﴿بسم الله﴾ الواحد الأحد الجامع لما شتت من بدد
﴿الرحمن﴾ الذي جمع خلقه في رحمة البيان
﴿الرحيم *﴾ الذي خص الأبرار بما أباحهم الرضوان.
لما ختم التي قبلها بعنوان الكتاب، ابتدأ هذه بشرح ذلك العنوان، وأوله وصفه بأنه جامع والخير كله في الجمع والشر كله في الفرقة، فقال تعالى:
﴿الر تلك﴾ أي هذه الآيات العالية المقام، النفسية المرام
﴿آيات الكتاب﴾ أي الكامل غاية الكمال الذي لا كتاب على الحقيقة غيره، الجامع لجمع ما يقوم به الوجود من الخيرات، القاطع في قضائه من غير شك ولا تردد، الغالب بأحكامه القاهرة في وعده ووعيده وأحكامه في إعجازه لجميع من يعانده.
2
ولما كان الغالب في هذه السورة القطع الذي هو من لوازم الكتاب قدمه، وذلك أنه قطع بأمر الأجل والملائكة، وحفظ الكتاب والرمي بالشهب، وكفاية المستهزئين، فكان كما قال سبحانه
﴿و﴾ آيات
﴿قرآن﴾ أي قرآن جامع ناشر مفصل واصل، إذ التنوين للتعظيم
﴿مبين *﴾ لجميع ما يجمع الهمم على الله فيوصل إلى السعادة، وهذه الإبانة - التي لم تدع لبساً - هو متصف بها، مع كونه جامعاً للأصول ناشراً للفروع لا خلل فيه يدخل منه عليه، ولا فصم يؤتى منه إليه، فأعجب لأمر حاوٍ لجميع وفرق وفصل ووصل: والإبانة: إظهار المعنى للنفس بما يميزه عن غيره، لأن أصل الإبانة الفصل: فهذا شرح كونه بلاغاً، فمقصود هذه السورة اعتقاد كون القرآن بلاغاً جامعاً للأمور الموصلة إلى الله، مغنياً عن جميع الأسباب، فلا ينبغي الالتفات إلى شيء سواه
﴿ذرهم يأكلوا﴾،
﴿لا تمدن عينيك﴾ ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ وكان الجمع بين الوصفين الدال كل منهما على الجمع إشارة إلى الرد عليهم في جعلهم القرآن عضين، وأن قولهم شديد المباعدة لمعناه. مع أن المفهومين - مع تصادقهما على شيء واحد - متغايران، فالكتاب: ما يدون في الطروس، والقرآن:
3
ما يقرأ باللسان، فكأن الأول إشارة إلى حفظه في الطروس بالكتابة، والثاني إلى حفظه في الصدور بالدراسة، وسيأتي قوله
﴿وإنا له لحافظون﴾ مؤيداً لذلك، وكل من مادتي كتب وقرأ بجميع التقاليب تدور على الجمع.
أما
«كتب» - وتنقلب إلى كبت وتبك وبكت وبتك - فقال في المجمل: كتبت الكتاب أكتبه وهو من الجمع، والكتاب أيضاً: الدواة - تسمية للشيء باسم ما هو آلته، والمكتب - كمعظم: العنقود أكل بعض ما فيه - تشبيهاً له بالمكتوب، والكتيبة: الجيش والجماعة المستحيزة من الخيل إذا أغارت من المائة إلى الألف - انتهى. وكتبت البغلة - إذا جمعت بين شفري رحمها بحلقة؛ وقال القزاز: وأصله - أي الكتاب - ضمك الشيء إلى الشيء، فكأنه سمي بذلك لضم الحروف بعضها إلى بعض، كتبت المزادة - إذا خرزتها،
4
يعني: فضممت بعضها إلى بعض.
والكتبة - بالضم: السير يخرز به، وما يكتب به حياء الناقة لئلا ينزي عليها، والإكتاب: شد رأس القربة، والكتيبة: جماعة تكتبوا، أي تجمعوا، وتكتب الرجل - بتقديم الموحدة - إذا تقبض، ومنه الكتاب - بضم الكاف وتخفيف التاء الفوقانية لسهم صغير يتعلم به الصبيان الرمي - كذا قال القزاز إنه مخفف، وفي القاموس: وزنه كرمان - وزاد أنه مدور الرأس، وكتبت الناقة تكتيباً: صررتها، واكتتب بطنه: أمسك، والمكتوتب: الممتلىء والمنتفخ؛ ويلزم الجمع القطع والغلبة التي هي من لوازم القدرة، فمن القطع: الكتاب بمعنى الفرض والحكم والقدر؛ والبتك: القطع ولذلك قيل للسيف: باتك، أي قاطع، ومن الغلبة والقدرة: الكتاب بمعنى القدر، قال ابن الأعرابي: والكاتب عندهم العالم، وقال القزاز: والكاتب: الحافظ، وهذان يرجعان أيضاً إلى نفس الجمع - لجمع الحافظ المحفوظ والعالم المعلوم؛ وكبت الله العدو - بتقديم الموحدة: صرفه ذليلاً، وهو من تكبت الرجل - إذا تقبض، وعبارة
5
القزاز: كبت أعداءه: ردهم بغيظهم، أي فانقمعوا وانجمعوا عما كانوا انتشروا له، وكبت الرجل - إذا صرعه على وجهه، وبكته تبكيتاً - إذا أنبّه أو ضربه بعصى أو سيف ونحوهما، لما يلزمه من تصاغر نفسه وتقبضها.
وأما قرأ، مهموزاً - وينقلب إلى رقأ، وأرق، وأقر، وغير مهموز يائياً وتراكيبه خمسة: قري، وقير، ورقي، وريق، وواوياً وتراكيبه ستة: قرو، وقور، ورقو، وروق، ووقر، وورق - فهو للجمع أيضاً، ويلزمه الإمساك، وربما كان عنه الانتشار، فمن الجمع: قرأت القرآن، أي تلوته فجعلت بعض حروفه وكلماته وآياته تالياً لبعض متصلاً به مجموعاً معه، ويلزم القراءة النسك، ومنه القارىء والمتقرىء والقراء - كرمان. أي الناسك، ويلزم عنه الفقه، ولذا قيل: تقرأ - إذا تفقه، وهو من الجمع نفسه أيضاً لأن الناسك جمع النسك إلى القراءة وانجمع همه، والفقيه جمع الفقه إليها؛ قال في المجمل: والقرآن من القرء وهو الجمع، أي وزناً ومعنى، وفي القاموس: وقرأ عليه السلام: أبلغه كأقرأه، ولا يقال: أقرأه، إلا إذا
6
كان السلام مكتوباً؛ وقال الزبيدي في مختصر العين: وقرأت المرأة قرءاً، إذا رأت دماً، وأقرأت - إذا حاضت فهي مقرىء - انتهى. فكأنه عبر بذلك عند رؤية الدم لأنه لا يعرف أن المرأة جمعته إلا برؤيته، وهو من الانتشار الذي قد يلزم الجمع، أو يكون فعل هنا للإزالة، فمعناه: أزالت إمساك الدم كما أن هذا معنى أقرأت فإن فعل - لخفته وكثرة دوره - يتصرف في معاني جميع الأبواب، وقال في المجمل: وأقرأت المرأة: خرجت من طهر إلى حيض أو حيض إلى طهر، قلت: فالأول يكون فيه أفعل للإزالة، والثاني للدخول في الشيء كما تقول: اتهم الرجل وأنجد - إذا دخل في تهامة أو نجد، قال: والقرء: وقت يكون للطهر مرة وللحيض مرة، قلت: فالأول للجمع نفسه، والثاني لأنه دليل الجمع، قال: والجمع قروء، ويقال:
﴿القروء﴾ هو الطهر، وذلك أن المرأة الطاهرة كان الدم اجتمع وامتسك في بدنها فهو من: قريت الماء، وقرى الآكل الطعام في شدقه، وقد يختلف اللفظان فيهمز أحدهما ولا يهمز الآخر،
