاءً ثُمَّ أَخْبَرَ بِأَنَّ كُفْرَهُمْ يَزِيدُهُمْ مَقْتًا عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُفْرِهِمُ الثَّانِي الدَّوَامُ عَلَى الْكُفْرِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيُشَاقُّونَهُمْ وَيُؤَيِّسُونَهُمْ مِنَ الطَّمَاعِيَّةِ فِي أَنْ يَقْبَلُوا الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُمْ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتَّبِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ دِينَ آبَائِهِمْ، وَيَحْسَبُونَ ذَلِكَ مَقْتًا مِنْهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَجَازَاهُمُ اللَّهُ بِزِيَادَةِ الْمَقْتِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْكُفْرِ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ [غَافِر: ١٠]، يَعْنِي: يُنَادَوْنَ فِي الْمَحْشَرِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً.
وَالْخَسَارُ: مَصْدَرُ خَسِرَ مِثْلُ الْخَسَارَةِ، وَهُوَ: نُقْصَانُ التِّجَارَةِ. وَاسْتُعِيرَ لِخَيْبَةِ الْعَمَلِ شَبَّهَ عَمَلَهُمْ فِي الْكُفْرِ بِعَمَلِ التَّاجِرِ وَالْخَاسِرِ، أَيِ الَّذِي بَارَتْ سِلْعَتُهُ فَبَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَصَابَهُ الْخَسَارُ فَكُلَّمَا زَادَ بَيْعًا زَادَتْ خَسَارَتُهُ حَتَّى تُفْضِيَ بِهِ إِلَى الْإِفْلَاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَة الْبَقَرَة.
[٤٠]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
لَمْ يَزَلِ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا لِخِطَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَعَنُّتِهِمْ وَحُسْبَانِ أَنَّهُمْ مَقَتُوا الْمُسْلِمِينَ عَادَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ فِي بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ آلِهَتِهِمْ بِحُجَّةِ أَنَّهَا لَا يُوجَدُ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ يَدَّعِي
323
أَنَّهَا خَلَقَتْهُ، وَلَا فِي السَّمَاوَاتِ شَيْءٌ لَهَا فِيهِ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحَاجَّهُمْ وَيُوَجِّهَ الْخِطَابَ إِلَيْهِمْ بِانْتِفَاءِ صِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ أَصْنَامِهِمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَفَى اسْتِحْقَاقَهَا لِعِبَادَتِهِمْ بِأَنَّهَا لَا تَرْزُقُهُمْ كَمَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَبَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اللَّهُ التَّصَرُّفَ فِي مَظَاهِرِ الْأَحْدَاثِ الْجَوِّيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا مِنْ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر: ٩]، وَذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمْ وَخَلْقِ أَصْلِهِمْ وَقَالَ عَقِبَ ذَلِكَ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ [فاطر: ١٣] الْآيَةَ عَادَ إِلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ.
وَبُنِيَتِ الْحُجَّةُ عَلَى مُقَدِّمَةِ مُشَاهَدَةِ انْتِفَاءِ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ عَنِ الْأَصْنَامِ، وَهِيَ خُصُوصِيَّةِ خَلْقِ الْمَوْجُودَاتِ وَانْتِفَاءِ الْحُجَّةِ النَّقْلِيَّةِ بِطَرِيقَةِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ يَعْنِي: إِنْ كُنْتُمْ رَأَيْتُمُوهُمْ فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَّا الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُقُوا شَيْئًا.
وَالْمُسْتَفْهَمُ عَنْ رُؤْيَتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُوَ أَحْوَالُ الْمَرْئِيِّ وَإِنَاطَةُ الْبَصَرِ بِهَا، أَيْ أَنَّ أَمْرَ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ وَاضِحٌ بَادٍ لِكُلِّ مَنْ يَرَاهُ كَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: ١، ٢] وَقَوْلِهِ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الْإِسْرَاء: ٦٢] إِلْخَ.. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَوْطِئَةً لِكَلَامٍ يَأْتِي بَعْدَهُ يَكُونُ هُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوِ الْإِيضَاحِ لَهُ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ بِمَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ كَلَامٍ بَعْدَهُ، فَفِي قَوْلِهِ هُنَا: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ تَمْهِيدٌ لِأَنْ يَطْلُبَ مِنْهُمُ الْإِخْبَارَ عَنْ شَيْءٍ خَلَقَهُ شُرَكَاؤُهُمْ فَصَارَ الْمُرَادُ مِنْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ انْظُرُوا مَا تُخْبِرُونَنِي بِهِ مِنْ أَحْوَالِ خَلْقِهِمْ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ، فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ: أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ إِجْمَالٌ فَصَّلَهُ قَوْلُهُ:
أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ أَوْ بَدَلَ مُفَصَّلٍ مِنْ مُجْمَلٍ.
وَالْمُرَادُ بِالشُّرَكَاءِ مَنْ زَعَمُوهُمْ شُرَكَاءَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ فَلِذَلِكَ أُضِيفَ الشُّرَكَاءُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، أَيِ الشُّرَكَاءِ عِنْدَكُمْ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْأَصْنَامَ شُرَكَاءُ مَعَ الْمُخَاطَبِينَ بِشَيْءٍ فَتَمَحَّضَتِ الْإِضَافَةُ لِمَعْنَى مُدَّعِيكُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ.
وَالْمَوْصُولُ وَالصِّلَةُ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ فِي تِلْكَ الدَّعْوَةِ كَقَوْلِ عَبْدَةَ بْنِ الطَّبِيبِ:
324
إِنَّ الَّذِينَ تَرَوْنَهُمْ إِخْوَانَكُمْ يَشْفِي غَلِيلَ صُدُورِهِمُ أَنْ تُصْرَعُوا
وَقَرِينَةُ التَّخْطِئَةِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ لِلتَّعْجِيزِ إِذْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرَوْهُ شَيْئًا خَلَقَتْهُ الْأَصْنَامُ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ التَّعْجِيزِيُّ فِي قُوَّةِ نَفْيِ أَنْ خَلَقُوا شَيْئًا مَا، كَمَا كَانَ الْخَبَرُ فِي بَيْتِ عَبْدَةَ الْوَارِدِ بَعْدَ الصِّلَةِ قَرِينَةً عَلَى كَوْنِ الصِّلَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى خَطَأِ الْمُخَاطَبِينَ.
وَفِعْلُ الرُّؤْيَةِ قَلْبِيٌّ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْإِنْبَاءِ، أَيْ أَنْبِئُونِي شَيْئًا مَخْلُوقًا لِلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ.
وماذا كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (مَا) الِاسْتِفْهَامِيَّةِ وَ (ذَا) الَّتِي بِمَعْنَى الَّذِي حِينَ تَقَعُ بَعْدَ اسْمِ اسْتِفْهَامٍ، وَفِعْلُ الْإِرَاءَةِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْمَفْعُولِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ بِالِاسْتِفْهَامِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَرُونِي شَيْئًا خَلَقُوهُ مِمَّا على الْأَرْضِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ شَيْئًا نَاشِئًا مِنَ الْأَرْضِ، أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ مَا عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِ الْقَرْيَةِ عَلَى سُكَّانِهَا فِي قَوْله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُف: ٨٢].
وأَمْ مُنْقَطِعَةٌ لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ، وَهِيَ تُؤْذِنُ بِاسْتِفْهَامٍ بَعْدَهَا. وَالْمَعْنَى: بَلْ أَلَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ.
وَالشِّرْكُ بِكَسْرِ الشِّينِ: اسْمٌ لِلنَّصِيبِ الْمُشْتَرَكِ بِهِ فِي مِلْكِ شَيْءٍ.
وَالْمَعْنَى: أَلَهُمْ شِرْكٌ مَعَ اللَّهِ فِي ملك السَّمَوَات وتصريف أحوالها كَسَيْرِ الْكَوَاكِبِ وَتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَسْخِيرِ الرِّيَاحِ وَإِنْزَالِ الْمَطَرِ.
