ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجراتسورة الحجرات مدنية قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ﴾ إلى قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ واتقوا الله إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ الآية.
روى سفيان عن الأعمش عن خيثمة قال: هل تقرؤون ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ إِلا وهي في التوراة " يا أيها المساكين ". فالمعنى: يا أيها
حكي عن العرب: فلان تقدم بين يدي إمامه؛ أي: تعجل الأمر والنهي دونه.
قال ابن عباس معناه: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
وعنه أنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه.
وقال مجاهد معناه: لا تفتاتوا على رسول الله ﷺ بشيء حتى يقضيه الله تعالى على لسان رسوله.
وقال الحسن: ذبح أناس من المسلمين قبل صلاة رسول الله ﷺ يوم النحر، فأمرهم النبي ﷺ أن يعيدوا ذبحاً آخر لتقدمهم.
ففي هذا دليل أنه لا يجوز أن يؤدى فرض قبل وقته.
قال الضحاك: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله: يعني بذلك في القتال، وما كان من أمر دينهم، لا يصلح لهم أن يتقدموا في أمر حتى يأمر فيه النبي ﷺ.
وروى ابن أبي مليكة: أن الآية نزلت في رأي، أشار به عمر على النبي ﷺ،
وقيل: نزلت في سبب كلام دار بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وذلك أن (وفداً من بني تميم) قدموا على النبي ﷺ، فقال له أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس، فقال له أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال له عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت هذه الآية في ذلك.
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ﴾.
أي: لا تسابقوه بالكلام وتغلظوا له في الخطاب.
﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾.
أي: لا تنادوه باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه، ولكن عظموه ووقروه ونادوه بأشرف ما يحب أن ينادى، قولوا: يا رسول الله، يا نبي الله. وهذا كله أمر من الله تعالى للمؤمنين بتعظيم النبي ﷺ وإجلاله، وهو مثل قوله: ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ [النور: ٦٣].
روي: أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال: أقسمت بالله ألا أكلم رسول الله
وقد كره جماعة من العلماء رفع الصوت عند قبر رسول الله ﷺ وبحضرة العلماء اتباعاً لأدب الله تعالى وتعظيماً لرسول الله بعد موته كما كان يحب في حياته، وتشريفاً للعلم، إذ العلماء ورثة الأنبياء.
وقد روى عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال: " ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف بعالمنا ".
وروي: أن هذه الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وكان
﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾.
أي: طهرها من كل دنس وجعل فيها التقوى. وثابت هذا هو الذي وقعت جويرية: أم المؤمنين في سهمه فكاتبته على نفسها.
قالت عائشة: فدخلت جويرية على النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عنك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس، وكاتبته عن نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي، فقال لها النبي ﷺ: فهل (لك خير) من ذلك، قالت: وما هو يا رسول الله، قال: أقض كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، فخرج الخبر في الناس أن رسول الله ﷺ تزوج جويرية، فقال الناس: أصهار رسول الله، فأرسلوا ما بأيديهم من الأسرى إجلالاً لرسول الله ﷺ.
ثم قال: ﴿أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾.
أي: مخافة أن تبطل أعمالكم وأنتم ﴿لاَ تَشْعُرُونَ﴾ أي: لا تعملون.
وقال الزجاج تقديره " لأن تحبط "، وهو عنده مثل ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٧] وسمى هذه اللام لام الصيرورة أي: التقطه ليصير أمرهم إلى ذلك؛ لأنهم قصدوا التصيّر إلى ذلك ولكنه في المقدر، وفيما سبقه من علم الله، فالمعنى لا ترفعوا أصواتكم فيكون ذلك سبباً لإبطال أعمالكم.
وفي قراءة عبد الله: " فَتَحْبَطَ أَعْمَالُكُم ".
ثم قال: ﴿إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله﴾ أي: يكفون
﴿ أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى﴾ (أي: اختبرها فاصطفاها) وأخلصها للتقوى كما يمتحن الذهِب بالنار فيخلص جيده ويبطل خبيثه.
