تفسير سورة محمد

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة محمد من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وتسمى سورة القتال مدنية وقيل : مكية، وآيها تسع أو ثمان وثلاثون.

﴿الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ أي أعرضُوا عن الإسلامِ وسلوكِ طريقةِ منْ صَدَّ صُدوداً أو منعُوا النَّاسَ عن ذلكَ مِنْ صدَّهُ صَدَّاً كالمُطعمينَ يومَ بدرٍ وقيلَ هُم اثنا عشرَ رجُلاً من أهلِ الشركِ كانُوا يصدُّونَ الناسَ عن الإسلامِ ويأمرونَهُم بالكفرِ وقيلَ أهلُ الكتابِ الذينَ كفرُوا وصدُّوا مَنْ أرادَ منْهم ومن غيرِهم أنْ يدخلَ في الإسلامِ وقيلَ هو عامٌّ في كلِّ مَن كفرَ وصدَّ ﴿أَضَلَّ أعمالهم﴾ أي أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها وجعلَها ضائعةً لا أثرَ لَها أصلاً لكنْ لا بمعنى أنَّه أبطلَها وأحبطَها بعد أنْ لم تكُنْ كذلك بلْ بمَعْنى أنَّه حكَم ببطلانِها وضياعِها فإنَّ ما كانُوا يعملونَ من أعمالِ البرِّ كصلةِ الأرحامِ وقِرَى الأضيافِ وفكِّ الأُسارَى وغيرِها من المكارمِ ليسَ لها أثرٌ منْ أصلِها لعدمِ مقارنتِها للإيمانِ أو أبطلَ ما عملوا من الكيدِ لرسولِ الله ﷺ عن سبيلِه بنصرِ رسوله وإظهارِ دينِه على الدِّينِ كلِّه وهُو الأوفقُ لما سيأتى قولِه تعالى فَتَعْساً لَّهُمْ وأضل أعمالهم وقوله فَإِذَا لَقِيتُمُ الخ
﴿والذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ قيلَ هم ناس من قريش وقبل من الأنصارِ وقيلَ هُم مؤمنوا أهلِ الكتابِ وقيلَ عامٌّ للكل ﴿وآمنوا بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ﴾ خُصَّ بالذكرِ الإيمانُ بذلكَ مع اندارجه فيما قبلَهُ تنويهاً بشأنِه وتنبيهاً على سُموِّ مكانِه منْ بينِ سائرِ ما يجبُ الإيمانُ بهِ وأنه الأصلُ في الكُلِّ ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى ﴿وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ﴾ بطريقِ حصرِ الحقِّيةِ فيهِ وقيلَ حقِّيتُه بكونِه ناسخاً غيرَ منسوخٍ فالحقُّ على هذا مقابلُ الزائلِ وعلى الأولِ مقابلُ الباطلِ وأيَّاً ما كانَ فقولُه تعالى من رَبَّهُمْ حالٌ من ضميرِ الحق وقرئ نزَّلَ على البناءِ للفاعلِ وأَنزلَ على البناءينِ ونَزَلَ بالتخفيفِ ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم﴾ أي سترَهَا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ أي حال في الدِّينِ والدُّنيا بالتأييدِ والتوفيقِ
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما مرَّ من إضلالِ الأعمالِ وتكفيرِ السيئاتِ وإصلاحِ البالِ وهو مبتدأٌ
91
خبرُهُ قولُه تعالى ﴿بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ أيْ ذلكَ كائنٌ بسببِ أن الأولين ابتعوا الشيطانَ كما قالَهُ مجاهدٌ ففعلوا ما فعلوا من الكفرِ والصدِّ فبيانُ سببيةِ اتباعِه للإضلالِ المذكورِ متضمنٌ لبيانِ سببيتِهما له لكونِه أصلاً مُستتبعاً لهما قطعاً وبسببِ أنَّ الآخرينَ اتبعُوا الحق الذي لا محيد عنه كائناً من ربِّهم ففعلوا ما فعلوا من الإيمانِ به وبكتابِه ومن الأعمالِ الصالحة فبيانُ سببيةِ اتِّباعِه لما ذُكرَ من التكفيرِ والإصلاحِ بعدَ الإشعارِ بسببيةِ الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ له متضمنٌ لبيانِ سببيتِهما له لكونِه مبدأً ومنشأً لهما حتماً فلا تدافُعَ بينَ الإشعارِ والتصريحِ في شئ من الموضعينِ ويجوزُ أن يحمل الباطل ما يُقابلُ الحقَّ وهو الزائلُ الذاهبُ الذي لا أصلَ له أصلاً فالتَّصريحُ بسببيةِ اتباعهِ لإضلالِ أعمالِهم وإبطالِها لبيانِ أنَّ إبطالَها لبطلانِ مبناها وزوالِه وأما حملُه على ما لا يُنتفعُ به فليسَ كَما ينبغِي لِما أنَّ الكفرَ والصدَّ أفحشُ منه فلا وجَه للتصريحِ بسببيتِه لما ذُكر من إضلالِ أعمالِهم بطريقِ القصرِ بعدَ الإشعارِ بسببيتِهما له فتدبر ويجوزُ أنْ يرادَ بالباطلِ نفسُ الكفرِ والصدِّ وبالحقِّ نفسُ الإيمانِ والأعمالِ الصالحةِ فيكونُ التنصيصُ على سببيتِهما لما ذُكَرَ من الإضلالِ ومن التفكير والإصلاحِ تصريحاً بالسببيةِ المُشعرِ بَها في المَوقعينِ ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلكَ الضربِ البديعِ ﴿يَضْرِبُ الله﴾ أيْ يبينُ ﴿لِلنَّاسِ أمثالهم﴾ أي أحوالَ الفريقينِ وأوصافَهما الجاريةَ في الغرابةِ مَجْرى الأمثالِ وهي اتباعُ الأولينِ الباطلَ وخيبتُهم وخُسرانُهم واتباعُ الآخرينَ الحقَّ وفوزُهم وفلاحُهم والفاءُ في قولِه تعالى
92
