تفسير سورة الأعراف

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها إلا بضع آيات منها. وهي تتضمن فيضا من المعاني والمشاهد والقصص والأحكام. والسورة مبدوءة بثلاثة أحرف مقطعة. وهي من جملة فواتح السور التي تندرج في تطاق متشابه من القرآن والتي لا تقف على حقيقة المراد منها سوى الله، وإن قيل في تأويله ما قبل.
ويأمره الله عباده باتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وينهاهم في الوقت نفسه عن اتباع غير الله من الشركاء أو الآلهة المصطنعة كالأوثان والأصنام وغير ذلك من صور الآلهة المزيفة المفتراة.
ويحذر الله عباده أيضا عاقبة الإعراض عن دينه، فلئن لم يؤمنوا وظلوا مستنكفين سادرين في ضلالهم وعدوانهم على دين الله ؛ فإنهم يوشك أن يحيق بهم ما حاق بالأمم الغابرة ؛ إذ جاءهم من الله العذاب فدمرهم بسبب ظلمهم وعدوانهم على أنبياء الله. وذلك غير ما ينتظر هؤلاء الظالمين المضلين من عذاب الله بئيس يوم القيامة، يوم يضع الله الموازين الحق ليناقشوا الحساب.
وفي السورة بيان عن قصة إبليس الذي أعرض وتمرد وفسق عن أمر أمر الله فأبى أن يسجد لآدم. ثم أمر الله آدم وزوجه أن يسكنا الجنة ويأكلا مما شاءا منها باستثناء شجرة معلومة لهما، لكنهما قد أضلهما إبليس بعد أن خاض معها جولة من الجدال والتغرير والخادع حتى أغواهما فأكلا منها. ثم أمرهم الله جميعا بالهبوط إلى الأرض ليحيوا حياتهم الدنيا إلى أجل معلوم، وليفعل إبليس وجنوده فعلتهم الطاغية الملعونة في الفتنة والإفساد حتى إذا قامت الساعة سيق إبليس وجنوده وأتباعه من شياطين الإنس والجن فكبكبوا جميعا في النار. من أجل ذلك، ها هو القرآن الحكيم ما زال يهتف بالبشرية في كل آن لكي تحاذر فتنة إبليس وجنوده من شياطين الجن والإنس وأن تبوء إلى الله القادر الحكيم باتباع منهجه القويم فلا تزيغ عنه ولا تنثني.
وفي السورة ما يكشف عن طبيعة الإسلام القائم على الاعتدال والتوسط والمراعاة الكاملة للفطرة البشرية. ومن جملة الأدلة على هذه الحقيقة : إباحة الزينة بكل صورها وأنواعها، وإباحة الأكل والشرب مما يستلذه الإنسان ويستطيب شريطة مجانية الإسراف في ذلك كله ؛ أي اجتناب ما فيه عصيان لله، أو ما حرمه الشارع الحكيم.
وفي السورة تصوير مريع لحال الكافرين الضالين، والأشقاء الظالمين من الإنس والجن وهم يتقاحمون في النار بعضهم إثر بضع. وما تهوي أمة من الأمم في جهنم حتى تلعن أختها التي سبقتها فما من أمة من الأمم تهوي في النار إلا ويحيق بها اللعن من أمة أخرى، حتى إذا اجتمعوا في النار جميعا أخذوا في التقريع فيما بينهم ؛ إذ توبيخ كل أمة غيرها من الأمم، فيزجر الضعفاء الأقوياء ؛ لأنهم أغووهم وأضلوهم، ثم يرد الأقوياء مقالتهم ليرجعوا إليهم التوبيخ والتعنيف والانتهار مما يزيدهم لوعة واستحسارا وتلك حال الذين كفروا في النار سواء فيهم الضالون والمضلون ؛ فهم جميعا مصبورون في النار يجدون من أوان العذاب المفظع ما لا تحتمله الرواسي الشم.
وفي السورة تيئيس للكافرين الظالمين من كل رحمة فهم مبعدون غاية من الخير كيلا يجدوا من المال غير الخزي والهوان في هذه الدنيا، وهم في الآخرة محرمون من جنات الله ؛ إذ لا أمل لهم البتة يدخلوها إلا بمقدار ما يتخيله الذهن من ولج الجمل في اسم الخياط !
ويقص علينا القرآن في هذه السورة حال أصحاب الجنة في النعيم المقيم، وحال أصحاب النار في العذاب الحارق المستديم. يوم يصطرخ الكافرون في النار وهم ينادون أهل الجنة عسى أن يسكبوا علهم شيئا من الماء فيبردون به أو يخفف عنهم من حرارة اللهب أو يطفئ فيهم بعض الظمأ والغلة.
وتعرض السورة لبعض الحقائق الكونية الني يقررها القرآن بأسلوبه المميز كخلق السموات والأرض في سنة أيان وما عقب ذلك الاستواء على العرش. وكذلك الإخبار عن بعض من حقائق الفلك والطبيعة كالليل والنهار والشمس والقمر والنجوم والرياح والمطر مما لم يكن في حسبان الأولين عند نزول القرآن.
ويقص علينا القرآن من أخبار الأمم السالفة الذين عتوا من أمر ربهم وعصوا أنبياءهم فأخذهم الله بالعذاب الشديد في هذه الدنيا. فهؤلاء قوم نوح أخدهم الله بالطوفان الهادر بعد أن طغوا واستكبروا واستيأس منهم نوح. ثم قوم عاد أصحاب هو دمر الله عليهم بالريح الصرصر العاتية. ثم قوم صالح الذين عقروا ناقة الله فجزاهم الله بالصيحة والرجفة تأتي عليهم لتذرهم صفصفا بياتا. ثم قوم لوط الذين فعلوا الفاحشة النكراء مما لم يسبقهم إلى مثله أحد في العالمين، فجعل الله عاليهم سافلهم وأمطرهم بعد ذلك بالحاجرة زيادة لهم في العذاب والنكل. ثم قوم مدين الذين نصح لهم شعيب وحذرهم الفساد والغش والخيانة في الكيل والميزان فعصوا واستكبروا فأخذهم الله بالصيحة والرجفة فزهقت أرواحهم وتبددت أجسامهم تبديدا.
وأخيرا تقص علينا السورة من أخبار بني إسرائيل ونبيهم موسى عليه السلام، إذ أرسله الله إلى فرعون فأبي وطغي ثم أراه موسى الآية الكبرى الدالة على صدق نبوته لكنه مع ذلك استكبر وتجبر، ثم حشر الناس والسحرة ليواجهوا بسحرهم معجزة موسى، فهزم موسى السحرة، ثم أعلنوا إيمانهم وتصديقهم بمعجزة السماء فتوعدهم فرعون بالتنكيل، لكنهم ثبتوا على الحق وصبروا على ظلم فرعون وزبانيته، ثم جمع فرعون جنوده ليلحق بموسى وبني إسرائيل لينكل بهم تنكيلا. فيمم موسى ومعه بنو إسرائيل صوب البحر فضربه موسى بعصاه فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقا يبسا ممهدا للمشي فيه والمسير.
وتقص علينا السورة كانت مجاوزة بني إسرائيل البحر ليجدوا قوما مشركين يعكفون على أصنام لهم فمالت إلى مثله نفوسهم لولا أن زجرهم موسى زجرا. ثم ذهب وموسى لميقات ربه ليتلقى منه التوراة والأحكام والمواعظ، وليبتهل إليه بالدعاء والذكر، وكان قد استخلف أخاه هارون في قومه ليقودهم ويرشدهم في غيابه لكنهم سرعان ما جنحت نفوسهم لعبادة المحسوس فأبوا إلا أن يصطنعوا لأنفسهم من الحلي عجلا لعبادته بما يكشف عن طبيعة القوم. هذه الطبيعة العجيبة الغائرة في الالتواء والخور.
ثم تقص علينا السورة من أنباء إسرائيل عن القرية التي كانت حاضرة البحر ( أيلة ) إذ احتال أهلها على ملتهم التي حرمت عليهم الاصطياد في السبت لكنهم استحلوا ما حرم الله عليهم فعله باحتيالهم المكشوف الفاضح فجزاهم الله بفعلتهم هذه خزي المسخ إلى قردة وخنازير ! ! لا جرم أنه الخزي والشنار أصاب هؤلاء الأشقياء ليظل التاريخ والكتب مستغرقة في الحديث عنه طيلة الدهر إلى قيام الساعة.

البيان التفصيلي للسورة
بسم الله الرحمان الرحيم
قوله تعالى :﴿ المص ١ كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ٢ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ٣ ﴾.
كتاب، خبر للمبتدأ ﴿ المص ﴾ وقيل : خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذا كتاب١، والمراد بالكتاب القرآن. والمخاطب في الآية هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى : أن الله أنزل إليك القرآن يا محمد لتقوم بتبليغه للناس ﴿ فلا تكن في صدرك حرج منه ﴾ أي لا تتحرج من إبلاغه للناس ولا تكن في ضيق من إعراضهم وصدهم عنه بل اصبر كما صبر أولو اعزم من الرسل.
قوله :﴿ لتنذر به وذكرى للمؤمنين ﴾ أي أنزلنا هذا الكتاب إليك يا محمد لتنذر به الناس فيكون لهم نذيرا يخوفهم العذاب في الدنيا والآخرة. وهو كذلك ذكرى للمؤمنين. أي أنه تذكير لهم لقبلوا على الله بفعل الطاعات والانزجار عن إتيان المعاصي.
١ البيان لابن الأتباري جـ ١ ص ٣٥٣..
قوله :﴿ اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ﴾ الخطاب للناس كافة. والاسم الموصول ﴿ ما ﴾ يراد به الكتاب الحكيم المنزل على النبي الأمين. وهذه دعوة واضحة عالية من الله للناس أن يتبعوا ما جاءهم به الرسول من عند الله ليمضوا في حياتهم على منهج الله دون غيره من المناهج الضالة المختلفة. ولذلك قال :﴿ ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾ والأولياء هم الشياطين والكهان والعتاة المفسدون من البشر الأشرار الذين يضلون الناس عن سبيل الله ويفتنونهم عن الصواب وعن الصراط المستقيم.
قوله :﴿ قليلا ما تذكرون ﴾ قليلا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، والتقدير : تذكرون تذكرا قليلا. وما زائدة١ والمعنى : أنكم قليلا ما تعتبروا أو تتعظون، فها أنتم لا تتأثرون بالآيات والدلائل ولا تفيئون إلى الحق والصواب بل تتبعون غيره من سبل الضلال والباطل.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٤..
قوله تعالى :﴿ وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون. فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾.
كم، خبرية للتكثير في محل رفع مبتدأ. خبره ﴿ فجاءها بأسنا ﴾ بياتا. منصوب على المصدر في موضع الحال. وهم قائلون جملة اسمية في نحل نصب حال من أهل القرية١.
ذلك تخويف من الله لهؤلاء الضالين المشركين. وفيه تذكير بالذل حل بالأمم السابقة من التدمير والتنكيل لفسقهم وإعراضهم عن دعوة الله وتكذيبهم رسل الله فقد جاءهم عذاب الله ﴿ بيانا ﴾ أي ليلا وهم نائمون ﴿ أو هم قائلون ﴾ أي نهارا في وقت القائلة أو القيلولة وهي منتصف النهار ؛ أي أن عذاب الله قد جاءهم وهم في غفلة من السهر والراحة أما ليلا أو نهارا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٤..
قوله :﴿ فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين ﴾ البأس من الله، عذابه وتنكيله بالظالمين المعرضين عن دينه. ودعواهم بمعنى الدعاء منهم والاستغفار. وفي وجه آخر للدعوي على أنها الادعاء. والمراد به هنا الدعاء. والمعنى : أنه ما كان دعاء أهل القرية أو استغاثتهم حين نزل بهم العذاب إلا اعترافهم على أنفسهم أنهم كانوا آثمين خاطئين، ولأنفسهم مسيئين مهلكين. فكان اعترافهم بذلك على سبيل الشعور بالحسرة والندامة ؛ إذ يطمعون أن يغفر الله لهم ما سلف من الذنوب والإعراض عن سبيل الله. وهيهات هيهات لما يتمنون أو يرجون.
قوله تعالى :﴿ فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ٦ فلنقص عليهم بعلم وما كنا غائبين ٧ والوزن يومئذ الحق فمن ثقلا موازينه فأولئك هم المفلحون ٨ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾.
الفاء في قوله :﴿ فلنسألن ﴾ لترتيب الأحوال الأخوية على الأحوال الدنيوية واللام لام القسم. والذين أرسل إليهم يعني الأمة. والمراد بالمرسلين الرسل الذين بعضهم الله لدعوة العباد إلى عقيدة التوحيد١.
و تتضمن الآية وعيدا للكافرين وتوبيخا على ما فرطوا في حق الله، ومن أجل عصيانهم النبيين ومجانبتهم دعوة الله ؛ فلسوف يسأل الله الأمم عما أجابوا به رسلهم لما دعوهم إلى دنيه، دين الحق والعدل والتوحيد. وكذلك فإن الله يسأل النبيين المرسلين الذين بعثهم الله للناس، هل بلغوا ما أرسلوا به وماذا أجابهم به قومهم. وذلك كله على سبيل التوعد والتخويف للكافرين مع أنه معلوم أن الله يعلم جواب كل من الفريقين قبل أن يجيب، ويعلم الحقيقة قبل أن يقولها لكل من الفريقين. لكن هذه المساءلة يوم القيامة لهي زيادة في التخويف والتعنيف والتنكيل بالعصاة الذين ظلموا أنفسهم في الدنيا وظلموا غيرهم من الناس.
١ روح المعاني جـ ٨ ص ٨١..
قوله :﴿ فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين ﴾ أي أن الله يخبر الجميع يقين، كتاب أعمال الذين أرسل إليهم فهي لا تخفي عليه وهو عليم بها كامل العلم، فيكشفها على الملأ لتراها الخلائق جميعا، زيادة في الافتضاح والتنكيل.
قوله :﴿ والوزن يومئذ الحق ﴾ الوزن مبتدأ مرفوع. ويومئذ خبره. والحق صفة للمبتدأ ( الوزن ) وقيل : خبر للوزن. ويومئذ ظرف للوزن١.
والمراد بالوزن، وزن أعمال العبد. وإنما يكون ذلك بالحق وهو العدل. وقيل : الوزن مصدر ؛ إذ تقول : وزنت كذا أزنه وزنا وزنة. ومعناه بذلك : أن الوزن يوم القيامة الحق وهو العدل.
قوله :﴿ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ﴾ الموازين جمع ميزان، وهو المعروف والذي يوزن به. فيكون المعنى : أن الموازين تتقل بثقل ما يوضع فيها تبعا لحال الموزون له. فالمؤمن تثقل حسناته على سيئاته. وعكسه الفاسق فإنه تثقل سيئاته على حسناته. وقيل : الموازين جمع موزون ؛ فيكون المراد بالموازي الحسنات. فمن كثرت حسناته ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بالنجاة والثواب الذين ظفروا بالخلود في جنات الله.
١ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٤..
وفي المقابل أولئك الذين تخف حسناتهم فثقل عليها سيئاتهم ﴿ فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ﴾ أي أوردوا أنفسهم العذاب في النار بسبب جحودهم آيات الله وهي حججه ودلائله ؛ فقد كذبوا بها تكذيبا.
قوله تعالى :﴿ ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون ١٠ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ يذكر الله عباده بما أسبغ عليهم من النعم. ومنها : تمكنهم في الأرض ؛ إذ جعل لهم فيها مكانا مستقرا وهيأ لهم فيها كل أسباب المعايش وهي جمع معيشة أي ما يعيشون به من المطاعم والمشارب. فالأرض ممهدة للعيش فيها والاستقرار لكنهم قليلو الذكر والشكران ﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ قليلا منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. أي تشكرون شكرا قليلا. وما، زائدة، والمعنى : أنكم قليلا ما تشكرون الله على ما أنعمه عليكم من النعم الكثيرة.
وقوله :﴿ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ﴾ والمراد بقوله :﴿ وخلقناكم ﴾ آدم ؛ فهو المخلوق.
وقوله :﴿ صورناكم ﴾ أي ذرية آدم، وحقيقة ذلك : أن آدم خلق من طين ثم صور وأكرم بالسجود. أما ذريته فقد صوروا في أرحام الأمهات بعد أن خلقوا فيها وفي أصرب الآباء.
قوله :﴿ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ﴾ أي لما صورنا آدم وجعلناه خلقا سويا ونفخنا فيه من روحنا، أمرنا الملائكة بالسجود له، ابتلاء واختبارا لهم بهذا الأمر كي يستنبن الطائع منهم من العاصي، فسجدوا كلهم باستثناء إبليس فإنه لم يكن من الساجدين لآدم. على أن المراد بالسجود هو تعظيم آدم وليس نفس السجدة. وقيل : المراد نفس السجدة لكن المسجود له هو الله. وقيل : بل إن المسجود له هو آدم.
قوله تعالى :﴿ قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ ما استفهامية في موضع رفع مبتدأ.
والجملة الفعلية من ﴿ منعك ﴾ في محل رفع خبر المبتدأ. وألا، في موضع نصب مفعول منعك. ولا زائدة. والتقدير : ما منعك أن تسجد. وإذ، ظرف زمان١ وهذه الآية مما استدل به كثير من الأصوليين على أن الأمر المطلق يفيد الوجوب على الفور ؛ لأن الله ذم إبليس على ترك المبادرة. ولو لم يكن الأمر للفور لما استحق إبليس الذم على التأخير، ولكان له أن يقول : إنك لمن تأمرني بمبادرة السجود على الفور. وقد خاطب الله هذا المخلوق الشقي محتقرا إياه، وتقدير ذلك أنه : أي شيء منعك من السجود لآدم إذ أمرتك بالسجود له ؟ وذلك أن إبليس كائن غريب يختلف اختلافا أساسيا عن سائر الكائنات الأخرى، فغنه هو وجنوده من شياطين الجن ذوو جبلة مستعصية، فطرت على الخبث والنزوع للشر والفسق.
ذلك هو إبليس وجنوده من شياطين الجن. إنهم لا أمل ف هدايتهم البتة ؛ لأنهم أولو طبائع خاوية شريرة، محفلة بالعتو والجحود، غاية في الالتواء والشذوذ.
وهم إنما يجنحون بطبيعتهم في كل آن للإفساد والتضليل والإغواء.
ومما يدل على هذه الحقيقة الراسخة، ما أجاب به إبليس اللعين ؛ ربه إذا قال ﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ ومثل هذا الجواب لا يصدر إلا عن كائن لئيم مقبوح، جبل على الشر والباطل. ومن يجترئ على مثل هذا الجواب اللئيم المتوقح العاتي لرب العالمين إلا كائن لعين أثيم كإبليس ينطق بهذه المقولة في وقاحة لا تبلغها وقاحة الأشرار والعتاة إلا في مثل إبليس الرجيم.
قوله :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ ذلك اجتراء فاضح من إبليس على ربه، إذ يقول في اغترار جهول أحمق إنه أفضل من آدم ؛ لأنه مخلوق من نار لكن آدم خلق من طين. والنار أشرف من الطين وهو قياس فاسد وسخيف يتعلل به هذا الكائن الشقي أمام حضرة الإلهية. والله جل وعلا حقيق بامتثال لأمره دون تردد، وخليق أن تخر له الجباه والنواصي وتخشع لجلاله وجبروته القلوب الأشر٢ من إبليس بتفضيل النار على الطين مع أنهما كليهما مخلوق لله. بل إنهما معا من جملة المخاليق التي تسبح بحمد الله على الدوام فلا تفتر.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٥، ٣٥٦..
٢ الأشر: المستكبر، البطر. انظر المعجم الوسيط جـ ١ص ١٩..
قوله تعالى :﴿ قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ١٣ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ١٤ قال إنك من المنظرين ﴾.
الفاء في قوله :﴿ فاهبط ﴾ لترتيب الأمر بالهبوط على ما حصل منه عصيان ومخالفة لأمر الله. والهبوط معناه النزول والانحدار١ والضمير في قوله :﴿ منها ﴾ يراد به الجنة ؛ فقد طرد الله منها إبليس لينحدر إلى الأرض صاغرا ذليلا، فإن الجنة بنعيمها الدائم ورخائها الناعم الرخي الكريم لا يستحقه العصاة المستكبرون، فكيف إن كان العاصي إبليس. هذا المخلوق المنكود الظلوم الذي عتا عتوا يدنو دونه العتاة والظالمون جميعا ؟ !
وقيل : يراد بالضمير السماء ؛ أي أمره الله بالنزول من السماء لينحدر منها خاسئا طريدا إلى الأرض ؛ فإن المكث في السماء لا يليق بغير الملائكة الأطهار الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. لكن واحدا لئيما خسيسا كإبليس ما بقي له في الميزان الحق والعدل شيء من كرامة أو اعتبار أو رحمة، إلا اللعن والإبعاد إلى الأرض ليضل فيها فتاتا غرورا شريرا حتى يجد جزاءه الفظيع يوم القيامة. وهذا مقتضى قوله :﴿ فاخرج إنك من الصاغرين ﴾ وهو تأكيد للأمر بالهبوط ؛ فقد أمره الله بالخروج منحدرا إلى الأرض تغشاه مذلة الصغار والتوبيخ والهوان لتفريطه ونكوله عن أمر الله.
١ مختار الصحاح ص ٦٨٩..
قوله :﴿ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ سأل إبليس ربه أن يمهله ولا يميته ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ والمراد في ظاهر الآية : أنه يوم البعث الذي يبعث الله فيه ذرية آدم من الموت وذلك بعد النفخة الثانية هكذا طلب إبليس. لكن الله ما أمهله إلى يوم النفخة الثانية حيث البعث بل أمهله إلى يوم النفخة الأولى حيث الموت والفناء. وقد سأل إبليس ذلك ليجد لنفسه من الفسحة ما يستطيع خلالها إشفاء غليله بإغواء بني آدم وتضليلهم فيفسقون عن أمر الله فيكون بذلك قد أخذ لنفسه الثأر من آدم وذريته.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:قوله :﴿ قال أنظرني إلى يوم يبعثون ﴾ سأل إبليس ربه أن يمهله ولا يميته ﴿ إلى يوم يبعثون ﴾ والمراد في ظاهر الآية : أنه يوم البعث الذي يبعث الله فيه ذرية آدم من الموت وذلك بعد النفخة الثانية هكذا طلب إبليس. لكن الله ما أمهله إلى يوم النفخة الثانية حيث البعث بل أمهله إلى يوم النفخة الأولى حيث الموت والفناء. وقد سأل إبليس ذلك ليجد لنفسه من الفسحة ما يستطيع خلالها إشفاء غليله بإغواء بني آدم وتضليلهم فيفسقون عن أمر الله فيكون بذلك قد أخذ لنفسه الثأر من آدم وذريته.
قوله تعالى :﴿ قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ١٦ ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمالهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ١٧ قال اخرج منها مذموما ومدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ١٨ ﴾ الفاء في قوله :﴿ فبما ﴾ لترتيب جملة الإغواء ما قبلها. والباء سببية. وقيل : للقسم. وما مصدرية. والإغواء معناه الإضلال أو الإيقاع في الغي وهو الضلال١ صراطك، مفعول أقعدن٢ وتأويل ذلك أن إبليس الرجيم قال لربه عز وعلا في اجتراء ظلوم فاجر : بما أضللتني، أي بسبب إغوائك إياي من أجل آدم وذريته فلأجلسن لهم طريقك المستقيم وهو دينك الحق القويم، أي الإسلام بعقيدته وشريعته ومنهجه للحياة. ولأصدن ذرية آدم عن طاعتك وعن التوجه إلى دينك وشرعك. ولأضلنهم ولأزينن لهم كل ضروب الفساد والمعصية، ولأرغبنهم عن ملة الإسلام ليميلوا صوب الشرك والمعاصي وذلك إغوائي لهم ف مقابل إغوائك لي.
١ القاموس المحييط جـ ٤ ص ٣٧٤ والمصباح المنير جـ ٢ ص ١١٠..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٦..
قوله :﴿ ثم لأتيناهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمالهم ﴾ تأويل ذلك : أن إبليس سوف يسول لبني آدم الكفر والعصيان بكل صوره وأشكاله. ولسوف يزين لهم الضلال والباطل بكل الأسباب والوسائل وبمختلف طرقه وأساليب في التزيين والإغراء والإغواء ليودي بهم في النهاية إلى الجحيم فيكونوا شركاءه في النار ؛ إذ يلتقي الكافرون الظالمون في جموع حاشدة كاثرة وهم من مجرمي الجن والإنس ليكونوا جميعا في خندق الخزي والعذاب. إن إبليس يتدسس إلى بني آدم من كل مكان أو موقع، ومن كل جهة أو ناحية، ومن كل سبيل أو درب ليستنفر في كيانهم نزعة الشر، وليستثير فيهم الشهوات والغرائز فيميلوا كل الميل فإذا هم منزلقون في هاوية الضلال والباطل.
وقيل : المراد بقوله : من بين أيديهم : من الدنيا، ومن خلفهم : من الآخرة، وعن أيمانهم، من قبل الحق، وعن شمائلهم : من قبل الباطل.
أما إتيانهم من قبل الدنيا، فهو أن يدعوهم إلى لذائذها ومباهجها وزيتنها وكفى : فيرغبون فيها عما سواها. وأما إتيانهم من قبل الآخرة فهو أن يشككهم فيها ليرتابوا في قيام الساعة فيكونوا في زمرة الجاحدين الكافرين. وأما إتيانهم من قبل الحق أو الحسنات فهو أن يزهدهم فيها. وإتيانهم من قبل الباطل أو السيئات فهو ترغيبهم في الاستغراق في الباطل والاستكثار من السيئات والمعاصي.
قوله :﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ أي لا تجد أكثر بني آدم موحدين لك أو ذائعين لأمرك أو شاكرين لك نعمتك التي أنعمت عليهم. وذلك بسبب إغوائهم، وإزلاقهم في الخطيئة والعصيان. ولقد قال ذلك إبليس على سبيل الظن ؛ لقوله تعالى في آية أخرى :﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه ﴾ كذلك كان ظن إبليس في ابن آدم ؛ إذ يعلم مبلغه من الضعف. ضعف العزيمة والإرادة والاحتمال. ويعلم من فطرته المركوزة في عميق كيانه انه نزاع للشهوات فلا تهفو نفسه أو تصبو في الغالب إلا الرغائب الجسد من الطعام والشراب والزينة والاستمتاع والتلذذ بمختلف اللذائذ. وهو لا يضبطه دون الإسراف في ذلك ضابط مقتدر إلا أن يركن إلى عقله المتدبر البصير. ولا يتحقق ذلك إلا قليلا. فوازع العقل في معترك الملذات واستمتاع الأجساد بالغ الضعف والهوان في مقابلة الدوافع المتأججة للغرائز والشهوات. ومن هنا وجد إبليس ضالته في الاقتدار على إغواء الإنسان. أعاذنا الله من إغواء إبليس وجنوده عوذا.
قوله :﴿ قال اخرج منها مذءوما مدحورا ﴾ مذءوما، منصوب على الحال من ضمير ﴿ اخرج ﴾ ١ وهنا يخاطب الله عدوه إبليس في توبيخ وتحقير، أن أخرج من الجنة ﴿ مذءوما ﴾ أي معيبا، من الذأم وهو العيب٢ ومدحورا، أي مقصيا أو مبعدا. وذلك توبيخ وإهانة لإبليس الرجيم الذي يخاطب ربه في اجتراء لئيم فاجر ؛ إذ يأمره ربه أن يبح الجنة وهو يجرجر ثوب الخزي والعي والصغار ؛ إذ أقصاه الله وطرده من رحمته.
قوله :﴿ لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ﴾ اللام الأولى للقسم، وجوابه ﴿ لأملأن جهنم ﴾ وقيل : اللام لام الابتداء تفيد التوكيد. ومن اسم موصول مبتدأ، والجملة بعده خبر. لأملان، اللام للقسم. فهذا قسم من الله جل جلاله أن من اتبع إبليس من البشر فأطاعه وسار على طريقه، طريق الفسق والضلال، وصدق ظنه عليه، فإنه ( الله عز وعلا ) يملأ جهنم منهم جميعا ؛ أي يملأ جهنم من إبليس وأتباعه من الجن والإنس٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٧..
٢ مختار الصحاح ص ٢١٨..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٠٠-١٠٤ وروح المعاني جـ ٨ ص ٩١- ٩٧ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٣٢- ٣٥..
قوله تعالى :﴿ ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ١٩ فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ٢٠ وقاسهما إني لكما لمن الناصحين ﴾.
بعد أن أخرج الله إبليس من الجنة وأهبطه الأرض صاغرا مهينا، قال لآدم وزوجه حواء :﴿ اسكن أنت وزوجك الجنة ﴾. وذلك من السكن، بالتحريك وهو الرحمة والبركة. ومنه السكينة ؛ أي الطمأنينة والوداع والوقار١ فقد أمرهم الله بالبث في الجنة ليستقرا فيها آمنين مطمئنين، تحف بهما الراحة والرحمة وتجللهما الوداعة والطمأنينة ؛ إذ يمكثان في خير معاش وأكرم حياة مما لا يتصور بشر. حياة حافلة بالهناءة واليمن والاستقرار. يضاف إلى ذلك كله ما تشتهيه أنفس بني آدم وهو الطعام بأصنافه وأشكاله على اختلاف طعومه ومذاقه ؛ فقد أتاح الله لآدم وزوجه أن يأكلا مما شاءا من الجنة بكل أنعمها وخيراتها باستثناء شجرة معينة نهاهما عن الأكل مما شاءا من الجنة بكل أنعمها وخيراتها باستثناء شجرة معينة نهاهما عن الأكل منها نهيا باتا مؤكدا ؛ إذ قال ك ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ﴾ أي فتصير من الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان والمخالفة عن أمر الله.
أما نوع الشجرة أو اسمها فغير معلوم على نحو قطعي مجزوم، لوروده في الآية مبهما لإطلاقه ؛ فهو غير مخصص ولا مبين. وكل الذي نعلمه في هذه المسألة أن المنهي عن قرابة أو الأكل منه إن هو إلا شجرة. وما يقل من تأويلات في نوعها وحقيقتها ليس إلا ضربا من الظن الذي لا يغني، فضلا عن أن الخوض في مثل ذلك لا يغني ولا يجدي ولا يزيد من أهمية القصة شيئا ولو كان في الحديث عن اسم الشجرة ما يجدي أو ينفع لبينه الله سبحانه.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٣٧ ومختار الصحاح ص ٣٠٧..
قوله :﴿ فوسوس لهما الشطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما ﴾.
الوسوسة، الصوت الخفي، وحديث النفس بما لا نفع فيه ولا خير. والوسواس اسم الشيطان١. والمعنى : أن إبليس بما أوتي من قدرة ذاتية على التزيين والتغرير والإيحاء للنفس من داخلها بما يغريها ويغويها قد ألقى وسوسته لآدم وزوجه لكي يغويهما بعصيانهما أمر ربهما. فقد وسوس إبليس لهما ﴿ ليبدي لهما ما روي عنهما من سوآتهما ﴾ السوءات جمع سوأة، وهي العورة ويراد بها الفرج، لأن ظهوره يسوء صاحبه. واللام لم كي ؛ أي لكي يظهر لهما ما غطي أو ستر من عوراتهما. وكانت عوراتهما مستورة بنور الله، فلما عصيا زال عنهما النور فانكشفت عوراتهما.
قوله :﴿ وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين ﴾ ذلك من تغرير إبليس وخداعه لآدم وزوجه. فإن إبليس لا يألو سبيلا أو حلية في إغواء آدم وذريته وإفسادهم. فها هو كشأنه في الإفساد والتضليل، يراوغ آدم ويخادعه بزعمه الكاذب المكشوف أن الله ما نهاكما عن الأكل من هذه الشجرة ﴿ إلا أن تكونا ملكين ﴾ أي كراهة أن تكونا ملكين. أو لئلا تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الشهوات.
قوله :﴿ أو تكونا من الخالدين ﴾ أي الذين لا يموتون بطبيعتهم، أو الذين يلبثون في الجنة ماكثين خالدين.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٦٧..
قوله :﴿ وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ﴾ لكما، متعلق بمحذوف. والتقدير : إني ناصح لكما لمن الناصحين١. وقاسمهما، أي أقسم أو حلف لهما، بصيغة فاعلهما من اجل المبالغة. والمعنى : أن إبليس أقسم لآدم وزوجه إنه لمن ينصح لهما في مشورته لهما وفي أمرهما بالأكل من الشجرة.
كذلك يكذب إبليس ويخادع ويفتري على الله الكذب وهو يصطنع من الأساليب والحيل ما يغرر به البعاد فيضلهما تضليلا. وكذلك جنود إبليس من البشر في كل زمان، فإنهم ليسوا أقل براعة ولا فظاعة في التحيل والخادع واصطناع المخططات والبرامج المذهلة لإيقاع البشرية في الفساد والضلال ولإغواء المؤمنين بالغ الإغواء ليبعدهم عن دينهم وليحرفوهم عن ملة الإسلام حرفا كليا إن استطاعوا وليثيروا في نفوس المسلمين على امتداد بلادهم وأوطانهم الشبهات والشكوك في منهج الله، منهج الإسلام سواء كان ذلك بالترغيب الناعم المصطنع، المموه بزخرف القول أو بالترهيب بكل ألوان التنكيل والتخويف والترويع٢.
١ البيان لابن النباري جـ ١ ص ٣٥٧..
٢ روح المعاني جـ ٨ ص ٩٨ – ١٠١ والكشاف جـ ٢ ص ٧٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٤٨..
قوله تعالى :﴿ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سواتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ٢٢ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ٢٣ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ دلاهما من الفعل دلى الدلو في البئر. ودلاه بغرور ؛ أي أوقعه فيما أردا من تغريره١. والمراد أنه أنزلهما عن درجة الطاعة إلى درجة المعصية. وقيل : دلاهما، من الدالة، وهي الجرأة، أي جرأهما على المعصية. والمقصود : أن إبليس خدع آدم وزوجه بغرور ؛ إذ كلمهما بزخرف من القول المموه الخادع ليحملهما على الأكل من الشجرة فأكلا منها. وهو قوله :﴿ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سواتهما ﴾ أي أنهما أكلا منها شيئا يسيرا لمعرفة الطعم. فما إن ذاقاها حتى انكشفت لهما عوراتهما ؛ لأن الله قد أعراهما من الكسوة التي كانت تسترهما قبل خطيئتهما فلبسهما الله ذلك بما وقع فيه من خطيئة وهي عصيان أمر الله.
قوله :﴿ وطفقا يخطفان عليهما من ورق الجنة ﴾ طفقا يخصفان، أي جعلا يخصفان، من الخصف بالسكون وهو الخرز. أي جعل آدم وحواء يلصقان بعض عدو مبين }.
أي أن الله جل وعلا نادى آدم وحواء نداء عتاب وتأنيب٢ : ألم أنهكما وأحذركما قربان هذه الشجرة أو الأكل منها، وأعلمكما أن إبليس لكما عدو، إذ أبان لكما عداوته لنا ترك السجود لآدم حسدا وبغيا ؟
ألم أبين لكما قل ذلك أن إبليس لهو العدو الأول والألد لكما ولذريتكما من بعد كما طيلة أحقاب هذه الدنيا ؟ لا جرم أن إبليس وجنوده من الجن والإنس قد علموا في التضليل والغواية ما فيه الكفاية. فقد أضلوا ذرية آدم وأفسدهم أيما إفساد، وأوردوا بهم إلى التعس والشقاء في هذه الدنيا، وإلى الذل والهوان والخسران في الدار الآخرة.
١ مختار الصحاح ص ٢١٠..
٢ التأنيب: اللوم والتبكيت أو التعنيف. انظر القاموس المحيط جـ ١ ص ٣٨..
قوله :﴿ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴾ هذا إقرار متضرع إلى الله مقرون بالتوبة والندم من آدم وزوجه بما اكتسباه من خطيئة العصيان لأمر الله، إذ اعترفا على أنفسهما بالذنب، وبظلم أنفسهما، فسألا ربهما بعد ذلك التوبة منه والغفران والرحمة. وذلك أن يستر عليهما ذنبهما ولا يفضحهما بعقابهما على ما فرطا في حق الله وأن يتولاهما برحمته ورضوانه كيلا يكونا من الخاسرين. أي الهالكين.
قوله :﴿ قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ﴾ يخاطب الله آدم وحواء وذريتهما أو أن المخاطب آدم وزوجه وإبليس. وهو الأولى، لظاهر العداوة المتأصلة بين بني آدم وإبليس. فقد أمرهم الله جميعا بالهبوط من الجنة إلى الأرض كيما يعيشوا فيها جيلا بعد جيل، وأمة إثر أمة طيلة هذه الدنيا ﴿ بعضكم لبعض عدو ﴾ في موضع نصب على الحال. أي أن العداوة ثابتة ومركوزة ومستقرة بين ذرية آدم وجنود إبليس فلا تزول البتة. الصراع بينهم دائم ومستمر فلا ينقطع ولا يفتر حتى تزول هذه الدنيا. وذلكم هو الصراع بين الحق والباطل، أو بين الخير والشر. صراع محتدم وحرور لا يفنى ولا يتبدد. ولسوف يظل أهل الحق يكابدون بسببه أشد المكابدة ويلاقون على الطريق من أجله كل ظواهر العدوان والشر والعنت مما يكيده لهم إبليس وأتباعه وجنوده من مختلف ألوان التآمر والتأليب والمكر. ولسوف تبقى الحال بالمسلمين الداعين إلى الله على هذه الحال من احتدام الصراع واشتداد القراع ومرارة الاحتمال والتصدي حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
قوله :﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾ المستقر موضع الاستقرار أي لكم قرار في الأرض تستقرونه، وفراش تمتهدونه في حياتكم وبعد مماتكم حتى تقوم الساعة حيث الحساب والجزاء. أما المراد بالمتاع إلى حين فهو استمتاعهم في حياتهم إلى انقطاع الدنيا١.
١ روح المعاني جـ ٨ ص ١٠١، وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٠٧، ١٠٨ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٥٢..
قوله تعالى :﴿ قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ﴾ ذلك إخبار من الله عما قاله لدى إهباطه من الجنة. وهو أنكم تعيشون في هذه الأرض التي تهبطون إليها، وفيها يكون مماتكم ومنها تخرجون للبعث والحساب يوم القيامة. هذه سنة الله كتبها على آدم وذريته من بعده، أن يحيوا وقتا معلوما في هذه الدنيا، ثم يفضوا بعد ذلك إلى الموت، ثم يأذن الله بقيام الساعة، لملاقاة الحساب والجزاء. ذلك تقدير كوني هائل كتبه الله العزيز العليم على الخلق والخلائق، بإرادته المطلقة التي، لا تعرف القيود ولا تحدها الحدود.
قوله تعالى :﴿ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوأتكما وريشا ولباسا التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ٢٦ يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما اخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوأتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون ﴾ اللباس ما يلبس١ والمراد بالإنزال هنا الخلق ؛ أي خلقنا لكم لباسا يستر عوراتكم التي أظهرها إبليس من أبويكم وهما في الجنة. ويستدل بذلك على وجوب ستر العورة لكل من الرجل والمرأة فسترها فرض بإطلاق، لكن العلماء اختلفوا في تحديد ماهية العورة لكل منهما. فعورة الرجل ما بين السرة والركبة. واختلفوا في كون السرة والركبة من العورة ؛ فقد قالت الحنفية : عورة الرجل ما تحت السرة إلى الركبة. وبذلك فغن السرة ليست عندهم من العورة ؛ للخبر :( عورة الرجل ما بين سرته وركبته ) أما الركبة عندهم فهي من العورة ؛ للخبر :( الركبة من العورة ) : أما الشافعية فقالوا : السرة من العورة. أما الركبة فليست عورة. وعند المالكية، العورة ما بين السرة إلى الركبة. يعني أن عورة الرجل التي يحرم النظر إليها، ما بين السرة والركبة ؛ فيجب ستر ذلك سواء في الصلاة أو خارجها. أما الفخذ فهو عندهم عورة مخففة ويكره كشفها ولا يحرم. واحتجوا لكونها عورة بما رواه البخاري عن جرهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( غط فخذاك فإن الفخذ عورة ).
وقال أهل الظاهر : العورة من الرجل هو الفرج نفسه، وهما القبل والدبر دون غيرهما استنادا إلى ظاهر الآية ﴿ لباسا يواري سوآتهما ﴾ والسوءة الفرج ؛ فهو عورة دون غيره.
أما المرأة الحرة فكلها عورة باستثناء الوجه والكفين. وهو قول أكثر أهل العلم. ويستدل لذلك بالخبر :( من أرادا أن يتزوج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها ) ؛ ولأن كشف ذلك من الإحرام واجب. وقالت الحنفية : قدم المرأة ليست بعورة دفعا للحرج عنها بستر قدمها. وقال أخرون : كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها.
أما الأمة فعورتها ما تحت ثديها ولها أن تبدي رأسها ومعصميها٢ فحكمها في ذلك حكم الرجل. فلما كان عورة من الرجل فهو عورة من الأمة، فبطنها وظهرها عورة، وما سوى ذلك من بدنها ليس بعورة ؛ لأنها تخرج في حاجة سيدها في ثياب مهنتها عادة، وتكليفها بلباس الحرة يلحق بها حرجا شديدا٣.
أما قوله :﴿ وريشا ﴾ فالمراد بالريش هنا اللباس الفاخر. وقيل : المال والخصب والمعاش٤ والمقصود بيان واحدة من نعم الله على عباده ؛ إذ خلق لهم ما يلبسونه لستر عوراتهم وأجسادهم وما يتجملون به في حياتهم من زينة اللباس وفاخرة مما يكسبهم إحساسا بالسعادة ورفاهة العيش.
قوله :﴿ لباس التقوى ذلك خير ﴾ لباس مرفوع على أنه مبتدأ، وخبره ﴿ ذلك خير ﴾ ٥.
أما لباس التقوى، فتأويله على أنه لباس الورع والاستقامة على طريق الله والتزام دينه وشرعه معاصيه، والائتمار بأوامره. وقيل : لباس التقوى يشمل كل وجوه الصلاح والاستقامة مما ينبثق في الأصل عن عقيدة التوحيد الخالص والإيمان بالله وحده دون شريك سواه والازدجار عما نهي عنه وزجر، والاستعصام بشرعه وما أمر. لا جرم أن التمسك بعقيدة الإسلام والأخذ بمنهج الله وحده دون غيره من مناهج الأرض، لسوف يصير بالإنسان المسلم إلى أشرف صيرورة من سلامة الطيع وطهارة الطوية وجمال الخلق بما يفيض على المرء من محاسن السلوك وروعة الحياء وحسن التصرف ما يجعله الإنسان المميز المفضال.
قوله :﴿ ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ﴾ الإشارة هنا إلى ما تقدم من إنزال اللباس والرياش ولباس التقوى. فذلك كله من آيات الله الدالة على فضله على عباده ورحمته بهم ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي يتفكرون فيما خلقه الله من هذه الآيات وأمثالها فيؤمنون بالله إيمانا صحيحا فيفرون إلى الله وحده، مبادرين الإنابة إليه والثواء إلى جنابه العظيم.
١ مختار الصحاح ص ٥٩٠..
٢ المعصم: موضع السوار من الساعد. انظر مختار الصحاح ص ٤٣٧..
٣ بداية المجتهد جـ ١ ص٩٩ وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك للكشناوي جـ ١ ص١٨١ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ١٨٢، ١٨٣ والهداية للمرغيناني جـ ١ص ٤٣..
٤ مختار الصحاح ص ٢٦٦..
٥ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٨..
قوله :﴿ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ﴾. ﴿ يفتننكم ﴾، من الفتن والفتون، بمعنى الإضلال والاستماله نحو الباطل١ والكاف في قوله ﴿ كما ﴾ نعت لمصدر محذوف، والتقدير : لا يفتننكم مثل إخراج أبويكم من الجنة. والله عز وعلا يحذر بني آدم فتنة الشيطان لهم مثلما فتن أبويهم من قبل، بالأكل من الشجرة فأخرجا بذلك من الجنة. يحذرهم غواية الشيطان وتغريره بهم وإزلاقهم ناحية الشهوات والمحظورات والمعاصي. ودأب الشيطان أنه مستديم التحيل والخداع بكل أساليب الإغراء والإغواء، وبكل أسباب المكر والفتنة ؛ ليحرف الناس عن دين الحق إلى ملل الباطل.
وذلك هو دأب الشياطين من البشر في حرصهم البالغ وتمالؤهم بالليل والنهار على الإسلام ؛ ليستأصلوه استئصالا، وعلى المسلمين ؛ ليقضوا عليهم قضاء، أو ليذروهم ضعافا مضطرين أشتاتا لا يربطهم بحقيقة الإسلام غير الاسم الخاوي من كل معاني الإسلام وقيمه ومضامينه.
قوله :﴿ ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ﴾ ينزع، جملة فعلية في موضع نصب على الحال من ضمير أخرج٢ وتقدير ذلك : أخرج أبويكم من الجنة نازعا عنهما لباسهما لكي تظهر عوراتهما فيرياها. وغرض الشيطان في رؤية آدم وحواء عوراتهما هو أن يغتما ؛ لأنه يسوءهما أن تظهر سوءاتهما لغيرهما كما بدت لهما، وهذه صفة أهل المروءة ؛ إذ يترفعون عن رؤية سوءات أنفسهم أو أن يراها غيرهم. أما ثيابهما التي كانت عليهما قبل العصيان فقد كانت نورا. وقيل : من ثياب الجنة.
قوله :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ المراد بالضمير، الشيطان. والقبيل، معناه الجماعة من الثلاثة فصاعدا. وجمعه قبل، بالضم٣ والمراد بهم هنا أعوان الشيطان وجنوده. وحيث، مبينة على الضم ؛ لأنها مقطوعة عن الإضافة إلى المفرد ؛ إذ لا يجوز إضافتها إلا إلى الجمل، فأنزلت منزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة مبني. وقيل : مبني على الضم ؛ لأنه أشبه الحرف، والحرف يكون مبينا، فكذا شبيهه مبني٤.
هذه مبالغة هامة في تحذير العباد من خبث الشياطين ومكرهم ؛ لأنهم يرون العباد من حيث لا يراهم العباد. لا جرم إذن أن يكون الشياطين بصفتهم هذه، أشد اقتدار على الخداع والإغواء والإضلال، فكيدهم بذلك عظيم وبالغ. وذلك كشأن الذي يرى خصمه من حيث لا يراه خصمه، لا جرم أن الرائي منهما صاحبه أقدر على إيذائه والإيقاع به. ولو كان الآخر يراه لأخذ لنفسه الحسبان والحيطة فكان الإيقاع به أهون وأخف.
وعلى هذا كان حقا على العباد أن يحذروا الشيطان فيتخذوا لمجانبته وعدم الافتتان به كل أسباب الحيطة والحذر.
قوله :﴿ إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون ﴾ أولياء، أي قرناء أو أعوان ؛ فقد سلط الله الشياطين على أعوانهم من غير المؤمنين ؛ ليضلوهم ضلالا مبينا. قال الزمخشري في تأويل ذلك : خلينا بينهم وبينهم، فلم نكفهم عنهم حتى تولوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي٥.
١ القامويس المحيط جـ ٤ ص ٢٥٦ والمصابح المنير جـ ٢ ص ١١٥..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٨..