7
والمعنى واحد إذا كان الأصل واحداً، وقوم يذهبون إلى أن القرء: الحيض، وفي القاموس: والقرء - ويضم: الحيض والطهر ضد - وقد تقدم تخريج ذلك، والوقت - لأنه جامع لما فيه، والقافية - لأنها جامعة لشمل الأبيات، جمعه أقرؤ وقروء، وجمع الحيض أقراء، وكأن العلة في ذلك أنه لما كان جمع الكثرة هو الأصل في الجمع، لأن المراد بالجمع نفسه الكثرة، فكلما كان أكثر كان به أجدر، لمّا كان الأصل كذلك، وكان القرء بمعنى الطهر هو الأصل في مدلول الجمع، كان أحق بجمع الكثرة الذي هو أعرق في الجمع، ولما كان القرء بمعنى الحيض فرعاً، كان له جمع القلة الذي هو فرع في باب الجمع؛ وأقرأت: حاضت وطهرت، وأقرأت الرياح: هبت لوقتها - لأن هبوبها دال على اجتماعها كظهور دم الحيض، وقرأ الشيء: جمعه وضمه، والحامل: ولدت - لأن ظهور الولد هو المحقق لجمعها إياه في بطنها، وأقرأ: رجع ودنا وأخر واستأخر وغاب وانصرف
8
وتنسك كتقرأ، بعضه للإيجاب وبعضه للسلب، والمقرأة - كمعظمة: التي ينتظر بها انقضاء أقرائها، وقد قرئت: حبست لذلك، وأقراء الشعر: أنواعه وانحاؤه - لأنها جامعة للأجزاء، والقرءة - بالكسر: الوباء - لجمعه الهم، واستقرأ الجمل الناقة: تاركها لينظر ألقحت أم لا - من التتبع والسبر، وهو بمعنى جمع الأدلة، وقرأت الناقة - إذا حملت، فهي قارىء، أي جمعت في بطنها ولداً، وأقرأت - إذا استقر الماء في رحمها؛ ومن الإمساك: رقأ الدم والدمع رقوءاً - إذا انقطعا، قال أبو زيد: والرَّقوء - أي بالفتح: ما يوضع على الدم فيسكن، ورقأ بينهم: أصلح وأفسد، وفي الدرجة: صعد، وهي المرقاة وتكسر، ورقأ العرق: ارتفع - منه ما هو بمعنى الجمع ومنه ما هو بمعنى الانتشار والعلو الذي ربما لزماه، ومن الإمساك: الأرق، وهو السهر لأنه يمسك النوم، والإرقان: دود يكون في الزرع - فكأنه يوجب الهم الذي يكون عنه الأرق، ويمكن أن يكون من الانتشار الذي
9
ربما يلزم الجمع، ويمكن أن يكون من الجمع نفسه، لأنه يجمع الهم - والله أعلم؛ وفي القاموس: والإرقان بالكسر: شجر أحمر، والحناء، والزعفران، ودم الأخوين - كأنه سبب للعكوف عليه بالاسترواح إليه، أو أنه يجمع بصبغه لوناً إلى لون، والإرقان أيضاً: آفة تصيب الزرع والناس كالأرقان محركة وبكسرتين وبفتح الهمزة وضم الراء، والأرق والأرقان - بفتحهما، والأراق - كغراب، واليرقان - محركة، وهذه أشهر داء يتغير منه لون البدن فاحشاً إلى صفرة أو سواد - كأن ذلك لمّا كان سبب الأرق كان هو الأرق البليغ، وزرع مأروق وميروق: مؤوف، والأقر - بضمتين: واد واسع مملوء حمضاً ومياهاً، وهو واضح في معنى الجمع، قد مضى من هذه المادة جملة في آخر سورة يوسف عليه السلام عند قوله تعالى
﴿إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى﴾ [يوسف: ١٠٩] وتأتي بقيتها إن شاء الله تعالى في سورة سبحان عند قوله
﴿وفي آذانهم وقراً﴾ [الكهف: ٥٧].
10
ولما وصف سبحانه هذا القرآن بما وصفه من العظمة والإبانة لجميع المقاصد التي منها سؤال الكفرة عند رؤية العذاب التأخير للطاعة في قوله تعالى
﴿وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب﴾ كان كأنه قيل: ما له لم يبين للكفرة سوء عاقبتهم بياناً يردهم؟ فقال سبحانه باسطاً لقوله
﴿ولينذروا به﴾ ﴿ربما يود﴾ أشار تعالى بكونه مضارعاً إلى أن ودهم لذلك يكون كثيراً جداً متكرراً، وإيلاءه لربما - وإنما يليها في الأغلب الماضي - معلم بأنه مقطوع به كما يقطع بالماضي الذي تحقق ووقع
﴿الذين كفروا﴾ أي ولو وقتاً ما والود: التمني وهو تقدير المعنى في النفس للاستمتاع، وإظهار ميل الطباع له إليه، وفيه اشتراك بين التمني والحب - قال الرماني، وهو هنا للتمني فإنه بين مودودهم بقوله:
﴿لو كانوا﴾ أي كوناً جبلياً
﴿مسلمين *﴾ أي عريقين في وصف الإسلام من أول أمرهم إلى آخره؛ قال الرماني: والإسلام: إعطاء الشيء على حال سلامة كإسلام الثوب إلى من يقصره، وإسلام الصبي إلى من يعلمه، فالإسلام
11
الذي هو الإيمان - إعطاء معنى الحق في الدين بالإقرار والعمل به - انتهى. وقد كان ما أخبر الله به فقد ندم كل من أسلم من الصحابة على تأخير إسلامه لما علموا فضل الإسلام ورأوا فضائل السابقين - كما هو مذكور في السير وفتوح البلدان وسيكون ما شاء من ذلك في القيامة وما قبلها، فالمعنى أنكم إن كذبتم في القطع - في نحو قوله
﴿فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا﴾ [إبراهيم: ٤٤]، الآية - بأنكم ترجعون عن هذا الشمم وتتبرؤون من هذه السجايا والهمم فتسألون الله تعالى في الطاعة، وقد فات الفوت بحلول حادث الموت إلى غيره، فلا أقل من أن يكون عندكم شك في الأمور التي يجوز كونها، ولا ينبغي حينئذ للعاقل ترك الاهتمام بالاستعداد على تقدير هذا الاحتمال، هذا - أعني التقليل - مدلول
«رب»، وقال بعضهم: إنها قد ترد للتكثير، وقال الجمال
12
ابن هشام في كتاب المغني: إنه أغلب أحوالها، واستدل بشواهد لا تدل عند التأمل. ولا يصح قول من نسب إلى الكشاف ذلك، فإن كلامه مأخوذ من الزجاج، وعبارة الزجاج - كما نقلها الإمام جمال الدين محمد بن المكرم في كتابه لسان العرب ومن خطه نقلت: من قال: إن رب يعني بها التكثير فهو ضد ما تعرفه العرب، فإن قال قائل: فلم جازت في قوله
﴿ربما يود الذين كفروا﴾ و
﴿رب﴾ للتقليل؟ فالجواب أن العرب خوطبت بما تعلمه في التهدد، والرجل يتهدد الرجل فيقول: لعلك ستندم على فعلك؟ وهو لا يشك أنه يندم، ويقول: ربما ندم الإنسان على ما صنعت، وهو يعلم أن الإنسان يندم كثيراً، ولكن مجازه أن هذا لو كان مما يود في حال واحدة من أحوال العذاب، أو كان الإنسان يخاف أن يندم على الشيء لوجب عليه اجتنابه، والدليل عل أنه معنى التهدد قوله تعالى {ذرهم يأكلوا
13
ويتمتعوا} انتهى.