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ﴾ لترتيبِ مَا في حيزِها من الأمرِ على ما قبلها فإنَّ ضلالَ أعمالِ الكفرةِ وخيبتَهم وصلاحَ أحوالِ المؤمنينَ وفلاحَهم ممَّا يُوجبُ أنْ يرتّب على كلَ من الجانبينِ ما يليقُ من الأحكامِ أيْ فإذَا كان الأمر كما ذكر فإذَا لقيتُموهم في المُحاربةِ ﴿فَضَرْبَ الرقاب﴾ أصلُه فاضربُوا الرقابَ ضرباً فحُذفَ الفعلُ وقُدِّمَ المصدرُ وأُنيبَ مُنابَهُ مضلفا إلى المفعولِ وفيِه اختصارٌ وتأكيدٌ بليغٌ والتعبيرُ به عن القتلِ تصويرٌ له بأشنعِ صورةٍ وتهويلٌ لأمرِه وإرشاده للغزاةِ إلى أيسرَ ما يكونُ منْهُ ﴿حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ أي أكثرتُم قتلَهم وأغلظتموه من الشئ الثخينِ وهو الغليظُ أو أثقلتمُوهم بالقتلِ والجراحِ حتَّى أذهبتُم عنهُم النهوضَ ﴿فَشُدُّواْ الوثاق﴾ فأْسِرُوهم واحفظُوهم والوَثاقُ اسمٌ لما يُوثقُ بهِ وكذا الوثاقُ بالكسرِ وقَدْ قرئ بذلكَ ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء﴾ أيْ فإمَّا تمنونَ منًّا بعد ذلكَ أو تفْدونَ فداءً والمَعْنى التخييرُ بين القتلِ والاسترقاقِ والمنِّ والفداءِ وهذا ثابتٌ عند الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى وعندنَا منسوخٌ قالُوا نزلَ ذلكَ يومَ بدرٍ ثُمَّ نُسخَ والحكمُ إما القتلُ أو الاسترقاقُ وعن مجاهدٍ ليسَ اليومَ منٌّ ولا فداءٌ إنما هُو الإسلامُ أو ضرب العنق وقرئ فداً كعَصَا ﴿حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا﴾ أوزارُ الحربِ آلاتُها وأثقالُها التي
92
٥ ٩
لا تقومُ إلا بَها من السلاحِ والكُراعِ وأُسندَ وضعُها إليها وهو لأهلِها إسناداً مجازياً وحتَّى غايةٌ عندَ الشافعيِّ لأحدِ الأمورِ الأربعةِ أو للمجموعِ والمَعْنى أنَّهم لا يزالونَ على ذلكَ أبداً إلى أنْ لا يكونَ مع المشركينَ حربا بأن لا تبقى لهم شوكةٌ وقيلَ بأنْ ينزلَ عيسى عليه السلامُ وأما عندَ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله تعالى فإنْ حُملَ الحربُ على حربِ بدرٍ فهي غايةٌ للمنِّ والفداءِ والمعنى يمنى عليهم ويُفادون حتى تضعَ حربُ بدرٍ أوزارَها وإنْ حُملتْ على الجنسِ فهي غايةٌ للضربِ والشدِّ والمَعْنى أنهم يُقتلون ويؤسرون حتَّى يضع جنسُ الحربِ أوزارَها بأنْ لا يبقى للمشركين شوكةٌ وقيلَ أوزارُها آثامُها أي حتَّى يتركَ المشركونَ شركَهم ومعاصيَهم بأنْ أسلمُوا ﴿ذلك﴾ أي الأمرُ ذلك أو فعلوا ذلك ﴿وَلَوْ يَشَاء الله لانتصر منهم﴾ لا تنقم منهم ببعض أسبابا الهلكةِ والاستئصالِ ﴿ولكن﴾ لم يشأ لذلك ﴿لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ فأمرَكم بالقتالِ وبلاكُم بالكافرينَ لتجاهدُوهم فتستوجيبوا الثوابَ العظيمَ بموجبِ الوعدِ والكافروين بكم ليعالجهم على أيديكُم ببعضِ عذابِهم كيْ يرتدعَ بعضُهم عن الكفرِ ﴿والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي استُشهدوا وقرئ قاتلُوا أي جاهدُوا وقَتلُوا وقُتِلوا ﴿فَلَن يُضِلَّ أعمالهم﴾ أى فلن يضيعها وقرى يضل أعماله على البناءِ للمفعولِ ويضِلَّ أعمالَهم من ضلَّ وعنْ قَتَادةَ أنَّها نزلتْ في يومِ أحدٍ
93
﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ في الدُّنيا إلى أرشدِ الأمورِ وفي الآخرةِ إلى الثوابِ أو سُيْثبِّتَ هدايتَهم ﴿وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾
﴿وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ في الدُّنيا بذكرِ أوصافِها بحيثُ اشتاقُوا إليها أو بيَّنها لهم بحيثُ يعلم كلُّ أحدٍ منزلَه ويهتدي إليهِ كأنه كان ساكنَهُ منذُ خُلقَ وعن مقاتل أنَّ الملكَ الموكلَ بعملهِ في الدُّنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شئ أعطاهُ الله تعالى أو طيَّبها لهم من العَرْفِ وهو طيبُ الرائحةِ أو حدَّدها لهم وأفرزَها من عَرفُ الدَّارِ فجنةُ كلَ منهم محددةٌ مفرزةٌ والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ بإضمار قد أو بدونه
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله﴾ أي دينَه ورسوله ﴿يَنصُرْكُمُ﴾ على أعدائِكم ويفتحْ لكُم ﴿وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ في مواطنِ الحربِ ومواقفِها أو على مَحَجةِ الإسلامِ
﴿والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ﴾ التعسُ الهلاكُ والعِثارُ والسقوطُ والشرُّ والبعدُ والانحطاطُ ورجلٌ تاعسٌ وتَعِسٌ وانتصابُه بفعلِه الواجبِ حذفُه سماعاً أي فقالَ تعساً لهم أو فقضى تعساً لهم وقولُه تعالى ﴿وَأَضَلَّ أعمالهم﴾ عطفٌ عليهِ داخلٍ معه في حيزِ الخبريةِ للموصولِ
﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من التعسِ وإضلالِ الأعمالِ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ بسببِ أنَّهم ﴿كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله﴾ من القرآنِ
93
} ٠ ١ ﴿
لما فيهِ من التوحيدِ وسائرِ الأحكامِ المخالفةِ لما ألِفُوه واشتهتْهُ أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ {فَأَحْبَطَ﴾