٣ مختار الصحاح ص ٥٢٠..
٤ البيان لابن اتلنباري جـ ١ ص ٣٥٩..
٥ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٢٨١- ٢٨٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ١٩٧ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٥٤، ١٥٥ والتبيان للطبري جـ ٤ ص ٣٧٦- ٣٨٢..
قوله تعالى :﴿ وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ٢٨ قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون ٢٩ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾.
الفاحشة، كل ما عظم قبحه. والفاحش كل شيء جاوز حده١. والمراد بالفاحشة هنا كل فعل قبيح بلغ في مراتب القبح النهاية، والمراد بالفاحشة التي كان يفعلها الجاهلون طوافهم بالبيت عراة. وقيل، معناها الشرك.
والحقيقة أن الفاحشة تصدق على عموم الذنوب والخطايا الكبيرة التي كان الجاهليون يتلبسون بها معتذرين بأنهم فعلوا ذلك اقتداء بآبائهم ؛ إذ وجدوهم يفعلونه فهم على آثارهم سائرون. وزعموا أيضا أن الله أمرهم بذلك. وكلا الاعتذارين داحضين. لا جرم أنهما زعمان في غاية الافتراء والبطلان أما الأول، فغن ما فعله آباؤهم من ضلالات ما كان يليق بذي عقل وبصر أن يتشبث به أو يفعله ؛ لأن آباءهم كانوا سادرين في الغي والجهالة، وأنهم في جل حياتهم وأهوائهم وسلوكم وتصوراتهم إنما كانوا يتيهون في العمالة والضلالة. فأنى لأمثال هؤلاء الضالين السفهاء أن يقلدهم الناس ويعتبروا آثارهم.
وأما الثاني، فإن الله برئ من هؤلاء المشركين وضلالاتهم وافتراءهم. إن الله ما أمر بالفحشاء ولا يرضي لعباده الكفر والعصيان والباطل. وفي ذلك قاله سبحانه :﴿ قل إن الله لا يأمر بالفحشاء ﴾ ثم قال سبحانه موبخا هؤلاء الكاذبين السفهاء الذين زعموا أن الله أمرهم بالفحشاء، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا : فقد رد الله فعالتهم ردا شديدا فيه التعنيف لهم والاستنكار ﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ استفهام توبيخ وإنكار ؛ فقد عنفهم الله على كذبهم وافترائهم تعنيفا.
ولا يفوتنا ونحن نتكلم في هذه الخصلة الذميمة وهي تقليد الآباء واتباع آثارهم ومعتقداتهم وإن كانوا على العماية والضلالة، أن ننبه إلى فداحة هذه الخصلة الذميمة ومبلغ خطورتها ؛ فلقد ضل أكثر الناس من مشركين وملحدين وأهل كتاب ووثنين تحت وطأة التقليد الفاسد للآباء الضالين والجاهلين والسفهاء. لقد غرر الآباء المضلون بالأحفاد المغرورين بما تركوه لهم من ركام الضلالة الموروث سواء في العقيدة أو التشريع أو التصور. إنهم ما تركوا سوى الإشراك والركام المضطرب من ضلالات العقيدة المقلوبة المشوهة. ومن أشتات الأحكام والأقوال والتصورات الخارجة عن دائرة العقل السليم، والمجاوزة لكتب الله الحقيقية الأصلية كل مجاوزة، والتي خالطها من التحريف والتزييف والتغيير ما قبلها رأسا على عقب أو جعلها ضربا من عقائد التخريف والهذيان والهوس المحموم.
ومن شديد الخطورة التي تبعث على الأسى والمضاضة أن نجد هذه الظاهرة متلبسة بأهل الكتاب من اليهود والنصارى. أولئك الذين لم يبرحوا تقليد آبائهم وأجدادهم من غير تمحيص أو استبصار أو تدبر، إلا الاتباع الأعمى والانقياد المضلل، لما ورثوه من ملل باهتة مشوهة محرفة، ومن تصور جانح شاطح مجانب للتفكير السليم ومخالف لحقيقة ما جاء به النبيون من بني إسرائيل. لقد اتبعوا ما ورثوه من ركام الضلالات والأخبار المزيفة فزعوا زيغا عظيما. زيغا أفضى بهم إلى الاصطفاء في معسكر العداء والبغضاء والتربص بالإسلام والمسلمين. فها هم أهل الكتاب من يهود ونصارى ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله كل المكائد. ويفتنون في براعة واستباق في التآمر والتأليب على هذا الدين العظيم ؛ ليصطلموه اصطلاما٢ ؛ وليجتثوه من الأرض اجتثاثا أو يذروه مشوها ممزقا مضطربا كالذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. لكن الله لكل الظالمين والمجرمين والخائنين والمتربصين بالمرصاد ؛ ليرد كيدهم في نحورهم ويذيقهم بأس الخزي والافتضاح، ثم ينصر الله جنده المؤمنين المخلصين ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾.
١ مختار الصحاح ص ٤٩٢..
٢ الاصطلام: الاستئصال. صلم الأذن صلما واصطلاما أي استأصلها قطعا. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٣٧٠.
قوله :﴿ قل أمر ربي بالقسط ﴾ القسط معناه العدل. وقيل : الحق والصدق. قال ابن عباس : القسط هنا لا إله إلا الله.
وهذه هي الشهادة الكبرى، وهي أعظم مقولة تنطق بها الكائنات في هذا الوجود. وهي شهادة ساطعة مجلجلة تحمل الإقرار الجازم الكامل على وحدانية الله، وأنه سبحانه الموجد لكل شيء، وأنه بذلك يستوجب من العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له وان لا يعبدوا غيره من الأنداد المصطنعة والآلهة المفتراة من الأوثان والأصنام والطواغيت. وكل صور الأنداد الذين اصطنعتم أهواء الضالين المفسدين والأصنام والطواغيت. وكل صور الأنداد الذين اصطنعتم أهواء الضالين المفسدين من شياطين الجن والإنس. وعلى هذا يأمر الله نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أمرهم به ربهم ؛ فقد أمرهم بالحق والعدل والاستقامة على صراط والاستمساك بمنهجه وحده دون غيره من مناهج البشر.
قوله :﴿ وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ﴾ أي توجهوا حيثما كنتم في الصلاة نحو الكعبة. وقيل : اجعلوا سجودكم خالصا لله. وقيل : إذا حضرت الصلاة صلوا في كل مسجد، ولا يقل أحدكم : أصلي في مسجدي. وقيل : المراد إباحة الصلاة في كل موضع من الأرض ؛ أي حيثما كنتم فهو مسجد لكم، يلزمكم الصلاة عنده وإقامة وجوهكم فيه لله.
قوله :﴿ وادعوه مخلصين له الدين ﴾ أي اعبدوه وأطيعوه مخلصين له دون سواه. ويراد بعبادة الله : مختلف ضروب الأعمال الصالحة والطاعات التي ينبغي بها العابد المطيع وجه الله. ويأتي في طليعة العبادات والطاعات توجه العبد إلى الله بالدعاء. ولئن كان العبد المطيع لربه يدعو ربه في إلحاح وضراعة وخشوع لا جرم أن الله مستجيب إن شاء.
قوله :﴿ كما بدأكم تعودون ﴾ الكاف في ﴿ كما ﴾ في موضع نصب، صفة لمصدر محذوف. وتقديره : وتعودون عودا مثلما بدأكم١. وفي تأويل هذه الآية وجهان : أحدهما، وهو قول ابن عباس : كما خلقكم أولا، تعودون بعد الفناء. وفي الحديث مما أخرجه الصحيحان عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال :( يا أيها الناس إنكم تحشرون على الله حفاة عراة غرلا٢ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا فاعلين ) وبعبادة أخرى في تأويل الآية : أنه كما أحياكم في الدنيا يحييكم في الآخرة، وليس بعثكم بأشد من ابتداء إنشائكم.
ثانيهما : أن الناس يبعثون على ما ماتوا عليه : المؤمن على إيمانه، والكافر على كفرانه.
١ البيان لابن الأنباري جـ١ ص ٣٥٩..
٢ الغرل بضم الغين والراء، جمع أغرل وهو الذي لم يختن. والغرلة، القلفة. والأغرل الأقلف. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٤ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٩٨..
قوله :﴿ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ﴾ فريقا الأول، منصوب بهدى. وفريقا الثاني، منصوب بتقدير فعل دل عليه ما بعده. وتقديره : وأضل فريقا حق عليهم الضلالة. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال من ضمير ﴿ تعودون ﴾ وتقديره : كما بدأكم تعودون في هذه الحالة١ أو تعودون فريقا.
والناس لا محالة فريقان : أحدهما : الفريق المهتدي من عباد الله. أولئك الذين وفقهم الله للهداية والرشاد فكانوا السعداء والصالحين والناجين. وثانيهما : الفريق الضال. وهو الذي أعرض واستكبر، ولما سمع ذكر الله وكلمة الحق والنور طغى وعتى وتجبر، ومضى جامحا مع الفاسقين الشاردين.
على أن المراد بالهداية والإضلال، هو الدلالة التي تنشرح بها صدور المؤمنين للاهتداء، وتضيق بها صدور الكافرين ؛ لشدة إعراضهم عن الحق وفرط نفورهم عن صراط الله القويم.
قوله :﴿ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ﴾ الأولياء، جمع ومفرده الولي. وهو الناصر والحليف٢. والمعنى : أن هذا الفريق الضال وهم الفاسقون والجاحدون والمعارضون عن دين الله قد لتخذوا الشياطين لهم حلفاء وأنصارا وأعوانا ليتولهم وينتصروا بهم، كقول بعض المشركين العرب ؛ إذ يخاطبون أصنامهم الصم : أعل هبل. وذلك غاية ما تفضي السفاهة وهوان الأحلام بالإنسان ؛ إذ تفضي به إلى هاوية الضلالة وإلى الدركات السحيقة من الجهل المطبق وموات الفطرة السليمة.
وهذه حقيقة مريرة تتراءى للعيان في كل الأشقياء من أعوان الشيطان الذين تشمئز قلوبهم من ذكر الحق ومن منهج الإسلام. لكنهم يستبشرون إذا ذكر أولياؤهم من طواغيت البشر الطواغيت الباغية الشريرة الذين استحوذوا على شطر البشرية أو أكثر، بالإضلال والإفساد والتلويث ؛ فأزاغوهم عن دين الله، وأشربوهم الكفر والإلحاد والفساد إشرابا. فباتوا أشباحا من الأناسي المضللين المأفونين٣ الذين يركضون لاهثين سراعا في خفة وذلة وصغار وراء أسيادهم الشياطين المضلين من طواغيت البشر.
قوله :﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ يحسبون من المحسبة والحسبان بكسر الحاء، يعني الظن٤. هؤلاء المشركون المعاندون، والذين عتوا عن منهج الله وعاثوا في الدنيا إضلالا وإفسادا يظنون أنهم على الهداية والرشاد، ولم يعترفوا أنهم على الباطل والضلال. لا جرم أن هؤلاء أشد في تمردهم وكفرهم ؛ لأنهم يستندون في غيهم وضلالهم إلى حسبانهم الخاطئ وظنهم الواهم المريض، إن هؤلاء الجاهلين السفهاء أشد عتوا واضطغانا ممن يعلم في قرارة نفسه أنه على الباطل بالرغم من كونه سادرا في غيه وظلمه٥.
إن هذه إحدى المعضلات الذهنية والنفسية المستعصية في طبائع أهل الديانات المحرفة من اليهود والنصارى وغيرهم من الوثنيين. أولئك الذين يتيهون في غياهب التعصب الذميم والجهالة الطاغية المطبقة ويتشبثون بما ورثوه عن الآباء من كتب قد خالطها التغيير والتبديل، وصيرها التزييف والتحريف حشدا من الكلام الملفق الموهوم. الكلام المصطنع الغالي الذي يسول لصاحبه ظلم الآخرين من الناس والاعتداء عليهم بكل صور العدوان والإجرام. وهم مع ذلك يظنون واهمين أنهم ورثوا عن آبائهم حقا وصدقا ! ! والله يعلم، أولوا العلم الصادقون من الناس يعلمون أنهم ما ورثوا من العقائد والملل والتصورات غير الضلال والأوهام والتلفيق من الكلام المتهافت الخاوي.
١ البيان لابن النباري جـ ١ ص ٣٥٩..
٢ مختار الصحاح ص ٧٣٦..
٣ المأفون: الضعيف الرأي والعقل. انظر القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٩٨..
٤ مختار الصحاح ص ١٣٥..
٥ البيان للطيرسي جـ ٤ ص ٣٨٠- ٣٨٥ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٥٤- ١٥٦ وتفسير البحر المحيط جـ ٢ ص ٢٨٢- ٢٨٨..
قوله تعالى :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ٣١ قل من حرم زينة الله التي أخرج لبعاده والطيبات الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ٣٢ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطان وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾.
ذلك رد من الله على المشركين السفهاء من عرب الجاهلية فيما كانوا يفعلونه في طوافهم بالبيت عراة ؛ فقد روي مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية وهي عريانة وعلى فرجها خرقة وهي تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزلت ﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ ونزلت ﴿ قل من حرم زينة الله ﴾ ١.
وقيل : نزلت في حي من أهل اليمن كان أحدهم إذا قدم حاجا أو معتمرا يقول : لا ينبغي أن أطوف في ثوب قد دنست فيه. فيقول : من يعترني مئزرا، فإن قدر على ذلك، وإلا طاف عريانا، فأنزل الله :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾.
وقيل : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس قريش وأحلافهم، فمن جاء من غيرهم وضع ثياب أحمس ؛ فغنه لا يحل له أن يلبس ثيابه، فغن لم يجد من بعيره من الحمس ؛ فإنه يلقي ثيابه ويطوف عريانا، وإن طاف في ثياب نفسه ؛ ألقاها إذا قضى طوافه يحرمها فيجعلها حرما عليه. فأنزل الله الآية٢ وفي رواية أخرى لمسلم عن عورة عن أبيه قال : كانت العرب تطوف بالبيت عراة إلا الحمس، والحمس قريش وما ولدت، كانوا يطوفون بالبيت عراة إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فيعطي الرجل الرجل، والنساء النساء، وكانت الحمس لا يخرجون من المزدلفة، وكان الناس كلهم يقفون بعرفات.
وفي رواية لغير مسلم : ويقولون نحن أهل الحرم فلا ينبغي لأحد من العرب أن يطوف إلا في ثيابنا ولا يأكل إذا دخل أرضنا إلا من طعامنا. فمن لم يكن له من العرب صديق بمكة يعيره ثوابا، ولا يسار يستأجره به كان بين أحد أمرين : إما أن يطوف بالبيت عريانا، وإما أن يطوف في ثيابه، فإذا فرغ من طوافه ألقى ثوبه عنه فلم يمسه أحد. وكان ذلك الثوب يسمى اللقى٣.
وفي هذه الآية يخاطب الله سائر بني آدم، وإن كان المقصود بنزولها العرب الذين كانوا يطوفون البيت عراة. والعبرة في عموم اللفظ وليس في خصوص السبب. والآية رد ظاهر للعادات السقيمة التي كان العرب الجاهليون يتلبسون بها ؛ إذ يطوفون بالبيت عراة. وذلك ما كانت تأمرهم به أحلامهم الضالة ويسوله لهم الشيطان. وليس أدل على ذلك من الطواف بالبيت وهم عراة، ظاهرة سوءاتهم للعيان.
ويستفاد من الآية : وجوب ستر العورة في الصلاة أو خارجها، وذلك في حق الرجل والنساء. وهو ما بيناه سابقا. وفي ذلك أخرج مسلم عن المسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( ارجع على ثوبك فخذه، ولا تمشوا عراة ) وقوله :﴿ خذوا زينتكم عند كل مسجد ﴾ أي البسوا ثيابكم لموارة عوراتكم. والأمر المطلق يفيد الوجوب. والواجب هنا إنما هو في ستر العورة وليس في سائر وجوه الزنية. والزينة في الأصل كل ما يتزين به٤ ؛ فهي تعم كل ما يتزين به المرء من اللباس وتوابعه. والآية لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة فقد فهم منها في الجملة استحباب التجمل عند الصلاة لا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ؛ ومن الزينة المستحبة أيضا الطيب والسواك واللباس الحسن. ومن أفضل اللباس البياض ؛ فقد روي الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( البسوا من ثيابكم البياض ؛ فغنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثمد ؛ فغنه يجلو البصر وينبت الشعر ).
وأخرج أحمد واهل السنن عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عليكم بثياب البياض فالبسوها ؛ فإنها أطر وأطيب، وكفنوا فيها أمواتكم ).
قوله :﴿ وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾ الأمر هنا يفيد الإباحة، فقد احل الله لعباده الأكل من صنوف الطعام، والشراب من أنواع الشراب شريطة اجتناب كل محظور منهما. ونهي عن الاسراف. والمراد به تحريم الحلال ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من الطعام إلا ما كان للقوت، ولا يأكلون دسما في أيام حجهم تعظيما لحجهم. فرد الله في هذه حكمهم وما كانوا يعتقدونه، إذ أباح لهم الأكل والشراب شريطة عدم الإسراف. ومعناه ( الإسراف ) موضع تفصيل. فقد قيل : المراد به هنا تحريم الحلال أو التعدي إلى الحرام. وقيل : معناه الشره في الأكل أو الإفراط في الطعام والشراب. وذكر عن عمر بن الخطاب قوله في ذلك :( إياكم والبطنة٥ من الطعام والشراب، فإنها مفسدة للجسد، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما ؛ فإنها أصلح للجسد، وأبعد من السرف، وإن الله تعالى ليبغضن الحبر ٦السمين، وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه ).
وقيل : الإسراف هو مجاوزة الحد في كل شيء في ذلك الأكل والشراب واللبس وغير ذلك من وجوه الاستمتاع والزينة. وفي ذلك روي الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ؛ فإن الله يجب أن يرى نعمته على عبده ).
روي الإمام أحمد كذلك عن المقداد بين معد يكرب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان فاعلا لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ).
١ أسباب النزول للنيسابروي ص ١٥٢..
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٠..
٣ اللقي، بالفتح والتشديد، معناه: الشيء الملقى لهوانه. انظر مختار الصحاح ص ٦٠٣..
٤ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٣٤..
٥ البطنة: بكسر الباء، وهي الامتداد الشديد من الطعام. يقال: ليس للبطنة خير من خمصة (جوعة) تتبعها. والبطن: الذي لا يهمه إلا بطنه. والمبطون: العليل البطن. مختار الصحاح ص ٥٧..
٦ الحبر: المفرط في التنعم والاستماع بالذائذ..
قوله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ﴾ الاستفهام للإنكار ؛ إذ ينكر الله تحريم ما أحله لبعاده من الزينة، وذلك مما يتجمل به من الثياب وغير ذلك من أصناف اللباس ﴿ التي أخرج لعباده ﴾ أي خلقها الله وسخرها لعباده كيما ينتفعوا بها سواء كان ذلك من النبات أو الحيوان أو المعادن. وكذلك ينكر الله تحريم الطيبات من الرزق ؛ فقد خلق الله لعباده سائر المستلذات مما تستطيبه النفس وتشتهيه. وقيل : المراد بالطيبات كل ما حل من المطعومات والمشروبات. ويستدل من هذه الآية على أن الأصل في الأشياء الإباحة ؛ لأن الاستفهام في الآية لإنكار تحريم الزينة وما خلقه الله لعباده من طيبات الرزق. والرزق كل ما ينتفع به والجمع الأرزاق١، ويستدل منها كذلك على إباحة التجمل بالرفيع من اللباس في الجمع والأعياد وعند لقاء الناس وزيارة الأصدقاء. وقد روي مكحول عن عائشة قالت : كان نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم، وفي الدار ركوة فيها ماء، فجعل ينظر في الماء ويسوي لحيته وشعره. فقلت : يا رسول الله، وأنت تفعل هذا ؟ قال :( نعم إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه فإن الله جميل يحب الجمال ).
واخرج مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال :( إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط٢ الناس ). وجاء في طبقات ابن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسافر بالمشط والمرآة والدهن والسواك والكحل. وغير ذلك من الآثار كثير مما يدل على النظافة والتجمل وحسن الهيئة.
قوله :﴿ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ﴾ أي أخبرهم يا محمد أن المسلمين يشاركون الكافرين في زينة الحياة الدنيا وفي طيباتها، ثم تكون للمؤمنين يوم القيامة خالصة لهم من دون الكافرين. وقيل. عن زينة الله والطيبات من الرزق إنما خلقت للمؤمنين على طريق الأصالة زيادة في كرامتهم على الله فهم يأخذون بحظهم منها ما استطاعوا في حدود ما أحل الله لهم. أما الكافرون فغنما شاركوا المسلمين في طيبات الدنيا بالتبعية لهم.
قوله :﴿ خالصة يوم القيامة ﴾ خالصة، منصوب على الحال من ضمير ﴿ للذين ﴾ والتقدير : قل هي استقرت للذين آمنوا في حال خلوصها يوم القيامة. وقرئت خالصة بالرفع على أنها خبر ثان للمبتدأ ( هي ) ٣ أي بعد أن كانت الدنيا بزينتها وطيباتها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ؛ فغنها تصير يوم القيامة خالصة للمؤمنين دون الكافرين الذين لا يستحقون حينئذ غلا النار وهوان الذل والعار.
قوله :﴿ كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ الكاف في ﴿ كذلك ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام. والمعنى : كما بين لكم الأحكام في اللباس والزينة والحلال من المطعومات والمشروبات وما حرم منها، فغنه يبين لكم جميع أدلته وأحكامه في الحلال والحرام. وذلك كله لقوم يفقهون ما يبينه الله لهم.
١ مختار الصحاح ص ٢٤١..
٢ غمط الناس، يعني الاحتقار لهم والازدراء بهم. وغمط النعمة عدم شكرها. انظر مختار الصحاح ص ٤٨١..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٥٩..
قوله :﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ ما في موضع نصب على البدل من الفواحش١ أي أن الله لم يحرم عليكم الزينة والطيبات مما حلقه لكم وأنعمه عليكم فجعلتموه أنتم حراما على أنفسكم، ولكن الله حرم ﴿ الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ أي حرم عليكم القبائح من الأشياء مما تفعلونه علانية أو خفية. وقيل : ما ظهر منها يعني طواف أهل الجاهلية بالبيت عراة. وما بطن يعني الزنا. وقيل : غير ذلك.
قوله :﴿ والإثم والبغي بغير الحق ﴾ الإثم المعصية أو يوجبه من الذنوب. والبغي : التعدي والظلم وكل مجاوزة وإفراط على المقدار الذي هو حد الشيء٢.
قوله :﴿ وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ وأن تشركوا، المصدر من هذه الجملة في موضع نصب معطوف على الفواحش. وكذلك قوله بعدها :﴿ وأن تقولوا على الله ﴾ ٣ أي كذلك الله حرم عليكم أن تعبدوا معه إلها غيره. والإشراك بالله يأتي في قمة الموبقات والخطايا العظيمات وهو ما لم يجعل الله فيه للمشركين سلطانا ؛ أي حجة وبرهانا.
قوله :﴿ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ أي حرم الله عليكم أن تفتروا الكذب كاتخاذكم الأوثان آلهة مع الله، وتجردكم من الثياب عند الطواف بالبيت فتطوفون عراة، وتحريمكم ما أحله الله لكم مما خلقه لكم كتحريم البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك مما تزعمون وتفترون وانتم جاهلون لا تعلمون٤.
١ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٠..
٢ مختار الصحاح ص ٥٩ والمصابح المنير جـ ١ ص ٦٤..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٠.
٤ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١١٨- ١٢٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٠٩- ١١٣ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٦٤- ٧٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢١٠، ٢١١..
قوله تعالى :﴿ ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ ذلك تهديد من الله للمشركين الظالمين الذين طغوا وتجبروا والذين قرروا من الأحكام والأهواء والتصورات ما لم يأذن به الله، والذين آذوا عباد الله المؤمنين فناصبوهم الكيد والظلم والعدوان بغير حق إلا أن يقولوا إننا مسلمون. إن هؤلاء يتهددهم الله تهديدا ويتوعدهم بالمثلات١. والويلات وصنوف التنكيل في هذه الدنيا يوم يأتيهم الأجل وهو الموعد الموقت لإهلاكهم وتدميرهم قبل يوم القيامة. ويوم يحين موعد التدمير والإهلاك لا يزحزحه عنهم أحد. بل إن موعد تدميرهم وإهلاكهم إنما يأتي في وقته المقدور الذي كتبه الله لهم ﴿ لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾ أي لا يتأخرون بالبقاء في الدنيا ساعة من ساعات اليوم وهي جزء قصير من أجزاء الليل والنهار. وكذلك فإنهم لا يتقدمون في ذلك عن الوقت الذي جعله الله لهم موعدا محددا لهلاكهم وزوالهم٢.
ذلك إعلان مرعب ومخوف يبينه الله للطغاة المجرمين الذين يحادون الله ورسله. والذين تمردوا على الله تمرد العتاة الأشقياء الجبابرة فراحوا يعيثون في الأرض الفساد، وينكلون بالمسلمين أشد تنكل، ويقطعون جل زمانهم في التآمر على الإسلام والمسلمين.
إن هؤلاء التعساء الطغاة من البشر قد تودعهم الله أن يحيق بهم العذاب الغليظ على اختلاف صورة وأشكاله لتحل بديارهم النوازل والمصائب والمحن قبل يوم القيامة مثلما حل بالأمم السالفة التي طغت وبغت فأخذها الله بالتدمير والهلاك. فلا يظنن بعد هذه الحقيقة واهم أو جاهل أو مغرور أن الله يعذب الظالمين في هذه الدنيا. فذلك فهم مجانب للصواب. بل إن الله للظالمين المعتادين الذين يبغون في الأرض بغير الحق بكامل المرصاد حتى إذا جاء وعد الله وحان أجل العذاب المقدر ؛ أخذ الله الطاغين والمجرمين والخائنين أخذ عزيز مقتدر.
١ المثلات، جمع مثلة بالفتح والضم وهي العقوبة. انظر مختار الصحاح ص ٦١٥..
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٣ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٧٢..
قوله تعالى :﴿ يا بني آدم إما يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ٣٥ والذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها أوليك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
اللفظ ( إما ) هو إن الشرطية، ضمت إليها ما لتأكيد الشرط١، والخطاب في هذه الآية من الله لعباده من ذرية آدم مبينا لهم أنه عن يجئكم رسلي الذين بعثتهم إليكم آمرين وناهين، مبشرين ومنذرين، وهم من أنفسكم ومن جنسكم ليبينوا لكم أحكامي وشرائعي وما ينفعكم في ديناكم أو أخراكم، وذلك جملة شرط، وجوابه الجملة الشرطية بعده وهي :﴿ فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ وقيل : جوابه محذوف وتقديره : إن يأتيكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فأطيعوهم ؟
وقوله :﴿ اتقي وأصلح ﴾ أي خاف الله وعمل صالحا يرضيه وانتهى عما نهاه عنه ﴿ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ أي لا يخافون يوم القيامة كما يخاف الناس من العذاب إذا عاينوه فوردوا عليه. وكذلك لا يحزنون لفراق الدنيا ولما فاتهم فيها من شهوات ولذائذ تجنبوها رغبة في رضوان الله، ولا لما تركوه وراءهم في الدنيا من الأموال أو الصحب والخلان والأحباب.
١ تفسير النسفي جـ ٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٣..
قوله :﴿ والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ الذين جحدوا آيات الله وما تضمنته من الدلائل والبينات والأحكام والشرائع واستنكفوا عنها استكبارا ؛ إنما يصيرون إلى النار خالدين فيها خلودا مستديما١.
١ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٣..
قوله تعالى :﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والمعنى : من أشد خطيئة وأعتى ظلما وأبشع إحراما ممن يفتري الكذب على الله فيزعم إذا أتى منكرا أو فعل فاحشة أن الله قد أمره بذلك ﴿ أو كذب بآياته ﴾ أي جحد ما انزل الله من دلائل وآيات بينات تصدع بحقيقة وحدانيته وصدق نبوة أنبيائه. عن هؤلاء جميعا ﴿ ينالهم نصيبهم من الكتاب ﴾ أي سوف يصيبهم العذاب الذي أعده الله لهم جزاء افترائهم وتكذيبهم. وقيل : سينالهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال بالرغم من ظلمهم وافترائهم على الله وتكذيبهم آياته، فهم لا يحرمون ما كتب لهم من ذلك إلى أن ينقضي أجلهم. وقيل : سوف ينالهم نصيبهم في الآخرة من أعمالهم التي عملوا وأسلفوا.
قوله :﴿ حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ حتى، لابتداء خبر ؛ أي ابتداء الكلام بعدها وهي غاية لما قبلها. والمعنى : أن هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب وكذبوا بآيات الله سينالهم حظهم من الدنيا مما كتب الله لهم وسبق لهم في علمه سبحانه، من رزق وعمل واجل على أن تأتيهم رسلنا وهم ملك الموت وجنده لقبض أرواحهم ﴿ يتوفونهم ﴾ في محل نصب حال.
قوله :﴿ قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله ﴾ قالت الملائكة لهؤلاء المعرضين الخاطئين لدى قبضهم أرواحهم موبخين معنفين : أين أولياؤكم الدين كنتم تعبدونهم من دون الله ؟ ! هلا يدفعون عنكم ما نزل بساحتكم الآن من عظيم البلاء ؟ ! هلا ينقذونكم مما حاق بكم من شقاء وتعس ؟ !
قوله :﴿ قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ قال الكافرون الخاسرون لملائكة الموت : ذهب أولياؤنا الذين كنا نعبدهم وتخلوا عنا فلم ينفعلوا. وبذلك أقروا إقرارا أنهم كانوا في الدنيا كافرون مكذبين. يقولون ذلك في هذه الساعة العصيبة وهم تأخذهم غمرة الحسرة والإياس المطبق. وحينئذ لا يجدي ندم ولا توبة ولا عتبى١.
١ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٤- ١٢٧..
قوله تعالى :﴿ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا ادراكوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ٣٨ وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ﴾.
يقول الله يوم القيامة لهؤلاء المكذبين المفترين الذين جحدوا آيات الله واستكبروا عن اتباع دينه ومنهجه للحياة : ادخلوا النار مع أمم من قبلكم من الجن والإنس قد كذبوا وافتروا على الله بالباطل.
قوله :﴿ كلما دخلت أمة لعنت أختها ﴾ الأمة جمعها الأمم. والمراد بها هنا أهل الملل الكافرة المصطنعة المفتراة أو الذين لا يؤمنون بدين ممن يسمون في الزمن الراهن ( ملحدين ) وهم الماديون الذين يجحدون الإيمان بالغيب كله فينكرون الإلهية البتة ويكذبون الوحي والنبوة.
أولئك جميعا أمم كافرة ضالة عن سبيل الله، ماضية في سبيل متفرقة شتى، لا يتعبون في ذلك غير الباطل وخطوات الشيطان. لا جرم أن مصيرهم جميعا إلى النار. وهم كلما دخلت النار جماعة من أهل ملة من هاتيك الملل الكافرة شتمت أختها أهل الملة الكافرة الأخرى التي سبقتها في دخول النار. والمراد بالأخت هنا الأخوة في الدين والملة. فأهل الملل الضالة الكافرة جميعا إخوة في الضلال والكفر. وهذه بعض حال الكافرين الذين يكبكبون في النار وهم يتلاعبون ويتشاتمون ؛ إذ تعلن كل واحدة الأخرى، فما من أهل ملة من هذه الملل الكافرة إلا وتنزيل بها اللعائن والشتائم من الضالين الآخرين لا جرم أن ذلك يزيد في الهوان والتنكيل بهؤلاء الخاسرين التعساء.
قوله :﴿ حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار ﴾ ذلك من جملة التخاصم الشديد بين أهل النار وهم يتلاومون ويتشاتمون في النار ويوبخ كل قبيل منهم الآخر. والمراد بأخراهم في الآية الأتباع والرعاع. أما أولاهم فهم القادة وأئمة الكفر الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر والباطل. ومعنى الآية : أنه إذا تداركت الأمم أو اجتمعت جميعا في النار فالتقى فيها الأولون والآخرون من الأمم الضالة المكذبة قالت آخر كل أمة وهم الأتباع عن أولادهم وهم السادة والقادة مخاطبين ربهم : يا ربنا هؤلاء أضلونا عن سبيلك في الدنيا ودعونا إلى عبادة غيرك من الآلهة المفتراة، وهم الذين سولوا لنا الكفران والطغيان وأن نعبد الشيطان، فآتهم اليوم في مقابلة ذلك الضعف من العذاب. والمراد بالضعف الزائد على مثله مرة أو مرات.
قوله :﴿ قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ﴾ ذلك إخبار من الله أن لكل من الفريقين وهما الأتباع والمتبوعون الضعف. فللأولى ضعف، وللأخرى ضعف أما ضعف الأتباع : فهو من أجل ضلالتهم واتخاذهم الرؤساء وقادة الضلال والكفر أئمة لهم، لا يصدون إلا عن أمرهم. وأما المتبوعون فضعفهم من العذاب من اجل إضلالهم غيرهم وإغوائهم إياهم فضلا عن ضلالهم أنفسهم وتكذيبهم رسل ربهم. ﴿ ولاكن لا تعلمون ﴾ أي ولكنكم يا معشر أهل النار لا تعلمون ما أعده الله لكم من العذاب.
قوله :﴿ وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل ﴾ بعد أن سأل الأتباع ربهم أن يضاعف العذاب لمن أضلوهم من الساسة والرؤساء، وبعد الجواب من الله الذي لا معقب له، قالت أولى كل أمة لأخراها : نحن وإياكم في العذاب شركاء متساوون، فليس لكم علينا من فضل بتخفيف شيء من العذاب عنكم.
قوله :﴿ فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ﴾ ذلك من كلام القادة لأتباعهم الضالين وهو أننا جميعا ساقطون في العذاب بسبب اشتراكنا وإياكم في الضلال والكفر وتكذيبنا لما انزل الله، فذوقوا العذاب لما كسبتموه من العصيان والتكذيب. يقولون ذلك على سبيل التشفي ومن باب اليأس وانقطاع الرجاء١.
١ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢٨..
قوله تعالى :﴿ إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين ٤٠ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين ﴾ هذا نذير غليظ شديد من الله للكافرين الذين كذبوا بآيات الله، وهي ما أنزل من الأدلة والحجج والعلامات الدالة على وجوده وقدرته وعظيم سلطانه وعلى صدق كتابه الحكيم ورسوله النبي الكريم، فكذبوا بذلك كله وجحدوه وأعرضوا عنه مستكبرين مدبرين، هذا نذير من الله مخوف لهؤلاء الضالين بأنهم سيبوءون بالخسران والحرمان فلا يجدون من نسائهم رحمة الله ما يجيرهم أو ينجيهم بل إنهم ملاقوا مصيرهم الرعيب من الإبعاد والتنكيل والإهانة. هؤلاء قد قال الله فيهم :﴿ لا تفتح لهم أبواب السماء ﴾ أي لا تنفتح لأرواحهم إذا خرجت من أجسادهم أبواب السماء ولا يصعد لهم في حياتهم الدنيا إلى الله قول أو عمل ؛ لأن ما يصدر عنهم من شيء فهو مردود عليهم بسبب كفرهم ؛ إذ لا يقبل الله من الكافرين أعمالهم. وقيل : لا يرتفع لهم عمل و لادعاء. والصواب، عموم ذلك كله ؛ إذ لا يتقبل الله من الكافرين الجاحدين عملهم ولا دعائهم، والسماء موصدة في وجوههم فلا تلجها أرواحهم بل تصد دونها صدودا إلى أسفل سافلين.
قوله :﴿ ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ﴾ الجمل هو البعير، أي ذكر الناقة. وسم الخياط معناه ثقب المخيط أو الإبرة١ ذلك تيئيس من الله للكافرين المضلين الذين شاقوا الله ورسوله، والذين استكبروا عن دينه وشرعه وأبوا إلا الجحد والصد عن سبيل الله بكل الوسائل والحيل ؛ فقد أخبر الله في هذه الآية كغيرها من آيات أخريات ان هؤلاء المضلين المفسدين المعاندين لن يدخلوا الجنة البتة ولا رجاء لهم في دخلوها أبدا كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة أبدا. ذلك تصوير بالغ ومؤثر يرتسم للخيال والذهن في مثل هذه العبارة البليغة القصيرة ليتبدد كل احتمال أو ظن في دخول الكافرين الجنة. لا جرم أن دخلوهم الجنة كحال قطعا. وهذه حقيقة لا تقبل الخلاف أو الجدل استنادا إلى العبارة الربانية القطعية في معناه ومدلولها.
قوله :﴿ وكذلك نجزي المجرمين ﴾ أي مثل ذلك الجزاء الغليظ والعقاب الأليم نجزي المجرمين. وهم الكافرون الذين أجرموا وفرطوا في دين الله الحق. أولئك يتوعدهم الله بالعذاب الأليم يوم القيامة فضلا عن حرمانهم من دخول الجنة.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٣٣ ومختار الصحاح ص ١٩٥..
قوله :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾ المهاد جمع مهد ومعناه الفراش١ وغواش بمعنى الغظية أو اللحف. ومفردها غاشية، وهو الغطاء، وكنا الغشاء والغشاوة تعني الغطاء٢. وذلك وعيد من الله لهؤلاء المشركين المستكبرين المفترين بان لهم مهادا من جهنم وهو فراشهم فيها وامتهدوه مما يقعدون عليه أو يضطجعون كالفراش الذي يفرش والبساط الذي يبسط. وكذلك تغشاهم من فوقهم غواش من الناس يلتحفون بها التحافا. حقا تلك حال الكافرين الخاطئين الذين افتروا على الله وصدوا الناس عن دينه ؛ فهم في جهنم غنما يفترشون نارها اللاهبة المضطرمة، وتغطيهم من فوقهم ألسنتها بشواظها الحارق المتأجج.
قوله :﴿ وكذلك نجزي الظالمين ﴾ أي مثل ذلك الجزاء الأليم نجازي هؤلاء الظالمين، فقد وصفهم الله آنفا بالمجرمين، والآن بالظالمين ؛ لأنهم جمعوا صفات الصنفين من الكافرين الخاطئين حيث الإجرام والظلم، فهؤلاء الذين استكبروا عن دين الله الحق وحادوا الله ورسوله وصدوا الناس عن منهج الله بمختلف الأساليب والبرامج والمخططات ؛ لا جرم أنهم مجرمون ظالمون. يستوي في ذلك الكافرين المعاندون في الزمن الغابر وما بعده من أزمنة وعصور، أو في هذا الزمان الراهن الذي يشتد فيه الكيد والحقد على الإسلام والمسلمين، كيد الصليبيين والملحدين والاستعماريين والوثنيين والصهيونيين. إن هؤلاء جميعا يتلاقون على اتفاق مشترك واحد وهو التآمر على الإسلام والمسلمين بكل الأساليب والحيل والمخططات. ذلك التآمر الشيطاني الخبيث المزلزل الذي كاد من خلاله هؤلاء المجرمون الطغاة للإسلام والمسلمين أشد الكيد٣.
١ مختار الصحاح ص ٦٣٨..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١٠١..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٣٠- ١٣٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١١٨، ١١٩ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٥..
قوله تعالى :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ٤٢ ونزعنا ما في صدورهم من غل من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذين هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله قلد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾.
الذين آمنوا، مبتدأ. والمراد بهم المصدقون بآيات الله ورسله. وكذلك الذين يعملون الصالحات من الأعمال. والخبر، الجملة الإسمية ﴿ أولئك أصحاب الجنة ﴾ أي هؤلاء المؤمنون العاملون الصالحات قد وعدهم الله الحسنى وهي خير الجزاء حيث الجنة وما فيها من النعيم الدائم، أما قوله :﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ فهذه جملة اعتراضية بين المبتدأ وخبره، والمراد منها ترغيب العباد في عمل المستطاع من الصالحات للفوز بمرضاة الله وبالجنة حيث النعيم والخلود. وفي الجملة الاعتراضية هذه ما يوحي بيسر الطاعات وعمل الصالحات والتزام دين الله وشرعه ؛ فغن ذلك ليس عسيرا ولا حرج فيه. بل إن سائر التكليفات الشرعية إنما جئ بها لتكون في نطاق المستطاع للإنسان بما يحتمله مقدروه ولا يتجاوز طاقته الإنسانية المحدودة. وهذه سمة من سمات الصلوح لهذا الدين المتين الذي يراعي الطاقة البشرية خير مراعاة فلا يتجاوزها إلى ما هو عسير أو مرهق ؛ أي أن الإيمان الصحيح الكامل المقترن بعمل الصالحات مما ليس فيه ما يرهق الإنسان أو يشق عليه كثيرا، ومما هو في نطاق الوسع الإنساني، سوف يفضي بأهله من المؤمنين العاملين إلى دخول الجنة.
قوله :﴿ ونزعنا ما في صدورهم من غل ﴾ النزع معناه القلع١ والغل معناه الغش والحقد والضغن٢. وفي هذه الآية يصف الله حال المؤمنين في الجنة من حيث طهارتهم النفسية الكاملة فيقول : وقلعنا ما في صدور أهل الجنة –في الجنة- من الحقد والعداوة والحسد الذي كان يخالط بعضهم لبعض في الدنيا. بل إنهم إذا دخلوا الجنة تطهرت نفوسهم وطبائعهم من الضغن والغش والكراهية، فكانت في غاية السلامة والطهارة والبراءة من كل أوضار الخسائس النفسية التي كانت عالقة بنفوسهم وهم في الدنيا. وهذه هي حال المؤمنين في الجنة ؛ إذ يمتازون عن حالهم في الدنيا بطهارة القلوب كليا. وبراءتها على التمام من كل ما يشينها من أردان الطبع.
قوله :﴿ تجزي من تحتهم الأنهار ﴾ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير هم في ﴿ صدورهم ﴾ وهذا وصف لحال أهل الجنة في الجنة ؛ إذ يطهر الله قلوبهم تماما من خصال الضغن والعداوة ورذائل الغش والحسد التي كانت لصيقة بقلوبهم في الدنيا. لكنهم الآن في الجنة يحبرون وينعمون بكل صنوف النعيم ومن بينها الأنهار الساربة تجري من تحتهم وهم ينظرون إليها في ابتهاج واستمتاع وحبور.
قوله :﴿ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ للام في لنهتدي، لام الجحود. والمصدر من ﴿ أن هدانا ﴾ في موضع رفع مبتدأ. والخبر محذوف تقديره موجود ؛ لأن لولا هداية الله موجودة لهلكنا٣. والمعنى : كأن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين جزاهم الله الجنة وما فيها من الأنعم والخيرات إذا رأوا ما آتاهم الله من نعيم الجنة وما بسطه لهم من خيراتها ومباهجها فضلا عن تنجيتهم من عذاب النار –إذا أدركوا ذلك كله حمدوا الله حمدا كثيرا وأثنوا عليه بالشكران البالغ أن وفقهم للاعتصام بدين الله ومجانبة ما يسخطه ويغضبه مما أوصلهم إلى الجنة بكل آلائها وبركاتها. وقالوا أيضا : ما كنا لنرشد لما نحن فيه من النعيم لولا أن الله أرشدنا إلى طريق الحق والصواب، وجعلنا على المحجة المستقيمة البيضاء فحظينا بالتوفيق والهداية والجنة.
قوله :﴿ لقد جاءت رسل ربنا بالحق ﴾ ذلك قول أهل الجنة الذين نجاهم الله من العذاب ووفقهم لدخول الجنة. فهم لدى معاينتها يقولون فرحين مجبورين : هذا الذي نجده اليوم من نعيم الجنة قد أخبرتنا به رسل الله من قبل. وهو وعد من الله لأهل طاعته بالخير والأهل معصيته بالعذاب الأليم. ذلك إخبار من الله عن وعده، ووعد حق وصدق.
قوله :﴿ ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعلمون ﴾ نودي أهل الإيمان والطاعات من قبل الملائكة. وهم عباد الله المركون الأطهار الذين ينادون المؤمنين في الجنة ﴿ أن تلكم الجنة ﴾ أن مخففة من أن الثقيلة ؛ أي بأنه تلك هي الجنة التي كانت الرسل الله في الدنيا تخبركم عنها وتحدثكم عن وعد الله لبعاده المؤمنين بها ﴿ أورثتموها ﴾ الميراث هنا مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها برحمة الله وفضله.
وقوله :﴿ بما كنتم تعلمون ﴾ الباء سببية. أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة من الله فحظيتم بدخول الجنة. فالأعمال وهي السبب ليست موجبة لدخول الجنة. وإنما يدخل المؤمنون الطائعون الجنة بفضل من الله ورحمة. وفي صحيح مسلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم :( لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة ) قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ) ٤.
١ مختار الصحاح ص ٦٥٤..
٢ مختار الصحاح ص ٤٧٩..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦١..
٤ روح المعاني جـ ٨ ص ١٢١ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٠٦..
قوله تعالى :﴿ و نادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ٤٤ الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون ﴾.
بعد أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ينادي أصحاب الجنة أصحاب النار. وصيغة الماضي ﴿ و نادى ﴾ لتحقق الوقوع ؛ وهو أن هذا الكلام واقع لا محالة يوم القيامة، إذ ينادونهم تبكيتا لهم وزيادة لهم في التحسير والالتياع ﴿ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا الحق فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ﴾ أن مخففة من الثقيلة. وقيل : مفسرة. وحقا، منصوب على الحال. وقيل : مفعول ثان لوجدنا ؛ أي أننا نحن المؤمنين الطائعين لله قد ألفينا ما وعدنا الله إياه على ألسنة رسله من نعيم الجنة وسعادتها جزاء تصديقنا وطاعتنا له دون سواه. وجدنا حقا وصدقا. وتلكم هي الجنة التي وعدنا الله إياها ننعم فيها نعيم الآمنين المطمئنين إلى أبد الآبدين، فهل ألفيتم ما وعدكم الله على ألسنة رسله من العذاب والهوان في مقابل جحدوكم وتكذيبكم وعصيانكم ؟ هكذا يخاطب أهل الجنة أهل النار، على ما بينهما من المفاصلة الفارقة الكبرى ؛ إذ المخاطبون –بالكسر- في الجنة آمنون محبورون. والمخاطبون –بالفتح- في النار يسجرون تسجيرا ويواجهون كل ألوان الخزي والهوان والنار تلفح وجوههم الكالحة المسودة. فيا لهول الموقف، ويا لفداحة الويل والثبور ! !
قوله :﴿ قالوا نعم ﴾ أي وجدنا ذلك حقا. وذلك إقرار ذليل من الظالمين الخاسرين، وهم يحيط بهم الإحساس بالحسرة الغامرة والإياس الكامل ؛ لفرط ما يستحوذ عليهم في ذلك اليوم من شدة الهول والفزع.
قوله :﴿ فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ﴾ أي نادى مناد من الملائكة بين الفريقين وهما أهل الجنة وأهل النار ﴿ أن لعنة الله على الظالمين ﴾ أن مخففة من الثقيلة أو مفسرة ؛ أي أن غضب الله وسخطه على من كفر به أشرك معه في العبادة آلهة أخرى وعصى أمره وضل عن سبيله. وذلك مما يزيد في اغتمام أهل النار واستحسارهم وما يطوقهم من الذعر والهم والهوان.