فقد علم من هذا أنهم يطلقونها بمعنى القلة فيما يعلمون أنه كثير إرخاء للعنان وتنبيهاً على وجوب الأخذ بالأحوط، وذلك واقع في التهديد، وفرق كبير بين ما يعلم أنه كثير من أمر خارج عن العبارة المخبر بها عنه وبين ما تعرف كثرته من تلك العبارة، وزيدت ما فيها تأكيداً من حيث إنها تفهم أن الأمر لا يكون إلا كذلك، ولتهيئتها لمجيء الفعل بعدها؛ قال الإمام أبو حيان: والظاهر أن ما في رب، مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر - على خلاف فيه - لا يليها إلا الأسماء، فجيء بها مهيئة لمجيء الفعل بعدها، وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجىء في القرآن إلا في هذا الموضع - انتهى. ودخلت ههنا على المضارع - وهي للماضي - لأنه لصدق الوعد كأنه عيان قد كان، أو لأن
«ما» إذا لحقتها سوغت دخولها على المستقبل كما تدخل على
14
المعرفة - قال الرماني.
ولما طرق لهم سبحانه الاحتمال، كان كأنه قيل: هل جوزوه فأخذوا في الاستعداد له؟ فقيل: بل استمروا على عنادهم، فقال - مستأنفاً ملتفتاً إلى ما أشار إليه في أول سورة ابراهيم في قوله
﴿الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾ [إبراهيم: ٣] من المانع لهم عن الإذعان -:
﴿ذرهم﴾ يا أعز الخلق عندنا! كالبهائم
﴿يأكلوا ويتمتعوا﴾ والتمتع: التلذذ، وهو طلب اللذة حالاً بعد حال كالتقرب في أنه طلب القرب حالاً بعد حال
﴿ويلههم﴾ أي يشغلهم عن أخذ حظهم من السعادة
﴿الأمل﴾ أي رجاءهم طول العمر وبلوغ ما يقدره الوهم من الملاذ من غير سبب مهيىء لذلك
ولما كان هذا امراً لا يشتغل به إلا أحمق، سبب عنه التهديد بقوله:
﴿فسوف يعلمون *﴾ أي ما يحل بهم بعد ما فسحنا لهم من زمن التمتع.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تقدم من وعيد الكفار ما تضمنه الآي المختتم بها سورة ابراهيم من لدن قوله سبحانه
﴿ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون﴾ [إبراهيم: ٤٢] إلى خاتمتها، أعقب ذلك
15
بقوله:
﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ أي عند مشاهدة تلك الأحوال الجلائل، ثم قال تعالى تأكيداً لذلك الوعيد
﴿ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون﴾ ثم أعقب تعالى: هذا ببيان ما جعله سنة في عباده من ارتباط الثواب والعقاب معجلة ومؤجلة بأوقات وأحيان، لا انفكاك لها عنها ولا تقدم ولا تأخر، إذ استعجال البطش في الغالب إنما يكون ممن يخاف الفوت، والعالم بجملتهم لله تعالى وفي قبضته لا يفوته أحد منهم ولا يعجزه، وقال تعالى:
﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ وكان هذا يزيد أيضاحاً قوله عز وجل:
﴿إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار﴾ [إبراهيم: ٤٢] وقوله: [وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب} وقوله:
﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض﴾ [إبراهيم: ٤٨] الآية؛ وتأمل نزول قوله:
﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ على هذا وعظيم موقعه في اتصاله به ووضوح ذلك كله، وأما افتتاح السورة بقوله:
﴿الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين﴾ فإحالة على أمرين واضحين: أحدهما ما نبه به سبحانه من الدلائل والآيات كما يفسر، والثاني ما بينه القرآن المجيد وأوضحه وانطوى عليه من الدلائل والغيوب والوعد والوعيد وتصديق بعض ذلك بعضاً، فكيف لا يكون
16
المتوعد به في قوة الواقع المشاهد، لشدة البيان في صحة الوقوع فالعجب من التوقف والتكذيب! ثم أعقب هذا بقوله
﴿ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين﴾ انتهى.
ولما هددوا بآية التمتع وإلهاء الأمل، وكان من المعلوم جداً من أحوالهم الاستعجال بالعذاب تكذيباً واستهزاء، كان الكلام في قوة أن يقال: فقالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر! عجل لنا ما تتوعدنا به، وكان هذا غائظاً موجعاً حاملاً على تمني سرعة الإيقاع بهم، فقيل في الجواب: إن لهم أجلاً بكتاب معلوم لا بد من بلوغهم له، لأن المتوعد لا يخاف الفوت فهو يمهل ولا يهمل، لأنه لا يبدل القول لديه، فليستعدوا فإن الأمر غيب، فما من لحظة إلا وهي صالحة لأن يتوقع فيه العذاب، فإنا لا نهلكهم إلا إذا بلغوا كتابهم المعلوم
﴿وما﴾ جعلنا هذا خاصاً بهم، بل هو عادتنا، ما
﴿أهلكنا﴾ أي على ما لنا من العظمة، وأكد النفي فقال:
﴿من قرية﴾ أي من القرى.
ولما كان السياق للإهلاك واستعجالهم واستهزائهم به، وكان
17
تقديره سبحانه وكتُبه من عالم الغيب، اقتضى الحال التأكيد بما يدل على أنه محتوم مفروغ منه سابق تقديره على زمن الإهلاك، فأتى بالواو لأن الحال بدون الواو كالجزء من سابقها كالخبر والنعت الذي لا يتم المعنى بدونه، والتي بالواو هي زيادة في الخبر السابق، ولذلك احتيج إلى الربط بالواو كما يربط بها في العطف، فقال:
﴿إلا ولها﴾ أي والحال أنه لها في الإهلاك أو لإهلاكها
﴿كتاب معلوم *﴾ أي أجل مضروب مكتوب في اللوح المحفوظ، أو يكون التقدير: فسوف يعلمون إذا جاءهم العذاب في الأجل الذي كتبناه لهم: هل يودون الإسلام أم لا؟ ثم بين الآية السابقة بقوله:
﴿ما تسبق﴾ وأكد الاستغراق بقوله:
﴿من أمة﴾ وبين أن المراد بالكتاب الأجل بقوله:
﴿أجلها﴾ أي الذي قدرناه لها
﴿وما يستأخرون *﴾ أي عنه شيئاً من الأشياء، ولم يقل: تستأخر - حملاً على اللفظ كالماضي، لئلا يصرفوه إلى خطابه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تعنتاً.
ثم لما أجابهم بهذا الجواب الدال على تمام القدرة وكمال العلم الدالين على الوحدانية، عطف على ما تقدم أنه في قوة الملفوظ قوله
18
دالاً على تركهم الجواب إلى التعنت والسفه:
﴿وقالوا﴾ أي لم يجوزوا أنهم يودون ذلك، بل استمروا على العناد وقالوا:
﴿يأيها الذي﴾ ولما كان تكذيبهم بالتنزيل نفسه، بني للمفعول قوله:
﴿نزل عليه﴾ أي بزعمه
﴿الذكر﴾ وبينوا أنهم ما سموه تنزيلاً إلا تهكماً، فقالوا مؤكدين لمعرفتهم بأن قولهم منكر:
﴿إنك لمجنون﴾ أي بسبب ادعائك أن الله أنزل عليك ذكراً والذي تراه جني يلقى إليك تخليطاً، فكان هذا دليلاً على عنادهم، فإنهم أقاموا الشتم مقام الجواب عما مضى صنعه المغلوب المقطوع في المناظرة، تم أتبعوه ما زعموا أنه دليل على قولهم فقالوا:
﴿لو ما﴾ أي هلا ولم لا
﴿تأتينا بالملائكة﴾ دليلاً على صدقك إما للشهادة لك وإما لإهلاك من خالفك
﴿إن كنت﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿من الصادقين *﴾ فيما تقول، أي ما وجه اختصاصك عنا بنزول الملائكة عليك ورؤيتك إياهم وأنت مثلنا في الإنسانية والنسب والبلد؟ هذا بعد أن قامت على صدقه الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي أعظمها القرآن الداعي لهم إلى المبارزة كل حين المبكت لهم بالعجز عن المساجلة كل وقت.