لأجلِ ذلكَ ﴿أعمالهم﴾ التي لو كانُوا عملُوها مع الإيمان لأُثيبُوا عليَها
94
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض﴾ أي أقعدُوا في أماكنِهم فلم يسيرُوا فيها ﴿فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من الأممِ المكذبةِ فإنَّ آثارَ ديارِهم تنبئ عن أخبارِهم وقولُه تعالى ﴿دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ﴾ استئنافٌ مبني على سؤال نشأ من الكلامِ كأنَّه قيلَ كيف كانت عاقبتُهم فقيلَ استأصلَ الله تعالىَ عليهم ما اختصَّ بهم من أنفسِهم وأهليِهم وأموالِهم يقالُ دمَّره أهلكَه ودمَّر عليهِ أهلكَ عليهِ ما يختصُّ بهِ ﴿وللكافرين﴾ أي ولهؤلاءِ الكافرينَ السائرينَ بسيرتِهم ﴿أمثالها﴾ أمثالُ عواقبِهم أو عقوباتِهم لكنْ لا على أنَّ لهؤلاءِ أمثالَ مالأولئك وأضعافَهُ بلْ مثلَه وإنما جُمعَ باعتبارِ مماثلتِه لعواقبَ متعددةٍ حسبَ تعددِ الأممِ المُعذبةِ وقيلَ يجوزُ أن يكونَ عذابُهم أشدَّ من عذابِ الأولينَ وقد قُتلوا وأُسروا بأيدِي من كانُوا يستخفّونهم ويستضعفونهم والقتلُ بيد المثلِ أشدُّ ألماً من الهلاكِ بسببٍ عامٍ وقيلَ المرادُ بالكافرينَ المتقدمونَ بطريقِ وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ كأنَّه قيلَ دمَّر الله عليهم في الدُّنيا وَلَهُمْ في الآخرةِ أمثالُها
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى ثبوتِ أمثالِ عقوبةِ الأممِ السَّالفةِ لهؤلاءِ ﴿بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمنوا﴾ أي ناصرُهم على أعدائِهم وقرئ وليُّ الذينَ ﴿وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ﴾ فيدفعُ عنُهم ما حلَّ بهم من العقوبةِ والعذابِ ولا يُخالفُ هَذا قولَه تعالى ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق فإنَّ المَوْلَى هُناكَ بمعنى المالِك
﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ بيانٌ لحكمِ ولايتِه تعالى لَهُم وثمرتِها الأُخرويةِ ﴿والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ﴾ أيْ ينتفعونَ في الدُّنيا بمتاعِها ﴿وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام﴾ غافلينَ عنْ عواقِبهم ﴿والنار مَثْوًى لَّهُمْ﴾ أي منزلُ ثُواءٍ وإقامةٍ والجملةُ إمَّا حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ يأكُلونَ أو استئنافٌ
﴿وَكَأَيّن﴾ كلمةٌ مركبةٌ من الكافِ وأَيْ بمَعنى كَمِ الخبريةِ ومحلُّها الرفعُ بالابتداءِ وقولُه تعالى ﴿مِن قَرْيَةٍ﴾ تمييزٌ لها وقولُه تعالى ﴿هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ﴾ صفةٌ لقريةٍ كما أنَّ قولَه تعالى ﴿التى أَخْرَجَتْكَ﴾ صفةٌ لقريتكَ وقد حُذفَ عنهُمَا المضافُ وأُجريَ أحكامُه عليهمَا كما يُفصحُ عنه الخبر الذى قولُه تعالى ﴿أهلكناهم﴾ أي وكم منْ أهلِ قريةٍ هُم أشدُّ
94
} ٤ ١٥
قوةً من أهلِ قريتكَ الذين كانُوا سبباً لخروجِكَ من بينِهم ووصفُ القريةِ الأولى بشدةِ القُوَّةِ للإيذانِ بأولويةِ الثانيةِ منها بالإهلاكِ لضعفِ قوَّتِها كما أنَّ وصفَ الثانيةِ بإخراجهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للإيذانِ بأولويتِها به لقوةِ جنايتِها وعلى طريقتِه قولُ النابغةِ... كُلَيبٌ لعَمْرِي كانَ أكثَر ناصرا... وَأيسَر جُرماً منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ...
وقولُه تعالى ﴿فَلاَ ناصر لَهُمْ﴾ بيانٌ لعدمِ خلاصِهم من العذابِ بواسطةِ الأعوانِ والأنصارِ إثرَ بيانِ عدمِ خلاصِهم منْهُ بأنفسِهم والفاءُ لترتيبِ ذكرِ ما بالغيرِ على ذكرِ ما بالذاتِ وهو حكايةُ حالٍ ماضيةٍ
95
﴿أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ﴾ تقريرٌ لتباينِ حَالَيْ فَريَقيْ المؤمنينَ والكافرينَ وكون الاوليين في أعلى علّيينَ والآخرينَ في أسفلِ سافلينَ وبيانٌ لعلةِ ما لكلَ منهُمَا من الحالِ والهمزةُ للإنكارِ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرئ بدونها ومَنْ عبارةٌ عن المؤمنينَ المتمسكينَ بأدلةِ الدِّينِ وجعلُها عبارةً عن النبيِّ عليه الصلاةَ والسلام أو عنْهُ وعنِ المؤمنينَ لا يساعدُه النظمُ الكريمُ على أنَّ الموازنةَ بينه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وبينَهم مما يأباهُ منصبُه الجليلُ والتقديرُ أليسَ الأمرُ كما ذُكِرَ فمنْ كانَ مستقراً على حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ نيّرٍ من مالكِ أمرِه ومربّيهِ وهو القرآنُ الكريمُ وسائرُ المعجزاتِ والحججِ العقليةِ ﴿كَمَن زُين لَهُ سوءُ عَمَلِهِ﴾ من الشركِ وسائرِ المعاصيِ مع كونِه في نفسِه أقبحَ القبائحِ ﴿واتبعوا﴾ بسببِ ذلكَ التزيينِ ﴿أَهْوَاءهُمْ﴾ الزائغةَ وانهمكُوا في فنونِ الضلالاتِ من غير أن يكون لهم شبهةٌ توهمُ صحةَ ما تم عليهِ فضلاً عن حجةٍ تدلُّ عليهِ وجمعُ الضميرينِ الأخيرينِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أنَّ إفرادَ الأولَينِ باعتبارِ لفظِها
