مكية، إلا ﴿ فإن كنت في شك ﴾ الآيتين أو الثلاث أو ﴿ ومنهم من يؤمن به ﴾ الآية مائة وتسع أو عشر آيات وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمسمائة وسبعة وستون حرفاً، وهي أوّل المئين، إن جعلنا براءة مع الأنفال من الطوال، وإلا فبراءة أولاهن.
﴿ بسم الله ﴾ جامع العباد بعد تفريقهم بما له من العظمة والامتنان. ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمهم بالإيجاد وخص منهم من شاء بالإيمان. ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بالرضوان المبيح للجنان.
ﰡ
﴿ الر ﴾ قال ابن عباس والضحاك ﴿ الر ﴾ أنا الله أرى، ﴿ والمر ﴾ أنا الله أعلم وأرى. وقيل : أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير : الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة، واتفقوا على أنّ ﴿ الر ﴾ وحده ليس آية، واتفقوا على أنّ قوله :﴿ طه ﴾ وحده آية، والفرق أنّ قوله تعالى : الر لا يشاكل كل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه ؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها، وورش بين اللفظين، والباقون بالإمالة المحضة. ﴿ تلك ﴾ أي : الآيات العظيمة جدًّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنَّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. ﴿ آيات الكتاب ﴾ أي : الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً ؛ لأنه لم يكن يعرف شيئاً من الكتابين ولا جالس أحداً يعلمه. ﴿ الحكيم ﴾ أي : المحكم.
وقوله تعالى :
﴿ أكان للناس ﴾ أي : أهل مكة، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى :
﴿ عجباً ﴾ خبر كان، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة، ثم ذكر الحامل على العجب ؛ وهو اسم كان بقوله تعالى :
﴿ أن أوحينا ﴾ أي : إيحاؤنا
﴿ إلى رجل منهم ﴾ أي : من أهل مكة ومن قريش، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، يعرفون صدقه ونسبه وأمانته، قيل : كانوا يقولون : العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة، وهو لم يكن صلى الله عليه وسلم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال، وخفة المال أهون شيءٍ في هذا الباب، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك، وقد قال الله تعالى :
﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ﴾ [ سبأ : ٣٧ ].
﴿ أن أنذر الناس ﴾ عامّة، أي : أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره، وأن هي المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول.
﴿ وبشر الذين آمنوا ﴾ إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به.
﴿ أنَّ ﴾ أي : بأنَّ.
﴿ لهم قدم ﴾ أي : سلف
﴿ صدق عند ربهم ﴾ اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقال ابن عباس : أجراً حسناً مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد : الأعمال الصالحة : صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء : مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم : مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر :
صل لذي العرش واتخذ قدما | ينجيك يوم العثار والندم |
وهو مؤنث فيقال : قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى :
﴿ قال الكافرون إنَّ هذا لسحر مبين ﴾ قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنَّ الإشارة للقرآن المشتمل على ذلك، والباقون بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء على أنّ الإشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
﴿ إنّ ربكم ﴾ الموجد لكم والمربي والمحسن هو ﴿ الله الذي خلق ﴾ أي : قدّر وأوجد ﴿ السماوات والأرض ﴾ على اتساعهما، وكثرة ما فيهما من المنافع ﴿ في ستة أيام ﴾ من أيام الدنيا، أي : في قدرها ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس، ولو شاء لخلقهما في لمحة، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت. فإن قيل : إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته، وقد يراد به النهار وحده. فما المراد ؟ أجيب : بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار، الواسع الانتشار، المفتقر إلى عظيم التدبير، ولطيف التصريف والتقدير ؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي :﴿ ثم استوى ﴾ أي : عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك. ﴿ على العرش ﴾ المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة، وليست ثم للترتيب، بل كناية عن علوِّ الرتبة، وبعد منازلها، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله :﴿ يدبر الأمر ﴾ كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور ؛ لأنَّ التدبير أعدل أحوال الملك، فالاستواء كناية عنه. وقوله تعالى :﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ تقرير لعظمته جل وعلا، وردّ على من زعم أنَّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ﴿ ذلكم الله ﴾ أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية ﴿ ربكم ﴾ أي : الذي يستحق العبادة منكم. ﴿ فاعبدوه ﴾ أي : وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع، فإنَّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة، وقوله تعالى :﴿ أفلا تذكرون ﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال، أي : أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية، والعبادة لا ما تعبدونه.
﴿ إليه ﴾ تعالى ﴿ مرجعكم ﴾ أي : رجوعكم بالموت والنشور حالة كونكم ﴿ جميعاً ﴾ لا يتخلف منكم أحد، فاستعدّوا للقائه. وقوله تعالى :﴿ وعد الله ﴾ مصدر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لنفسه ؛ لأن قوله تعالى :﴿ إليه مرجعكم ﴾ وعد من الله، وقوله تعالى :﴿ حقاً ﴾ أي : صدقاً لا خلف فيه مصدر آخر منصوب بفعله المقدّر مؤكد لغيره، وهو ما دل عليه وعد الله. ﴿ إنه يبدأ الخلق ﴾ أي : يحييهم ابتداءً. ﴿ ثم يعيده ﴾ أي : ثم يميتهم ثم يحييهم. وفي هذا دليل على الحشر والنشر والمعاد، وصحة وقوعه، وردّ على منكري البعث ووقوعه ؛ لأنّ القادر على خلق هذه الأجسام المؤلفة، والأعضاء المركبة على غير مثال سبق، قادر على إعادتها بعد تفريقها بالموت والبلى، فيركب تلك الأجزاء المتفرقة تركيباً ثانياً، ويخلق الإنسان الأوّل مرّة أخرى، فإذا ثبت القول بصحة المعاد والبعث بعد الموت ؛ كان المقصود منه إيصال الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، وهو قوله تعالى :﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط ﴾ أي : بالعدل، لا ينقص من أجورهم شيئاً. ﴿ والذين كفروا لهم شراب من حميم ﴾ وهو ماء حار قد انتهى حرّه ﴿ وعذاب أليم ﴾ أي : بالغ في الإيّلام. ﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ أي : بسبب كفرهم.
﴿ هو الذي جعل الشمس ضياءً ﴾ أي : ذات ضياء ﴿ والقمر نوراً ﴾ أي : ذا نور، وخص الشمس بالضياء ؛ لأنها أقوى وآكد من النور، وخص القمر بالنور ؛ لأنه أضعف من الضياء، لأنّ الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نير بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها. وقرأ قنبل بهمزة مفتوحة ممدودة بعد الضاد، والباقون بياء مفتوحة، والضمير في قوله تعالى :﴿ وقدّره منازل ﴾ يرجع إلى الشمس والقمر ؛ أي : قدّر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدّره ذا منازل، أو يرجع إلى القمر فقط، وتخصيصه بالذكر لسرعة مسيره ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به، ولذلك علله بقوله تعالى :﴿ لتعلموا عدد السنين والحساب ﴾ أي : حساب الأوقات من الأشهر والأيام في معاملاتكم وتصرّفاتكم ؛ لأنّ الشهور المعتبرة في الشريعة مبنية على رؤية الأهلة، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية، كما قال تعالى :﴿ إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله ﴾ [ التوبة : ٣٦ ].
فائدة : منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً، وأسماؤها : السرطان، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعوّا، والسماك، والغفر، والزباني، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدلو المقدّم، وفرغ الدلو المؤخر، وبطن الحوت. وهذه المنازل مقسومة على البروج وهي اثنا عشر برجاً : الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. فلكل برجٍ منزلان وثلث، فينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً، فيستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين، وإن كان تسعاً وعشرين فليلة واحدة، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل ويكون مقام الشمس في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها، أو انتفاع الخلق بضوء الشمس، وبنور القمر عظيم، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى هذه الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظم مصالح هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، والنهار يكون زماناً للتكسب وللطلب، والليل يكون زماناً للراحة.
﴿ ما خلق الله ذلك ﴾ المذكور. ﴿ إلا بالحق ﴾ أي : لم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً تعالى الله عن ذلك إظهاراً لقدرته، ودلائل وحدانيته. ونظيره قوله تعالى في آل عمران :﴿ ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ]. وقال تعالى في سورة أخرى :﴿ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا ﴾ [ ص، ٢٧ ]. ﴿ يفصل ﴾ أي : يبين ﴿ الآيات ﴾ أي : الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة بياناً شافياً. ﴿ لقوم يعلمون ﴾ فإنهم المنتفعون بالتأمّل فيها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالياء، والباقون بالنون.
ولما استدل سبحانه وتعالى على إثبات الإلهية والتوحيد بقوله تعالى :﴿ إنّ ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ]، وثانياً بأحوال الشمس والقمر، استدل ثالثاً بقوله تعالى :﴿ إن في اختلاف الليل والنهار ﴾ أي : بالمجيء والذهاب، والزيادة والنقصان، ورابعاً بقوله تعالى :﴿ وما خلق الله في السماوات ﴾ من ملائكة وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك. ﴿ و ﴾ ما خلق الله في ﴿ الأرض ﴾ من حيوان وجبال وبحار وأنهار وأشجار وغير ذلك.
فائدة : أقسام الحوادث في هذا العالم محصورة في أربعة أقسام، أحدها : الأحوال الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرعد والبرق والسحاب والأمطار، ويدخل فيها أيضاً أحوال البحار والصواعق والزلازل والخسف، وثانيها : أحوال المعادن وهي عجيبة كثيرة، وثالثها : اختلاف أحوال النبات، ورابعها : اختلاف أحوال الحيوانات، وجملة هذه الأقسام الأربعة داخلة في قوله تعالى :﴿ وما خلق الله في السماوات ﴾ [ يونس : ٦ ]. والاستقصاء في شرح هذه الأحوال لا يدخل تحت الحصر، بل كل ما ذكر العقلاء في أحوال أقسام هذا العالم فهو جزء مختصر من هذا الباب.
﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على قدرته تعالى. ﴿ لقوم يتقون ﴾ الله فإنه يحملهم على التفكر والتذكر، وخصهم بالذكر ؛ لأنهم المنتفعون بها. قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أنّ الدنيا مخلوقة لشقاء الناس فيها، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم، بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بإثبات المبدأ وإثبات المعاد.
ولما أقام الله سبحانه وتعالى الدلائل القاهرة على صحة القول بإثبات الإله الرحمن، وعلى صحة القول بإثبات الإله الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ؛ شرع في شرح أحوال من يكفر بها، وشرح أحوال من يؤمن بها، وقد ابتدأ بأوّلها ووصفه بأربع صفات مبتدئاً بأوّلها بقوله تعالى :
﴿ إنّ الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي : لا يخافونه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، فهم مكّذبون بالثواب والعقاب والرجاء، يكون بمعنى الخوف، وبمعنى الطمع، فمن الأوّل قول العرب : فلان لا يرجو فلاناً، بمعنى لا يخافه، ومنه قوله تعالى :﴿ ما لكم لا ترجون لله وقاراً ﴾ [ نوح : ١٣ ]، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
إذ لسعته النحل لم يرج لسعها ***
أي : لم يخفها. ومن الثاني قولهم : فلان يرجو فلاناً، أي : يطمع فيه، والمعنى : لا يطمعون في ثوابنا، والصفة الثانية والثالثة : قوله تعالى :﴿ ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ﴾ فيعملون لها عمل المقيم فيها مع ما يشاهدونه من سرعة زوالها منهمكين في لذاتها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من لا ينزع عنها، والصفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ والذين هم عن آياتنا ﴾ أي : دلائل وحدانيتنا ﴿ غافلون ﴾ تاركون النظر فيها، بمنزلة الغافل عن الشيء الذي لا يخطر بباله طول عمره ذكر ذلك الشيء، وبالجملة فهذه الصفات الأربعة دالة على شدّة بعدهم عن طلب الاستعداد بالسعادات الأخروية، ويحتمل أنَّ الصفة الأخيرة لفريق آخر، ويكون المراد بالأوّلين : من أنكر البعث، ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخر : من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له.
ولما وصفهم الله تعالى بتلك الصفات قال :﴿ أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ﴾ من الشرك والمعاصي.
ولما شرح أحوال المنكرين الجاحدين ذكر تعالى شرح من يؤمن بها فقال :﴿ إنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ والأعمال الصالحة عبارة عن الأعمال التي تحمل النفس على ترك الدنيا وطلب الآخرة، والأعمال المذمومة مما يكون بالضدّ من ذلك. ﴿ يهديهم ﴾ أي : يرشدهم. ﴿ ربهم بإيمانهم ﴾ أي : بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لما يريدونه في الجنة، أو لإدراك الحقائق، كما قال صلى الله عليه وسلم «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم ». وقال مجاهد : المؤمنون يكون لهم نور يمشي بهم إلى الجنة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إنَّ المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة، فيقول : أنا عملك. فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة، والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة، فيقول : أنا عملك، فينطلق به حتى يدخله النار ». ومفهوم ترتبِ الهداية على الإيمان، والعمل الصالح قد دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان والعمل الصالح، لكن دل منطوق قوله جل وعلا :﴿ بإيمانهم ﴾ [ يونس : ٩ ]. على استقلال الإيمان بالسببية، وأن العمل الصالح كالتتمة والرديف، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالإيمان والأعمال الصالحة ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم ومراتب سعاداتهم، وهي أربعة الأولى : قوله تعالى :﴿ تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم ﴾ أي : يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، ينظرون إليها من أعالي أسرتهم وقصورهم، ونظيره قوله تعالى :﴿ قد جعل ربك تحتك سرياً ﴾ [ مريم : ٢٤ ] فهي ما كانت قاعدة عليه، ولكن المعنى : بين يديك، وكذا قوله :﴿ وهذه الأنهار تجري من تحتي ﴾ [ الزخرف : ٥١ ]، أي : بين يدي فكذا هنا.
الثانية قوله تعالى :﴿ دعواهم فيها ﴾ قال بعض المفسرين : أي : طلبهم لما يشتهون في الجنة أن يقولوا :﴿ سبحانك ﴾ أي : ننزهك من كل سوء ونقيصة. ﴿ اللهمّ ﴾ أي : يا الله، فإذا ما طلبوا بين أيديهم على موائد، كل مائدة ميل في ميل، على كل مائدة سبعون ألف صحفة، في كل صحفة لون من الطعام لا يشبه بعضها بعضاً، فإذا فرغوا من الطعام حمدوا الله تعالى، فذلك قوله تعالى :﴿ وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ﴾. وأن المراد بقوله ﴿ سبحانك اللهم ﴾ اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد والتقديس لله تعالى، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر سرورهم وابتهاجهم وكمال لذاتهم وهذا أولى، ويدل عليه ما روي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتمخطون. قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : جشاء ورشح كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس »، أي : يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقاً.
الثالثة : قوله تعالى :﴿ وتحيتهم ﴾ فيما بينهم وتحية الملائكة لهم ﴿ فيها ﴾ أي : الجنة ﴿ سلام ﴾ وتأتيهم الملائكة أيضاً من عند ربهم بالسلام. قال تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ٢٣ سلام عليكم ﴾ [ الرعد : ٢٣، ٢٤ ]. وقال تعالى :﴿ سلام قولاً من رب رحيم ﴾ [ يس : ٥٨ ].
الرابعة : قوله تعالى :﴿ وآخر دعواهم ﴾ أي : وآخر دعائهم. ﴿ أن الحمد لله رب العالمين ﴾ أي : أن يقولوا ذلك، وأن هي المخففة من الثقيلة، وقد ذكرنا أنَّ بعض المفسرين حمل التسبيح والتحميد على أحوال أهل الجنة بسبب المأكول والمشروب، فإنهم إذا اشتهوا شيئاً قالوا :﴿ سبحانك اللهم ﴾ [ يونس، ١٠ ] فيحصل ذلك الشيء، فإذا فرغوا منه قالوا :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ [ الفاتحة، ٢ ] فترتفع الموائد عند ذلك.
قال الرازي : وهذا القائل ما رقى نظره في دنياه وأخراه عن المأكول والمشروب، وحقيق بمثل هذا الإنسان أن يعدّ في زمرة البهائم، وأما المحققون فقد تركوا ذلك. اه. ولا تنبغي هذه المبالغة، فقد قاله البغوي، وتبعه جماعة من المفسرين. وقال الزجاج : أعلمَ اللهُ أنّ أهل الجنة يفتتحون بتعظيم الله تعالى وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. قال البيضاوي : المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام.
ولما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله ورضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، وكانوا عن آيات الله غافلين ؛ بيّن أن مِنْ غفلتهم أنّ الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً بقوله تعالى :
﴿ ولو يعجل الله للناس الشرّ ﴾ أي : ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم بالشر فيما لهم فيه مضرة ومكروه ﴿ استعجالهم بالخير ﴾ أي : كما يحبون أن يعجل لهم إجابتهم بالخير ﴿ لقضي إليهم أجلهم ﴾ أي : لأهلكهم، ولكن يمهلهم. نزلت في النضر بن الحارث حين قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليم، ويدل عليه قوله تعالى :﴿ فنذر ﴾ أي : فنترك. ﴿ الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم ﴾ أي : في تمردّهم وعتوهم. ﴿ يعمهون ﴾ أي : يتردّدون متحيرين. وقال ابن عباس : هذا في قول الرجل عند الغضب لأهله وولده : لعنكم الله، لا بارك الله فيكم. وقال قتادة : هو دعاء الرجل على نفسه وأهله وماله بما يكره أن يستجاب له فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" اللهم إني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه، إنما أنا بشر، فأيّ المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليّ يوم القيامة ".