وَلَمَّا كَانَ مَقَرُّ الْأَصْنَامِ فِي الْأَرْضِ كَانَ مِنَ الرَّاجِح أَن تتخيّل لَهُمُ الْأَوْهَامُ تَصَرُّفًا كَامِلًا فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُمْ آلِهَةٌ أَرْضِيَّةٌ، وَقَدْ كَانَتْ مَزَاعِمُ الْعَرَبِ وَاعْتِقَادَاتُهُمْ أَفَانِينَ شَتَّى مُخْتَلِطَةً مِنِ اعْتِقَادِ الصَّابِئَةِ وَمِنِ اعْتِقَادِ الْفُرْسِ وَاعْتِقَادِ الرُّومِ فَكَانُوا أَشْبَاهًا لَهُمْ فَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَشْبَاهِهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ فَكَانَ تَصَرُّفُهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَرُّفَ الْخَالِقِيَةِ، فَأَمَّا السَّمَاوَاتُ فَقَلَّمَا يَخْطُرُ بِبَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ لِلْأَصْنَامِ تَصرفا فِي شؤونها، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا ذَلِكَ وَلَكِنْ جَاءَ قَوْلُهُ: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ مَجِيءَ تَكْمِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْضِ وَالِاحْتِمَالِ، كَمَا يُقَالُ فِي آدَابِ الْبَحْثِ «فَإِنْ قُلْتَ». وَقَدْ كَانُوا يَنْسِبُونَ لِلْأَصْنَامِ بُنُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى:
325
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: ١٩- ٢٣].
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جِيءَ فِي جَانِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْتِفَاءِ تَأْثِيرِ الْأَصْنَامِ فِي الْعَوَالِمِ السَّمَاوِيَّةِ بِإِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ لَهَا شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ لِأَنَّهُمْ لَا يَدَّعُونَ لَهَا فِي مَزَاعِمِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَمَّا قَضَى حَقُّ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ انْتَقَلَ إِلَى انْتِفَاءِ الْحُجَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُثْبِتَةِ آلِهَةً دُونَهُ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِشُرَكَائِهِ وَأَنْدَادِهِ لَوْ كَانُوا، فَقَالَ تَعَالَى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ على بَيِّنَات مِنْهُ الْمَعْنَى: بَلْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حُجَّةٍ فِيهِ تُصَرِّحُ بِإِلَهِيَّةِ هَذِهِ الْآلِهَةِ الْمَزْعُومَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى بَيِّنَاتٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ عَلى بَيِّنَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجَمْعِ فَوَجْهُهَا أَنَّ شَأْنَ الْكِتَابِ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى أَحْكَامٍ عَدِيدَةٍ وَمَوَاعِظَ مُكَرَّرَةٍ لِيَتَقَرَّرَ الْمُرَادُ مِنْ إِيتَاءِ الْكُتُبِ مِنَ الدَّلَالَةِ الْقَاطِعَةِ بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا وَلَا مُبَالَغَةً وَلَا نَحْوَهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي دَلَالَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْإِفْرَادِ فَالْمُرَادُ مِنْهَا جِنْسُ الْبَيِّنَةِ الصَّادِقُ بِأَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ.
وَوَصْفُ الْبَيِّنَاتِ أَوِ الْبَيِّنَةِ ب مِنْهُ للدلالة عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُ الْكِتَابِ الْمَفْرُوض إيتاؤه إيَّاهُم مُشْتَمِلًا عَلَى حُجَّةٍ لَهُمْ تُثْبِتُ إِلَهِيَّةَ الْأَصْنَامِ. وَلَيْسَ مُطْلَقُ كِتَابٍ يُؤْتُونَهُ أَمَارَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ رَاضٍ مِنْهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ كَدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَتِ الْخَوَارِقُ نَاطِقَةً بِأَنَّهُ صَادِق فَأُرِيد: أآتيناهم كِتَابًا نَاطِقًا مِثْلَ مَا آتَيْنَا الْمُسْلِمِينَ الْقُرْآنَ.
ثُمَّ كَرَّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِبْطَالَ بِوَاسِطَةِ بَلْ، بِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُنْتَفٍ وَأَنَّهُمْ لَا بَاعِثَ لَهُمْ عَلَى مَزَاعِمِهِمُ الْبَاطِلَةِ إِلَّا وَعْدُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا مَوَاعِيدَ كَاذِبَةً يَغُرُّ بَعْضُهُمْ بِهَا بَعْضًا.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ يَعِدُونَهُمْ رُؤَسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَقَادَتُهُمْ بالموعودين عَامَّتُهُمْ وَدُهْمَاؤُهُمْ،
326
أَوْ أُرِيدَ أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَاعِدٌ وَمَوْعُودٌ فِي الرُّؤَسَاءِ وَأَيِمَّةِ الْكُفْرِ يَعِدُونَ الْعَامَّةَ نَفْعَ الْأَصْنَامِ وَشَفَاعَتِهَا وَتَقْرِيبِهَا إِلَى اللَّهِ وَنَصْرِهَا غُرُورًا بِالْعَامَّةِ وَالْعَامَةُ تَعِدُ رُؤَسَاءَهَا التَّصْمِيمَ عَلَى الشِّرْكِ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الْفرْقَان: ٤٢].
وإِنْ نَافِيَةٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّعٌ عَنْ جِنْسِ الْوَعْدِ مَحْذُوفًا.
وَانْتَصَبَ غُرُوراً عَلَى أَنه صفة للمستثنى الْمَحْذُوفِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَعْدًا إِلَّا وَعْدًا غُرُورًا.
وَالْغُرُورُ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ فِي آل عمرَان [١٩٦].
[٤١]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
انْتِقَالٌ مِنْ نَفْيِ أَنْ يَكُونَ لِشُرَكَائِهِمْ خَلْقٌ أَوْ شَرِكَةُ تَصَرُّفٍ فِي الْكَائِنَاتِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَيُّومُ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِتَبْقَيَا مَوْجُودَتَيْنِ فَهُوَ الْحَافِظُ بقدرته نظام بقائهما. وَهَذَا الْإِمْسَاكُ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ بِنِظَامِ الْجَاذِبِيَّةِ بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ خَلَلٌ.
وَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ الْحِفْظِ بِالْإِمْسَاكِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ.
وَحَقِيقَةُ الْإِمْسَاكِ: الْقَبْضُ بِالْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَلِتُ وَلَا يَتَفَرَّقُ، فَمُثِّلَ حَالُ حِفْظِ نِظَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ الَّذِي يُمْسِكُهُ الْمُمْسِكُ بِيَدِهِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْإِمْسَاكِ مَعْنَى الْمَنْعِ عُدِيَّ إِلَى الزَّوَالِ بِ مِنْ، وَحُذِفَتْ كَمَا هُوَ شَأْنُ حُرُوفِ الْجَرِّ مَعَ إِنَّ وإِنَّ فِي الْغَالِبِ، وَأُكِّدَ هَذَا الْخَبَرُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَأَنَّهُ لَا تَسَامُحَ فِيهِ وَلَا مُبَالَغَةَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ [٦٥]. ثُمَّ أُشِيرَ إِلَى أَنَّ شَأْنَ الْمُمْكِنَاتِ الْمَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ وَالتَّحَوُّلِ وَلَوْ بَعْدَ أَدْهَارٍ فَعُطِفَ عَلَيْهِ
327
قَوْلُهُ:
وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَالزَّوَالُ الْمَفْرُوضُ أَيْضًا مُرَادٌ بِهِ اخْتِلَالُ نِظَامِهِمَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى تطاحنهما.