﴿مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون﴾ استئنافٌ مَسُوقٌ لشرحِ مَحَاسنِ الجنَّةِ الموعودةِ آنِفاً للمؤمنينَ وبيانِ كيفيةِ أنهارِها التي أُشيرَ إلى جريانِها من تحتِها وعُبِّرَ عنهُم بالمتقينَ إيذاناً بأنَّ الإيمانَ والعملَ الصالَح من بابِ التقوى الذي هُو عبارةٌ عن فعلِ الواجباتِ بأسرِها وتركِ السيئاتِ عن آخرِها ومَثَلُها وصفُها العجيبُ الشأنِ وهُو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ فقدَّرهُ النَّضْرُ بْنُ شُمَيلٍ مثلُ الجنةِ ما تسمعونَ وقولُه تعالى ﴿فِيهَا أَنْهَارٌ﴾ إلخ مفسرٌ لَهُ وقدَّرهُ سيبويهِ فيما يُتلَى عليكُم مَثَلُ الجنةِ والأولُ هو الأنسبُ لصدرِ النظمِ الكريمِ وقيلَ المَثَلُ زائدةٌ كزيادةِ الاسمِ في قولِ مَنْ قال
إلى الحولِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما... والجنةُ مبتدأٌ خبرُهُ فيها أنهارٌ إلخ ﴿مّن مَّاء غَيْرِ آسن﴾ غيرِ متغيرِ الطعمِ والرَّائحةِ وقرئ غيرِ أَسِنٍ ﴿وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ بأنْ صارَ قارِصاً وَلاَ خَازِراً كألبانِ الدُّنيا ﴿وأنهار من خمر لذة للشاربين﴾ لذيذةٍ ليسَ فيها كراهةُ طعمٍ وريحٍ ولا غائلةُ سُكرٍ ولا خُمارٌ وإنما هيَ تلذذٌ محضٌ ولذةٍ إمَّا تأنيثُ لذَ بمعنى لذيذٍ أو مصدرٌ نُعت
95
} ٦ ١٨
به مبالغة وقرئ لذةٌ بالرفعِ على أنَّها صفةُ أنهارٌ وبالنصبِ على العلَّةِ أي لأجلِ لذةِ الشاربينَ ﴿وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى﴾ لا يُخالطُه الشمعُ وفضلاتُ النحلِ وغيرُها وفي هذا تمثيلٌ لما يَجْري مَجرى الأشربةِ في الجنةِ بأنواعِ ما يُستطابُ منها ويُستلذُّ في الدُّنيا بالتخليةِ عمَّا يُنغصها ويُنقصها والتحليةِ بما يُوجبُ غزارتُها ودوامَها ﴿وَلَهُمْ فِيهَا﴾ مع ما ذُكَر من فنونِ الأنهارِ ﴿مِن كُلّ الثمرات﴾ أيْ صنفٌ من كلِّ الثمراتِ ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي ولهم مغفرةٌ عظيمةٌ لا يُقادرُ قَدرُها وقولُه تعالى ﴿مّن رَّبّهِمُ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمغفرةٌ مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنةٌ من ربِّهم وقولُه تعالى ﴿كمن هو خالد فى النار﴾ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ أمَّنْ هو خالدٌ في هذه الجنةِ حسبما جريَ به الوعدُ كمن هو خالد فى النار كما نطق به قوله تعالى والنَّارُ مَثْوىً لَهُم وقيل هو خبرٌ لَمثَلُ الجنةِ على أنَّ في الكلامِ حذفاً تقديرُهُ أمثلُ الجنةِ كمثلِ جزاءِ من هو خالد فى النار أو أمثلُ أهلِ الجنةِ كمثلِ من هو خالدٌ في النارِ فعُرّيَ عن حرفِ الإنكارِ وحُذفَ ما حذفَ تصويراً لمكابرةِ مَن يُسوي بين المتمسكِ بالبينةِ وبين التابعِ للهوى بمكابرةِ من سوَّى بين الجنةِ الموصوفةِ بما فُصل من الصفاتِ الجليلةِ وبين النارِ ﴿وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً﴾ مكانَ تلك الأشربةِ ﴿فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ﴾ من فرْطِ الحرارةِ قيل إذادنا منهم شوى وجوههم وانمارت فروة رؤسهم فإذا شربوُه قطَّع أمعاءَهم
96
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ هم المنافقونَ وإفرادُ الضميرِ باعتبارِ لفظِ مَنْ كما أنَّ جمعَهُ فيما سيأتي باعتبارِ معناها كانُوا يحضُرون مجلس رسول الله ﷺ فيسمعونَ كلامَهُ ولا يَعُونَهُ ولا يُراعونَهُ حقَّ رعايتِه تهاوناً منهُم ﴿حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم﴾ من الصحابةِ رضيَ الله عنُهم ﴿ماذا قال آنفا﴾ أي ما الذي قالَ الساعةَ على طريقةِ الاستهزاءِ وإن كان بصورةِ الاستعلامِ وآنِفاً من قولِهم أنْفُ الشئ لما تقدمَ منه مستعارٌ من الجارحةِ ومنه استأنفَ الشئ وائتنفَ وهو ظرفٌ بمعنى وقتاً مؤتنفاً أو حالٌ من الضمير في قالَ وقرئ أنفا ﴿أولئك﴾ اوصفون بما ذُكِرَ ﴿الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ﴾ لعدمِ توجههم نحوَ الخيرِ أصلاً ﴿واتبعوا أَهْوَاءهُمْ﴾ الباطلةَ فلذلك فعلُوا ما فعلُوا مما لا خيرَ فيهِ
﴿والذين اهتدوا﴾ إلى طريقِ الحقِّ ﴿زَادَهُمْ﴾ أي الله تعالَى ﴿هُدًى﴾ بالتوفيقِ والإلهامِ ﴿وآتاهم تقواهم﴾ أعانهُم على تقواهُم أو أعطاهُم جزاءَها أو بيّنَ لهم ما يتقونَ
﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة﴾ أي القيامةَ وقولُه تعالى ﴿أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ أي تُباغتُهم بغتةً وهي المفاجأةُ بدلُ اشتمالٍ من
96
} ٩ ٢٠