19
ولما كان في قولهم أمران، أجاب عن كل منهما على طريق الاستئناف على تقدير سؤال من كأنه قال: ربما إذا أجابهم؟ فقيل: أجاب عن الثاني لأنه أقرب بقوله:
﴿ما نُنزل الملائكة﴾ أي هذا النوع
﴿إلا﴾ تنزلاً ملتبساً
﴿بالحق﴾ أي بسبب عمل الأمر الثابت، وهو معنى ما قال البخاري في كتاب التوحيد: قال مجاهد: بالرسالة والعذاب، وأما على الرسل فبالحق من الأقوال، وأما على المنذرين فبالحق من الأفعال من الهلاك والنجاة، فلو نزلوا عليهم كما اقترحوا لقضي الأمر بينك وبينهم فهلكوا
﴿وما كانوا﴾ أي الكفار
﴿إذاً﴾ أي إذ تأتيهم الملائكة
﴿منظرين *﴾ أي حاصلاً لهم الإنظار على تقدير من التقادير، لأن الأمر الثابت يلزمه نجاة الطائع وهلاك العاصي في الحال من غير إمهال، وكان حينئذ يفوت ما قضينا به من تأخيرهم وإخراج من أردنا إيمانه من أصلابهم، وأجاب سبحانه عن الأول بقوله مؤكداً لتكذيبهم:
﴿إنا نحن﴾ أي على ما لنا من العظمة
20
لا غيرنا من جن ولا إنس
﴿نزلنا﴾ أي بالتدريج على لسان جبريل عليه السلام
﴿الذكر﴾ أي الموعظة والشرف
﴿وإنا له﴾ أي بعظمتنا وإن رغمت أنوف الحاسدين
﴿لحافظون *﴾ أي دائماً، بقدرتنا وعلمنا، لما في سورة هود من أن ذلك لازم للحفظ فانتفى حينئذ جواز أن ينزل على مجنون مخلط لا سيما وهو على هذه الأساليب البديعة والمناهيج الرفيعة، فكأن المعنى: أرسلناك به حال كونك بشراً لا ملكاً قوياً سوياً، يعلمون أنك أكملهم عقلاً، وأعلاهم همة، وأيقنهم فكراً، وأتقنهم أمراً وأوثقهم رأياً، وأصلبهم عزيمة؛ روى البخاري في التفسير والفتن عن زيد بين ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر رضي الله عنه مقتل أهل اليمامة وعنده عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس - وفي رواية: بقراء القرآن - وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن
21
تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير! فلم يزل عمر يراحعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد بين ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال أبو بكر: هو والله خير! فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة - أو أبي خزيمة - الأنصاري، لم أجدهما - أي مكتوبتين - عند أحد غيره
﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ - إلى آخرها،
22
وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم حفصة بنت عمر - رضي الله عنهم.
وساق هذا الأثر أيضاً في فضائل القرآن، وروي بعده عن أنس رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة رضي الله عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة - رضي الله عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فنسخوها في المصاحف؛ وقال عثمان رضي الله عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا
23
نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. وله عن خارجه بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيراً أسمع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري - وفي رواية: فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة - الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهادته شهادة رجلين
﴿من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه﴾ [الأحزاب: ٢٣] فألحقناها في سورتها في المصحف. وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان - لما أمره الصديق رضي الله عنه - لا يكتب شيئاً إلا إذا وجد ما كان قد كتب منه بحضرة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمره، وقابله مع ذلك على المحفوظ في صدور الرجال؛ وفي الأخير دليل من قوله: نسخنا المصحف في المصاحف - إلى آخره، أنه أعاد التتبع كما فعل أولاً ليصح
24
قوله: فقدت آية من سورة الأحزاب.
لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد أن يكون سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيراً يقرأها ولا يحفظها، ولا سيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما رواه البخاري من غير وجه عن أنس رضي الله عنه، والظاهر من مثل هذا التتبع الذي لا يجوِّز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن يفهم غيره أن يكون لا ينقل آية إلا إذا وجد من حفاظها على حسب ما هي مكتوبة عدد التواتر والله أعلم.
ولما كان هذا الكلام الذي قالوه عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شاقاً وله غائظاً موجعاً، قال تعالى تسلية له على وجه راد عليهم:
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي على ما لنا من العظمة والجلال والهيبة؛ ولما كان الإرسال بالفعل غير عام للزمان كله، قال:
﴿من قبلك﴾ أي كثيراً من الرسل
﴿في شيع﴾ أي فرق، سموا شيعاً لمتابعة بعضهم بعضاً في الأحوال التي يجتمعون عليها في الزمن الواحد من مملكة
25
أو عمارة أو ديانة أو نحو ذلك من الأمور الجارية في العادة
﴿الأولين *﴾ كلهم، فما أرسلنا إلا رجالاً من أهل القرى مثلك يوحى إليهم، ولم نرسل مع أحد منهم ملائكة تراها أممهم، بل جعلنا مكاشفة الملائكة أمراً خاصاً بالرسل، فكذبوا رسلهم
﴿وما يأتيهم﴾ عبر بالمضارع تصويراً للحال، إيذاناً بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالاً والماضي قريباً منه، وأكد النفي فقال:
﴿من رسول﴾ أي على أي وجه كان
﴿إلا كانوا به﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يستهزئون *﴾ مكررين لذلك دائماً، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئاً، فلا تبتئس بما يفعلون بك؛ والاستهزاء في الأصل: طلب الهزوء، والمراد به هنا - والله أعلم - الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلاً، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلاً إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب
26
ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال - قاله الرماني.
ولما كانت قلوب أهل الضلال موصوفة بالضيق والحرج، كان الداخل إليها لا يدخل إلا بغاية العسر، فلذلك قال جواباً لمن كأنه قال: أهذا خاص بهؤلاء؟ فقيل: لا، بل
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا السلك العجيب الشأن، وعبر بالمضارع الدال مع التجدد على الاستمرار، لاقتضاء المقام له كما تقدم في أولها فقال:
﴿نسلكه﴾ أي الذكر
﴿في قلوب المجرمين *﴾ أي العريقين في الإجرام في كل زمن كما يسلك الخيط والرمح ونحوه فيما ينظر فيه من مخيط وغيره بغاية العسر، فلا يتسع له المحل فلا ينفع، حال كونهم
﴿لا يؤمنون به﴾ لشيء من الأشياء، لأن صدورهم لا تنشرح له كما رأيت سنتنا بذلك في قومك
﴿وقد خلت﴾ أي مضت من قبل هذا
﴿سنة﴾ أي طريقة
﴿الأولين *﴾
27
بذلك، ونحن قادرون على فعل ما نريد من تلك السنة بهذه الأمة من إهلاك وتيسير إيمان وغير ذلك، فهو ناظر إلى قوله
﴿وقرآن مبين﴾ والغرض بيان أنه تعالى يعمي بعض الأبصار على الجلي، ويبصر بعضها بالخفي، إظهاراً للقدرة والاختيار بإنفاذ الأمر على خلاف القياس.