فإن قيل : قابل التعجيل في الآية بالاستعجال، وكان مقتضى النظم أن يقابل التعجيل بالتعجيل والاستعجال بالاستعجال، أجيب : بأنَّ تقدير الكلام : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالاً كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه، وقال في «الكشاف » : أصل هذا الكلام : ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم بالخير إلا أنه وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم بالخير شعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كان استعجالهم بالخير تعجيل لهم.
ولما حكى تعالى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب، بين أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال بقوله تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان ﴾ أي : الكافر ﴿ الضرّ ﴾ أي : المرض والفقر ﴿ دعانا لجنبه ﴾ أي : على جنبه مضطجعاً ﴿ أو قاعداً أو قائماً ﴾ وفائدة التردّد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، والمعنى : أنّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه فإنه يتضرّع إلى الله تعالى في إزالته عنه، وفي دفعه عنه، وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في طلب الاستعجال ﴿ فلما كشفنا عنه ضرّه ﴾ أي : أزلنا عنه ما نزل به، ﴿ مرّ ﴾ أي : مضى على ما كان عليه من الكفر، ﴿ كأن لم يدعنا ﴾ أي : كأنه، فأسقط الضمير على سبيل التخفيف، ونظيره قوله تعالى :﴿ كأن لم يلبثوا ﴾ [ يونس، ٤٥ ]. ﴿ إلى ضرَ مسه ﴾. قال الحسن : نسي ما كان دعا الله فيه، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه، وإنما حمل الإنسان في هذه الآية على الكافر ؛ لأنَّ العمل المذكور لا يليق بالمسلم البتة، وقول بعضهم : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد هو الكافر مردود، فقد قال تعالى :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ﴾ [ الإنسان : ١ ]. وقال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ]. وقال تعالى :﴿ ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ﴾ [ ق، ١٦ ] وأما المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة، وجب عليه رعاية أمورٍ :
أوّلها : أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه، وإنما وجب عليه ذلك ؛ لأنّه تعالى مالك على الإطلاق، وملك بالاستحقاق، فله أن يفعل في ملكه ما شاء، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق، وهو منزه عن فعل العبث، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب، فيجب عليه الصبر وترك القلق، فإن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل، وإن أزالها عنه فهو فضل.
وثانيها : أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى، والثناء عليه بدلاً عن الدعاء، كان أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى :«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين »، ولأنّ الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق والاشتغال بالدعاء، اشتغال بطلب حظ النفس، ولا شك أنَّ الأوّل أفضل. وثالثها : أنه تعالى إذا أزال عنه تلك البلية وجب عليه أن يبالغ في الشكر، وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء، وأحوال الشدّة والرخاء، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء، وحينئذ يكون المؤمن على الضدّ من الكافر ؛ لأنَّ الكافر منهمك في الشهوات، والإعراض عن العبادات. كما قال تعالى :﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ما زين لهؤلاء الكافرين هذا العمل القبيح. ﴿ زين للمسرفين ﴾ أي : المشركين ﴿ وما كانوا يعملون ﴾ من القبائح لإعراضهم عن الذكر واتباعهم الشهوات، وإنما سمي الكافر مسرفاً ؛ لأنّه أتلف نفسه بتضييعها في عبادة الأوثان، وأتلف ماله في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والمزين هو الله تعالى ؛ لأنه مالك الملك، والخلق كلهم عبيده يتصرّف فيهم كيف شاء، وقيل : هو الشيطان وذلك بإقدار الله تعالى إياه على ذلك، وإلا فهو أخس وأحقر.
﴿ ولقد أهلكنا القرون ﴾ أي : الأمم الماضية. ﴿ من قبلكم ﴾ يا أهل مكة. ﴿ لما ظلموا ﴾ أي : حين أشركوا، وقوله تعالى :﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ أي : بالحجج الدالة على صدقهم، حال من الواو وبإضمار قد أو عطف على ظلموا. ﴿ وما ﴾ أي : والحال أنهم ما ﴿ كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : وما استقام لهم أن يؤمنوا، ولو جاءتهم كل آية لعلمه تعالى بأنهم يموتون على كفرهم، واللام لتأكيد النفي. ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الجزاء العظيم وهو إهلاكهم لما كذبوا رسلهم ﴿ نجزي القوم المجرمين ﴾ أي : نجزيكم يا أهل مكة بتكذيبكم محمداً صلى الله عليه وسلم، فوضع المظهر موضع المضمر للدّلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه.
﴿ ثم جعلناكم ﴾ أي : أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا ﴿ خلائف ﴾ جمع خليفة ﴿ في الأرض من بعدهم ﴾ أي : استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر ﴿ لننظر ﴾ ونحن أعلم بكم من أنفسكم في علم الشهادة لإقامة الحجة. ﴿ كيف تعملون ﴾ من خير أو شر فنجازيكم به، وقد مرّ نظائر هذا، ومنه قوله تعالى :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ﴾ [ هود : ٧ ]. وقال صلى الله عليه وسلم «إنّ الدنيا خضرة حلوة، وإنّ الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ». وقال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار. قال الزجاج : وموضع كيف نصب بقوله تعملون، أي : لا معمول ننظر ؛ لأنها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ؛ لأنّ له صدر الكلام فلا يتقدمه عامله، وظاهر كلامه أنّ كيف مفعول لتعملون، وجمهور النحاة على أنه حال من ضمير تعملون.
﴿ وإذا تتلى عليهم ﴾ أي : وإذا قرئ على هؤلاء المشركين. ﴿ آياتنا ﴾ أي : القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد حالة كون تلك الآيات ﴿ بينات ﴾ أي : ظاهرات تدل على وحدانيتنا وصحة نبوّتك. ﴿ قال الذين لا يرجون لقاءنا ﴾ أي : لا يخافون عذابنا، ولا يرجون ثوابنا ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث بعد الموت، وكل من كان منكراً للبعث بعد الموت ؛ فإنه لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً. ﴿ ائت ﴾ أي : من عندك ﴿ بقرآن ﴾ أي : كلام مجموع جامع لما نريد. ﴿ غير هذا ﴾ في نظمه ومعناه. ﴿ أو بدله ﴾ بألفاظ أخرى، والمعاني باقية، وقد كانوا عالمين بأنه صلى الله عليه وسلم مثلهم في العجز عن ذلك، ولكنهم قصدوا أن يأخذ في التغيير حرصاً على إجابة مطلوبهم، فيبطل مدعاه أو يهلك، واختلف في هذا القائل.
فقال قتادة : هم مشركو أهل مكة. وقال مقاتل : هم خسمة نفر : عبد الله بن أمية الجمحي، والوليد بن المغيرة، ومكدر بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاصي بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد أن نؤمن بك فأت بقرآن ليس فيه ترك لعبادة اللات والعزى ومناة، وليس فيه عيبها، وإن لم ينزله الله فقل أنت من عند نفسك أو بدله، فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، أو مكان حرام حلالاً، أو مكان حلالاً حراماً، ولما كان كأنه قيل فماذا أقول لهم ؟ قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ ما يكون ﴾ أي : ما يصح ﴿ لي ﴾ ولا يتصوّر بوجه من الوجوه ﴿ أن أبدله من تلقاء ﴾ أي : قبل ﴿ نفسي ﴾ وإنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء والباقون بالسكون ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أتبع إلا ما يوحى إليّ ﴾ فيما آمركم به أو أنهاكم عنه، أي : لا آتي بشيء ولا أذر شيئاً من نحو ذلك إلا متبعاً لوحي الله تعالى وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إليّ تبديل ولا نسخ ﴿ إني أخاف إن عصيت ربي ﴾ أي : بتبديله ﴿ عذاب يوم عظيم ﴾ فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو لي وإني بفتح الياء، والباقون بالسكون.
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين طلبوا منك تغيير القرآن وتبديله ﴿ لو شاء الله ما تلوته عليكم ﴾ أي : لو شاء الله لم ينزل هذا القرآن، ولم يأمرني بقراءته عليكم ﴿ ولا أدراكم به ﴾ أي : ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ ابن كثير بخلاف عن البزي بقصر الهمزة بعد اللام جواب لو، أي : لأعلمكم به على لسان غيري، والباقون بالمدّ المنفصل. وقوله تعالى :﴿ فقد لبثت ﴾ أي : مكثت قراءة نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء عند التاء والباقون بالإدغام ﴿ فيكم عمراً ﴾ سنين أربعين ﴿ من قبله ﴾ أي : قبل أن يوحى إليَّ هذا القرآن لا أتلوه ولا أعلمه، ففي ذلك إشارة إلى أنّ هذا القرآن معجز خارق للعادة.
وتقريره : أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوّل عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله وأنه ما طالع كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول، ودقائق علم الأحكام ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوّلين، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم، فإنه يعرف أن مثل هذا لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله تعالى ﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر لتعلموا أنَّ مثل هذا الكتاب العظيم على من لم يتعلم ولم يتتلمذ ولم يطالع كتاباً، ولم يمارس مجادلة، أنه لا يكون إلا على سبيل الوحي من الله تعالى، لا من مثلي، وهذا جواب عمّا دسوه تحت قولهم ﴿ ائت بقرآن غير هذا ﴾ من إضافة الإفتراء إليه.
تنبيه : أقام صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحي إليه بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر فأقام بالمدينة عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال النووي : ورد في عمره صلى الله عليه وسلم ثلاث روايات : إحداها : أنه توفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستين سنة. والثانية : خمس وستون سنة. والثالثة : ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها، وتأوّلوا رواية ستين بأنَّ راويها اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس أيضاً متأوّلة، وحصل فيها اشتباه.
ولما أقيمت الدلائل على أنّ هذا القرآن من عند الله وجب أن يقال : إنه ليس في الدنيا أحد أجهل ولا أظلم على نفسه من منكر ذلك كما قال تعالى :﴿ فمن ﴾ أي : لا أحد ﴿ أظلم ممن افترى ﴾ أي : تعمد ﴿ على الله كذبا ﴾ أي : أيّ كذب كان من شريك أو ولد أو غير ذلك، وكأنّ الأصل مبنيّ على تقدير أن يكون هذا القرآن من عند الله، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ﴿ أو كذب بآياته ﴾ أي : دلائل توحيده فكفر بها كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب، وقوله تعالى :﴿ إنه ﴾ أي : الشأن ﴿ لا يفلح ﴾ بوجه من الوجوه ﴿ المجرمون ﴾ أي : المشركون تأكيد لما سبق من هذين الوصفين.
﴿ ويعبدون ﴾ أي : هؤلاء المشركون ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ ما لا يضرّهم ﴾ أي : إن لم يعبدوه ﴿ ولا ينفعهم ﴾ أي : إن عبدوه، وهو الأصنام ؛ لأنها حجارة وجماد لا تضرّ ولا تنفع، والكافرون قادرون على التصرف فيها تارة بالإصلاح وتارة بالإفساد، وإذا كان العابد أصلح حالاً من المعبود كانت العبادة باطلة ؛ لأنّ العبادة أعظم أنواع التعظيم، فلا تليق إلا بمن يضرّ وينفع، بأن يثيب على الطاعة، ويعاقب على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة يعبدون العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة. ﴿ ويقولون هؤلاء ﴾ أي : الأصنام التي نعبدها. ﴿ شفعاؤنا عند الله ﴾ ونظيره قوله تعالى إخباراً عنهم :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾. [ الزمر، ٣ ]. وقيل : إنهم وضعوا هذه الأصنام والأوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يكونون شفعاء لهم عند الله. قال الرازي : ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله. اه. ولكن تعظيمهم لهؤلاء ليس كتعظيم الكفار، وفي هذه الشفاعة قولان :
أحدهما : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم فيما يهمهم من أمور الدنيا في إصلاح معايشهم. قاله الحسن ؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعث الموتى.
والثاني : أنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الآخرة إن يكن بعث، قاله ابن جريج عن ابن عباس، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة موجدهم الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعاً أنه لا يضرّ ولا ينفع، على توّهم أنه ربما يشفع لهم. قال النضر بن الحارث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. وقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ أتنبئون ﴾ أي : تخبرون ﴿ الله ﴾ وهو العالم بكل شيء المحيط بكل محيط. ﴿ بما لا يعلم ﴾ أي : لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات، استفهام إنكار تهكم بهم، وبما ادّعوه ومن المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبؤوا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه. وقوله تعالى :﴿ في السماوات ولا في الأرض ﴾ تأكيد لنفيه ؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم، وهذا على طريق الإلزام، والمقصود نفي علم الله بذلك الشفيع، وأنه لا وجود له البتة ؛ لأنه لو كان موجوداً لكان معلوماً لله تعالى وحيث لم يكن معلوماً لله تعالى، وجب أن لا يكون معلوماً موجوداً، وهذا مثل مشهور في العرب، فإنّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه يقول : ما علم الله ذلك مني ؛ ومقصوده أنه ما حصل ذلك الشيء منه قط ولا وقع. ﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له عن كل شيء فيه شائبة نقص. ﴿ وتعالى عما يشركون ﴾ ما مصدرية أو موصولة، أي : عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب، لقوله :﴿ أتنبئون الله ﴾ والباقون بالياء على الغيبة، فكأنه قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم قل أنت : سبحانه وتعالى عما يشركون، ويجوز أن يكون الله سبحانه و تعالى هو الذي نزه نفسه عما قالوه، فقال : سبحانه و تعالى عما يشركون.
ولما أقام تعالى الدلالة القاهرة على فساد القول بعبادة الأصنام بيّن السبب في كيفية حدوث هذا المذهب الفاسد بقوله :﴿ وما كان الناس إلا أمَّة واحدة ﴾ أي : جميعاً على الدين الحق وهو دين الإسلام. وقيل على الضلال في فترة الرسل، واختلف القائلون بالأوّل أنهم متى كانوا كذلك. ؟ فقال ابن عباس ومجاهد : كانوا على دين الإسلام من لدن آدم إلى أن قَتَلَ قابيلُ هابيلَ. وقال قوم : إلى زمن نوح، وكانوا عشرة قرون. ثم اختلفوا في عهد نوح فبعث الله تعالى إليهم نوحاً. وقال آخرون : كانوا على دين الإسلام من زمن نوح بعد الغرق حيث لم يذر الله على الأرض من الكافرين ديّاراً إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقال آخرون : من عهد إبراهيم عليه السلام إلى زمن عمرو بن لحي، وهذا القائل قال : المراد من الناس في قوله تعالى :﴿ وما كان الناس إلا أمة واحدة ﴾ العرب خاصة. ﴿ فاختلفوا ﴾ بأن ثبت بعض وكفر بعض. ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ وهو تأخير الحكم إلى يوم القيامة، وقيل : تلك الكلمة هي قوله سبحانه :" سبقت رحمتي غضبي ". فلما كانت رحمته غالبة اقتضت تلك الرحمة الغالبة إسبال الستر على الجاهل الضال، وإمهاله إلى وقت الوجدان ﴿ لقضي بينهم ﴾ أي : الناس بنزول العذاب في الدنيا دون يوم القيامة ﴿ فيما فيه يختلفون ﴾ من الدين بإهلاك المبطل، وإبقاء المحق، وكان ذلك فصلاً بينهم.
﴿ ويقولون ﴾ أي : كفار مكة ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ﴿ أنزل عليه ﴾ أي : محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ آية من ربه ﴾ أي : غير ما جاء به كما كان للأنبياء من الناقة والعصا واليد ﴿ فقل ﴾ يا محمد لهؤلاء الكفرة المعاندين ﴿ إنما الغيب ﴾ أي : ما غاب عن العباد أمره ﴿ لله ﴾ أي : هو المختص بعلمه، ومنه الآيات فلا يأتي بها إلا هو وإنما عليّ التبليغ ﴿ فانتظروا ﴾ أي : نزول ما اقترحتموه. وقيل نزول العذاب إن لم يؤمنوا ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ أي : لما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحودكم الآيات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة في الآيات، رقية المسلك بين المعجزات مع عجزكم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا
﴿ وإذا أذقنا الناس ﴾ أي : كفار مكة ﴿ رحمة ﴾ أي : صحة وسعة ﴿ من بعد ضرّاء ﴾ أي : شدّة وبلاء ﴿ مستهم ﴾ سلط الله تعالى القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك فلم يتعظوا بذلك، بل رجعوا إلى العناد والكفر كما قال تعالى :﴿ إذا لهم مكر في آياتنا ﴾ بالاستهزاء والتكذيب، وقيل : لا يقولون هذا من رزق الله، إنما يقولون : سُقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله تعالى ليصبح القوم بالنعمة ويمسيهم بها فيصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا » والنوء عند العرب : هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره ﴿ قل الله ﴾ أي : قل لهم يا محمد الله ﴿ أسرع مكراً ﴾ منكم، أي : أعجل عقوبة وأشدّ أخذاً وأقدر على الجزاء. ومعنى الوصف بالأسرعية : أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم والمكر إخفاء الكيد وهو من الله تعالى، أمّا الاستدراج أو الجزاء على المكر، فإنهم لما قابلوا نعمة الله بالمكر قابل مكرهم بأشد منه، وهو إمهالهم إلى يوم القيامة. ﴿ إن رسلنا ﴾ أي : الحفظة الكرام الكاتبين ﴿ يكتبون ما تمكرون ﴾ لأنهم وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً، ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما تفعلونه، ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأمّا هو سبحانه وتعالى فإنه إذا قضى قضاء لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا بإطلاعه فكيف بغيرهم، وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره علم أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بالرفع.