الساعةَ والمعنى أنَّهم لا يتذكرونَ بذكرِ أهوالِ الأممِ الخاليةِ ولا بالأخبارِ بإتيانِ السَّاعةِ وما فيها مِنْ عظائم الاهول وما ينتظرونَ للتذكرِ إلا إتيانِ نفسِ الساعةِ بغتةً وقرئ بَغَتةً بفتحِ الغينِ وقولُه تعالى ﴿فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا﴾ تعليلٌ لمفاجأتِها لا لإتيانِها مُطلقاً على معنى أنَّه لم يبقَ من الأمورِ الموجبةِ للتذكِر أمرٌ مترقبٌ ينتظرونَهُ سوى إتيانِ نفسِ الساعةِ إذْ قد جاءَ أشراطُها فلم يرفعُوا لها رأساً ولم يعدّوها من مبادى إتيانِها فيكون إتيانُها بطريقِ المفاجأةِ لا محالةَ والأشراطُ جمعُ شَرَطٍ بالتحريكِ وهي العلامةُ والمرادُ بها مبعثُه ﷺ وانشقاقُ القمرِ ونحوُهما وقولُه تعالى ﴿فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ حكمٌ بخطِئهم وفسادِ رأيهم في تأخيرِ التذكرِ إلى إتيانِها ببيانِ استحالى نفعِ التذكرِ حينئذٍ كقولِه تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى أي وكيفَ لهم ذكراهُم إذا جاءتْهُم على أن أنَّى خبرٌ مقدمٌ وذكراهُم مبتدأٌ وإذا جاءتْهُم اعتراضٌ وسطٌ بينهما رمزاً إلى غايةِ سرعةِ مجيئِها وإطلاقُ المجىءِ عن قيدِ البغتِه لما أن مدارَ استحالةِ نفعِ التذكرِ كونُه عند مجيئِه مطلقاً لا مقيداً بقيدِ البغتة وقرئ إن تاتيهم على أنَّه شرطٌ مستأنفٌ جزاؤُه فأنَّى لهم إلخ والمعنى إنْ تأتِهم الساعةُ بغتةً لأنه قد ظهرَ أماراتُها فكيفَ لهم تذكرُهم واتعاظُهم إذا جاءتْهُم
97
﴿فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله﴾ أي إذا علمتَ أنَّ مدارَ السعادةِ هو التوحيدُ والطاعةُ ومناطَ الشقاوةِ هو الإشراكُ والعصيانُ فاثبت على ما أنت عليه من العلمِ بالوحدانيةِ والعملِ بموجبِه ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾ وهو الذي رُبَّما يصدرُ عنه عليه الصلاة والسلام من تركِ الأَوْلى عُبِّر عنه بالذنبِ نظراً إلى منصبِه الجليلِ كيفَ لا وحسناتُ الأبرارِ سيئاتُ المقربينَ وإرشادٌ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى التواضعِ وهضمِ النفسِ واستقصارِ العملِ ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات﴾ أي لذنوبِهم بالدعاءِ لهم وترغيبِهم فيما يستدعي غفرانَهم وفي إعادةِ صلةِ الاستغفارِ تنبيهٌ على اختلاف متعلّقَيه جنساً وفي حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليهِ مُقامَهُ إشعارٌ بعراقتِهم في الذنبِ وفرطِ افتقارِهم إلى الاستغفارِ ﴿والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ﴾ في الدُّنيا فإنَّها مراحلُ لا بُدَّ من قطعِها لا محالةَ ﴿وَمَثْوَاكُمْ﴾ في العقبى فإنها مواطن إقامتِكم فلا يأمرُكم إلا بما هو خيرٌ لكم فيهما فبادِرُوا إلى الامتثالِ بما أمركُم به فإنه المهمُّ لكم في المقامينِ وقيل يعلمُ جميعَ أحوالِكم فلا يخفى عليه شئ منها
﴿ويقول الذين آمنوا﴾ حرصاً منُهم على الجهادِ ﴿لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ﴾ أي هلا نزلت سورة تؤمر فيها بالجهادِ ﴿فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال﴾ بطريقِ الأمرِ به أي سورةٌ مبينةٌ لا تشابَه ولا احتمالَ فيها لوجهٍ آخرَ سوى وجوبِ القتالِ عن قَتَادَة كُلُّ سورةٍ فيها ذكرُ القتالِ فهيَ محكمةٌ لم تنسخْ وقرئ فإذا نزلتْ
97
} ١ ٢ ﴿
سورةٌ وقُرِىءَ وذَكَرَ على إسنادِ الفعلِ إلى ضميرِه تعالى ونصبِ القتالِ {رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾
أي ضعفٌ في الدينِ وقيل نفاقٌ وهو الأظهرُ الأوفقُ لسياقِ النظمِ الكريمِ ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ أي تثخص أبصارُهم جُبناً وهلعاً كدأب منْ أصابتْهُ غشيةُ الموتِ ﴿فأولى لَهُمْ﴾ أي فويلٌ لَهُمْ أي فويلٌ لهم وهو أفعلُ من الوَلي وهو القُربُ وقيلَ مِنْ آل ومعناه الدعاء بأن يليهم الكروه أو يؤولَ إليهِ أمرُهم وقيل هو مُشتقٌ من الويلِ وأصله أَوْيَل نُقلتْ العينُ إلى مَا بعدِ اللامِ فوزنُه أَفْلَعَ
98
﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ﴾ كلامٌ مستأنف أى أمرهم الخ أو طاعةٌ وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم أو حكايةٌ لقولِهم ويؤيدُه قراءةُ أُبي يقولونَ طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أي أمرُنا ذلكَ ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأمر﴾ أَسندَ العزمَ وهو الجِدُّ إلى الأمرِ وهو لأصحابِه مجازاً كما في قوله تعالى إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الامور وعاملُ الظرفِ محذوفٌ أي خالَفُوا وتخلَّفُوا وقيلَ ناقضُوا وقيل كرِهُوا وقيلَ هُو قولُه تعالى ﴿فَلَوْ صَدَقُواْ الله﴾ على طريقةِ قولِك إذا حضرني طعامٌ فلوجئتني لأطمعتك أي فلو صدقُوه تعالى فيما قالُوا من الكلامِ المبنىء عن الحرصِ على الجهادِ بالجري على موجبهِ ﴿لَكَانَ﴾ أي الصدقُ ﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ وفيه دلالةٌ على اشتراكِ الكلِّ فيما حُكيَ عنهم من قولِه تعالى لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ وقيل فلو صدقُوه في الإيمانِ وواطأتْ قلوبُهم في ذلك ألسنتَهُم وأيا ما كان فالمرادُ بهم الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وهم المخاطبون بقولِه تعالى