ولما أخبره بهذه الأسرار منبئة عن أحوالهم، وكانت النفس أشد شيء طلباً لقطع حجة المتعنت بإجابة سؤله، قال تعالى مخبراً بتحقيق ما ختم به من أنهم لا يؤمنون للخوارق ولو رأوا أعجب من الإيتان بالملائكة:
﴿ولو فتحنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿عليهم﴾ أي على من قال: لو ما تأتينا بالملائكة
﴿باباً﴾ يناسب عظمتنا
﴿من السماء﴾ وأشار إلى أن ذلك حالهم - ولو كانوا في أجلى الأوقات وهو النهار - بقوله:
﴿فظلوا﴾ أي الكفار
﴿فيه﴾ أي ذلك الباب العالي
﴿يعرجون *﴾ أي يصعدون ماشين في الصعود مشية الفرح
﴿لقالوا﴾ عناداً وإبعاداً عن الإيمان:
﴿إنما سكرت﴾ أي سدت وغشيت
﴿أبصارنا﴾ أي حتى ظننا ما ليس بواقع واقعاً
﴿بل نحن قوم﴾ أي وإن كان لنا غاية القوة على ما نريد محاولته
﴿مسحورون *﴾ أي ثابت
28
وقوع السحر علينا حتى صرنا نرى الأشياء على خلاف ما هي عليه ونثبت ما لا حقيقة له؛ والسكر: السد بإدخال اللطيف في المسام فيمنع الشيء كمال ما كان عليه، ومنه السكر بالشراب، والسحر: حيلة خفية توهم معنى المعجزة من غير حقيقة.
29
ولما كان ذكر هذه الآية السماوية على سبيل الفرض في الجواب عن إنكارهم النبوة، دليلاً على مرودهم على الكفر، وكان من المعلوم أن ثبوت النبوة مترتب على ثبوت الوحدانية، توقع السامع الفَهِم الإخبارَ عما له تعالى من الآيات المحققة الوجود المشاهدة الدالة على قدرته، فأتبعها بذلك استدلالاً على وحدانيته بما له من المصنوعات شرحاً لقوله
﴿وليعلموا أنما هو إله واحد﴾ [إبراهيم: ٥٢] ودليلاً على عدم إيمانهم بالخوارق، وابتدأ بالسماويات لظهورها لكل أحد وشرفها وظهور أنها من الخوارق بعدم ملابستها والوصول إليها، فقال مفتتحاً بحرف التوقع:
﴿ولقد حعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يقدر عليها سوانا مما هو مغنٍ عن فتح باب ونحوه
﴿في السماء بروجاً﴾ أي منازل للقمر، جمع برج، وهو في الأصل القصر العالي أولها الحمل وآخرها الحوت، سميت بذلك لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها، وهي
29
مختلفة الطبائع، فسير الشمس والقمر بكل منها يؤثر ما لا يوثره الآخر، فاختلافها في ذلك - مع أن نسبتها إلى السماء واحدة - دليل على الفاعل المختار الواحد، والعرب أعرف الناس بها وباختلافها.
ومادة
«برج» بكل تقليب تدور على الظهور الملزوم للعلو الملزوم للقوة، وقد يفرط فيلزمه الضعف، فمن مطلق الظهور: بروج السماء، قال القزاز: سميت بروجاً لأنها بيوت الكواكب، فكأنها بمنزلة الحصون لها، وقيل: سميت لارتفاعها، وكل حصن مرتفع فهو برج، والبرج - أي محركاً: سعة بياض العين وصفاء سوادها، وقيل: البرج في العين هو أن يكون البياض محدقاً بالسواد، يظهر في نظر الإنسان فلا يغيب من سواد العين شيء، وتبرجت المرأة: أبدت محاسنها، والجربياء: الشمال - لعلوها، والجريب: الوادي - لظهوره، والجريب: مكيال أربعة أقفزة، وجريب الأرض معروف، وهو ساحة مربعة كل جانب منها ستون ذراعاً، ومنه الجراب - لوعاء من جلود، والجورب - للفافة الرجل، لأنهما ظاهران بالنسبة إلى ما فيهما، وكذا الجربان - لغلاف السيف، وجرب البئر: جوفها؛ والأرجاب: الأمعاء - شبهاً
30
بالجراب؛ والبارجة: سفينة من سفن البحر تتخذ للقتال، والبجرة: كل عقدة في البطن، والعجرة: كل عقدة في الجسد، والبجرة: السرة الناتئة، وسرة البعير عظمت أولاً، والبجر والبجري: الأمر العظيم، وجاء فلان بالبجارة، وهي الداهية: وفيه ما جمع إلى الظهور القوة؛ ومن ذلك رجب: اسم شهر، ورجبت الرجل: عظمته، والرجبة من وصف الأدوية، والرجب: الحياء والعفو، والرجب: الهيبة؛ والمجرب: الذي بلي بالشدائد؛ ورجبت النخل ترجيباً: بنيت من جانبها بناء لئلا يسقط؛ والجبر: خلاف الكسر، والملك - لوجود الجبر به لقوته، وجبرت العظم، والجبارة: ما يوضع على الكسر لينجبر، وجبرت الرجل: أحسنت إليه، وأجبرته: ضممته إلى ما يريد، وأجبرته على كذا: قهرته عليه، أي أزلت جبره، والجيرية: العانة من الحمير، وهي أيضاً الأقوياء من الناس، والجبار من النخل: الطويل الفتي، والجبار اسم من أسماء الله تعالى، والجبار: كل عات، وكل ما فات اليد، والعظيم القوي الطويل، والمتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً والمتجبر: الأسد، وجبار بالضم مخففاً: يوم الثلاثاء - لأن الله تعالى خلق المكروه فيه -
31
كما في الصحيح، ومن الضعف: الجبار - بالضم مخففاً، وهو الهدر من الدماء والحروب وغيرها، وقد يكون من جبر الكسر، لأنه جبر به المهدر عنه وقوي به وأحسن إليه، وكل ما أفسد وأهلك فهو جبار - كأنه شبه بالجبيرة التي تفسد لإصلاح الكسر، والجبر: العبد - لضعفه واحتياجه إلى التقوية؛ ومن الضعف أيضاً الجرب بالنسبة إلى من يحل به، وهو من القوة بالنسبة إلى نفسه، ومن الظهور والانتشار أيضاً، والجرباء: السماء - تشبيهاً بالأجرب، وأرض جرباء: مقحوطة؛ والتربج: التجبر، والروبج: درهم صغير؛ قال الزبيدي: وهو دخيل، ومادة
«جبر» منها بخصوص ترتيبها تدور على النفع، وتارة تنظر إلى ما يلزمه من عدم الضر مثل الجبار بالضم مخففاً لما هدر، وتارة تنظر إلى ما يلزم النفع من التكبر والقهر.
ولما ذكر البروج، وصف سبحانه السماء المشتملة عليها فقال:
﴿وزيناها﴾ أي السماء لأنها المحدث عنها بالكواكب
﴿للناظرين﴾ أي لكل من له أهبة النظر، في دلائل الوحدانية، لا عائق له عن معرفة ذلك إلا عدم صرفه النظر إليه بالبصر أو بالبصيرة
﴿وحفظناها﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿من كل شيطان﴾ أي بعيد من الخير محترق
﴿رجيم﴾
32
مستحق للرجم وهو رمي الشيء بالاعتماد من غير آلة مهيأة للإصابة كالقوس فإنها للرمي لا للرجم ومستحق للشتم، لأنه قوال بالظن وما لا حقيقة له
﴿إلا من استرق السمع﴾ منهم فإنا لم نرد تمام الحفظ منه
﴿فأتبعه﴾ أي تبعه تبع من هو حاث لنفسه سائق لها
﴿شهاب﴾ وهو عمود من نور يمتد بشدة ضيائه كالنار
﴿مبين *﴾ يراه من فيه أهلية الرؤية حين يرجم به؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه يبلغ به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إذا قضي الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذه ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترقي السمع ومسترقو السمع، هكذا واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده ففرج بين أصابعه اليمنى، نصبها بعضها فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها
33
إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى بلغوها إلى الأرض»
، وربما قال سفيان: حتى ينتهي إلى الأرض، فتلقى على فم الساحر فيكذب معها مائة كذبه فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقاً للكلمة التي سمعت من السماء. قال المفسرون رضي الله عنهم: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات فيلقون ما يسمعون منها إلى الكهنة، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم منعوا من السماوات كلها هكذا رأيت ولد ولعله
«بعث» فإن في الصحيح أن الذي منعهم نزول القرآن.