ثم أخذ سبحانه وتعالى يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الآية قبلها ؛ لأن المعنى الكلي لا يصل إلى أفهام السامعين إلا بذكر مثال جلي واضح، يكشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي فقال :
﴿ هو الذي يسيركم ﴾ أي : يحملكم على السير في كل وقت تسيرون فيه لا تقدرون على الإنفكاك عنه ويمكنكم منه، ﴿ في البرّ والبحر ﴾ أي : يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما. وقرأ ابن عامر بعد الياء الأولى بنون ساكنة بعدها شين معجمة مضمومة، والباقون بسين مهملة مفتوحة بعدها ياء مكسورة مشدّدة.
ولما كان العطب بسير البحر أظهر مع أنَّ السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات بيّنه معرضاً عن ذكر البر بقوله تعالى :﴿ حتى إذا كنتم ﴾ أي : كوناً لا براح لكم منه. ﴿ في الفلك ﴾ أي : السفن، فإن قيل : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر مع أنَّ الكون في الفلك متقدّم لا محالة على التسيير في البحر ؟ أجيب : بأنه لم يجعل الكون في الفلك غاية للتسيير، بل تقدير الكلام كأنه قيل : هو الذي يسيركم حتى إذا وقع في جملة تلك التسييرات الحصول في الفلك كان كذا وكذا، ولفظ الفلك يطلق على الواحد وعلى الجمع، فإن أريد الواحد كان كبناء قفل، أو الجمع كان كبناء حمر، والمراد هنا : الجمع لقوله تعالى :﴿ وجرين بهم ﴾ أي : بمن فيها، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح والالتفات في الكلام عن الغيبة إلى الحضور والعكس في فصيح كلام العرب. ﴿ بريح طيبة ﴾ أي : لينة الهبوب. ﴿ وفرحوا بها ﴾ أي : بتلك الريح وبالفلك الجارية بها، وقوله تعالى :﴿ جاءتها ﴾ جواب إذا والضمير للفلك أو للريح الطيبة بمعنى تلقتها ﴿ ريح عاصف ﴾ أي : شديدة الهبوب فأزعجت سفينتهم وأساءتهم ﴿ وجاءهم الموج ﴾ أي : وجاء ركاب السفينة الموج وهو ما ارتفع وعلا من ضراب الماء في البحر. وقيل : هو شدّة حركة الماء واختلاطه. ﴿ من كل مكان ﴾ أي : يعتاد مجيء الموج منه فأرجف قلوبهم. ﴿ وظنوا أنهم أحيط بهم ﴾ أي : فظنوا أنَّ الهلاك قد أحاط بهم وسدت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاط بهم العدوّ ﴿ دعوا الله مخلصين ﴾ أي : من غير اشتراك به ﴿ له الدين ﴾ أي : الدعاء ؛ لأنهم لا يدعون حينئذٍ غيره ؛ لأنَّ الإنسان في هذه الحالة لا يطمع إلا في فضل الله ورحمته ويصير منقطعاً عن جميع الخلق، ويصير بقلبه وروحه وجميع أجزائه متضرعاً إلى الله تعالى. وقوله تعالى :﴿ لئن أنجيتنا من هذه ﴾ الشدائد التي نحن فيها وهي الريح العاصفة والأمواج الشديدة ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ على إرادة القول أو مفعول دعوا ؛ لأنه من جملة القول، أي : لنكونن من الشاكرين لك بالإيمان والطاعة على إنعامك علينا بإنجائنا مما نحن فيه من هذه الشدّة.
﴿ فلما أنجاهم ﴾ أي : هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم من الشدّة التي كانوا فيها إجابة لدعائهم
﴿ إذا هم يبغون ﴾ أي : فأجاؤوا الفساد وسارعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي
﴿ في الأرض ﴾ أي : جنسها
﴿ بغير الحق ﴾.
فإن قيل : البغي لا يكون بحق فما معنى قوله بغير ؟ أجيب : بأنه قد يكون بحقًّ كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم ببني قريظة، فإنّ ذلك إفساد بحق. قال صاحب
«المفردات » : البغي على ضربين : أحدهما : غير محمود وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وإلى الشبهة، والآخر : كفعل المسلمين ما ذكر
﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم ﴾ أي : ظلمكم
﴿ على أنفسكم ﴾ يعود وباله عليها خاصة. قال صلى الله عليه وسلم
«أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة ». وروي
«ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي، وعقوق الوالدين ». وعن ابن عباس : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
يا صاحب البغي إنّ البغي مصرعة | فاربع فخير فعال المرء أعدله |
فلو بغى جبل يوماً على جبل | لاندك منه أعاليه وأسفله |
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه البغي والنكث والمكر. وعلى تقدير الانتفاع بالبغي هو عرض زائل كما قال تعالى :
﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ أي : لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قليلة، وهي مدّة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها.
﴿ ثم إلينا ﴾ بعد البعث
﴿ مرجعكم ﴾ في القيامة
﴿ فننبئكم ﴾ أي : فنخبركم
﴿ بما كنتم تعملون ﴾ في الدنيا من البغي والمعاصي فنجازيكم عليها. وقرأ حفص متاع بنصب العين على أنه مصدر مؤكد، أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والباقون بالرفع على أنه خبر بغيكم وعلى أنفسكم صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره : ذلك متاع الحياة الدنيا وعلى أنفسكم خبر بغيكم.
ولما قال تعالى :﴿ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ﴾ أتبعه بمثل عجيب ضربه لمن يبغي في الأرض، ويغتر بالدنيا، ويشتدّ تمسكه بها، ويقوى إعراضه عن أمر الآخرة، والتأهب لها، بقوله تعالى :
﴿ إنما مثل الحياة الدنيا ﴾ أي : حالها العجيبة في سرعة تقضيها وذهاب نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها. والمثل قول سائر يشبه فيه حال الثاني بالأوّل ﴿ كماء أنزلناه ﴾ وحقق أمره وبينه بقوله تعالى :﴿ من السماء فاختلط به ﴾ أي : بسببه ﴿ نبات الأرض ﴾ أي : اشتبك بعضه ببعض، والاختلاط : تداخل الأشياء بعضها في بعض ﴿ مما يأكل الناس ﴾ من الحبوب والثمار ونحو ذلك ﴿ و ﴾ مما يأكل ﴿ الأنعام ﴾ من الحشيش ونحوه ﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها ﴾ أي : حسنها وبهجتها من النبات ﴿ وازينت ﴾ بإظهار ألوان زهرها من أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الزهور، كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين، وأصل ازينت تزينت أبدلت التاء زاياً وأدغمت في الزاي ﴿ وظنّ أهلها ﴾ أي : أهل تلك الأرض ﴿ أنهم قادرون عليها ﴾ أي : متمكنون من تحصيل جذاذها وحصادها ﴿ أتاها أمرنا ﴾ أي : قضاؤنا من البرد والحرّ المفرط أو غيره ﴿ ليلاً أو نهاراً ﴾ أي : في الليل أو في النهار ﴿ فجعلناها ﴾ أي : زرعها ﴿ حصيداً ﴾ أي : كالمحصود بالمناجل. وقوله تعالى :﴿ كأن ﴾ مخففة، أي : كأنها ﴿ لم تغن ﴾ أي : لم تكن ﴿ بالأمس ﴾ تلك الزروع والأشجار قائمة على ظهر الأرض، وحذف المضاف من ﴿ فجعلناها ﴾ ومن ﴿ كأن لم تغن ﴾ للمبالغة.
تنبيه : تشبيه الحياة الدنيا بهذا النبات يحتمل وجوهاً :
الأوّل أنّ عاقبة هذه الدنيا التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء في الانتفاع به وقع اليأس منه ؛ لأنّ الغالب أنّ المتمسك بالدنيا إذا وضع قلبه عليها وعظمت رغبته فيها يأتيه الموت، وهو معنى قوله تعالى :﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ [ الأنعام، ٤٤ ] أي : خاسرون الدنيا، وقد أنفقوا أعمارهم فيها، وخاسرون من الآخرة مع أنهم توجهوا إليها.
الثاني : أنه تعالى بيّن أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة محمودة فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد، مع أنَّ المنافع التي تحصل فيها مخلوطة بالمضار والمتاعب، فإنَّ سعادة الدنيا غير خالصة من الآفات، بل هي ممزوجة بالبليات، والاستقراء يدل عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :«من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل : يا رسول الله، وما هو ؟ قال : سرور يوم بتمامه ».
الثالث : أن مالك ذلك البستان لما عمره بإتعاب النفس، وكد الروح، وعلق قلبه على الانتفاع به، فإذا حصل ذلك السبب المهلك صار العناء الشديد الذي تحمّله في الماضي سبباً لحصول الشقاء الشديد له في المستقبل، وهو ما يحصل له في قلبه من الحسرات، فكذا حال من وضع قلبه على الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات وفاته كل ما فات صار العناء الذي تحمله في تحصيل أسباب الدنيا سبباً لحصول الشقاء العظيم له في الآخرة.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا التفصيل الذي ذكرناه ﴿ نفصل الآيات ﴾ أي : نبينها ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ لأنهم المنتفعون بها.
ولما نفّر تعالى الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبّهم في الآخرة بقوله تعالى :﴿ والله يدعو ﴾ أي : يعلق دعاءه على سبيل التجدّد والاستمرار بالمدعوين ﴿ إلى دار السلام ﴾. قال قتادة : السلام هو الله، وداره الجنة، وسمي سبحانه وتعالى بالسلام ؛ لأنه واجب الوجود لذاته، فقد سلم من الفناء والتغير، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته، ومن الافتقار إلى الغير، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال تعالى :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء ﴾ [ محمد، ٣٨ ] وقال تعالى :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ﴾ [ فاطر، ١٥ ]. وقيل : السلام بمعنى السلامة. وقيل : المراد بالسلام الجنة، سميت الجنة دار السلام ؛ لأنّ أهلها يحيِّي بعضهم بعضاً بالسلام، والملائكة تسلم عليهم. قال الله تعالى :﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ٢٣ سلام عليكم ﴾ [ الرعد، ٣٢، ٢٤ ] ومن كمال رحمته وجوده وكرمه على عباده أن دعاهم إلى الجنة التي هي دار السلام، وفيه دليل على أنّ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ؛ لأنّ العظيم لا يدعو إلا إلى عظيم، ولا يصف إلا عظيماً. وقد وصف الله تعالى الجنة في آيات كثيرة من كتابه. وعن جابر قال : جاءت ملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم فقالوا : إنّ صاحبكم هذا مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مائدة، وبعث داعياً فمن أجب الداعي دخل الدار، وأكل من المائدة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار، ولم يأكل من المائدة، والدار الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ و ﴾ الله ﴿ يهدي من يشاء ﴾ من عباده بما يخلق في قلبه من الهداية ﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ وهو دين الإسلام، عمّ سبحانه وتعالى بالدعوة أوّلا إظهاراً للحجة، وخص بالهداية ثانياً إظهاراً للقدرة ؛ لأنَّ الحكم له في خلقه. وقال الجنيد : الدعوة عامة، والهداية خاصة، بل الهداية عامة والصحبة خاصة، بل الصحبة عامة والاتصال خاص. وقيل : يدعو بالآيات، ويهدي للحقائق والمعارف. وقيل : الدعوة لله والهداية من الله. وقال بعضهم : لا تنفع الدعوة لمن لم يسبق له من الله الهداية.
﴿ للذين أحسنوا ﴾ أي : بالإيمان ﴿ الحسنى ﴾ وهي الجنة ﴿ وزيادة ﴾ وهي النظر إليه تعالى في الآخرة، كما في الحديث الصحيح :«إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه فو الله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحب إليهم منه ». والزمخشري في «كشافه » قال في هذا : وزعمت المشبهة والمجبرة ؛ لأنّ المعتزلة ينكرون الرؤية، ويُردّ عليهم قول الله تعالى :﴿ وجوه يومئذ ناضرة ٢٢ إلى ربها ناظرة ﴾ [ القيامة، ٢٢، ٢٣ ] فأثبت الله لأهل الجنة أمرين أحدهما : النضارة وهي حسن الوجوه، وذلك من نعيم الجنة. والثاني : النظر إلى الله تعالى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الحسنى الحسنة، والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم، فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم، ولا مانع من أن تفسر الزيادة بذلك كله ؛ إذ لا تنافي فيها والفضل واسع. ﴿ ولا يرهق ﴾ أي : يغشى ﴿ وجوههم قتر ﴾ أي : سواد ﴿ ولا ذلة ﴾ أي : كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان. ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء الذين وصفهم الله هم ﴿ أصحاب الجنة ﴾ وقوله تعالى :﴿ هم فيها خالدون ﴾ إشارة إلى كونها دائمة آمنة من الانقطاع ولا زوال فيها ولا انقراض، بخلاف الدنيا وزخارفها.
ولما بين تعالى حال الفضل فيمن أحسن بيّن حال العدل فيمن أساء بقوله تعالى :﴿ والذين كسبوا السيئات ﴾ أي : الشرك ﴿ جزاء سيئة ﴾ منهم ﴿ بمثلها ﴾ بعدل الله من غير زيادة، وفي ذلك إشارة إلى الفرق بين السيئات والحسنات ؛ لأنَّ الحسنات يضاعف ثوابها لعاملها من الواحد إلى العشرة إلى السبعمائة إلى أضعاف كثيرة تفضلاً منه تعالى وتكرّماً. وأما السيئة فإنه يجازي عليها بمثلها عدلاً منه تعالى ﴿ وترهقهم ﴾ أي : تغشاهم ﴿ ذلة ﴾ عكس أهل الجنة ﴿ ما لهم من الله من عاصم ﴾ أي : مانع يمنعهم من عذاب الله إذا نزل بهم ﴿ كأنما أغشيت ﴾ أي : ألبست ﴿ وجوههم قطعاً من الليل مظلماً ﴾ لفرط سوادها وظلمتها. وقرأ ابن كثير والكسائي بسكون الطاء، أي : جزء، والباقون بفتحها جمع قطعة، أي : أجزاء ﴿ أولئك ﴾ أي : هؤلاء الأشقياء ﴿ أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾ لا يتمكنون من مفارقتها.
﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم نحشرهم ﴾ أي : الفريقين الناجين والهالكين، العابدين منهم والمعبودين، من كل جانب وناحية إلى موقف الحساب حال كونهم ﴿ جميعاً ﴾ لا يتخلف منهم أحد وهو يوم القيامة والحشر الجمع بكره إلى موقف واحد ﴿ ثم نقول للذين أشركوا مكانكم ﴾ أي : الزموا مكانكم لا تبرحوا منه حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقوله تعالى :﴿ أنتم ﴾ تأكيد للضمير المستتر في الفعل المقدّر ليعطف عليه ﴿ وشركاؤكم ﴾ أي : من كنتم تعبدونه من دون الله ﴿ فزيلنا ﴾ أي : فرّقنا ﴿ بينهم ﴾ أي : بين المشركين وشركائهم وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وذلك حين تبرأ كل معبود من دون الله ممن عبده، وقيل : فرّقنا بينهم وبين المؤمنين كما في آية ﴿ وامتازوا اليوم أيها المجرمون ﴾ [ يس، ٥٩ ] والأوّل أنسب بقوله تعالى :﴿ وقال شركاؤهم ﴾ لهؤلاء المشركين ﴿ ما كنتم إيانا تعبدون ﴾ أي : إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم، واختلفوا في المراد بهؤلاء الشركاء. فقال بعضهم : الملائكة واستشهدوا بقوله تعالى :﴿ ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ [ سبأ، ٤٠ ]. ومنهم من قال : هي الأصنام، والدليل عليه : أنّ هذا الخطاب مشتمل على الوعيد والتهديد، وذلك لا يليق بالملائكة المقرّبين، وسموا شركاء ؛ لأنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فصيروهم شركاء لأنفسهم في تلك الأموال، ثم اختلفوا في هذه الأصنام كيف ذكرت هذا الكلام فقال بعضهم : إنّ الله تعالى خلق الحياة والعقل والنطق فيها فقدرت على ذكر هذا الكلام. وقال آخرون : إنّ الله تعالى خلق فيها الكلام من غير أن يخلق فيها الحياة حتى سمع منها ذلك الكلام. والأوّل أظهر ؛ لأنّ ظاهر قوله تعالى :﴿ وقال شركاؤهم ﴾ يقتضي أن يكون فاعل ذلك القول هو الشركاء.
فإن قيل : إذا أحياها الله تعالى هل يبقيها أو يفنيها ؟ أجيب : بأنَّ الكل محتمل فإنّ الله تعالى يفعل في خلقه ما يشاء، وأحوال القيامة غير معلومة إلا القليل الذي أخبر الله تعالى عنه في القرآن وعلى لسان أنبيائه. وقال بعضهم : المراد بهؤلاء الشركاء كل من عبد من دون الله من إنس وملك وجنّ وشمس وقمر وصنم، وهذا أظهر، وعلى هذا والأوّل سموا شركاء ؛ لأنّ الله تعالى لما خاطب العابدين والمعبودين بقوله تعالى :﴿ مكانكم ﴾ صاروا شركاء في هذا الخطاب، ولما قال لهم شركاؤهم ذلك قالوا بل كنا نعبدكم فقال شركاؤهم.
﴿ فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم ﴾ فإنّه تعالى العالم بكنه الحال. ﴿ إن كنا عن عبادتكم لغافلين ﴾ أي : لم نأمر بها ولم نعلم بها، وعلى القول بأنها الأصنام فتقول : ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، فإنها جمادات لا حس لها بشيء ولا شعور البتة.