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ الخ بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ التوبيخِ وتشديدِ التقريعِ أي هل يُتوقعُ منكم ﴿إِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أمورَ الناسِ وتأمَّرتُم عليهم ﴿أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ﴾ تناحراً على المُلك وتهالُكاً على الدُّنيا فإن من شاهدَ أحوالَكم الدالَّةَ على الضعفِ في الدِّينِ والحرصِ على الدُّنيا حينَ أُمرتُم بالجهادِ الذي هو عبارةٌ عن إحرازِ كلِّ خيرٍ وصلاحٍ ودفعِ كلِّ شرَ وفسادٍ وأنتم مأمورون شأنُكم الطاعةُ والقولُ المعروفُ يتوقعُ منكم إذا أطلقتْ أعِنّتُكم وصرتُم آمرين ما ذكر من الإفسادِ وقطعِ الأرحامِ وقيل إن أعرضتُم عن الإسلامِ أنْ ترجعوا إلى ما كنتُم عليه في الجاهليةِ من الإفسادِ في الأرضِ بالتغاورِ والتناهبِ وقطعِ الأرحامِ بمقاتلةِ بعضِ الأقاربِ بعضاً ووأدِ البناتِ وفيه أن الواقعَ في جيز الشرطِ في مثلِ هذا المقامِ لابد أن تكون محذوريتُه باعتبارِ ما يستتبعُه من المفاسدِ لا با عتبار ذاتُه ولا ريبَ في أنَّ الإعراضَ عن الإسلامِ رأسُ كلِّ شرَ وفسادٍ فحقُّه أنْ يجعلَ عمدةً في التوبيخِ لا وسيلةً للتوريخ بما دونَهُ من المفاسدِ وقُرِىءَ وُلِّيتُم على البناءِ للمعفول أي جُعلتْم ولاةً وقُرِىءَ تُولِّيتُم أي تولاَّكُم ولاةُ جورٍ خرجتُم معهُم وساعدتمُوهم في الإفسادِ وقطيعةِ الرحمِ وقُرِىءَ وتَقطَّعُوا من التقطُّعِ بحذفِ إحدى التاءينِ فانتصابُ أرحامَكم حينئذٍ على نزعِ الجارِّ أي في أرحامِكم وقُرِىءَ وتَقْطَعُوا منَ القطعِ وإلحاقُ الضميرِ بعسَى لغةِ أهلِ الحجازِ وأمَّا بنُو
98
} ٦ ٢ {
تميمٍ فيقولونَ عسى أنْ تفعلَ وعسى أنْ تفعلُوا
99
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى المخاطبينَ بطريقِ الالتفاتِ إيذاناً بأنَّ ذكرَ هَنَاتِهم أوجبَ إسقاطَهُم عن رتبة الخطاب وحكايةِ أحواهم الفظية لغيرِهم وهُو مبتدأٌ خبرُه ﴿الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ أيْ أبعدهُم من رحمتِه ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ عن استماعِ الحقِّ لتصامِّهم عنْهُ بسوءِ اختيارِهم ﴿وأعمى أبصارهم﴾ لتعامِيهم عمَّا يُشاهدونه من الآياتِ المنصوبةِ في الأنفسِ والآفاق
﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ أيْ أَلاَ يلاحظونَهُ ولاَ يتصفحونَهُ وما فيهِ من المواعظِ والزواجرِ حتَّى لا يقعُوا فيَما وقعُوا فيهِ من الموبقاتِ ﴿أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ فلا يكادُ يصلُ إليها ذكرٌ أصلاً وأمْ منقطعةٌ وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخِ بعدمِ التدبرِ إلى التوبيخِ بكونِ قلوبهم مقفلةً لا تقبلُ التدبرَ والتفكرَ والهمزةُ للتقريرِ وتنكيرُ القلوبِ إمَّا لتهويلِ حالِها وتفظيع شأنها بإيهام أمرِها في القساوةِ والجهالةِ كأنَّه قيلَ على قلوبٍ منكَرةٍ لا يعرفُ حالُها ولا يُقادرُ قدرُها في القساوةِ وإما لأنَّ المرادَ بها قلوبُ بعضٍ منْهم وهم المنافقونَ وإضافةُ الأقفالِ إليها للدلالةِ على أنَّها أقفالٌ مخصوصةٌ بها مناسبةٌ لها غيرُ مجانسةٍ لسائرِ الأقفالِ المعهودةِ وقُرِىءَ أقفالُها وأقفالها الذين
﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم﴾ أي رجعُوا إلى ما كانُوا عليه من الكفر وهم المنافقون وُصفوا فيما سلفَ بمرضِ القلوبِ وغيرهِ من قبائحِ الأفعالِ والأحوالِ فإنَّهم قد كفروا به عليه الصلاة والسَّلامُ ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى﴾ بالدلائلِ الظاهرةِ والمعجزاتِ القاهرةِ وقيل هم اليهودُ وقيل أهلُ الكتابينِ جميعاً كفرُوا به عليه الصلاة والسلام بعد ما وجدُوا نعتَهُ في كتابهم وعرفوا أنه المنعوت بذلكَ وقولُه تعالى ﴿الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ﴾ جملةٌ من مبتدإٍ وخبر وقعت خبر لإنَّ أي سهَّلَ لهم ركوبَ العظائمِ من السَّوَل وهو الاسترخاءِ وقيلَ من السول المخفف من السؤال لا ستمرار القلبِ فمعنى سوَّلَ له أمراً حينئذٍ أوقعه في أمنيته فإن السُّؤل الأمنية وقرىء سُوِّل مبنياً للمفعولِ على حذفِ المضافِ أي كيد الشطيان ﴿وأملي لهم﴾ وعد لهم في الأمانِيِّ والآمالِ وقيلَ أمهلهُم الله تعالى ولم يُعاجلْهم بالعقوبةِ وقُرِىءَ وأملى لم على صيغةِ المتكلمِ فالمعنى أن الشيطانُ يُغويهم وأنا أُنْظِرُهم قالو او للحالِ أو للاستئنافِ وقُرِىءَ أُمْلِىَ لهُم على البناءِ للمفعولِ أي أُمْهِلُوا ومُدَّ في عمرِهم