قوله :﴿ الذين يصدون عن سبيل الله ﴾ الذين في محل جر نعت للظالمين. أو في محل رفع خبر لمبتدأ تقديره الضمير، هم. أو في محل نصب لفعل محذوف تقديره أعني، ويصدون من الصد وهو الصرف أو المنع ؛ أي يمنعون عن سبيل الله وهو دينه١.
هذا من جملة النداء الذي ينادي بين أهل الجنة وأهل النار. والمنادي في ندائه مخول من ربه أن يلعن الظالمين الذين كانوا في الدنيا يصدون الناس عن دين الله ؛ فهم أنفسهم معرضون عن دين الله ومنهجه القويم للناس، ثم يتعدون هذا الإعراض إلى صد البشرية بصرفها عن التوجه نحو الحق. لا جرم أن دين الإسلام بعقيدته ومثله وقيمه وتعاليمه وتشريعه لهو عين الحق والصدق والكمال. وهو ما تصلح عليه البشرية تمام الصلاح، وتستقيم على أساسه كامل الاستقامة في كل أحوالها النفسية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية. وهذه حقيقة واضحة وملموسة بفعل التجربة الواقعية التي عاينها المسلمون إبان الحكم بهذا الدين، وإبان سلطان الإسلام الوارف المهين على الأرض لكن الظالمين الذي تتفطر قلوبهم ضغنا وحسدا لفرط كراهيتهم للإسلام والمسلمين ما برحوا يصدون عن الإسلام منذ أن بزغ فجره إلى هذه الدنيا ما برح المشركون والمتربصون على اختلاف مللهم وأديانهم وعقائدهم يحادون الله ورسوله، ويشاقون الإسلام أفظع مشاقة، ويتآمرون على المسلمين أبشع تآمر. ولئن كان التآمر والكيد للإسلام والمسلمين في الأزمنة الماضية بالوسائل البدائية الهمجية كالقتل والإبادة والاستئصال، كالذي حل بالمسلمين في بغداد على أيدي المغول التتار، أو الذي حل بالمسلمين في الأندلس على أيدي الصليبيين الحاقدين.. لئن كان التآمر والكيد في الأزمنة الفائتة على هذه الصورة والكيفية من الاستصال وإزهاق الأرواح وتعذيب الأجساد، فإن الظالمين في الزمان الراهن أشد براعة ونكرا وأخبث وسيلة وأسلوبا في صد البشرية عن الإسلام وصرف المسلمين بالذات عن هذا الدين العظيم. وذلك بما برعوا من أساليب التشويه والتشكيك وافتراء الإشاعات الكاذبة والأخبار الملفقة المكذوبة عن منهج الإسلام ؛ وذلك لتشويه الأفكار وتسميم العقول لدى المسلمين حتى ينثنوا عن دنيهم.
ولقد انبرى لمثل هذه العملية الهائلة الظالمة متخصصون في مختلف المجالات التشريعية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وسائر ما يسمى في الاصطلاح الراهن بالعلوم الإنسانية. وقد زود هؤلاء بكل ما يحتاجون إليه من أسباب الدعاية والنشر كالطباعة ووسائل الإعلام وكتابة الصحائف والنشرات والمؤلفات المخلفة بالافتراءات والأكاذيب على الإسلام، والطعن في أغلب معانيه وتعاليمه بما يصد الناس عن هذا الدين صدا، وبما يثير في أذهان المسلمين تشويها كبيرا عن دينهم فينثنون عنه انثناء الجامحين الشاردين الذين استحوذت عليهم الشياطين من خصوم الإسلام فأغووهم وأضلوهم ضلالا مهينا.
ويضاف إلى هذه الأساليب النفسية والفكرية الخبيثة ما أنزله أعداء الإسلام بساحة المسلمين من العذاب والويلات الجسدية والإبادة الجماعية كحملات التقتيل والتنكيل والتشريد. ومن جملة ذلك ما حل بالمسلمين في كشمير نتيجة للتواطؤ القذر بين البريطانيين الاستعماريين، والوثنيين الهندوس عبدة البقر. ثم ما حل بالمسلمين في بلاد وطئتها أقدام الشيوعيين الملحدين، فعاثوا فيها خرابا وإذلالا مثل كمبوديا وسمرقند. وكذلك ما حل بالمسلمين في فلسطين حيث التدمير والتشريد والاستئصال نتيجة للتواطؤ الخسيس بين الاستعماريين البريطانيين والصهيونيين من اليهود وأعوانهم، لقد توطأ هؤلاء جميعا في أوكار العار والتأمر والخيانة على المسلمين في فلسطين ؛ إذ أخرجوهم منها إخراجا بعد أن فعلوا فيهم صنوف الأفاعيل الشيطانية كالتخويف والترهيب والتقتيل والتهجير بالقوة. وأخيرا مأساة المسلمين في بلاد البوسنة والهرسك، وما تحمله لنا الأخبار الفظيعة والمذهلة عن أهوال رعيبة ارتكبها المجرمون الطغاة من الصرب والروس في حق المسلمين، إن ما يقترفه هؤلاء الأشرار والأنجاس من صور الطغيان والظلم والاغتصاب وانتهاك الحرمات في بلاد المسلمين ما ينبغي أن تطأطئ له رؤوس العالمين وجباههم خجلا واستحياء. إن هؤلاء المجرمين الطغاة إنما يقارفون أفاعيلهم المنكرة الشنيعة بما تحملونه في نفوسهم وأذهانهم وقناعاتهم من الحوافز على قتل المسلمين وتعذيبهم وإبادتهم. حوافز خبيثة رعناء تجتمع فيها الصليبية الضالة الحمقاء مع الماركسية الماكرة الحاقدة.
قوله :﴿ ويبغونها عوجا ﴾ الضمير في : يبغونها، يعود على سبيل الله وهو دينه الاسلام. والعوج، معناه الميل، وهو خلاف الاعتدال٢ هؤلاء الظالمون الذين يصرفون الناس عن الحق ويمنعون المسلمين من التزام دنيهم وما فيه من منهج للحياة يريدون أن يكون الإسلام تبعا لما يبتغونه له من الميل والاعوجاج عن طريقه المستقيم. يريدون للإسلام أن يكون موافقا لأهوائهم ورغبتهم في تمييعه وحرفه عن طبيعته الحقيقية المتماسكة. طبيعته المنزلة من عند الله والتي أراد الله لها أن تكون وافية كاملة شاملة لا تقبل التجزئة أو التفريق. وذلك هو دأب المتربصين بالإسلام من خصومه الاستعماريين والصليبيين والملحدين والصهيونيين ؛ فهم جميعا يبذلون كل طاقاتهم وجهودهم من أجل التلبيس على المسلمين ليروا دينهم الإسلام على غير حقيقته من التوحيد والاستقامة والعدل والاستعلاء والجد. يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم ليأخذوا به مشوها مائلا عن حقيقته السليمة المستقيمة ؛ ليأخذوه دينا مضطربا محرفا. أو ليأخذوه أشتاتا من الدين المشوه المختلط. أو يجعلوه نمطا من التدين المضلل كالصوفية الهائمة الشاطحة البلهاء التي تركن إلى السلبية بالتوقع واعتزال الجهاد ومواجهة الظالمين، أو يجعلوه دينا مفككا مضطربا يأخذ المسلمون ببعضه في الأحوال الشخصية والأخلاق الحميدة والعبادات المجردة، ويعرضون عن بعضه الآخر من مقتضيات الإسلام الأساسية كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وحمل لواء الإسلام للعالمين في غاية الهمة والشجاعة، والاستعلاء على الظالمين المتربصين من أعداء الإسلام ؛ وذلك هو الإسلام الحقيقي الكامل الذي فرضه الله للعالمين كافة، وإن كرهه الظالمون وكادوا له كيدا بليغا.
قوله :﴿ وهم بالآخرة كافرون ﴾ هؤلاء المشركون الظالمون الذين يصدون عن دين الله ويبغون الإسلام أن ينقلب ضعيفا مفككا مضطربا، لا جرم أنهم كافرون بيوم القيامة وما تنطوي عليه من أهوال وقواصم تنتظر العتاة المجرمين من دعاة الفساد والإلحاد والتخريب في الأرض، إنهم لا يعبأون بالحق أو الفضائل، ولا تصيخ قلوبهم وآذانهم لنداء المنطق والحكمة، وإنما دأبهم الانزلاق سراعا خلف الشيطان بوسوسته وإغوائه وإطغائه تحصيلا لشهواتهم وأهوائهم الهابطة الرخيصة.
١ مصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٥٤..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٨٧..
قوله تعالى :﴿ وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون ٤٦ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾.
ذلك إخبار من الله عن هيئة الجنة والنار، وما فيها من ظالمين ومجرمين وفجار، فيقول سبحانه :﴿ وبينهما حجاب ﴾ أي بين الجنة والبار سور أو حاجز فلا تلتقيان أو تجتمعان.
قوله :﴿ وعلى الأعراف رجال ﴾ الأعراف جمع عرف وهو أعلى الشيء أو أعلى موضع فيه. والمراد بالأعراف هنا شرفات السور المضروب بين الجنة والنار ؛ قال بان عباس : الأعراف هو الشيء المشرف. ومنه عرف الفرس وعرف الديك ؛ وهو أعلاه١.
أما الرجال على الأعراف : فقد اختلف فيهم العلماء. فقد قيل : هم الشهداء. وقيل : هم صالحون فقهاء علماء. والقول الراجح في ذلك أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم فجعلوا هنالك إلى أن يقضي الله فيهم ما يشاء ثم يدخلهم الجنة. وهو قول كثير من أهل العلم فيهم ابن عباس وابن مسعود وحذيفة ابن اليمان وغيرهم. ويحقق هذا القول حديث جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( توضع الموازين يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة٢ دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار ) قيل : يا رسول الله، فمن استوت حسناته وسيئاته ؟ قال :( أولئك أصحاب الأعراف ؛ لم يدخلوها وهم يطمعون ). قوله :﴿ يعرفون كلا بسيماهم ﴾ جملة فعلية في موضع رفع صفة لرجال٣ ؛ أي يعرفون كلا من أهل الجنة وأهل النار ﴿ بسيماهم ﴾ أي بعلاماتهم الدالة على حقيقتهم والتي جعلها الله على وجوههم فيعرفون منها كبياض الوجوه لدى أهل الجنة وسوادها لدى أهل النار والعياذ بالله من النار وعذابها. أما السيما فهي العلامة. وكذا السمية والسيمياء بالكسر، والسومة بالضم بمعنى العلامة٤.
قوله :﴿ ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ﴾ أي نادى أصحاب العراف وهم الموقوفون على مشارف السور، نادوا أصحاب الجنة ؛ إذ عرفوهم من سيماهم ؛
وهي علامة الإشراق والوضاءة على وجوههم قائلين لهم : سلام عليكم. وذلك من باب التحية والدعاء لهم. أو أنكم نجوتم من العذاب وفزتم بالجنة فهنيئا لكم.
قوله :﴿ لم يدخلوها وهم يطمعون ﴾ هم، مبتدأ. ويطمعون جملة فعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والمبتدأ وخبره في محل نصب على الحال من ضمير ﴿ يدخلوها ﴾ فيكون المعنى على هذا : أن أصحاب الأعراف كانوا يائسين من دخول الجنة ؛ إذ لم يكن لهم طمع في الدخول، لكنهم دخلوا وهم على يأس من ذلك.
وقيل : لم يدخلوها بعد ولكنهم يطمعون في الدخول. وعلى هذا الوجه لا يكون للجملة موضع من الإعراب٥.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٥٤..
٢ صؤابة: بيضة القمل والبرغوث. انظر القاموس المحيط جـ ١ ص ٩٤..
٣ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٢..
٤ القاموس المحيط جـ ٤ ص ١٣٥..
٥ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٣..
قوله :﴿ وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ أي إذا صرفت أنظار أصحاب الأعراف إلى جهة أهل النار وعاينوا حالهم من العذاب البئيس، وتراءت لهم وجوههم الكالحة المسودة التي تشير إلى فظاعة النكال النازل بهم قالوا مذعورين متعوذين ضارعين :﴿ ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ﴾ أي دعوا الله أن لا يجمعهم في النار مع هؤلاء الظالمين الذين خسروا أنفسهم فهم في العذاب محضرون١.
١ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٤١ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢١٣ وتفسير الرازي جـ ٤ ص ٩٤..
قوله تعالى :﴿ و نادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ٤٨ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾.
أي نادى أصحاب الأعراف رجالا من أهل الأرض، من رؤساء الكفر كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأبي خلف وغيرهم من قادة الكافرين في الدنيا ؛ إذ رآهم أصحاب الأعراف فيما بين أهل النار، وهم يعرفونه بعلامتهم الدالة على ظلمهم وخسرانهم، وأنهم حصب جهنم وذلك مما يعلو وجوههم من العبوس والسواد ﴿ ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون ﴾ ذلك استفهام توبيخ وتعنيف. وقيل : ما نافية. أي ما كفاكم ولا نفعكم جمعكم وهم أباعكم وأشياعكم. أو جمعكم من المال واستكباركم عن قبول الحق وعن التصديق بدعوة الله. ذلك كله لم ينفعكم ولم يجد لكم شيئا، الآن فقد خسرتم آخرتكم هذه وضعتموها بعوض بخس وهي الدنيا الفانية.
قوله :﴿ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ﴾ الهمزة الأولى للاستفهام. وهؤلاء مبتدأ. والذين خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم ؛ أي أهؤلاء هم الذين أقسمتم عليهم١. والاستفهام للتوبيخ والتقريع. والمنادي هم أصحاب الأعراف. والإشارة إلى أهل الجنة الذين كانوا محتقرين في نظر الكفار في الدنيا، وهم من أمثال : سلمان وصهيب وبلال ؛ فقد كان الكافرون يحلفون أن الله لا يصيبهم برحمته وفضله.
قوله :﴿ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ﴾ وذلك من كلام أصحاب الأعراف، كذلك فهم إذا رأوا أهل الجنة قالوا لهم : ادخلوا الجنة أو دوموا فيها دواما أبديا لا ينفي ولا ينقطع غير خائفين من شيء يضركم أو يخيفكم ولا محزونين على ما فاتكم في الدنيا.
وقيل : القائل لهم ذلك هو الله. وقيل : الملائكة٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٣..
٢ تفسير الرازي جـ ١٤ ص ٩٧ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٥٥ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٢٦..
قوله تعالى :﴿ و نادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ٥٠ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسو لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾.
بعد أن يستقر المؤمنون في الجنة، والكافرون والظالمون في النار يخبر الله عن حال هؤلاء من التعس والويل والبلاء. وما يجدونه في النار من النكال والاغتنام والاستحسار ما يعجز القلم والكلمات عن وصفه إلا كلمات الله في كتابه الحكيم ؛ إذ تصف فظاعة التنكيل بالكافرين المجرمين العتاة، ومن جملته : ذلك العطاش الشديد الذي يحرق القلوب والأكباد حرقا، وكذا الجوع الأليم اللسع الذي يدفع الظالمين للمجرمين إلى الاستغاثة بأهل الجنة قائلين في كرب وهوان ﴿ أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ﴾ أفيضوا أي أسيلوا أو صبوا١ ؛ فهم يستغيثونهم أن يصبوا عليهم شيئا من الماء ليطفئوا به ظمأهم الحران، ويسكنوا عطاش قلوبهم الظامئة الحرى ﴿ أو مما رزقكم الله ﴾ أي من خيرات الجنة مما فيها من الطعام والثمرات ؛ فهم بذلك يستسقونهم ويستطعمونهم وهم يعانون من حر جهنم واستحرار لهيبها ما يجل عن البيان أو الصوف، إنهم ينادونهم بذلك رجاء منهم أن يستجيبوا لهم فيفيضوا عليهم مما سألوه لكنهم لم يستبقوا لهم في قلوب المؤمنين رأفة بهم ولا يستحقون من الله شيئا من رحمته وإحسانه. لا يستحقون في هذه الحال البئيسة الرهيبة غير الصدود والامتناع من غوثهم. وهو قوله سبحانه :﴿ قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ﴾ أجابوهم بمنعهم مما طلبوه وهو الطعام والشراب ؛ فقد حرموا من ذلك ومن كل وجوه الرزق والنعمة يوم القيامة فلا يستحقون من الجزاء حينئذ إلا النار بما أسلفوه من الكفران والعصيان والصد عن سبيل الله وتحريض الظالمين والمشركين والمتربصين على المسلمين، فضلا عن استسخارهم بدين الله والاستهزاء به، فقال سبحانه :﴿ الذين اتخذوا دينهم لهو ولعبا ﴾
١ القاموس المحيط جـ ٢ص ٣٥٣..
﴿ الذين اتخذوا دينهم لهو ولعبا ﴾ ذلك جواب أهل الجنة لأهل النار في سبب منعهم من شراب الجنة وطعامها. وهو كفرهم بالله وبدينه الذي شرعه لهم وأوجبه عليهم فاتخذوه لهوا ولعبا. والأصل في اللهو أنه الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة١ وهؤلاء الكافرين كانوا لاهين عن دنيهم الذي أنزله الله إليهم، وقد شغلت قلوبهم وعقولهم بزخارف الدنيا فما قابلوا هذا الدين إلا بالإعراض والسخرية والاستهزاء والتهكم العابث المفضوح.
قوله :﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ أي خدعتهم الدنيا بمتاعها وزخارفها وما حوته من عرض سريع زائل فاغتروا بها اغترارا ثناهم عن الاهتمام بالآخرة وما فيها من حساب وجزاء. وذلك هو شأن الدنيا، تغر أكثر الناس فينشغلون بها انشغالا يطغي على قلوبهم وعقولهم ويلهيهم عن أوجب واجباتهم وهو الإيمان بالله ورسله والدار الآخرة والتزام دينه الذي ارتضاه وشرعه لهم. وأيما انشغال عن ذلك أو اغترار أو انثناء فإن مآله التعس والخسران.
قوله :﴿ فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا ﴾ الكاف في ﴿ كما ﴾ في محل نصب نعت لمصدر محذوف ؛ أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم. وذكر النسيان في حق الرحمن يأتي على سبيل التمثيل. فالله تعالى لا ينس، إذا قصد النسيان في أصل معناه وهو عدم الذكر. ﴿ وما كان ربك نسيا ﴾ وقال عز من قائل :﴿ لا يضل ربي ولا ينسى ﴾ لكن المقصود بنسيان الله للكافرين هو تركهم في النار عطاشا جياعا معذبين على التأبيد لا يخرجون، مثلما تركوا دينهم الذي أنزله الله إليهم فأعرضوا عنه إعراضا ولم يستعدوا بالإيمان والطاعة للقاء الله في هذا اليوم المخوف.
قوله :﴿ وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ معطوف على ﴿ كما نسوا ﴾ أي ننساهم بتركهم في النار كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله في هذا اليوم٢. وكذلك نتركهم لما كانوا يكذبون بآيات الله وهي حججه وكتبه ودلائله التي يحتج بها النبيون على صدق دعوتهم.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٢٣..
٢ البيان لابن الأنباير جـ ١ ص ٣٦٤..
قوله تعالى :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ٥٢ هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾.
يقول الله مبينا حجته على الناس، أنه أنزل إليهم كتابه الحكيم وهو القرآن، مفصلا ومستبينا لا عوج فيه ولا نقص ولا إبهام، ميز الله فيه الحق من الباطل. وذلك ﴿ على علم ﴾ أي علم منا. أو أننا عالمون بما جاء فيه من خير وصلاح وتنجية للعالمين. وليس فيه شيء من وجوه النقص أو الضعف أو النسيان وإنما هو كامل البيان والتفصيل أنزله ﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ هدى ورحمة، منصوبان على الحال في هاء ﴿ فصلناه ﴾.
أي أنزله الله يكون هداية للناس فتستقيم أحوالهم وطبائعهم وحياتهم. وهو كذلك بعقيدته وشرعه ومنهجه للحياة، يفيض على الدنيا وأهلها بالرحمة والإحسان والتحنان. وقد خص المؤمنين بالهداية والرحمة ؛ لأنهم المدكرون المتعظون الذين بادروا التصديق بآيات الله والتزام دينه وشرعه دون إبطاء أو شك. فقال :﴿ هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾.
قوله :﴿ هل ينظرون إلا تأويله ﴾ استفهام وعيد. و ﴿ ينظرون ﴾ من النظر وهو الانتظار ؛ أي هل ينتظر هؤلاء المنكرون الجاحدون الكفرة ﴿ إلا تأوليه ﴾ أي عاقبته. وهو تأويل ما يؤول إليه تكذيبهم مما توعدهم به القرآن من سوء الحساب والعذاب.
قوله :﴿ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت الرسل ربنا بالحق ﴾ أي يوم القيامة يظهر عاقبة ما أخبروا به من العذاب ومصيرهم إلى النار، فأدركوا أن ما جاءتهم به الرسل حق، واعترفوا حينئذ بذنبهم العظيم وخطيئتهم الكبرى، وأيقنوا أنهم كانوا سادرين في الضلال ؛ فهم الآن صائرون لا محالة إلى الشقوة والتعس.
قوله :﴿ فهل لنا من شفعاء فيشعوا لنا ﴾ فيشفعوا، منصوب بتقدير أن بعد فاء السببية١ الشفيع هو السائل لصاحبه إسقاط العقاب عن المشفع فيه والعفو عن خطيئته. وهو من تعريف الطبرسي٢ يسأل الخاسرون التعساء يوم القيامة عن شفعاء يشفعوا لهم بدر العذاب عنهم وبتجنبهم مما عاينوه من العذاب المحيط المحدق. وهو استفهام اليائسين الخاسرين الذين أيقنوا أنهم أحيط بهم وأنهم صائرون إلى النار لا محالة. وهذا هو شأن اليائس المكروب الذي تملكه الحيرة، وغشيه اليأس المطبق، لا جرم أن يتشبث بما يظن أو يتمنى أنه منجاة له من النار. لكنه تشبث الحالمين الحياري الذين تقطعت بهم الآمال والسبل وعملوا أنه ليس حينئذ من شفيع ولا مجير إلا التداعي في النار والحرور.
قوله :﴿ أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ﴾ فنعمل منصوب على جواب التمني بالفاء بتقدير٣ أن يتمنون كذلك أن يردوا إلى الدنيا لاستئناف العمل الصالح فيعملوا غير ما كانوا يعملونه إبان غفلتهم وعصيانهم ولا يعدو ذلك دائرة التمنيات الحائرة الشواطح يطلقها الخاسرون الهلكى لما طغى عليهم اليأس وعضتهم الندامة عضا لا يجديهم ولا يغنيهم من العذاب الواقع شيئا. ولذلك قال :﴿ قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ خسروا أنفسهم، بإهلاكها وإسقاطها في العذاب الأليم الدائم. وذلكم هم الخسران الكبير. وفوق خسرانهم هذا ﴿ صل عنهم ما كانوا يفترون ﴾ أي بطل ما كانوا يلفقون من الأكاذيب والافتراءات على الله. أو غاب عنهم ما كانوا يتخذونهم شركاء مع الله فيعبونهم معه أو من دونه. وهذا شأن المشركين الضالين في كل زمان ؛ إذ يتخذون مع الله أربابا من دونه سواء كانت الأرباب من الجوامد الصم كالأصنام، أو البهائم التي لا تعي ولا تنطق كمن يقدس البقر ويتخذها مع الله شركاء، أو كان المعبود من البشر كالرؤساء الطواغيت أو الساسة والملوك الجبابرة المتسلطين الذين يستعبدون الناس استعبادا ويستخفونهم لطاعتهم استخفافا.
والرعاع وعامة الناس –وهم أكثر البشرية- يخفون في همة بالغة ونشاط ليس له نظير، لطاعة هؤلاء الجبابرة العتاة في كل ما يأمرونهم به. ولا يتردد المستخفون الرعاع يبادرون الطاعة لأسيادهم، ولو كلفهم ذلك الخروج عن منهج الله، وعصيان الله فيما أمرهم به. وذلك ضروب من ضروب الإشراك بالله يهوي فيه الضالون الخائرون٤.
١ البيان الابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٤..
٢ التبيان للطبرسي جـ ٤ ص ٤٠٢..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٤..
٤ تفسير البغوي جـ ٢ص ١٦٤ وتفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٦..
قوله تعالى :﴿ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ﴾ ذلك إخبار من الله عز وجل عن غيبه المستور وعلمه الخفي المكنون الذي لا يحيط به إلا هو، بما يدل على عظيم صنعه وبالغ قدرته وإرادته وحقيقة وجوده التي حفل بها الوجود كله والتي تشهد لها كل الحقائق والخلائق والدقائق كافة. إن ذلك كله يشهد بما يشهد الحس شدها ويقرع الجنان والعقل قرعا، على أن الله لهو ذو الجلال والإكرام وأنه الخالق الموجد المبدع. ومن جملة خلقه، خلق السموات والأرض بكل ما فيهما وما بينهما من عجائب كبريات وغرائب بواهر، وذلك في ستة أيام. ولا نقف على حقيقة المراد بالأيام هذه إلا ما أوفقنا عليه ظاهر النص من غير تكلف في ذلك ولا تمحل أو إقحام للعقل فيما لا يطيق أو يحتمل ؛ فقد قيل : ستة أيام كأيام الدنيا. وقيل : ستة أيام كأيام الآخرة. والله أعلم بما يريد. مع أن الله قادر أن يخلقهما في طرفة عين أو دون ذلك إن شاء، لكنه يفعل ما يشاء ؛ فالسموات والأرض من خلقه، والأيام من صنعه وتقديره، وله أن يقرر ما يريد دون معقب من أحد أو نديد. وفي هذا الصديد يقول سعيد بن جبير : كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، فخلقهن في سنة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور. وفي الحديث مما رواه أبو يعلي وغيره عن أنس :( التأني من الرحمة، والعجلة من الشيطان ).
قوله :﴿ ثم استوى على العرش ﴾ ﴿ استوى ﴾ في اللغة بمعنى استقر. استوى على دابته إذا استقر على ظهرها. واستوى إلى السماء ؛ أي قصدها، واستوى بمعنى استولى وظهر. وهو من تأويل المعتزلة. واستوى الشيء ؛ أي اعتدل. والاسم السواء١.
على أن الاستواء على العرش صفة للرحمن بغير كيفية يقف على حقيقتها الإنسان، بل يجب عليه الإيمان باستواء الله على العرش، وأن يكل العلم في ذلك إلى الله عز وجل. وقد سأل رجل الإمام مالك بن أنس عن قوله :﴿ الرحمان على العرش استوى ﴾ : كيف استوى ؟ فاطرق رأسه مليا وعلته الرحضاء٢. ثم قال : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالا، ثم أمر به فأخرج.
والعرش، في اللغة، بمعنى سرير الملك، ويطلق أيضا على الملك والعز والسلطان. وعرش البيت سقفه. وقيل : العرش معناه البناء العالي٣ والمراد بالعرش في هذه الآية وغيرها من الآيات، في ضوء ما تكشف عنه الأحاديث الصحيحة : أنه الخلق العظيم الهائل الذي يحيط بالسموات والأرض ؛ فهو أكبر منهما وأوسع، لاشتماله عليهما وإحاطته بهما٤.
قوله :﴿ يغشي الليل النهار ﴾ الجملة الفعلية في محل نصب حال. والتقدير : استوى على العرش مغشيا الليل النهار. ويغشي معناه يغطي، من الغشاء والغشاوة ؛ أي الغطاء ؛ أي يجعل الليل والنهار غشاء فيجلله بظلامه. أو يغطي ضياءه بسواده الشديد.
قوله :﴿ يطلبه حثيثا ﴾ الجملة الفعلية في محل نصب من الليل. صفة لمصدر محذوف تقديره طلبا حثيثا. والحثيث معناه المسرع٥ ؛ أي أن الليل يطلب النهار طلبا سريعا لا يعرف الفتور. وذكر الطلب هنا على سبيل المجار. وذلك أن أحدهما يعقب الآخر ويخلفه فكأنما يطلبه طلبا سريعا دائما لا انقطاع فيه ولا اضطراب ولا فتور. وهو من استمرار طلبه للنهار لا يدركه بل هو في أثره طوال الزمان حتى ينقطع الزمان إذ تنكدر النجوم انكدارا وتنثر الكواكب انتثارا. وهذا إيذان داو ومزلزل بقيام الساعة، بعد أن يتبدد نظام الكون في هذه الدنيا وينفرط عقد الكائنات وما حوته الطبيعة من قوانين مقدورة.
قوله :﴿ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ﴾ الأسماء الثلاثة الأولى معطوفة على السموات. ومسخرات، منصوب على الحال ؛ أي أن الله خلق السموات والأرض وخلق الشمس والنجوم مذللات بأمره أي بإرادته وقدرته وبمقتضى حكمته وتدبيره ؛ فهن مأمورات لله الذي فطرهن.
قوله :﴿ ألا له الخلق والأمر ﴾ الخلق : الإيجاد والاختراع مثلما قدر وأورد. والأمر : أي يأمر في خلقه بما يشاء، وليس له في ذلك شريك.
قوله :﴿ تبارك الله رب العالمين ﴾ تبارك من البركة، وهي في اللغة بمعنى النماء والزيادة. والتبريك : الدعاء والبركة. وتبرك به، أي تيمن به٦ و ﴿ تبارك الله ﴾ أي علا وعظم أو تعالى وتعظم. وقيل : تبارك وتقدس، والقدس بمعنى الطهارة. وقيل : كثرت بركته واتسعت لتصيب الحياة والأحياء جميعا٧ ورب العالمين، أي مالك كل شيء في الوجود. إذ ما من شيء في السموات والأرض أو بينهما أو خارج حدودهما مما هو أوسع منهما إلا هو مملوك له ؛ لأنه سبحانه له ملكوت كل شيء.
١ مختار الصحاح ص ٣٢٤ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٦٥ والتبيان للطبرسي جـ ٤ ص ٤٢٢..
٢ الرحضاء: رحض يده وثوبه، أي غسله. انظر مختار الصحاح ص ٢٣٧..
٣ مختار الصحاح ص ٤٢٣ وقتح القدير جـ ٢ ص ٢١١..
٤ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٨..
٥ مختار الصحاح ص ١٢٢..
٦ مختار الصحاح ص ٤٩..
٧ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٠٩، ٣١٠ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٦٤، ١٦٥ والتبيان للطبرسي جـ ٤ ص ٤٢١- ٤٢٣..
قوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ٥٥ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾.
يأمر الله في هذه الآية عباده المؤمنين بالدعاء إليه. والدعاء ضرب عظيم من ضروب العبادات. بل إنه عبادة رهيفة كريمة مميزة يتقرب بها المؤمن الداعي من ربه درجات. والحرص على الدعاء بغير كلل ولا ملل ولا قنوط دليل الإخلاص المستكين وهو يكشف أيضا عن استقرار الإيمان الوطيد في قلب المؤمن الداعي. فلا جرم أن يكون الدعاء علاقة يقين وتصديق كاملين لدى المؤمن. وهو كذلك ظاهرة أساسية ومفضلة من ظواهر العبادات على اختلاف أنواعها وضروبها. بل إن شعيرة الدعاء تأتي في طليعة العبادات جميعا إن لم تكن هي نتيجة أصيلة كبرى تؤول إليها العبادات برمتها. فما يزال المؤمن يصلي ويصوم ويتصدق ويتنسك ويتطهر ويكثر من الطاعات حتى تتعاظم صلته الروحية بخالقه العظيم ؛ لعبر عن حقيقة ذلك ومداه بالدعاء الصادق المخلص. وليس أدل على هذه الحقيقة من الحديث :( الدعاء مخ العبادة ) ١.
وكذلك ما رواه كثير من أصحاب السنن والمسانيد عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الدعاء هو العبادة ) وذلك تعظيم للدعاء بما يجعله في ذروة المراتب من الطاعات التي يتقرب بها المرء من الله. إلى غير ذلك من الأحاديث المبينة لقدر الدعاء العظيم. هذه الشعيرة القلبية الخفية التي تشير إلى إخلاص المسلم العابد وهو يتذلل خاشعا لله بالمناجاة والرجاء. على أن الدعاء الصحيح المطلوب ما كان مضبوطا بضوابطه مما في الكتاب أو السنة لكي يكون دعاء سليما متقبلا. وهو ما تبينه الآية هنا ﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾ تضرعا وخفية منصوبان على الحال ؛ أي متضرعين بالدعاء مخفين له. وقيل : صفة لمصدر محذوف تقديره : ادعوه دعاء تضرع ودعاء خفية.
والتضرع، من الضراعة وهي الخضوع والذلة والاستكانة والخشوع. تضرع إلى الله ؛ أي ابتهل٢. والخفية، خلاف العلانية وهي السر ؛ لن الإسرار في الدعاء أقطع للرياء وأبعد عن الإخلال بالإخلاص. باعد الله بيننا وبين الرياء كما باعد بين المشرق والمغرب.
وعلى هذا يحاذر المؤمن كل شائبة تشوب الإخلاص في الدعاء إذا ابتغى لدعائه الاستجابة والتقبل. ومن الشوائب التي ينخرم بها الإخلاص في الدعاء المجاهرة الصارخة في الدعاء أو الصياح الرفيع المستهجن الذي يذهب ببركة العبادة ويبدد منها النقاء وحلاوة التذلل إلى الله. وإنما يدعو المؤمن ربه إسرارا وهمسا بينه وبين ربه حتى لا يدري أحد أو يسمع ما يقول. قال الحسن البصري في ذلك : أدركنا أقواما ما كان على الأرض عمل يقدرون أن يكون سرا فيكون جهرا أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت، وإن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم٣.
واختلفوا في رفع اليدين في الدعاء ؛ فقد كرهه طائفة من العلماء منهم : جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومسروق وعطاء وطاووس ومجاهد. وأجز رفعه آخرون من الصحابة والتابعين. واستدلوا لجواز الرفع بما رواه البخاري عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا ثم رفع يديه ورأيت بياض إبطيه. ومثل ذلك عن أنس. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة مادا يديه، فجعل يهتف بربه.. وذكر الحديث. وفي رواية عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه.
أما مدى رفع اليدين في الدعاء فهو أن يرفعهما القانت حتى تصيرا بمحاذاة صدره. وهو قول الحنفية والحنبلية. وهو ما روي عن عمر وابن عباس وابن مسعود. وفي رواية عن أنس قال فيها :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ) ٤.
قوله :﴿ إنه لا يحب المعتدين ﴾ الاعتداء يراد به مجاوزة الحد. وفي الحديث ما أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سيكون قوم يعتدون في الدعاء ) والاعتداء في الدعاء يكون على وجوه منها : الجهر الكثير والصياح، وهو ما بيناه في الفقرة السابقة. ومنها ان دعاءه أن يكون له منزلة نبي أو يدعو في محال مما لا يحصل إلا بمعجزة، كما لو دعا ربه أن يصعد إلى السماء أو ينقلب له الحجر ذهبا وذلك ضرب من الشطط والعبث غير المعقول ولا المقبول في الدعاء.
وللدعاء آداب كثيره منها ان يكون الداعي على طهارة وأن يكون مستقبلا القبلة وأن يكون قلبه خاليا من شواغل الدنيا وأن يفتتح الدعاء ويختتمه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يرفع يديه نحو السماء. وأن يتحرى ساعات يستجاب فيها الدعاء منها يوم الجمعة ووقت نزول المطر وعند الإفطار.
١ رواه الترمذي عن أنس..
٢ مختار الصحاح ص ٣٨٠..
٣ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣١٠، ٣١١ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٦٥- ١٦٦..
٤ المغني لابن قدامة جـ ٢ ص ١٥٤ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٢٥..
قوله :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ نهى الله عن عموم الفساد في الأرض بعد أن شاعت فيها كلمه الحق والعدل وشاع فيها الإيمان والأمن والخير والاستقرار وكل وجوه الصلاح الذي يرسخ بأمر الله وبدينه العظيم الرحيم.
على أن وجوه الإفساد كثيرة يأتي في أشدها وأنكرها الإشراك بالله. لا جرم أن الإشراك بالله غاية الإجرام والإفساد في الأرض. وكذلك وجوه العصيان وارتكاب المحظورات وإشاعة الأذى والمنكر في البلاد بما يؤذي الناس ويضر بالعباد.
قوله :﴿ وادعوا خوفا وطمعا ﴾ أي عبدوا الله، وأطيعوه بكل وجوه الطاعة، وتذللوا له خاشعين بالدعاء أن يدرأ عنكم العذاب، وأن يتفضل عليكم برحمته وجزيل ثوابه.
قوله :﴿ إن رحمت الله قريب من المحسنين ﴾ قريب مذكورة بالتذكير على النسب ؛ أي ذات قرب ؛ كقولهم : امرأة طالق وطامث وحائض ؛ أي ذات طلاق وطمث وحيض. وقيل غير ذلك١. وتأويل الآية : أن رحمة الله قد كتبها لمن أطاعوه فاتبعوا أوامره واجتنبوا زواجره. إن هؤلاء المؤمنين المطيعين ينالون من الله رحمته التي وسعت كل شيء. ورحمة اله بفيضها الغامر الواسع تشمل كل معاني الخير والفضل والإحسان والعطاء الكريم. وذلك ما أعده الله بعباده الصالحين يوم القيامة٢.
١ البيان لاين الأنباري جـ ١ ص ٣٦٥..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٢٢ وتفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣١٢..
قوله تعالى :﴿ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ٥٧ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ﴾.
الرياح التي تحمل السحاب وما فيه من مطر، يرسلها الله للبعاد لتحمل لهم البشريات بنزول الخير والرحمة. وقوله :﴿ بشرا بين يدي رحمته ﴾ أي مبشرات قدام رحمة الله وهو المطر المحمول. وقد سمي برحمة : لما يترتب عليه بحسب العادة من الخير والخصب والبركة والرزق. و ﴿ بشرا ﴾، بضم الباء وسكون الشين، جمع بشير منصوب على الحال. وقرئت الكلمة بقراءات غير ذلك ومنها ( نشرا ) بالنون١.
قوله :﴿ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا ﴾ ﴿ حتى ﴾ غاية لقوله :﴿ يرسل ﴾ و ﴿ أقلت ﴾، أي حملت٢ من لإقلال وهو الحمل. والحساب ؛ معناه الغيم سواء كان فيه ماء أو لم يكن، وجمعه سحب وسحائب٣، والسحاب الثقال ؛ ومعناه الغيم الموقر بالماء يسوقه الله بإرادته إلى بلد ميت، ليس فيه ماء ولا نبات. بلد دارس مجدب غابت عنه كل ظواهر الحياة والحركة. حتى إذا ساق الله إليه السحائب الموقرات بماء المطر انبعثت فيه الحياة والبركة وشاعت فيه الخيرات والثمرات بما يفيض على الحياة والناس الأمن والرخاء والنعمة. وذلك هو مقتضى قوله تعالى :﴿ حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ﴾.
قوله :﴿ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ﴾ الكاف في اسم الإشارة في محل نصب صفة لمصدر محذوف. وتقدير الكلام : مثل ذلك الإخراج نخرج محل نصب صفة لمصدر محذوف. وتقدير الكلام : مثل ذلك الإخراج نخرج الموتى من القبور. وهذا برهان من الله لكل ذي عقل سليم وفطرة سوية. برهان منتزع من الواقع المنظور مما لا يعز على الأذهان أن تعيه أو تصوره، وجملته : أن الله القادر على إحياء الأرض بعد مواتها ويبسها وجدبها، ثم يثير فيها الحياة والحركة والنمو ؛ لهو قادر على إحياء الموتى من الأحياء في يوم البعث بعد أن أتى عليهم البلى والتعفية والدروس.
ألا يتشابه الحالان ؟ بلى إنهما متشابهان لا يختلفان لا في الأصل ولا في الكيفية ؛ فكلاهما في الأصل ميت وجامد وهامد. الأرض الميتة اليبس قبل أن يردها الماء مقفرة مجدبة ليس فيها حياة البتة. لكنها إذا ما سقيت ماء انبعث فيها الحياة والنماء والعطاء لتستحيل الأرض القفر بعد الماء إلى جنات حسان حيث الزروع والثمرات، فتعبق بها الروائح الزكية الفواحة، وتفيض على الناس زهوا وبهجة وجمالا.
إن الذي صنع من حبات الثرى الجوامد جنات خصيبة بهيجة مخضرة لهو قادر –بداهة- أن يحيي الخلائق بعد موتهم. وذلك هو تأويل قوله تعالى :﴿ كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون ﴾ إن هذا الإحياء العجيب الباهر، وهذه العملية الربانية المذهلة في الخلق، وبعض الحياة بعد موات واقفرار وركود ؛ لا جرم أنها خر دليل على حقيقة البعث يوم القيامة. وفي ذلك من قوة البرهان الساطع ما يعيه ويتذكره أولو النباهة والفطانة من الناس.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٦..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٥٦..
٣ المعجم الوسط جـ ١ ص ٤١٨..
قوله :﴿ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ﴾ نكدا، منصوب على الحال١ والبلد الطيب، يراد به الأرض ذات التربة الخصيبة الكريمة، إذا أنزل الله عليها الحيا والغيث خرج منها النبات الوافر ذو الثمر الطيب الغدق بإذن الله. أما الذي خبث فيراد به الأرض العسيرة التي لا تجدي ولا تنفع لكونها سبخة أو ذات حجارة وشوك ؛ فإنها لا تخرج غير النبات النكد. أي القليل الذي لا يخر فيه. ولا يخرج إلا نكدا أي عسرا وفي شدة. والنكد بالفتح، مصدر وهو الشدة والضيق والشؤم واللؤم، وعطاء منكود ؛ أي نزر قليل. والرجل المنكود ؛ هو الذي كثر سؤاله وقل خيره. ورجل نكد ؛ أي عسر، وقوم أنكاد ومناكيد٢.
هذا مثل يضربه الله للناس، يبين فيه اختلاف القلوب. فثمة قلب مؤمن كريم متفتح يعي حقيقة الإيمان والإخلاص ويقبل المواعظ والذكر ويلين للكلمة الصادقة الودود فيقبل على الله في طواعية ولين واستسلام. وقلب آخر مغاير كل مغايرة أو بعضها ؛ فهو منكود وموصد وعسر لا خير فيه. قلب جاحد فظ لا يروق له الصدق والعدل والصواب، ولا تعطفه المواعظ والذكرى، وهو لفرط قسوته وتبلده وضموره لا نؤثر فيه أسباب الهداية أو الترشيد ؛ فهو بذلك مستعص على كل هاتف من هواتف الدين المستقيم، أو نداء من نداءات الهداة والمرشدين. ذلكم هو الإنسان النكد الشرير. الإنسان الظالم العتل الذي خبت فيه بصائص اللين والرحمة والجمال وغارت فيه كل ظواهر التدين والخير، فأبي إلا التمرد والشرود والعصيان قوله :﴿ كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون ﴾ أي مثلما صرفنا الآيات والبينات والدلائل لدحض الشرك وافتراءات الظالمين والمشركين ؛ فإنما نردد الآيات والحجج ونكرها لتدل على قدرة الله البالغة فيتدبرها الشاكرون وهم الذين يحسنون الانتفاع بهذه الدلائل والبينات.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٦..
٢ لسان العرب جـ ٣ ص ٤٢٧..
قوله تعالى :﴿ لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٥٩ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ٦٠ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ٦١ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون ﴾ شرع يقص علينا أخبار المرسلين السابقين وما بذلوه من جهود هائلة لا يحتملها إلا أمثالهم من النبيين المرسلين. لقد بذلت رسل الله غاية طاقاتهم من التبليغ والأداء ودعوة الناس إلى عبادة الله والتزام دينه وشرعه وأن يجانبوا عبادة الطواغيت والمعاصي ليكونوا من الراشدين المهدين. فها هو جل جلاله يقص علينا من أخبار نوح عليه الصلاة والسلام. هذا النبي الكريم المفضال الذي عاش في قومه هديا ومبلغا ألف علم إلا قليلا. وقد يكون يدعوهم خلال هذا الزمن الطويل إلى الله وإلى الانثناء عن ضلالاتهم وحماقاتهم في الإذعان للأصنام. لكنه لقي من جحود قومه وعتوهم وعصيانهم وإيذائهم مالا يطيقه بشر من البشر إلا من كان في درجة نوح عليه الصلاة والسلام.
وفي حقيقة هذا الاسم ( نوح ) قيل : إنه سمي بذلك لكثرة ما ناح على نفسه. واختلفوا في سبب نياحه على نفسه فقيل : سببه دعونه على قومه بالهلاك. وقيل : مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان. وقيل : إصرار قومه على الكفر. فكان كلما دعاهم وأعرضوا عنه بكي وناح عليهم. وقيل غير ذلك من الأخبار الظنية غير المستندة إلى أدلة معتبرة ومقبولة إلا الإغراق في الظن البعيد الذي لا يغني من الحق شيئا. والظاهر أن هذا الاسم قد وضع له عليه الصلاة والسلام لدى ولادته ؛ فهو غير مشتق من النياحة أو النياح أو المناحة أو النوح. بل هو اسم أعجمي منصرف لخفته١.
قوله :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ غيره، مرفوع صفة لإله، أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء. وقيل : مجرور على أنه صفة لإله باعتبار لفظه٢.
وفي الآية هذه ينادي نوح قومه الضالين المشركين نداء الرفيق الشفيق أن اعبدوا الله وحده وأطيعوه وأذعنوا له بالانقياد وذروا هذه الأنداد المصطنعة المفتراة ؛ فإنها جميعا لا تضر ولا تنفع ؛ فهي صم بلهاء لا تعي ولا تسمع ولا تملك لكم شيئا ؛ فإنه ليس لكم في الحقيقة من إله خالق قادر رازق سوى الله.
قوله :﴿ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ وهذا تنذير من نوح لقومه يخوفهم به تخويفا، فإذا لم يفيئوا إلى الله بعبادته وحده ونرك الأصنام كليا والانخلاع من هذه الربقة المهلكة. ربقة الشرك والضلال والتعس، والتشبث بالأصنام المفتراة –لئن لم يفيقوا من هذا العمه الطاغي يستنقذوا أنفسهم من كابوس الوثنية الضالة العمياء ؛ فلسوف يحيق بهم العذاب من الله. وهو عذاب أليم شديد قي يوم مذهل رعيب يشتد فيه الهول ويتعاظم فيه البلاء. ونوح عليه السلام حريص على قومه كل الحرص لتنجيتهم من العذاب. بل إنه يخاف عليهم أن يحل عليهم العذاب يوم القيامة، وحينئذ لا يحول دونه حائل، ولا تجدي معه شفاعة الشافعين.
١ القاموس المحيط جـ ١ ص ٣٦٣..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٧..
قوله :﴿ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ﴾ الملأ يعني الجماعة وهم أشراف القوم وسراتهم وجمعه أملاء١. لما دعا نوح قومه إلى دين الله، دين التوحيد والاستقامة أجابه أشراف القوم وهم رؤوس الكفر والضلال وقادة الفساد والشرك الذين مردوا على الوثنية والباطل، والذين أشربت نفوسهم حب الأصنام وكراهية الحق –أجابه هؤلاء المسرفون في الضلالة والعدوان :﴿ إنا لنراك في ضلال مبين ﴾ وأصل الضلال، الضياع والغياب والهلاك٢، والمراد به العدوان عن سبيل الله وهو منهجه الحكيم، أو دينه المعتدل القديم. لكن المقصود بالضلال في تصور هؤلاء الظالمين من قوم نوح هو العدول عن ملتهم السخيفة وعبادتهم الفاسدة المفتراة، وعن أصنامهم المختلفة الجوامد. هكذا يفتري الضالون المشركون على نبيهم الكريم العظيم بالكذب والباطل. وذلك هو ديدن الكبراء والساسة والأشراف من قادة الضلال والإجرام في كل زمان ؛ إذ يفترون على الداعين إلى الله وتطبيق شريعته ومنهجه فيتهمونهم بمختلف الأكاذيب والترهات.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص٨٨٢ ومختار الصحاح ص ٦٣١..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٥٤٢..