تنبيه : إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين الخفيفة والنافية.
﴿ هنالك ﴾ أي : في ذلك الموقف من المكان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال ﴿ تبلو ﴾ أي : تختبر ﴿ كل نفس ﴾ طائعة وعاصية ﴿ ما أسلفت ﴾ أي : ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه وضرّه يؤدّي إلى سعادة أو شقاوة. وقرأ حمزة والكسائي بتاءين من التلاوة، أي : تقرأ ذكر ما قدّمت أو من التلو فيتبع كل شخص عمله فيقوده إلى الجنة والنار والباقون بعد التاء باء موحدة من البلوى وهو الاختبار ﴿ وردّوا إلى الله ﴾ أي : إلى جزائه إياهم عما أسلفوا فلم يكن لهم قدرة على قصد غيره. ﴿ مولاهم الحق ﴾ أي : ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة ولا التفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاؤهم من كل ما يدعونه في الدنيا وهو المراد بقوله تعالى :﴿ وضلّ عنهم ﴾ أي : ذهب وبطل وضاع. ﴿ ما كانوا يفترون ﴾ أي : يتعمدون كذبه من أنّ معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق.
ولما بيّن فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل على فساد هذا المذهب بحجج :
الحجة الأولى : قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ من يرزقكم من السماء ﴾ بالمطر ﴿ والأرض ﴾ بالنبات فانحصر الرزق في ذلك، أما من السماء فبتنزل الأمطار، وأما من الأرض فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض، وأما الحيوان فهو يحتاج أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر، وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له، وذلك محال فثبت أنّ أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات، وثبت أن تولد النبات من الأرض، فثبت القطع بأنّ الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض ﴿ أمّن يملك السمع ﴾ أي : الأسماع ﴿ والأبصار ﴾ أي : من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سوّياً عليه من الفطرة العجيبة. عن علي رضي الله تعالى عنه كان يقول : سبحان من بصر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم، أو جمعهما وحفظهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلائه وحفظه ﴿ ومن يخرج الحيّ من الميت ﴾ كأن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة ﴿ ويخرج الميت من الحيّ ﴾ كأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقيل : المراد أن يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي ميت في الموضعين بعد الميم بكسر الياء المشدّدة، والباقون بعد الميم بسكون الياء. ﴿ ومن يدبر الأمر ﴾ أي : ومن يلي تدبير أمر الخلائق، وهو تعميم بعد تخصيص، وذلك لأنَّ أقسام تدبير الله تعالى في العالم السفلي وفي العالم العلوي وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر، فلما ذكر بعض تلك الأفاصيل عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بيّن تعالى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال ﴿ فسيقولون الله ﴾ إذ لا يقدرون على المكابرة والعناد في ذلك لفرط وضوحه، وإذا كانوا يقرّون بذلك ﴿ فقل ﴾ لهم يا محمد ﴿ أفلا تتقون ﴾ الشرك مع اعترافكم بأنّ كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل بفضل الله تعالى وإحسانه.
﴿ فذالكم الله ربكم الحق ﴾ أي : الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه، وإذا ثبت أنّ هذا هو الحق وجب أن يكون ما سواه ضلالاً ؛ لأنَّ النقيضين يمتنع أن يكونا حقين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً، كما قال تعالى :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ إذ لا واسطة بينهما فهو استفهام تقرير، أي : ليس بعده غيره فمن أخطأ الحق وهو عبادة الله تعالى وقع في الضلال، ولذلك سبب عنه قوله تعالى :﴿ فأنّى ﴾ أي : فكيف ومن، أي : جهة ﴿ تصرفون ﴾ أي : تعدلون عن عبادته وأنتم تقرّون بأنّ الله هو الحق.
﴿ كذلك ﴾ أي : كما حقت الربوبية لله تعالى أو أنّ الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق ﴿ حقت كلمة ربك ﴾ في الأزل ﴿ على الذين فسقوا ﴾ أي : تمرّدوا في كفرهم وخرجوا عن حدّ الاستصلاح. وقوله تعالى :﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾ بدل من الكلمة، أي : حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك والمراد بكلمة الله العدة بالعذاب، وهو ﴿ لأملأن جهنم ﴾ [ الأعراف، ١٨ ] الآية، و﴿ أنهم لا يؤمنون ﴾ تعليل بمعنى لأنهم لا يؤمنون، أو ذلك تفسير لكلمته التي حقت. وقرأ نافع وابن عامر كلمة بالألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير الألف بعد الميم على الإفراد.
الحجة الثانية : قوله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء﴿ هل من شركائكم ﴾ الذين زعمتموهم شركاء وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزرعكم ﴿ من يبدأ الخلق ﴾ كما بدأ به ليصح لكم ما ادّعيتم من الشركة ﴿ ثم يعيده ﴾ كما كان. فإن قيل : هم غير معترفين بالإعادة فكيف احتج عليهم تعالى بها كالابتداء في الإلزام بها ؟ أجيب : بأنها لظهور برهانها وإن لم يقروا بها وضعت موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً رادّاً للظاهر البيّن الذي لا مدخل للشبهة فيه دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء. ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنهم في الجواب بقوله تعالى :﴿ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ﴾ لأنّ لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها ﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف ﴿ تؤفكون ﴾ عن عبادته مع قيام الدلائل. فإن قيل : ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام ؟ أجيب : بأنّ الكلام إذا كان ظاهراً جلياً ثم ذكر على سبيل الاستفهام كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
الحجة الثالثة : قوله تعالى ﴿ قل ﴾ أي : قل يا محمد لهم ﴿ هل من شركائكم من يهدي إلى الحق ﴾ بنصب الحجج، وخلق الاهتداء، وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب بقوله تعالى :﴿ قل الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿ يهدي للحق ﴾ من يشاء لا أحداً ممن زعمتموه شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض. قال الزجاج : يقال هديت إلى الحق، وهديت للحق بمعنى واحد. فالله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله تعالى :﴿ من يهدي إلى الحق ﴾ وفي قوله تعالى :﴿ قل الله يهدي للحق ﴾ وقوله تعالى :﴿ أفمن يهدي إلى الحق ﴾ أي : وهو الله تعالى ﴿ أحق أن يتبع أمّن لا يهدي ﴾ أي : يهتدي ﴿ إلا أن يهدى ﴾ أحق أن يتبع استفهام تقرير وتوبيخ، أي : الأوّل أحق ﴿ فما لكم كيف تحكمون ﴾ هذا الحكم الفاسد من اتباع من لا يستحق الاتباع،
وقوله تعالى :﴿ وما يتبع أكثرهم ﴾ في تفسيره وجهان الأوّل : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى. ﴿ إلا ظناً ﴾ لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم. الثاني : وما يتبع أكثرهم إلا ظناً في قولهم للأصنام آلهة، وإنها شفعاء عند الله تعالى إلا الظنّ، حيث قلدوا فيه آباءهم. قال الرازي : والقول الأول أقوى لأنا في القول الثاني نحتاج إلى تفسير الأكثر بالكل ﴿ إنَّ الظنّ لا يغني من الحق ﴾ فيما المطلوب فيه العلم ﴿ شيئاً ﴾ من الإغناء، فدلت هذه الآية على أنَّ كل من كان ظاناً في مسائل الأصول، وما كان قاطعاً لا يكون مؤمناً. فإن قيل : فقول أهل السنة : أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر أجاب الرازي : بأنَّ هذا ضعيف من وجوه : الأوّل : أنَّ مذهب الشافعيّ رضي الله تعالى عنه أنَّ الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل، فالشك حاصل في أنّ هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني : أنّ الغرض من قوله إن شاء الله تعالى بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث : الغرض هضم النفس وكسرها. ﴿ إنَّ الله عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بما يفعلون ﴾ أي : من اتباعهم الظنّ، وتكذيبهم الحق اليقين، فيجازيهم عليه.
وقوله تعالى :﴿ وما كان ﴾ عطف على قوله :﴿ ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ﴾ إلخ فهو حينئذٍ مقول القول، أي : قل لهم ذلك الكلام. ﴿ هذا القرآن ﴾ أي : الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق ﴿ أن يفترى ﴾ أي : افتراء ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ؛ لأنّ المفترى هو الذي تأتي به البشر، وكفار مكة زعموا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بهذا من عند نفسه، فأخبر الله تعالى أنّ هذا القرآن وحي أنزله عليه وأنه مبرأ عن الافتراء والكذب وأنه لا يقدر عليه أحد إلا الله، ثم ذكر هذا بقوله تعالى :﴿ ولكن ﴾ أنزل ﴿ تصديق الذي بين يديه ﴾ أي : قبله من الكتب الذي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل، فثبت بذلك أنه وحي من الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه معجزة له فإنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بأحد من العلماء، ثم أنه صلى الله عليه وسلم أتى بهذا القرآن العظيم المعجز، وفيه أخبار الأوّلين وقصص الماضين، وقيل تصديق الذي القرآن بين يديه من القيامة والبعث. ﴿ وتفصيل الكتاب ﴾ أي : تبيين ما كتب الله من الأحكام وغيرها ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيه ﴾. وقوله تعالى :﴿ من رب العالمين ﴾ متعلق بتصديق أو بأنزل المحذوف.
﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ يقولون افتراه ﴾ أي : اختلقه محمد، ومعنى الهمزة فيه للإنكار ﴿ قل ﴾ أي : قل لهم يا محمد إن كان الأمر كما تقولون ﴿ فأتوا بسورة مثله ﴾ في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم، فأنتم عرب مثله في البلاغة والفطنة. فإن قيل : هل يتناول ذلك جميع السور الصغار والكبار أو يختص بالسور الكبار ؟ أجيب : بأنّ هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فيكون المراد مثل هذه السورة ؛ لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه، هكذا أجاب الرازي، والأولى التناول لجميع السور ؛ فإنهم لا يقدرون أن يأتوا بأقصر سورة. فإن قيل : لم قال في البقرة ﴿ بسورة من مثله ﴾ [ البقرة، ٢٣ ] وهنا ﴿ بسورة مثله ﴾ ؟ أجيب : بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ ولم يكتب ولم يتتلمذ لأحد فقيل في سورة البقرة :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ بناء على أنّ الضمير يرجع للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي : فليأت إنسان يساوي محمداً صلى الله عليه وسلم في عدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز، فهذا لا يدل على أنّ السورة في نفسها معجزة، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد صلى الله عليه وسلم في عدم التعلم والتتلمذ معجز. ثم بيّن تعالى في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة فإنّ الخلق وإن تتلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور وهو المراد من قوله تعالى :﴿ وادعوا من استطعتم ﴾ أي : فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ؛ فإنه تعالى وحده قادر على ذلك ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في أني أتيت به من عندي ؛ لأنَّ العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر.
تنبيه : مراتب تحدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة : أوّلها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ [ الإسراء، ٨٨ ]. ثانيها : أنه تحدّاهم بعشر سور فقال تعالى :﴿ فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ﴾ [ هود، ٣٢ ]. ثالثها : أنه تحدّاهم بسورة واحدة كما قال تعالى :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ [ البقرة، ٢٣ ]. رابعها : أنه تحدّاهم بحديث مثله. خامسها : أن في تلك المراتب الأربعة كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذة والتعلم، ثم في هذه السورة طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي : إنسان سواء تعلم العلوم أم لم يتعلمها. سادسها : أنّ في المراتب المتقدّمة تحدي واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال تعالى :﴿ وادعوا من استطعتم من دون الله ﴾ وهاهنا آخر المراتب فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أنّ القرآن معجز.
ثم إنَّ الله تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا بالقرآن فقال تعالى :﴿ بل كذبوا ﴾ أي : أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك ﴿ بما لم يحيطوا بعلمه ﴾ أي : القرآن أوّل ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته من غير شبهة أصلاً بل عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم، فهو من باب : مَنْ جَهِلَ شيئاً عاداه، والإحاطة إدارة ما هو كالحائط حول الشيء وإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه ﴿ ولما يأتهم ﴾ أي : إلى زمن تكذيبهم ﴿ تأويله ﴾ أي : تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب وعاقبة ما فيه من الوعيد حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، ومعنى التوقع في ﴿ لما ﴾ أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرّر عليهم التحدي، فجربوا عقولهم في معارضته فصغرت وضعفت دونها، ومع هذا لم يقلعوا عن التكذيب تمرداً وعناداً ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبر المعجزة ﴿ كذب الذين من قبلهم ﴾ أي : من كفار الأمم الماضية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم ﴿ فانظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف كان عاقبة الظالمين ﴾ بتكذيب الرسل، أي : آخر أمرهم من الهلاك، فكذلك يهلك من كذبك من قومك، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون الخطاب لكل فرد من الناس، والمعنى : فانظر أيها الإنسان كيف كان عاقبة من ظلم، فاحذر أن تفعل مثل فعله.
﴿ ومنهم ﴾ أي : من قومك يا محمد، ﴿ من يؤمن به ﴾ أي : القرآن، أي : يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب ﴿ ومنهم من لا يؤمن به ﴾ في نفسه لغباوته وقلة تدبره، أو منهم من يؤمن به في المستقبل بأن يتوب عن الكفر ويبدله بالإيمان، ومنهم من يصر ويستمرّ على الكفر، وإنما فسرت هذه الآية بهذين التأويلين ؛ لأنّ كلمة يؤمن تصلح للحال والاستقبال ﴿ وربك أعلم بالمفسدين ﴾ أي : المعاندين على التفسير الأوّل، والمصرين على التفسير الثاني، وفي ذلك تهديد لهم.
﴿ وإن كذبوك ﴾ أي : وإن كذبوك يا محمد بعد إلزام الحجة ﴿ فقل ﴾ لهم ﴿ لي عملي ﴾ من الطاعة وجزاء ثوابها ﴿ ولكم عملكم ﴾ من الشرك وجزاء عقابه، أي : فتبرأ منهم فقد أعذرت، والمعنى : لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقاً كان أو باطلاً. ﴿ أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون ﴾ لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم. واختلف في معنى ذلك فقيل : معنى الآية الزجر والردع. وقيل : بل معناه استمالة قلوبهم. وقال مقاتل والكلبي : هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال الرازي : وهذا بعيد ؛ لأنّ شرط الناسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخ، ومدلول هذه الآية اختصاص كل واحد بأفعاله وبثمرات أفعاله من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، وآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلاً انتهى. ولا تنبغي هذه المبالغة مع مثل من ذكر، وقد تبعهما جماعة من المفسرين.
ولما قسم تعالى الكفار قسمين : منهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به قسم من لا يؤمن به قسمين : منهم من يكون في نهاية البغض له والعداوة له ونهاية النفرة عن قبول دينه، ومنهم من لا يكون، كذلك.
فوصف القسم الأول في قوله تعالى :﴿ ومنهم ﴾ أي : من هؤلاء المشركين، ﴿ من يستمعون إليك ﴾ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم لشدّة عداوتهم وبغضهم لك، فإن الإنسان إذا قوي بغضه لآخر وعظمت نفرته منه صارت نفسه معرضة عن جميع جهات محاسن كلامه ﴿ أفأنت تسمع الصم ﴾ أي : أتقدر على إسماعهم ﴿ ولو كانوا ﴾ مع الصمم ﴿ لا يعقلون ﴾ أي : لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تم الأمر، فكما أنك لا تقدر على إسماع الأصم الذي لا يعقل لا تقدر على إسماع من أصم الله تعالى قلبه، فإنَّ الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما يستمعون ولم يوفقهم لذلك، فشبههم بالصم في عدم الانتفاع بما يتلى عليهم.
ثم وصف القسم الثاني في قوله تعالى :﴿ ومنهم من ينظر إليك ﴾ أي : يعاينون دلائل نبوّتك ولا يصدّقونك ﴿ أفأنت تهدي العمي ﴾ أي : أتقدر على هدايتهم ﴿ ولو كانوا ﴾ مع العمى ﴿ لا يبصرون ﴾ أي : لا بصيرة لهم ؛ لأنَّ الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، فأمّا العمى مع الحمق فجهد البلاء، فلا تقدر على هداية من أعمى الله بصيرته، فهؤلاء في اليأس من أن يقبلوا أو يصدقوا كالصم والعمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر، فلا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى.
تنبيه : اختلف في أنّ السمع أفضل أو البصر فمنهم من قال : السمع، واحتج على ذلك بأمور منها تقدّمه في الآية، ومنها : أنّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجوانب، والقوّة الباصرة لا تدرك المرئيّ إلا من جهة واحدة، وهي المقابل، ومنها : أنّ الإنسان إنما يستفيد العلم من التعلم من الأستاذ، وذلك لا يكون إلا بقوة السمع، فاستكمال النفس بالكمالات العلمية لا يحصل إلا بقوة السمع. ومنها : أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يراهم الناس ويسمعون كلامهم، فنبوّتهم ما حصلت بسبب ما معهم من الصفات المرئية، وإنما حصلت بسبب ما معهم من الأحوال المسموعة وهو الكلام وتبليغ الشرائع، وبيان الأحكام. ومنها : أنّ المعنى الذي يمتاز به الإنسان من سائر الحيوانات هو النطق بالكلام، وإنما ينتفع بذلك بالقوّة السامعة، فمتعلق السمع النطق الذي يحصل به شرف الإنسان، ومتعلق البصر إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر مشترك فيه بين الناس وبين سائر الحيوانات.