قال مجاهد: اختبرها فوجدها خالصة للتقوى.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ: امتحنها للتقوى: أي: أذهب الشهوات منها.
ثم قال: ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي: لهم ستر وعفو من الله تعالى يوم القيامة، ولهم أجر عظيم: وهو الجنة والخلود فيها.
روي: أن هذه الآية: نزلت في قوم من الأعراب نادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته يا محمد أخرج إلينا.
وقيل: " هو الأقرع بن حابس نادى رسول الله ﷺ من وراء الحجرات وقال: يا محمد (إن مدحي زين وإن ذمي شين)، فقال النبي ﷺ: ذلك الله جل ذكره ".
وقوله: ﴿لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي: لا يعقلون أن فعلهم ذلك قبيح.
قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾.
أي: لو تركوا نداءك من وراء الحجرات، وصبروا حتى تخرج إليهم لكان ذلك عند الله خيراً لهم، لأن الله تعالى قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله غفور لمن ناداك وجهل أن تاب عن ذلك، رحيم به أن يعذبه بعد توبته /.
وقيل: بل غفر الله لهم فعلهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بفعلهم الاستخفاف
قال: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا﴾.
روي عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنها قالت: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قالت: بعث النبي ﷺ رجلاً في صدقات بني المصطلق، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون بذلك أمر رسول الله ﷺ، فحدثهم الشيطان أنهم يريدون قتله فرجع إلى (رسول الله ﷺ) وقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم، فغضب رسول الله ﷺ، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله ﷺ فخضعوا له حين [صلُّوا] الظهر، وقالوا: نعوذ بالله من سخط رسول الله، بعث
﴿يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ [فتبينوا أَن تُصِيبُواْ]﴾ الآية.
وكذلك قال ابن عباس ومجاهد وقتادة إلا أن مجاهداً قال: إنه الوليد قال للنبي ﷺ إنهم ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي ﷺ خالد بن الوليد وأمره أن يتبين ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فأتوه وأخبروه أنهم مستمسكون بالإسلام وسمع صلاتهم وآذانهم، فلما أصبحوا أتاهم (خالد فرأى) الذي يعجبه فرجع إلى النبي ﷺ وأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى الآية، فكان النبي ﷺ يقول: " التبيين من الله والعجلة من الشيطان ".
قال: ﴿واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ﴾.
أي: إعلموا أن نبي الله تعالى بين ظهركم فلا تقولوا الباطل فإن الله يخبره بأخباركم فلو أطاعكم رسول الله ﷺ فيما تقولون له لنالكم عنت وشدة ومشقة، لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد قوله في بني المصطلق إنهم ارتدوا ومنعوا الزكاة لغزاهم وأصابهم بالقتل والسباء وهم براء، فكنتم تقتلون وتسبون من لا يحل قتله ولا سباؤه، فيدخل عليكم الإثم والمشقة في إخراج الدّيات والعنت والفساد والهلاك.
ثم قال: ﴿ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان﴾ أي: وفقكم له وزينه في قلوبكم.
وقيل معناه: أمركم أن تحبوا الإيمان، وزينه في قلوبكم فأحببتموه وهذا قول مردود لأن الكفار قد أمرهم الله بمحبة الإيمان أيضاً، فلا فرق بين كافر ولا مؤمن في ذلك. وقيل معناه: فعل بكم أفاعيل تحبون معها الإيمان، وهي التوفيق.
﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان﴾ أي: فعل بكم أفاعيل كرهتم معها ذلك.
ثم قال: ﴿أولئك هُمُ الراشدون﴾ أي: هؤلاء الذين حبّب إليهم الإيمان وكرّه إليهم الكفر والكذب، وفعل ما نهاهم عنه هم السالكون طريق الحق.
قال: ﴿فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً﴾ أي: فعل ذلك بهم للفضل والنعمة، فانتهيا عند الزجاج على أنهما مفعولان من أجلهما.
ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: ذو علم بالمحسن منكم والمسيء /، ومن هو أهل الفضل والنعمة ممن لا يستحق ذلك ذو حكمة في تدبيره خلقه.
قال الزجاج قوله: ﴿وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾: معناه أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة، والآيات المعجزات.
ويجوز أن يكون زينه في قلوبهم بتوفيقه إياهم إلى طريقِ الحق في سبيل الرشاد.
طائفتان عند البصريين / رفع بفعلهم، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما.
وهما رفع بالابتداء عند الكوفيين، والخبر: اقتتلوا، وله نظائر (كثيرة في القرآن) وقد تقدم ذكرها، وسيأتي نظائرها فيما بعد إن شاء الله والمعنى: أصلحوا بينهما أيها المؤمنون بالدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله.
﴿فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله﴾.
أي: فإن أبت إحداهما الرضا بحكم الله تعالى وحكم رسوله فقاتلوا الفئة التي أبت وبغت حتى ترجع إلى أمر الله، فإن رجعت الباغية إلى حكم الله بعد قتالكم إياها،
وروي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلا في أمر تنازعا فيه.
وروي عن أنس أنه قال: قيل للنبي عليه السلام لو أتيت عبد الله بن أُبي، قال: فانطلق النبي ﷺ إليه وركب حماراً وانطلق معه المسلمون، فلما أتاه النبي ﷺ قال عبد الله المنافق: إليك عني، فوالله لقد آتاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحاً منك فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه فرد عليه وغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي
وقال السدي: كانت امرأة من الأنصار يقال: لها أم زيد تحت رجل من غيرهم فكان بينها وبين زوجها خصومة، فبلغ قومها فجاؤوا وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي [وبالنعال]، فبلغ ذلك النبي ﷺ فجاء ليصلح بينهم فنزل القرآن في ذلك.
وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما خصومة وكان أحدهما أكثر عشيرة من الآخر فأبى أن يحاكمه إلى النبي ﷺ فتدافعا وتقاتلا بالأيدي والنعال فنزلت الآية فيهما.
[أي: أعدلوا في حكمكم بينهم إن الله يحب المقسطين] العادلين في أحكامهم.
يقال قسط الرجل: إذا جار، وأقسط إذا عدل.
قال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ﴾.
أي: إنما المؤمنون إخوة في الدين فأصْلِحوا بينهم إذا اقتتِلوا بأن تحملهم على حكم كتاب الله تعالى.
﴿ واتقوا الله﴾ أي: وخافوه في حكمكم فلا تحيفوا.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي: افعلوا ذلك ليرحمكم ربكم.
قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ﴾.
أي: لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين لعل (المستهزئ منه خير من الهازئ)، وكذلك النساء.
" وقوم " في كلام العرب يقع للمذكرين خاصة، ويجوز أن يكون فيهم نساء على المجاز.
فقوم عنده جمع قائم " كَزائِرٍ وزُوَر، وصَائِم وصَوْم، ونَائِم ونَوم ".
وقيل: سميت الجماعة قوماً لأنهم يقومون مع داعيهم في النوائب والشدائد ومثل ذلك قولهم لقوم الرجل نفره، فهو جمع نافِر؛ لأنهم ينفرون معه إذا استنفرهم، قال مجاهد: لا يسخر قوم من قوم هو سخرية الغني بالفقير لفقره، ولعل الفقير أفضل عند الله من الغني.
وقال ابن زيد: معناه لا يسخر من ستر الله على ذنوبه ممن (كشف الله سبحانه) في الدنيا ستره، لعل ما أظهر الله تعالى على هذا في الدنيا خير له في الآخرة من أن يسترها عليه في الدنيا، فلست أيها الهازئ على يقين أنك أفضل منه بستر الله تعالى عليك في الدنيا هذا معنى قوله.
ثم قال: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ / أي: لا يطعن بعضكم على بعض.