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما ذُكِرَ من ارتدادِهم لا إلى الإملاءِ كما نُقلَ عن الواحديِّ ولا إلى التسويلِ كما قيل لأنَّ شيئاً منهما ليس مُسبباً عن القولِ الآتي وهو مبتدأ خبره قوله تعالى ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي بسببِ أنَّهم ﴿قَالُواْ﴾ يعني المنافقينَ المذكورينَ لا لليهود الكافرينَ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعد ما وجدُوا نعتَهُ في التوارةِ كما قيل
99
} ٩ ٢٧
فإن كفرَهم به ليسَ بسببِ هذا القولِ ولو فُرض صدورُه عنهم سواءٌ كان المقولُ لهم المنافقينَ أو المشركينَ على رأي القائلِ بل من حينِ بعثتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله﴾ أي لليهودِ الكارهينَ لنزولِ القرآنِ على رسولِ الله ﷺ مع عملهم بأنَّه من عندِ الله تعالى حسداً وطمعاً في نزولِه عليهم لا للمشركينَ كما قيلَ فإنَّ قولَه تعالى ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر﴾ عبارةٌ قطعاً عما حُكيَ عنُهم بقولِه تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لاننصرنكم وهم بنُو قريظةَ والنَّضيرِ الذين كانوا يوالونَهم ويوادُّونَهُم وأرادُوا بالبعضِ الذي أشارُوا إلى عدمِ إطاعتهم فيه إظهارَ كُفرِهم وإعلان أمرِهم بالفعلِ قبل قتالِهم وإخراجِهم من ديارِهم فإنَّهم كانوا يأبَون ذلك قبل مساسِ الحاجةِ الضروريةِ الداعيةِ إليه لِما كان لهم في إظهارِ الإيمانِ من المنافعِ الدنيويةِ وإنما كانوا يقولون لهم ما يقولون سِرَّاً كما يعرب عنه قوله تعالى ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ أى إخفاءهم لما يقولنه لليهودِ وقُرِىءَ أَسْرَارَهُم أي جميعَ أسرارِهم التي مِنْ جُملتها قولُهم هذا والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله متضمنٌ للإفشاءِ في الدنيا والتعذيبِ في الآخرة والفاء في قوله تعالى
100
﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها وكيفَ منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ هو العاملُ في الظروف كأنَّه قيلَ يفعلون في حياتِهم ما يفعلون من الحيلِ فكيفَ يفعلونَ إذا توفَّتُهم الملائكةُ وقيلَ مرفوعٌ على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي فكيفَ حالُهم أو حيلهم إذا توفَّتُهم الخ وقُرِىءَ توفَّاهُم على أنَّه إما ماضٍ أو مضارعٌ قد حُذفَ إحدى تاءيهِ ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم﴾ حالٌ من فاعلِ توفَّتهم أو من مفعولِه وهو تصويرٌ لتوفّيهم على أهوال الوجوهِ وأفظعها وعن ابن عباس رضي الله عنهما لا يُتوفَّى أحدٌ على معصيةٍ إلا يضربُ الملائكةُ وجهَهُ ودبُره
﴿ذلك﴾ التَّوفِّي الهائلُ ﴿بِأَنَّهُمْ﴾ أي بسببِ أنَّهم ﴿اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله﴾ من الكفرِ والمعاصِي ﴿وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ﴾ أي ما يرضاهُ من الإيمانِ والطاعةِ حيث كفُروا بعد الإيمانِ وخرجُوا عن الطاعةِ بما صنعُوا من المعاملةِ مع اليهودِ ﴿فَأَحْبَطَ﴾ لأجلِ ذلكَ ﴿أعمالهم﴾ التي عملوها حالَ إيمانِهم من الطاعاتِ أو بعد ذلك من أعمال البِرّ التي لو عملُوها حالَ الإيمانِ لا نتفعُوا بها
﴿أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ هم المنافقون الذين فُصِّلتْ أحوالُهم الشنيعةُ وُصفُوا بوصفِهم السابقِ لكونِه مدار لِما نُعِيَ عليهم بقولِه تعالى ﴿أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم﴾ فأمْ منقطعةٌ وإنْ مخففةٌ من أن وضمير الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ ولنْ بما في حيزها خبرها والأضعان جمع ضعن وهو الحقذ أي بل أحسبَ الذين في قلوبهم حقدا وعداوةٌ للمؤمنين أنه لنْ يخرجَ الله أحقادَهم
100
} ٣ ٣٠
ولن يبرزها لرسوله ﷺ وللمؤمنينَ فتبقى أمورُهم مستورةً والمعنى أنَّ ذلك مما لا يكادُ يدخلُ تحتَ الاحتمال
101
﴿ولو نشاء﴾ إرامتهم ﴿لأريناكهم﴾ لعرّفناكَهُم بدلائلَ تعرفُهم بأعيانِهم معرفةً متاخمةٌ للرؤيةِ والالتفات الى نون العغظمة لإبراز العناية بالإارءة ﴿فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم﴾ بعلامتهم التي نسِمهُم بها وعن أنسٌ رضيَ الله عنه ما خَفِيَ على رسولِ الله ﷺ بعد هذهِ الآيةِ شىءٌ من المنافقين كان يعرفُهم بسيماهم ولقد كنا في بعضِ الغزواتِ وفيها تسعةٌ من المنافين يشكُوهم الناسُ فناموا ذاتَ ليلةٍ وأصبحوا وعلى كلِّ واحدٍ منهم مكتوبٌ هذا منافقٌ واللامُ لامُ الجوابِ كُررتْ في المعطوفِ للتأكيدِ والفاءُ لترتيبِ المعرفةِ على الإراءةِ وأمَّا ما في قولِه تعالى ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول﴾ فلجوابِ قسمٍ محذوفٍ ولحنُ القولِ نحوُه وأسلوبُه أو إمالتُه إلى جهةِ تعريضٍ وتوريةٍ ومنه قيلَ للمُخطىءِ لاحنٌ لعدلِه بالكلامِ عن سمتِ الصوابِ ﴿والله يَعْلَمُ أعمالكم﴾ فيجازيكُم بحسب قصدِكم وهذا وعدٌ للمؤمنين وإيذانٌ بأنَّ حالَهم بخلافِ حالِ المنافقينَ