ولما ذكر آية السماء، ثنى بآية الأرض فقال:
﴿والأرض مددناها﴾ أي بما لنا من العظمة، في الأبعاد الثلاثة: الطول والعرض والعمق، على الماء
﴿وألقينا﴾ أي بعظمتنا
﴿فيها﴾ أي الأرض، جبالاً
﴿رواسي﴾ أي ثوابت، لئلا تميل بأهلها وليكون لهم علامات؛ ثم بنه على إحياء الموتى بما أنعم به في الأرض بقياس جلي بقوله:
﴿وأنبتنا فيها﴾ أي الأرض ولا سيما الجبال بقوتنا الباهرة
﴿من كل شيء موزون *﴾
34
أي مقدر على مقتضى الحكمة من المعادن والنبات
﴿وجعلنا لكم﴾ أي إنعاماً منا عليكم
﴿فيها معايش﴾ وهي بياء صريحة من غير مد، جمع معيشة، وهي ما يحصل به العيش من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها
﴿ومن لستم﴾ أي أيها الأقوياء الرؤساء
﴿له برازقين *﴾ مثلكم في ذلك، جعلنا له فها معايش من العيال والخدم وسائر الحيوانات التي تنتفعون بها وإن ظننتم أنكم ترزقونهم، فإن ذلك باطل لأنكم لا تقدرون على رزق أنفسكم فكيف بغيركم؟ فلما ظهر كالشمس كمال قدرته وأنه واحد لا شريك له، بين أنه - كما كانت هذه الأشياء عنده بحساب قدره على حكمة دبّرها - كان غيرها كذلك، فذلك هو المانع من معاجلتهم بما يهزؤون به من العذاب، فقال:
﴿وإن﴾ أي وما
﴿من شيء﴾ أي مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة، وهي لا نهاية لها
﴿إلا عندنا﴾ أي لما لنا من القدرة الغالبة
﴿خزائنه﴾ أي كما هو مقرر عندكم، لا تنازعون فيه، قال في الكشاف: ذكر الخزائن تمثيل
﴿وما ننزله﴾ أي مطلق ذلك الشيء لا بقيد
35
عدم التناهي، فإن كل ما يبرز إلى الوجود متناه، فهو استخدام
﴿إلا بقدر معلوم *﴾ على حسب التدريج كما ترونه؛ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ليس عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء، عاماً ههنا وعاماً ههنا، وربما كان في البحر. فهذا دليل قطعي على أن الفاعل المخصص له بوقت دون وقت وأرض دون أخرى فاعل واحد مختار.
فلما تم ما أراد من آيتي السماء والأرض، وختمه بشمول قدرته لكل شيء، أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعاً في خزائن قدرته فقال:
﴿وأرسلنا﴾ أي بما لنا من التصريف الباهر
﴿الرياح﴾ جمع ريح، وهي جسم لطف منبث في الجو سريع المر
﴿لواقح﴾ أي حوامل تحمل الندى ثم تمجه في السحاب التي تنشئها، فهي حوامل للماء، لواحق بالجو، قوته على ذلك عالية حساً ومعنى؛ والريح: هواء متحرك، وحركته بعد أن كان ساكناً لا بد لها من سبب، وليس هو نفس كونه هواء ولا شيئاً من لوازم ذاته، وإلا دامت حركته.
36
فليست إلا بتحريك الفاعل الواحد المختار
﴿فأنزلنا﴾ أي بعظمتنا بسبب تلك السحائب التي حملتها الرياح
﴿من السماء﴾ أي الحقيقية أو جهتها أو السحاب، لأن الأسباب المتراقية بسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد وأخرى إلى الأبعد
﴿ماء﴾ وهو جسم مائع سيال، به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء
﴿فأسقيناكموه﴾ جعلناه لكم سقياً، يقال: سقيته ماء أي ليشربه، وأسقيته أي مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد. ونفى سبحانه عن غيره ما أثبته أولاً لنفسه فقال
﴿وما أنتم له﴾ أي ذلك الماء
﴿بخازنين *﴾ والخزن: وضع الشيء في مكان مهيأ للحفظ، فثبت أن القادر عليه واحد مختار.
ومادة
«لقح» بتقاليبها الست تدور على اللحاق، وتلزمه القوة والعلو حساً أو معنى، فاللقاح اسم ماء الفحل - لأنه يلحق الأنثى فتحمله، وقد ألقح الفحل الناقة، ولقحت لقاحاً: حملت، والملقوح: ما لقحته من الفحل، أي أخذته، وهي الملاقيح - يعني الأجنة،
37
واللقحة: الناقة الحلوب - لأنها أهل لأن يلحقها جائع، وألقح القوم النخل ولقحوها - إذا ألحقوها بالفحالة فعلقوها عليها.
والقاحل: اليابس من الجلود، لأن أجزاءه تلاحق بعضها ببعض فضمرت، ومنه شيخ قاحل.
واللحق: كل شيء لحق شيئاً أي أدركه، والملحق: الدعي - لأنه متهيىء لأنه يستلحقه كل من يريده، والملحاق: الناقة التي لا يفوتها الإبل: قال الزبيدي في مختصر العين: وفي القنوت: إن عذابك بالكغار ملحق - بالكسر، أي لاحق - لغة.
والحقل: القراح الطيب - لتهيئها لمن يلحق بها، وقيل: هو الزرع إذا تشعب ورقة، وهو من ذلك أيضاً ومن لحوقه بالحصاد فيصير كالمحلوق، والحقيل: نبت، والحقيلة: الماء الرطب، أي الأخضر من البقل والشجر في الأمعاء منه، والحقيلة: حشافة التمر - للحاق كل من أرداه به، والحوقلة: الغرمول اللين - كأنه مشبه بالنبت الأخضر، أو لإمكان تثنيه كل وقت ولحوق بعض أجزائه ببعض، والحوقل:
38
الشيخ الضعيف النكاح - كأنه منه، والحوقلة: سرعة المشي، وحقل الفرس - إذا وجع من أكل التراب - كأنه مأخوذ من الحقل، وحوقل الشيخ: اعتمد بيديه على خصره إذا تمشى - كأنه للحاق يديه خصره.
والحلق مساغ الطعام والشراب، وحلوق الأرض: أوديتها ومجاريها - للحاق المياه بها، ولشبيهها بالحلوق، والحلق: حلق الشعر بالموسى، من اللحاق والقوة، والمحالق: الأكسية الخشنة التي تحلق الشعر من خشونتها، والحالق: المشؤوم الذي يحلق قومه؛ والحلق: ضرب من النبات، لورقه حموضة - كأنه لسرعة لحاق الماشية به لأنه كالفاكهة لها، والحلقة: الخاتم بلا فص - لتلاحق أجزائها بعضها ببعض، ومنه حلقة القوم، والحلقة: السلاح كله، إما من هذا لأن منها الدروع ذات الحلق، تسمية للشيء باسم جزئه، وإما من القوة والعلو المعنوي لما يلزم عنها، والحلق: المال الكثير، إما من ذلك وإما من لحاق صاحبه بمراده، والحالق: الجبل المنيف - لظهوره وعلوه ولحاقه بالجو، والحوقلة: القارورة الطويلة العنق، وحلق الطائر: ارتفع في الهواء، من هذا؛ واللقحة: الغراب؛ والحالق من الكرم والشرى: ما تعلق منه بالقضبان، فهو ظاهر في اللحاق، وحلق الضرع - إذا ارتفع إلى البطن وانضم، فهو من العلو
39
واللحاق، وقيل: إذا كثر لبنه فهو إذاً من اللحاق، وتحلق القمر: صارت حوله دارة، وحلق قضيب الفرس حلقاً - إذا تقشر، كأنه شبه بما حلق شعره، وحي لقاح: لم يملكوا قط كأنه من القوة والعلو المعنوي؛ والقلح: صفرة تعلو الأسنان، فهو من اللحاق مع العلو، ويسمى الجعل أقلح من هذا.