قوله :﴿ قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ﴾ بمثل هذا النداء الشفيق المخلص الحاني ينادي نوح قومه ﴿ يا قوم ﴾ نافيا ما زعموه في حقه من الضلالة وهي العدول عن الحق قائلا لهم : إنه ليس بي ما تظنون من الضلال ولكني أرسلت من رب العالمين ؛ لأبلغكم رسالته فأدعوكم إلى توحيده وعبادته والإقلاع عن هذه الآلهة المفتراة المصطنعة.
قوله :﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ﴾ أبلغكم بالتشديد للمبالغة. والرسالات جمع رسالة. وذكرها على الجميع ؛ لتنوع ما أرسل به إليهم من مختلف المعاني والمواعظ والأحكام. أو أن المراد رسالته هو ورسالات غيره من النبيين كإدريس وشيث فهو عليه السلام يخبرهم بأسلوب رحيم ودود أنه مرسل إليهم ليبلغهم رسالات الله وينصح لهم. والنصح في اللغة معناه الإخلاص وصدق المشورة والعمل. والناصح معناه الخالص من كل شائبة. ورجل ناصح ؛ أي نقي القلب١ : والمراد : أنني أبين لكم وجه المصلحة فيما ينفعكم في دنياكم وأخركم.
قوله :﴿ وأعلموا من الله ما لا تعلمون ﴾ أي أعلم من قبل الله بوحيه الكريم من المعلومات والأخبار ما ليس لكم بها علم وذلك عن قدرته القاهرة وبطشه الشديد، وعما يلاقيكم يوم القيامة من الأهوال والشدائد وفظاعة التعذيب ؛ إن لم تؤمنوا برسالتي إليكم، وتكفوا عما أنتم عليه من الشرك والباطل٢.
١ القاموس المحيط جـ ١ ص ٢٦١ والمصباح المنير ج، ٢ ص ٢٧٦ ومختار الصحاح ص ٦٦٢..
٢ روح المعاني جـ ٨ ص ١٥٠- ١٥٢ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٥٠، ١٥١..
قوله تعالى :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون ٦٣ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين ﴾ الهمزة في ﴿ أو ﴾ للاستفهام الإنكاري. والواو للعطف ؛ أي لم هذا العجب منكم ؟ وهو عجب ليس له داع ولا مبرر، أتعجبون أن يجيئكم موعظة من ربكم فيها بيان لكم عما ينفعكم في دينكم ودنياكم ﴿ على رجل منكم ﴾ أي من جنسكم تعرفون أصله ونسبه وخلقه، جاءكم ليحذركم العقاب المنتظر بسبب تفريطكم في حق الله وعصيانكم أمره، ومن أجل أن تخافوا الله ربكم فلا تتوانوا عن طاعته ولا تترددوا في مجانبة عصيانه. وذلك كله سبيل خلاصكم ونجاتكم، وهو ما يفضي بكم إلى الظفر برحمة الله.
لكنهم بالرغم من كل هذه النصائح المشداة، وبالرغم من مواعظ نوح الطويلة وتحذيره المتواصل لقومه في الليل والنهار طيلة ألف عام إلا قليلا، بالرغم من ذلك كله لم تجد النصائح ولا المواعظ مع هؤلاء العتاة الغلف شيئا. بل لجوا في عتوهم وتكذيبهم لجوجا، وظلوا سادرين في طغيانهم وتكذيب نوح حتى كانت النهاية البالغة الفاصلة التي أنجي الله فيها نوحا والذين آمنوا معه في السفينة. وعددهم من نوح ثلاثة عشرة من المؤمنين والمؤمنات. وهم نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وأزواجهم، وسنة أناسي آخرون ممن أمن به. ثم أغرق الله الباقين الأكثرين الذين لجوا ف عتوهم وعصيانهم وأسرفوا في غرورهم وعنادهم فلم يؤثر فيهم النصح الأمين ولا الوعظ الحليم حتى أخذهم الله بالطوفان الغامر الهادر ؛ فكانوا من الهالكين الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة. لا جرم أن ذلك لهو الخسران الفادح المبين١.
قوله تعالى :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ٦٥ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ٦٦ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ٦٧ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ٦٨أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا الآلاء الله لعلكم تفلحون ﴾.
لقد أرسل الله نبيه ورسوله هودا عليه السلام إلى قوم عاد وهو قوله :﴿ وإلى عاد أخاهم هودا ﴾ أي صاحبهم. وقيل : أخوهم في القبيلة. وكان هود أوسط قومه نسبا وأفضلهم حسبا. أما عاد فهم من ولد سام بن نوح. كانوا ينزلون الرمال بنواحي حضر موت من اليمن. وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارة. وظاهر حقيقتهم ووصفهم أنهم كانوا عتاة غلاظا أشداء، عبدوا الأصنام وعتوا عن أمر ربهم عتوا شديدا لما دعاهم نبيهم هود ؛ إذ قال لهم :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره أفلا تتقون ﴾ أي اقبلوا على الله بالتصديق والطاعة، وأفردوا له العبادة، وأعتقوا أنفسكم من العبودية للأصنام ؛ فغنه ليس لكم من إله معبود يستوجب منكم الخضوع والامتثال سوى الله. فهو خالقكم وخالق أصنامكم، وهو الذي ذرأ لكم ما تتقلبون فيه من نعيم الدنيا ورخائها ﴿ أفلا تتقون ﴾ أي أفلا تخافون الله فتحذروه وتخشوا عقابه فتبادروا الإيمان به والطاعة له قبل ان يحل عليكم غضب الله وعذابه.
قوله :﴿ قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ ذلك جواب القوم الظالمين –قوم عاد- إذ كذبوا نبيهم تكذيبا وجحدوا توحيد ربهم عنادا واستكبارا ﴿ إنا لتراك في سفاهة ﴾ والسفاهة في الأصل الخفة، والمراد بها نقص العقل١ أي نجد أنك يا هود ناقص عقل وضال عن الحق والصواب ؛ إذ فاقت قومك وتركت دين آبائك وعبادة آلهتهم ﴿ وإنا لنظنك من الكاذبين ﴾ قيل : الظن هنا بمعنى العلم. أي نعلم يا هود أنك من الكاذبين في دعواك حمل الرسالة وقيلك إنك مرسل من ربك. وقيل : الظن جار على ظاهره وهو خلاف اليقين. فقد قالوا ما قالوه مع كونه عليه السلام معروفا بصدقه وأمانته.
١ المصباح المنير جـ ١ ص ٢٩٩..
قوله :﴿ قال يا قوم ليس بي سفاهة ولاكني رسول من رب العالمين ﴾ هذا رد من داود للسفاهة عن نفسه في خطاب رفيق لقومه. خطاب تبدوا فيه نداوة الإشفاق على قومه والتجنب لهم ؛ استمالة لقلوبهم الفظة. وذلك في قوله :﴿ يا قوم ﴾ فهم أهله وعشيرته وقومه وهو من جنسهم يسوؤه ما يصيبهم من عنت.
وقد نفي هود عن نفسه أيما سفاهة ؛ فإنه ما ضل ولا مال عن الحق والصواب. ولكنه مرسل من ربه جاء يبلغ الناس رسالة ربهم ففيها الهداية لهم والترشيد، وفيها ما يصلح عليه حالهم في الحياة وفي المعاد وهو قوله :﴿ أبلغكم رسالات رب وأنا لكم ناصح أمين ﴾
قوله :﴿ أبلغكم رسالات رب وأنا لكم ناصح أمين ﴾ أي أنصح لكم في دعوتي لكم وتبليغي إياكم، وما أقول لكم إلا الحق والصدق، وما أريد لكم إلا الإصلاح والخير والنجاة.
قوله :﴿ أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ﴾ أي أتعجبون من أن ينزل الله رسالته فيها موعظة وتذكير لكم على رجل من جنسكم تعرفون نسبه وخلقه لكي ينذركم بأس الله ويخوفكم عقابه فتهتدوا وتثوبوا إلى الله عابدين طائعين ؟ !
قوله :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة ﴾ إذ، في محل نصب مفعول لا ذكروا ؛ أي اذكروا وقت استخلافكم.
فإن هودا عليه السلام يدعوا قومه أن يتذكروا منن اله عليهم، لا رجم أنها منن عظمة تستوجب منهم الشكران لله والثناء عليه ؛ فقد جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح يخلفونهم في مساكنهم وفي الأرض من بعدهم. أو أنه جعلهم من بعدهم ملوكا وسادة. وكذلك ( زادهم في الخلق بسطة ) أي قوة وزيادة في الجسم، أو طولا في الخلق وعظمته في الجسم. فقد قيل : كانت قامة الطويلة منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا. وقيل : كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة. وقيل : كانوا كأنهم النخل الطوال، وقيل غير ذلك من الأوصاف لقوم عاد في عظمة طولهم وضخامة أجسادهم وقوتهم الهائلة بما يميزهم في ذلك عن غيرهم من الناس. وذلك من منن الله عليهم التي تستوجب منهم الذكرى والشكر لله بإفادة في الإلهية والعبادة.
قوله :﴿ فاذكروا الآلاء الله لعلكم تفلحون ﴾ الآلاء : النعم. وهي جمع ومفرده إلي، بالكسر فسكون على وزن حمل. أو ألي، بالضم فسكون على وزن قفل وأو إلى بالكسر ففتح، مقصور. وفي الآية بيان لدعوة هود عليه الصلاة والسلام قومه أن يتذكروا ما أسبغ الله عليهم من نعمه العظيمة المميزة، وذلك لما في تذكر هذه النعم ما يفضي إلى شكرهم الله واعترافهم بفضله وعطائه. ومن شكر الله واعتراف له بالفضل والمنة فقد أدرك الحقيقة، وأيقن أن الله وحده المعبود دون أحد سواه من خلقه العبيد١.
١ تفسير البيضاوي ص ٢٠٩ وتفسير النسفي ج، ٢ ص ٦٠ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٥٥- ١٥٧..
قوله تعالى :﴿ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٧٠ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين ٧١ فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا وما كانوا مؤمنين ﴾.
هكذا كان جواب قوم عاد. لقد أجاب هؤلاء السفهاء عما دعاهم إليه نبيهم هود من التصديق والتوحيد والطاعة لله دون سواه، وعما ذكرهم به من آلاء الله الكبيرة عليهم –أجابوه في استنكار وسفاهة بما يكشف عن قلوبهم الغلف وطبيعتهم الكزة التي تنفر من الحق وتستمرئ التقليد والضلال والباطل ﴿ أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ﴾ الآية. يعني أجئتنا تتوعدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين لنعبد الله وحده دون غيره من الأنداد فندين له بالعطاء ونهجر عبادة الآلهة الأخرى التي ألفينا آباءنا يعبدونها من قبل. فما نحن بمؤمنين لك ولا مصدقين ما جئت به فأتنا بما تعدنا من العقاب والعذاب على عدم إخلاص التوحيد لله وعبادة ما دونه من الأوثان إن كنت صادقا فيما تقول.
قوله :﴿ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب ﴾ الرجس معناه هنا العذاب١ والغضب معناه السخط وإرادة الانتقام٢، وقد أجاب هود قومه عقب ما أظهروه من بالغ السفاهة والعتو والاستكبار، بعد كل الدلائل والحجج التي سيقت لإقناعهم وتخويفهم –أجابهم بأنه قد حل بهم من الله عذاب وسخط وأن إرادة الله بالانتقام منهم نازلة بهم ولا راد لها من أحد.
قوله :﴿ أتجدلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ﴾ قال لهم نبيهم هود مستنكرا مستقبحا مقالتهم الظالمة :﴿ أتجدلونني في أسماء سميتموها ﴾ الآية. أي أتخاصمونني في مسميات وضعتم أنتم لها أسماءها التي لا تستحقها ولا يليق بها فسميتموها آلهة افتراء وضلالا وسفها، وهي في الحقيقة تماثيل صماء لا تدرك ولا تنطق، وهي كذلك لا نضر ولا تنفع ﴿ ما نزل الله بها من سلطان ﴾ أي ليس لكم من الله فيها حجة ولا برهان تعتذرون أو تحتجون به.
قوله :﴿ فانتظروا إني معكم من المنتظرين ﴾ الفاء للترتيب على ما تقدم. وذلك تهديد ووعيد للقوم الظالمين الذين عتوا وأبوا إلا الكفر والوثنية قائلا لهم : انتظروا نزل العذاب الذي طلبتموه أنتم وإن معكم من المنتظرين حكم الله وقضاءه فينا وفيكم.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٣٠..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٦٥٤..
قوله :﴿ فأنجيناه والذين معه برحمة منا ﴾ أي أنجينا هودا ومن معه من المؤمنين الذي صدقوه واتبعوا ما أنزل إليه من توحيد الله وإفراده بالإلهية دون غيره من الأوثان والأنداد المفتراة ﴿ برحمة منا ﴾ أي كانت تنجيتهم مما حل بالقوم المشركين من العذاب رحمة من الله يكتبها لعباده المؤمنين الصابرين الثابتين على الحق، لا يفتنهم المضلون الظالمون.
قوله :﴿ وقطعنا دابر الدين كذبوا بآياتنا ﴾ الدابر معناه آخر كل شيء، أو الأصل١. والمراد هنا الكناية عن الاستئصال. وذلك أن الله أهلكهم بالكلية فلم يبق منهم أحدا.
قوله :﴿ وما كانوا بمؤمنين ﴾ معطوف على قوله :﴿ كذبوا بآياتنا ﴾ أي أنهم مكذبون بآيات الله، وجاحدون نبوة هود، ومنكرون ما جاءهم به من عند الله٢.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٢٧..
٢ تفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٦٧ روح المعاني جـ ٨ ص ١٥٨- ١٦١ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٥٧..
قوله تعالى :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ٧٣ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا الآلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين ٧٤ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسلا من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون ٧٥ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ٧٦ فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ٧٧ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾.
ثمود اسم عربي بمعنى الماء القليل. ثمد الماء : قل. وثمد الماء على النصب ؛ إي استنبطه من الأرض. وقد ورد فيه الصرف وعدمه. أما الصرف ؛ فلأنه اسم للقليل من الماء. وأما عدم الصرف : فهو باعتباره اسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث١.
وثمود قبيلة العرب العاربة جاءوا بعد عاد وهم من سلالة سام بن نوح. ومساكنهم فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع للهجرة. وكانت ثمود في سعة من المعايش. ولكنهم كانوا ظالمين مشركين ؛ إذ عبدوا الأصنام وأفسدوا في الأرض إفسادا، فبعث الله إليهم صالح نبيا ورسولا منهم. وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا. فدعاهم إلى عبادة الله وحده وهجر الأصنام والشرك، فلم يطعه منهم إلا قليلون مستضعفون٢.
وهذا تأويل قوله سبحانه :﴿ وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ﴾.
قوله :﴿ قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية ﴾ البينة هنا يراد بها آية أو معجزة ظاهرة تشهد على صدق نبوة صالح عليه السلام. والمعجزة هي في قوله تعالى :﴿ هذه ناقة الله لكم آية ﴾ وآية منصوب على الحال. لما دعا صالح ثمودا إلى التوحيد ونبذ الأصنام والشرك سألوه أن يخرج لهم ناقة من جوف الصخر الصلد ليؤمنوا به ويصدقوه ويشهدوا أن ما جاءهم به حق. فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن تحقق ذلك ليصدقنه وليؤمنن به. قالوا : نعم. فأعطوه على ذلك عهودهم، فدعا صالح ربه أن يخرج لهم ناقة من تلك الهضبة كما وصفوا، فاستجاب الله لنبيه صالح وانصدعت الهضبة الصلدة الصماء عن ناقة عظيمة كما سألوا. فرأوها عيانا ويقينا. وكان لها يوم تشرب فيه الماء. ولهم الشرب في اليوم الثاني، ثم تعطيهم اللبن الكثير فيشربون ما يشاءون ويدخرون. فالماء بذلك نصفان، لها يوم ولهم يوم.
قوله :﴿ فذروها تأكل في أرض والله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ﴾ أمرهم نبيهم صالح أن يتركوا الناقة تأكل من النبات الأرض وهي ليست أرضهم وما فيها من الكلأ إن هو إلا من تخليق الله وهو ليس مملوكا لهم. ونهاهم أيضا عن إيذائها أيما إيذاء. وقد توعدهم بأشد العذاب من الله إذا مسوها بسوء، فمكث الناقة ترعى الكلأ مدة من الوقت حتى حانت ساعة الشر والمكر ؛ إذ تحركت في القوم بواعث الشر والأذى، ونزعت نفوسهم المهينة الكزة إلى العصيان اللئيم الفاجر، وزين لهم الشيطان فعل السوء والمنكر وهو أن يقتلوا الناقة ظلما وعدونا.. فقتلوها. وذلك بعد أن أبوا أن يؤمنوا لنبيهم صالح ؛ إذ نكثوا العهد الذي كانوا قطعوه على أنفسهم بالإيمان والتصديق. ولجوا في العتو والإجرام حتى عقروا الناقة وهي آية لهم من الله. لا جرم أن ذلك دأب اللئام من البشر الغيظ. هؤلاء الأشرار القساة الذين لا يعطف قلوبهم عن اللؤم إحسان يبذله لهم أهل البر والخير. وما كان ينبغي للمستفيد من الخير والمبذول إلا إبداء والرقة والإقرار بالمعروف والجميل للمحسنين الكرام. لكن الخسيس من الناس الذي جبل على اللؤم وكزازة الطبع يأبى إلا النسيان المصطنع، والجحود الممجوج.
١ القاموس المحيط جـ ١ ص ٢٩٠ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ١٠٠..
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٢٧ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٦٢..
قوله :﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ﴾ خلفاء جمع خليفة. وهذا تذكير من صالح لقومه المشركين واعظا لهم ومحذرا من العصيان وإيذاء الناقة وقائلا لهم : تذكروا نعمة الله عليكم ؛ إذ خلفتم عادا في الأرض بعد هلاكها. أو استخلفكم في الأرض بجعلكم ملوكا وساسة.
قوله :﴿ وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ﴾ بوأكم في الأرض، أي أنزلكم فيها. من الباءة وهي عبارة عن المنزل. بوأته دار : أي أسكنته إياها. وتبوأ بيتا : أي اتخذه مسكنا١.
والنحت معناه والقشر بفتح القاف فسكون٢ وذلك تذكير من نبي الله صالح لقومه ثمود ؛ إذ مكنهم الله في الأرض فاتخذوا منها المنازل العالية، والقصور، وهي البيوت العظيمة الشامخة. وكذلك مكنهم من نحت الجبال وهو نقبها وقطع الحجارة منها لاتخاذ المساكن المكنية الشامخات.
وذلك كله من فضل الله عليهم ؛ إذ من عليهم بالاستقرار وحسن المعايش.
قوله :﴿ فاذكروا الآلاء اله ولا تعتوا في الأرض مفسدين ﴾ دعا صالح عليه السلام قومه أن يذكروا آلاء الله وهي نعمه الكثيرة عليهم، وذلك مما ذكر ومما لم يذكر.
وليس الذكر بمجرد اللسان بل بفعل الصالحات وبالشكران المبعوث من القلب والانزجار عن المعاصي وفي طليعتها الإشراك بالله. ودعاهم كذلك ألا يعثوا في الأرض مفسدين. وهو من العثو، بضم العين والثاء، ومعناه الإفساد. ٣
١ المصباح المنير حـ ١ ص ٧٤..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٠٦..
٣ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٦١ ومختار الصحاح ص ٤١٢..
قوله :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه ﴾ ذلك سؤال الأشراف من القوم الذين استكبروا وأبوا إلا العتو والجحود والمعاندة ؛ إذ قالوا للمستضعفين المؤمنين، أي المساكين الذين آمنوا صالحا ﴿ لمن آمن منهم ﴾ بدل من الذين استضعفوا. وهو بدل بعض من الكل. لأن المستضعفين من ليسوا بمؤمنين. أما السؤال فهو حكاه الله عن هؤلاء المستكبرين ؛ إذ سألوا المستضعفين المؤمنين عن حال صالح وعن أمره فيما جاءهم به من هذا الدين. فأجابهم هؤلاء المستضعفين المؤمنين أنهم موقنون مصدقون بما جاءهم له. وذلك جواب صادع أبلج من المؤمنين ؛ لأنهم أهل ثبات ويقين لا يردهم عن ذلك تهديد ولا جل، ولا يحول ضعفهم دون الجهر بعقيدتهم الصادقة. عقيدة الحق واليقين والتوحيد.
لكن الكافرين العتاة بادروا الرد في عتو ووقاحة واستكبار وهو ما تبينه الآية ﴿ قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون ﴾ أي نحن منكرون نبوة صالح وجاحدون مكذبون بما آمنتم به أنتم.
قوله :﴿ فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ﴾ العقر، معناه الجرح أو النحر١ والمراد هنا النحر. وعتوا، من العتو. نقول : عتا عتوا وعتيا. أي استكبرا استكبارا وجاوز الحد فهو عات٢. والمعنى : أنهم عقروا الناقة ؛ أي قتلوها سواء بالنحر أو الطعن أو القطع. قد نسب العقر إلى الجميع من أن العاقر واحد أو بعض منهم ؛ لأنهم جميعا راضون بفعل الجريمة أو أنهم كانوا متمالئين على قتلها. وكذلك قد عتوا عن أمر ربهم بالاستكبار المغالي والإدبار الشنيع.
قوله :﴿ وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ﴾ أي جئنا يا صالح بما تعدنا من عذاب الله ونقمته إن كنت رسولا من الله حقل إلينا. فقد استعجلوا العذاب استعجالا، وقالوا مقالتهم من التحدي اللئيم الأحمق ليكونوا جنودا طائعين للشيطان الذي زين لهم الكفر والجحود وفعل المعاصي والمنكرات ؛ فغاروا سحيقا في الهلاك الملازم والعذاب المستديم بدءا بالتدمير والزلزلة في هذه الدنيا ؛ ليتصل ذلك بمستقرهم في العذاب الواصب وهم يتقاحمون في جهنم يوم القيامة.
١ المصباح المنير جـ ٢ ص ٧١..
٢ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٦١..
قوله :﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ﴾ الرجفة تعني الزلزلة١ وجاثمين، من الجثوم وهو لزوم المكان. جثم جثوما إذا لزم مكانه فلم يبرحه أو لصق بالأرض فهو جاثم٢ لقد أخذت الرجفة هؤلاء الضالين الظالمين، وهي الزلزلة. وقيل : الصحية ؛ إذ تقطعت منها قلوبهم حتى هلكوا ﴿ فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ أي هامدين صرعى لا حياة فيهم ولا حراك٣.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٣٢..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ص ١٠٧ والمصباح المنير جـ ١ ص ٩٩..
٣ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٦٠- ١٦٤ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٧٣ وروح المعاني جـ ٨ ص ١٦٠- ١٦٥..
قوله تعالى :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغناكم رسالة ربي ونصحت لكم ولاكن لا تحبون الناصحين ﴾.
خرج صالح من بين أظهر قومه ثمود بعد يأسه من إيمانهم وبعد أن أخبرهم عن وحي الله بإحلال العذاب بهم وعقيب أيام ثلاثة وكانوا قد استعجلوا العذاب.
لقد خرج صالح من بينهم مدبرا وهو متحزن متحسر على كفرهم وجحودهم وعلى مصيرهم البئيس في الدنيا والآخرة. وقال لهم :﴿ يا قوم أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولاكن لا تحبون الناصحين ﴾ أي لم آل جهدا في تبليغكم رسالة ربي ؛ فقد جهدت في البيان لكم وبذلت لكم في ذلك نصائحي وترشيدي بكل ما وسعني من أسلوب في الترغيب والترهيب. لكنكم معاندون مستكبرون لا تحبون من ينصحكم ويبتغي لكم الخير والنجاة. قال ذلك في شأنهم وهو تغشاه نوبة من الاغتمام والأسى كما يبدو من ظاهر الكلمات الربانية الموحية بحزنه وأسفله على قومه الضالين المعاندين. وقيل : قال لهم ذلك بعد هلاكهم بالرجفة.
قوله تعالى :﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ٨٠ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون ٨١ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ٨٢ فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ٨٣ وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾.
لوط من الأسماء الأعجمية وليس من العربية ؛ فهو غير مشتق وقد صرف لخفته ؛ لأنه من على ثلاثة أحرف وهو ساكن الوسط. قال سيبويه : نوح ولوط أسماء أعجمية إلا أنها خفيفة فصرفت. وقيل : لاط يلوط أي عمل عمل قومه كلاوط وتلوط. استلاطه، أي ألزقه بنفسه١.
ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل وكان معه في أرض بابل من العراق. وقد هاجر إبراهيم إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن فأرسله الله إلى أهل سدوم بحمص. أو هي مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له سدوم٢.
وقوم لوط أهل فاحشة وقذر تنفر منه الطبائع السليمة وتتقزز منه النفس الإنسانية المستقيمة. وهم قوم أسرفوا في المجاوزه المشينة الكريهة، وغالوا في الإفلات من ربقة الفطرة الكريمة والمنطق السليم ؛ فقارفوا من الفحش والرذيلة ما جاوز الأوهام والظنون. ولنا : أن نعي هذه الخصلة الشاذة النكراء ونحن نتصور نكاح الرجال للرجال. إن ذلكم غاية في البشاعة والنكر. وذلكم اللواط. لا جرم أن فاحشة اللواط من أخس الخسائس التي سقط فيها هؤلاء القوم الذين فسدت فيهم الفطرة الآدمية فغاصوا في الرجس غوصا ما سبقهم إليه شعب من الشعوب ولا أمة من الأمم إلا ما نسمعه من نداءات مهينة مسفة في زماننا الراهن حيث الحضارة المادية الكنود. حضارة المال والشهوات والجنس. الحضارة التي تتيح لأولي الطبائع المستقبحة أن يجاهروا بقذر اللواط في القانون الراعي لذلك والمجوز له تجويزا صريحا. فيا لعار الحضارة المريضة النتنة التي تروج للقاذروات وخسائس الطبع الآسن الشاذ لنجاهر به علانية من على منصات الإعلام كله وتحت قبب البرلمانات الدولية في أوربا وأمريكا ! !
لقد سبق القرآن كل هذه الحضارات الآسنة المزيفة ؛ إذ حرم اللواط تحريما غليظا وشدد في النهي عنه والتحذير منه ؛ حرصا على الإنسانية أن ينال منها الرجس والقذر والشذوذ ؛ وصونا للأفراد والمجتمعات من كل ألوان المفاسد والقاذورات والموبقات النفسية والشخصية والاجتماعية المدمرة كاللواط. وها هو القرآن يهتف بالتنديد بهذه الفعلة الوبيلة النكراء ؛ إذ يحكي قصة نبي الله لوط مع قومه الفاسدين الأشقياء الذين سقطوا في وهدة هذا المرض الوبيل. فقال سبحانه :﴿ ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من احد من العالمين ﴾ لوطا منصوب بفعل محذوف تقديره أرسلنا والاستفهام في قوله :﴿ أتأتون ﴾ للتوبيخ والتقريع. وإيتان الفاحشة يراد به هنا إتيان الذكور على سبيل التلاوط. فقد خاطب لوط قومه مستنكرا موبخا : أتفعلون تلك الفعلة النكراء التي لم يسبق أن فعلها أناس أو أمة قبلكم ؟ !
١ القاموس المحيط ج، ٢ ص ٣٩٨ ومختار الصحاح ص ٦٠٨..
٢ لسان العرب جـ ١٢ ص ٢٨٥..
قوله :﴿ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء ﴾ ذلك تأكيد آخر على بشاعة الفعلة القذرة بما يزيد في توبيخ القوم الضالعين في الرجس والإسفاف بإتيانهم الرجال ﴿ شهوة ﴾ منصوب على الحالية أو مفعول لأجله ؛ فقد أتوا الرجال متجاوزين النساء اللاتي هن محل الشهوة لدى الرجال الأسوياء أولي الطبائع السليمة. لا جرم أنهم مجاوزون حدود الفطرة السوية وبالغون في الإسراف المشين ما يهبط بهم إلى المنحطين من الأشقياء المناكيد والمنبوذين. وذلك ما يبينه قوله تعالى :﴿ بل أنتم قوم مسرفون ﴾ بل للإضراب. وهو يفيد الإضراب عن الإنكار إلى الإخبار بأن دأبهم الإسراف في الخطايا والمحرمات.
قوله :﴿ وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قرتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾ ذلك جواب المقبحين من قوم لوط لنبيهم لوط عليه السلام وهو قولهم : أخرجوا لوطا والذين على دينه، الذين يتنزهون عن فعل هذه الكبيرة وهي إتيان الرجال في الأدبار. أخرجوهم من بلدتكم حيث تقيمون وتسكنون. وبمثل هذا يحتج قوم لوط لإخراجهم من بلدتهم. وهو أنهم طاهرون منزهون عن فعل الخبائث. وذلك هو شأن المفسدين الساقطين من الناس الذين يسول لهم الشيطان فعل الأدناس والأرجاس مما لم يسبقهم إليه أناس ثم يتهمون غيرهم من المؤمنين الأطهار بغير تهمة. ويرمونهم في أشخاصهم بصور الظلم ما ليس له وجود البتة. أولئك هم المسرفون في العهر والعار والضلال !
قوله :﴿ فأنجيناه وأهل إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾ لما أبى قوم لوط دعوة نبيهم لوط لهم بالتطهر والترفع عن رجس اللواط، وتمادوا في فعل هذه الرذيلة المستقذرة أنجى الله أهله الذين آمنوا معه باستثناء امرأته ﴿ كانت من الغابرين ﴾ أي الباقين في العذاب. غبر الشيء أي بقي. وغبر أيضا مضى ؛ فهو من الأضداد ؛ فقد أهلك الله امرأة لوط ؛ لكفرها وخيانتها وإسرارها للقوم عن أخبار زوجها عليه السلام فهلكت مع الهالكين.
قوله :﴿ وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ﴾ دمر الله قوم لوط شر تدمير ؛ إذ جعل عالي قراهم سافلها وأمطرنا فوق ذك بحجارة من سجيل١. كذلك يأخذ الله القرى الظالم أهلها الذين يوغلون في المعاصي والموبقات حتى إذا جاء الكتاب أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وبعد هذا الإخبار المخوف عما حل بقوم لوط من الهلاك أمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنظر والتأمل تعجبا من حال القوم الهالكين وتحذيرا للناس في كل زمان من فعل الفواحش٢.
عقوبة اللواط
عقوبة اللواط الحد. وهو يثبت بما يثبت به الحد في الزنا بين الذكر والأنثى. وهو أن تغيب الحشفة أو قدرها. وإنما يتحقق ذلك بالإقرار أو البينة بأربعة شهود عدول كما هو في الزنا.
وقد اختلف الفقهاء في عقوبة اللواط. وهم في ذلك فريقان :
الفريق الأول : هو الإمام أبو حنيفة ؛ فقد ذهب إلى أن اللواط ليس فيه حد بل فيه التعزير عن كل من الفاعل والمفعول به. وروي عنه أنه يودع السجن فوق التعزير الذي يجب في حقه. واحتج لذلك من المعقول ؛ إذ قال : ليس اللواط زنا، لاختلاف الصاحبة في عقوبته. فقد قيل : عقوبة الإحراق بالنار وهو ما روي عن أبي بكر وعلي –رضي الله عنهما-. وقيل : عقوبته التنكيس من مكان مرتفع ثم إتباعه الحجارة زيادة في التنكيل.
وقال في احتجاجه أيضا : ليس اللواط في معنى الزنا ؛ لأنه ليس سببا لإضاعة الولد واشتباه الأنساب كما يقع في الزنا الحقيقي. وكذلك فإن وقوعه نادر ؛ لانعدام الرغبة فيه فهو بذلك إنما يجب فيه التعزيز وليس الحد٣.
الفريق الثاني : وهم جمهور المالكية والشافعية وصاحبي أبي حنيفة ؛ فقد ذهب هؤلاء إلى وجوب الحد على جريمة اللواط إن كان المتوطلان عاقلين بالغين. أما إن كان أحدهما صغيرا أو مجنونا كان الحد على العاقل البالغ منهما. واحتجوا من العقول فقالوا : اللواط صورة من صور الزنا ففيه الحد.
واحتجوا من السنة بما أخرجه البيهقي عن أب موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذ أتى الرجل الرجل فهما زانيان، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ).
واختلفوا أيضا في ماهية الحد في اللواط تبعا للإحصان وعدمه ؛ فقد ذهبت الشافعية في المعتمد من مذهبهم. وكذا الحنبلية في إحدى الروايتين عنهم، وصاحبا أبي حنيفة إلى أن حد اللواط مثل حد الزنا في المرأة من غير فرق بينهما. وعلى هذا يجب فيه ( اللواط ) الجلد على البكر والرجم على المحصن. واحتجوا لذلك بالخبر ( إذ أتى الرجل الرجل فما زانيان ).
وذهبت المالكية، وكذا الحنبلية في الرواية الثانية عنهم وهو القول الثاني غير المشهور للشافعية –ذهبوا إلى وجوب قتل اللائط والملوط به سواء كان الواحد منهما بكرا أو محصنا ؛ وذلك لما أخرجه أبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) وكذلك أخرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من وقع على الرجل فاقتلوه ).
أما لو كانا غير مكلفين، وهو أن يكونا صغيرين ؛ فإنهما يؤدبان تأديبا فلا عقاب عليهما بحد أو تعزير. أما لو كان أحدهما مكلفا دون الآخر، فإن كان المكلف هو الفاعل فقد وجب في حقه حد الرجم. أما لو كان المفعول بع مكلفا ؛ والفاعل ؛ غير مكلف فلا يرجم المفعول به بل يؤدب الصغير وهو غير المكلف، ويعزر البالغ وهو المكلف٤.
١ سجيل: طين متحجر. انظر المعجم الوسيط جـ١ ص ٤١٧..
٢ تفسير الطبري جـ ٨ ص ١٦٤- ١٦٧ وروح المعاني جـ ٨ص ١٦٨- ١٧٣.
٣ الهداية للنرغيناني جـ ٢ ص ١٠٢ والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ١٨٩، ٣٣٤..
٤ الأحكام السلطانية للماوردي ص ٢٢٤ وأسهل المدارك جـ٣ ص ١٦٥ والمهذب جـ ٢ ص ٢٦٩ والمدونة جـ ٤ ص ٣٨٥ والأنوار للأردبيلي ومعه حاشية الكمثري وحاشية الحاج إبراهيم جـ ٢ ص ٤٩٦..
قوله تعالى :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ٨٥ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ٨٦ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذين أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ﴾.
يطلق اسم مدين على القبيلة أو على المدينة ؛ وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز، وهم أصحاب الأيكة. ومدين ممنوع من الصرف ؛ لأنه اسم علم مؤنث أضيف إلى مضاف قبله، وتقديره أهل مدين. أما شعيب فهو من أولاد إبراهيم ؛ فقد قيل : إنه ابن حرة بن يشجر بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم ؛ فقد أرسل الله إلى أهل مدين رجلا منهم وهو شعيب ليبلغهم دعوة الله ويأمرهم بالتوحيد والاستقامة وينهاهم عن الشرك والمنكر، ويحذرهم من بخس الناس أشياءهم وهو قوله تعالى :﴿ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم ﴾ البينة، العلامة والحجة من الله بحقيقة ما يقول لهم نبيهم شعيب وبصدق ما يدعوهم إليه من التوحيد والاستقامة. وقيل : يراد بالبينة المعجزة الظاهرة من رب العالمين مالك كل شيء. ولم يذكر ماهية المعجزة التي جعلت لشعيب : وقوله :﴿ فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ﴾ أوفوا يعني أتموا.
فقد أمرهم بإتمام الحقوق لأصحابها وذلك بالكيل الذي يكيلون به، وبالوزن الذي يزنون به من غير خيانة في ذلك ولا غش. فأيما انتقاص من حقوق الناس عن طريق الكيل أو الميزان لهو كبيرة من الكبائر تصم المنتقمين بوصمة الخيانة وفساد القلب. وذلك شكل من أشكال الحرام أو السحت الذي يودي بصاحبه إلى النار.
وفي التحذير من الخيانة في الكيل والميزان روي الترمذي عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والوزن :( إنكم قد وليتم أمرا فيه هلكت الأمم السالفة قبلكم ).
قوله : ولا تبخسوا الناس أشياءهم } من البخس وهو النقص١ فقد نهي عن كل وجوه الانتقاص من أموال الناس ظلما كالغش في المبيعات بتعييب السلعة والتدليس فيها أو التزهيد فيها لتبوء بالخسارة أو الاحتيال في الكيل والميزان بما يجر للمحتال مالا مقتطعا من نصيب العاقد الآخر. إلى غير ذلك من وجوه الحرام وأكل الأموال بالباطل.
قوله :﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ كانت الأرض قبل مبعث شعيب رسولا إلى أهل مدين، يعمل فيها بكل المعاصي من إشراك وجور وسفك للدماء واستحلال المحارم وفعل للموبقات، وذلك هو فسادها. أما إصلاحها : فهو ابتعاث النبي شعيب فيها يأمرهم بالخير والمعروف والطاعات، وينهاهم عن الشرك والجور وفعل المعاصي. وفي هذه الآية ينهي شعيب قومه عن فعل المحرمات والمحظورات مما كانوا يعملونه قبل بعثه إليهم كالشرك، وبخس الناس في الكيل والميزان، وغير ذلك من وجوه الظلم والحرام.
قوله :﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي هذا الذي بينته لكم وأمرتكم به من إخلاص العبادة لله وحده دون سواه وإيفاء الناس حقوقهم من الكيل والميزان واجتناب البخس والفساد في الأرض، كله خير لكم في دنياكم ؛ إذ تكسبون حب الناس لكم وتصديقهم إياكم وثقتهم بكم، فتتبايعون وتتعاملون وتستربحون ؛ فتعيشون في مودة وسعادة وتآلف. وهو كذلك خير لكم في آخرتكم يوم القيامة ؛ إذ تحظون بنعيم الله ورضوانه. وذلك كله ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كنتم مصدقي فيما دعوتكم إليه وما أمرتكم به او نهيتكم عنه. وقيل : إنما يجاء بمثل هذا الشرط في أخر الكلام للتأكيد.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤١ والمصباح المنير جـ ١ ص ٤٣..
قوله :﴿ ولا تقعدوا بكل صراط وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا ﴾ أي لا تجسلوا بكل طريق من طرق الناس توعدون من آمن بشعيب بالقتل. فقد كان قومه يقعدون على طريق من يقصد شعيبا ليؤمن به فيتوعدونه ويخوفونه ويحذرونه من تصديقه ويحرضونه على تكذيبه ويقولون له : إنه كذاب.
كذلك كان شأن المشركين المجرمين الذين يكرهون الحق ويحادون الله والنبيين جريا وراء أهوائهم وشهواتهم وكراسيهم ومكاناتهم. بل إن ذلك شأن المشركين المجرمين في كل زمان. وفي هذا الزمان الراهن خاصة، إذ يتصدى الظالمون والمتربصون من أعداء الإسلام بهذا الدين بوسائل شتى من التعويق والتعطيل والصد. ولئن كانت وسائل الظالمين الغابرين بسيطة وبدائية ؛ إذ كانت تتخذ من الطابع المحسوس أسلوبا كالضرب والقتل ونحو ذلك من تعذيب الأجساد لكنهم ما كانت لهم حيلة ينفذون منها إلى قلوب المعذبين المظلومين وعقولهم أو أفكارهم. وذلك بخلاف الظالمين المتربصين في زمننا هذا فهم أقدر على محاربة الإسلام والمسلمين بمختلف الأساليب والوسائل، فضلا عن أساليب القمع والقتل والإبادة التي كانت ديدن الظالمين السابقين، فقد برع المشركون المعاصرون في محاربة الإسلام بوسائل أخرى مضافة لا جرم أن تكون أعظم نضوجا وأشد خبثا وخداعا، وأفظع في التأثير والمراوغة. وفي طليعة أساليبهم هذه تشويه العقيدة والفكر بمختلف الافتراءات والأكاذيب وكل صور الخداع والتمويه والتضليل بما يزعزع قناعة المسلمين وتصورهم، ويثير في نفوس الكثيرين منهم الشك والارتياب. وقد أوتي الظالمون من أعداد الإسلام كل القدرات المادية والإعلامية والفنية والعسكرية لمحاربة الإسلام أو تشويه وتشكيك البشرية فيه في الوقت الذي يرزح فيه المسلمون –والمفكرون والدعاة خاصة- تحت كابوس الطغيان من الحكام الظلمة الذي يسوسون المسلمين بالجوار والفساد والذين ينفرون من تعاليم الإسلام، ويهرعون سراعا ليكونوا أتباعا لأسيادهم من الكافرين الأجانب من أوروبيين وأمريكيين.
نقول ذلك ونحن حافلون بالقناعة واليقين أنه لو حيل بين الإسلام والبشرية فأتيح للمفكرين من دعاة الإسلام لنشر هذا الدين والحديث عن عقيدته وعن تعاليمه في حرية بعيدا عن الخوف والفتنة والمكر، ليشاع الإسلام في كل بقاع الدنيا ولكان الناس قد أقبلوا على هذا الدين إقبالا يحفزهم إليه الود والرغبة، ولسقطت كل مزاعم الظالمين وأقاويلهم عن الإسلام، ولا ستبانت للناس أنها ترهات وأباطيل بل إنها أشبه بالفقاقيع المستخفة تطيش في الهواء ثم ما تلبث أن تذوب وتنقشع. لكن الإسلام يتلقى الضربات والتحديات والحمالات من الدس والتشكيك والتشويه الفكري من أساطين المستشرقين والاستعماريين والصليبيين والصهيونيين والماسونيين.
وذلك في غاية الحرية والتسهيلات المضمونة الكاملة، في الوقت الذي ليس فيه للإسلام دولة ولا سلطان يدرأ عنه العوداي، ويدفع عنه تطول الخبثاء والسفهاء والشياطين، من أولي الأقلاع الموغلة في الدس والكيد والافتراء على الإسلام.
قوله :﴿ وتبغونها عوجا ﴾ أي تبغون أن تكون سبيل الله معوجة غير مستقيمة. وذلك بإلقاء الشبهات حول الإسلام أو وصفه للناس بأنه معوج أو غير صالح، لينفر منه الناس أو يزهدوا فيه. وهذا هو ديدن الظالمين المجرمين على اختلاف أجناسهم وأوطانهم وأزمانهم ؛ فهم جميعا يبتغون للإسلام أن يكون على حقيقته وطبيعته من ثبات العقيدة وكمال التشريع وتمام الفضيلة والاستقامة. لا يردون للإسلام أن يكون مميزا بما يتجلي فيه من أوجه الاستقلال عن الملل والعقائد الأخرى، وما يباعد بينه وبين التبعية لغيره من النظم والفلسفات الضالة. بل يريدون للإسلام أن يكون مشوها مضطربا ضعيفا، وقد انتزعت منه كل ظواهر القوة والاستقامة والشمولية والاستعلاء.
قوله :﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ إذ، في موضع نصب على الطرف. وقيل : مفعول به. وتقدير : اذكروا –على سبيل الشكر- وقت كونكم قليلا عددكم فكثركم الله وتكثيرهم يحتمل وجهين : أحدهما : تكثير عددهم بعد أن كان قليلا. وثانيهما : تكثيرهم بالغنى بعد أن كانوا فقراء. والوجه الأول أظهر ؛ فهو يدعوهم أن يشكروا نعمة ربهم عليهم ؛ إذ جعلهم أقوياء بتكثيرهم بعد أن كانوا قلة. ثم يخوفهم بما حل بمن سبقهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود ولوط، أولئك الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومجانية التوحيد فأخذهم الله بالعذاب المهين في هذه الدنيا. وما بين زلزلة وصيحة وتغريق وتدمير بالقلب والحجارة. يدعوهم أن يتفكروا فيما حل بهؤلاء الظالمين التعساء من فادح العواقب، فضلا عما أعده الله لهم يوم القيامة من التعس والهوان حيث الجحيم والنيران. وهذا مقتضى قوله :﴿ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ﴾.
قوله :﴿ وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ﴾ الطائفة بمعنى الجماعة. والطائفة من الشيء، قطعة منه. والطائفة من الناس، الواحد فما فوقه١.
والمراد أن قوم شعيب كانوا قسمين، حدهما : المؤمنون الذين صدقوا شعيبا واتبعوه وهم قلة. وثانيهما : الكافرون. وهم الأكثرون. وفي الآية تهديد ظاهر للمشركين الظالمين الذين عتوا عن أمر ربهم، ووعيد لهم بالهلاك والعذاب، فوق ما تتضمنه الآية من تحضيض للطائفة المؤمنة على الصبر والاحتمال. وتقدير الكلام في قول شعيب لقومه هو : إن كنتم يا قوم قد اختلفتم علي فآمنت منكم طائفة وكفرت طائفة أخرى فاصبروا أيها الكفرة حتى يقضي الله بيننا وبينكم بأن ينصر الله جنده المؤمنين الصابرين وينتقم من المشركين الظالمين ؛ فيأخذهم بعذاب الخزي في الدنيا. ثم يردهم في الآخرة إلى مصيرهم البئيس في الجحيم.
١ مختار الصحاح ص ٤٠٠..
قوله :﴿ قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجكم يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ﴾ ذلك رد الكافرين المعاندين الذين لا تجدي معهم الحجج والبراهين ولا يثنيهم سطوع المنطق والدليل عن غيهم وضلالهم واستكبارهم. والأشد من ذلك أنهم لم يكتفوا بجحودهم وتكذيبهم وطغيانهم بل جاوزوا ذلك إلى فظاعة النكر والبطر وإلى بشاعة العتو والأشر، إذ توعدوا شعيبا والذين آمنوا معه بالإخراج من البلد إلا أن يعودوا إلى ملة الكفر والإشراك بالله. فإما الإخراج والتهيج، أو العود إلى ظلام الكفران والعصيان. وذلك هو ديدن الكافرين الظالمين في كل زمان ؛ إذ يستكبرون على الحق استكبارا، ويلجون في الضلالة والعدوان لجوجا، فوق ما يذيقون المؤمنين من ألوان الظلم ؛ من تنكيل وتخويف وتهديد وطرد وتشريد وفتنة عن دين الله ؛ ليرتدا إلى ملة الظلام والفساد والكفر.
قوله :﴿ قال أولو كنا كارهين ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري. أي إنكار ما طلبوه من الإخراج أو العود في ملة الكفر. وذلك إشعار ببشاعة ما طلبوه من الإخراج عن أوطانهم بغيا وعدوانا، إلا ما يعودوا في الكفر والضلال. والواو للحال. أي أتعيدوننا في ملتكم كارهين العود إليها أو تخرجوننا من قريتكم حال كراهيتنا الخروج منها ؟ ! أيقع منكم أحد هذين الأمرين حتى في حال كراهيتنا الخروج منها ؟ !
قوله :﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾ الافتراء، الاختلاق والكذب١ والملة، معناها الدين والشريعة٢.