والزوال يُطْلَقُ عَلَى الْعَدَمِ، وَيُطْلَقُ عَلَى التَّحَوُّلِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَمِنْهُ زَوَالُ الشَّمْسِ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَتَقَدَّمَ آخِرَ سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدِ اخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْنَاهُ الْمُشْتَرك فَإِن اللَّهَ يُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يُعْدَمَا، وَيُمْسِكُهُمَا مِنْ أَنْ يَتَحَوَّلَ نِظَامُ حَرَكَتِهِمَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ [يس: ٤٠]. فَاللَّهُ مُرِيدٌ اسْتِمْرَارَ انْتِظَامِ حَرَكَةِ الْكَوَاكِبِ وَالْأَرْضِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ الْمُشَاهَدِ الْمُسَمَّى بِالنِّظَامِ الشَّمْسِيِّ وَكَذَلِكَ نِظَامُ الْكَوَاكِبِ الْأُخْرَى الْخَارِجَةِ عَنْهُ إِلَى فَلَكِ الثَّوَابِتِ، أَيْ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ انْقِرَاضَ تِلْكَ الْعَوَالِمِ أَوْ بَعْضِهِا قَيَّضَ فِيهَا طَوَارِئَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ وَالْخَرْقِ بَعْدَ الِالْتِئَامِ وَالْفَتْقِ بَعْدَ الرَّتْقِ، فَتَفَكَّكَتْ وَانْتَشَرَتْ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُ مَصِيرَهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ مُدَافَعَةَ ذَلِكَ وَلَا إِرْجَاعَهَا إِلَى نِظَامِهَا السَّابِقِ فَرُبَّمَا اضْمَحَلَّتْ أَوِ اضْمَحَلَّ بَعْضُهَا، وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَسَالِكَ جَدِيدَةً مِنَ الْبَقَاءِ.
وَفِي هَذَا إِيقَاظٌ لِلْبَصَائِرِ لِتَعْلَمَ ذَلِكَ عِلْمًا إِجْمَالِيًّا وتتدبر فِي انتساق هَذَا النِّظَامِ الْبَدِيعِ.
فَالْلَّامُ مُوطِئَةٌ لِلْقَسَمِ. وَالشَّرْطُ وَجَوَابُهُ مُقْسَمٌ عَلَيْهِ، أَيْ مُحَقَّقٌ تَعْلِيقُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَوُقُوعُهُ عِنْدَهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ هُوَ الْجُمْلَةُ الْمَنْفِيَّةُ بِ إِنَّ النَّافِيَةِ وَهِيَ أَيْضًا سَادَّةٌ مَسَدَّ جَوَابِ الْقَسَمِ.
وَإِذْ قَدْ تَحَقَّقَ بِالْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ اللَّهَ مُمْسِكُهُمَا عَنِ الزَّوَالِ عُلِمَ أَنَّ زَوَالَهُمَا الْمَفْرُوضَ
لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى زَوَالَهُمَا وَإِلَّا لَبَطَلَ أَنَّهُ مُمْسِكُهُمَا مِنَ الزَّوَالِ.
وَأَسْنَدَ فِعْلَ زالَتا إِلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضَ عَلَى تَأْوِيلِ السَّمَاوَاتِ بِسَمَاءٍ وَاحِدَةٍ. وَأَسْنَدَ الزَّوَالَ إِلَيْهِمَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُزِيلُهُمَا لِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا.
وَجِيءَ فِي نَفْيِ إِمْسَاكِ أَحَدٍ بِحَرْفِ مِنْ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ تَنْصِيصًا عَلَى عُمُومِ
328
النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِمْسَاكَهُمَا وَإِرْجَاعَهُمَا.
وَ «من بعد» صفة أَحَدٍ ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَي أحد ناشىء أَوْ كَائِنٍ مِنْ زَمَانٍ بَعْدَهُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ (بَعْدِ) تَأَخُّرُ زَمَانِ أَحَدٍ عَنْ زَمَنِ غَيْرِهِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (بَعْدَ) وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْمُغَايَرَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ بَعْدِيَّةَ الزَّمَانِ الْمُضَافِ تَقْتَضِي مُغَايِرَةَ صَاحِبِ تِلْكَ الْبَعْدِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: ٢٣]، أَيْ غَيْرِ اللَّهِ فَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ (بَعْدَ) عَائِدٌ إِلَى الله تَعَالَى.
وَهَذَا نَظِيرُ اسْتِعْمَالِ (وَرَاءَ) بِمَعْنَى (دُونَ) أَوْ بِمَعْنَى (غَيْرَ) أَيْضًا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ وَفِي ذِكْرِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَنِ الزَّوَالِ بَعْدَ الْإِطْنَابِ فِي مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَتَفْظِيعِ غُرُورِهِمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْفَظَاعَةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزَلْزِلَ الْأَرَضِينَ وَيُسْقِطَ السَّمَاءَ كِسَفًا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بَقَاءَهُمَا لِحِكْمَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا يكَاد السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مَرْيَم: ٨٩، ٩٠]. وَهَذِهِ دَلَالَةٌ مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرَاكِيبِ بِاعْتِبَارِ مُثَارِ مَقَامَاتِ التَّكَلُّمِ بِهَا، وَهُوَ أَيْضًا تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ.
وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ بِالتَّذْيِيلِ بِوَصْفِ اللَّهِ تَعَالَى بالحلم وَالْمَغْفِرَة لما يَشْمَلُهُ صِفَةُ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا يُزْعِجَهُمْ بِفَجَائِعَ عَظِيمَةٍ، وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ بِتَأْخِيرِ مُؤَاخَذَتِهِمْ فَإِنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ أَثَرِ الْحِلْمِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ صِفَةُ الْغَفُورِ مِنْ أَنَّ فِي الْإِمْهَالِ إِعْذَارًا لِلظَّالِمِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ» لَمَّا رَأَى مَلَكَ الْجِبَالِ فَقَالَ لَهُ: «إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ»
. وَفِعْلُ كانَ الْمُخْبَرُ بِهِ عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ مُفِيدٌ لِتَقَرُّرِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَتَيْنِ الْحُسْنَيَيْنِ
329

[٤٢، ٤٣]

[سُورَة فاطر (٣٥) : الْآيَات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [٤٢] اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
هَذَا شَيْءٌ حَكَاهُ الْقُرْآنُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ حِكَايَةُ قَوْلٍ صَدَرَ عَنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَمْ يُرْوَ خَبَرٌ عَنِ السَّلَفِ يُعَيِّنُ صُدُورَ مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ، وَلَا قَائِلَهَا سِوَى كَلَامٍ أُثِرَ عَنِ الضَّحَّاكِ هُوَ أَشْبَهُ بِتَفْسِيرِ الضَّمِيرِ مِنْ أَقْسَمُوا، وَتَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ سَبَبُ نُزُولٍ.
وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُمْ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَالَّذِي يَلُوحُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ صَدَرَتْ عَنْهُمْ فِي مَجَارِي الْمُحَاوَرَةِ أَوِ الْمُفَاخَرَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِمْ بِمَكَّةَ، أَوْ يَقْدَمُونَ هُمْ عَلَيْهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ إِلَى يَثْرِبَ أَوْ إِلَى بِلَادِ الشَّامِ، فَرُبَّمَا كَانَ أَهْلُ تِلْكَ الْبُلْدَانِ يَدْعُونَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ أَوِ النَّصْرَانِيَّةِ وَيُصَغِّرُونَ الشِّرْكَ فِي نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ الْمُشْركُونَ لَا يجرأون عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَرْمُوقِينَ عِنْدَهُمْ بِعَيْنِ الْوَقَارِ إِذْ كَانُوا يُفَضِّلُونَهُمْ بِمَعْرِفَةِ الدِّيَانَةِ وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أُمِّيِّينَ وَهُمْ يَأْبَوْنَ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَ الشِّرْكِ فَكَانُوا يَعْتَذِرُونَ بِأَنَّ رَسُولَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِهِمْ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الْعَرَبِ وَلَوْ جَاءَنَا رَسُولٌ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الْأَنْعَام: ١٥٧]. وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الدَّاعُونَ لَهُمْ هُمُ النَّصَارَى لِأَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ شِعَارِ أَصْحَابِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ عِيسَى أَوْصَاهُمْ أَنْ يُرْشِدُوا بَنِي الْإِنْسَانِ إِلَى الْحَقِّ وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ إِلَى النَّصْرَانِيَّة فَأشبه فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَنَصَّرَتْ قَبَائِلُ كَثِيرَةٌ مِثْلُ تَغْلِبَ، وَلَخْمٍ، وَكَلْبٍ، وَنَجْرَانَ، فَكَانَتْ هَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنْ صَحَّ إِيصَاءُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَا دَعْوَةَ إِرْشَادٍ إِلَى التَّوْحِيدِ لَا دَعْوَةَ تَشْرِيعٍ، فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ فَمَا أَرَاهَا إِلَّا تَوْطِئَةً لِدِينٍ يَجِيءُ تَعُمُّ دَعْوَتُهُ سَائِرَ الْبَشَرِ، فَكَانَتْ وَصِيتُهُ وَسَطًا بَيْنَ أَحْوَالِ الرُّسُلِ الْمَاضِينَ إِذْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ خَاصَّةً وَبَيْنَ حَالَةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الْعَامَّةِ لِكَافَّةِ النَّاسِ عَزْمًا.
330
أَمَّا الْيَهُودُ فَلَمْ يَكُونُوا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يَقْبَلُونَ مَنْ يَتَهَوَّدُ كَمَا تَهَوَّدَ عَرَبُ الْيَمَنِ.
وَأَحْسَبُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى نَبْذِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، أَوْ تَشْهِيرِ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ، لَا يَخْلُو عَنْهَا عُلَمَاءُ مُوَحِّدُونَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ النُّصَّاحِ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ يَثْرِبَ يَعْرِضُ لِقُرَيْشٍ إِذَا مَرُّوا عَلَى يَثْرِبَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ مِنَ الشِّرْكِ فَيَعْتَذِرُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهِيَ تُسَاوِقُ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام:
١٥٥- ١٥٧].
فَيَتَّضِحُ بِهَذَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ أَخْبَارِ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَأْنِ الرُّبُوبِيَّةِ وَفِي شَأْنِ الرِّسَالَةِ وَالتَّدَيُّنِ، وَأَنَّ مَا حُكِيَ فِيهَا هُوَ مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ وَمُجَازَفَتِهِمْ.
وَالْقَسَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَكْثَرُهُ بِاللَّهِ، وَقَدْ يُقْسِمُونَ بِالْأَصْنَامِ وَبِآبَائِهِمْ وَعَمْرِهِمْ.
وَالْغَالِبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاللات وَالْعُزَّى، وَلِذَلِكَ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ حَلَفَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»
، أَيْ مَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ ذَلِكَ جَرْيَ الْكَلَامِ الْغَالِبِ وَذَلِكَ فِي صَدْرِ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ.
وَجَهْدُ الْيَمِينِ: أَبْلَغُهَا وَأَقْوَاهَا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْجَهْدِ وَهُوَ التَّعَبُ، يُقَالُ: بَلَغَ كَذَا مِنِّي الْجَهْدُ، أَيْ عَمِلْتُهُ حَتَّى بَلَغَ عَمَلُهُ مِنِّي تَعَبِي، كِنَايَةً عَنْ شِدَّةِ عَزْمِهِ فِي الْعَمَلِ. فَجَهْدُ الْأَيْمَانِ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ تَأْكِيدِهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٥٣]، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ النَّحْلِ وَسُورَةِ النُّورِ.
وَانْتَصَبَ جَهْدَ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلنَّوْعِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَا كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مُطْلَقًا وَهُوَ أَيْمانِهِمْ إِذْ هُوَ جمع يَمِينٍ وَهُوَ الْحَلِفُ
331
فَهُوَ مُرَادِفٌ لِ أَقْسَمُوا، فَتَقْدِيرُهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ قَسَمًا جَهْدًا، وَهُوَ صِفَةٌ بِالْمَصْدَرِ أُضِيفَتْ إِلَى مَوْصُوفِهَا.
وَجُمْلَةُ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إِلَخْ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ أَقْسَمُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ الْآيَة [طه: ١٢٠].
وَعَبَّرَ عَنِ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ إِيَّاهُمْ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى تَخْوِيفٍ وَإِنْذَارٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى وَصْفِ النَّذِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [الْمَائِدَة: ١٩]. وَهَذَا يُرَجِّحُ أَنْ تَكُونَ الْمُجَادَلَةُ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ النَّصَارَى لِأَنَّ الْإِنْجِيلَ مُعْظَمُهُ نِذَارَةٌ.
وإِحْدَى الْأُمَمِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ ذَاتِ الدِّينِ فَإِنْ عَنَوْا بِهَا أُمَّةً مَعْرُوفَةً: إِمَّا الْأُمَّةَ النَّصْرَانِيَّةَ، وَإِمَّا الْأُمَّةَ الْيَهُودِيَّةَ، أَوِ الصَّابِئَةَ كَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِ إِحْدَى الْأُمَمِ إِبْهَامًا لَهَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْمُقْسِمِينَ تَجَنُّبًا لِمُجَابَهَةِ تِلْكَ الْأُمَّةِ بِصَرِيحِ التَّفْضِيلِ عَلَيْهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِبْهَامًا مِنْ كَلَامِ الْقُرْآنِ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّرَفُّعِ عَمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ أَشْهَدُوا اللَّهَ عَلَى أَنَّهُمْ إِنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ يَكُونُوا أَسْبَقَ مِنْ غَيْرِهِمُ اهْتِدَاءً فَإِذَا هُمْ لَمْ يَشُمُّوا رَائِحَةَ الِاهْتِدَاءِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَظَرُوا فِي قَسَمِهِمْ بِهَدْيِ الْيَهُودِ، وَفَرِيقٌ نَظَرُوا بِهَدْيِ النَّصَارَى، وَفَرِيقٌ بِهَدْيِ الصَّابِئَةِ، فَجَمَعَتْ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ لِيَأْتِيَ عَلَى مَقَالَةِ كُلِّ فَرِيقٍ مَعَ الْإِيجَازِ.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» وَجْهًا آخَرَ أَنْ يَكُونَ إِحْدَى الْأُمَمِ بِمَعْنَى أَفْضَلِ الْأُمَمِ، فَيَكُونَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُقْسِمِينَ، أَيْ أَهْدَى مِنْ أَفْضَلِ الْأُمَمِ، وَلَكِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى التَّنْظِيرِ بِمَا لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْحَاءِ فِي الْإِحَدِ) وَلَا يَتِمُ التَّنْظِيرُ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: إِحْدَى الْإِحَدِ، جَرَى مَجْرَى الْمَثَلِ فِي اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ فِي الشَّرِّ أَوِ الْخَيْرِ. وَقَرِينَةُ إِرَادَةِ الِاسْتِعْظَامِ إِضَافَةُ «إِحْدَى» إِلَى اسْمٍ مِنْ لَفْظِهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعْنًى يُرَادُ فِي حَالَةِ تَجَرُّدِ إِحْدَى عَنِ الْإِضَافَةِ.
وَبَيْنَ: أَهْدى وإِحْدَى الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَغَيْرُهَا وَمَا يُؤْثَرُ مِنْ تَنَصُّرِ بَعْضِ الْعَرَبِ وَمِنِ اتِّسَاعِ بَعْضِهِمْ فِي
332
التَّحَنُّفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ رِسَالَةَ الرُّسُلِ، وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، فَذَلِكَ صَدَرَ مِنْهُمْ فِي الْمُلَاجَّةِ وَالْمُحَاجَّةِ لَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ بِأَنَّ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مِنَ الْبَشَرِ وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ أَحْوَالَ الْبَشَرِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الْفرْقَان: ٢٠] فَلَجَأُوا إِلَى إِنْكَارِ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ إِلَى بَشَرٍ شَيْئًا.
وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْهُمْ هُنَا فَهُوَ شَأْنُهُمْ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالنَّذِيرُ: الْمُنْذِرُ بِكَلَامِهِ. فَالْمَعْنَى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ قَبْلَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ [الْقَصَص: ٤٦] وَهَذَا غَيْرُ الْقَسَمِ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا».
وَالزِّيَادَةُ: أَصْلُهَا نَمَاءٌ وَتَوَفُّرٌ فِي ذَوَاتٍ. وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْقُوَّةُ فِي الصِّفَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥]. وَمِنْ ثَمَّةَ تُطْلَقُ الزِّيَادَةُ أَيْضًا عَلَى طُرُوِّ حَالٍ عَلَى حَالٍ، أَوْ تَغْيِيرِ حَالٍ إِلَى غَيْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: ٣٠].
وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يَطْرَأُ مِنَ الْخَيْرِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَوْعُهُ عِنْدَهُ مِنْ قَبْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يُونُس: ٢٦]، أَيْ وَعَطَاءٌ يَزِيدُ فِي خَيْرِهِمْ.
وَلَّمَا كَانَ مَجِيءُ الرَّسُول يَقْتَضِي تغير أَحْوَالِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ إِلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ كَانَ الظَّنُّ بِهِمْ لَمَّا أَقْسَمُوا قَسَمَهُمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا جَاءَهُمُ النَّذِيرُ اهْتَدَوْا وَازْدَادُوا مِنَ الْخَيْرِ إِنْ كَانُوا عَلَى شَأْنٍ مِنَ الْخَيْرِ فَإِنَّ الْبَشَرَ لَا يَخْلُو مِنْ جَانِبٍ مِنَ الْخَيْرِ قَوِيٌّ أَوْ ضَعِيفٌ فَإِذَا بِهِمْ صَارُوا نَافِرِينَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي جَاءَهُم.
وَالِاسْتِثْنَاء مُفَرع مِنْ مَفْعُولِ زادَهُمْ الْمَحْذُوفِ، أَيْ مَا أَفَادَهُمْ صَلَاحًا وَحَالًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إِلَّا نُفُورًا فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا نُفُوراً مِنْ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا نَافِرِينَ مِنْ قَبْلُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقْسَمُوا: لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى كَانَ
333
حَالُهُمْ حَالَ النفور من قبُول دَعْوَةِ النَّصَارَى إِيَّاهُمْ إِلَى دِينِهِمْ أَوْ مِنَ الِاتِّعَاظِ بِمَوَاعِظِ الْيَهُودِ فِي تَقْبِيحِ الشِّرْكِ فَأَقْسَمُوا ذَلِكَ الْقَسَمَ تَفَصِّيًا مِنَ الْمُجَادَلَةِ، وَبَاعِثُهُمْ عَلَيْهِ النُّفُورُ مِنْ مُفَارَقَةِ الشِّرْكِ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرَّسُولُ مَا زَادَهُمْ شَيْئًا وَإِنَّمَا زَادَهُمْ نُفُورًا، فَالزِّيَادَةُ بِمَعْنَى التَّغْيِيرِ وَالِاسْتِثْنَاءِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدّه. والنفور هم نُفُورُهُمُ السَّابِقُ، فَالْمَعْنَى لَمْ يَزِدْهُمْ شَيْئًا وَحَالُهُمْ هِيَ هِيَ.
وَضَمِيرُ زادَهُمْ عَائِدٌ إِلَى رَسُولٍ أَوْ إِلَى الْمَجِيءِ الْمَأْخُوذِ مِنْ جاءَهُمْ. وَإِسْنَادُ الزِّيَادَةِ إِلَيْهِ عَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّ الرَّسُولَ أَوْ مَجِيئَهُ لَيْسَ هُوَ يَزِيَدُهُمْ وَلَكِنَّهُ سَبَبُ تَقْوِيَةِ نُفُورِهِمْ أَوِ اسْتِمْرَارِ نُفُورِهِمْ.
واسْتِكْباراً بَدَلُ اشْتِمَالِ مِنْ نُفُوراً أَوْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، لِأَنَّ النُّفُورَ فِي مَعْنَى
الْفِعْلِ فَصَحَّ إِعْمَالُهُ فِي الْمَفْعُولِ لَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: نَفَرُوا لِأَجْلِ الِاسْتِكْبَارِ فِي الْأَرْضِ.
وَالِاسْتِكْبَارُ: شِدَّةُ التَّكَبُّرِ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلُ اسْتَجَابَ.
وَالْأَرْضُ: مَوْطِنُ الْقَوْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا [الْأَعْرَاف: ٨٨] أَيْ بَلَدِنَا، فَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَرْضِ لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا فِي قَوْمِهِمْ أَنْ يَتَّبِعُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ.
وَمَكْرَ السَّيِّئِ عُطِفَ عَلَى اسْتِكْباراً بِالْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ، وَإِضَافَةُ مَكْرَ إِلَى السَّيِّئِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مِثْلُ: عِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَأَصْلُهُ: أَنْ يَمْكُرُوا الْمَكْر السيّء بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وَالْمَكْرُ: إِخْفَاءُ الْأَذَى وَهُوَ سيّىء لِأَنَّهُ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْخُلُقِ الْكَرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِالسَّيِّئِ وَصْفٌ كَاشِفٌ، وَلَعَلَّ التَّنْبِيهَ إِلَى أَنَّهُ وَصْفٌ كَاشِفٌ هُوَ مُقْتَضَى إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الْوَصْفِ لِإِظْهَارِ مُلَازَمَةِ الْوَصْفِ لِلْمَوْصُوفِ فَلَمْ يَقُلْ: وَمَكْرًا سَيِّئًا (وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي الْمَكْرِ إِلَّا فِي الْحَرْبِ لِأَنَّهَا مَدْخُولٌ فِيهَا عَلَى مِثْلِهِ) أَيْ مَكْرًا بِالنَّذِيرِ وَأَتْبَاعِهِ وَهُوَ مَكْرٌ ذَمِيمٌ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمُتَسَبِّبِ فِي صَلَاحِهِمْ بِإِضْمَارِ ضُرِّهِ.
334
وَقَدْ تَبَيَّنَ كَذِبُهُمْ فِي قَسَمِهِمْ إِذْ قَالُوا: «لَئِنْ جَاءَنَا نَذِيرٌ لَنَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْهُمْ» وَأَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا بِهِ إِلَّا التَّفَصِّي مِنَ اللَّوْمِ.
وَجُمْلَةُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ تَذْيِيلٌ أَوْ مَوْعِظَةٌ. ويَحِيقُ: ينزل بِهِ شَيْء مَكْرُوهٍ حَاقَ بِهِ، أَيْ نَزَلَ وَأَحَاطَ إِحَاطَةَ سُوءٍ، أَيْ لَا يَقَعُ أَثَرُهُ إِلَّا عَلَى أَهْلِهِ. وَفِيهِ حَذْفٌ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: ضرّ الْمَكْر السيّء أَوْ سوء الْمَكْر السيّء كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ يَحِيقُ فَإِنْ كَانَ التَّعْرِيفُ فِي الْمَكْرُ لِلْجِنْسِ كَانَ الْمُرَادُ بِ «أَهْلِهِ» كُلَّ مَاكِرٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَنْسَبُ بِمَوْقِعِ الْجُمْلَةِ وَمَحْمَلِهَا عَلَى التَّذْيِيلِ لِيَعُمَّ كُلَّ مَكْرٍ وَكُلَّ مَاكِرٍ، فَيَدْخُلَ فِيهِ الْمَاكِرُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونَ الْقَصْرُ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالضُّرِّ الْقَلِيلِ الَّذِي يَحِيقُ بِالْمَمْكُورِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ لِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمَاكِرِ فِي قَدَرِهِ مِنْ مُلَاقَاةِ جَزَائِهِ عَلَى مَكْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ النَّوَامِيسِ الَّتِي قَدَّرَهَا الْقَدَرُ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ الضَّارَّةِ تُؤَوَّلُ إِلَى ارْتِفَاعِ ثِقَةِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَاللَّهُ بَنَى نِظَامَ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى تَعَاوُنِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، فَإِذَا لَمْ يَأْمَنْ أَفْرَادُ الْإِنْسَانِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا تَنَكَّرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَتَبَادَرُوا الْإِضْرَارَ وَالْإِهْلَاكَ لِيَفُوزَ كُلُّ وَاحِدٍ
بِكَيْدِ الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى فَسَادٍ كَبِيرٍ فِي الْعَالِمِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَلَا ضُرَّ عَبِيدِهِ إِلَّا حَيْثُ تَأْذَنُ شَرَائِعُهُ بِشَيْءٍ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي الْمَثَلِ: «وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لِكُلِّ شَيْءٍ آفَةٌ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى الْحَدِيدُ سَطَا عَلَيْهِ الْمِبْرَدُ
وَكَمْ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ نَوَامِيسَ مَغْفُولٍ عَنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥].
وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ بِسَنَدِهِ عَنِ الزُّهْرِيُّ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ «مَنْ حَفْرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا»
، وَمِنْ كَلَامِ عَامَّةِ أَهْلِ تُونِسَ (يَا حَافِرَ حُفْرَةِ السَّوْءِ مَا تَحْفِرُ إِلَّا قِيَاسَكَ».
وَإِذَا كَانَ تَعْرِيفُ الْمَكْرُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ كَانَ الْمَعْنَى: وَلَا يَحِيقُ هَذَا الْمَكْرُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، أَيِ الَّذِينَ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ فَازْدَادُوا نُفُورًا، فَيَكُونُ مَوْقِعُ قَوْلِهِ: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ مَوْقِعَ الْوَعِيدِ بِأَنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكْرَهُمْ وَيَحِيقُ
335
ضُرُّ مَكْرِهِمْ بِهِمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ عَلَى غَفْلَةٍ مِنْهُمْ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ، فَيَكُونُ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمرَان: ٥٤] فَالْقَصْرُ حَقِيقِيُّ.
فَكَمِ انْهَالَتْ مِنْ خِلَالِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ آدَابٍ عُمْرَانِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ قُرْآنِيَّةٍ وَمُعْجِزَاتٍ نَبَوِيَّةٍ خَفِيَّةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ قَدْ جُعِلَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي مِثَالًا لِلْكَلَامِ الْجَارِي عَلَى أُسْلُوبِ الْمُسَاوَاةِ دُونَ إِيجَازٍ وَلَا إِطْنَابٍ. وَأَوَّلُ مَنْ رَأَيْتُهُ مَثَّلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ هُوَ الْخَطِيبُ الْقَزْوِينِيُّ فِي «الْإِيضَاح» وَفِي «تَلْخِيص الْمِفْتَاحِ»، وَهُوَ مِمَّا زَادَهُ عَلَى مَا فِي «الْمِفْتَاحِ» وَلَمْ يُمَثِّلْ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِلْمُسَاوَاةِ بِشَيْءٍ وَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ الْقَزْوِينِيُّ فَإِنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَاهِرِ لَمْ يَذْكُرِ الْإِيجَازَ وَالْإِطْنَابَ فِي كِتَابِهِ.
وَإِذْ قَدْ صَرَّحَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» «أَنَّ الْمُسَاوَاةَ هِيَ مُتَعَارَفُ الْأَوْسَاطِ وَأَنَّهُ لَا يُحْمَدُ فِي بَابِ الْبَلَاغَةِ وَلَا يُذَمُّ» فَقَدْ وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَا تَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ بَلْهَ الْمُعْجِزَ. وَمِنَ الْعَجِيبِ إِقْرَار الْعَلامَة التفتازانيّ كَلَامَ صَاحِبِ «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مِنَ الْمُسَاوَاةِ وَفِيهِ جُمْلَةٌ ذَاتُ قَصْرٍ وَالْقَصْرُ مِنَ الْإِيجَازِ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مُقَامَ جُمْلَتَيْنِ: جُمْلَةُ إِثْبَاتٍ لِلْمَقْصُودِ، وَجُمْلَةُ نَفْيِهِ عَمَّا سِوَاهُ، فَالْمُسَاوَاةُ أَنْ يُقَالَ: يَحِيق الْمَكْر السيّء
بِالْمَاكِرِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَمَا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ فقد سلك طَريقَة الْإِيجَازِ.
وَفِيهِ أَيْضًا حَذْفُ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَلَا يَحِيقُ ضرّ الْمَكْر السيّء إِلَّا بِأَهْلِهِ عَلَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: بِأَهْلِهِ إِيجَازًا لِأَنَّهُ عَوَّضَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: بِالَّذِينِ تَقَلَّدُوهُ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ وَإِنَّمَا مَوَاقِعُهَا فِي مُحَادَثَاتِ النَّاسِ الَّتِي لَا يُعْبَأُ فِيهَا بِمُرَاعَاةِ آدَابِ اللُّغَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَمَكْرَ السَّيِّئِ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ فِي حَالَةِ الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ.
336
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا.
تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً الْآيَةَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي تَعْرِيفِ الْمَكْرُ وَفِي المُرَاد ب بِأَهْلِهِ، أَيْ كَمَا مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَحَاقَ بِهِمْ مَكْرُهُمْ كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ.
ويَنْظُرُونَ هُنَا مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ. كَقَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ:
وَشُعْثٍ يَنْظُرُونَ إِلَى بَلِالٍ كَمَا نَظَرَ الْعِطَاشُ حَيَا الْغَمَامِ
فَقَوْلُهُ: «إِلَى» مُفْرَدٌ مُضَافٌ، وَهُوَ النِّعْمَة وَجمعه آلَاءُ.
وَمَعْنَى الِانْتِظَارِ هُنَا: أَنَّهُمْ يَسْتَقْبِلُونَ مَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ قَبْلَهُمْ، فَشَبَّهَ لُزُومَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالشَّيْءِ الْمَعْلُومِ لَهُمُ الْمُنْتَظَرِ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَالسُّنَّةُ: الْعَادَةُ: وَالْأَوَّلُونَ: هُمُ السَّابِقُونَ مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، بِقَرِينَةِ سِيَاق الْكَلَام. وسُنَّتَ مَفْعُولُ يَنْظُرُونَ وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. تَقْدِيرُهُ: مِثْلَ أَوْ قِيَاسَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ [يُونُس:
١٠٢].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا فَاءٌ فَصِيحَةٌ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا لَمَّا ذَكَّرَ النَّاسَ بِسُنَّةِ اللَّهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ أَفْصَحَ عَنِ اطِّرَادِ سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.
ولَنْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ.
وَالْخِطَابُ فِي تَجِدُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطِبٍ، وَبِذَلِكَ يَتَسَنَّى أَنْ يُسِيرَ هَذَا الْخَبَرُ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ. وَفِي هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّبْدِيلُ: تَغْيِيرُ شَيْءٍ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
337
وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَكَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَوْلِ وَهُوَ الْجَانِبُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْكَرَامَةُ فِي مَوْقِعِ الْعِقَابِ، وَلَا يُتْرَكُ عِقَابُ الْجَانِي. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْحُكَمَاءِ: مَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ وَلَا يَخْتَلِفُ.