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم﴾ بالأمرِ بالجهادِ ونحوهِ من التكاليفِ الشاقةِ ﴿حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ على مشاقِّ الجهادِ علماً فعلياً يتعلقُ به الجزاءَ ﴿وَنَبْلُوَ أخباركم﴾ ما يخبرُ به عن أعمالِكم فيظهرُ حسنُها وقبيحُها وقُرِىءَ ويبلوَ بالياء وقُرِىءَ نبلُوْ بسكونِ الواو على ونحن نبلو
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ﴾ الناس ﴿عن سبيل الله وَشَاقُّواْ الرسول﴾ وعادَوه ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى﴾ بما شاهدُوا نعتَه عليه الصلاة والسلام في التوراة وبما ظهر على يديهِ من المعجزاتِ ونزلَ عليه من الآياتِ وهم قريظةُ والنضيرُ أو المطعمونَ يومَ بدرٍ ﴿لَن يَضُرُّواْ الله﴾ بكُفرِهم وصدِّهم ﴿شَيْئاً﴾ من الأشياءِ أو شيئا من الضرر أو لن يضرُّوا رسولَ الله ﷺ بمشاقَّتِه شيئاً وقد حُذفَ المضافُ لتعظيمِه وتفظيعِ مشاقَّته ﴿وَسَيُحْبِطُ أعمالهم﴾ أي مكايدَهُم التي نصبُوها في إبطالِ دينِه تعالى ومُشاقَّةِ رسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ فلا يصلونَ بَها إلى ما كانُوا يبغونَ من الغوائلِ ولا تُثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم﴾ بما أبطلَ به هؤلاءِ أعمالَهم من الكفرِ والنفاقِ والعُجبِ والرياءِ والمنِّ والأَذَى ونحوِها وليسَ فيه دليلٌ على إحباطِ الطاعاتِ بالكبائرِ
101
} ٨ ٣٤
102
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ﴾ حكمٌ يعمُّ كلَّ مَن ماتَ على الكُفر وإنْ صحَّ نزولُه في أصحابِ القَليبِ
﴿فَلاَ تَهِنُواْ﴾ أي لا تضعُفوا ﴿وَتَدْعُواْ إِلَى السلم﴾ أي ولا تدْعوا الكفارَ إلى الصلحِ خَوَراً فإنَّ ذلك إعطاءُ الدنيَّةِ ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً بإضمارِ أنْ على جوابِ النَّهي وقُرِىءَ ولا تدَّعُوا من أدعى القوم تَدَاعَوا نحوُ ارتَموا الصيدَ وترامواه ومنه تراءَوا الهلالَ فإنَّ صيغةَ التَّفاعلِ قد يُرادُ بها صدورُ الفعلِ عن المتعددِ من غير اعتبار وقوعِه عليه ومنه قولُه تعالى عَمَّ يَتَسَاءلُونَ على أحدِ الوجهينِ والفاءُ لترتيبِ النهْيِ على ما سبقَ من الأمرِ بالطَّاعةِ وقولُه تعالى ﴿وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ﴾ جملةٌ حاليةٌ مقررةٌ لمعنى النَّهي مؤكدةٌ لوجوبِ الانتهاءِ وكذا قولُه تعالى ﴿والله مَعَكُمْ﴾ فإنَّ كونَهمُ الأعلينَ وكونَهُ عزَّ وجلَّ ناصرَهُم من أَقْوى موجباتِ الاجتنابِ عمَّا يُوهم الذلَّ والضراعةَ وكذا نوفيته تعالى لأجور الأعمال حسبما يُعرب عنه قوله تعالى ﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم﴾ أيْ ولن يضيَّعها من وتَرتَ الرجلَ إذا قتلتَ له قتيلاً من ولدٍ أو أخٍ أو حميمٍ فأفردَتُه عنه من الوترِ الذي هُو الفردُ وعُبِّرَ عن تركِ الإثابةِ في مقابلةِ الأعمالِ بالوترِ الذي هو إضاعةُ شيءٍ معتدَ به من الأنفس والأموال مع أن الأعمالَ غيرُ موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة إبراز لغايةِ اللطفِ بتصويرِ الثوابِ بصورةِ الحقِّ المستحقِّ وتنزيلِ تركِ الإثابةِ منزلةَ إضاعةِ أعظمِ الحقوقِ وإتلافِها وقد مر في قوله تعالى فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ
﴿إنما الحياة الدنيا لعب ولهو﴾ لاثبات لها ولا اعتدادَ بها ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ أي ثوابَ إيمانِكم وتقواكم من الباقياتِ الصالحاتِ التي يتنافسُ فيها المتنافسونَ ﴿ولا يسألكم أموالكم﴾ بحيثُ يخلُّ أداؤُها بمعاشِكم وإنما اقتصرَ على نَزْرٍ يسيرٍ منَها هُو ربعُ العُشرِ تُؤدونَها إلى فقرائكم
﴿إن يسألكموها﴾ أي أموالَكم ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ أي يُجهدْكُم بطلبِ الكلِّ فإن الإحفاءَ والإلحافَ المبالغةُ وبلوغُ الغايةِ يقالُ أحفَى شاربَهُ إذا أشتأصله ﴿تَبْخَلُواْ﴾ فلا تُعطُوا ﴿وَيُخْرِجْ أضغانكم﴾ أي أحقادَكُم وضميرُ يُخرج لله تعالى ويعضدُه القِراءةُ بنونِ العظمةِ أو للبخل لأنه سبب الأضعان وقُرِىءَ يَخرجُ من الخروجِ بالياء والتاء مسند الى الأضعان
﴿ها أَنتُمْ هؤلاء﴾ أي أنتُم أيها المخاطبون
102
الفتح
﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
103
Icon