ومنهم من قال : البصر، واحتج بأمور منها : أن آلة القوّة الباصرة هي النور، وآلة القوّة السامعة هي الهواء، والنور أشرف من الهواء. ومنها : أنّ جمال الوجه يحصل بالبصر وبذهابه عيبه وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً في جمال وجهه، والعرب تسمي : العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، وفي الحديث يقول الله تعالى :«من أذهبت كريمتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثواباً دون الجنة ». ومنها : أنهم قالوا في المثل المشهور : ليس وراء العيان بيان. وذلك يدل على أن أكمل وجوه الإدراكات هو الإبصار. ومنها : أنّ كثيراً من الأنبياء سمع الله، واختلفوا في أنه هل رآه منهم أحد أم لا ؟ وأيضاً فإنّ موسى عليه السلام أسمعه الله تعالى كلامه من غير سبق سؤال والتماس، فلما طلب الرؤية قال : لن تراني، وذلك يدل على أنَّ حال الرؤية أعلى من حال السماع، وهذا هو الظاهر.
ولما حكم تعالى على أهل الشقاوة بالشقاوة بقضائه وقدره السابق فيهم أخبر تعالى أنّ تقدير الشقوة عليهم ما كان ظلماً منه بقوله تعالى :﴿ إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ﴾ أي : لأنه تعالى في جميع أحواله متفضل وعادل، فيتصرّف في ملكه كيف يشاء والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرّف في ملكه بالفضل والعدل لا يكون ظالماً، وإنما قال تعالى :﴿ ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ لأنّ فعلهم منسوب إليهم بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله تعالى وقدره فيهم، ففي ذلك دليل على أنّ للعبد كسباً وأنه ليس مسلوب الاختيار كما زعمت المجبرة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر النون مخففة ورفع السين، والباقون بنصب النون مشدّدة ونصب السين.
ولما وصف تعالى هؤلاء الكفار بقلّة الإصغاء وترك التدبر أتبعه بالوعيد بقوله تعالى :﴿ ويوم يحشرهم ﴾ أي : واذكر يا محمد يوم نحشر هؤلاء المشركين لموقف الحساب، وأصل الحشر : إخراج الجماعة وإزعاجهم عن مكانهم ﴿ كأن ﴾ أي : كأنهم ﴿ لم يلبثوا ﴾ في دنياهم. والجملة في موضع الحال من ضمير نحشرهم البارز، أي : مشبهين بمن لم يلبثوا ﴿ إلا ساعة ﴾ حقيرة ﴿ من النهار ﴾ أي : يستقصرون مدّة مكثهم في الدنيا وفي القبور لهول ما يرون ﴿ يتعارفون بينهم ﴾ أي : يعرف بعضهم بعضاً إذا بعثوا ثم ينقطع التعارف لشدّة الأهوال، والجملة حال مقدّرة متعلق الظرف، والتقدير : يتعارفون يوم نحشرهم. وقوله تعالى :﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ أي : بالبعث. يحتمل وجهين : الأوّل : أن يكون على إرادة القول، أي : يتعارفون بينهم قائلين ذلك، الثاني : أن يكون كلام الله تعالى، فيكون شهادة من الله تعالى عليهم بالخسران. والمعنى : أن من باع آخرته بالدنيا فقد خسر ؛ لأنه أعطى الكثير الشريف الباقي وأخذ القليل الخسيس الفاني ﴿ وما كانوا مهتدين ﴾ أي : إلى رعاية مصالح التجارة، وذلك لأنهم اغتروا بالظاهر وغفلوا عن الحقيقة، فصاروا كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة شريفة فاشتراها بكل ما ملكه فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله ووقع في حرقة الروع وعذاب القلب.
وقوله تعالى :﴿ وإمّا ﴾ فيه إدغام إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ نرينّك ﴾ يا محمد ﴿ بعض الذي نعدهم ﴾ به من العذاب في حياتك، وجواب الشرط محذوف، أي : فذاك ﴿ أو نتوفّينّك ﴾ قبل أن نريك ذلك الوعد في الدنيا فإنك ستراه في الآخرة وهو قوله تعالى :﴿ فإلينا ﴾ بعد البعث ﴿ مرجعهم ﴾ فنريك هناك ما هو أقرّ لعينك وأسرّ لقلبك، وقوله تعالى :﴿ ثم الله شهيد على ما يفعلون ﴾ فيه وعيد وتهديد لهم، أي : أنه تعالى شهيد على أفعالهم التي فعلوها في الدنيا فيجازيهم عليها يوم القيامة.
ولما بيّن تعالى حال محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه بين أنّ حال كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم كذلك بقوله تعالى :﴿ ولكل أمة ﴾ أي : من الأمم التي خلت من قبلك ﴿ رسول ﴾ يدعوهم إلى الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط ﴾ فيه إضمار تقديره : فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أرسل به إليهم فكذبه قوم وصدقه آخرون، ﴿ قضي ﴾ أي : حكم وفصل بينهم بالقسط، أي : بالعدل. وفي وقت هذا القضاء والحكم بينهم قولان : أحدهما أنه في الدنيا بأن يهلك الكافرين، وينجي رسوله والمؤمنين لقوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ [ الإسراء، ١٥ ] والثاني في الآخرة : وذلك أنّ الله تعالى إذا جمع الأمم يوم القيامة للحساب والفصل بين المؤمن والكافر والطائع والعاصي جيء بالرسل لتشهد عليهم لقوله تعالى :﴿ وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم ﴾ [ الزمر، ٦٩ ] والمراد منه : المبالغة في إظهار العدل وهو قوله تعالى :﴿ وهم لا يظلمون ﴾ في جزاء أعمالهم شيئاً بل يجازى كل واحد على قدر عمله فكذلك يفعل بهؤلاء.
﴿ ويقولون متى هذا الوعد ﴾ الذي تعدنا به يا محمد من نزول العذاب ومن قيام الساعة وإنما قالوا ذلك على وجه التكذيب والاستبعاد ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : فيما تعدونا به، وإنما قالوا بلفظ الجمع على سبيل التعظيم أو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
وإن كان كل أمة قالوا لرسولها مثل ذلك وهو الموافق لقوله تعالى :﴿ ولكل أمّة رسول ﴾ قال الله تعالى :
﴿ قل ﴾ أي : قل لهم يا محمد ﴿ لا أملك لنفسي ضرًّا ﴾ من مرض أو فقر أدفعه ﴿ ولا نفعاً ﴾ من صحة أو غنىً أجلبه ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ أن يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب أو قيام الساعة ولا يقدر على ذلك أحد إلا الله تعالى ﴿ لكل أمة أجل ﴾ أي : مدّة مضروبة ﴿ إذا جاء أجلهم ﴾ أي : انقضت مدّة أعمارهم ﴿ فلا يستأخرون ﴾ أي : لا يتأخرون ﴿ عنه ساعة ﴾ ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها ﴿ ولا يستقدمون ﴾ أي : ولا يتقدّمون، أي : ولا يستعجلون ؛ فإنّ الوفاء بالوعد لابدّ منه، والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي : لا يوجد لهم المعنى الذي منع منه الفعل، ويجوز أن يكون المعنى لا يجدون التأخر ولا التقدّم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب. وتدلّ الآية على أنَ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله، وكذا المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى، وسهل ورش وقنبل الثانية وأبدلها أيضاً حرف مد، والباقون بالتحقيق.
قال الله تعالى :﴿ قل ﴾ أي : قل لهم يا محمد أيضاً ﴿ أرأيتم إن أتاكم عذابه ﴾ الذي تستعجلون به ﴿ بياتاً ﴾ أي : في الليل بغتة كما يفعل العدوّ ﴿ أو نهاراً ﴾ أي : وقت أنتم فيه تشتغلون بطلب المعاش والكسب ﴿ ماذا ﴾ أي : أيّ شيء ﴿ يستعجل منه ﴾ أي : من عذابه وعذاب كل مكروه لا يحتمل شيء منه ﴿ المجرمون ﴾ أي : المشركون، وضع المجرمون موضع المضمر للدّلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء الوعيد لا أن يستعجلوا، وجملة الاستفهام متعلقة بأرأيتم، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.
﴿ أثمَّ إذا ما وقع ﴾ أي : حل بكم ﴿ آمنتم ﴾ أي : آمنتم بالله أو العذاب وقت نزول العذاب وهو وقت اليأس، والهمزة لإنكار التأخير فلا يقبل منكم، وقوله تعالى :﴿ آلآن ﴾ على إرادة القول، أي : قيل لهم إذا آمنوا وقت نزول العذاب ﴿ آلآن ﴾ ﴿ وقد كنتم به تستعجلون ﴾ تكذيباً واستهزاءً.
تنبيه : اتفق قالون مع ورش على النقل هنا، واتفق القراء كلهم على همزة الوصل التي بعد همزة الاستفهام إن فيها وجهين : وهما البدل والتسهيل.
وقوله تعالى :﴿ ثم قيل للذين ظلموا ﴾ عطف على قيل المقدّر، أي : من، أي : قائل كان استهانة بهم. وقرأ هشام والكسائي بإشمام القاف وهو أن تضم القاف قبل الياء، والباقون بالكسر ﴿ ذوقوا عذاب الخلد ﴾ أي : الذي تخلدون فيه، والإتيان بثم إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين ﴿ هل ﴾ أي : ما ﴿ تجزون إلا بما كنتم تكسبون ﴾ في الدنيا من الكفر والمعاصي.
﴿ ويستنبئونك ﴾ أي : يستخبرونك يا محمد ﴿ أحق هو ﴾ أي : ما وعدتنا به من نزول العذاب وقيام الساعة وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء، قاله حيي بن أخطب لما قدم مكة ﴿ قل ﴾ لهم في جوابهم ﴿ إي وربي إنه لحق ﴾ أي : كائن ثابت لا بدّ من نزوله بكم.
تنبيه : أي : بمعنى نعم وهو من لوازم القسم، ولذلك توصل بواوه في التصديق فيقال : إي والله، ولا ينطقون به وحده. ﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ أي : بفائتين العذاب ؛ لأن من عجز عن شيء فقد فاته.
﴿ ولو أنّ لكل نفس ظلمت ﴾ أي : أشركت ﴿ ما في الأرض ﴾ من الأموال ﴿ لافتدت به ﴾ من عذاب يوم القيامة ولم ينفعها الفداء لقوله تعالى ﴿ ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ﴾ [ البقرة، ٤٨ ]. ﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾ أي : حين عاينوه وأبصروه صاروا مبهوتين متحيرين فلم يطيقوا عنده بكاءً ولا صراخاً سوى إسرار الندم كالحال فيمن ذهب به ليصلب ؛ فإنه يبقى مبهوتاً متحيراً لا ينطق بكلمة. وقيل : إنهم أخلصوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم ؛ لأنهم إنما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته، بل كان من الواجب عليهم أن يأتوا به في دار الدنيا وقت التكليف، وقيل : المراد بالإسرار الإظهار، وهو من الأضداد ؛ لأنهم إنما أخفوا الندامة على الكفر والفسق في الدنيا لأجل حفظ الرياسة، وفي القيامة بطل هذا فوجب الإظهار وليس هناك تخلد. فإن قيل : أسرّوا جاء على لفظ الماضي والقيامة من الأمور المستقبلة أجيب : بأنها لما كانت واجبة الوقوع جعل الله مستقبلها كالماضي. ﴿ وقضي بينهم ﴾ أي : بين الخلائق ﴿ بالقسط ﴾ أي : بالعدل ﴿ وهم لا يظلمون ﴾.
فإن قيل : هذه الآية مكرّرة ؟ أجيب : بأنّ الأولى في القضاء بين الأنبياء وتكذيبهم وهذه عامّة. وقيل : بين المؤمنين والكفار. وقيل : بين الرؤساء والأتباع، فإنّ الكفار وإن اشتركوا في العذاب فلا بدّ أن يقضي الله تعالى بينهم ؛ لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب الباقين ؛ لأنّ العدل يقتضي أن ينصف المظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا أن يخفف من عذاب المظلومين، ويثقل في عذاب الظالمين.
وقوله تعالى :﴿ ألا إنّ لله ما في السماوات والأرض ﴾ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب ﴿ ألا إنّ وعد الله ﴾ أي : ما وعد به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من البعث للجزاء ومن ثواب الطائع وعقاب العاصي ﴿ حق ﴾ لا شك فيه ﴿ ولكنّ أكثرهم ﴾ أي : الناس ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : جاهلون عن حقيقة ذلك فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم لقصور عقلهم إلا ظاهراً من الحياة الدنيا.
﴿ هو ﴾ أي : الذي يملك ما في السماوات والأرض ﴿ يحيي ويميت ﴾ أي : قادر على الإحياء والإماتة لا يتعذر عليه شيء مما أراد ﴿ وإليه ترجعون ﴾ بعد الموت للجزاء.
وقوله تعالى :﴿ يا أيها الناس ﴾ خطاب عامّ. وقيل : لأهل مكة ﴿ قد جاءتكم موعظة من ربكم ﴾ أي : كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن ﴿ وشفاء ﴾ أي : دواء ﴿ لما في الصدور ﴾ أي : القلوب من داء الجهل ؛ لأنّ داء الجهل أضرّ للقلب من المرض للبدن، وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة، والقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها ؛ لأنّ فيه المواعظ والزواجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، فهو الشفاء لهذه الأمراض القلبية، وإنما خص تعالى الصدر بالذكر ؛ لأنه موضع القلب وغيره وهو أعز موضع في الإنسان لمكان القلب فيه ﴿ وهدى ﴾ من الضلالة ﴿ ورحمة ﴾ أي : إكرام عظيم ﴿ للمؤمنين ﴾ لأنهم هم الذين انتفعوا به دون غيرهم.
واختلف في تفسيره قوله تعالى :﴿ قل بفضل الله وبرحمته ﴾ فقال مجاهد وقتادة : فضل الله : القرآن، ورحمته : ان جُعِلْنَا من أهله. وقال ابن عباس والحسن : فضل الله : الإسلام، ورحمته : القرآن. وعن أبيّ بن كعب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا ﴿ قل بفضل الله وبرحمته ﴾ فقال :«بكتاب الله والإسلام ». وقال ابن عمر : فضل الله : الإسلام، ورحمته : تزيينه في قلوبنا. وقيل : فضل الله : الإسلام، ورحمته : الجنة. وقيل : فضل الله : القرآن، ورحمته : السنن. ولا مانع من أن نفسر الآية بجميع ذلك إذ لا تنافي بين هذه الأقوال. والباء في بفضل الله وبرحمته متعلقة بمحذوف يفسره ما بعده تقديره : قل فليفرحوا بفضل الله وبرحمته. ﴿ فبذلك فليفرحوا ﴾ والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد المفعولين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليفرحوا بهما. فإنه لا مفروح به أحق منهما. ﴿ هو ﴾ أي : المحدّث عنه من الفضل والرحمة ﴿ خير مما يجمعون ﴾ أي : من حطام الدنيا ولذاتها الفانية. وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.
﴿ قل ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني ﴿ ما أنزل ﴾ أي : خلق ﴿ الله لكم من رزق ﴾ وأنه تعالى جعل الرزق منزلاً ؛ لأنه مقدر في السماء يحصل بأسباب منها ﴿ فجعلتم منه ﴾ أي : من ذلك الرزق ﴿ حراماً وحلالاً ﴾ وهو مثل ما ذكروه من تحريم السائبة والوصيلة والحام، ومثل قولهم : هذه أنعام وحرث حجر. ومثل قولهم : هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرّم على أزواجنا. ومثل قولهم : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ ءآلله أذن لكم ﴾ في هذا التحريم والتحليل ﴿ أم ﴾ أي : بل ﴿ على الله تفترون ﴾ أي : تكذبون على الله بنسبة ذلك إليه.
﴿ وما ظن الذين يفترون ﴾ أي : يتعمدون ﴿ على الله الكذب ﴾ أي : أيّ شيء ظنهم به ﴿ يوم القيامة ﴾ أيحسبون أن لا يؤاخذهم ولا يجازيهم على أعمالهم ؟ فهو استفهام بمعنى التوبيخ والتقريع والتهديد والوعيد العظيم لمن يفتري على الله الكذب ﴿ إن الله لذو فضلٍ على الناس ﴾ بنعم كثيرة لا تحصى منها : إنزال الكتب مفصلاً، فيها ما يرضيه وما يسخطه، ومنها : إرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها : طول إمهالهم على سوء أفعالهم، ومنها : إنعامه عليهم بالعقل، فكان شكره واجباً عليهم ﴿ ولكن أكثرهم ﴾ أي : الناس ﴿ لا يشكرون ﴾ هذه النعم ولا يستعملون العقل في دلائل الله تعالى ولا يقبلون دعوة أنبيائه، ولا ينتفعون باستماع كتب الله.
وقوله تعالى :﴿ وما تكون ﴾ خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ في شأن ﴾ أي : عمل من الأعمال وجمعه شؤون، والضمير في قوله تعالى :﴿ وما تتلو منه ﴾ إمّا للشأن ؛ لأنّ تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه، وإمّا للتنزيل كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل ﴿ من قرآن ﴾ لأنّ كل جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له، وإما لله تعالى، والمعنى : وما تتلو من الله من قرآن نازل عليك، وقوله تعالى ﴿ ولا تعملون من عمل ﴾ أي : أيّ عمل كان تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رئيسهم وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ولذلك ذكر حيث خص بما فيه فخامة وهو الشأن، وذكر حيث عمّ بقوله تعالى : من عمل، بما يتناول الجليل والحقير، وقيل : إنّ الكل داخلون في الخطابين الأوّلين أيضاً ؛ لأنه من المعلوم أنه إذا خوطب رئيس القوم كان القوم داخلين في ذلك الخطاب، كما في قوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء ﴾ [ الطلاق، ١ ].