[٤٤]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤٤]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ [فاطر: ٤٣] اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّ مُسَاوَاتَهُمْ لِلْأَوَّلِينَ تُنْذِرُ بِأَنْ سَيَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ مِنْ نَوْعِ مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ آثَارِ اسْتِئْصَالِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الِاضْمِحْلَالَ مَعَ أَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ اسْتِئْصَالُ هَؤُلَاءِ أقرب.
وَجِيء بِهَذِهِ الْحَالِ فِي هَذِهِ الْآيَة لما يفِيدهُ مَوْقِعُ الْحَالِ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ تِلْكَ الْقُوَّةِ إِيثَارًا لِلْإِيجَازِ لِاقْتِرَابِ خَتْمِ السُّورَةِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ فِي نَظَائِرِهَا بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَلَكِنْ أُتِيَ فِيهَا بِجُمْلَةِ وَصْفٍ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٢١] : الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ، وَفِي سُورَة الرّوم [٩] الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ حَيْثُ أوثر فيهمَا الْإِطْنَابُ بِتَعْدَادِ بَعْضِ مَظَاهِرِ تِلْكَ الْقُوَّةِ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً.
لَمَّا عَرَضَ وَصْفَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ فِي مَعْرِضِ التَّمْثِيلِ بِالْأَوَّلِينَ تَهْدِيدًا وَاسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي مِثْلِ عَذَابِهِمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالِاحْتِرَاسِ عَنِ الطَّمَاعِيَةِ فِي النَّجَاةِ مِنْ مِثْلِ عَذَابِهِمْ بِعِلَّةِ أَنَّ لَهُمْ مِنَ الْمُنْجِيَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَزَعْمِهِمْ: أَنَّ لَهُمْ آلِهَةً تَمْنَعُهُمْ
مِنْ عَذَابِ اللَّهِ بشفاعتها أَو دفاعها فَقِيلَ: وَما
كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، أَيْ هَبْكُمْ أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلين أَو أشدّ حِيلَةً مِنْهُمْ أَوْ لَكُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ مَا لَيْسَ لَهُمْ، فَمَا أَنْتُمْ بِمُفْلِتِينَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ كَقَوْلِهِ: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت: ٢٢].
وَجِيءَ بِلَامِ الْجُحُودِ مَعَ كانَ الْمَنْفِيَّةِ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ نَفْيِّ كُلِّ شَيْءٍ يَحُولُ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالِاحْتِرَاسِ.
وَمَعْنَى «يُعْجِزُهُ» : يَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَنْ تَحْقِيقِ مُرَادِهِ فِيهِ فَيُفْلِتُ أَحَدً عَنْ مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً تَعْلِيلٌ لِانْتِفَاءِ شَيْءٍ يُغَالِبُ مُرَادَ اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِلْمِ وَاسِعُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَبِأَنَّهُ شَدِيدُ الْقُدْرَةِ.
وَقَدْ حَصَرَ هَذَانِ الْوَصْفَانِ انْتِفَاءَ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ يُعْجِزُ اللَّهَ لِأَنَّ عَجْزَ الْمُرِيدِ عَنْ تَحْقِيقِ إِرَادَتِهِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ خَفَاءَ مَوْضِعِ تَحَقُّقِ الْإِرَادَةِ، وَهَذَا يُنَافِي إِحَاطَةَ الْعِلْمِ، أَوْ عَدَمَ اسْتِطَاعَةِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَهَذَا يُنَافِي عُمُوم الْقُدْرَة.
[٤٥]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٤٥]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
تَذْكِيرٌ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَغُرَّهُمْ تَأْخِيرُ الْمُؤَاخَذَةِ فَيَحْسَبُوهُ عَجْزًا أَوْ رِضًى مِنَ اللَّهِ بِمَا هُمْ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: ٣٢] فَعِلْمُهُمْ أَنَّ لِعَذَابِ اللَّهِ آجالا اقتضتها حكمته، فِيهَا رَعْيُ مَصَالِحِ أُمَمٍ آخَرِينَ، أَوِ اسْتِبْقَاءِ أَجْيَالٍ آتِينَ. فَالْمُرَادُ بِ النَّاسَ مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ، وَضَمِيرُ «مَا كَسَبُوا» وَضَمِيرُ يُؤَخِّرُهُمْ عَائِدٌ إِلَى أَجَلٍ.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَاءَ فِيهَا بِما كَسَبُوا وَهُنَالِكَ جَاءَ فِيهَا بِظُلْمِهِمْ [النَّحْل: ٦١] لِأَنَّ مَا كَسَبُوا
339
يَعُمُّ الظُّلْمَ وَغَيْرَهُ. وَأُوثِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنَّهَا جَاءَتْ عَقِبَ تَشْنِيعِ ظُلْمٍ عَظِيمٍ مِنْ ظُلْمِهِمْ وَهُوَ ظُلْمُ بَنَاتِهِمُ الْمَوْءُودَاتِ وَإِلَّا أَنَّ هُنَالِكَ قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَيْها [النَّحْل: ٦١] وَهُنَا مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها وَهُوَ تَفَنُّنٌ تَبِعَهُ الْمَعَرِّيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَإِنْ شِئْتَ فَازْعُمْ أَنَّ مَنْ فَوْقَ ظَهْرِهَا عبيدك وَاسْتشْهدَ إلهك يَشْهَدِ
وَالضَّمِيرُ لِلْأَرْضِ هُنَا وَهُنَاكَ فِي الْبَيْتِ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ مِنَ الْمَقَامِ. وَالظَّهْرُ: حَقِيقَتُهُ مَتْنُ الدَّابَّةِ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْهَا، وَهُوَ مَا يَعْلُو الصُّلْبَ مِنَ الْجَسَدِ وَهُوَ مُقَابِلُ الْبَطْنِ فَأُطْلِقَ عَلَى ظَهْرِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْإِنْسَانِ صَدْرُهُ وَبَطْنُهُ. وَظَهْرُ الْأَرْضِ مُسْتَعَارٌ لِبَسْطِهَا الَّذِي يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مَخْلُوقَاتُ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا لِلْأَرْضِ بِالدَّابَّةِ الْمَرْكُوبَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ. ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ فَصَارَ مِنَ الْحَقِيقَةِ.
فَأَمَّا قَوْلُهُ هُنَا: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً، وَقَدْ قَالَ هُنَالِكَ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النَّحْل: ٦١]، فَمَا هُنَا إِيمَاءٌ إِلَى الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِهِمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ أَخَذَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا، أَيْ عَلِيمًا فِي حَالَيِ التَّأْخِيرِ وَمَجِيءِ الْأَجَلِ، وَلِهَذَا فَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً دَلِيلُ جَوَابِ (إِذَا) وَلَيْسَ هُوَ جَوَابَهَا، وَلِذَلِكَ كَانَ حَقِيقًا بِقَرْنِهِ بِفَاءِ التَّسَبُّبِ، وَأَمَّا مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فَهُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ تهديد بِأَنَّهُم إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ وَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ دُونَ إِمْهَالٍ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً هُوَ أَيْضًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ أَنْ يُقَالَ: مَاذَا جَنَتِ الدَّوَابُّ حَتَّى يَسْتَأْصِلَهَا اللَّهُ بِسَبَبِ مَا كَسَبَ النَّاسُ، وَكَيْفَ يَهْلِكُ كُلُّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ وَفِيهِمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالصَّالِحُونَ، فَأُفِيدَ أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ بِعَدْلِهِ. فَأَمَّا الدَّوَابُّ فَإِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِأَجْلِ الْإِنْسَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: ٢٩]، فَإِهْلَاكُهَا قَدْ يَكُونُ إِنْذَارًا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يُقْلِعُونَ عَنْ إِجْرَامِهِمْ، وَأَمَّا حَالُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حِينِ إِهْلَاكِ الْكُفَّارِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ طَرِيقًا إِلَى النَّجَاةِ كَمَا نَجَّى هُودًا وَمَنْ مَعَهُ، وَلَعَلَّهُ إِنْ أَهْلَكَهُمْ أَنْ يُعَوِّضَ لَهُمْ حُسْنَ الدَّارِ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ».