وقال: أنفسكم لأن المؤمنين كرجل واحد.
قال النبي ﷺ: " إنما المؤمنون كالجسد الواحد غذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالحمى والسهر ".
يقال: " لَمَزهُ يَلْمِزُهُ وَيَلْمِزُهُ لُمزاً إِذَا عَابَهُ وَتَنَقَّمَهُ ".
قال علي بن سليمان: اللمز الطعن على الإنسان بالحضرة، والهمز في الغيبة.
قال المبرد: اللمز يكون باللسان، والعين (تعيبه وتجدد) إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلا باللسان في الحضرة والغيبة وأكثر ما يكون في
قال الطبري: النبز واللقب واحد.
قال الضحاك: نزلت هذه الآية في بني سلمة قدم النبي ﷺ المدينة وما منهم رجل إلا وله إسمان وثلاثة، فكان إذا دعي الرجل بالاسم قالوا إنه يغضب من هذا، فنزلت ﴿وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب﴾.
وقيل معناه: قول الرجل للرجل يا فاسق يا زاني، يا كافر يا منافق قاله عكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد.
وقال الحسن: هو اليهودي والنصراني يسلمان فنهي أن يقال لهما يا يهودي يا نصراني بعد إسلامه.
وقيل: هو دعاء الرجل للرجل بما يكره من إسم أو صفة أو لقب، وهذا قول جامع لما تقدم.
ثم قال: ﴿بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان﴾.
أي: من فعل هذا الذي نهي عنه فسخر من أخيه المؤمن ونبزه بالألقاب فهو فاسق.
وبين الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا أن تسموا فساقاً، ففي الكلام حذف وتقديره ما ذكرنا.
وقال ابن زيد: معناه بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته.
ثم قال: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾.
أي: ومن لم يتب عن نبزه أخاه وسخريته منه فهو ظالم نفسه.
قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ﴾.
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " إياكم والظن فإنه أكذب الحديث فلا ينبغي لأحد أن يظن شراً بمن ظاهره حسن، ولا بأس أن نظن شراً بمن ظاهره قبيح ".
قال مجاهد: خذوا ما ظهر واتركوا ما ستره الله تعالى.
ثم قال: ﴿وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾.
أي: ولا يتبع بعضكم عورة بعض، فيبحث عن سرائره ليطلع على عيوبه. قال ابن عباس: نهى الله تعالى المؤمن أن يتبع عورات المؤمن.
والتجسس والتحسس (سواء في اللغة).
وقوله: ﴿وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً﴾.
أي: لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره أن يقال له في وجهه، وسأل النبي ﷺ عن الغيبة فقال: " هو أن تقول لأخيك ما فيه، فإن كنت صادقاً فقد اغتبته، وإن كنت كاذباً فقد بهته ".
قال مسروق: إذا ذكرت الرجل بأسوأ ما فيه فقد اغتبته، وإن ذكرته بما ليس
قال الحسن: الغيبة أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرت بما ليس فيه فذلك البهتان.
قال ابن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشر سواد شعره ثم قلته من ورائه فقد اغتبته.
وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبي ﷺ في امرأة: ما أطول ذراعها، فقال: قد اغتبتها فاستحلي منها.
وروى جابر أن النبي ﷺ قال: " الغيبة أشد من الزنا لأن الرجل يزني فيتوب الله عليه، [والرجل يغتاب الرجل فيتوب، فلا يتاب عليه حتى يستحله] ".
ثم قال: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً﴾.
قال ابن عباس: معناه كما أنت كاره أكل لحم الميتة المدودة فاكره غيبة أخيك كذلك، فأكل الميتة حرتم في الشريعة مكروه في النفوس مستقذر فضرب الله مثلاً للغيبة، فجعل المغتاب كآكل لحم / الميتة.
والعرب تقول: ألحمتك فلاناً: أي: أمكنتك من عرضه.
وقوله: ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.