40
فلما تقرر تفصيل الخبر عما هو سبب للاحياء في الجملة، فتهيأت النفس للانتقال منه إلى الإحياء الحقيقي قياساً، قال تعالى:
﴿وإنا لنحن نحيي﴾ أي لنا هذه الصفة على وجه العظمة، فنحيي بها ما نشاء من الحيوان بروح البدن، ومن الروح بالمعارف، ومن النبات بالنمو، وإن كان أحدها حقيقة، والآخران مجاز إلا أن الجمع بينهما جائز
﴿ونميت﴾ أي لنا هذه الصفة، فنبرز بها من عظمتنا ما نشاء
﴿ونحن الوارثون *﴾ أي الإرث التام إذا مات الخلائق، الباقون بعد كل شيء كما كنا ولا شيء، ليس لأحد فينا تصرف بإماتة ولا إحياء، فثبت بذلك الوحدانية والفعل بالاختيار، فلما ثبت بهذا كمال قدرته، وكانت آثار القدرة لا تكون محكمة إلا بالعلم، قال تعالى:
﴿ولقد علمنا﴾ أي بما لنا من الإحاطة المعجزة
﴿المستقدمين منكم﴾ وهم من قضينا بموته أولاً، فيكون في موته كأنه يسارع إلى التقدم
40
وإن كان هو وكل من أهله مجتهداً بالعلاج في تأخيره
﴿ولقد علمنا﴾ بعظمتنا
﴿المستأخرين *﴾ أي الذين نمد في أعمارهم فنؤخر موتهم حتى يكونوا كأنهم يسابقون إلى ذلك وإن عالجوا الموت بشرب سم وغيره، أو عالجه لهم غيرهم بضربهم بالسيف أو غيره، فعرف بذلك قطعاً أن الفاعل واحد مختار، وكذا كل متقدم ومتأخر في وصف من الأوصاف غير الموت، والمعنى على الأول: فنحن لا نميت أحداً قبل أجله فلا تستعجلونا بالوعيد وتهيؤوا لدفاعه إن كنتم رجالاً، فإنه لا بد أن يأتي لأنه لا يبدل القول لديّ.
ولما تم الدليل على تمام القدرة وشمول العلم، ثبت قطعاً إحياء الموتى لانتفاء المانع من جهة القدرة، واقتضاء الحكمة له من جهة العلم للعدل بين العباد بالمقابلة على الصلاح والفساد، فقال تعالى مؤكداً لإنكارهم:
﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بالانتقام لك ممن يعاديك، وإقرار عينك من مخالفيك
﴿هو﴾ أي وحده
﴿يحشرهم﴾ أي يجمعهم إلى أرض القيامة بعد إعادتهم؛ قال الرماني: وأصله جمع الحيوان إلى
41
مكان؛ ثم علل ذلك فقال مؤكداً لأجل اعتقادهم ما يستلزم الإنكار:
﴿إنه حكيم﴾ أي يفعل الأشياء في أتم مواضعها بحيث لا يقدر أحد على نقضها
﴿عليم *﴾ بالغ العلم فلا يخفى عليه شيء، وهو يريد أن ترى حكمته بكشف الغطاء عند تمييز أهل السعادة والشقاء؛ والحكمة: العلم الذي يصرف عما لا ينبغي، وأصلها المنع.
ولما جرت سنته الإلهية أنه يذكر ابتداء الخلق دليلاً على الإعادة سابقاً ولاحقاً، وابتدأ هنا بذكر الحشر لما قام عليه من الدليل بإحياء الأرض، توقع السامع تفصيل ابتداء الخلق الذي هو أدل دليل على البعث بعد إجماله في قوله
﴿وإنا لنحن نحيي﴾ فقال مفتتحاً بحرف التوقع:
﴿ولقد خلقنا﴾ أي بالعظمة الباهرة
﴿الإنسان﴾ أي الآنس بنفسه، الناسي لغيره
﴿من صلصال﴾ أي طين يابس، له عند النقر صلصلة أي صوت شديد متردد في الهواء، فإن كان فيه مد من غير ترجيع فهو صلل، فالمراد شديد يبسه ولكنه غير مطبوخ، وأما
42
المطبوخ فهو فخار: ثم بين أصل الصلصال فقال:
﴿من حمإٍ﴾ أي طين أسود منتن
﴿مسنون *﴾ أي مصبوب مهيأ لعمل ما يراد منه بالدلك والتحسين من الذهاب والاضطراب والجعل على طبع وطريقة مستوية، وكل ذلك على غاية السهولة والطواعية والهوان، فذكر أصل الإنسان وما وقع له من إبليس - الذي هو أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أبو البشر - من الكيد حتى أخرجه من دار الصفاء إلى دار الكدر، ليحذره العقلاء من بني آدم، وفي التنبيه بابتداء الخلق على وصول البشر إلى أصل كان بمحض القدرة مخالف لهم في التكوين بين أبوين، وانتهاء الجن إلى أصل ليس خلقه كخلقهم تنبيه عظيم على انتهاء الموجودات إلى موجود لا يجانسهم، بل هو خالق غير مخلوق، فاعل بالاختيار، واحد لا شريك له، ولا اعتراض عليه، قادر على ما يريد سبحانه، وفي خلقه من الماء - الذي هو كالأب - والطين - الذي هو كالأم - بمساعدة النار والهواء من الحكمة أن يكون ملائماً لما في هذا العالم، فيكون بقاءه بذلك الذي خلق منه في مأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره، وذلك أدل على حكمة الخالق وعلمه ووحدانيته.
43
ومادة
«صل» تدور على الصلصال الذي هو الطين مطلقاً، أو الطين الحر يخلط بالرمل، أو الطين ما لم يجعل خزفاً، ويتفرع جميع معاني المادة منه، لأن من لوازمه في أوله الماء واللين بنداوته وسهولة خلطه لغيره، فيأتي الخفاء لأنه يغرز فيه بغير صوت، ومنها قبول التصفية من الغش، ومنها في آخره الصلابة لشدة اليبس، فيلزم تضامّ الأجزاء وتضايقها على انتظام أو غير انتظام، والصوت، وشدة الانفصال بالتشقق، ومن لوازمه التغير بالنتن، فيأتي الخبث والفساد، ومن لوازمه شدة الاختلاط بحيث إذا نشب فيه شيء عسر خلاصه، ومن لوازمه تميزه عما عداه، ومحل يصنع فيه.
فمن الصوت واليبس: صليل الحديد والإبل ونحو ذلك، يقال: صل الحديد واللجام: امتد صوته، فإن توهم ترجيع الصوت قيل: صلصل، وصل البيض: سمع له طنين عند القراع، والمسمار صليلاً: ضرب فأكره أن يدخل في الشيء، والإبل صليلاً: يبست أمعاؤها من العطش فسمع لها صوت عند الشرب.
44
ومن الصوت: صلصل: أوعد وتهدد، وقتل سيد العسكر - لظهور الصيت بذلك، وصلصل الرعد: صفا صوته، والكلمة: أخرجها متحذلقاً، وطائر أو الفاختة، والراعي الحاذق، والمصلل - كمحدث: السيد الكريم الحسيب، والخالص النسب، والأسكف وهو الإسكاف عند العامة، وتصلصل الغدير: جفت حمأته، فتهيأ لأن يصوت يبسه، والحلي: صوت، وحمار صُلصُل وصُلاصل - بضمهما، وصلصال ومُصلصِل: مصوت.