340

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٦- سُورَةُ يس
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ يس بِمُسَمَّى الْحَرْفَيْنِ الْوَاقِعَيْنِ فِي أَوَّلِهَا فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ لِأَنَّهَا انْفَرَدت بهما فَكَانَا مُمَيِّزَيْنِ لَهَا عَنْ بَقِيَّةِ السُّوَرِ، فَصَارَ مَنْطُوقُهُمَا عَلَمًا عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ وَرَدَ اسْمُهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقرأوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ»
. وَبِهَذَا الِاسْمِ عَنْوَنَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابَيِ التَّفْسِيرِ.
وَدَعَاهَا بَعْضُ السَّلَفِ «قَلْبَ الْقُرْآنِ» لِوَصْفِهَا
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس»، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ
، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ.
وَرَأَيْتُ مُصْحَفًا مَشْرِقِيًّا نُسِخَ سَنَةَ ١٠٧٨ أَحْسَبُهُ فِي بِلَادِ الْعَجَمِ عَنْوَنَهَا «سُورَةَ حَبِيبٍ النَّجَّارِ» وَهُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى [يس: ٢٠] كَمَا يَأْتِي.
وَهَذِهِ تَسْمِيَةٌ غَرِيبَةٌ لَا نَعْرِفُ لَهَا سَنَدًا وَلَمْ يُخَالِفْ نَاسِخُ ذَلِكَ الْمُصْحَفِ فِي أَسْمَاءِ السُّوَرِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي «سُورَةِ التِّينِ» عَنْوَنَهَا «سُورَةَ الزَّيْتُونِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ قَالَ: «إِلَّا أَنَّ فِرْقَةً قَالَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ [يس: ١٢] نَزَلَتْ فِي بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْأَنْصَارِ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يَتْرُكُوا دِيَارَهُمْ وَيَنْتَقِلُوا إِلَى جِوَارِ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ لَهُمْ: «دِيَارَكُمْ تُكْتَبُ آثَارُكُمْ»

. وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ بِمَكَّةَ وَلَكِنَّهَا احْتُجَّ بِهَا عَلَيْهِمْ فِي الْمَدِينَةِ» اهـ.
341
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ: وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَهُوَ يُؤَوِّلُ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ بِمَا يُوهِمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَئِذٍ.
وَهِيَ السُّورَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَرْتِيبِ النُّزُولِ فِي قَوْلِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الَّذِي اعْتَمَدَهُ
الْجَعْبَرِيُّ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ قُلْ أُوحِيَ وَقَبْلَ سُورَةِ الْفُرْقَانِ.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَمْصَارِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ. وَعُدَّتْ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس. وَمَنْ قَرَأَ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِرَاءَتِهَا قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَفِيهِ هَارُونُ أَبُو مُحَمَّدٍ شَيْخٌ مَجْهُولٌ. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُهَا ضَعِيفٌ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
التَّحَدِّي بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ، وَبِالْقَسَمِ بِالْقُرْآنِ تَنْوِيهًا بِهِ، وَأُدْمِجَ وَصْفُهُ بِالْحَكِيمِ إِشَارَةً إِلَى بُلُوغِهِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْكَامِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ تَحْقِيقُ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفْضِيلُ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ فِي كِتَابٍ مُنْزِلٍ مِنَ اللَّهِ لِإِبْلَاغِ الْأُمَّةِ الْغَايَةَ السَّامِيَةَ وَهِيَ اسْتِقَامَةُ أُمُورِهَا فِي الدُّنْيَا وَالْفَوْزُ فِي الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، فَلِذَلِكَ وُصِفَ الدِّينُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ دَاعٍ لِإِنْقَاذِ الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَسْبِقْ مَجِيءُ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ عَدَمَ سَبْقِ الْإِرْسَالِ إِلَيْهِمْ تَهْيِئَةٌ لِنُفُوسِهِمْ لِقَبُولِ الدِّينِ إِذْ لَيْسَ فِيهَا شَاغِلٌ سَابِقٌ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ فِرَاقُهُ أَوْ يَكْتَفُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ هُدًى.
وَوَصْفُ إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ تَلَقِّي الْإِسْلَامِ، وَتَمْثِيلُ حَالِهِمُ الشَّنِيعَةِ، وَحِرْمَانُهُمْ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَدْيِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوا دِينَ الْإِسْلَامِ هُمْ أَهْلُ الْخَشْيَةِ وَهُوَ الدِّينُ الْمَوْصُوفُ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَضَرْبُ الْمَثَلِ لِفَرِيقَيِ الْمُتَّبِعِينَ وَالْمُعَرِضِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى بِمَا سَبَقَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ شَابَهَ تَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ تَكْذِيبَ قُرَيْشٍ.
342
وَكَيْفَ كَانَ جَزَاءُ الْمُعْرِضِينَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الدُّنْيَا وَجَزَاءُ الْمُتَّبِعِينَ فِي دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ.
ثُمَّ ضَرْبُ الْمَثَلُ بِالْأَعَمِّ وَهُمُ الْقُرُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا فَأُهْلِكُوا.
وَالرِّثَاءُ لِحَالِ النَّاسِ فِي إِضَاعَةِ أَسْبَابِ الْفَوْزِ كَيْفَ يُسْرِعُونَ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ.
وَتَخْلُصُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَقْرِيبِ الْبَعْثِ وَإِثْبَاتِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ تَارَةً وَبِالِاسْتِطْرَادِ
أُخْرَى.
مُدْمِجًا فِي آيَاتِهِ الِامْتِنَانَ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا تِلْكَ الْآيَاتُ.
وَرَامِزًا إِلَى دَلَالَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ وَالنِّعَمِ عَلَى تَفَرُّدِ خَالِقِهَا وَمُنْعِمِهَا بِالْوَحْدَانِيَّةِ إِيقَاظًا لَهُمْ.
ثُمَّ تَذْكِيرُهُمْ بِأَعْظَمِ حَادِثَةٍ حَدَثَتْ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ وَالْمُتَمَسِّكِينَ بِالْأَصْنَامِ مِنَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نُوحٌ نَذِيرًا، فَهَلَكَ مَنْ كَذَّبَ، وَنَجَا مَنْ آمَنَ.
ثُمَّ سِيقَتْ دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ الْمَشُوبَةُ بِالِامْتِنَانِ لِلتَّذْكِيرِ بِوَاجِبِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ بِالتَّقْوَى وَالْإِحْسَانِ وَتَرَقُّبِ الْجَزَاءِ.
وَالْإِقْلَاعُ عَنِ الشِّرْكِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالرَّسُولِ وَاسْتِعْجَالِ وَعِيدِ الْعَذَابِ.
وَحُذِّرُوا مِنْ حُلُولِهِ بَغْتَةً حِينَ يَفُوتُ التَّدَارُكُ.
وَذُكِّرُوا بِمَا عَهِدَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِمَّا أَوْدَعَهُ فِي الْفِطْرَةِ مِنَ الْفِطْنَةِ.
وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ.
وَاتِّبَاعُ دُعَاةِ الْخَيْرِ.
ثُمَّ رَدَّ الْعَجْزَ عَلَى الصَّدْرِ فَعَادَ إِلَى تَنْزِيهِ الْقُرْآنِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى صَادِرًا مِنْ شَاعِرٍ بِتَخَيُّلَاتِ الشُّعَرَاءِ.
وَسَلَّى اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُحْزِنَهُ قَوْلُهُمْ وَأَنَّ لَهُ بِاللَّهِ أُسْوَةً إِذْ خَلَقَهُمْ فَعَطَّلُوا قُدْرَتَهُ عَنْ إِيجَادِهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً وَلَكِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْهِ.
343
Icon