ذلك إقرار كامل من شعيب عليه الصلاة والسلام ببطلان ما سوى ملة الإسلام حيث التوحيد واليقين وتصديق النبين أجمعين، ومجانبة الشرك والمشركين. إقرار كامل بأن العود إلى ملة الكفر بعد التنجية منها سقوط في ظلام الكفر والضلال وانتكاس إلى ردة الجحد والباطل بعد أن من الله بالتنحية والإنقاذ من هذه الوهدة المظلمة السحيقة.
قوله :﴿ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ﴾ أي ما يستقيم لنا وما ينبغي أن نعود في ملتكم –ملة الكفر والباطل- إلا حال مشيئة الله. فإن يشأ الله إضلال أحد أضله. على أن إيراد هذا الاستثناء قد جيء به على سبيل الإيمان المطلق بقدر الله فإن كان قد سبق في علم الله وتقديره العود في ملتهم ؛ فإن حكم الله في ذلك نافذ. ومع ذلك فإن المؤمن المدكر الحريص، له في كل الأحوال والأوقات بالغ الرجاء والضراعة إلى الله أن يكتبه في زمرة الناجين الآمنين مكره وعذابه.
قوله :﴿ وسع ربنا كل شيء علما ﴾ علما منصوب على التمييز ؛ أي أحاط علم الله بكل شيء فلا يند عن علمه شيء من المعلومات ؛ فهو عليم بما هو كائن وما سيكون سواء في ذلك هداية الناس وضلالهم، أو ما هم صائرون إليه في كل حال.
قوله :﴿ على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ أي اعتمدنا على الله دون أحد سواه في أن يثبتنا على الحق والإيمان، وأن يحول بيننا وبين الباطل وأهله، وأن يدرأ عنا شر الفتن ويعصمنا من البلايا والنقم، وأن يدفع عنا كذلك ما توعدتمونا به من ظلم الإخراج وفظاعة الإضلال والفتنة.
وبعد أن أيس شعيب من استجابة قومه وأيقن أنهم لا محالة سادرون في الغي والضلال دون انثناء أو رجوع، عندئذ دعا ربه أن ﴿ افتح بيننا وبين قومك بالحق وأنت خير الفاتحين ﴾ أي اقض بيننا وبين قومنا المشركين بالحق وهو نصر المحقين وإهلاك المبطلين.
١ مختار الصحاح ص ٥٠٢..
٢ مختار الصحاح ص ٦٣٤..
قوله :﴿ وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾ اللام في قوله :﴿ لئن ﴾ موطئة لقسن محذوف. وجوابه ﴿ إنكم إذا لخاسرون ﴾ واللام في ﴿ لخاسرون ﴾ للتوكيد في خبر إن. ذلك إخبار من الله عز وجل عن مقالة هذه الزمرة الضالة المضلة من قوم شعيب الذين حذروا قومهم من الإيمان بنبي الله، وخوفوهم من تصديقه واتباعه فيما جاءهم به من عند الله. لقد خوفوهم بما ينفرهم من دين الله تنفيرا. وذلك بمختلف الأسباب والوسائل التي تفتنهم عن اتباع الإسلام وتزجرهم عنه زجرا لتميل بهم عنه إلى الشر والفساد. وكذلك صنع الطغاة من قوم شعيب ؛ إذ خوفوا الناس من عواقب الإيمان بدين الله الحق. وقالوا لهم على سبيل الفتنة والإغواء والتنذير ﴿ لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون ﴾ أي مغبونون١.
وقيل : عجزة. وقيل : أرادوا بذلك خسرانهم بسبب إيفاء الكيل والميزان وترك التطفيف. والأظهر عموم ذلك.
١ المغبون: المخدوع. غبنه في البيع، أي خدعه. انظر مختار الصحاح ص ٤٦٨..
قوله :﴿ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾ لقد أخذوا بالرجفة وهي الزلزلة١. فدمر الله عليهم بذلك شر تدمير ؛ فباتوا في ديارهم صرعى. لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم لصوقا، يشير إلى فظاعة التنكيل والعقاب في هذه الدنيا لما كانوا عليه من الجحود والاستكبار عن دين الله.
١ مختار الصحاح ص ٢٣٥..
قوله :﴿ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾.
اسم الموصول الأول في محل رفع مبتدأ، وخبره ﴿ كأن لم يغنوا فيها ﴾ ١ ويغنوا : يقيموا. غني بالمكان ؛ أي أقام به. والغاني يعني النازل. والمغنى المنزل. وجمعه المعاني وهي المنازل أو المواضع التي يقام فيها٢، وهذا بيان مثير، ينشر في النفس مزيجا من الخوف والتحسر والأسى لحال الكافرين من قوم شعيب، هؤلاء الذين أقاموا في نعيم من العيش الرخي، لكنهم طغوا واستكبروا وأبوا إلا الكفر والفساد في الأرض ؛ فأخذهم الله نكال جحودهم وعصيانهم شر أخذة. أخذهم بالزلزلة الماحقة التي تقطع القلوب تقطيعا وتمزق الأجساد تمزيقا، فقطع دابر القوم واستؤصلت كأنهم لم يكونوا ولم يقيموا في موطنهم.
ثم كرر على سبيل التأكيد والمبالغة في التحسير والتخويف ﴿ الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ﴾ ﴿ هم ﴾ ضمير فصل. ﴿ الخاسرين ﴾ خبر كانوا، أي أن الذين كذبوا نبيهم شعيبا هم الذين خسروا أنفسهم ؛ إذ أوردوها النار وبئس المورود، وليس كما زعموا من قبل أن الذين يتبعون شعيبا خاسرون.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٨..
٢ مختار الصحاح ص ٤٨٣..
قوله :﴿ فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ﴾ حين نزل العذاب بقوم شعيب خرج شعيب من بين أظهرهم وقد أخذته غاشية من الحزن على قومه المعذبين لما حل بهم من البلاء المدمر الماحق. ثم أخذ شعيب يعزي نفسه ليكفكف عن نفسه الحزن وهو يقول : يا قوم لقد بالغت في لإنذار والنصح لكم والإشفاق عليكم فأبلغتكم ما بعثني به ربي إليكم من دعوتكم للإيمان والتوحيد والانزجار عنا نهاكم عنه من المعاصي والخطايا، لكنكم جحدتم واستكبرتم فكان جزاؤكم العذاب والاستئصال فكيف أحزن عليكم لما أصابكم وأنتم له مستحقون ؟ ! ١
١ تفسير البحر المحيط جـ ٤ ص ٣٤٠- ٣٤٧ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٨١- ١٨٣ والتبيات للطبرسي جـ ٤ ص ٤٦٤- ٣٧٣..
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخدنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ٩٤ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذتهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ البأساء، يعني شدة الحال وشظف العيش وضيقه. أو المشقة والفقر١. والضراء، نقيض السراء. وهي الشدة وكل ما يضر. أو هي النقص في الأموال والأنفس٢ وذلك إخبار من الله عز وعلا عن سنته في الأمم الخالية من قبل هذه الأمة، بأنه ما أرسل في قرية من نبي يقبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلا أذاق الله لأهلها البؤس والشدة والشطف وضيق العيش وسوء الحال. وذلك لكي يتضرعوا إلى ربهم ويتذللوا له بالعبادة والطاعة وينيبوا إليه بالكف عن الشرك والضلال والباطل، ولكي يصيخوا لدعوة الحق التي جاءهم بها أنبياؤهم. ولا جرم ان البشرية في غالب أحوالها ووقائعها تجنح للفسق والضلالة واقتراف المعاصي ؛ استجابة لنداءات الشياطين من الإنس والجن ؛ وتخاذلا أمام جواذب الغرائر والشهوات التي تلين حيالها العزائم، وتفتر أمام كابوسها الهمم لتميل بالإنسانية إلى الشر والفساد في الغالب. وبذلك بات من المفيد حقا أن اصطدم البشرية في حياتها بكثير من الأرزاء والنوائب فتهزها من الأعماق هزا، ولتبدد من أعماقها مشاعر الجحود والاستكبار، ولتضعف في كوامنها فرط التذلل والخنوع للأهواء والشهوات عسى أن تزجر وترعوي أو تقشع عن نفسها غشاوة العمه والنسيان، فتفيء إلى أمر الله لتبادر الامتثال لشرعه والسير في طريقه المستقيم وهو مقتضى قوله سبحانه :﴿ لعلهم يضرعون ﴾.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٦..
٢ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٧٧ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٥٣٨..
قوله :﴿ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذتهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾ أي حولنا حال هؤلاء المشركين من شدة إلى رخاء، ومن سقم إلى عافية، ومن فقر إلى سعة ويسر ؛ ليشكروا الله على إنعامه وتفضله فما شكروا ﴿ حتى عفوا ﴾ أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم وقالوا : لقد مسنا من الشدة والضيق والكرب ثم بعده من الرخاء واليسر والنعمة مثل ما أصاب آباءنا السالفين من ضراء وسراء. أي أن هذه أحوال قد أصابت من قبلنا من آبائنا وأسلافنا ونحن لسنا إلا أمثالهم يصيبنا ما أصابهم من الشدة والرخاء. ولم يفطنوا أن ذلك ابتلاء من الله لهم ليتعظوا ويثوبوا إلى محجة الإسلام، وأن يبتهلوا إلى الله بالضراعة والتوبة والإياب، ويعرضوا عن ملة الشرك والباطل ؛ فهم على هذه الحال من الضلال والعصيان والاستكبار عن عقيدة التوحيد حتى يأخذهم الله بعقابه الأليم فجأة وهم سادرون في الغفلة والنسيان.
قوله تعالى :﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا وتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ٩٦ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نائمون ٩٧ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون٩٨ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ القرى جمع قرية، وهي المصر الجامع. قرى الماء في الحوض يقريه قريا وقري ؛ أي جمعه١ واللام في ﴿ لقرى ﴾ للعهد ؛ أي لو أن أهل القرى التي أرسلنا إليها آمنوا بالله ورسله وأطاعوا الله فيما أمرهم به واجتنبوا الشرك والباطل والمعاصي ومضوا على المنهج الحق، منهج الله المستقيم، لأغدق الله عليهم من بركات السماء والأرض ؛ فبركات السماء : إنزال المطر عليهم مدرارا ؛ لينبت به الزرع، وليشربوا ويغتسلوا ويترفهوا. وأما بركات الأرض : فما تكتسي به من خصب الثمرات والزروع والكلأ ليأكل الناس والأنعام، ويعم الرخاء والرغد، ويعيش الناس في سعة وبحبوحة آمنين بلاء الجدب والقحط والجفاف والجوع. وفي ذلك إيذان بالتهديد للعصاة والفاسقين الذين يلجون في الآثام والسيئات ويجترحون من وجوه الحرام والفسق ما يباعد بينهم وبين صراط الله ودينه القويم. أولئك يتوعدهم الله بالبلاء في هذه الدنيا قبل بلاء الآخرة وهو أشد وأعظم. ومن أوجه البلاء في هذه الدنيا : انحباس القطر من السماء، وانقطاع المياه أو نزوره في الأرض وما يعقب ذلك من شدة القحط والفقر وضنك المعيشة، فضلا عن أوجه البلاء الأخرى مما يصيب الأفراد والمجتمعات الشاردة عن منهج الله كالأمراض الاجتماعية والنفسية والبدنية. وهي أمراض كثيرة ووجيعة وممضة. ويجوز ان يكون اللام في ﴿ القرى ﴾ للجنس ؛ أي أن الناس حيثما كانوا، وفي أي البلاد أقاموا، لو أنهم آمنوا بربهم حق الإيمان، واتقوه حق تقاته باتباع أوامره والانتهاء عن معاصيه ؛ لفتح الله عليهم خيرات السماء والأرض. لكنهم إذ جحدوا دين الله وأبوا إلا الشرك والضلال واقتراف المحرمات والموبقات طاعة للشياطين الذين يسولون لهم الفساد والشهوات ؛ فقد أخذهم الله بالعذاب على اختلاف ألوانه وصوره في هذه الدنيا ؛ وذلك بسبب ما اكتسبوه من الذنوب والخطايا. وهو قوله تعالى :﴿ ولكن كذبوا فأخذتهم بما كانوا يكسبون ﴾.
١ القاموس المحيط جـ ٤ص ٣٧٩ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٣٢..
قوله :﴿ أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بيتا وهم نائمون ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف. والمراد بأهل القرى : المذكورون في الآيات السابقة، وقيل : مكة وما حولها من الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرضوا عن دينه وناصبوه الكيد والعداء. والأظهر أن يراد العموم ليتناول النص عموم المشركين الضالعين في الشرك والباطل، الشاردين عن دين الله ومنهجه العظيم في كل مكان وزمان. وبيانا، منصوب على الظرفية، أو على الحال : وذلك تقريع للظالمين الذين عتوا عن أمر الله، وعاثوا في البلاد مفسدين أشرارا، وأبوا إلا الضلال والكفر والعصيان. وهو كذلك تعجيب من هؤلاء السفهاء المبطلين، السرين في الحماقات والضلالات والشرور ؛ فهم بظلمهم وغيهم وإسرافهم في أمرهم هل يأمنون أن يحيق بهم العقاب من الله، أو أن ينزل الله عذابه عليهم وهم نائمون ؟ ! كي يأمن هؤلاء السفهاء المخبولون١ الظالمون أن يساقط علهيم الرجز والبلاء من السماء، أو يأتيهم من الأرض من حيث لا يحتسبون ولا يشعرون، وهم سادرون غافلون. لا جرم أن عذاب الله محدق بكل الظالمين العتاة ومحيط بهم أيما إحاطة، فإذا نزل بساحتهم لا يصرفه عنهم أحد. والله جل وعلا يتهدد عباده المجرمين المفسدين في كل حين بأن يصيبهم العذاب المزلزل بكل صوره وأشكاله. وليس ذلك عن الظالمين الضالين ببعيد. وحيت يأذن الله بإنزاله عليهم لا يرده عنهم أحد، ولا تدفعه عنهم قوى الأرض والسماء طرا ولو اجتمعوا له.
١ المخبولون: من الخبل بسكون الباء وفتحها وهو الجنون. والمخبول الذي ذهب عقله. والخبال يطلق على الفاسد والجنون. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ١٧٥..
قوله :﴿ أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ﴾ الهمزة للاستفهام، والواو للعطف لكونها مفتوحة. وإذا قرئت بالإسكان كانت الهمزة والواو أصليتين وكانت أو، للتخيير الذي يراد بها أحد الشيئين١. الاستفهام للتوبيخ والتقريع. وضحى، في الأصل جمع ومفرده ضحاء أو ضحوة مثل : قرى وقرية. ثم استعملت الضحى استعمال المفرد. والمراد النهار بعد طوع الشمس ثم بعده٢. والاستفهام في الآية للتوبيخ والتقريع وتأويله : هل أنتم أيها الظالمون المبطلون أن يأتيكم عذاب الله في ضحوة النهار من بعد طلوع الشمس وانتم لاهون مشغولون بما لا ينفعكم ؟ ! هل تأمنون أن يتنزل عليكم العذاب في هذه الساعات من مبتدأ النهار وأنتم سادرون في ملاهيكم واهتماماتكم ومشاغلكم الدنيوية ؟ !
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٦٩..
٢ مختار الصحاح ص ٣٧٧ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٤..
قوله :﴿ أفأمنوا مكر الله فلا مكر الله إلا القوم الخاسرون ﴾ المكر من الله جزاؤه، إذ سمي باسم مكر المجازى. وقيل : المكر من الله : إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه. أو هو عذابه وجزاؤه على مكر أعدائه. وقيل : هو استدراج العبد بالطاعات فيتوهم أنها مقبولة وهي مردودة. وأصل المكر : الخداع١ وذلك توبيخ لهؤلاء الظالمين الغافلين عن دين الله واللاهبين بالانشغال في سفاسف الدنيا وزخارفها الزائفة الزائلة، والذين غرتهم الحياة بسرابها المخادع الموهوم. توبيخ لهم لما أمنوا مكر الله بهم وهو عذابه المحدق الماثل الذي يوشك أن ينزل بهم فيدمرهم أشد تدمير، فلم يأخذوا لذلك كل احتياط واهتمام، ولم يسبقوا لأنفسهم الأسباب والمحاذير، ولم يبادروا بالطاعات والضراعات إلى الله كي يدرأ عنهم البلاء المتربص ؛ فإنه لا يأمن عذاب الله وجزاءه الوجيع، ولا يترك اتخاذ كل الأسباب والاهتمامات ومبادرة الصالحات والطاعات ﴿ إلا القوم الخاسرون ﴾ وهم الذين فرطوا في دين الله وعصوا أمر ربهم فوقعوا في وعيده الشديد وباءوا بالهلاك والخسران.
وما ينبغي للفطين المتدبر أو الحريص المدكر أن يمر بهذه الآيات من غير أن يمسه بها التذكر والوجل من بلاء الله المحتمل. وبلاء الله وعذابه باختلاف ألوانه وأشكاله يظل يتهدد الظالمين الغافلين من الناس أو اللاهين الساهين عن أمر الله، المنشغلين بملاهي الحياة الدنيا وما حوته من لذائذ وزخرف. وما تظل المجتماعت تلهو وتعلب وتعيث وتيها وغفلة وهي تشتغل بطيبات الدنيا ولذائذها عن طاعة الله فتميل عن دينها، وتجمع وراء الشيطان جموح الناعقين السفهاء ؛ بل جموح المخبولين المغرورين الذين تملكهم النسيان والبطر، وطغت عليهم الشهوات على اختلافها حتى ينزل عذاب الله وبلاؤه بساحتهم. وما ينبغي كذلك أن ننسى فداحة البطر في الإنفاق والعيش وذلك على نحو من الإسراف الباذخ البغيض الذي لا تطيش فيه الأمة وهي تغرف من حظوظ الشهوة في المطعم والمشرب والملبس والمأوى ما يجاوز المعقول والمقبول. وذلكم الإسراف الفاضح والتبذير المحظور. وليس على الأمة المسلمة في كل آن إلا أن تمسك بزمام الحذر والاعتدال والوسط. وذلك كله يقتضي تكريم النعمة التي من الله بها عليهم ؛ فإنه لا يغفل عن تكريم النعمة إلا كل بطر وأشر مستغرق في الغفلة والإسراف. وذلكم الذي يوشك أن يحيق به البلاء من الله سواء كان البلاء بالأسقام، أو زوال النعم، أو غير ذلك من وجوه البلاء. وفي هذا الصدد أخرج ابن أبي حاتم من طريق معاذ بن رفاعة عن موسى الطائفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أكرموا الخبز ؛ فإن الله أنزه من بركات السماء، وأخرجه من بركات الأرض ).
وكذلك أخرج البراز والطبراني عن عبد الله بن أم حرام قال : صليت القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( أكرموا الخبز ؛ فإن الله أنزله من بركات السماء، وسخر له بركات الأرض، ومن تتبع ما يسقط من السفرة ؛ غفر له ) واخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبر ؛ فبعث الله عليهم الجوع.
١ لسان العرب جـ ٥ ص ١٨٣..
قوله تعالى :﴿ أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ﴾.
قوله :﴿ أن لو نشاء ﴾ في موضع رفع فاعل للفعل ﴿ نهد ﴾ وهو من الهدي وهو البيان الذي بعث لهم هاديا مبينا مرشدا. ولولا لم يرشدوا ؛ يعني ألم يتبين لهؤلاء المشركين الضالين الذين استخلفوا في الأرض بعد إهلاك من قلبهم فساروا سيرتهم في الضلال والفسق وصنعوا من المحرمات والمعاصي ما فعله أولئك الأسلاف ﴿ أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ﴾ أي لو نشاء لفعلنا بهؤلاء الفاسقين العاتين عن أمر ربهم كما فعلناه بالذين سبقوهم من الهلاك والتدمير والختم على قلوبهم فلا يستطيعون بعد ذلك سماع موعظة ولا ذكر.
وذلك تهديد من الله يخوف به عباده الغافلين الساردين في الغي والضلالة، والمنشغلين عن دينهم وعقيدتهم بالشهوات والاهتمامات الدنيوية المهنية. تهديد من الله بإحلال البلاء في الذين يخالفون عن أمره ويسيرون سيرة الظالمين الفاسقين. ولئن لم ينته الغافلون عن المخالفات والمعاصي فلسوف تجتاحهم البلايا والمحن على مر الأحوال والزمن.
قوله تعالى :﴿ تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ١٠١ وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ الإشارة ﴿ تلك ﴾ إلى القرى الظالمة التي حاق بها الهلاك. وهي قرى نوح وعاد وثمود ولوط وشعيب ؛ فهي التي يقص الله علينا من أخبارها وما حل بساحتها من البلاء والتدمير بعد قيام الحجة عليهم من الله ؛ إذ بعث فيهم النبيين المرسلين ومعهم الدلائل والبراهين القاطعة التي تشهد على صدق نبوتهم ورسالاتهم. وفي مثل هذا القصص ما يسري عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يواجه من قومه الظلم والأذى والصد عن دينه، وليكون ذلك موعظة للناس وعبرة تزجرهم عن الشرك، وتردعهم عن الاجتراء على محارم الله وحدوده.
قوله :﴿ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل ﴾ أي فما كان أولئك الكافرون الخاسرون ليؤمنوا بعد إهلاكهم، بما كانوا كذبوا به لو أننا أحييناهم. وذلك كقوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾.
قوله :﴿ كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ﴾ الكاف في ﴿ كذلك ﴾ صفة لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك يطبع الله على قلوب الكافرين الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فلا تجدي معهم بعد ذلك موعظة، ولا يعطفهم بيان أو برهان.
قوله :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾ الضمير في ﴿ أكثرهم ﴾ يعود في أهل القرى الذين أهلكهم الله وخسروا أنفسهم، وهم الذين ذكروا سابقا ؛ أي وما وجدنا لأكثر هؤلاء المشركين الذين قصصنا أخبارهم عليك من عهد، وهو الوفاء بما وصاهم به الله من توحيده، واتباع رسله، والتزام دينه وشرعه، ومجانية زواجره ونواهيه.
قوله :﴿ وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ﴾ إن مخففة من عن الثقيلة، وضمير الشأن محذوف، ووجدنا، بمعنى علمنا ؛ أي : إن الشأن والحديث علمنا أكثرهم خارجين عن طاعة الله، مارقين١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٥- ٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٠٠، ١٠١ والنسفي جـ ٢ ص ٦٧ والبيضاوي ص ٢١٦ والازي جـ ١٤ ص ١٩٤- ١٩٧..
قوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملإيه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ١٠٣ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ١٠٤ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ١٠٥ قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ١٠٦ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ١٠٧ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ١٠٨ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم ١٠٩ يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ١١٠ قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ١١١ يأتوك بكل ساحر عليم ١١٢ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ١١٣ قال نعم وإنكم المقربين ﴾.
الضمير في قوله :﴿ من بعدهم ﴾ يعود على نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. والمراد بالآيات هنا المعجزات التي أوتيها موسى عليه السلام ؛ أي أرسلنا موسى إلى هؤلاء المشركين بعد ما أرسلنا رسلنا إلى الذين سبقوهم من الأمم. أرسلناه ﴿ إلى فرعون وملإيه ﴾ واسم فرعون لقب كل ملك من ملوك مصر بعد العمالقة. وملأ فرعون يراد بهم أشراف القوم وسادتهم من أعوان الطاغوت الكبير الخاسر فرعون. لقد أرسل الله إليهم مع نبيه موسى الدلائل القاطعة على صدق نبوته ورسالته، وهي ما أوتيه معجزات ﴿ فظلموا بها ﴾ أي ظلموا بالآيات التي جاءتهم. والمراد أنهم كذبوها وكفروا بها. والظلم معناه وضع الشيء في غير موضعه. ولما كانت هذه الآيات ظاهرة بلجة، وهم قد كفروا بها وكذبوها، فبذلك وضعوا الإنكار في موضع الإقرار، والكفر في موضع الإيمان، وذلك ظلمهم على تلك الآيات١.
قوله :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ﴾ ذلك تحريض لكل أحد على أن يتدبر ويتذكر ما حل بفرعون وأعوانه الظالمين من تدمير شنيع مريع. وذلكم التغريق المفظع في البحر.
لقد كان مصير فرعون وأتباعه من الظالمين بالغ الشدة والنكال والترويع، لهول ما أصابهم من تعس العاقبة وهوان المصير. لا جرم أن ذلك حدث جلل يأتي في طليعة الذكريات المؤثرة الوجيعة من تاريخ البشرية الحافل بصنوف النوائب والبلايا لكي يظل هذا الحدث المخوف ماثلا لخيال الإنسان فيستديم في ذهنه التذكير والاتعاظ والهاجس مما حل بالقوم الظالمين وعلى رأسهم طاغوتهم الأكبر فرعون.
١ تفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٩٨..
قوله :﴿ وقال موسى يا فرعون إني رسول الله من رب العالمين ﴾ ذلك إخبار صريح وظاهر من نبي الله موسى لفرعون بأنه مرسل إليه من رب العالمين. لقد صدع له موسى بهذا الإخبار المجلجل من غير لين أو تمحل أو مصانعة أو مداهنة ؟ ليكون ذلك بداية عنونا لحديثه معه. وفي ذلك من الجهر الصادع بالحق، والجرأة النافذة الفذة أما هذا الطاغوت المتجبر ما يكشف عن عظمة هذا النبي الكريم بيقينه البالغ وثقته الكاملة بربه الذي كتب الغلبة لرسله وللمؤمنين المستضعفين.
قوله :﴿ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق ﴾ حقيق بمعنى واجب ؛ أي واجب علي ولازم أن لا أقول إلا الحق، فما أبلغكم عن الله إلا القول الحق. وقيل : على بمعنى الباء ؛ أي حقيق بان لا أقول على الله إلا الحق. كما يقال : جئت على حال حسنة وبحال حسنة. وقيل حقيق بمعنى حريص أي حريص أن لا أقول على الله إلا الحق١. نقول : حقيق به ؛ أي خليق به أو جدير أو حري.
قوله :﴿ قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ البينة هي المعجزة الظاهرة التي بهرت الناظرين وذهل لهولها القوم المجرمون، فرعون وجنوده. والمراد ببني إسرائيل، سلالة النبي الكريم وهو إسرائيل ( يعقوب ) عليه السلام ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. فقد خاطب موسى فرعون قائلا : ها أنا قد جئتكم ببرهان من ربي وربكم على صدق رسالتي وصدق ما أبلغكم إياه ﴿ فأرسل معي بني إسرائيل ﴾ أي خلهم وأطلق سبيلهم. وكان فرعون قد طغى على بني إسرائيل وغالي في تعذيبهم والعدوان عليهم بغير حق ؛ فقد قتل أنباءهم واستحي نساءهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة، وأذاقهم من فظاعة القهر والمهانة ما سماهم سوء القهر والذل والهوان ردحا طويلا من الزمن. ومن أجل ذلك خاطب موسى فرعون داعيا إياه أن يخلي سبيل بني إسرائيل، وأن يدعهم وعبادة ربهم.
١ القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٢٩ ومختار الصحاح ص ١٤٧ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ١٩٩، ٢٠٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٣٥..
قوله :﴿ قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ﴾ أجاب فرعون موسى قائلا : إن كنت تصدق فيما تزعم أنك جئتنا بآية من عند ربك فأظهر لنا واطرحها أما أعيننا كي نشاهدها عيانا.
قوله :﴿ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ﴾ إذ، للمفاجأة، وهي بمنزلة ثمة وهناك، وهي في محل رفع خبر. والمبتدأ ثعبان ؛ أي ألقى موسى عصاه على الأرض فانقلبت ثعبانا وهو الذكر من الحيات. وقوله ﴿ مبين ﴾ أي صارت حية بارزة ظاهرة مخوفة قد رآها من كان حولها عيانا من غير لبس في ذلك ولا شك. وهذه واحدة كبرى من جملة معجزات أوتيها موسى لتكون لفرعون آية عسى أن يدكر أو يهتدي أو يرشد.
وفيما يذكره كثيرون من علماء التفسير عن حال فرعون لما رأى العصا تنقلب ثعبانا ضخما، لهو مثير للعجب ؛ فقد ذكروا أن هذا الطاغوت الكبير لما رأى الثعبان الهائل، تملكه الذعر والهلع والارتباك وغشيته غاشية من الذعر والارتجاج، فما لبث أن أحدث في ثيابه. لا جرم أن قصة كهذه تكشف لذوي العقول والنباهة من الناس أن هؤلاء الطواغيت الذين يسوسون الناس بالقهر والطغيان والجبروت ليسوا غير آحاد من الشخوص المزيفة الكاذبة الخاوية، الشخوص المنتفخة انتفاخ المسلط المخادع المغرور، الذي استحوذ على الناس بزيفه وخداعه وأكاذيبه حتى يتخيل الناس ووهموا أنه عظيم. وهو في ميزان الحقيقة والواقع ليس إلا صنما من البشر المموه الفارغ. البشر المتلصص الدجال الذي يصطنع لنفسه الشجاعة والبراعة وحسن السمت والمظهر والناس عنه في غفلة. ولو أردك الناس حقيقته عيانا لأيقنوا أنه جبان وأرعن وخسيس ومذعور وهم عنه غافلون !.
قوله :﴿ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ﴾ أي أخرج موسى يده من جيبه١ أو من جناحه٢ فإذا هي بيضاء كالثلج، أو تتلألأ ساطعة كالنور من غير سقم أو علة كالبرص ونحوه، ثم أعادها إلى موضعها الأول فعادت إلى لونه وكان أسمر البشرة كما قيل. لقد فعل موسى ذلك والناس من حوله.
١ الجيب: جيب القميص، طوقه أو ما ينفتح منه على النحر. انظر القاموس المحيط جـ ١ ص ٥٢..
٢ الجناح: بفتح الجيم معناه هنا الإبط. انظر القاموس الميحط جـ ١ ص ٢٢٦..
قوله :﴿ قال الملأ من قوم فرعون ﴾ ينظرون إليه لا يكتمون في أنفسهم غير الدهش والذهول. لكن القول كانوا من غلاة العتو والاستكبار والجحود وفي مقدمتهم الطاغوت الظلوم فرعون الذي ملأ الأرض فسادا وظلما، والذي غالى في الكفران البالغ والعدوان المقيت مغالاة لا ينزلق إلى مثلها أولو فطرة سليمة. أو من كان به مسكة من عقل. وسيأتي تفصيل ذلك من فرعون في موضعه إن شاء الله.
قوله :﴿ قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لسحر عليم ﴾ لما شاهد الملأ من قوم فرعون وهم الأشراف من قومه الكافرين، هاتين المعجزتين العظيمتين وهما انقلاب العصا حية، وصيرورة يده بيضاء تتلألأ من غير سقم عجبوا لذلك عجبا. لكنهم لفرط عتوهم واستكبارهم وفساد قلوبهم ما لبثوا أن انتكسوا خاسرين معاندين، إذ قالوا :﴿ عن هذا لسحر عليم ﴾ أي كثير العلم بالسحر وهو يسحر أعين الناس بخداعه إياهم. والسحر، هو كل ما لطف مأخذه ودق، أو هو كل أمر يخفي سببه ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخادع. وسحره ؛ أي خداعه١.
١ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٤٦ والمعجم الوسيط ١ ص ٤١٩..
قوله :﴿ يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون ﴾ الجملة الخبرية في محل رفع صفة لساحر، والمراد بالأرض هنا مصر حيث التسلط الفرعوني الغاشم. والقائلون ذلك هم ملأ فرعون ؛ إذ قالوا له بصيغة الجمع على سبيل التعظيم : بأي شيء تأمرنا أن نفعله لندرأ عنا خطر هذا الساحر ونحول بيننا وبينه ؟ ! وقيل : القائل هذا هو فرعون ؛ فقد قال الملأ من حوله : بأي شيء تشيرون فيه علي ؟ وماذا ترون أن نعمل فيه ؟ -أي في موسى عليه السلام. وقد زعم فرعون لقومه وهو يستخفهم ويخوفهم، أن موسى يريد أن يخرجهم من ملكهم ووطنهم مصر ؛ ليكون ذلك أبلغ في اهتمام القوم.
قوله :﴿ أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ١١١ يأتوك بكل ساحر عليم ﴾ أرجه ؛ أي أخره. أرجأته وأرجيته يعني أخرته. أرجأ المر أي أخره١ فقد قال الملأ وهم الأشراف من أتباع فرعون وجنوده : أخره أو أمله وأخاه هارون ولا تعجل، ثم أرسل رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة وكانوا في صعيد مصر، وهي المراد بالمدائن ؛ فقد أرادوا أن يأتي هؤلاء الرجال بكل ساحر عليم ؛ أي ماهر متمرس بصناعة السحر.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٢٩..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١١:قوله :﴿ أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ١١١ يأتوك بكل ساحر عليم ﴾ أرجه ؛ أي أخره. أرجأته وأرجيته يعني أخرته. أرجأ المر أي أخره١ فقد قال الملأ وهم الأشراف من أتباع فرعون وجنوده : أخره أو أمله وأخاه هارون ولا تعجل، ثم أرسل رجالا يحشرون إليك من فيها من السحرة وكانوا في صعيد مصر، وهي المراد بالمدائن ؛ فقد أرادوا أن يأتي هؤلاء الرجال بكل ساحر عليم ؛ أي ماهر متمرس بصناعة السحر.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٣٢٩..

قوله :﴿ وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾ أرسل فرعون رجاله ليأتوه بكل السحرة في البلد. فما تركوا منهم أحدا إلا جاءوا به إليه وهم كثيرون فأخبرهم فرعون أنه قد جاءنا ساحر ما رأينا مثله في قدرته وعلمه قط. فحرضهم على مواجهته بسحرهم ليغلبوه وقالوا له :﴿ إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ﴾ أي تعطينا جائرة أو مالا إن غلبنا موسى بسحرنا ؟
فرد عليهم فرعون بالإيجاب وهو قوله :﴿ نعم وإنكم لمن المقربين ﴾ أي لكم عندي أجر على ذلك. وأنتم فوق ذلك مقربون أكثر من غيركم لتكون لكن المنزلة الرفيعة عندنا١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣١ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٥٦- ٢٥٨ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ١٢..
قوله تعالى :﴿ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقون ١١٥ قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ١١٦ *وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ١١٧ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ١١٨ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ١١٩ وألقى السحرة ساجدين ١٢٠ قالوا آمنا برب العالمين ١٢٠ رب موسى وهارون ﴾ قالوا له : يا موسى اختر أن تلقي عصاك أو نلقي نحن عصينا وحبالنا. وعلى هذا ﴿ أن ﴾ في موضع نصب ؛ لأن معنى الكلام : اختر أن تلقي أنت أو نلقي نحن. وقيل : أن مفسرة بمعنى أي : فلا يكون لها محل من الإعراب١. فأجابهم موسى ﴿ ألقوا ﴾ أنتم وذلك على سبيل الاستخفاف بالقوم المشركين وبما جاءوا به من دجل وتمويه ومخادعة للناس بسحرهم. قال موسى ذلك –أي ألقوا- ليكونوا هم البادئين في الإلقاء فيستبين كذبهم على نحو أعظم ظهورا. وحينئذ ينظرون ما يحل بهم من الخزي والافتضاح أمام القبط المشركين الذين تنادوا من كل أنحاء مصر ليكونوا معوانا لطاغيتهم فرعون الذي استخلفهم استخفافا بل عبدهم تعبيدا.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٠..
قوله :﴿ فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم ﴾ أي لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم قلبوا أعين الناس قلبا، وخيلوا لأعينهم بما جاءوا به من تمويه يصنعه البارعون في الشعوذة، وبما أحدثوه في خيالهم من التصور ؛ بأن هذه الحبال والعصي تسعى. وكذلك استرهبوهم بما سحروا به أعينهم ؛ إذ خافوا من العصي والحبال وهي تتحرك ظانين أنها حيات ﴿ وجاءوا بسحر عظيم ﴾ أي جاءوا بتخييل عظيم في تصورهم وليس على الحقيقة.
قوله :﴿ وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ﴾ تلقف أي تبلتع أو تلهم١، و ﴿ يأفكون ﴾ ؛ أي يكذبون، من الإفك وهو الكذب والزور٢. ﴿ ما يأفكون ﴾، ما مصدرية، وهي والفعل بعدها في موضع نصب على المفعولية لتلقف والتقدير : تلقف إفكهم. أو موصولية، والتقدير تلقف ما أو الذي يأفكون. فلقد أمر الله نبيه وكليمه موسى عليه السلام أن يلقي عصاه لتصير حية عظيمة مخوفة ﴿ تلقف ﴾ تبتلع كل ما اصطنعه السحرة من كذب وزور وخداع. وذلك بعد ما جاء به السحرة من تمويه وتخييل ودجل مكذوب حسبه الناس وحقيقة، وهم في الحقيقة مسحورون واهمون. وقيل : كنت الحبال والعصي مشحوة بالزئبق فتحركت من أجل ذلك فضلا عن كثرتها ؛ إذ بلغت سبعين ألفا بعدد السحرة الذين جمعهم الحاشرون.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٣٥..
٢ المصباح المنير ج ٥ ص ٢١..
قوله :﴿ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ﴾ أي ظهر الحق بصدق نبوة موسى –عليه السلام- وبطلان ما صنعه فرعون والسحرة من الإفك والدجال.
قوله :﴿ فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ﴾ الصغار معناه الذل والضيم. والصاغر، الراضي بالضيم١ ؛ لقد كانت الغلبة لموسى عليه السلام وما جاء به من الحق. وكان الخزي والعار والافتضاح على فرعون وجنوده والذين جاء بهم من السحرة، فانصرفوا بعد ذلك جميعا ﴿ صاغرين ﴾ أي مقهورين أذلة.
فالله جل وعلا ينصر رسله والمؤمنين المخلصين مهما طال بهم الزمان واشتدت من حولهم المحن. والعبد المؤمن الصابر الذي يدعو إلى دين الله ويجاهر بالحق في حماسة وإخلاص أو يضطرب أو ينتزع. بل إنه صابر مرابط ثابت على الحق في عقيدة الإسلام ومنهج الله القويم، مهما ازدادت جموع الظالمين والمجرمين والمتربصين الغاشمين من حوله. وهكذا كان موسى عليه السلام بعد أن تعزز بثقته بربه فثبت في ميدان الصراع المحتدم وحده ؛ إذ لم يكن له نصير ولا رديف مجبر من البشر، والدنيا من حوله يجللها الكفر البواح في ظل الطاغوت الشقي فرعون، حتى كتب الله له ( موسى ) الغلبة والنصر.
١ مختار الصحاح ص ٣٦٤ والقاموس المحيط جـ ٢ ص ٧٢..
قوله :﴿ وألقى السحرة ساجدين ١٢٠ قالوا آمنا برب العالمين ١٢١ رب موسى وهارون ﴾ عندما عاين السحرة المعجزة معاينة ظاهرة أدركوا قدرة الله في الخلق وأيقنوا أن ما جاءهم به موسى حق، وأن ما جاءوا هم به باطل ووهم فلم يملكوا إذا ذاك أنفسهم حتى وقعوا على الأرض ساجدين لله ؛ إقرارا منهم بعظمته سبحانه وأنه الخالق الكبير القادر ؛ فقد أنطقتهم فطرة الإيمان الدافع المجلجل ليصدعوا بكلمة الحق هاتفين مجاهدين ﴿ قالوا آمنا برب العالمين ١٢١ رب موسى وهارون ﴾ فهو الرب الأعظم الأكرم الذي يستحق الإخبات له والطاعة، وليس فرعون الطاغوت المتجبر١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣٠- ٢٣٤ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٣- ١٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٦٨- ٧٠ والكشاف جـ ٢ ص ١٠٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٠:قوله :﴿ وألقى السحرة ساجدين ١٢٠ قالوا آمنا برب العالمين ١٢١ رب موسى وهارون ﴾ عندما عاين السحرة المعجزة معاينة ظاهرة أدركوا قدرة الله في الخلق وأيقنوا أن ما جاءهم به موسى حق، وأن ما جاءوا هم به باطل ووهم فلم يملكوا إذا ذاك أنفسهم حتى وقعوا على الأرض ساجدين لله ؛ إقرارا منهم بعظمته سبحانه وأنه الخالق الكبير القادر ؛ فقد أنطقتهم فطرة الإيمان الدافع المجلجل ليصدعوا بكلمة الحق هاتفين مجاهدين ﴿ قالوا آمنا برب العالمين ١٢١ رب موسى وهارون ﴾ فهو الرب الأعظم الأكرم الذي يستحق الإخبات له والطاعة، وليس فرعون الطاغوت المتجبر١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣٠- ٢٣٤ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ١٣- ١٥ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٦٨- ٧٠ والكشاف جـ ٢ ص ١٠٣..

قوله تعالى :﴿ قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون ١٢٣ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ١٢٤ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ١٢٥ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾ ﴿ آمنتم ﴾، مقروءة بهمزتين. فالأولى همزة الاستفهام ومعناه الإنكار والاستبعاد. فهو يستنكر إيمان السحرة قبل أن يأذن لهم ( فرعون ) بذلك.
وقرئت أيضا على الإخبار وذلك على سبيل التوبيخ من فرعون للحسرة الذين آمنوا من غير إذن منه. وذلك هو منطق الطاغية الغاشم فرعون ؛ إذ يستنكر على أحد أن يؤمن أو يهتدي ويمضي على صراط الله دون إذنه. فأيما إيمان بالله والمرسلين والتزام منهج الله المستقيم من غير إذن الشقي الأثيم فرعون جريمة تستوجب القتل والصلب والتقطيع من خلاف. بل إن ذلك منطق الرؤساء الجبابرة العتاة في كل زمان ؛ إذ لا يرضون للفئة المؤمنة الواعية من عباد الله، التي تحمل رسالة الله وتدعوا لدينه ومنهجه على علم وبصيرة. غنهم لا يضرون لهم إلا أن ينطلقوا من خلالهم وبعد الاستئذان منهم، وإلا كانوا –في منطق الحاكم والساسة والظالمين المتجبرين- خارجين متمردين يستوجبون العقاب الشديد بالقتل أو السجن أو النفي أو التعذيب.
قوله :﴿ إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها ﴾ يقول فرعون : هذا الإيمان منكم والتصديق بنبوة موسى ودينه عن هو إلا خداع منكم واحتيال قد تواطأتم عليه فيما بينكم وبين موسى ليستولوا على مصر وتخرجوا منها أهلها القبط ثم تقيموا فيها أنتم وبنو إسرائيل. وذلك محض كذب وافتراء من فرعون. فلم يكن ثمة مواطأة بين موسى واحد ؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد جاء من مدين إلى فرعون مباشرة ولم ير قبل ذلك أحدا من السحرة.
فليس التقول بالمواطأة أو التمالؤ إلا افتراء وزورا اختلقه فرعون ؛ ليستبيح به فعلته الشنيعة في الذين آمنوا، وذلك بالقتل والتنكيل لذلك تودعهم قائلا :﴿ فسوف تعلمون ﴾ أي ستجدون ما تلقونه من عقابي لكم على صنيعكم هذا.
قوله :﴿ لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين ﴾ وذلك أن يقطع من أحدهم يده اليمنى ورجله اليسرى. أو يقطع يده اليسرى ورجله اليمنى فيخالف بين العضوين في القطع. فمخالفته هذه في القطع، وهو القطع من خلاف. ثم يعلقهم مصلوبين على جذوع النخل صلبا مبالغا في التنكيل والنكاية. وقد قيل : أول من سن القطع من خلاف وكذا الصلب لهو فرعون. وهو قول ابن عباس.
فيا لله لهؤلاء المؤمنين المخبتين الأوفياء الذين صدقوا مع الله حق الصدق وصبروا على فظاعة الطاغوت العتل واحتملوا من بالغ تنكيله ونكاية عذابه ما يجعل منهم النبراس١ المحتذي على مر الزمن في اشتداد العزيمة والتجلد والاستعلاء على هوان الدنيا وما تحفل بم من المآسي وألوان المرارة، ليكون ذلك درسا كبيرا للمؤمنين الذين يدعون للإسلام في كل زمان بما يثير فيهم علو الهمة ورباطة الجأش والقدرة على احتمال الشدائد التي يكيلها لهم الظالمون والمتجبرون والمجرمون من شياطين الأرض.
١ النبراس: المصباح المعجم الوسيط ١/ ٤١، القاموس المحيط ٢/ ٢٦٢..
قوله :﴿ قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ﴾ منقلبون أي راجعون. وذلك رد السحرة الذين آمنوا بعد أن توعدهم فرعون بالقتل والقطع من خلاف والصلب –إذ أجابوه في استعلاء ويقين أنهم على الحق، وأنهم صائرون إلى الله بالموت لا محالة.
قوله :﴿ وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات من ربنا لما جاءتنا ﴾ تنقم ؛ أي تنكر وتعيب١ ؛ أي ما تعيب ولا تنكر علينا يا فرعون إلا لإيماننا بموسى وتصديقا بآيات ربنا وهي ما أنزله من الحجج والبراهين والأدلة على صدق هذا الدين جاء به موسى. فليس إيماننا مثارا للعيب والإنكار ولكنه مبعث للشرف والكرامة والثناء.
قوله :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ﴾ أفرغ من الإفراغ، وهو الإنزال والصب٢. فبعد أن أدرك السحرة المؤمنين عزم فرعون على قتلهم والتنكيل بهم وأنه لا انفلات من إجرامه الواقع لجأوا إلى الله بالابتهال والضراعة أن ينزل عليهم صبرا ؛ ليقووا به على الثبات والاستمساك في وجه الفتنة المحدقة ؛ فلا يزيغوا أو يضطربوا عند اقتحام المحنة الشديدة، أن يكتب لهم خير الجزاء والإحسان، وأن يقبضهم إليه مسلمين مؤمنين غير مفتونين٣.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٤٩ ومختار الصحاح ص ٦٧٨..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١٢٤..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٣٤ وتفسير البيضاوي ص ٢١٨..
قوله تعالى :﴿ وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ﴾ الاستفهام للإنكار على فرعون من أجل تركه موسى. يعني : أتترك موسى وقومه الذين آمنوا ليفسدوا أرض مصر، فيفسدوا عليك شعبك وخدمك، ويثيروا في الأرض الفرقة وشتات الشمل. وقوله :﴿ وآلهتك ﴾ أي عبادتك يعني : أتترك كذلك موسى يترك طاعتك وعبادتك. وقيل : كانت للفراعنة آلهة من الأوثان كالشمس والنجوم.
كذلك قال الأشراف المنافقون من قوم فرعون. وهذا هو دين كل بطانة فاسدة مضلة من حول الحاكم المسلط المغرور. أولئك الذين يلهثون وراء الساسة والرؤساء الطغاة نفاقا وخيانة ثم يسولون لهم قتل الصالحين من الناس الذين يؤمنون بالله ورسوله ويدعون لإعلاء كلمته ودينه في الآفاق هذا هو ديدن المنافقين المبتذلين الأنذال في كل أمة وموضع. وأولئك الذين يطوفون من حول الحاكم الفاسد الغاشم تزلفا ونفاقا ليحرضوه على إبادة الإسلام وليسولوا له التنكيل بالمسلمين وفي طليعتهم العاملون الدعاة إلى الله.
قوله :﴿ قال سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم ﴾ ذلك جواب الطاغية المغرور فرعون. أجاب حاشية وزبانيته من المنتفعين ومنافقين والأنذال –وهو تنتفخ أوداجه حماقة وصلفا وغرورا- أنه سيبطش برسول الله موسى ومن معه من المؤمنين، وسيقتل- بالتشديد للمبالغة في التقتيل- أبناءهم الذكور ويستحي نساءهم، أي يستبقيهن في الحياة من أجل التسخير والاستمتاع.