[أتى] بالماضي على تقدير فقد كرهتموه، ففيه معنى الأمر، ودل على ذلك قوله: ﴿واتقوا الله﴾ عطف عليه وهو أمر.
وقال الكسائي: فكرهتموه معناه: فينبغي أن تكرهوه.
قال المبرد: معناه فكرهتم أن تأكلوه.
ثم قال: ﴿واتقوا الله إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾.
أي: وخافوا الله أن تقدموا على فعل ما نهاكم عنه من الظن السوء وتتبع عورات المسلم والتجسس على ما خفي عنك باغتياب أخيك المسلم وغير ذلك مما
قوله: ﴿يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى﴾.
أي: خلقناكم من آدم وحواء، يعني من ماء ذكر وماء أنثى.
قال مجاهد: خلق الله تعالى الولد من ماء الرجل وماء المرأة.
ثم قال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا﴾.
أي: وجعلناكم متناسبين يناسب بعضكم بعضاً فيعرف بعضكم بعضاً، فيقال فلان ابن فلان من بني فلان فيعرف قرب نسبه من بعده فالأفخاذ أقرب [من القبائل والقبائل أقرب] من الشعوب.
قال مجاهد: شعوباً هو النسب البعيد، والقبائل دون ذلك.
قال ابن عباس: الشعوب الجماع، والقبائل البطون.
وقال ابن جبير: الشعوب الجمهور، والقبائل الأفخاذ.
وواحد الشعوب شعب بالفتح، والشعب عند أهل اللغة: الجمهور مثل مضر تقسمت وتفرقت، ثم يليه القبيلة لأنها يقابل بعضها بعضاً، ثم العمارة ثم البطن ثم الفخذ وهو أقربها.
وقيل: إن الشعوب الموالي، والقبائل العرب.
ثم قال: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ﴾.
أي: أفضلكم عند الله أتقاكم لارتكاب ما نهى الله سبحانه عنه، وأعمالكم لما
قال النبي ﷺ وقد سأل عن غير الناس فقال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم وأتقاهم ".
قال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إنا جعلنا نسباً وجعلتم نسباً إن أكرمكم عند الله أتقاكم ليقم المتقون، فلا يقوم إلا من كان كذلك.
وعن النبي ﷺ أنه قال: " أخير الناس من طال عمره وحسن عمله ".
وروي عن ابن عباس أنه قرأ: " لتعرفوا أن أكرمكم عند الله بفتح " أن "
وكسر " أن " أولى وأتم في المعنى المقصود إليه بالآية.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
أي: ذو علم، بأتقاكم عنده وأكرمكم، وذو خبر بكم وبمصالحكم.
أي: قالت جماعة الأعراب صدقنا بالله وبرسوله، قل لهم يا محمد لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا وخضعنا وتذللنا.
والإسلام في اللغة الخضوع والتذلل لأمر الله جل ذكره والتسليم له.
والإيمان: التصديق بكل ما جاء من عند الله.
وللإسلام موضع آخر وهو الاستسلام خوف القتل، قد يقع الإسلام بمعنى الإيمان وقد يكون بمعنى الاستسلام. والإيمان والإسلام يتعرفان على وجهين إيمان ظاهر/ لا باطن معه نحو قوله: ﴿وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨] وإيمان باطن وظاهر وهو المتقبل، وإسلام ظاهر لا باطن معه كالذي في هذه السورة.
والإسلام أعم من الإيمان لأن الإسلام ما صدق به باطن [ونطق به الظاهر والإيمان ما صدق به الباطن]، فإن كان الإسلام ظاهراً غير باطن فليس بإيمان إنما هو استسلام ولا هو إسلام صحيح.
وهذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد، وهم من المؤلفة قلوبهم أسلموا
فرد الله عليهم قولهم " آمنا " إذ لم يصدقوه بقلوبهم، وقال بل قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا في الظاهر خوف القتل، فالإسلام / قول، والإيمان قول وعمل.