﴿ إلا كنا عليكم شهودا ﴾ أي : رقباء نحصي عليكم أعمالكم ؛ لأنّ الله تعالى رقيب على كل شيء وعالم بكل شيء إذ لا محدث ولا خالق ولا موجد إلا الله تعالى، فكل ما يدخل في الوجود هنا من أحوال العباد وأعمالهم الظاهرة والباطنة داخل في علمه وشاهد عليه ﴿ إذ تفيضون ﴾ أي : الله شاهد عليكم حين تدخلون وتخوضون ﴿ فيه ﴾ أي : ذلك العمل. وقيل : الإفاضة الدفع بكثرة. وقال الزجاج : إذ تنتشرون فيه، يقال : أفاض القوم في الحديث إذا انتشروا فيه ﴿ وما يعزب ﴾ أي : يغيب ﴿ عن ربك ﴾ يا محمد ﴿ من مثقال ﴾ أي : وزن ﴿ ذرّة ﴾ وهي النملة الحمراء الصغيرة خفيفة الوزن جدّاً. وقيل : المراد بها الهباء وهو الشيء المنبث الذي تراه في البيت في ضوء الشمس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي والباقون بالضم، ومن صلة على القراءتين، وإنما قيد بقوله تعالى :﴿ في الأرض ولا في السماء ﴾ تقريباً لعقول العامّة. فإن قيل : لم قدّم ذكر الأرض على السماء، وقدم ذكر السماء على الأرض في سورة سبأ حيث قال تعالى :﴿ ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ﴾ [ سبأ، ٣ ] فما فائدة ذلك ؟ أجيب : بأنّ الكلام هنا في حال أهلها، والمقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية ﴿ ولا أصغر من ذلك ﴾ أي : الذرّة ﴿ ولا أكبر ﴾ أي : منها ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ أي : بين وهو اللوح المحفوظ. وقرأ حمزة برفع الراء من أصغر وأكبر على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب على أنّ ذلك اسم لا وفي كتاب خبرها.
﴿ ألا إنّ أولياء الله ﴾ أي : الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة ﴿ لا خوف عليهم ﴾ من لحوق مكروه ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ بفوات مأمول.
وفسرهم بقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا وكانوا يتقون ﴾ الله بامتثال أمره ونهيه، وهذا الذي فسر الله تعالى به الأولياء لا مزيد عليه. وعن علي رضي الله عنه : هم قوم صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من العبر، خمص البطون من الخوا. وعن سعيد بن جبير أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله تعالى ؟ فقال :«هم الذين يذكر الله برؤيتهم » يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس : الإخبات والسكينة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إنّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم ؟ وما أعمالهم ؟ فلعلنا نحبهم، قال : هم قوم تحابوا في الله بغير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إنّ وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ الآية. ونقل النووي في مقدمة «شرح المهذب » عن الإمامين الشافعيّ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنّ كلاً منهما قال : إذا لم تكن العلماء أولياء لله فليس لله وليّ. وذلك في العالم العامل بعلمه. وقال القشيري : من شرط الوليّ أن يكون محفوظاً كما أن من شرط النبيّ أن يكون معصوماً، فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع. فالوليّ هو الذي توالت أفعاله على الموافقة.
ولما نفى الله عنهم الخوف والحزن زادهم فقال تعالى مبيناً لتوليته لهم بعد أن شرع بتوليتهم له :﴿ لهم البشرى ﴾ أي : الكاملة ﴿ في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ أمّا البشرى في الدنيا ففسرت بأشياء منها : الرؤيا الصالحة، فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال :«البشرى هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له ». وقال صلى الله عليه وسلم «ذهبت النبوة وبقيت المبشرات » وقال :«الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليتعوّذ منه وليبصق عن شماله ثلاث مرّات فإنه لا يضرّه ». وقال :«الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة » ومنها : محبة الناس له، وذكرهم إياه في الثناء الحسن. وعن أبي ذرّ قال : قلت : يا رسول الله، إنّ الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال :«تلك عاجل بشرى المؤمن ». ومنها : البشرى لهم عند الموت، قال تعالى :﴿ تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة ﴾ [ فصلت، ٣٠ ]. وأمّا البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرونه من بياض وجوههم، وإعطاء الصحائف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وسلام الله تعالى عليهم كما قال تعالى :﴿ سلامٌ قولاً من ربَ رحيم ﴾ [ يس، ٥٨ ] وغير ذلك من المبشرات بما بشر الله تعالى به عباده المتقين في كتابه، وعلى ألسنة أنبيائه من جنته وكريم ثوابه، فإن لفظ البشارة مشتق من خبر سار يظهر أثره في بشرة الوجه، فكل ما كان كذلك دخل في هذه الآية، ثم إنه تعالى لما ذكر صفة أوليائه وشرح أحوالهم قال تعالى :﴿ لا تبديل ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ لكلمات الله ﴾ أي : لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، والكلمة والقول سواء، ونظيره قوله تعالى :﴿ ما يبدّل القول لديّ ﴾ [ ق، ٢٩ ]. وقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ﴿ هو الفوز العظيم ﴾ هذه الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقق المبشر به وتعظيم شأنه، وليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتصل بما قبله.
﴿ ولا يحزنك ﴾ يا محمد ﴿ قولهم ﴾ أي : هؤلاء المشركين، أي : لا يغمك تكذيبهم وتهديدهم وتشويرهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك. وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي وكلاهما بمعنى. وقوله تعالى :﴿ إن العزة ﴾ أي : القوة ﴿ لله جميعاً ﴾ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل : ما لي لا أحزن فقيل إن العزة لله جميعاً، ، أي : أنّ الغلبة والقهر في مملكة الله لله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم. قال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبنّ أنا ورسلي ﴾ [ المجادلة، ٢١ ]. وقال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا ﴾ [ غافر، ٥١ ]. وقيل : إنّ المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله تعالى أنَّ جميع ذلك في ملكه فهو قادر على أن يسلب جميع ذلك ويذلهم بعد العز ﴿ هو السميع ﴾ أي : البليغ السمع لأقوالهم ﴿ العليم ﴾ أي : المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم، وهو تعليل لتفرّده بالعزة ؛ لأنه تفرّد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة ؟ فإن قيل : قوله تعالى :﴿ إنّ العزة لله جميعاً ﴾ يضادّ قوله تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون، ٨ ] أجيب : بالمنع لأنّ عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله فهي لله.
﴿ ألا إنّ لله من في السماوات ومن في الأرض ﴾ ملكاً وخلقاً. فإن قيل : قد ذكر الله تعالى في الآية المتقدّمة ﴿ ألا إنَّ لله ما في السماوات والأرض ﴾ بلفظ ما وقال هنا بلفظ من فما فائدة ذلك ؟ أجيب : بأنه تعالى غلب في الآية الأولى ما لا يعقل على من يعقل لكثرته، وفي هذه غلب العاقل على غيره لشرفه، وقيل : مجموع الآيتين دال على أنّ الكل خلقه وملكه، وقيل : إنّ المراد بمن في السماوات الملائكة، وبمن في الأرض الثقلان، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء في ملكه وتحت قهره فما لا يعقل منها أحق أن لا يكون له ندّا وشريكاً فهو كالدليل على قوله تعالى :﴿ وما يتبع الذين يدعون ﴾ أي : يعبدون ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره أصناماً ﴿ شركاء ﴾ على الحقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء تعالى الله عن ذلك ﴿ إنّ ﴾ أي : ما ﴿ يتبعون ﴾ في ذلك ﴿ إلا الظنّ ﴾ أي : ظنها أنها آلهة تشفع لهم وأنها تقربهم إلى الله تعالى، ثم بيّن تعالى أنّ هذا الظنّ لا حكم له بقوله تعالى :﴿ وإن ﴾ أي : ما ﴿ هم إلا يخرصون ﴾ أي : يكذبون في ذلك، ويجوز أن يكون ﴿ وما يتبع ﴾ في معنى الاستفهام، أي : وأيّ شيء يتبعون، و﴿ شركاء ﴾ على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع، وكان حقه ﴿ وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ﴾ شركاء فاقتصر على أحدهما للدلالة.
وقوله تعالى :﴿ هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه ﴾ أي : ليزول عنكم التعب والكلال فيه بما تقاسون في نهاركم من تعب التردد في المعاش ﴿ والنهار مبصراً ﴾ أي : مضيئاً تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته المتوحد هو بهما ليدلهم على تفرده باستحقاق العبادة. وإضافة الإبصار إلى النهار مع أنه يبصر فيه على طريق نقل الاسم من المسبب إلى السبب، كقولهم ليل نائم ؛ لأنّ الليل سبب للسكون. قال قطرب : تقول العرب : أظلم الليل، أي : صار ذا ظلمة، وأضاء النهار، أي : صار ذا ضياء. ﴿ إن في ذلك ﴾ المذكور ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات على وحدانيته تعالى ﴿ لقوم يسمعون ﴾ سماع اعتبار وتدبر فيعلمون بذلك أنّ الذي خلق الأشياء كلها هو الإله المعبود المتفرد بالوحدانية في الوجود.
ثم ذكر الله تعالى نوعاً من أباطيل الكفار بقوله تعالى :﴿ قالوا ﴾ أي : اليهود والنصارى ومن زعم أنّ الملائكة بنات الله ﴿ اتخذ الله ولداً ﴾ قال الله تعالى :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزيهاً له عن الولد ﴿ هو الغنيّ ﴾ عن كل أحد، وإنما يطلب الولد من يحتاج إليه، ثم بين تعالى غناه بقوله تعالى :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ من ناطق وصامت ملكاً وخلقاً، ولما بين تعالى بالدليل الواضح امتناع ما أضافوا إليه عطف بالإنكار والتوبيخ فقال :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ عندكم من سلطان ﴾ أي : حجة ﴿ بهذا ﴾ أي : الذي تقولونه، ثم بالغ تعالى في ذلك الإنكار عليهم بقوله تعالى :﴿ أتقولون على الله ما لا تعلمون ﴾ حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه تعالى جهلاً منكم، والاستفهام للتوبيخ.
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء الذين يختلقون على الله الكذب فيقولون عليه الباطل ويزعمون أنّ له ولداً ﴿ إنَّ الذين يفترون ﴾ أي : يتعمدون ﴿ على الله الكذب لا يفلحون ﴾ أي : لا ينجحون في سعيهم ولا يفوزون بمطلوبهم بل خابوا وخسروا، فإنهم لا ينجون من النار ولا يفوزون بالجنة، ومن الناس من إذا فاز بشيء من المطالب العاجلة والمقاصد الخسيسة ظنّ أنه قد فاز بالمقصد.
والله سبحانه وتعالى أزال هذا الخيال بأن قال :﴿ متاع في الدنيا ﴾ وفيه إضمار تقديره : لهم متاع في الدنيا، على أنه مبتدأ خبره محذوف، ويصح أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رياستهم في الكفر أو حياتهم أو تقلبهم متاع في الدنيا وهو أيام يسيرة بالنسبة إلى طول بقائهم في العذاب ﴿ ثم إلينا مرجعهم ﴾ بالموت ﴿ ثم نذيقهم العذاب الشديد ﴾ بعد الموت ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كانوا يكفرون ﴾ ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أحوال كفار قريش وما كانوا عليه من الكفر والعناد شرع بعد ذلك في قصص الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وذكر الله تعالى منهم في هذه السورة ثلاث قصص.
القصة الأولى : قصة نوح عليه السلام المذكورة بقوله تعالى :
﴿ واتل ﴾ يا محمد ﴿ عليهم ﴾ أي : كفار قريش ﴿ نبأ ﴾ أي : خبر ﴿ نوح ﴾ وذلك ليكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه أسوة ممن سلف من الأنبياء، فإنه كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أنّ معاملة هؤلاء الكفار مع كل الرسل ما كان إلا على هذا الوجه خف ذلك على قلبه، كما يقال : المصيبة إذا عمت خفت، ولأنّ الكفار إذا سمعوا هذه القصص، وعلموا أنّ الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدّمين، إلا أنّ الله تعالى أعلنهم بالآخرة ونصرهم وأيدهم وقهر أعداءهم ؛ كان سماع هؤلاء الكفار لأمثال هذه القصص سبباً لانكسار قلوبهم ووقوع الخوف والوجل في صدورهم، ولأنّ الكلام إذا طال تقريراً في نوع من أنواع العلوم فربما حصل نوع من أنواع الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن من العلم إلى فن آخر شرح صدره، وطاب قلبه، ووجد في نفسه رغبة جديدة وقوّة حادثة وميلاً قوياً ؛ ولأنه صلى الله عليه وسلم لما لم يتعلم علماً ولم يطالع كتاباً ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوت، ومن غير زيادة، ومن غير نقصان ؛ دل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل ويبدل من نبأ نوح ﴿ إذ قال لقومه ﴾ وهم بنو قابيل ﴿ يا قوم إن كان كبر ﴾ أي : شق وعظم ﴿ عليكم مقامي ﴾ أي : لبثي فيكم ألف سنة إلا خمسين عاماً ﴿ وتذكيري ﴾ أي : وعظي إياكم ﴿ بآيات الله ﴾ أي : بحجته وبيناته، فعزمتم على قتلي وطردي ﴿ فعلى الله توكلت ﴾ أي : فهو حسبي وثقتي أو قيامي على الدعوة ؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم بيناً، وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود.
﴿ فأجمعوا أمركم ﴾ أي : فاعزموا على أمر تفعلونه في أذاي بالإهلاك أو غيره ﴿ وشركاءكم ﴾ أي : وادعو شركاءكم أو الواو وبمعنى مع، أي : مع شركائكم وهي الأصنام، وإنما حثهم على الاستعانة بها بناء على مذهبهم الفاسد، واعتقادهم أنها تضرّ وتنفع مع اعتقاده أنها جماد لا تضرّ ولا تنفع تبكيتاً وتوبيخاً لهم. ﴿ ثم لا يكن أمركم ﴾ أي : الذي تقصدوني به ﴿ عليكم غمة ﴾ أي : مستوراً من غمه إذا ستره، بل أظهروه وجاهروني مجاهرة، فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السرّ والجهر ﴿ ثم اقضوا إليّ ﴾ أي : امضوا ما في أنفسكم وافرغوا منه، يقال : قضى فلان إذا مات، ومضى وقضى دينه إذا فرغ منه. وقيل : معناه توجهوا إليّ بالقتل والمكروه. وقيل : فاقضوا ما أنتم قاضون، وهذا مثل قول السحرة لفرعون :﴿ فاقض ما أنت قاض ﴾ [ طه، ٧٢ ] أي : اعمل ما أنت عامل. ﴿ ولا تنظرون ﴾ أي : ولا تؤخرون بعد إعلامكم إياي ما أنتم عليه، وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلامه وعصمته، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً.
﴿ فإن توليتم ﴾ أي : أعرضتم عن تذكيري ﴿ فما سألتكم من أجر ﴾ أي : من جعل وعوض على تبليغ الرسالة، فينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم، وطلب أجر على عظتكم، ومتى كان الإنسان فارغاً عن الطمع كان قوله أقوى تأثيراً في القلب ﴿ إن أجري إلا على الله ﴾ وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة، أي : ما أنصحكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا. وهكذا ينبغي لكل من ينفع الناس بعلم أو إرشاد إلى طريق الله تعالى ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين ﴾ أي : إني مأمور بالاستسلام لكل مكروه يصل إليّ منكم لأجل هذه الدعوة، وقيل : بدين الإسلام وأنا ماض فيه غير تاركٍ له قبلتموه أو لم تقبلوه.
﴿ فكذبوه ﴾ أي : أصرّوا على تكذيبه، بعدما ألزمهم الحجة، وبين أن توليتهم ليست إلا لعنادهم وتمردهم لا جرم حقت عليهم كلمة العذاب ﴿ فنجيناه ﴾ من الغرق ﴿ ومن معه في الفلك ﴾ أي : السفينة وكانوا ثمانين ﴿ وجعلناهم ﴾ أي : الذين أنجيناهم معه في الفلك ﴿ خلائف ﴾ في الأرض يخلقون الهالكين بالغرق ﴿ وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا ﴾ بالطوفان، وقوله تعالى :﴿ فانظر ﴾ أي : أيها الإنسان أو يا محمد ﴿ كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله وتسلية له، وهذه القصة إذا سمعها من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن كذب به كان زجراً للمكلفين من حيث يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نوح، وتكون داعية للمؤمنين على الثبات على الإيمان ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نوح، وهذه الطريقة في الترغيب والتحذير إذا جرت على سبيل الحكاية عمن تقدّم كانت أبلغ من الوعيد المبتدأ، ولهذا الوجه أكثر تعالى ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام.
﴿ ثم بعثنا من بعده ﴾ أي : نوح ﴿ رسلاً إلى قومهم ﴾ لم يسم هنا تعالى من كان بعد نوح من الرسل، وقد كان بعده هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب صلوت الله وسلامه عليهم. ﴿ فجاؤوهم بالبينات ﴾ أي : بالمعجزات الواضحات التي تدل على صدقهم. ﴿ فما كانوا ليؤمنوا ﴾ أي : فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدّه عنادهم وخذلان الله تعالى إياهم ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كذبوا به من قبل ﴾ أي : أنهم كانوا قبل بعثة الرسل إليهم أهل جاهلية مكذبين بالحق، فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ما طبعنا على هؤلاء بسبب تكذيبهم الرسل ﴿ نطبع ﴾ أي : نختم ﴿ على قلوب المعتدين ﴾ في كل زمن لكل من تعمد العدول فيما لا يحلّ له، فلا يقبل الإيمان لانهماكهم في الضلال واتباعهم المألوف. وفي أمثال ذلك دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد.