قوله :﴿ وإنا فوقهم قاهرون ﴾ يعني : وإنا عالون عليهم بالقهر والإذلال. كذلك كان فرعون، يخاطب المستضعفين من قوم موسى، وهو تحفه من حوله فئة النفاق والتزلف والتحريض من المنتفعين والأنذال، علاوة على طبيعة هذا الحاكم الغاشم المغرور الذي طغى وتجبر على نحو ليس له في العالمين نظير. وليس أدل على ذلك من اصطناعه الإلهية لنفسه بقوله لأهل مصر من القبط ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ ولفرعون من الأشباه والنظراء من الساسة والقادة المتسلطين كثيرون أولئك الذين يتعالون على عباد الله المؤمنين، ويكلون لهم صنوف التنكيل والقهر والعذاب في كل زمان١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١٧، ١٨..
قوله تعالى :﴿ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ١٢٨ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعده ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾ بعد ذلك لقيه موسى والمؤمنين معه من التنكيل فرعون وجنوده، وبعد الذي حل بهم من ألوان البلاء والعذاب من تقتيل وإذلال وتسخير وقهر، دعا موسى قومه إلى الاحتمال والصبر على ما حل بهم من بلاء فرعون وجنوده ثم بين لهم أن هذه الأرض لسوف يورثها الله من يشاء من عباده فعسى الله أن يورثكم إياها إن صبرتم واحتسبتم ذلك عند ربكم.
وذلك أن ﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ أي أن عاقبة الخير والحسنى المصير المحمود في الدنيا والآخرة لسوف يكون للذين يتقون ربهم فيخافونه ويجتنبون معاصيه ويؤدون فرائضه ويلتزمون أحكامه. وفي ذلك ما يشير إلى دنو هلاك فرعون وجنوده الظالمين بما ينشر الأمل بني إسرائيل أن خلاصهم من طغيان فرعون قد اقترب.
قوله :﴿ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا ﴾ بعد أن دعا موسى قومه للاصطبار واحتمال الأذى والمكروه قالوا له –وهم محزنون- إنهم أصابهم البلاء والإذلال والقتل على يد فرعون من قبل أن يبعثك الله إلينا رسولا ؛ لأن فرعون كان عازما قبل أن تأتينا نبيا ورسولا، أن يقتل أنباء بني إسرائيل لما بلغه من خبر أن زوال ملكه كائن على يد مولود منهم. وكذلك قالوا له : إن العذاب نازل بهم من فرعون بعد مبعثه فيهم، فهم معذبون من فرعون من قبل موسى ومن بعده.
قوله :﴿ قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ﴾ ذلك تصريح بما يشير إليه من البشرى لبني إسرائيل بهلاك فرعون ليخلفوه في ملكه من بعده. وقيل : عسى، من الله واجب ؛ فقد وعدهم الله بإهلاك فرعون واستخلافهم في مصر من بعده. وقد تحقق ذلك كله ؛ فقد استخلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليها السلام وفتحوا بيت المقدس بقيادة يوشع بن نون. وذلك كله ليرى الله ما هو كائن منهم من العمل الحسن منه والقبيح، والطاعة أو المعصية، والشكران أو الكفران، ليجازيهم ربهم على ما يفعلون من ذلك.
قوله تعالى :﴿ ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون ١٣٠ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا طائركم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ السنين الجمع سنة وهي هنا بمعنى الجدب وليس الحول. والمراد بالسنين، الجدوب والقحوط ؛ فقد ابتلى الله فرعون وقومه بنقص الثمرات، وبالقحوط سنة بعد سنة، جزاء كفرهم وجرائمهم وتلبسهم بالشرك والمعاصي ﴿ لعلهم يذكرون ﴾ أي لعلهم يتعظون أو تلين قلوبهم فيجتنبون المعاصي والباطل وينزجرون عن الأذى والشر.
قوله :﴿ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصيبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ﴾ إذا أصاب آل فرعون الخصب والرخاء وكل وجوه النعمة والسعة ورأوا ما يحبون من أنعم الدنيا فرحوا وقالوا ﴿ لنا هذه ﴾ أي نحن أحق بهذه الخيرات والنعم. أو أننا أعطينا ذلك لأننا أهل له ونستحقه.
أما إن أصابهم البلاء من جدوب وقحوط وكروب وأسقام ؛ فغنهم عندئذ يتطيرون بموسى ومن معه من المؤمنين. أي يتشاءمون بهم ؛ إذ يقولون : ما أصابنا هذا البلاء والسوء إلا بسبب موسى والذين معه. والتطير بمعنى التشاؤم، من الطيرة وهي ما يتشاءم به من الفأل الرديء١.
قوله :﴿ ألا إنما طائرهم عند الله ﴾ طائرهم، أي أنصباؤهم وحظوظهم من الرخاء والخير والنعمة أو غير ذلك مما يخالفه ؛ فهو كله بتقدير الله. فما يصيبهم من خير أو شر إنما هو بقضاء الله وحكمه ومشيئته وليس شؤم أحد أو يمنه.
قوله :﴿ ولكن أكثركم لا تعلمون ﴾ أي يجهلون هذه الحقيقة ؛ وهي أنه ما من خير أو سوء إلا هو بتقدير الله وحكمه ومشيئته، فهم لجهلهم تطيروا بموسى والذين معه٢.
١ مختار الصحاح ص ٤٠٢ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ٥٧٤..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٠٥- ١٠٧ وتفسير الرازي جـ ١٤ ص ٢٢١- ٢٢٥ وتفسير البيضاوي ص ٢١٩ والطبري جـ ٩ ص ٢٠..
قوله تعالى :﴿ وقالوا مهما تأتينا من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ١٣٢ فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ١٣٣ ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ١٣٤ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ﴾.
مهما، أصلها ما ما. ما، الأولى للشرط، وزيدت الثانية للتأكيد وركبت إحدهما مع الأخرى، وقيل غير ذلك١، وهذه غاية قصوى في المعاندة والاستكبار من غير حجة ولا دليل إلا المكابرة ومجرد الاستمراء الأعوج المريض لخسيسة اللؤم والجحود. وذلك هو شأن فرعون والذين هم على شاكلته من المعاندين المجرمين الذين لا يصيخون لحجة ولا برهان ولا منطق ولا يثني طبائعهم عن الكيد والتمادي في الظلم والفساد آيات ولا معجزات ؛ فقد قالوا لموسى : مهما تأتنا به من المعجزات ﴿ لتسحرنا ﴾ أي لتصرفنا أو تلفتنا عما نحن عليه من دين فرعون فما نحن لك بمؤمنين ولا مستجيبين.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧١..
فبعد هذا العتو والاستكبار بالرغم مما رأوه من المعجزات الحسية المشهودة التي تدل على صدق نبوة موسى عليه السلام –بعد ذلك كله أخذ الله هؤلاء الظالمين المجرمين بالبلاء والمحن. وأول ذلك ﴿ الطوفان ﴾ وهو المطر الغامر الشديد ؛ فقد أرسل الله السماء عليهم هاطلة مدرارة حتى عاموا في طوفان الماء المغرق الذي يتلف الزروع والثمرات. وقيل : معناه الموت. وقيل : الطاعون. والمعنى الأول أظهر.
ثم ﴿ الجراد ﴾ وهو مأكول لما رواه أحمد وابن ماجه عن أبي عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد، والكبد والطحال ).
أما إذا حل الجراد بأرض فأفسدها فغنه يحل قتله ؛ للتخلص من ضرره ؛ ودرءا لفساده وأذاه. وهو قول الأكثرين من الفقهاء وأهل العلم. ويستدل على ذلك بالعقول وهو درء الفساد المتحصل بسبب الجراد ؛ ولئن جاز قتل المسلم إذا اعتدى على أحذ لأخذ ماله أو إفساده، فلا جرم أن يكون قتل الجراد أولى. وقيل : لا يحل قتل الجراد ؛ لأنه جند من جند الله. والصواب الأول.
ثم ( القمل ) بضم القاف وتشديد الميم. وقد قيل : معناه السوس الذي في الحنطة. وقيل : معناه الجعلان. وقيل : البراغيث. وقيل : هو ضرب من القراد أكلت دوابهم وزروعهم ولزمت جلودهم كالجدري. وقيل : القمل، بفتح القاف وسكون الميم. وهو معروف.
ثم ﴿ الضفادع ﴾ وهي جمع ومفردها الضفدع. وهي حيوان صغير يعيش في الماء، وهي منهي عن قتلها لما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال :( نهى رسول الله عن قتل الصرد١ والضفدع والنملة والهدهد ) وقيل : عن أكثر الدواب تسبيحا الضفدع حتى إن نقيقها لهو تسبيح ؛ فقد أرسل الله عليهم الضفادع لتملأ عليهم كل أوعيتهم وشرابهم، حتى إن أحدهم ليجلس فتغشاه الضفادع لتواريه إلى ذقنه. ولا يتكلم حتى يثب الضفدع في فمه.
ثم ﴿ الدم ﴾ امتلأت حياتهم بالدم حتى فاض الدم في أمكنتهم وآنيتهم ومياههم فما كان أحدهم يغترف من الماء إلا الدم الأحمر مما أوقع فيهم العنت البالغ والبلاء الشديد. فكانوا في كل مرة ينزل بهم البلاء من ربهم يضجون بالشكوى إلى موسى ليدعو ربه أن يزيل عنهم هذا البلاء من ربهم يضجون بالشكوى إلى موسى ليدعوا ربه أن يزيل عنهم هذا البلاء النازل بهم. فما يدعو موسى ربه ثم يستجيب الله الدعاء بإزالة البلاء عنهم حتى يجنح فرعون وقومه للكفر والتمادي في العدوان والباطل فتابع الله عليهم الآيات بأخذهم بالسنين وهي القحوط، ثم الطوفان، ثم الجراد، ثم القمل، ثم الضفادع، ثم الدم ﴿ آيات مفصلات ﴾ أي بينات ظاهرات لمن يريد أن يتذكر أو يعتبر.
قوله :﴿ فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين ﴾ فرعون اللعين كان فاسد الفطرة تماما. وهو ذو قلب غليظ بالغ الكزازة والقسوة فلا يلين ولا يرق ولا يستقيم، وهو بلؤمه وقسوته وجموحه الشرير قد طغى عليه طبعه الجاحد الكنود، فما كان ليصيخ لهتاف المنطق أو الحق أو الفطرة بل استشرت في دمه وعروقه نزوة الشر والأذى والعتو، فاستكبر هو وقومه والذين اتبعوه في الضلال والباطل وأبوا إلا الفسق والتمرد والكيد لموسى نبي الله والذين آمنوا معه. وذلك بالرغم مما حل بهم من ألوان البلاء وكانوا في كل نازلة من هذه النوازل يسألون موسى أن يضرع إلى ربه لئن كشفت عنا هذا الضر لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل. لكنهم نقضوا ما وعدوه وعادوا إلى مفارقة الشر والفساد والإجرام.
١ الصرد: على وزن عمر. وهو نوع من الغرابن، ويقال له الواق. وكانت العرب تتطير من صوته وتقتله، فنهي عن قتله دفعا للطيرة. وقيل: طائر أكبر من العصفور ضخم الرأس والمنقار ويصيد صغار الحشرات وكانوا يتشاءموا منه. انظر المعجم الوسيط جـ ١ص ٥١٢ والمصباح المنير جـ ٢ص ٣٦١..
وهو ما يتضح في الآية التالية وهي : قوله ﴿ ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ﴾.
الرجز، معناه العذاب١ واختلفوا في المراد بالرجز الذي أرسله الله على فرعون وقومه ؛ فقد قيل : المراد به الطاعون. وقيل : مطلق العذاب. وقيل : هو العذاب الذي سلطه الله عليهم وهو الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
فقد قال الظالمون المجرمون لموسى : لئن رفعت عنا هذا البلاء الذي نزل بنا لنؤمن لك ولنصدقن بما جئتنا به، ولنرسلن معك بني إسرائيل بإطلاقهم وتخليتهم.
١ مختار الصحاح ص ٢٣٤..
قوله :﴿ فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ﴾ بعد أن سألوا موسى أن يدعو ربه بكشف العذاب عنهم، وأعطوه موثقا أن يصدقوه ويخلوا بني إسرائيل ليذهبوا حيثما شاءوا –إن أذهب هذا البلاء عنهم، استجاب الله لدعاء موسى فكشف العذاب عنهم ﴿ إلى لأجل هم بالغوه ﴾ أي إلى حين غرفتهم في اليم. وقيل : الموت. وقيل : الأجل هنا هو الحد من الزمان الذي هم بالغوه لا محالة فيعذبون فيه ولا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وهو قول الزمخشري. وعقب هذا الكشف اللبلاء عنهم ﴿ إذا هم ينكثون ﴾ إذا، الفجائية١ وينكثون، يعني ينقضون. من النكث ؛ أي النقص. نكث العهد والحبل ينكثه، بالكسر والضم ؛ أي نقصه فانتكث. وتناكثوا عهودهم ؛ أي تناقضوا٢.
١ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٦٧- ٢٧١ وتفسير الطبري جـ ٨ ص ٢٤- ٢٩ والحبر المحيط لأبي حيان جـ ٤ ص ٣٧١ – ٣٥١ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٩١- ١٩٣ والتبيان للطوسي جـ ٤ ص ٥٢٣..
٢ القموس المحيط ص ٢٢٧..
قوله تعالى :﴿ فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ١٣٦ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنها فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ انتقمنا من النقمة بالكسر، وهي المكافأة بالعقوبة١. أي كأفأ الله آل فرعون الظالمين بالإغراق في البحر، فحل بهم من التنكيل والهلاك والذعر ما حل ﴿ بأنهم كذبوا بآياتنا ﴾ الباء للسببية ؛ أي عاقبهم الله هذا العقاب المرير جزاء تكذيبهم بآيات الله من الدلائل والحجج والمعجزات الواضحة المشهودة ﴿ وكانوا عنها غافلين ﴾ أي جزاء غفلتهم عن هذه الآيات التي تبين لهم في وضوح كامل نبوة موسى وصدق رسالته وأنه مبعوث لهم من ربه. لكنهم لم يعبأوا بهذه الدلائل والبراهين ولم يكترثوا بها.
١ القاموس المحيط ص ١٥٠٣..
وبعد أن أهلك الله فرعون وجنده الظالمين أورث الله بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين والذين سامهم فرعون القهر والقتل والإذلال والاستعباد –أورثهم مشارق الأرض ومغاربها التي بارك الله فيها، وهي أرض مصر والشام وقد بارك الله فيها بالماء والخصب والخيرات والسعة.
قوله :﴿ وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ﴾ الآية ؛ أي مضت كلمة الله وهي وعده لنبي إسرائيل بالنصر والتمكن بعد كشف البلاء عنهم وإهلاك عدوهم فرعون وقومه الظالمين. والحسنى مؤنث الأحسن، وهي صفة للكلمة وذلك بسبب صبرهم على البلاء واحتمالهم الأذى وما حل بهم من طغيان فرعون وقهره وإجرامه.
قوله :﴿ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون ﴾ أي اهلك الله ما أقامه فرعون وقومه من البينان والعمران ﴿ وما كانوا يعرشون ﴾ أي ما كانوا يبينون من البيوت الفخمة والقصور العالية ؛ فقد دمر الله ذلك كله تدميرا ؛ فأتى عليه الإهلاك والتخريب حتى بات أثرا بعد عين.
قوله تعالى :﴿ وجوزنا بني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ١٣٨ إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ١٣٩ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين ١٤٠ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسمونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ﴾.
المجاوزة، العبور، والمجتاز معناه السالك ومجتاب الطريق ١والمعنى : أن الله يسر لبني إسرائيل أن يعبروا البحر فينفذوا إلى الساحل والبر آمنين سالمين بعد أن أهلك فرعون وجنوده غرقا في البحر. وبعد مجاوزتهم مروا على قوم مشركين كانوا يسكنون ساحل البحر وكانوا ﴿ يعكفون على أصنام لهم ﴾ أي يواظبون على تقديسهم ويقيمون على عبادتها وهي تماثيل من الحجارة. وما أن رأى بنو إسرائيل ذلك حتى جنحت طباعهم التي لا تحتمل الثبات والجد، والتي جبلت على الاسترخاء والانمياع –جنحت للهزل والرغبة في الباطل والاعوجاج فسألوا نبيهم موسى أن يصنع لهم إلها من صنم كآلهة هؤلاء المشركون العاكفون على عبادة أصنامهم ؛ فأجابهم موسى موبخا إياهم أيا توبيخ ﴿ إنكم قوم تجهلون ﴾ أي إنكم جاهلون ما أوتيتم من الآيات والمعجزات التي تشهد بصدق ما جئتم به وبطلان ما سواه من ملة الوثنية والشرك.
١ القاموس المحيط ص ٦٥١..
قوله :﴿ إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ﴾ ﴿ متبر ﴾ أي هالك ومكسر، من التبر، بفتح التاء وهو الإهلاك. والتبار، بالفتح الهلاك. وتبره تتبيرا أي كسره وأهلكه. و ﴿ متبر ما هم فيه ﴾، أي مكسر ومهلك١. وذلك جواب موسى لبني إسرائيل لما سألوه أن يجعل لهم إلها صنما كأصنام القوم المشركين ؛ لقد أجابهم في جد وحزم ومفاصلة غاية في الوضوح. وهي أن هؤلاء المشركين هالك ما هم فيه من عبادة الأصنام وما اصطنعوه وتشبثوا به من ديانة فاسدة بنبت على الضلال والبطلان والشرك. فإن ذلك كله صائر إلى الدمار والهلاك ولا يبقى منه شيء. وكذلك ﴿ وباطل ما كانوا يعملون ﴾ أي ذاهب وزائل ما قدموه من أعمال ؛ فهي ماضية بغير وزن ولا اعتبار كقوله :﴿ وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾.
١ القاموس المحيط ص ٤٥٤ ومختار الصحاح ص ٧٤..
قوله :﴿ قال أغير الله أبغيكم غلها وهو فضلكم على العالمين ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ. وغير، مفعول به الفعل الذي بعده. وإلها، منصوب على التمييز أو الحال. والجملة ﴿ وهو فضلكم على العالمين ﴾ في موضع نصب على الحال ؛ أي كيف أطلب لكم إلها تعبدونه غير الله ؟ ! ولله وحده المستحق للعبادة وهو الذي هداكم لما فيه صلاحكم وخيركم ونجاتكم في الدنيا والآخرة. وفوق ذلك ﴿ فضلكم على العالمين ﴾ والتفضيل يحتمل وجهين. أولهما : أنه فضلكم على سائر الناس من أهل زمانهم بما أنعم به عليهم من إهلاك عدوهم وتنجيتهم هم، واستخلافهم من بعد فرعون وقومه الظالمين، وإنقاذهم مما حل بهم من الذل والهوان.
ثانيهما : أنه خصهم بفضائل من النعم بالآيات والمعجزات الكثيرة مثل : انبجاس الماس من الصخر الصلد، وانفلاق البحر، وتمهيد السيل فيه لسيرهم ومضيهم فيه، وبعض النبيين الكثيرين فيهم أكثر مما بعض في الأمم السابقة. إلى غير ذلك من أنعم الله كالمن والسلوى وتظليل الغمام. وهو ما بيناه في تفسير سورة البقرة. فما ينبغي لأحد بعد هذا البيان الواضح للمراد من التفضيل على العالمين أن يصطنع من الكلام والتأويل ما يأباه المنطق السليم وتنفيه حقيقة المراد من الآية الكريمة ومما لم ينزل اله به من حجة ولا برهان.
ليس لمتحذلق١ فارغ جاهل بعد ذلك أن ينتزع من مفهوم هذه الآية ما لا تحمله ليهذي بان بني إسرائيل جنس من البشر المميز الذي فضله الله لذاته وجنسه على سائر البشر ! ! ليس هذا الكلام إلا ضربا من الزيف والهراء الذي تجتره حناجر فريق من البشر المتعصب الجهول.
والحقيقة الصحيحة المعتبرة هنا أن نبي إسرائيل قد امتن الله عليهم بمنن وعطايا دنيوية كثيرة فاقت ما أعطته أمة من الأمم في هذه الدنيا لتكون لله الحجة عليهم في ذلك. وهذا هو المراد بالتفضيل. أما بعد ذلك من تفضيل معتبر يتميز فيه الصالحون من غيرهم فهو منوط بالصلاح والتقوى والمضي في طريق الله والتزام شرعه القويم ومنهجه المستقيم من غير شطط ولا زيغ ولا تزييف ولا تغيير ولا تبديل لما أنزله الله من الآيات والبينات. والمفضلون عند الله هم الذين استقاموا على دينه ورسالته الحقة للناس فلم يبدلوها تبديلا، ولم يزيفوها تزييفا، ولم ينتقصوا من آياتها أو يتزيدوا عليها ما ليس منها ؛ فكانوا بذلك هداة صادقين أوفياء للبشرية يحملون لها رسالة المحبة والأمن والخير والنجاة في هذه الدنيا ويوم تقوم الساعة. لا جرم أن هذه المزايا والخصائص والمعاني إنما تتجلى في أمة الإسلام. أمة رسول البشرية محمد صلى الله عليه وسلم.
١ المتحذلق: الذي يظهر الحذق فيدعي أكثر مما عنده. انظر القاموس المحيط ص ١١٢٨..
قوله :﴿ وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسمونكم سوء العذاب ﴾ إذ، للظرفية الزمانية ؛ أي اذكروا وقت إنجائنا لكم من آل فرعون الذين أذلوكم واستعبدوكم وامتهنوكم بأشد أنوله الامتهان. وجملة ﴿ يسمونكم سوء العذاب ﴾ في موضع نصب على الحال ؛ أي أنجيناكم من آل فرعون حال كونهم ﴿ يسمونكم سوء العذاب ﴾ ويسومونكم ؛ أي يولونكم إكراها. سامه خسفا ؛ أي أولاه إياه وأرداه عليه١.
قوله :﴿ يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم ﴾ مفسرة للجملة التي قبلها ﴿ يسمونكم سوء العذاب ﴾ أو بدل منها. والمعنى : أن فرعون الطاغية اللعين كان يقتل من تولد من بني إسرائيل ذكرا ويستبقي الإناث من أجل الاستخدام والتسخير. وفي ذلك من سوء المحنة وفظاعة الجور والعدوان والإسراف في القتل الظالم ما هو عظيم وجلل٢.
١ القاموس المحيط ص ١٤٥٢..
٢ التبيان للطوسي جـ ٤ ص ٥٢٧- ٥٣١ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٣٧٦- ٣٧٩ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ١٩٤، ١٩٥..
قوله تعالى :﴿ ووعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتتمناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ المراد بالثلاثين ليلة شهر ذي القعدة. والعشر الأخريات هي من ذي الحجة. وهو قول أكثر المفسرين ؛ فقد جعل الله هذه المدة ميقاتا لمناجاة موسى وتكليمه. على أن الإتمام بالعشر يراد به إضافة العشر إلى الثلاثين ليلة ؛ ليكون الجميع أربعين ليلة. وقبيل المضي للميقات خاطب موسى أخاه هارون ﴿ اخلفني في قومي وأصلح ﴾ أي كن خليفتي في بني إسرائيل حال غيابي للمناجاة والتكليم، وأصلح أمرهم بإسداء النصح لهم، وسياستهم بالرفق والرحمة. واحذر سلوك سبيل العصاة والظالمين١.
١ البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي جـ ٤ ص ٣٧٩ والتبيان للطوسي جـ ٤ ص ٥٣٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٤٢..
قوله تعالى :﴿ ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾.
لما جاء موسى –عليه السلام- في الوقت الموعود للقاء ربه وتكليمه فناجاه الله وكلمه، أحب أن يرى ربه فسأله أن يراه. فأجابه ربه ﴿ لن تراني ﴾ لأنك لن تطيق أن تراني ؛ ذلك أن موسى بشر قد جبل على طبع البشر من حيث محدودية العزم والقدرة والطاقة بالغرم من كونه نبيا ورسولا أوتي من ربه العصمة ؛ فهو بطبيعته البشرية وطاقته البدنية والإنسانية لا يملك أن يرى الله جهرة. ولئن رآه لسوف ينفي ويتبدد ! فهذا الجبال الشامخات، وتلك الأجرام الكونية الضخام لو ظهر لها الله بجلاله وعليائه وسطوع نوره ؛ فإنها سوف تنماع أو تسيخ أو تزول البته ! فكيف بالإنسان، ضعيف البنية والاقتدار والاحتمال، لا جرم أنه أعظم ضعفا وأشد أن لا يتماسك أمام جبروت الله إذا تجلى له ظاهرا.
وقوله :﴿ ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ﴾، ﴿ استقر ﴾، أي ثبت وسكن. ويضرب الله لموسى مثالا من الجبل وهو أعظم وأثبت من نبيه الإنسان ؛ أي إنك يا موسى لن تطيق رؤيتي أو النظر إلي ؛ لبساطة احتمالك واقتدارك وضعف بنتك وبدنك، لكن انظر إلى هذا الجبل، فإن ثبت أو سكن مكانه من غير اضطراب أو زعزعة أو تزلزل فسوف تزاني. وذلك برهان من الله مشهود ؛ ليتحقق لموسى أنه لن يستطيع أن ينظر إلى الله، بدليل اندكاك الجبل لما تجلى له ربه وهو قوله سبحانه :
﴿ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا ﴾ تجلى، أي ظهر. أي لما ظهر الله للجبل، وقيل : ظهر له اقتداره وأمره ﴿ جعله دكا ﴾ دكا منصوب من وجهين، أحدهما : أن يكون منصوبا على المصدر، من : دككت الأرض دكا، إذا جعلتها مستوية.
وثانيهما : أن يكون منصوبا على المفعول وفيه حذف لمضاف، وتقديره : فجعله ذا دك ؛ أي ذا استواء١، ودكا، من الدك وهو الدق. وقد دكه، إذا ضربه وكشره حتى سواه بالأرض. والدكداك من الرمل : ما التبد منه بالأرض ولم يرتفع٢.
وقيل : ساخ الجبل في الأرض. وقيل : تفرقت أجزاؤه وتناثرت حتى صار مستويا بالأرض.
والمعنى المراد، أنه ما إن عاين موسى اندكاك الجبل حتى هاله المشهد ترويعا فلم يحتمل مثل هذه المعانية الهائلة التي لا يقوى على رؤيتها كائن ؛ لفرط هولها الذي يفوق الحس والتصور ويعلو على الكائنات في مبلغ قدراتها وطاقتاها. وبذلك ﴿ خر موسى صعقا ﴾ أي سقط مغشيا عليه. وقيل : مات ثم بعثه الله ؛ وذلك لهول ما أحس وفظاعة ما رأى.
قوله :﴿ فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ﴾ يعني لما ثاب إلى موسى وعيه مما غشيه من الرهب والصعق قال مخاطبا ربه :﴿ سبحانك ثبت إليك ﴾ يعني أنزهك يا رب تنزيها يليق بكمالك وجلالك وعظيم سلطانك أن يراك مخلوق في هذه الدنيا ويقوي بعد ذلك على الثبات أو التماسك. وقد ثبت إليك يا رب عما سألتك إياه من رؤيتك ﴿ وأنا أول المؤمنين ﴾ أي المؤمنين بك من قومي. وقيل : من بني إسرائيل في هذا الزمان. أو أول من آمن بك أنه لن يراك أحد قبل يوم القيامة٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٤..
٢ مختار الصحاح ص ٢٠٨..
٣ تفيسر الطبري جـ ٩ ص ٣٤- ٣٨ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٧٨ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٤٣..
قوله تعالى :﴿ قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ١٤٤ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار الفاسقين ﴾ الاصطفاء، الاجتباء والاختبار ؛ أي فضلتك يا موسى واخترتك على الناس في زمانك ﴿ برسالتي ﴾ أي بأسفار التوراة لتكون للناس هدايا ومبلغا ومرشدا ﴿ وبكلامي ﴾ أي كلمتك تكليما وناجيتك مناجاة من غير واسطة ودون غيرك من الناس. وتلك خصيصة قد امتاز بها موسى عمن سواه ؛ إذ كلمه ربه وناجاه. فهاتان نعمتان كبريان وشرفان عظيمان يمين الله بهما على موسى وهما شرف الإرسال وإنزال التوراة، ثم شرف التكليم من غير واسطة.
قوله :﴿ فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ﴾ أي خذ ما أعطيتك من الرسالة وشرف النبوة، واشكر الله بالإقرار بالقلب وتمام الطاعة لما أمر والمسارعة إلى إرضائه سبحانه.
قوله :﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء وموعظة وتفضيلا لكل شيء ﴾ كتب الله التوراة لموسى ؛ إذ كتبها جبريل بأمر ربه عز وعلا، وأضاف الله الكتابة إلى نفسه ؛ تشريفا للتوراة وتعظيما. وقد كتب فيها ﴿ من كل شيء ﴾ مما يحتاجون إليه في دينهم من الأحكام ومن نبين للحلال والحرام. وقيل : لا يريد بكل شيء التعميم بل ذكر ذلك على سبيل التفخيم كقوله :﴿ تدمر كل شيء ﴾. وذلك كله ﴿ موعظة وتفصيلا لكل شيء ﴾ أي أنزلت التوراة على بني إسرائيل ؛ لتكون لهم موعظة ؛ أي ليتعظوا ويثوبوا إلى بارئهم ؛ فلا يميلوا عن شرع الله. ولتكون ﴿ تفصيلا لكل شيء ﴾ أي تبيينا الأحكام الحلال والحرام وغير ذلك مما أمروا به أو نهوا عنه١.
قوله :﴿ فخذها بقوة ﴾ أي قال له ربه : خذ التوراة بجد واجتهاد ونشاط، وكذلك كلفه ربه أن يأمر بني إسرائيل أن يأخذوا بأحسن التوراة وهو قوله :﴿ وأمر قومك يأخذوا بأحسنها ﴾ المراد بأحسنها، المأمور بعلمه ؛ فقد أمرهم أن يعلموا بما كان مأمورا به وهو أحسن من العمل بالمنهي عنه. وقيل : بأحسن ما فيها بما أجره أعظم من اجر غيره. كقوله :﴿ فيتبعون أحسنه ﴾ ومن الأحسن الصبر على الغير والعفو عنه ؛ فهو أحسن من الانتصار للنفس والأخذ لها بالقصاص من الجاني. وكالعمل بالعزيمة أحسن من العمل بالرخصة، وبالفريضة دون النافلة.
قوله :﴿ سأوريكم دار الفاسقين ﴾ ذلك إخبار من الله لموسى والذين استضعفوا معه أنه سيريهم ﴿ دار الفاسقين ﴾ أي جهنم. وقيل : سأوريكم دار الظالمين في مصر وهم فرعون وقومه. وقيل : المراد ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والذين أهلكوا. وذلك وعيد تهديد لما خالف أمر الله فتنكب عن شرعه وصراطه المستقيم وآثر الأهواء والشهوات فانزلق في المعاصي والموبقات. فأولئك الخاسرون الهالكون الذين زاغوا عن دين الله ومنهجه الحكيم للناس.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١١٦ والبيضاوي ص ٢٢١، ٢٢٢ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٨١، ٢٨٢ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٣٩، ٤٠..
قوله تعالى :﴿ سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيلا الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ١٤٦ والذين كفروا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾.
ذلك نذير من الله للفاسقين المتكبرين عن طاعة الله، والذين يتكبرون على الناس صلفا وغرورا –بأنهم ممنوعات من إدراك الآيات والبينات الدالة على قدرته وعظمته، وأنه سبحانه حقيق بالعبادة دون غيره. فهم بذلك قد ختم الله على قلوبهم فلا يتذكرون أو يفقهون. وهذا النذير مطرد في حق كل أمة بل في حق كل أحد من العالمين. فما من مستكبر عن آيات الله فيمشي في الأرض مغترا متكبرا إلا حيل بينه وبين فهم الكتاب الحكيم ؛ إذ ران على قلبه الفسق والضلال فبات من المختوم عليهم فلا يعي ولا يزدجر.
قوله :﴿ وإن يروا كل آية لا يؤمنون بها ﴾ الآية ؛ أي أن هؤلاء الذين صرفهم الله عن فهم الآيات والدلائل والحجج بسبب تكبرهم وعتوهم، ولا رجاء ولا أمل في إيمانهم ؛ فقد باتت قلوبهم غلفا وما كانوا ليفقهوا أو يتدبروا الآيات بعد أن طبع على عقولهم قلوبهم. وهم كذلك قد عموا عن الصواب والحق فلا يختارون غير طريق الباطل والشر ؛ لأن طبائعهم باتت تنفر من رؤية الحق أو سماعه بل تشمئز من التذكير بدعوة الخير والسداد، خلاف للشر والباطل ؛ فإنها تستبشر بهما وتركن إليهما وتجد فيهما الراحة المزيفة المجدودة، والاستمتاع العاجل الموهوم. أولئك فريق ضال من الناس ختم الله على قلوبهم فلا يرون إلا الشر والخطيئة، ولا يبصرون إلا في الضلال والديجور. وهو مقتضى قوله :﴿ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ﴾.
قوله :﴿ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ﴾ اسم الإشارة ﴿ ذلك ﴾ في محل رفع على الابتداء. والتقدير : ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. أو في محل نصب، والتقدير : صرفهم الله ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآيات الله بالرغم مما تضمنته لهم من الأدلة والحجج الظاهرة على عظمة الله وعلى صدق أنبيائه ورسله وبسبب غفلتهم وانشغالهم عما جاءهم من الحق ؛ فقد كانوا لاهين سادرين في الغي وفي الملاهي الدنيا وزخرفها، راضين بزينة الحياة وما حفلت به من زينة ومتاع ما يلبث أن يبيد ويفني بعد حين سريع من الزمن.
قوله :﴿ والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ﴾ حبط، من الحبط ؛ وهو وجع ببطن البعير من كلأ يكثر من أكله فينتفخ منه. واحبنطي، أي انتفخ بطنه. وحبط عمله حبطا وحبوطا ؛ أي بطل١ ومثل هذا المعنى من انتفاخ الدابة لإكثارها من أكل الكلأ ينسحب على عمل العاملين غير المقترن بالإيمان الصحيح، وبالتصديق الكامل بآيات الله ورسله وما أنزل من الحق ؛ فهو أشبه بالجسد المنتفخ تورما وإيجاعا لما برح فيه الألم تبريحا أفقده كل فائدة أو جدوى، وبذلك فما من عمل قل أو كثر، ولو ملأ ما بين الخافقين –ليس له في ميزان الله قيمة أو اعتبار إذا لم يقترن بالإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا كاملا، وعلى أن يبتغي العاملون بذلك رضوان الله. وإذا كان الأمر خلاف ذلك ؛ كان العمل مآله الحبوط ؛ أي البطلان وعدم التقبل من الله والعياذ بالله. وليس العمل الكبير الذي يتجرد عن الإيمان الصحيح غير ضرب من الفعل المركوم والمنتفش الذي لا يجدي ولا يغني.
قوله :﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾ استفهام تقريري يتضمن التأكيد على أن هؤلاء الذين كذبوا بآيات الله ولقاء الآخرة لا يجزون إلا جزاء ما عملوه من التكذيب والجحود والعصيان٢.
١ القاموس المحيط ص ٨٥٤..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١١٧ وتفسير الإمامين الجلالين ص ١٣٨..
قوله تعالى :﴿ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين ١٤٨ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ظلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ١٤٩ ولما رجع موسى إلى قومه غضبن أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ١٥٠ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الرحمين ﴾.
لقد ضل بنو إسرائيل وافتتنوا ؛ إذ أضلهم السامري باتخاذ العجل إلها بعد أن صنعه من حلي القبط. والحلي لما تزين به من الذهب والفضة ؛ فقد ذكر أن السامري قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فألقاها في الحلي المصنوع فصار عجلا له خوار. أما قصة الحلي : فهي أن السامري قال لبني إسرائيل وكان مطوعا فيهم : إن معكم حليا فاستعاروا لذلك اليوم. فلما أخرجهم الله من مصر وغرق القبط بقي ذلك الحلي في أيديهم. فقال لهم السامري : إنه حرام عليكم فهاتوا ما عندكم فنحرقه. وقيل : هذا الحلي ما أخذه بنو إسرائيل من قوم فرعون بعد الغرق، وإن هارون قال لهم : إن الحلي غنيمة وهي لا تحل لكم فجمعها في حفرة حفرها فأخذها السامري١. وقوله :﴿ جسدا ﴾ بدل من ﴿ عجلا ﴾ والجسد معناه البدن ذو اللحم والدم كسائر الأجساد. والخوار، صوت البقر. وقيل : إن العجل ظل على أصله من ذهب إلا أنه كان يدخل فيه الهواء فيصوت كخوار البقر فحسبوه عجلا، وقيل : لما سمعوا صوت العجل رقصوا من حوله وافتتنوا به وقالوا : هذا إلهكم وإله موسى.
قوله :﴿ ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ﴾ استفهام توبيخ لهؤلاء الذين سألوا نبيهم أن يصنع لهم عجلا ليعبدوا مع أنهم يعلمون في يقين ومعاينة لا تحتمل الشك أن هذا المعبود لا يعي ولا يفهم. وليس أدل على ذلك من أنه لا ينطق البتة، وإن هو إلا جسد من الأجساد المركومة التي لا تفقه ولا تريم ولا تملك لهم هداية أو ترشيدا لسبيل.
قوله :﴿ اتخذوه وكانوا ظالمين ﴾ أي فعلوا فعلتهم المنكرة من الإشراك بالله ﴿ وكانوا ظالمين ﴾ أي مشركين، واضعين الشيء في غير موضعه. وهو وضع العجل في موضع الإله المعبود. لا جرم أن ذلك فعل شنيع وبالغ النكر.
١ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٨٤..
قوله :﴿ ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ﴾ سقط أو أسقط –بالضم في الاثنين- في يده، يعني زل وأخطأ وندم وتحير١ أي لما ندم بنو إسرائيل على ما فعلوه من عبادة العجل حال غياب نبيهم موسى، وأدركوا خطيئتهم الشنيعة وأقروا أنهم وقعوا في الضلال، ندموا أشد الندم فجأروا إلى الله بالدعاء والإقرار والاسترحام قائلين : لئن لم يرحمنا الله برحمته ويشملنا بعفوه ومغفرته لنكونن من الهالكين الذين خسروا أنفسهم فأوردوها البوار والتخسير.
١ القاموس المحيط ص ٨٦٦..
قوله :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي ﴾ الأسف : الغضب الشديد. آسفه ؛ أي أغضبه١ لقوله تعالى :﴿ فلما آسفونا انتقمنا منهم ﴾ أي لما رجع موسى إلى قومه بني إسرائيل من مناجاة ربه على الطور وهو شديد الغضب لعلمه أنهم فسقوا عن أمر الله وقد أضلهم السامري إذ فتنهم بعبادة العجل –وبخهم توبيخا ؛ إذ قال لهم : بئس ما صنعتموه في غيابي من عبادتكم العجل ؛ إذ كنتم خلفاء من بعدي فتركتم عبادة الله وحده لتبوءوا بعبادة غيره من الأصنام التي لا تضر ولا تنفع.
قوله :﴿ أعجلتم أمر بكم ﴾ استفهام توبيخ وتقريع لهؤلاء القوم من أجل سلوكهم الغريب وتصرفهم المنغص المحير. والمعنى : أتعجلتم ميعاد ربكم الذي وعدنيه قبل استكماله وهو أربعون يوما ففعلتم الذي فعلتموه وهو عبادة العجل.
قوله :﴿ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ﴾ عندما قدم موسى من الطور حيث المناجاة ألفى قومه عاكفين على عبادة العجل فاعتراه غضب شديد وأسف بالغ، فالقى ما بين يديه من الألواح التي كتبت فيها التوراة، ثم أخذ برأس أخيه هارون أو بلحيته وشعر رأسه وهو يجره إليه ؛ لظنه أنه لم ينكر على السامري فتنته لبني إسرائيل، ولم ينكر على قومه بني إسرائيل عبادتهم للعجل، وكان هارون أكبر سنا من أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام.
قوله :﴿ قال بان أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ قوله :﴿ أم ﴾ مقروءة بكسر الميم وفتحها. أما الكسر : فهو على الأصل وهو أمي، فاجتزأ بالكسرة عن الياء وهو كثير في كلام العرب. وابن، منادي منصوب ؛ لأنه مضاف. أما فتح الميم : فهو أن يبني ابن مع أم وجعلهما بمنزلة اسم واحد كخمسة عشر٢ ؛ فقد كان موسى شقيق هارون فهو أخوه ابن أمه وأبيه ولكن خاطبه بأخوة الأم استعطافا وليستثير فيه رقة الأمومة وعاطفة الرحم فيستجيش في قلبه الرحمة والتحنان ؛ فهو بذلك يخاطبه في تودد ورأفة ولين مبينا له أنه قومه بني إسرائيل قد استضعفوه ؛ أي عدوه ضعيفا، أو نظروا إليه نظرة استضعاف واستذلال، وقاربوا أن يقتلوه ثم قال :﴿ فلا تشمت بي الأعداء ﴾ أي لا تسرهم بما يصيبني من مكروه. وذلك من الشماتة وهي سرور المرء بما يصيب الأخر من المصائب في أمور الدين والدنيا٣ والشماتة فيما بني المسلمين حرام. والمعلوم أن المسلم أخو المسلم فليس معقولا ولا مقبولا، وما هو من الدين في شيء أن يشمت المسلم بأخيه المسلم فيفرح لما أصابه من سوء أو مكروه في نفسه أو ماله أو ولد وأهله ! ومن أبرز صفات المسلم : أن يجب أخاه المسلم، فيسر لسروره، ويستاء لما يصيبه من مساءة أو مصاب أو اغتمام. أما أن يفرح لابتئاسه ولما يحل به من الكروب والمصائب ؛ فهذه فادحة من الفوادح الثقال التي لا تليق بالمسلمين الذين يتقون الله، وإنما هي جديرة أن يتلطخ بها طبائع الآثمين والخاطئين من السفهاء في المسلمين. وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك ) ٤ وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من الشماتة قائلا :( اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء ) ٥.
قوله :﴿ ولا تجعلني مع القوم الظالمين ﴾ أي لا تجعلني –وأنت تعاقبني- في محل من عصاك مخالف أمرك وعبد العجل بعدك ولم يعبد الله فظلم نفسه بذلك، وأنا لست من هؤلاء.
١ القاموس المحيط ص ١٠٢٣..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٥..
٣ القاموس المحيط جـ ١ ص ١٥٧ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٩٢..
٤ أخرجه الترمذي عن وائلة بن الأسقع..
٥ أخرجه البخاري وغيره..
قوله :﴿ قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ﴾ لما علم موسى براءة أخيه هارون من أي تقصير في حق قومه، وأيقن عدم تفريطه فيما كان عليه من واجب حال غيابه، دعا ربه مستغفرا له ولأخيه، ومتضرعا إليه سبحانه أن يرحمهما برحمته الواسعة ؛ فهو سبحانه أرحم من أي رحيم١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ص ٤٦- ٤٨ والكشاف جـ ٢ ص ١١٨- ١٢٠..
قوله تعالى :﴿ إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ١٥٢ الذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ١٥٣ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ﴾.
ذلك وعيد من الله لأولئك الظالمين الذين عبدوا العجل باتخاذه إلها أنهم ﴿ سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا ﴾ أي سيصيبهم العقاب في هذه الدنيا وهو ما سينزل بهم من تكليفهم بقتل أنفسهم ؛ فقد أمرهم موسى أن يقتل بعضهم بعضا. وكذلك الذلة ؛ وهي التي ضربها الله عليهم ليذوقوا وبال أمرهم من صور البلاء والمذلة، سواء في ذلك ما يصيبهم من مهانة وتعذيب وإخراج وهوان على أيدي مختلف الشعوب والممالك والحكام، ثم يفضون بعد ذلك إلى العذاب الأشد يوم القيامة.
قوله :﴿ وكذلك نجزي المفترين ﴾ الكاف في اسم الإشارة صفة لمصدر محذوف ؛ أي نفعل بالمفترين مثل ما فعلناه بهؤلاء من إحلال الغضب فيهم والذلة. والمراد بالمفترين الذين يكذبون على الله ويفترون عليه بالأباطيل والأقاويل زورا وظلما.
قوله :﴿ والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾ ذلك إخبار من الله للعباد، وهو أن الذين يعلمون السيئات كبيرة كانت أو صغيرة، كفرا كان ذلك أو دونه من المعاصي، ثم يتوبون من بعد ما فعلوا ذلك وآمنوا إيمانا تصديقا ؛ فإن الله من بعد هذه الإنابة يتجاوز لهم عن خطيئاتهم وسيئاتهم ؛ لأنه سبحانه غفار للذنوب محاء لآثام والمعاصي مهما كثرت أو كبرت. وهو كذلك رحيم بالعباد يدخل التائبين المؤمنين في رحمته ويشملهم بإحسانه.
قوله :﴿ ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون ﴾ لما ظرف زمان، وجوابه ما بعده ﴿ أخذ الألواح ﴾ وفي نسختها هدى، في محل نصب على الحال١ ؛ أي لما كف موسى عن الغضب بتوفيق الله وبعد أن اعتذر له أخوه نبين له وجه الحقيقة فسكنت نفسه وركدت سورته وهجع فيه الغضب فعاد إلى طبيعته حانيا رقيق القلب ثم أخذ الألواح بعد ما ألقاها ﴿ وفي نسختها ﴾ أي فيما كتب له فيها ﴿ هدى ورحمة ﴾ والنسخ معناه النقل٢ ؛ أي أخذها بما كتب فيها من الهداية والنور والتبصرة ﴿ للذين هم لربهم يرهبون ﴾ أي لأولئك الذين يتقون الله، فيخشون عقابه، ويجتنبون معصيته٣.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٥..
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٧١..
٣ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٣ وتفسير البيضاوي ص ٢٢٤..
قوله تعالى :﴿ واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتاهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وأنت ولينا فاغفر لنا ورحمنا وأنت خير الغافرين ١٥٥ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾.
﴿ قومه ﴾، و ﴿ سبعين ﴾ مفعولان لقوله :﴿ واختار ﴾ لكن أحدهما حذف منه حرف الجر ( من ) والتقدير : واحتار موسى من قومه سبعين رجلا١.
لقد اختار موسى سبعين رجلا من خيار بني إسرائيل ليذهب بهم إلى طور سيناء فيعتذروا لربهم عما فعله بنو إسرائيل من عبادتهم للعجل وكان ذلك عن توقيت سبق وقته الله لموسى ؛ إذ كان لا يأتيه إلا بإذن منه. ولما وصلوا إلى حيث المكان الموعود والميقات الموعود لكي يعتذروا قالوا لنبيهم موسى في اجتراء ممجوج ﴿ لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ﴾ فأنت قد كلمته تكليما فأرنا إياه عيانا. لا جرم أن هذا القلب فيه من المجاوزة والإسراف والاجتراء والسفه ما فيه ! وهو اجتراء ظالم ليس خليقا بالمؤمنين الأتقياء، فكيف إن كانوا من الصفوة المختارة من القوم ! ! من أجل مسألتهم هذه أخذتهم الرجفة وهي الزلزلة فصعقوا ميتين، وقيل : أخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم ينهوا قومهم عن عبادة العجل. وقيل : لأنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمرهم بالمعروف. والقول الأول أظهر. وقد سبق بيان ذلك في سورة البقرة. وبعد صعقهم بالرجفة. قال موسى :﴿ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ﴾.