قال الزهري: الإسلام قول والإيمان عمل.
قال ابن زيد قوله: ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ﴾ أي: لم تصدقوا قولكم بعملكم.
ثم أخبر تعالى بصفة المؤمنين فقال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ﴾.
قال النخعي: ولكن قولوا أسلمنا: أي: استسلمنا.
وعن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا فأعلمهم الله تعالى أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين.
وقال قتادة: لم تعم هذه الآية كل الأعراب، بل فيهم المؤمنون حقاً، إنما نزلت في حي من أحياء العرب امتنوا بإسلامهم على نبي الله فقالوا آمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
أي: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان وحقائقه في قلوبكم، وهو نفي قد دخل.
ثم قال: ﴿وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً﴾.
أي: إن أطعتم الله ورسوله فيما تؤمرون به لا ينقصكم الله (من ثواب أعمالكم شيئاً في الآخرة) ولا يظلمكم.
قال ابن زيد معناه: " إن تصدقوا قلوبكم بفعلكم يقبل ذلك منكم، وتجازوا
يقال: أَلَتَهُ ويَأَلِتْهُ وَلآتَهُ يَلِيتُه لغتان بمعنى: نَقَصَه، فمن قرأ " لاَ يَلِتْكُمْ " فهو من لاَتَ يَلِيتَ، وتصديقها في المصحف أنها بغير ألف بعد الياء، ولو كانت همزة لم تختصر من الخط.
ومن قرأ " يَاْلِتْكُمْ " فهو من أَلَتَ يَأْلِتُ.
فأما قوله: ﴿وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم﴾ [الطور: ٢١] فهو من أَلَتَ يَأْلَتُ، (ولو جاء على اللغة) الأخرى لقيل، وما أَلَتْنَاهُمْ. وهذه لغة هذيل.
وبذلك قرأ ابن مسعود وأُبي، وهذه القراءة شاهدة لقراءة من قرأ هنا
ثم قال في موضع آخر: ﴿فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، فهذا من أمثال، يقال أَمْلَى عليه وَأَمَال عَلَيْه: لغتان، ومثله قوله: ﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً﴾ [النساء: ٥٥] فهذا من أمليت.
وقال في موضع آخر ﴿ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ﴾ [الحاقة: ٣١] فهذا من صليت.
ومثله قوله: ﴿كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق﴾ [العنكبوت: ١٨] من أبدأ، وقال: ﴿كَيْفَ بَدَأَ الخلق﴾ [العنكبوت: ١٩] من بدأته، يقال: أَبْدَأَهُ وَبَدَأَهُ لغتان.
ثم قال: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾.
أي: صدقوا بما أنزل الله، وبرسول الله بقلوبهم، وأقروا به بألسنتهم، وقبلوا ما أمروا به، وانتهوا عما نهوا عنه، ثم لم يُشكوا في ذلك.
﴿وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون﴾ أي: هم الذين صدقوا في قولهم / إنا مؤمنون.
قال: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ﴾ أي: أتعلمونه بطاعتكم وما أضمرت قلوبكم، وهو يعلم ما غاب عنكم في السماوات والأرض.
لا يخفى عليه شيء من ذلك، فكيف يخفى ما تخفي صدوركم.
﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي: ذو علم بجميع الأشياء.
قال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ﴾.
أي: يمنون عليك يا محمد بإسلامهم، قل لهم: لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم بهدايته لكم إلى الإيمان، ولولا توفيقه لكم ما أسلمتم، فالمنة له لا إله إلا هو إن كنتم صادقين في قولكم (أنكم آمنتم)، فالمنة في ذلك عليكم لله تعالى، ولا منة لكم على الله، وذلك " أن النبي ﷺ كان يفضل المهاجرين بالعطاء ليستألفهم على
قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض﴾ أي: يعلم ما غاب فيها لا يخفى عليه [شيء]، فهو يعلم الصادق منكم من الكاذب في دعواه، فلا يخفى عليه ما تكنه صدوركم.