القصة الثانية : قصة موسى عليه السلام المذكورة بقوله تعالى :﴿ ثم بعثنا من بعدهم ﴾ أي : هؤلاء الرسل ﴿ موسى وهارون إلى فرعون وملئه ﴾ أي : أشراف قومه وغيرهم تبع لهم، فهو مرسل إلى الجميع ﴿ بآياتنا ﴾ التسع ﴿ فاستكبروا ﴾ عن اتباعها والإيمان بها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبيينها ويتعظموا عن قبولها ﴿ وكانوا قوماً مجرمين ﴾ أي : كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترؤوا عن ردّها.
﴿ فلما جاءهم الحق ﴾ أي : جاء فرعون وقومه ﴿ من عندنا ﴾ أي : الذي جاء به موسى من عند ربه، وعرفوا أنه ليس من عند موسى وهارون لتظاهر المعجزات الظاهرات المزيحة للشك ﴿ قالوا ﴾ أي : غير متأملين له ولا ناظرين في أمره لفرط تمرّدهم ﴿ إن هذا لسحر مبين ﴾ أي : بين ظاهر يعرفه كل أحد، وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي لا يظهر إلا على كافر أو فاسق.
وقوله تعالى :﴿ قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ﴾ فيه حذف تقديره : أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر أسحر هذا، فحذف السحر الأوّل اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ثم قال أسحر هذا ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار بمعنى أنه ليس بسحر، ثم احتج على صحة قوله تعالى فقال :﴿ ولا يفلح الساحرون ﴾ فإنه لو كان سحراً لاضمحل ولم يبطل سحر السحرة، فقلب العصا حية، وفلق البحر معلوم بالضرورة أنه ليس من باب التمويه والتخييل، فثبت أنه ليس بسحر.
﴿ قالوا ﴾ أي : قوم فرعون لموسى
﴿ أجئتنا لتلفتنا ﴾ أي : لتردّنا وتصرفنا واللفت والفتل أخوان
﴿ عما وجدنا عليه آباءنا ﴾ أي : من الدين وعبادة الأصنام، ثم قالوا لموسى وهارون
﴿ وتكون لكما الكبرياء ﴾ أي : الملك والعز
﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر. قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً الملوك موصوفون بالكبر، ولهذا وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :
ملكه ملك رأفة ليس فيه | جبروت منه ولا كبرياء |
ينفي ما عليه الملوك من ذلك، ويجوز أن يقصدوا بذلك ذمهما، وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام :
﴿ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض ﴾ [ القصص، ١٩ ].
﴿ وما نحن لكما بمؤمنين ﴾ أي : بمصدقين فيما جئتما به.
﴿ وقال فرعون ﴾ لقومه إرادة للمناظرة لما أتى به موسى عليه السلام ﴿ ائتوني بكل ساحر عليم ﴾ أي : بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض. وقرأ حمزة والكسائي بغير ألف بين السين والحاء، وتشديد الحاء مفتوحة وألف بعدها بصيغة فعال دالّ على زيادة قلق فرعون، والباقون بألف بعد السين وتخفيف الحاء مكسورة ولا ألف بعدها.
﴿ فلما جاء السحرة ﴾ أي : كل من في أرض مصر، منهم قالوا لموسى : إمّا أن تلقي وإمّا أن نكون نحن الملقين ﴿ قال لهم موسى ألقوا ﴾ جميع ﴿ ما أنتم ملقون ﴾ فإن قيل : كيف أمرهم بالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر ؟ أجيب : بأنه إنما أمرهم بإلقاء ما معهم من الحبال والعصيّ التي معهم ليظهر للخلق، إنما أتوا به عمل فاسد وسعي باطل لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر.
﴿ فلما ألقوا ﴾ ما معهم من الحبال والعصيّ وخيلوا لسحرهم أعين الناس أنها تسعى ﴿ قال موسى ﴾ منكرا عليهم ﴿ ما جئتم به السحر ﴾ قرأه أبو عمرو بهمزتين الأولى همزة الاستفهام فهي مفتوحة والثانية همزة وصل، وله فيها وجهان : التسهيل والبدل، فما استفهامية مبتدأ. وجئتم به خبرها، والسحر بدل منه، وقرأ الباقون بهمزة وصل فتسقط في الوصل، أي : الذي جئتم به هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه سحراً، ثم أخبره موسى عليه السلام بقوله :﴿ إن الله سيبطله ﴾ أي : يهلكه ويظهر فضيحة صاحبه ﴿ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ﴾ أي : لا يثبته ولا يقوّيه. وقول البيضاوي : وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له محمول على ما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية وإلا فله حقيقة فهو حق عند أهل السنة، وهو علم بكيفية استعدادات تقتدر بها النفوس البشرية على ظهور التأثير في عالم العناصر.
﴿ ويحق ﴾ أي : يثبت ويظهر ﴿ الله الحق بكلماته ﴾ أي : بقضائه ووعده الصادق لموسى عليه السلام. وقد أخبر الله تعالى في غير هذه السورة أنه كيف أبطل ذلك السحر، وذلك بسبب أن ذلك الثعبان قد تلقف تلك الحبال والعصيّ ﴿ ولو كره المجرمون ﴾.
ولما بين تعالى أن قوم موسى شاهدوا هذه المعجزات ومع ذلك لم يؤمن منهم إلا القليل كما قال تعالى :
﴿ فما آمن لموسى إلا ذريّة من قومه ﴾ وإنما ذكر تعالى ذلك تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه كان يغتمّ بسبب إعراض القوم عنه واستمرارهم على الكفر بين تعالى أنّ له في هذا الباب بسائر الأنبياء أسوة ؛ لأنّ الذي ظهر من موسى عليه السلام من المعجزات كان أمراً عظيماً، ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه، والذرية اسم يقع على القليل، من القوم. قال ابن عباس : الذرية القليل، والهاء التي في قومه راجعة إلى موسى، أي : فما آمن من قومه إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنه قيل إلا أولاد قومه، وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل : راجعة إلى فرعون، والذرية : امرأته آسية ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وماشطته ﴿ على خوف من فرعون وملئهم ﴾ أي : خوف منه ؛ لأنه كان شديد البطش، وكان قد أظهر العداوة مع موسى، وإذا علم ميل القوم إلى موسى، كان يبالغ في إيذائهم، فلهذا السبب كانوا خائفين منه ومن أشراف قومه، والضمير لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظمة ؛ لأنه ذو أصحاب يأتمرون به. وقيل : المراد بفرعون آله. كما يقال ربيعة ومضر. ﴿ أن يفتنهم ﴾ أي : يصرفهم ويصدّهم عن الإيمان ﴿ وإنّ فرعون لعال ﴾ أي : متكبر قاهر ﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر ﴿ وإنه لمن المسرفين ﴾ أي : المجاوزين الحدّ، فإنه كان من أخس العبيد وادّعى الربوبية، وكان كثير القتل والتعذيب لبني إسرائيل.
﴿ وقال موسى ﴾ لقومه ﴿ يا قوم إن كنتم آمنتم بالله ﴾ أي : صدقتم به وبآياته ﴿ فعليه توكلوا ﴾ أي : ثقوا به واعتمدوا عليه فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه ﴿ إن كنتم مسلمين ﴾ أي : مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له. وقيل : إن كنتم آمنتم بالقلب وأسلمتم بالظاهر.
﴿ فقالوا ﴾ مجيبين له ﴿ على الله توكلنا ﴾ أي : عليه اعتمدنا لا على غيره، ثم دعوا ربهم فقالوا ﴿ ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ﴾ أي : لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
﴿ ونجنا ﴾ أي : خلصنا ﴿ برحمتك من القوم الكافرين ﴾ أي : من أيدي قوم فرعون ؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا مخلصين، لا جرم أنّ الله تعالى قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم ونجاهم، وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في الأرض. وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكل أوّلاً لتجاب دعوته.
ولما شرح الله تعالى خوف المؤمنين من الكافرين وما ظهر فيهم من التوكل على الله تعالى أتبعه بأن أمر موسى وهارون عليهما السلام باتخاذ البيوت بقوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى موسى وأخيه ﴾ أي : الذي طلب مؤازرته ومعاضدته ﴿ أن تبوّآ ﴾ أي : اتخذا ﴿ لقومكما بمصر بيوتاً ﴾ تسكنون فيها أو ترجعون إليها للعبادة ﴿ واجعلوا ﴾ أنتما وقومكما ﴿ بيوتكم ﴾ أي : تلك البيوت ﴿ قبلة ﴾ مصلى أو مساجد كما في قوله تعالى :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾ [ النور، ٣٦ ] موجهة نحو القبلة، أي : الكعبة، وكان موسى عليه السلام يصلي إليها. وقرأ ورش وأبو عمرو وحفص بيوتاً وبيوتكم برفع الباء، والباقون بالخفض ﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ فيها ذكر المفسرون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً ثلاثة :
الأوّل : أنّ موسى عليه السلام ومن معه كانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم ويؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم كما كان المؤمنون على هذه الحالة في أوّل الإسلام بمكة.
الثاني : أنه قيل : إنه تعالى لما أرسل موسى إليهم أمر فوعون بتخريب مساجد بني إسرائيل ومنعهم من الصلاة فأمرهم الله تعالى أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلوا فيها خوفاً من فرعون.
الثالث : أنه تعالى لما أرسل موسى إليهم وأظهر فرعون تلك العداوة الشديدة أمر الله تعالى موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء، وتكفل الله تعالى بأن يصونهم من شرّ الأعداء، وقد خص الله تعالى موسى وهارون في أوّل هذه الآية بالخطاب بقوله تعالى :﴿ أن تبوّأا لقومكما ﴾ لأنّ التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتعاطاه رؤوس القوم للتشاور، ثم عمم هذا الخطاب فقال : واجعلوا بيوتكم قبلة ؛ لأن جعل البيوت مساجد وإقامة الصلاة مما ينبغي أن يفعله كل أحد، ثم خص موسى عليه السلام في آخر الكلام بالخطاب فقال تعالى :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ أي : بالنصر في الدنيا والجنة في العقبى ؛ لأنّ الغرض الأصلي من جميع العبادات حصول هذه البشارة، فخص الله تعالى موسى بها ليدل بذلك على أن الأصل في الرسالة هو موسى عليه السلام، وأنّ هارون عليه السلام تبع له، ثم إنّ موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة الظاهرة ورأى القوم مصرّين على الجحد والعناد والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب إقدامه على الجرائم وكان جرمهم هو لأجل حبهم الدنيا يزكو.
﴿ و ﴾ لهذا السبب ﴿ قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه ﴾ أي : أشراف قومه على ما هم عليه من الكفر والكبر ﴿ زينة ﴾ أي : عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما من الدواب والغلمان وأثاث البيت الفاخر ونحو ذلك. ﴿ وأموالاً ﴾ أي : كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت، ثم بيّن غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب : ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم. ﴿ ربنا ﴾ أي : يا ربنا آتيتهم ذلك ﴿ ليضلوا ﴾ أي : في خاصة أنفسهم ويضلوا غيرهم ﴿ عن سبيلك ﴾ أي : دينك واللام للعاقبة وهي متعلقة بآتيت كقوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزناً ﴾ [ القصص، ٨ ] وقيل : لام كي، أي : آتيتهم كي تفتنهم. وقيل : هو دعاء عليهم بما علم من ممارسة أحوالهم أنه لا يكون غير ذلك. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بالفتح ﴿ ربنا اطمس على أموالهم ﴾ أي : امسخها وغيرها عن هيئتها. قال قتادة : صارت أموالهم وحروثهم وزروعهم وجواهرهم حجارة. وقال محمد بن كعب : جعل سكرهم حجارة. وقال ابن عباس : بلغنا أنّ الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحاً وأنصافاً وأثلاثاً وأرباعاً، ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا آل فرعون، فأخرج منها البيضة مشقوقة والجوزة مشقوقة، وإنها كالحجر. قال السدّي : مسخ الله تعالى أموالهم حجارة والنخيل والثمار والدقيق والأطعمة فكانت إحدى الآيات التسع ﴿ واشدد على قلوبهم ﴾ أي : اطبع عليها واستوثق حتى لا تنشرح للإيمان وقوله :﴿ فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ جواب للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي أو عطف على ليضلوا، وما بينهما دعاء معترض.
وقوله تعالى :﴿ قال قد أجيبت دعوتكما ﴾ فيه وجهان :
الأوّل : قال ابن عباس : إنّ موسى كان يدعو وهارون كان يؤمّن فلذلك قال : دعوتكما، وذلك أنّ من يقول عند دعاء الداعي آمين فهو أيضاً داع ؛ لأنّ قوله آمين تأويله : استجب، فهو سائل كما أنّ الداعي سائل أيضاً.
الثاني : أن يكون كل منها ذكر هذا. غاية ما في الباب أن يقال : إنه تعالى حكى هذا الدعاء عن موسى بقوله تعالى :﴿ وقال موسى ربنا ﴾ وهذا لا ينافي أن يكون هارون قد ذكر الدعاء أيضاً. وأمّا قوله تعالى :﴿ فاستقيما ﴾ فمعناه اثبتا على الدعوة والرسالة والزيادة في الزام الحجة فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلا تستعجلا. قال ابن جريج : إنّ فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. ﴿ ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ﴾ أي : الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجاباً كان المقصود حاصلاً في الحال فربما أجاب الله تعالى دعاء الإنسان في مطلوبه إلا أنه إنما ربما يوصله إليه في وقته المقدور، والاستعجال لا يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال تعالى لنوح عليه الصلاة والسلام :﴿ إني أعظك أن تكون من الجاهلين ﴾ [ هود، ٤٦ ] وهذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام، كما أنّ قوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطن عملك ﴾ [ الزمر، ٦٥ ] لا يدل على صدور الشرك منه صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون، والباقون بتشديدها ؛ لأنّ نون التوكيد تثقل وتخفف.
ولما أجاب الله تعالى دعاءهما أمر بني إسرائيل وكانوا ستمائة ألف بالخروج من مصر في الوقت المعلوم، ويسر لهم أسبابه وفرعون كان غافلاً عن ذلك.
فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج في عقبهم كما قال تعالى :﴿ وجاوزنا ﴾ أي : قطعنا ﴿ ببني إسرائيل ﴾ أي : عَبَدَنَا المخلص لنا ﴿ البحر ﴾ حتى بلغوا الشط حافظين لهم ﴿ فأتبعهم فرعون وجنوده ﴾ أي : لحقهم وأدركهم يقال : تبعه وأتبعه إذا أدركه ولحقه ﴿ بغياً وعدواً ﴾ أي : ظلماً وعدواناً. وقيل : بغياً في القول وعدواً في الفعل، فلما أدركهم فرعون قالوا لموسى : أين المخلص والمخرج، البحر أمامنا وفرعون وراءنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء العظيم، فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق لموسى وقومه فكان كل فرق كالطود العظيم، وكشف عنه وجه الأرض، وانتشر لهم البحر، فلما وصل فرعون إلى البحر هابوا دخوله، وكان فرعون على حصان أدهم وكان معه في عسكره ثمانمائة ألف حصان على لون حصانه، وميكائيل يسوقهم حتى لم يشذ منهم أحد، فلما خرج آخر بني إسرائيل من البحر تقدّمهم جبريل على فرس وخاض البحر، فلما وجد الحصان ريح الأنثى لم يملك فرعون من أمره شيئاً، فنزل البحر وأتبعه جنوده، حتى إذا كملوا جميعاً في البحر وهمّ أوّلهم بالخروج التطم البحر عليهم، فلما أتاه الغرق أتى بكلمة الإخلاص كما قال تعالى :﴿ حتى إذا أدركه الغرق ﴾ أي : لحقه ﴿ قال آمنت أنه ﴾ أي : بأنه ﴿ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾. فإن قيل : إنه آمن ثلاث مرات أولها قوله :﴿ آمنت ﴾. وثانيها : قوله :﴿ لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ﴾. وثالثها : قوله :﴿ وأنا من المسلمين ﴾. فما السبب في عدم القبول ؟ أجاب : العلماء عن ذلك بأجوبة منها : أنه إنما آمن عند نزول العذاب، والإيمان والتوبة عند معاينة الملائكة والعذاب غير مقبول، ويدلّ عليه قوله تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ﴾ [ غافر، ٨٥ ].
ودس جبريل في فيه من حما البحر مخافة أن تناله الرحمة وقال له ﴿ آلآن ﴾ تؤمن ﴿ وقد عصيت قبل ﴾ وضيعت التوبة في وقتها وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية ﴿ وكنت من المفسدين ﴾ بضلالك وإضلالك عن الإيمان والتوبة حتى أغلق بابها بحضور الموت ومعاينة الملائكة، وإنما قال له :﴿ وكنت من المفسدين ﴾ في مقابلة قوله :﴿ وأنا من المسلمين ﴾ ومنها أنّ فرعون إنما قال هذه الكلمة ليتوصل بها إلى دفع ما نزل به من البلية الحاضرة، ولم يكن قصده الإقرار بوحدانية الله تعالى والاعتراف له بالربوبية، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت، ومنها : أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال :﴿ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ﴾ فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية.