قال موسى ذلك على سبيل الأسى والتلهف والاستحسار ؛ أي لو أمتنا يا ربنا جميعا قبل خروجنا إلى المقيات كيلا يتهمني بنو إسرائيل. وقد دعا موسى ربه بهذا الدعاء اعترافا منه بالذنب قبل هذا الوقت وحزنا على تقصير قومه وانثنائهم عن القيام بما يكلفهم به الله ).
قوله :﴿ أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ﴾ والمراد بالاستفهام : الجحد ؛ أي أن الله جل وعلا لا يفعل ذلك. وهو كالنفي في معنى الإيجاب. وقيل : معناه : الدعاء والطلب ؛ أي لا تهلكنا يا ربنا. وقيل : المراد بالاستفهام استفهم استعظام ؛ أي كأنه يقول : لا تهلكنا، وهو يعلم أن الله لا يهلك أحدا بذنب غيره. وأراد بالسفهاء عبدة العجل. وعلى هذا فالمعنى : أتعاقبنا يا ربنا بما فعله عبدة العجل ؛ إذ اتخذوه إليها لهم، ونحن من ذلك براء ؟ ! أي أتؤاخذنا بخطيئة غيرنا ؟ !
قوله :﴿ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ﴾ الفتنة : الابتلاء والاختبار. والمعنى : أن ما فعله بنو إسرائيل من عبادة العجل ما هو إلا ابتلاء منك يا ربنا. فقد ابتلاهم بذلك ليتبين الذين يضلون عن دين الله فيعبدون غيره، والذين يهتدون بمجانبة الإشراك فلا يعبدون غير الله الواحد الخالق. وقد أضاف موسى إضلال القوم وهدايتهم إلى الله، كقوله تعالى :﴿ وليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾.
قوله :﴿ أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ﴾ ذلك استرحام واستعطاف من موسى إذا يدعو ربه. والوالي معناه الناصر أي يا ربنا أنت ناصرنا فاستر علينا ذنوبنا بعفوك عن سيئاتك وتجاوزك عن عقابنا ومن علينا برحمتك بنا ﴿ وأنت خير الغافرين ﴾ أي وأنت خير من يعفو ومن يصفح. وخير من يتجاوز عن الخطايا والآثام. وخير من يستر على الذنوب والمعاصي.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٦..
قوله :﴿ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك ﴾ أي يدعو موسى عليه السلام ربه أن اجعل لنا يا ربنا في هذه الدنيا حسنة وهي الصالحات من الأعمال. وكذلك اجعل لنا في الآخرة حسنة وهي أن تكتب لنا التوبة والغفران والنجاة من النار ﴿ إنا هدانا إليك ﴾ أي تبنا إليك. والفعل : هاد، يهود هودا، أي تاب ورجع إلى الحق. والهائد التائب الراجع إلى الله١.
قوله :﴿ قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ المراد بالعذاب هنا : الرجفة التي أصابت السبعين رجلا من بني إسرائيل. ومثل هذا العذاب إنما ينزل بمن استحقه من المقصرين والمفرطين فيما فرض عليهم من الواجبات. وهو مصيبتهم كغيرهم من المقصرين والمفرطين. أما قوله في الحرمة : فهو عموم خصصه ما بعده وهو أن رحمة الله بالغة السعة والشمول لتسع الذين يتقون الله ويعلمون الصالحات. وهو قوله :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾.
وبذلك فإن رحمة الله يشترط في الذين يستحقونها ثلاثة شروط :
الأول : تقوى الله ؛ وذلك أن يكون المرء من المتقين الذين يبادرون فعل الطاعات، ويجتنبون فعل المعاصي. وما نظن مثل هذه الحقيقة مركوزة في غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة المباركة المكرمة المعتدلة لا ريب أن فيها المتقين الذين يخشون الله فيفرون مما يسخطه أو يغضبه، ويبادرون لفعل الطاعات دون إبطاء أو تخاذل. لكن غيرهم من الأمم يفرون من طاعات ربهم ليبادروا فعل كل ألوان الموبقات والمعاصي كأكل الربا وأكل الحرام بكل صوره وأشكاله، وظلم الناس والاعتداء عليهم في أموالهم وأشخاصهم وأوطانهم وكراماتهم. إلى غير ذلك من وجوه الفحش والزنا والكفر الضلال.
الثاني : إيتاء الزكاة. وهذه عبادة أساسية من عبادات الإسلام ؛ بل هي ركن من أركانه ومقوماته الكبرى. وما نظن انتظام مثل هذه الفريضة على نحوها الدقيق الكامل المميز في غير شريعة الإسلام.
الثالث : الإيمان الصحيح الكامل دون أي انتقاص. وهو الإيمان بسائر النبيين والمرسلين دون تفريق بين أحد منهم. وهذه خصيصة كبرى لا تتجلى في غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة التي يلتزم أفرداها الإيمان الكامل بجميع النبيين والمرسلين بدءا بأولهم وانتهاء بعيسى ابن مريم ؛ فالنبي الخاتم محمد عليه الصلاة والسلام أجمعين. وأيما تفريق في ذلك أو تكذيب بأحد النبيين إنما يعني الكفر صراحة ووقاحة. فلا اعتبار ولا قيمة لمن آمن ببعض النبيين و أكثرهم ثم كفر ببعضهم أو بواحد منهم. إنه لا يكذب بواحد من النبيين أو المرسلين إلا كافر كنود أو شقي وضال وفاسق لا يستحق غير اللعن والمهانة والاستعار في عذاب النار وبئس القرار.
إن أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تتجلى فيها كل هذه الحقائق والشروط لتستحق من الله الرحمة ؛ فلا جرم أن شيع فيها الخير والأمن والود والبركة في هذه الحياة. ويوم القيامة يفضون إلى تكريم من الله ورضوان وهم في روضات الجنان في مقعد صدق عند مليك مقتدر٢.
١ المعجم الوسيط جـ ٢ص ٩٩٨..
٢ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٥١- ٥٤ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٤- ٢٩٦ الكشاف جـ ٢ ص ١٢١ وتفسير البيضاوي ص ٢٢٤..
قوله تعالى :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هن المفلحون ﴾ هذه الآية تؤكد المعنى السابق ومفاده أن الله يكتب رحمته الواسعة ﴿ للذين يتقون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ﴾ وهم أمة الاسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم. أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فلاحظ لهم في الإيمان الحقيقي والصحيح ؛ لأنهم أمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعضهم وذلك هو الجحد والكفران فضلا عما فعلوه في كتبهم السماوية من تغيير وتبديل.
قوله :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ هذا الكلام من الله لموسى من قبل أن ينزل الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون في المستقبل. والرسول النبي الأمي هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من السذاجة والبدائية. فلم تتعلم الكتابة ولا القراءة. وفي ذلك جاء في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ) وهذه علامة ظاهرة بلجة تكشف عن صدق نبوة هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وهي كونه أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. لا جرم أن ذلك أبلغ في الدليل وأعظم في ظهور الحجة على صدق نبوته وأنه مرسل من عند الله، وأن ما أنزل إليه من ربه الحق، وهو القرآن الحكيم. هذا الكتاب المبارك الممجد الذي يعبق به الخير وتفوح منه الرحمة والبركة على الإنسانية والكائنات جميعا. وهو الذي تتندى منه ظواهر شتى من الإعجاز مما ليس له نظير في كلام الأولين والآخرين، إن هذا الكتاب في روعة كلمه، وجمال أسلوبه، وعلو مستواه، وكمال مبناه، وجليل مضمونه ومحتواه ؛ إنما يدل على أنه من لدن رب العالمين. وأنى لبشر من البشر أن يصطنع شيئا مثل هذا الكلام العجيب الفذ ؟ ! مع التذكير والتنبيه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل أمي ما عرف الكتابة ولا القراءة. وما درس من العلوم أو المعارف شيئا. وما تلقى من أخبار التاريخ أو الفلك أو الطبيعة أو غير ذلك من علوم الحياة.
قوله :﴿ الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ﴾ ذلك هو ذكر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في الكتب السماوية السابقة ؛ إذ بشر بها النبييون السابقون أممهم أن الله مرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوثا للعالمين فأمرهم بتصديقه واتباعه ولم يزل صفته موجودة في التوراة والإنجيل لولا الضالون منهم الذين بدلوا كلام الله تبديلا، وأسرفوا في تحريف كتبهم، وأنكروا صفته صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك روي الإمام أحمد عن رجل من الأعراب قال : جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغت من بيعي قلت : لألفين هذا الرجل فلأسمعن منه. قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي ؟ ) فقال برأسه : هكذا. أي لا. فقال ابنه : والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال :( أقيموا اليهودي عن أخيكم ) ثم تولى كفنه والصلاة عليه.
قوله :﴿ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾ ذلك إخبار عن رسالة الإسلام للبشرية. الرسالة الكاملة الشاملة المعتدلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم لهداية العالمين وتخليصهم من الشرور والمفاسد والآفات النفسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، ولتنجيهم من أهوال القيامة.
وأول هذه الواجبات من التبليغ التي نيطت برسول الله ﴿ يأمرهم بالمعروف ﴾ وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته في أوامره ونواهيه، والدعوة إلى مكارم الأخلاق كالبر والإحسان والحياء والرحمة وصلة الأرحام ونحو ذلك.
وثاني هذه الواجبات ﴿ وينهاهم عن المنكر ﴾ وهو الشرك بالله، واجتناب ما نهى اله عنه وزجر، كقطع الأرحام، وعقوق الوالدين، وأكل أموال الناس بالباطل، وظلم الناس بكل صور الظلم وأشكاله.
وثالث هذه الواجبات ﴿ ويحل لهم الطبيات ﴾ أي يحل لهم ما كان أهل الجاهلية يحرمونه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي وغير ذلك من عادات الجاهلية مما كان فيه تضييق على أنفسهم.
ورابع هذه الواجبات :﴿ ويحرم عليهم الخبائث ﴾ أي المحرمات كلحم الخنزير والربا والقمار والميتة وغير ذلك من المستقذرات كالأفاعي والعقارب والضفادع والخنافس نحو ذلك من الخبائث.
وخامس هذه الواجبات ﴿ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ﴾ الإصر معناه الثقل والعهد١ ؛ أي أن هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم جاء ليضع بشريعة القرآن العهد الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل من إقامة التوراة والعمل بما فيها من الواجبات الشديدة والأعمال الثقال مما تضيق به النفوس وتفتر العزائم وتنثني دونه الهمم بمرور الزمن. لقد وضع الله عنهم بشريعة الإسلام هذه التكاليف الشاقة كقرض الثوب بالمقراض إذا أصابه بول. وقيل : قرض الجلد من البول. وكذلك تحريم الغنائم، وتحريم مجالسة الحائض ومؤاكلتها ومضاجعتها ؛ فقد كانوا إذا حاضت المرأة لا يقربونها. وغير ذلك مما كان مفروضا عليهم ثم نسخ بالقرآن، أما الأغلال، فهي جمع غل، بالضم. وهو طوق من حديد يجعل ف العنق٢ والمراد به في الآية هنا، تلك التكاليف الشاقة والواجبات الثقال التي لزمت بني إسرائيل ثم نسخت بشريعة الإسلام. هذا الدين الذي بني على التيسير والسماحة وهو ما يعبر عنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :( بعثت بالحنيفية السمحة ).
قوله :﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ عزروه، من التعزيز، وهو التوقير والتعظيم٣. أي أن الذين صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغروره، أي وقروه وعظموه ونصوره وذادوا عنه كيلا يخلص إليه أذى أو مكروه ﴿ واتبعوا النور الذي أنزل معه ﴾ يعني القرآن ﴿ أولك من المفلحون ﴾ أي أن هؤلاء الذين يتصفون بتلك الصفات من الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وتأييده بالمناصرة، وبذل العون له والتعظيم، واتباع ما جاء به هذا النبي من الكتاب المنزل الحكيم ؛ فإنهم الفائزون الناجون في الدنيا والآخرة٤.
١ القاموس المحيط جـ ١ ص ٣٧٨..
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٠٥..
٣ مختار الصحاح ص ٢٤٩..
٤ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٢٩٧- ٣٠١ وتفسير ابن كثير جـ ١ ص ٢٥١- ٢٥٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٢، ٢٥٣..
قوله تعالى :﴿ قل يا يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾.
يأمر الله في هذه الآية نبيه الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم أن يشهر دعوته ورسالته في صراحة ووضوح على أنه رسول مبعوث من عند الله للبشرية كافة بل للعالمين أجمعين سواء فيهم الإنس والجن. فما من نبي في السابقين إلا كان مبعوثا في قومه وعلى فترة من الزمن. لكن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم قد نيط به وجوب التبليغ للثقلين طوال الزمن حتى لا يكون من بعده نبي البتة.
قوله :﴿ الذي له ملك السموات والأرض ﴾ الذي، في موضع نصب على المدح، أو في موضع جر صفة لاسم الجلالة، أو خير لمبتدأ محذوف. وهذا تعظيم لله جل جلاله بأنه المالك لكل شيء. ومن بين السموات والأرض بما فيهن وما بينهم من كائنات ومخلوقات.
قوله :﴿ لا إله إلا هو يحي ويميت ﴾ ذلك بيان للقول السابق. فإن الذي يملك العالمين كان هو الإله وحده دون غيره من الأنداد. وكذلك كونه موصوفا بالإحياء والإماتة دون غيره، تحقيق لتفرده بالإلهية ؛ فهو وحده حقيق أن تعبده الخليقة، وأن يذعن له العباد بالطاعة والامتثال.
قوله :﴿ فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته ﴾ ذلك تأكيد على وجوب الإيمان بالله وبرسله هذا النبي الذي قدر له أن يكون أميا. فما كان ليقرأ كتابا ولا يخطه بيده. وهو عليه الصلاة والسلام موصوف بأنه أول المؤمنين بالله وبكلماته وهي القرآن. وقيل : كلماته يراد بها الكتب الإلهية التي أنزلت عليه وعلى النبيين من قبله.
قوله :﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ ذلك تعليل للأمر بالإيمان بالله ورسوله النبي الأمي واتباع ما جاء به من عند الله ؛ فإنهم إن آمنوا واتبعوا فسوف يحظون من الله بالهداية والتوفيق١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٤٥ والبحر المحيط لأبي حيان جـ ٤ ص ٤٠٥ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٠٦..
قوله تعالى :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ١٥٩ وقطعنهم اثني عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾.
ذلك إخبار من الله عن قوم موسى وهم بنو إسرائيل بأنهم ليسوا جميعا ضالين بل كان فيهم جماعة على الحق والإيمان مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما. فهؤلاء ذكرهم الله بأنهم ﴿ يهدون بالحق ﴾ أي يرشدون إلى الحق، ويدعون الناس إلى دين الله الحق ﴿ وبه يعدلون ﴾ أي يحكمون بالحق والعدل ولا يجورون.
قوله :﴿ وقطعنا اثنتي عشرة أسباطا أمما ﴾ قطعناهم بمعنى فرقناهم وميزنا بينهم. اثنتي عشرة، مفعول ثان لقطعنا. وقد أنث اثنتي عشرة على تقدير أمة : وتقديره : اثنتا عشرة أمة. وأسباطا بدل من اثنتي عشرة. وأمما نعت لأسباطا أو بدل منه١، والأسباط جمع سبط بكسر السين وهو ولد الولد. والمراد بالأسباط القبائل٢. والمعنى : أن اله صير بني إسرائيل اثنتي عشرة أمة من اثني عشر ولدا ؛ لرجع كل سبط إلى رئيسه فيخفف أمرهم على موسى ؛ ولئلا يتحاسدوا ويختلفوا فيقع بينهم الاقتتال.
قوله :﴿ وأوحينا إلى موسى إذ استقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ لما أصاب بني إسرائيل العطاش في التيه سألوا موسى أن يستسقي لهم ربه، فأوحي الله إليه أن يضرب الحجر فضربه ﴿ فانبجست منه اثنتا عشرة عينا ﴾ انبجست، انفجرت، وذلك من الانبجاس وهو الانفجار، أو النبوع في عين الماء٣.
فإنه عقب ضرب الحجر بالعصا انفجرت منه اثنتا عشرة عينا. وذلك بعدد الأسباط وهم الاثنا عشر ؛ ليكون سبط عين مختصة بهم بشربهم منها، وكل سبط منهم هم بنو أب واحد. ولذلك قال :﴿ قد علم كل أناس مشربهم ﴾.
قوله :﴿ وظللنا عليهم الغمم وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ لما كان بنو إسرائيل في التيه وغشيهم من سموم الصحراء ولظى الشمس الحرور ما غشيهم ؛ أظلهم الله بالغمام تضليلا. والغمام معناه السحاب٤ ؛ فقد استظلوا بالسحاب الرخي الرطيب، يسكن بسكونهم، ويسر بسيرهم وكذلك أنزل عليهم المن ؛ وهو كل طل٥ ينزل من السماء على شجر أو حجر ويحلو وينعقد عسلا ويجف جفاف الصمغ٦.
كذلك انزل عليهم ( السلوى ) وهو طائر، واحدته سلوة. وقيل : هو السماني٧. وقد سبق بيان ذلك في تفسير سورة البقرة. وذلك كله من فضل الله على بني إسرائيل ؛ إذ تفضل عليهم بعطايا وخيرات ما سبقهم بها أمة من الأمم. فكانوا بذلك قد تميزوا بجزيل النعم من الله كنعمة الغمام والمن والسلوى وانبجاس الماء من الصخر. وغير ذلك من المنن الأخريات الكثيرة التي فضل الله بها بني إسرائيل على العالمين. إما في زمانهم دون غيره من الأزمنة، أو في الزمان كله. وذلك لتكون له الحجة عليهم إذا لم يؤمنوا ويهتدوا، فيعصوا وعتوا وأضلوا وأفسدوا في الأرض ؛ فإنه إذا من الله على أناسي من عباده بجزيل من فضله ونعمه، فما شكروا ولا أذعنوا لله بالطاعة والامتثال بل طغوا وبغوا وتجبروا في الأرض وأفسدوا في البلاد وبين العباد، لا جرم أن ينالهم عذاب الله في الدنيا بالخزي والإذلال وغير ذلك من أنواع البلاء، وفي الآخرة لهم سواء الدار وبئس القرار.
قوله :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ بعد أن رزق الله بن إسرائيل بالمن والسلوى وهما من خير الطعام المستلذ المفيد، مضافا إليه الماء البارد الفارت في جوف الصحراء الحارقة الحرور، وقد أظلهم السحاب الرخي العليل –بعد ذلك قال الله لهم : كلوا من هذه الأطايب المستلذة ؛ لكنهم لم يقدروا الله حق قدره ؛ إذ لم يشكروه على هذه النعم ؛ بل خالفوا عن أمره سبحانه وجحدوا نعمه الجليلة : فهم بعصيانهم وكفرانهم لم يظلموا الله شيئا، فإن الله لا ينال منه ظلم الظالمين، ولكن الظالمين إنما يظلمون أنفسهم بإيقاعها في الهلكة والتخسير٨.
١ البيان لابن النباري جـ ١ص ٣٧٦..
٢ القاموس المحيط ص ٨٦٤..
٣ القاموس المحيط ص ٦٨٤..
٤ القاموس المحيط ص ١٤٧٦..
٥ الطل: المطر الخفيف. أو أخف المطر وأضعفه. أو الندى. انظر القاموس المحيط ص ١٣٢٦..
٦ انظر القاموس المحيط ص ١٦٧٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦..
٧ انظر القاموس المحيط ص ١٦٧٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦..
٨ البحر المحيط جـ ٤ص ٤٠٧ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٦ وتفسير البغوي جـ ٢ص ٢٠٧..
قوله تعالى :﴿ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئتاكم سنزيد المحسنين ١٦١ فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون ﴾ إذ، ظرف زمان. و ﴿ هذه القرية ﴾ يراد بها بيت المقدس أو أريحا ؛ أي اذكروا يا بني إسرائيل وقت قال الله لكم : اسكنوا بيت المقدس أو أريحا، وكلوا مما فيها من المطعومات ﴿ حيث شئتم ﴾ أي من أي مكان شئتم من أمكنتها لتكونوا بذلك مستمعين متلذذين آمنين. ﴿ وقولوا حطة ﴾ أي أحطط عنا الذنوب١، وادخلوا باب القرية ساجدين. وبذلك قد أمرهم أن يدخلوا القرية ساجدين وهم يدعون الله أن يحط عنهم الذنوب وذلك في قولهم ﴿ حطة ﴾ وفي مقابل ذلك سيجزيهم الله جزاء. وهو أن يغفر لهم خطاياهم. وفوق ذلك سيزيد الله المحسنين من نعمه وفضله.
١ حطة: أي حط هنا أوزارنا. وقيل: هي كلمة أمر بها بنو إسرائيل لو قالوها لحطت أوزارهم. تنظر مختار الصحاح ص ٦٤٣..
قوله :﴿ فبدل الذين ظموا منهم قولا غير الذي قيل لهم ﴾ لم يلتزم بنو إسرائيل قول ما أمرهم الله بقوله وهو ﴿ حطة ﴾ بل بدلوا ذلك بقول آخر قالوه وهم يلفهم غشاء صفيق من الخفة والسفاهة والطيش. وذلك يشي بمبلغ الضلالة التي تلبس بها القوم فلم يقيموا وزنا لجد والاستقامة أو التزام الواجب، فأبوا إلا الاستخفاف والهزل، والتفريط بعير تردد. ومن أجل ذلك أرسل الله عليهم عذابا من السماء بسبب ظلمهم الذي أحط بهم فأرداهم١.
١ فتح القدير جـ ٢ص ٢٥٦ والبحر المحيط جـ ٤ص ٤٠٨، ٤٠٩. وتفسير الماوردي جـ ٢ ص ٢٧١ـ ٢٧١..
قوله تعالى :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ يأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يسأل جبريل اليهود عن أخبار أسلافهم وعما حصل لهم من مسخ بعضهم قردة وخنازير. وهو سؤال تقدير وتوبيخ. لا جرم أن هذه دلالة من الدلالات على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك بإطلاعه على الغيب من أخبار السالفين. والنبي عليه الصلاة والسلام لم يتعلم أخبار السالفين من أحد، فضلا عن كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب.
قوله :﴿ وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ﴾ أي اسأل جيرانك اليهود عن أهل القرية. وذلك على تقدير محذوف وهو ( أهل ) كقوله :﴿ وسئل القرية التي كنا فيها ) والمراد أهلها. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم :( اهتز العرش لموت سعد بن معاذ ) يعني اهتز أهل العرش من الملائكة فرحا واستبشارا بقدومه رضي الله عنه إليهم. أما القرية التي كانت حاضرة البحر : فهي أيلة، كانت بين مدين والطور. وقيل : هي مدين وبيت أيلة والطور. وقيل يغر ذلك. و { حاضرة البحر ﴾ أي بقربه.
وقوله :﴿ إذ يعدون في السبت ﴾ ؛ إذ، للظرفية الزمانية ؛ أي وقت عدوهم في السبت١ و ﴿ يعدون ﴾ بمعنى يعتدون أمر الله في السبت و يتجاوزونه إلى ما حرمه الله عليهم، والاعتداء معناه التجاوز، والتعدي معناه مجاوزة الشيء إلى غيره٢. أما ﴿ السبت ﴾ فهو مفرد وجمعه سبوت وأسبت. وسبت اليهود ؛ أي انقطاعهم عن المعيشة والاكتساب. وهو مصدر. يقال : سبتوا سبتا. وسبت سبتا أي نام واستراح وسكن. واستبت الحية : أطرقت لا تتحرك. وسبت الشيء –بالتشديد- أي قطعه٣.
قوله :﴿ إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ﴾ إذ بدل من ( إذ ) الأولى. وشرعا منصوب على الحال من حيتانهم٤. وتأتيهم حيتانهم شرعا ؛ أي شارعة ظاهرة على الماء من كل مكان وناحية في يوم السبت وذلك لإحساس الحيتان أنها لا تصاد في هذا اليوم ؛ فكانت بذلك تظهر بكثرة رافعة رؤوسها لكنهم يوم لا يدخلون في السبت ولا ينقطعون عن العمل في سائر الأيام الأخرى لا يأتيهم حيتانهم.
قوله :﴿ كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون ﴾ الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم، وهو خروجهم عن طاعة الله.
والابتلاء معناه الامتحان والاختبار ؛ فقد امتحن الله بني إسرائيل امتحانا لم يفلحوا فيه بل هووا وسقطوا في الامتحان تحت وطأة شهواتهم التي غلبت على طبائعهم وقلوبهم، وطغت عليهم طغيانا، كشأنهم في كل الأحوال والظروف والأزمان. امتحنهم الله بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في يوم السبت وإخفائه عنهم في الأيام الأخرى التي أحل الله لهم فيها صيدها.
وقيل في قصص هذه الآية : إن إبليس أوحي إليهم إنما نهيتم عن أخذ الحيتان يوم السبت فاتخذوا لها الحياض. فكانوا يسوقون الحيتان إلى الحياض يوم الجمعة فتبقي فيها فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد. وذلك ضرب من التمويه والخداع الذي يحتال به المريبون في خيانة مكشوفة وتلصص مفضوح على تعاليم الله الواضحة ؛ هربا من التلبس بالحق والاستقامة. وطمعا في مكسب خسيس رخيص٥.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٦..
٢ مختار الصحاح ص ٤١٩..
٣ المعجم الوسط جـ ١ ص ٤١٢ والمصباح المنير جـ ١ ص ٢٨١..
٤ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٢٧٦..
٥ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٦٢ وتفسر القرطبي جـ ٧ ص ٣٠٤- ٣٠٦..
قوله تعالى :﴿ وإذ قالت أمة منهم ولم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ١٦٤ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ١٦٥ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ الأمة، هنا بمعنى الجماعة. وهو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع. وكل جنس من الحيوان أمة١. وفي الحديث :( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقلتها كلما، فاقتلوا منها الأسود البهيم ) رواه أبو داود والترمذي عن هبد اله بن مغفل. حديث صحيح. والبهيم، الذي لا يخلط لونه شيء سوى لونه، والجمع بهم٢. وفي تأويل الآية قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق : فرقة عصت أمر ربها وصادت السمك وكانوا نحوا من سبعين ألفا، وفرقة نهت واعتزلت، وكانوا ألفا. وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص. وأن هذه الطائفة قالت للناهية :﴿ ولم تعظون قوما ﴾ –أي الفرقة العاصية- ﴿ الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ﴾ بسبب فسقهم وعصيانهم ؟ فقالت الناهية :﴿ معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ﴾ معذرة، بالنصب على أنه مفعول لأجله. وبالرفع على أنه مبتدأ محذوف. وتقديره : موعظتنا معذرة٣ و ﴿ معذرة إلى ربكم ﴾، أي موعظتنا إبلاء إلى الله، ولئلا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط ﴿ ولعلهم يتقون ﴾ أي ولطعمنا في أن يتقوا الله فينتهوا عن عصيانه. ولما وقع غضب الله على الطائفة الفاسقة العاتية، نجت الطائفتان الأخريان اللتان قالوا :﴿ لم تعظون قوما الله مهلكهم ﴾، والذين قالوا :﴿ معذرة إلى ربكم ﴾، وأهلك الله الذين عصوه وفسقوا عن أمره وصادوا الحيتان ؛ فمسخهم قردة وخنازير.
١ مختار الصحاح ص ٢٥، ٢٦..
٢ مختار الصحاح ص ٦٨..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ص ٣٧٦..
قوله :﴿ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلمونا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ﴾ يطلق النسيان على الساهي والعامد التارك. وتأويل الآية : أنه ما ترك أهل القرية الذين اعتدوا في السبت ما ذكرهم به الصالحون من ترك الاعتداء فيه وفرطوا في ما وعظهم الصالحون، فاستحلوا ما حرم الله ؛ أنجي الله الذين ينهون منهم من السوء ؛ أي المعصية، وأخذ الذين اعتدوا في السبت ؛ فانزل الله بهم عذابا بئيسا ؛ أي شديدا أليما بسبب فسقهم عن أمر الله وخروجهم من طاعته إلى عصيانه.
قوله :﴿ فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ عتوا، استكبروا. والعاتي : المجاوز للحد في الاستكبار. والعاتي : الجبار أيضا. وقيل : العاتي هو المبالغ في ركوب المعاصي، المتمرد الذي لا يقع منه الوعظ والتنبيه موقعا١. والمعنى : أن هؤلاء الفاسقين المستكبرين لما تجاوزوا في معصية الله وبالغوا في الظلم والتمرد ﴿ قلنا لهم كونوا قردة خاسئين ﴾ أي بعداء من الخير. نقول : خسأ الكلب وغيره ؛ أي أبعده وأذله وطرده٢ ؛ أي أن الله صير هؤلاء الخاطئين العتاة قردة وخنازير بعد ما كانوا رجالا ونساء. وذلك بلاء من الله كبير ينتقم به من الذين يحدون آياته، ويعلون في الأرض بغير الحق، ويأبون إلا العتو والبغي والفساد في الأرض. أولئك ينتقم الله منهم بعقوبة المسخ ؛ إذ يصيرهم خلقا ممسوخا آخر بعد ما كانوا بشرا سويا كما حل بعتاة من بني إسرائيل. وذلك يدل على أن المعاصي سبب النقم، نجانا الله من الوقوع في الخطايا والمعاصي ودفع عنا البلاء والنقم٣.
١ مختار الصحاح ص ٤١٢ والمصباح المير جـ ٢ ص ٤٠..
٢ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٣٣..
٣ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٦٦- ٦٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٥٧- ٢٥٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٢٦..
قوله تعالى :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ تأذن، بوزن تفعل، من الإيذان وهو الإعلام. وأذن بمعنى علم. وآذت بالمد معناه أعلم. وأذن، بالتشديد ؛ أي نادى. والأذن معناه الإعلام١ وتأذن، أجرى مجرى فعل القسم، كقوله :﴿ شهد الله، وعلم الله. ولذلك أجيب بما يجاب له القسم. وهو قوله { ليبعثن عليهم ﴾ أي اليهود. والمعنى : وإذ حتم ربك وكتب على نفسه ﴿ ليبعثن عليهم ﴾ أي ليسلطن على اليهود ﴿ إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ﴾ وذلك إعلان قائم مسلط مجلجل نادى به الله ليكون إخبارا للعالمين أنه الله مرسل على اليهود من الأقوام والأمم والشعوب من يسلطهم عليهم تسليطا فيسمونهم –أي يذيقونهم- سوء العذاب، وهو أشده وأنكاه، من الإذلال والصغار والمهانة، جزاء تفريطهم في حق الله وقتلهم الأنبياء بغير حق، وإفسادهم في الأرض وتمالؤهم على رسالة الله والداعين إليه في كل زمان ومكان. ولسوف يظل هذا الإعلان والنذير قائما مسلطا لا يزول ولا يتغير إلى يوم القيامة ما دامت يهود تعيث في الأرض فسادا وتخريبا. وما داموا يثيرون الفتن والقلاقل والحروب بين بني البشر. وما داموا يصطنعون الشبهات والافتراءات والأباطيل من حول الإسلام والمسلمين. لسوف يظل النذير بالتسليط والسوم بسوء العذاب قائما مولولا٢ إلى نهاية الزمان. فما تتوالى الأيام والسنون حتى يبعث الله على اليهود من الأمم ﴿ من يسومهم سوء العذاب ﴾ مثلما سامهم بختنصر ؛ إذ سباهم سبيا، وقتل رجالهم قتلا، ودمر عليهم تدميرا. ومثلما فعل بهم ملوك النصارى ورؤساؤهم خلال العصور السابقة والوسطى، مرورا بالعصر الحديث حيث الإذلال والتقتيل بالجملة ؛ كالذي فعله بهم النازيون في هذا القرن. كل ذلك بلاء وسوء عذاب أصابهم بسبب عصيانهم وعتوهم. وما زال الإعلام والنذير من الله بسوء العذاب قائما لا يتغير ولا يتبدل حتى تقوم الساعة ويومئذ يفضي الظالمون والمجرمون والخائنون إلى جهنم وبئس المصير.
قوله :﴿ إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ﴾ أي إن ربك يا محمد سريع عقابه إلى من يستحق العقوبة من الكافرين والظالمين والعصاة، الذين يتجبرون في الأرض ويعيثون في الدنيا الفساد ويشيعون الظلم والمصائب والنوائب بين العباد. إن الله منتقم من هؤلاء لا محالة، فمجازيهم الجزاء الألم المواجع في هذه الدنيا. والله لكل العتاة والمجرمين والخائنين والمتربصين بالمرصاد ؛ فهو آخذهم بالعذاب البئيس على غرة من حيث لا يحتسبون. وفي المقابل فإن الله ساتر لدنوب التائبين والنادمين وزلاتهم، عظيم الصفح عن خطايا المنيبين إليه وعن معاصيهم٣.
١ مختار الصحاح ص ١٢..
٢ مولولا: من الولوال، وهو الدعاء بالويل. انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٥٧..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٥٩ والكشاف جأ ٢ ص ١٢٧ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٧٠ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٦٠..
قوله تعالى :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ١٦٨ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الأخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ١٦٩ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ قطعناهم في الأرض أمما، أي فرقناهم في الأرض جماعات.
والمراد بنو إسرائيل ؛ فقد قطع الله شملهم، وأذهب وحدتهم، وبدد شوكتهم، وجعلهم في الأرض جماعات متفرقين شتى حتى ما يكون من بقعة في الأرض إلا دخله قوم من اليهود في الغالب. وتلك ظاهرة خاصة ببني إسرائيل لم تشاركهم فيها أمة من الأمم. وفي ذلك من الدلالة الظاهرة ما يقطع بصدق كلمات الله في تفريق بني إسرائيل في الأرض أشتاتا نكالا من الله. بما عصوا وعتوا عن أمر بهم وعاثوا في البلاد فسادا وفتنة.
قوله :﴿ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ﴾ أي أن من بني إسرائيل الصاحين ؛ وهم الذين يؤمنون بالله ورسوله، وهم الذين يؤمنون بالله ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله ؛ فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهم قلة. وهؤلاء هم مسلمة أهل الكتاب. ﴿ ومنهم دون ذلك ﴾ دون منصوب على الظرف١ ؛ أي الكافرون منهم الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآذوا كثيرا من النبيين من قبله. وهؤلاء هم الأكثرون. قوله :﴿ وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ﴾ أي اختبرنا بني إسرائيل بالحسنات، كالرخاء والسعة وبسط الرزق والتمتع الراغد، واختبرناهم بالمصائب والرزايا في الأنفس والأموال والثمرات لعلهم ينزجرون ويثوبون إلى ربهم وينيبون إليه بالطاعة والامتثال والكف عن الجحود والعصيان والإفساد في الأرض.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٧..
قوله :﴿ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه ﴾ الخلف، بفتحتين معناه البدل والعوض. والخلف بسكون اللام، معناه القرن من الناس. يقال : هؤلاء خلف سوء، لناس لاحقين بناس أكثر منهم. والخلف أيضا الرديء من القول. يقال : سكت ألفا ونطق خلفا. أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ١. والمقصود هو توبيخ اليهود ؛ فقد تبدل من بعد السابقين الذين فيهم الصالحون والطالحون ﴿ خلف ﴾ أي بدل آخر لا يقال سوءا عن الفاسقين العصاة من أسلافهم. وهم بذلك لا خير فيهم البتة ؛ فقد ورثوا الكتاب وهو التوراة ؛ فعلموه وعرفوا ما فيه لكنهم خالفوا أحكامه وأوامره. وبذلك كانت الأحفاد والذراري بدل سوء عن الأسلاف السابقين في العصيان والاستكبار على شرائع الله. ثم أخبر الله عن هؤلاء الخلف أنهم ﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ﴾ أي يقبلون بنهم متجشع ما يعرض لهم من متاع الدنيا لفرط حبهم لها وحرصهم على الاستزادة من أموالها وعروضها سواء في ذلك الحلال أو الحرام. ﴿ ويقولون سيغفر لنا ﴾ فهم سادرون في إلحاح بالغ للأخذ من متاع الدنيا وزينتها بكل أسلوب من الأساليب سواء في ذلك الربا والرشى والابتزاز. واغتصاب الأموال من الآخرين بغير حق. وغير ذلك من أموال السحت ينتزعونها من الناس انتزاعا. ومع ذلك كله يزعمون أنهم لا جناح عليهم فيما يفعلونه فإنهم مغفور لهم.
قوله :﴿ وإن يأتيهم عرض مثله يأخذه ﴾ العرض، بسكون الراء، معناه المتاع، وكل شيء سوى الدراهم والدنانير. يقال : أخذت في هذه السلعة عرضا : أعطيت في مقابلها سلعة أخرى. والعرض بفتحتين : متاع الدنيا قل أو كثر٢، وتأويل الآية : أن هؤلاء القوم إذا أمكنهم أن يأخذوا من عرض الدنيا مما فيها من السحت وخبيث المكاسب أخذوه من غير تروع ولا تردد ولا رهبة من الله. فهم لاغترارهم وسفاهتهم يظنون أنهم مغفور لهم مما علموا. ويقول بعض المفسرين إن حال اليهود هذه من حيث تلبسهم بالشهوات وفرط إقبالهم على المال ومتاع الحياة الدنيا تنسحب على بعض المسلمين الذين يتقاحمون بإلحاح غليظ ومسف من أجل اكتساب المال بكل الطرق والأسباب. وأجد أن في هذا التشبيه نظرا. لأن الطامعين الجشعين من المسلمين الذين يغالون في حب المال، ويبالغون في كسبه وتحصيه بكل الأساليب يعلمون أنهم آثمون ولا يحملون في أذهانهم مسبقا أنهم مغفور لهم مهما فعلوا، كبني إسرائيل والفرق بين الصنفين عظيم.
قوله :﴿ ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ﴾ يقول الله موبخا هؤلاء الناهمين البطرين الذي يزعمون أنهم مغفور لهم مهما عملوا من السيئات واكتساب الحرام –يقول لهم : ألم يأخذ الله عليهم العهود بأن يقيموا التوراة وأن يعملوا بما فيها، وأن لا يقولوا على الله إلا الحق ولا يغيروا ما أنزل على نبيهم موسى في التوراة أو يحرفوا فيها أيما تحريف ؛ فقد ورثوا الكتاب ﴿ ودرسوا ما فيه ﴾ أي أقروا التوراة وعرفوا ما فيها من الأحكام والتعاليم لكنهم ضيعوا كتاب الله وتركوا العمل بمقتضاه وخالفوا ما أخذ الله عليهم من العهود بالتصديق والاستقامة والتزام ما شرعه الله التزاما صحيحا لا محرفا ولا منقوصا.
قوله :﴿ والدار الآخرة خير للذين يتقوت أفلا تعقلون ﴾ ذلك تذكير صادع بما هو خير وأبقى. وتلكم هي الدار الآخرة ؛ لا جرم أن النجاة فيها رأس كل كسب وفلاح. وهي خير مما يجمعه الناس في حياتهم من وجوه الكسب والثراء، ورفيع المكانة والدرجات. إن ذلك كله حطام داثر ؛ لأنه إلى الفناء والخراب صائر ؛ فهو ليس إلا السراب واليباب الذي يؤول لا محالة إلى الزوال المحقق والغياب الذي لا يرجى من بعده مرد ولا إياب ﴿ أفلا تعقلون ﴾ الاستفهام للتوبيخ ومفاده : أفلا يعلم هؤلاء الذين يأخذون عرض الدنيا الفنية بغير حق ولا عدل ويزعمون أنهم مغفور لهم –أن ما عند الله في الدار الآخرة خير لهم مما جمعوه من السحت والحرام ؟ !
١ المصباح المنير جـ ١ ص ١٩٢ ومختار الصحاح ص ١٨٥..
٢ المعحم الوسيط جـ ٢ ص ٥٩٤..
قوله :﴿ والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين ﴾ يمسكون بالتشديد ؛ لأنه يفيد الكثرة. مسكت بالشيء وتمسكت به واستمسكت به ؛ أي اعتصمت ؛ أي أن الذين يستمسكون بالتوراة فيعملون بها ولا يخالفون أحكامها لهم أجرهم عند ربهم فلا يضيع أو ينسى١.
١ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٤٦- ٤٨ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٠ والكشاف جـ ٢ ص ١٢٨..
قوله تعالى :﴿ وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون ﴾ إذ، في موضع نصب بتقدير فعل. وتقديره : واذكر إذ نتقنا الجبل١، والنتق بمعنى الرفع، أو قلع الشيء من موضعه والرمي به٢ ؛ فقد اقتلع الله الجبل من موضعه ورفعه فوق بني إسرائيل ﴿ كأنه ظلة ﴾ أي سحابة فوق رؤوسهم يوشك أن يقع عليهم فيهلكهم ﴿ وظنوا انه واقع بهم ﴾ أي علموا وأيقنوا أن الجبل سيقع عليهم لا محالة إذا لم يطيعوا أمر ربهم ولم يأخذوا ما في التوراة. ثم قال لهم الله مهددا، وهم على حالهم من الذعر والهلع :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ أي التزموا تعاليم ما أنزلنا إليكم من الكتاب بجد، لا هزل ولا خور. واعملوا بما فيه من الشرائع والأحكام من غير تقصير ولا تفريط، واذكروا ما فيه من المواثيق والمواعظ والعبر ؛ وإلا أرسلت عليكم الجبل فيبيدكم إبادة.
ومن أجل هذا التهديد الماثل، وبهذا التخويف الذي أطار قلوب بني إسرائيل، وخارت منه عزائمهم، استجابوا طائعين مبادرين لا ينثنون ولا يتوانون. وفي ذلك درس نافع لمن يبتغي الوقوف على طبيعة يهود. فهم القوم الذين لا تلين طبائعهم لصوت الحجة والمنطق ولا يذعنون لنداءات الشرائع السماوية من توراة وغيرها. لا يصيحون لشيء من ذلك كله. إنما ينزجرون أو يرجون القهقري إذا أحاطت بهم ظواهر التهديد المرعب المنظور.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٩..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٩٠٠..
قوله تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ١٧٢ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ١٧٣ وكذلك نفصل الآيات لعلهم يرجعون ﴾ إذ، في موضع نصب بتقدير الفعل اذكر. و ﴿ من ظهورهم ﴾، بدل من بني آدم١، ذلك إخبار من الله تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم وخالقهم وأنه لا إله إلا هو ؛ فقد خلق الله الإنسان في الأصل على الفطرة ليجيء مؤمنا موحدا لا يعرف الشرك. لكن الإنسان قد تعثر فيما بعد. وذلك لما تبدلت يفه الفطرة الأصلية السليمة إلى أخرى مقلوبة أو مشهورة تشويها. وذلك بفعل المؤثرات الخارجية الكثيرة وبإيحاء من النوازع الشيطانية من الداخل. لا جرم أن العوامل الخارجية والمؤثرات التي تصطنعها أفكار الشياطين وأقلامهم لقلب الفطرة وتشويهها كثيرة وكبيرة. وهي متعثر متعددة وترى : ولا تقف عند نهاية أو حد بل إنها تزداد على مر الزمن ضراوة وفداحة وخبرة في تدمير الفطرة الأساسية للإنسان. الفطرة السليمة القويمة التي يجيء عليها الإنسان مبرأ من كل الأدران والأوضار النفسية والخلقية. ثم تستحيل فطرته بعد ذلك إلى فطرة ضالة ممسوخة متمردة على الله وعلى منهجه الحق بعد أن كانت سوية مؤمنة مخبتة إلى ربها إخباتا. وذلك كله بفعل العوامل الخبيثة التي برعت في إعدادها وتنشئتها أقلام الشياطين وأدمغتهم التي لا تفتر ولا تني عن الكيد للإنسان كيما ينقلب إلى إنسان مضلل شائه ممسوخ الطبع، مقلوب الفطرة تمام. إنسان قد تزاحمت فيه ظواهر العتو والاستكبار والاغترار من الداخل فإذا هو عاث كنود بعد أن جيء به إلى هذه الدنيا مبرأ من كل العيوب. وفي هذا المعنى روي الصحيحان عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كل مولود يولد على الفطرة ) وفي رواية ( على هذه الملة ؛ فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ؛ كما تولد بهيمة جمعاء٢ هل تحسون فيها من جدعاء ) ٣.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول الله : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ).
أما كيف أخذ الله ذرية بني آدم من ظهورهم ؛ فهو موضع تفصيل كبير نقتضب منه ما قاله كثير من أهل العلم ومنهم الرازي والزمخشري، وهو أن الله أخرجهم من أصلاب آبائهم ذرية. وكيفية ذلك : أنهم كانوا نطفة فأخرجهم الله تعالى في أرحام الأمهات، ثم جعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه. وبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا بلى، وإن لم يكن ثمة قول منطوق باللسان. وذلك مقتضى قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ﴾.
وسئل ابن عباس عن تأويل هذه الآية فقال : لما خلق الله آدم عليه السلام أخذ ميثاقه فمسح ظهره فاخذ ذريته كهيئة الذر فكتب أجالهم وأرزقهم ومصائبهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى٤.
قوله :﴿ أن تقولوا القيامة غنا كنا عن هذا غافلين ﴾ ﴿ أن تقولوا ﴾، في موضع نصب مفعول له ؛ أي فعلنا ذلك، من نصب الأدلة الشاهدة على صحتها العقول، كراهة أن تقولوا، أو لئلا يقولوا٥. أي خلقكم الله على الفطرة والتوحيد وجعل فيكم كامل الاستعداد للإيمان بالله ثم أشهدكم على أنه خالقكم ومالككم ومعبودكم دون غيره فشهدتم ؛ إذ كنتم على الفطرة صادقين. غير مضللين ولا منحرفين. وذلك لئلا تقولوا يوم القيامة :﴿ إنا كنا عن هذا غافلين ﴾ أي كنا غافلين عن وحدانية ربنا فضللنا
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٩..
٢ الجمعاء: الناقة الهرمة. وهي من البهائم: التي لم يذهب من بدنها شيء. انظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٥..
٣ الجدعاء: مقطوعة الأنف. انظر المعجم الوسيط جـ ١ص ١١٠..
٤ تفسير الرازي جـ ٥ ص ٥٣ والكشاف جـ ٢ ص ١٢٩ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٧٦..
٥ تقسير النسفي جـ ٢ص ٨٥ والبيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٧٩..
﴿ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ﴾ أي ولئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا لا نعلم ذلك وكنا في غفلة منه. ﴿ أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا ﴾ ونحن ذريتهم من بعدهم اتبعناهم في دينهم ومهاجهم ﴿ أفتهلكنا ﴾ يا ربنا بما فعله أهل الباطل من الشرك والعصيان١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٨١..
قوله تعالى :﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ١٧٥ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآيتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ١٧٦ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾.
ورد عن ابن عباس وغيره من المفسرين في سبب نزول هذه الآية وهو بلعم بن باعورا، رجل من بني إسرائيل، وكان يعلم اسم الله الأعظم. فلما نزل بهم موسى عليه السلام أتاه بنوعمه وقومه وقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه.
قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله بما كان عليه. فذلك قوله :﴿ فانسلخ منها ﴾ ١ الانسلاخ معناه الخروج. يقال : انسلخت الحية من جلدها ؛ أي خرجت منه. والمعنى : أنه انسلخ من معرفة الله ومما أوتيه من العلم كما تنسلخ الشاة عن جلدها ﴿ فأتبعه الشيطان ﴾ أي لحقه الشيطان فأدركه عقب الانسلاخ من آيات الله فصار قرينا له فأتبعه خطواته ﴿ فكان من الغاوين ﴾ أي الضلعين في الغواية والضلالة والفسق.
وذلك هو مصير كل من يؤتي حظا من حظوظ العلم والهداية والمعرفة بجلال الله فصدق واستقام ثم انسلخ مما أوتيه من فضيلة العلم والهداية فانقلب على وجهه وقد خسر الدنيا والآخرة وذلك بتأثير الشيطان الذي سول له التحول عن الحق، والانسلاخ عن طريق الله ومنهجه فسلك سبيل الشياطين والضالين المضلين فكان من الهالكين الخاسرين والعياذ بالله.
١ أسباب النزول للنيسابوري..
قوله :﴿ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض وابتع هواه ﴾ أي لو شاء الله لرفعه بآياته التي آتاها إياه. والمراد بالرفع : ما كان في المنزلة. ومنها : الرفع في شرف الدنيا. ومنها : الرفع في الذكر الجميل والثناء الحميد. أو أن الله أعطاه كل هذه المعاني مجتمعة بان وفقه للعمل بآياته والتي كان قد آتاه إياها ؛ وقيل في تأويل الآية : لو شئنا لأمتناه قبل أن يضل ويعصي ربه، فرفعناه إلى الجنة بذلك. أي بعمله الذي يستوجب ( الجنة ) ﴿ ولاكنه أخلد إلى الأرض ﴾ من الإخلاد، وهو الركون واللزوم. أخلد بالمكان ؛ أي لزمه فاطمأن وسكن١. والمعنى : أنه ركن إلى الأرض أو نزع إليها أو مال إلى ملذاتها وشهواتها وزخارفها وعزف عن الحق واليقين الذي كان متلبسا به من قبل أن يضل.
وقوله :﴿ واتبع هواه ﴾ وهو الضلال والفسق عن أمر الله نزوعا للدنيا وما فيها من خسائس ومغريات موبقات، أو كان هواه مع القوم الظالمين الذين حرضوه على الإخلاد للأرض والزيغ عن عقيدة التوحيد ركونا للهوى والأموال والشهوات.
قوله :﴿ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ﴾ يلهث من اللهاث بالضم ؛ وهو حر العطش في الجوف. يقال : هو يقاسي لهاث الموت ؛ أي شدته. لهث الكلب لهثا ولهاثا : أخرج لسانه من حر أو عطش٢. ذلك مثل ضربه الله للذي ضل وغوى وخرج عن ملة الإسلام بعد أن آتاه الله آياته فانسلخ منها. فهو أشبه ما يكون بالكلب الذي دأبه اللهاث ؛ فهو يلهث إذا طردته، ويلهث إذا تركته.
قال القتبي في هذا الصدد : كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب ؛ فغنه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة، وحال الري، وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال : إن وعظته ضل، وإن تركته ضل ؛ فهو كالكلب إن تركته لهث، وإن طردته لهث، وقيل في تأويل الآية : إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإذا تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا عليك ؛ ودبرا عنك فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان.
وتلك هي حال الذي انسلخ من آيات الله وفسق عن دينه بعد علم به وهداية ؛ فإنه صار بذلك من غير فؤاد. أو أن فؤاده بات غليظا أجوف لا مكان فيه للإيمان أو اليقين ؛ فهو سواء وعظ أو لم يوعظ، لم يأت بخير ؛ لأن قلبه خال من الخير ولا يستسيغه ؛ فهو بذلك ضال مجانب لدين الله. لا تجدي معه النصائح والمواعظ، ولا تعطف قلبه النواهي والزاجر، ولا يؤثر فيه الترغيب والترهيب ليثنيه عن فعل المعاصي والموبقات. فمثله في ذلك مثل الكلب اللاهث تماما ؛ إذ يلهث في كل الأحوال. فما أروع هذا التعبير، وما أكمل هذا التصوير الذي لا يصدر بهذا الجمال والرصانة وقوة التأثير إلا عن حكيم خبير !
وقوله :﴿ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ﴾ أي أقصص على المشركين واليهود هذه الأخبار عن نقم الله وما أنزله بالمجرمين المضلين من العقوبات والمثلاث. وكذا قص عليهم خبر أي انسلخ من آيات الله ثم ركن إلى الدنيا والشهوات فانتقم الله منه وهو من جنسهم –أي اليهود- أقصص عليهم هذه الأخبار لعلهم يرجعون إلى عقولهم فيفهمون وينزجرون عن الباطل والضلال.
١ مختار الصحاح ص ١٨٤ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٤٩..
٢ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٨٤١..
قوله :﴿ ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون ﴾ ساء، فعل لازم، وفاعله مقدر، وتقديره : ساء مثلا مثل القوم. فحذف المضاف ونصب ( مثلا ) على التمييز، وأقيم المضاف إليه مقامه وارتفع على الابتداء وما قبله خبره.
وقيل : ارتفع ؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف كقولهم : بئس رجلا زيد١، وساء بمعنى قبح. وساءه يسوءه مساءة، متعد. وهو من أفعال الذم كبئس. والمعنى : قبح مثل هؤلاء المجرمين ؛ إذ شبهوا بالكلاب اللاهثة، وذلك لموت قلوبهم وفساد فطرتهم وتيه عقولهم ؛ فما يعبأون في حياتهم بشيء سوى الشهوات والملذات والخنوع للغرائز ؛ فهم بذلك سادرون في الفسق والضلالة، مكذبون بآياته، ظالمون لأنفسهم أيما ظلم٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٠..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٣٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٤- ٢٦٧..
قوله تعالى :﴿ من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأوليك هم الخاسرون ﴾ ذلك إخبار من الله أن الهداية والإضلال بيده سبحانه ؛ فالله يهدي من يجاهد ليهتدي، قوله سبحانه :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا ﴾ وكذلك يضل الله من يبغي لنفسه الضلال ويولي مدبرا عن الحق المستبين وعن دلائل الهدى والإيمان ؛ فيغلق قلبه وعلقه عن إدراك الصواب والحقيقة.
وأساس المسألة هنا أن الإنسان كائن مميز باستعداده المزدوج لكلا الهدى والضلال ؛ فقد أودع الله فيه القدرة والاستعداد لفعل كل من الخير والشر. يضاف إلى ذلك كله علقه الذي يميز الحق من الباطل. وكذلك فطرته التي بنيت على التوحيد أو الإيمان بالله وحده ؛ فغنه في ضوء ذلك كله يجد الإنسان نفسه في إحدى السبيلين وهما سبيل المؤمنين وسيبل المجرمين الخاسرين وكل منها يحيط به قدر الله ومشيئته بالهداية والإضلال. فلا يهتدي أو يضل ضال من غير أن يكون في فلك المشيئة الإلهية١.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٨٩ وفي ضلال القرآن جـ ٩ ص ١١٦..
قوله تعالى :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أوليك هم الغافلون ﴾ خلق الله لجهنم من يملؤها من الجن والإنس. أولئك الذين جنحوا للضلال والباطل ليكونوا في مقابل الهدى والحق. والذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة فمالوا للشهوات والمفاسد والمعاصي فاستحقوا بذلك من الله العقاب في النار. أولئك هم حصب جهنم سيصلون فيها السعير والتحريق بما فعلوه في حياتهم الدنيا ؛ إذ ضلوا قصد المحجة البيضاء. وسلكوا سبيل المجرمين المكذبين الذين ما كانوا ليجدي معهم النصح والإرشاد لفساد فطرتهم، وتيه عقولهم، وللران الذي غشي قلوبهم فاستحوذ عليها أيما استحواذ. وهو قوله سبحانه واصفا إياهم ﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذن لا يسمعون بها ﴾ يفقهون، من الفقه وهو الفهم أو العلم بالشيء١. الله جل وجلاله يبين أن هؤلاء الضالين الجاحدين قد تعطلت حواسهم فما عادوا لينتفعوا بها ؛ لأنهم قد استحوذ عليهم الشيطان وطغت عليهم شقوتهم وضلالتهم ؛ فهم بذلك قلوبهم غلف لا يدركون بها الحق والهدى ولا يعون بها آيات الله ودلائله الساطعة والحجج الظاهرة الدامغة التي تكشف عن روعة الحق وزيف الباطل. وهم كذلك صم لا ينتفعون بآذانهم ؛ إذ لا يسمعون بها نداءات المرسلين والداعين إلى الله. النداءات التي تهتف بهم في كل آن أن يثوبوا إلى ربهم فيؤمنوا إليه مخبتين مذعنين. لكنهم ما عادوا لينتفعوا بشيء من هذه الحواس التي كان قيمنا بهم أن يستدلوا من خلالها على الحق والهدى فهم بذلك ﴿ كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ إن هؤلاء المجرمين الذين هم حصب جهنم، والذين تعطلت فيهم حواس الأفئدة وأبصار والأسماع إنما يشبهون الأنعام في أنها لا تعي رشدا، ولا تبصر هداية أو حجة، ولا تسمع نصحا أو نداء. وإنما طبعها أن لا تعي ولا تدرك، وليس لها من الحياة إلا أن تعيش لتأكل وتشرب وتمارس غرائزها. وهكذا المجرمون المجانبون لمنهج الله المعادون لدينه وشرعه، بل إنهم أشد إضلالا من الأنعام ؛ لأنهم مسؤولون موقوفون عند ربهم ليؤاخذهم عن ضلالهم وفسقهم وعما كانوا فيه من الغفلة والتفريط، خلافا للأنعام فغنها غير مؤاخذة ولا مسؤولة ؛ إذ سقط عنها السؤال والحساب ؛ لتجردها من حاسة الوعي والإدراك٢.
١ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٩١..
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٣١ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٦٢- ٦٨..
قوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ﴾ الأسماء الحسنى يراد بها أحسن الأسماء ؛ لأنها تدل على معان حسنة من تمجيد وتقديس وثناء ؛ فهي الحسنة في الأسماع والقلوب ؛ لأن مدلولاتها جامعة لكل معاني الخير والبركة والرحمة والإفضال والتوحيد.
وأسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسما ؛ فقد أخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن لله تعسا وتسعين اسما، مائة إلا واحد، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر ) وأخرجه الترمذي بسنده وزاد بعد قوله ( يحب الوتر ) :( هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور ).
على أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تعسة وتسعين. بدليل ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي ؛ إلا أذهب الله حزنه وهمه، و أبدل مكانه فرحا ).
وذكر الفقيه المالكي أبو بكر بن العربي في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم.
وجاء في صحيح مسلم ( الطيب ) وخرج الترمذي ( النظيف ) وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه :( رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي ) وعلى هذا جائز أن يقال : يا خير الماكرين امكر لي ولا تمكر علي، والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ فادعوا بها ﴾ أي سموه بتلك الأسماء. أو أطلبوا منه بأسمائه فيطلب بكل اسم ما يليق به فتقول : يا رحيم ارحمنا. ويا حكيم احكم لنا : ويا رازق ارزقنا. ويا هادي اهدنا. ويا فتاح افتح لنا. ويا تواب تب علينا وهكذا.
قوله :﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ﴾ يلحدون من الإيحاد. والأصل فيه العدول عن القصد والميل فيه والجور والانحرف. لحد في دين الله ؛ أي عدل عنه وحاد١ والمعنى المقصود هنا : اتركوا تسمية الذين يميلون عن الحق والصواب في أسماء الله فيسمونه بغير الأسماء الحسنى كأن يشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. أو كما يسميه بعض الجهلة ؛ إذ يقولون : يا أبا المكارم. يا أبيض الوجه. يا سخي٢.
١ مختار الصحاح ص ٥٩٣..
٢ تفسير الطبري جـ ٩ ص ٩١ والكشاف جـ ٢ ص ١٣٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٩ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٢٨..
قوله تعالى :﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ أي من الخلق الذين خلقنا، أمة مهتدية قائمة بالحق ؛ إذ تقوله وتدعو إليه ﴿ وبه يعدلون ﴾ أي يعلمون ويقضون. وقد جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة هنا هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية :( هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها } يعني بهذا قوله تعالى :﴿ ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل ) وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ) وفي رواية :( حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وفي رواية ( وهم بالشام ).
وقيل : المراد بذلك العلماء الذين يدعون إلى دين الله والأخذ بشريعته ومنهجه في كل زمان أو مكان. فيستدل من ذلك على هذا المعنى، أن الذين لا تخلو في زمن من الأزمان من دعاة يدعون إلى الحق١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٦٩ والكشاف جـ ٢ ص ١٣٣ وتفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٢٩..
قوله تعالى :﴿ والذين كذبوا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ١٨٢ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ الاستدراج، معناه الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة. واستدرجه، أي أدناه منه على التدريج فتدرج، أو خدعه حتى حمله على أن يدرج. واستدرج الله العبد ؛ أي أمهله ولم يباغته١، وذلك تهديد من الله للذين يعرضون عن منهج الله ويكذبون بآياته ودلالاته ويجحدون ما انزل إليهم من الحق ؛ فإنه سيمهلهم إمهالا ؛ ليظلوا سادرين في أهوائهم وضلالاتهم، لاهين في رغباتهم وشهواتهم، مغترين بالنعيم في حياتهم الدنيا حتى يأخذهم الله على غرة ومن حيث لم يحسبوا. وإذ ذاك يجدون أنهم سقطوا في الهلاك والثبور، فلا ينفعهم الندم ولا هم يستعتبون.
١ مختار الصحاح ص ٢٠٢ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٧٧..
قوله :﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ معطوف على ﴿ سنستدرجهم ﴾ أي أطيل لهم مدة لهوهم وسهوهم واغترارهم وأؤخر لهم العقوبة إلى حين ؛ ليكون ذلك أبلغ في إيلامهم وشديد عقابهم ﴿ إن كيدي متين ﴾ الكيد معناه الكيد : والمتين، الشديد ؛ أي عن مكر الله شديد أليم سيحيق بالمكذبين المعرضين عن دينه، السادرين في السفاهة والظلام، الاهين عن التوحيد والطاعات.
قوله تعالى :﴿ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة عن هو إلا نذير مبين ﴾ الاستفهام للإنكاري. يعني أو لم يتفكر هؤلاء المعرضون المدبرون عن آياتنا، فيتدبروا ويعوا بعقولهم أن رسولنا الذي بعثا إليهم ليس به جنة وهي الجنون١، وأن ما دعاهم إليه لهم الحق القويم والصدق المبين. وما هو إلا نذير جاء لينذركم عقاب الله ويخوفكم عذابه إن لم تثوبوا إلى ربكم مؤمنين مخبتين. ووصف النذير بأنه مبين ؛ أي ظاهر لمن كان له قلب أو عقل فيعي أو يصدق. والنذير، معناه المنذر والإنذار، ولا يكون ذلك إلا في التخويف٢.
١ مختار الصحاح ص ١١٤..
٢ مختار الصحاح ص ٦٥٣ والمعج الوسيط جـ ٢ ص ٩١٢..
قوله تعالى :﴿ أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ١٨٥ من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ أو لم ينظر هؤلاء المكذبون الجاحدون نظر استدلال وتدبر فيما يدل عليه هذا الملكوت وهو الملك العظيم الذي صنعه الله، وكذلك فيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس لا يحصرها العدد، ولا يحيط بها الوصف، ولعلهم يموتون قريبا ؟ أو لم ينظروا في ذلك كله فيسارعوا إلى الإيمان وليبادروا للتصديق تنجيه لأنفسهم من الويل المنتظر ؟ !
قوله :﴿ فبأي حديث بعده يؤمنون ﴾ أي بأي حديث أحق وأصدق من هذا القرآن يريدون أن يؤمنوا ؟ ! هل من حديث أكرم وأطيب وأعظم وأطهر من كتاب الله الحكيم فيؤمنوا به ويصدقوه ؟ ! إنه ليس في الكلام أيما كلام البتة خير وأصدق وأروع من القرآن. هذا الكلام الكريم المعجز الذي لا يضاهيه كلام ولا يدانيه خطاب، لا في روعة الجرس، ولا في جمال الأسلوب والصورة، ولا في حلاوة الإيقاع والنغم، ولا في رصانة الكلمات والعبارات، ولا في كمال المضامين والمعاني. فإذا لم يؤمن هؤلاء الجاحدون العصاة بهذا الكلام الرباني الفذ، فبأي كلام بعد ذلك يؤمنون ؟ !.
قوله :﴿ من يضلل الله فلا هادي له ﴾ أي أن ضلال هؤلاء المكذبين ليس لا لعدم توفيق الله لهم ؛ فقد آثروا المضي في طريق الشيطان والباطل فأضلهم الله. وإذا أضلهم الله فليس لهم غيره من أحد يهديهم. بل إن الله يدعهم في تماديهم في كفرهم يترددون ؛ ليستحقوا بعد ذلك ما يجدونه أمامهم من سواء المصير في النار١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧١، ٢٧٢ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٩٣..
قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولاكن أكثر الناس لا يعلمون ١٨٧ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾
جاء في سبب نزول هذه الآيات عن ابن عباس قال : قال : حمل بن أبي قشير وشموال بن زيد من اليهود : يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي، فأنزل الله هذه الآية. قال قتادة : فقالت قريش لمحمد : إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا متى الساعة ؟ فأنزل الله تعالى :﴿ يسألونك عن الساعة ﴾ ١.
الكاف، في ﴿ يسألونك ﴾ في موضع مفعول به أول. و ﴿ عن الساعة ﴾، في موضع نصب مفعول به ثان. و ﴿ أيان مرساها ﴾، مبتدأ وخبر. ﴿ مرساها ﴾، مبتدأ و ﴿ أيان ﴾، خبره٢. لقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين عن الساعة وذلك من باب الإحراج والتحدي والمكابرة إذ قالوا له ﴿ أيان مرساها ﴾ أي متى مثبتها ووقوعها. و ﴿ مرساها ﴾ بمعنى قيامها. من قول القائل : أرساها الله فهي مرساة. وأرساها القوم إذا حبسوها. ورست ترسو رسوا. فأجابهم أنها علمها مما استأثر الله به في علم الغيب عنده ولم يوقف عليه أحدا ﴿ لا يجليها لوقتها إلا هو ﴾ أي لا يظهرها في وقتها إلا هو سبحانه.
قوله :﴿ ثقلت في السموات والأرض ﴾ أي ثقل علم الساعة على أهل السموات والأرض ؛ فقد عز عليهم أن يعرفوا وقتها ومجيئها لخفائها عنهم واستئثار الله بعلمها، وبذلك لا يعرف متى تقوم الساعة لا نبي مرسل ولا ملك مقرب. وقيل : ثقلت بمعنى كبرت، فلا تطيقها السموات والأرض. ذلك أن الساعة إذا جاءت انشقت السماء، وانكدرت النجوم، وانتثرت الكواكب، وكورت الشمس، وسيرت الجبال. لا جرم أن ذلك هائل ومخوف ومزلزل، وفيه من الثقل على أهل السموات والأرض ما يخلع القلوب خلعا. وكذلك فإن الساعة إنما تأتي فجأة من حيث لا يشعر بها أحد فهي تبغت بقيامها الناس إذ تأتيهم على غفلة وفي الخبر :( إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه. وذلك تأويل قوله :{ لا تأتيكم إلا بغتة ) وبغتة، منصوب على المصدر في موضع الحال٣.
قوله :﴿ يسألونك كأنك حفي عنها ﴾ الحفي، معناه العالم المستقصي، الملح في السؤال٤ ؛ أي يسألك المشركون عن الساعة يا محمد، كأنك عالم بها كثير السؤال عنها. وقيل : يسألونك عنها كأنك صديق بهم أو قريب منهم وتخفي عليهم، أو كأنك حفي بهم ؛ أي كأنك فرح ومسرور بسؤالهم. نقول : احتفى به : بالغ في إكرامه وأكثر السؤال عن حاله ؛ فهو حاف وحفي. وحفا الله به حفوا، أكرمه. والحفاوة، الإلحاح٥.
قوله :﴿ قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي أبلغهم يا محمد مبينا لهم بجلاء ووضوح أن علم الساعة خفي عن العالمين وقد استأثر الله به ولا علم لأحد في المخاليق بالساعة أو متى تقوم ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أي أكثر الناس لا يعلمون أن الله وحده مستأثر بعلم الساعة، وأن الخلق جميعا لا يدرون متى تفجأهم.
١ أسباب النزول للنيسابوري ص ١٥٣..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٠..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨١..
٤ المعجم الوسيط جـ ١ص ١٨٦ والقاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٢٠..
٥ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٣٢٠..
قوله :﴿ قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ﴾ أي أبلغ هؤلاء الذين يسألونك عن الساعة متى تقوم : أنني لست قادرا على تحصيل النفع أو الخبر لنفسي، ولا دفع الضر أو المكروه أن يحل بي إلا ما شاء الله لي أن أقدر عليه من ذلك وهو أن يمكنني ربي من ذلك ويعينني عليه. ومن كانت هذه حاله من ضعف الاستطاعة وهوان الاقتدار ؛ فأحرى أن لا يعلم متى تقوم الساعة، ولأنها من مستور الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
قوله :﴿ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ﴾ إنني لا علم لي بالغيب، ولو كنت أعلمه، فأعلم ما هو كائن وما ليس بكائن لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير والمنافع واجتناب المضار والمكاره كيلا يمسني منها شيء، فلا أكون –مثلا- غالبا في الحرب مرة، ومغلوبا مرة أخرى، ورابحا في التجارات مرة، وخاسرا مرة أخرى، ومصيبا في التدبير مرة، ومخطئا مرة أخرى. بل لكنت دائما غالبا ورابحا ومصيبا.
بمثل هذه الصراحة الكاملة وهذا الوضوح التام يأمر الله رسوله الكريم بمخاطبة قومه. خطاب لهم ظاهر ومستبين لا لبس فيه ولا إشكال. خطاب فيه من طهر الغاية والمقصود واستقامة المنهج والأسلوب ووضوح المعنى وكماله ما يزجي بأبلغ برهان على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. لا جرم أن هذه واحدة من الدلائل البلجة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث من عند الله أرسله للعالمين هاديا ومنيرا.
قوله :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ﴾ أي ليس من شأني أن أعلم الغيب بل، إني لست إلا رسولا من عند الله أرسلني إليكم لأنذر عقابه من عصاه منكم وخالف أمره، وأبشر بثوابه وجزائه من آمن به وأطاعه واتقاه، على أن المنتفعين ببشارة الرسول صلى الله عليه وسلم ونذارته هم المؤمنون الذين يستقينون بحقية ما جاءهم به من عند الله. ومن أجل ذلك خص المؤمنين هنا بالذكر١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٣٦ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٨٩ وتفسير الطبري جـ ٩ ص ٩٥- ٩٧..
قوله تعالى :﴿ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهم لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ١٨٩ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ﴾ ذلك إخبار من الله تعالى أنه خلق البشرية من أصل واحد وهو آدم، وخلق من آدم زوجه حواء ﴿ ليسكن إليها ﴾ أي ليستأنس بها ويطمئن ويستريح١، وذلك بعد أن خلقها الله من أحد أضلاعه. وكان ذلك حال كونهما في الجنة. ولما أهبطهما الله إلى الدنيا بدأت بهما مرحلة أخرى جديدة. وتلك هي مرحلة الحياة الدنيا. بما فيها من امتحان طويل وحافل، وبما يتخللها من مشكلات ومعضلات ونائبات وبلايا حتى يرث الله الأرض وما عليها. لقد كانت بداية هذه المرحلة عقب التوالد والتناسل وانبزاغ الذرية. ويشير إلى ذلك قوله :﴿ فلما تغشاها حملت خفيفا ﴾ وهذا كناية عن الجماع. وبذلك حملت حملها الخفيف ؛ أي الحمل غير الظاهر ولا المستبين ﴿ فمرت به ﴾ أي استخفته فقامت به وقعدت من غير تثاقل ولا مشقة.
قوله :﴿ فلما أثقلت دعوا الله لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ صالحا، منصوب ؛ لأنه صفة للمفعول به الثاني المحذوف. والتقدير : ابنا صالحا. والمفعول به الأول الضمير ( نا ) في قوله ﴿ آتيتنا ﴾ ٢ أي لما صارت حواء ذات ثقل، إذ كبر الجنين في بطنها واقتربت ولادته نادى آدم وحواء ربهما قائلين : يا ربنا ﴿ لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين ﴾ والمراد بالصلاح هنا : أن يكون المولود بشرا سويا وليس غيره كبهيمة أو شيئا غير الإنسان. وقيل : الصلاح في استواء الخلق. وقيل : الصلاح في الدين. وقيل : في العقل والتدبير. أو الصلاح في عموم ذلك كله ؛ فقد أقسما ﴿ لئن آتيتنا صالحا ﴾ بكل معاني الصلاح ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ أي ممن يشكرك على خير ما مننت به علينا من الولد السوي الصالح.
١ المعجم الوسيط جـ ١ ص ٤٤٠..
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨١..
قوله :﴿ فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما أتاهما ﴾ المراد بذلك ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده ؛ فإنهم يدعون الله أن يرزقهم الولد الصالح فإذا رزقهما الله إياه جعلوه مشركا لله كما لو جعلوه يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا، أو أشركوا فيما آتاهم الله من الأولاد وذلك بتسميتهم منسوبين إلى الأصنام مثل : عبد العزى، وعبد مناة، وعبد شمس. وما أشبه ذلك بدلا من تسميته بعبد الله أو عبد الرحمن أو عبد القدر ونحو ذلك. ونستبعد أن يكون المراد من ذلك آدم وحواء وإنما المراد المشركون من ذريتهما. ولذلك قال :﴿ فتعالى الله عما يشركون ﴾ ولم يقل : يشركان. وذلك تنزيه من الله نفسه وتعظيم منه لجلاله العظيم عما يخرصه المبطلون من اختلاق الأنداد والآلهة١.
١ الكشاف جـ ٢ ص ١٣٧ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٩١ وتفسير ابن كثير جـ ٢ص ٢٧٥..
قوله تعالى :﴿ أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ١٩١ ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ١٩٢ وإن تدعوهم إلى الهدى ولا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ١٩٣ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ١٩٤ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ١٩٥ إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ١٩٦ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ١٩٧ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعون وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾.
الاستفهام للتوبيخ والتعنيف من الله للمشركين السفهاء الذين يعبدون من دون الله ما لا يخلق شيئا. فهم بسفههم وضلالهم يعبدون الحجر والمدر والبقر. وكذلك يعبدون الطواغيت من البشر. الطواغيت من العتاة الظالمين المفسدين في الأرض، الذين استخفوا العوام م الرعاع و الأنذال و الدهماء من الناس فعبدوهم من دون الله أو أشركوهم في العبادة والخضوع والاستكانة مع الله. لا جرم أن ذلك سفه عظيم وظلم فادح. فهؤلاء المعبودون من دون الله ليسوا غير مخلوقين قاصرين من بين خلائق الله الكثيرين وهم
﴿ ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون ﴾ هؤلاء المعبودون من دون الله على اختلاف أصنافهم وأسمائهم لا يملكون للذين عبدوهم نفعا ولا ضرا ؛ فهم بذلك لا يقدرون على بذل النصر لهم إذا ألم بهم حدث أو مصاب، فضلا عن عجزهم عن تحصيل النصر لأنفسهم.
قوله :﴿ وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ﴾ ذلك تيئيس من هداية الأنداد والآلهة المصطنعة التي يعبدها المشركون السفهاء ؛ أي إن تدعوا هؤلاء الشركاء أو الآلهة المختلفة المفتراة إلى ما هو هدى ورشاد أو تدعوهم إلى أن يهدوكم كما تطلبون من الله والرشاد فإنهم لا يتبعونكم على مرادكم ولا يجيبونكم لما دعوتموهم إليه ؛ ؟ لأنهم صم بكم لا يعقلون. وإن كان المعبودون من البشر ؛ فإن قلوبهم قاسية وغلف، وهم ميئوس من هدايتهم، فأنى بهم –وهم على هذه الحال من طمس القلوب وعمى الأبصار- أن يهتدوا أو يهدوا غيرهم.
قوله :﴿ سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ﴾ أي دعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سيان ؛ فهم لا يعون ولا يبصرون ولا يستجيبون بل إنهم عمي وصم. وقيل : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وضمير النصب للكفار ؛ أي إن تدعوا هؤلاء المشركين الضالين على الهدى لا يقبلوا منكم دعاءكم، فدعاؤكم وصمتكم سيان، أي مثلان١.
١ البحر المحيط جـ ٤ ص ٤٤١ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٥٦..
قوله :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ ذلك توبيخ بالغ للمشركين الضالين السفهاء الذين يعبدون من دون الله آلهة صماء كالأصنام التي لا تسعى ولا تبطش ولا تبصر ولا تسمع. فهم أمثالكم في أنهم عباد مخلوقون مملوكون للخالق. بل إنكم أنتم أفضل منهم في كونكم تنطقون وتسمعون وتعقلون. فأنى لمثل هؤلاء الأشباح الجوامد أن يكونوا معبودين لكم ؟ !
إن لكم السفه بالغ، والحماقة المسفة المغالية التي تنحدر بالتعساء السخفاء إلى سحيق العمه والخبل ! ! كيف بكم وأنتم السامعون المبصرون الناطقون الواعون أن تذعنوا بالخضوع والعبادة لهؤلاء المخاليق وهم ليسوا إلا تماثيل مصفوفة لا تعي ولا تتحرك ؛ إذ ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون، بها ولا آذان يسمعون بها، فكيف يليق بكم وأنتم الواعون المبصرون العقلاء أن تدنوا لهم بالاستكانة والتذلل. وذلك تأويل قوله :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أن لهم آذان يسمعون بها ﴾.
قوله :﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ كيدون، من الكيد، وهو المكر والخبث١. أمر الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين بدعوة شركائهم الأصنام ليكيدوا له جميعا بما شاءوا من وجوه الكيد وهو الخبث والخداع ﴿ فلا تنظرون ﴾ أي لا تمهلون في الكيد لي، ولا تؤخروا عني إنزال الضرر بي بسبب أصنامكم وشركائكم. وذلك أقصى درجات التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم بما يكشف في وضوح عن فساد تصورهم وبطلان ما يعتقدون. وإن يعتقدون إلا الضلال والباطل والسفه٢.
١ القاموس المحيط ص ٤٠٣..
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧٨ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٢..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٤:قوله :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ﴾ ذلك توبيخ بالغ للمشركين الضالين السفهاء الذين يعبدون من دون الله آلهة صماء كالأصنام التي لا تسعى ولا تبطش ولا تبصر ولا تسمع. فهم أمثالكم في أنهم عباد مخلوقون مملوكون للخالق. بل إنكم أنتم أفضل منهم في كونكم تنطقون وتسمعون وتعقلون. فأنى لمثل هؤلاء الأشباح الجوامد أن يكونوا معبودين لكم ؟ !
إن لكم السفه بالغ، والحماقة المسفة المغالية التي تنحدر بالتعساء السخفاء إلى سحيق العمه والخبل ! ! كيف بكم وأنتم السامعون المبصرون الناطقون الواعون أن تذعنوا بالخضوع والعبادة لهؤلاء المخاليق وهم ليسوا إلا تماثيل مصفوفة لا تعي ولا تتحرك ؛ إذ ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون، بها ولا آذان يسمعون بها، فكيف يليق بكم وأنتم الواعون المبصرون العقلاء أن تدنوا لهم بالاستكانة والتذلل. وذلك تأويل قوله :﴿ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أن لهم آذان يسمعون بها ﴾.
قوله :﴿ قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ﴾ كيدون، من الكيد، وهو المكر والخبث١. أمر الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتحدى المشركين بدعوة شركائهم الأصنام ليكيدوا له جميعا بما شاءوا من وجوه الكيد وهو الخبث والخداع ﴿ فلا تنظرون ﴾ أي لا تمهلون في الكيد لي، ولا تؤخروا عني إنزال الضرر بي بسبب أصنامكم وشركائكم. وذلك أقصى درجات التحدي لهم والتعجيز لأصنامهم بما يكشف في وضوح عن فساد تصورهم وبطلان ما يعتقدون. وإن يعتقدون إلا الضلال والباطل والسفه٢.
١ القاموس المحيط ص ٤٠٣..
٢ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧٨ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٢..

قوله : إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } بعد أن بين لهم بطلان عبادتهم وفساد توجههم نحو الأصنام وأراهم أن الله وحده حقيق أن يعبدوه دون غيره، اخبرهم عليه الصلاة والسلام أن الله لهم النصير وأنه المولى المرتجي وهو وحده المقصود الذي يؤيد ويحفظه من المكر والسوء، وينصره عليهم وعلى ضلالاتهم وأباطيلهم. وهو سبحانه الذي نزل القرآن. ﴿ وهو يتولى الصالحين ﴾ أي يحفظهم وينصرهم، ويدرأ عنهم الشرور والعوادي ويحول ما بينهم وبين أعدائهم الماكرين المخادعين الذين يتربصون بالمؤمنين المهالك والدوائر والعقابيل.
قوله :﴿ والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ﴾ ذلك تكرير لتوبيخ القوم المشركين وإهانتهم والتنقص بهم وإظهار سفاهتهم وهوان عقولهم. والمعنى : أن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله لا يملكون نصركم ولا نصر أنفسهم ولا يملكون أن يدفعوا عنكم ولا عن أنفسهم أي سوء و مكروه. فكان من هوان أحلامكم وفساد عقولكم أن تتخذوا لكم آلهة تعبدونها.
وهم كذلك إن دعوتموهم إلى صلاح وخير ولا يسمعوا دعائكم.
قوله :﴿ وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ﴾ الجملة في محل نصب حال ؛ أي والحال أنك نراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون. والمراد هنا الأصنام ؛ فإنها تشبه الناضرين بما جعلوه لها من الأعين المصنوعة التي لا تبصر فكانت بذلك في هيئة الناظرين، وهي في الحقيقة لا ترى شيئا١.
١ فتح القدير جـ ٢ ص ٢٧٨ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٤٤٦ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٦١، ٦٢..
قوله تعالى :﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجهات ١٩٩ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ٢٠٠ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشطان تذكروا فإذا هم مبصرون ٢٠١ وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ﴾.
العفو : المساهلة أو التساهل فيما بينه وبينهم وقبول اليسير منهم وهو الذي يسهل عليهم وأن يترك الاستقصاء عليهم في ذلك. والمعنى : خذ الميسور من أخلاق الرجال ولا تستقص عليهم. وعفو المال ما يفضل عن النفقة١. والمراد هنا العفو في مطالبة الحقوق الواجبة لله تعالى وللناس، وفي معنى ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد :( رحم الله سهل القضاء، سهل الاقتضاء ) ولا ينافي ذلك أن يكون لصاحب الحق والديون وغيرها من الحقوق استيفاء ما له حق وملازمة الغرماء حتى الاستيفاء ؛ لأن ذلك مندوب إليه دون أن يكون وجبا. وقد يكون العفو هنا في قبول العذر من المعتذر وترك المؤاخذة والإساءة. قال عبد الله بن الزبير وجمهور المفسرين في تأويل الآية : اقبل من الناس في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم بما أتى عفوا دون تكلف ولا تحرج. والعفو ضد الجهد ؛ أي لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بقوله :( يسروا ولا تعسروا ) وقيل : سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عم قوله :﴿ خذ العفو ﴾ فاخبره عن الله أنه يأمرك ( أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ). قال ابن عباس وغيره : إن هذه الآية في الأموال قبل فرض الزكاة ؛ إذ أمر أن يأخذ ما سهل من أموال الناس ؛ أي ما فضل وزاد، ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه.
وقيل : الآية في مداراة الكفار وعدم مؤاخذتهم ثم نسخ ذلك بالقتال. والراجح القول الأول، وهو أن الله أمر بمكارم الأخلاق، وأن ذلك حكم مستمر في الناس وليس بمنسوخ.
أما العرف فهو المعروف ؛ أي الجميل من الأفعال والأقوال. قال عنه الطوسي : هو كل ما حسن في العقل فعله أو في الشرع ولم يكن منكرا ولا قبيحا عند العقلاء.
قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ أي إذا أقمت الحجة على المشركين وقد أمرتهم بالمعروف فلم يقبلوا، أعرض عنهم ولا تمارهم بعد ذلك أيما مراء، ولا تسافههم في مقابلة ما يصدر عنهم من المرء والسفاهة. وقيل : إذا تسفه عليك الجاهل فلا تقابله بالسفه، كقوله في الآية :﴿ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ﴾ وهو سلام المتاركة ؛ أي الترك ومجانبة السفه والسفهاء.
قال جعفر الصادق : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وفي هذا الصدد أخرج الترمذي عن عائشة ( رضي الله عنها ) قال :( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفشحا، ولا سخابا٢ في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ؛ لكن يعفو ويصفح ).
وفي الخبر عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وإتمام محاسن الأفعال ).
١ مختار الصحاح ص ٤٤٢..
٢ السخاب، من السخب، بلتحريك بمعنى الصخب. وهو شدة الصوت. ومنه الصخاب. وتصاخبوا؛ أي تصايحوا وتضاربوا. انظر القاموس المحيط ص ١٣٤..
قوله :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ النزغ معناه الإفساد. ( نزغ الشيطان بينهم ) أي أفسد وأغرى١، والمقصود هنا الوسوسة ؛ فقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إذا أدرك شيئا من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله. وهو من الاستعاذة ؛ أي الالتجاء إلى الله ؛ أي إذا اعتراك أو أصابك أو عرض لك من الشيطان وسوسة فاستجر بالله والتجئ إليه ؛ فإنه يدفع عنك كيد الشيطان ويدرأ عنك نسخه ووسوسته، فإن الله سبحانه يسمع منك الدعاء والاستغاثة والالتجاء ويعلمه. وهو قوله :﴿ إنه سميع عليم ﴾.
١ مختار الصحاح ص ٦٥٤..
قوله :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾ ﴿ طائف من الشطان ﴾، أي لم من الشيطان. واللمم ؛ الذنوب الصغيرة ؛ وللمم أيضا طرف من الجنون. واللمة ؛ بفتح اللام بمعنى المس. والعين اللامة ؛ التي تصيب بسوء. يقال : أعيذه من كل هامة ولامة١، فالمراد بالطائف ؛ ما يطوف بالمرء من وسوسة الشيطان. والطيف بمعنى اللمم والمس، وهو أبلغ من النزغ. وهذا بيان لحال المؤمنين المتقين إذا طاف عليهم الشيطان بوساوسه ﴿ تذكروا ﴾ أي تذكروا ما أمرهم به الله وما نهاهم عنه، وعرفوا ما عليهم في ذلك من العقاب. قوله :﴿ فإذا هم مبصرون ﴾ أي منتبهون فمجتنبون ومنتهون عن الآثام.
١ مختار الصحاح ص ٦٠٤..
قوله :﴿ وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يبصرونّ ﴾ أي إخوان الشياطين من المشركين يمدهم الشيطان في الغي، وهو الغواية ؛ أي يطلبون لهم الإغواء ويزيدونهم في الضلالة ويزينون لهم الباطل ﴿ ثم لا يقصرون ﴾ من الإقصار وهو الانتهاء عن الشيء. والمراد الشياطين ؛ فإنهم لا يكفون عن استغواء الكافرين، ولا ينتهون عن إمدادهم بالغي والإضلال١.
١ البحر المحيط جـ ٤ ص ٤٨٨ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٤ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٦٢، ٦٣..
قوله تعالى :﴿ وإذا لم تأتيهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحي إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ اجتبيتها ؛ أي افتعلتها واختلقتها. وجبيتها ؛ أي جمعتها١ ولولا بمعنى هلا. ومعنى الآية : أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يأت المشركين بآية يطلبونها أو يقترحونها قالوا : لم لا تطلبها من ربك ؟ هلا اختلقتها وانتحلتها من عند نفسك ؟ فأمره الله أن يجيبهم بقوله :﴿ إنما أتبع ما يوحي إلى من ربي ﴾ يعني أنا لا آتيكم بالآيات من عند نفسي كما تظنون جهلا وسفها ؛ ولكنني أتبع ما أوحي إلي من عند الله فأبلغكم إياه، وأنا لست في ذلك إلا المكلف المأمور الذي يتبع ما أنزله الله فألتزمه وأعمل بمقتضاه.
قوله :﴿ هذا بصائر من ربكم ﴾ البصائر جمع بصيرة وهي الحجة والدليل والبرهان الواضح النير. والمراد بالإشارة ﴿ هذا ﴾ القرآن ؛ فإنه الدلائل المشرقة الظاهرة والحجج الساطعة البلجة لمن أراد أن ينتفع أو يهتدي أو يتدبر.
قوله :﴿ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾ أي هذا القرآن جاء هداية يهتدي بها من هو جدير بالانتفاع به، والفوز والنجاة بسببه وهم المؤمنون. وهو كذلك رحمة لهم ؛ فهو كله رحمة، سواء فيه الكلمات الباهرة العذاب، أو أسلوبه الشفيف النفاذ، وتصويره الرائع الأخاذ، وكذا مضامينه وما حواه من المعاني والمواعظ والمشاهد والأحكام، كل أولئك يفيض على البشرية بسحائب من الرحمة الغامرة الندية٢.
١ القاموس المحيط ص ١٦٣٨ والمصباح المنير جـ ١ ص ٩٨..
٢ البحر المحيط جـ ٤ ص ٤٥٠ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٦٤- ٦٦..
قوله تعالى :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ١٠٤ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والأصال ولا تكن من الغافلين ١٠٥ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ﴾ أمر الله كل مسلم مكلف إذا قرئ القرآن، أن يستمع له وينصت ؛ أي يسكت ويصغي لسماعه ليتدبر معناه ويعتبر بما فيه مواعظ ودروس، وأن لا يغلو فيه ليرحمه ربه ببركة كتابه الحكيم. واختلف العلماء في الوقت الذي أمروا فيه بالإنصات والاستماع لدى قراءة القرآن. فقد قيل : أمروا إذا كانوا في الصلاة خلف الإمام الذي يأتمون به وهم يسمعون قراءته. فعليهم أن ينصتوا خاشعين وأن لا يقرأوا بل عليهم أن يستمعوا لقراءته. وعن ابن مسعود في ذلك أنه سمع ناسا يقرأون مع الإمام فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفقهوا ﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ﴾ كما أمركم الله.
وقيل : كانوا يتكلمون في صلاتهم ويسلم بعضهم على بعض، وإذا دخل داخل وهم في الصلاة قال لهم : كم صليتم ؟ فيخبرونه، وكان ذلك مباحا في أول الأمر ثم نسخ.
وقيل : هذا أمر من الله بالإنصات للإمام إذا قرأ القرآن في خطبته. والقول الأول أقوى ؛ فهو الراجح ؛ لأنه ليس من حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلا حال قراءة الإمام في الصلاة ؛ فإن على المأمور الإنصات لذلك والاستماع له.
أما خارج الصلاة فلا خلاف أنه لا يجب الإنصات والاستماع إلا على وجه الاستحباب.
قوله :﴿ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول ﴾ ﴿ تضرعا وخفية ﴾ منصوبان على المصدر. وقيل على الحال١ ﴿ وخفية ﴾ بمعنى الخوف. والمراد بذكر الله هنا، القراءة في الصلاة. وهو قول ابن عباس ؛ أي يقرأ سرا في نفسه في صلاة السر ﴿ تضرعا وخفية ﴾ أي متضرعا متذللا إلى الله خائفا من جلاله العظيم ﴿ ودون الجهر من القول ﴾ أي في صلاة الجهر لا يجهر المصلي جهرا شديدا بل في خفض وسكون ؛ فيكون ذلك بين الجهر والمخافتة.
وقيل : المراد بذكر الله، الدعاء في تخشع وضراعة واستكانة، ويكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء.
قوله :﴿ بالغدو والأصال ﴾ أي اذكر ربك داعيا إياه في الغدوات والأصائل. والغدو، جمع غدوة وهي أول النهار. والآصال جمع أصيل. ويجمع أيضا على أصرن. وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. والمقصود هو دوام ذكر الله بالدعاء المتذلل المخلص في هذا الوقت. فإن الدعاء فيه سمة الإخلاص والتقوى، وهو أقرب للاستجابة والقبول.
قوله :﴿ ولا تكن من الغافلين ﴾ فإنه لا يفرط في الدعاء، أو يزهد في الإكثار منه، أو الاهتمام به في هذه الأوقات إلا كل غافل قد انشغل قلبه وذهنه في أمور الدنيا وزينتها ؛ فإنه خليق بالمؤمن أن يذكر ربه بالدعاء الخاشع المستديم من غير كلل ولا ملل ؛ لما في الدعاء من عظيم الأجر والمثوبة ؛ فهو مخ العبادة وعلامة كبرى من علامات الإخلاص للعبد المؤمن.
١ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٨٢..
قوله :﴿ إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحون وله يسجدون ﴾ المرد بالذين عند ربك، الملائكة. وهم عنده ؛ لأنهم قريبون من رحمته سبحانه. وكل قريب من رحمة الله فهو عنده. وقيل : المراد من كونهم عنده، التشريف لهم والتكريم ؛ فهذا عبارة عن قربهم في الكرامة وليس في المسافة. أولئك هم الملائكة الأبرار الأطهار الذين يصلون الليل بالنهار وهم في طاعة الله وعبادته والذين تتبرأ طبيعتهم من الاستكبار أو العصيان. ﴿ ويسبحونه ﴾ أي منشغلون في تعظيمه وتنزيهه عن كل ضعف أو تقص ﴿ وله يسجدون ﴾ أي يصلون ويتذللون. وهم ماضون على حالهم هذا من دوام التذلل والتخشع والعبادة والتسبيح لا يعرفون العصية أو الملالة أو الكلال١.
وهذا موضع سجود للقارئ عند الجمهور. والسجود للتلاوة واجب عند الحنفية، ومندوب عند الملائكة والشافعية. أما صفة السجود : فإن القارئ يكبر إذا خفض وإذا رفع. وهو قول الشافعية والحنبلة. والمشهور من مذهب مالك أنه يكبر للسجدة في الخفض والرفع في الصلاة. أما على من يتوجه حكم السجدة ؛ فقد أجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في الصلاة أو غير الصلاة. أما السامع ؛ فهو عليه أن يسجد عند أبي حنيفة ؛ ومالك في رواية عنه.
على أن السجود للتلاوة يحتاج إلى الصلاة من طهارة حدث وتجس ونية استقبال قبلة. وأما من حيث الوقت : فإنه يسجد في سائر الأوقات مطلقا ؛ لأنها صلاة لسبب. وهو قول الشافعي وآخرين. وقيل : لا يسجد في الأوقات المنتهي عن الصلاة فيها. وهو قول أبي حنيفة ومالك. وليس لسجدة التلاوة من سلام. وهو قول جمهور أهل العلم. وذهب آخرون إلى أنه يسلم منها٢.
١ تفسير الطبري جـ ٩ ص ١١٣ وتفسير البغوي جـ ٢ ص ٢٢٦ والتبيان للطوسي جـ ٥ ص ٦٨ والبحر المحيط جـ ٤ ص ٤٥٠..
٢ تفسير القرطبي جـ ٧ ص ٣٥٧- ٣٥٩ وبداية المجتهد جـ ١ ص ١٨٨- ١٩٠..
Icon