ومنها : ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني إسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون :﴿ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ﴾ انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر، ومنها : أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليه السلام، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه : وأشهد أنّ محمداً رسول الله فكذا هنا. ومنها : أنّ جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتوى، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه ؟ فكتب فرعون فيه يقول : أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر، ثم أنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام إليه خطه. فإن قيل : فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك ؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتاً أم لا ؟ فإنّ كان فكيف يمنعه من التوبة، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك ؟ أجيب : بأنَّ التكليف كان ثابتاً وجبريل عليه السلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى :﴿ فإنّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ [ فاطر، ٨ ]. وقال تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة ﴾ [ الأنعام، ١١٠ ] وهكذا فعل بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلاً، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب، ومن الناس من قال : قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ لأنه ذكر بعده.
﴿ فاليوم ننجيك ﴾ أي : نخرجك من البحر ﴿ ببدنك ﴾ أي : جسمك الذي لا روح فيه كاملاً سوياً لم يتغير، أو نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس، أو أنّ المراد بالبدن الدرع. قال الليث : البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، وهذا منقول عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف، به فأخرجه الله تعالى من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ﴿ لتكون لمن خلفك ﴾ أي : بعدك ﴿ آية ﴾ أي : عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس : أنّ بعض بني إسرائيل شكوا في موته، فأخرج لهم ليروه ويشاهده الخلق على ذلك الذلّ والمهانة بعدما سمعوا منه قوله :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات، ٢٤ ] ليعلموا أنّ دعواه كانت باطلة، وأن ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما يرون لعصيانه ربه ﴿ وإنّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون ﴾ أي : لا يعتبرون بها، وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى، ولكن القول الأوّل أشهر.
﴿ ولقد بوّأنا ﴾ أي : أنزلنا ﴿ بني إسرائيل مبوّأ صدق ﴾ أي : منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام، وإنما وصف المكان بالصدق ؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق، تقول العرب : هذا رجل صدق وقدم صدق، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملاً صالحاً لا بدّ أن يصدق الظنّ فيه. وقيل : أرض الشام والفرس والأردن ؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ أي : الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى :﴿ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ﴾ [ الأعراف، ١٣٧ ]. ﴿ فما اختلفوا ﴾ أي : هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل في أمر دينهم ﴿ حتى جاءهم العلم ﴾ أي : جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوباً عندهم، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وكفر به بعضهم بغياً وحسداً وإيثاراً لبقاء الرياسة، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها ﴿ إن ربك ﴾ يا محمد ﴿ يقضي بينهم يوم القيامة ﴾ أي : الذي هو أعظم الأيام ﴿ فيما كانوا ﴾ أي : بأفعالهم الجبلية ﴿ فيه يختلفون ﴾ أي : فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره.
واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى :﴿ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب ﴾ أي : التوراة ﴿ من قبلك ﴾ أي : فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين ﴾ [ الأحزاب، ١ ] وقوله تعالى :﴿ لئن أشركت ليحبطنّ عملك ﴾ [ الزمر، ٤٦ ]. وقوله تعالى لعيسى عليه السلام :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله ﴾ [ المائدة، ١١٦ ] ومن الأمثلة المشهورة : إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه : الأوّل : قوله تعالى في آخر السورة :﴿ يا أيها الناس ﴾ فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم لو كان شاكاً في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث : إذا قدر أن يكون شاكاً في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار ؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميراً عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيراً في قلوبهم، وقيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول : يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «لا أشك ولا أسأل أحداً منهم »، ونظير هذا قوله للملائكة :﴿ أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾ [ سبأ، ٤٠ ] والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليه السلام :﴿ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين ﴾ [ المائدة، ١١٦ ] والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي : إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى :﴿ لقد جاءك الحق من ربك ﴾ أي : الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه ﴿ فلا تكونن من الممترين ﴾ أي : الشاكين فيه.
وفي قوله تعالى :﴿ ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ﴾ أي : الذين خسروا أنفسهم.
﴿ إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك ﴾ أي : ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم ﴿ لا يؤمنون ﴾ أي : يموتون كفاراً فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
﴿ ولو جاءتهم كل آية ﴾ فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل ﴿ حتى يروا العذاب الأليم ﴾ فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد.
القصة الثالثة : قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى :﴿ فلولا ﴾ أي : فهلا ﴿ كانت قرية ﴾ واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها ﴿ آمنت ﴾ أي : آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب ﴿ فنفعها ﴾ أي : فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها ﴿ إيمانها ﴾ بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى :﴿ إلا قوم يونس ﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس ﴿ لما آمنوا ﴾ أي : لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله ﴿ كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ﴾ ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل : ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ﴿ ومتعناهم إلى حين ﴾ أي : إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره : أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له : إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا : إنا لم نجرب عليك كذباً، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم.
فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب : غامت السماء غيماً عظيماً، أسود هائلاً يدخن دخاناً عظيماً فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم. وكل ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم حتى أنّ الرجل كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال لهم : قولوا يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوها، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : اللَّهمَّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات.
فإن قيل : قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم، فما الفرق بين الحالين ؟ أجيب : بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه.
قال الله تعالى :﴿ ولو شاء ربك ﴾ يا محمد ﴿ لآمن ﴾ بك وصدّقك ﴿ من في الأرض كلهم ﴾ بحيث لم يشذ منهم أحد ﴿ جميعاً ﴾ أي : مجتمعين على ذلك في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ولكن لم يشأ أن يصدّقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له السعادة الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم. وهو قوله تعالى :﴿ أفأنت تكره الناس ﴾ أي : الذين لم يرد الله إيمانهم ﴿ حتى يكونوا مؤمنين ﴾ أي : ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه وتحرص عليه، إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئة الله تعالى وقضائه وليس لأحد ذلك سواه كما قال تعالى :﴿ وما كان ﴾.
﴿ وما كان ﴾ أي : وما ينبغي وما يتأتى ﴿ لنفس ﴾ أي : واحدة فما فوقها ﴿ أن تؤمن ﴾ أي : يقع منها إيمان في وقت مّا ﴿ إلا بإذن الله ﴾ أي : بإرادته لها بالإيمان، فإنّ هدايتها إلى الله فهو المهدي والمضل.
وقال ابن عباس بأمر الله. وقال عطاء : بمشيئة الله. ﴿ ويجعل ﴾ الله ﴿ الرجس ﴾ أي : العذاب والخذلان فإنه سببه. وقرأ شعبة وحده بالنون ﴿ على الذين لا يعقلون ﴾ أي : لا يتدبرون في آيات الله تعالى، فينتفعوا بها وهم يدعون أنهم أعقل الناس ويتساقطون في مساوئ الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، ﴿ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ﴾.
ولما بين الله تعالى في الآيات السابقة أنّ الإيمان لا يحصل إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل بقوله تعالى :﴿ قل انظروا ﴾ أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يسألونك الآيات ﴿ ماذا ﴾ أي : الذي ﴿ في السماوات والأرض ﴾ من الآيات وواضح الدلالات من عجائب صنعه ليدلكم على وحدته وكمال قدرته، ففي العالم العلوي الشمس والقمر وهما دليلان على الليل والنهار والنجوم وحركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها، والكواكب وما يختص بذلك من المنافع، وفي العالم السفلي الجبال والبحار والمعادن والنبات والحيوان، وأخصها حال الإنسان. كل ذلك من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، وانه خالقها، كما قال القائل :
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
وقرأ عاصم وحمزة في الوصل بكسر اللام والباقون بضمها، وأمّا الهمزة من ﴿ انظروا ﴾ فكل القراء يبتدئون بالضم ﴿ وما تغني الآيات ﴾ أي : وإن كانت في غاية الوضوح ﴿ والنذر ﴾ جمع نذير، أي : الرسل ﴿ عن قوم لا يؤمنون ﴾ في علم الله تعالى وحكمه.
تنبيه : قال النحويون : ما هنا تحتمل وجهين الأوّل : أن تكون نفياً بمعنى أنّ هذه الآيات والنذر لا تفيد الفائدة في حق من حكم الله تعالى عليه بأنه لا يؤمن كقولك : لا يغني عنك المال إذا لم تنفق. والثاني : أن تكون استفهاماً كقولك، أي : شيء يغني عنهم، وهو استفهام بمعنى الإنكار.
﴿ فهل ﴾ أي : ما ﴿ ينتظرون ﴾ أي : أهل مكة بتكذيبك ﴿ إلا ﴾ أياماً، أي : وقائع ﴿ مثل أيام ﴾ أي : وقائع ﴿ الذين خلوا من قبلهم ﴾ أي : من مكذبي الأمم كالقبط وقوم نوح وما انطوى بينهما من الأمم، أي : مثل وقائعهم من العذاب ﴿ قل ﴾ أي : قل لهم يا محمد ﴿ فانتظروا ﴾ أي : العذاب ﴿ إني معكم من المنتظرين ﴾ أي : لنزول العذاب بكم.
وقوله تعالى :﴿ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا ﴾ عطف على محذوف، دل عليه قوله تعالى :﴿ إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم ﴾ كأنه قيل : لنهلك الأمم ثم ننجي رسلنا ومن آمن بهم على حكاية الأحوال الماضية. وقرأ أبو عمرو وحده بسكون السين ﴿ كذلك ﴾ أي : كما نجينا رسلنا والذين آمنوا معهم من الهلاك ﴿ حقاً علينا ننج المؤمنين ﴾ أي : ننجيك يا محمد ومن آمن معك وصدّقك من الهلاك والعذاب. فإن قيل : قوله تعالى حقاً يقتضي الوجوب والله تعالى لا يجب عليه شيء. أجيب : بأنَّ ذلك حق بحسب الوعد والحكم لا أنه حق بحسب الاستحقاق. لما ثبت أنّ العبد لا يستحق على خالقه شيئاً وهو اعتراض بين المشبه والمشبه به ونصب بفعله المقدّر، وقيل بدل من ذلك. وقرأ حفص والكسائي بسكون النون الثانية والباقون بفتحها. وأمّا الوقف عليها فجميع القراء يقفون على الجيم ؛ لأنها مرسومة في المصحف بالجيم بلا ياء، فهي في القرآن وقفاً ووصلاً بلا ياء لجميع القراء.
ولما ذكر تعالى الدلائل على أقصى الغايات وأبلغ النهايات أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإظهار دينه فقال :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : الذين أرسلت إليهم فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا بك ﴿ إن كنتم في شك من ديني ﴾ أي : الذي أدعوكم إليه أنه حق وأصررتم على ذلك وعبدتم الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ﴿ فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ﴾ أي : غيره وهو الأصنام التي لا قدرة لها على شيء ﴿ ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم ﴾ بقبض أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها، فإنه الذي يستحق العبادة، وإنما خص الله تعالى هذه الصفة للتهديد. وقيل : إنهم لما استعجلوا بطلب العذاب أجابهم بقوله : ولكن أعبد الله الذي هو قادر على إهلاككم ونصري عليكم. ﴿ وأمرت أن ﴾ أي : بأن ﴿ أكون من المؤمنين ﴾ أي : المصدّقين بما جاء من عند الله. وقيل : إنه لما ذكر العبادة وهي من أعمال الجوارح أتبعها بذكر الإيمان لأنه من أعمال القلوب. فإن قيل : كيف قال :﴿ في شك ﴾ وهم كفار يعتقدون بطلان ما جاء به ؟ أجيب : بأنه كان فيهم شاكون أو أنهم لما رأوا الآيات اضطربوا وشكوا في أمره صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ وأن أقم وجهك للدين ﴾ عطف على ﴿ أن أكون ﴾ غير أن صلة أن محكية بصيغة الأمر ولا فرق بينهما في الغرض ؛ لأنّ المقصود وصلها بما تضمن معنى المصدر ليدل معه عليه، وصيغ الأفعال كلها كذلك سواء الخبر منها والطلب، والمعنى : وأمرت بالاستقامة في الدين والاستعداد فيه بأداء الفرائض والانتهاء عن القبائح، أو في الصلاة باستقبال القبلة وقوله :﴿ حنيفاً ﴾ حال من فاعل أقم أو من الدين أو من الوجه، ومعناه : مائلاً مع الدين غير معوج عنه إلى دين آخر وقوله تعالى :﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ أي : ممن يشرك بالله في عبادته غيره فتهلك، خطاباً للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد أمّته، أي : ولا تكونن أيها الإنسان.
وكذا قوله تعالى :﴿ ولا تدع ﴾ أي : تعبد ﴿ من دون الله ﴾ أي : غيره ﴿ ما لا ينفعك ﴾ أي : إن عبدته ﴿ ولا يضرّك ﴾ إن لم تعبده ﴿ فإن فعلت ﴾ ذلك ﴿ فإنك إذاً من الظالمين ﴾ لنفسك ؛ لأنك وضعت العبادة في غير موضعها، والظلم : وضع الشيء في غير محله، فإذا كان ما سوى الحق معزولاً عن التصرّف كان إضافة التصرّف إلى ما سوى الحق وضعاً للشيء في غير موضعه فيكون ظلماً.
ولما ذكر الله تعالى الأوثان وبيّن أنها لا تقدر على ضرّ ولا نفع بيّن تعالى أنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة بقوله تعالى :﴿ وإن يمسسك ﴾ أي : يصبك ﴿ الله بضرَ ﴾ كفقر ومرض ﴿ فلا كاشف ﴾ أي : لا دافع ﴿ له إلا هو ﴾ لأنه الذي أنزله بك ﴿ وإن يردك بخير ﴾ كرخاء وصحة ﴿ فلا رادّ ﴾ أي : دافع ﴿ لفضله ﴾ أي : الذي أرادك به ﴿ يصيب به ﴾ أي : بالخير ﴿ من يشاء من عباده وهو الغفور ﴾ أي : البليغ الستر للذنوب ﴿ الرحيم ﴾ أي : البالغ في الإكرام. وقرأ أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء، والباقون بالضم، فرجح سبحانه وتعالى جانب الخير على جانب الشر من ثلاثة أوجه :
الأوّل : أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو، وذلك يدل على أنه تعالى يزيل المضار ؛ لأنّ الاستثناء من النفي إثبات، ولما ذكر الخير لم يقل بأنه يدفعه بل قال : إنه لا راد لفضله، وذلك يدل على أنّ الخير مطلوب بالذات وأنّ الشر مطلوب بالعرض كما قال صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال :«سبقت رحمتي غضبي ».
الثاني : أنه سبحانه وتعالى قال في صفة الخير يصيب به من يشاء من عباده، وذلك يدل على أن جانب الخير أقوى وأغلب.
الثالث : أنه تعالى قال ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ وهذا أيضاً يدل على قوّة جانب الرحمة. وحاصل الكلام في هذه الآية : أنه سبحانه وتعالى بيّن أنه منفرد بالخلق والإيجاد والتكوين والإبداع وأنه لا موجد سواه ولا معبود إلا إياه، وأنّ جميع الممكنات مسندة إليه وجميع الكائنات محتاجة إليه، فالأيدي مرفوعة إليه، والحاجات منتهية إليه، والعقول والهة فيه، والرحمة والجود فائض منه.
ولما قرر تعالى الدلائل المذكورة في التوحيد والنبوّة والمعاد، وزين أمر هذه السورة بهذه البيانات الدالة على كونه تعالى مبتدئاً بالخلق والإبداع والتكوين والاختراع ختمها بهذه الخاتمة الشريفة العالية لئلا يبقى لأحدٍ عذر بقوله تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ يا أيها الناس ﴾ أي : الذين أرسلت إليهم ﴿ قد جاءكم الحق من ربكم ﴾ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من الله تعالى والقرآن فلم يبق لكم عذر ﴿ فمن اهتدى ﴾ أي : آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وعمل بما في الكتاب ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ لأنه اتبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل، فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة فثواب اهتدائه له ﴿ ومن ضلّ ﴾ أي : كفر بها أو بشيء منها ﴿ فإنما يضل عليها ﴾ أي : على نفسه ؛ لأنّ وبال ضلاله عليها ؛ لأنّ من ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء فقد غر نفسه. ثم قال صلى الله عليه وسلم ﴿ وما أنا عليكم بوكيل ﴾ أي : حفيظ، أي : موكول إليّ أمركم وإنما أنا بشير ونذير. قال ابن عباس : وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :
﴿ واتبع ﴾ يا محمد
﴿ ما يوحى إليك ﴾ بالامتثال والتبليغ
﴿ واصبر ﴾ أي : على دعوتهم وتحمل أذيتهم
﴿ حتى يحكم الله ﴾ أي : بنصرك عليهم وإظهار دينك أو بالأمر بالقتال
﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، فحكم بقتل المشركين والجزية على أهل الكتاب يعطونها عن يد وهم صاغرون. وأنشد بعضهم في الصبر :
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري | وأصبر حتى يحكم الله في أمري |
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني | صبرت على شيء أمرُ من الجمر |
وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة، وقد تلقته الأنصار، ثم دخل المدينة فقال له : ما لك لم تتلقنا ؟ قال : لم يكن عندنا دواب. قال : فأين النواضح ؟ قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم
«يا معشر الأنصار إنكم ستلقون بعدي أثرة ». قال معاوية : فماذا قال ؟ قال :
«فاصبروا حتى تلقوني » قال : فاصبر. قال : إذاً نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان :
ألا أبلغ معاوية بن حرب | أمير الظالمين ثنا كلامي |
بأنا صابرون فمنظروكم | إلى يوم التغابن والخصام |