ومن النتن: صلول اللحم والماء، يقال: صل اللحم صلولاً: أنتن، والماء: أجن، والصليان - بكسرتين مشددة اللام: ما تغير من اللحم، والصلة - بالضم: الريح المنتنة.
45
ومن اليبس: الصلة، وهي الجلد اليابس قبل الدباغ، والنعل، والأرض، أو اليابسة - وصل السقاء صليلاً: يبس. أو أرض لم تمطر بين ممطورتين، والصل - بالكسر: القرن، وشجر، والسيف القاطع.
ومن النداوة: الصلة، وهي التراب الندي؛ ومن الماء أعم من أن يكون كثيراً أو قليلاً: الصلة للمطرة الواسعة والمتفرقة القليلة، والصلة - بالضم: بقية الماء وغيره، وكذا الصلصلة والصلصل - بضمهما: بقية الماء في الغدير، وكذا من الدهن والزيت، وأما التفرق فمن التشقق، والصلة: القطعة من العشب، سميت باسم المطر تسمية للمسبب باسم السبب.
ومن اللين: الصلالة - بالكسر - لبطانة الخف أو ساقها، والصلصل - كهدهد: ناصية الفرس ويفتح، أو بياض في شعر معرفته، وما ابيض من شعر ظهره، وهذا من التمييز أيضاً؛ ومن المحل: القدح أو الصغير منه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفى فيه الشراب؛ ومن الخبث: الصل - بالكسر للحية مطلقاً، أو الدقيقة الصفراء، والداهية،
46
والتسيف القاطع - شبه بذلك لإهلاكه، وإنه لصل أصلال: داهٍ منكر في الخصومة وغيرها، وصلتهم الصالة: أصابتهم الداهية، وهذا أيضاً من شدة الانتشاب، ومن التشقق: الصال وهو الماء يقع على الأرض فتشقق.
ومن التصفية: صللنا الحب المختلط بالتراب: صببنا فيه ماء فعزلنا كلاًّ على حياله، وصل الشراب صلاً صفاه، والمصلة - بالكسر: الإناء يصفي فيه.
ومن تضام الأجزاء وتضايقها، وقد يكون مع الانتظام ومنه: تلصيص البنيان، أي ترصيصه، وقد لا يشترط فيه الانتظام ومنه: التص بمعنى التزق، واللص وهو تقارب المنكبين، وتقارب الأضراس، وتضام مرفقي الفرس إلى زوره، واللصاء من الجباه: الضيقة، والمرأة الملتزقة الفخدين لا فرجة بينهما، والزنجي: ألص الأليتين،
47
وإغلاق الباب؛ ومن إطلاقه على ما ليس منتظماً وإن لم يكن تقارب: اللصاء من الغنم، وهي ما أقبل أحد قرينها وأدبر الآخر، ومن الخفاء الذي هو من لوازم الطين وهو ندي: اللص - بالفتح، وهو فعل الشيء في ستر، والسارق، ويثلث.
ومادة
«سن» تدور على الدلك، ويلزمه التحسين، فمن الدلك: السن - بالكسر، وهو الضرس والخبة من الثوم - تشبه به، والثور الوحشي، وسنان الرمح، ومكان البري من القلم، والأكل الشديد، والقرن، وشعبة المنجل، ومقدار العمر - لأنه لما مر على صاحبه كان كأنه دلكه، والمسانّ من الإبل: الكبار، وسن السكين وغيره فهو مسنون، والمسن - بالكسر: آلة السن، وسنن رمحه إليه: سدده، وسن الأضراس: سوكها، والإبل: ساقها سريعاً - لتدالكها عند الازدحام، وسن الأمر: بينه - فكأنه هيأه لأن يركب فيدلك بالأفكار أو غيرها، وسن الطين: عمله فخاراً، وفلاناً: طعنه بالسنان أو عضه بالأسنان، والفحل الناقة: كبها على وجهها، وعليه
48
الدرع أو الماء: صبه، والطريقة: سارها، واستن: استاك.
والفرسُ: قمص، والسراب: اضطرب، والسنة - بالكسر: الفأس لها خلفان، والسنة - بالضم: السيرة أو الطبيعة - كأنها عولجت حتى انقادت، والسنة من الله: حكمه وأمره ونهيه، وسنن الطريق - مثلثة وبضمتين: نهجه وجهته، وجاءت الريح سناسن: على طريقة واحدة، والحمأ المسنون: المنتن - لأنه تهيأ لأن يدلك بالآية جبلاً حتى يصلح لما يستعمل فيه، والفحل يسانّ الناقة: يكدمها ويطردها حتى ينوخها ليسفدها، والسنين - كأمير: ما يسقط من الحجر إذا حككته، والأرض التي أكل نباتها كالمسنونة، والسنسن - بالكسر: العطش - كأنه سن الأمعاء حتى أحرقها، ورأس المحالة، أي البكرة العظيمة، وحرف فقار الظهر كالسن والسنسنة، ورأس عظام الصدر، أو طرف الضلع التي في الصدر، والمستسن: الطريق المسلوك، والمستن: الأسد، والسنن - محركة:
49
الإبل تستن في عدوها، والسنينة - كسفينة: الرمل المرتفع المستطيل على وجه الأرض، وهو من المسنون بمعنى المصبوب: وسنني هذا الشيء: شهى إليّ الطعام - كأنه سن المعدة حتى قطعت بعد كلالها، وتسانت الفحول: تكادمت، والنّس: سرعة الذهاب، ويلزمه تدالك الأعضاء، ونسيس الإنسان: مجهوده - لأن ذلك لا يكون إلا بعد أشد الاضطراب، والنسيسة: الحشاشة، وهي بقية الروح من المريض والجريح - كأنها صدمت حتى ذهب أكثرها، ونس اللحم: ذهب بلله من شدة الطبخ - لأن إحراق النار أعظم دلكٍ، وكذا نس الحطب - إذا أخرجت النار زبده على رأسه - لقيام الإحراق مقام الرضخ فيما يستخرج دهنه، ونس من العطش: جف، من ذلك؛ ومن التحسين: سنن المنطق - إذا حسنه، وسن الأمر: بينه، والطين: عمله فخاراً، والمال: أرسله في الرعي أو أحسن القيام عليه حتى
50
كأنه صقله، والشيء: صوره، والسنة - بالضم: الوجه، أو حُرُّه، أو دائرته، أو الصورة أو الجبهة، ورجل مسنون الوجه: مملسه حسنه سَهْلُه، أو في وجهه وأنفه طول، وكل ذلك يرجع إلى الدلك أيضاً - والله أعلم. وقال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: المسنون: الرطب، ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوباً إلا وهو رطب؛ وقال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى درجات خلق آدم عليه السلام ومراتبه، وأشار الله تعالى إلى ذلك في مواضع مختلفة حسبما اقتضته الحكمة فقال في موضع
﴿خلقه من تراب﴾ [آل عمران: ٥٩] إشارة إلى المبدإ الأول، وفي آخر
﴿من طين﴾ إشارة إلى الجمع بين الماء والتراب، وفي آخر
﴿من حمإٍ مسنون﴾ إشارة إلى الطين المتغير المستقر على حالة من الاعتدال تصلح لقبول الصورة، وفي آخر
﴿من صلصال﴾ إشارة إلى يبسه وسماع صلصلة منه، وفي آخر
﴿من صلصال كالفخار﴾ [الرحمن: ١٤] وهو الذي قد أصلح بأثر من النار فصار كالخذف، وبهذه القوة النارية حصل في الإنسان أثر من الشيطنة - انتهى. وقال الرماني: وقد تضمنت الآيات البيان عمّا يوجبه تقليب الحيوان من حال إلى حال
51
من جاعل قادر قلّبه من أصل هو أبعد شيء من حال الحيوان إلى الحيوان، وقال: إن الحكمة في جعله من الحمأة العبرة في أنه قلب من تلك الحال الحقيرة في الصفة إلى هذه الحال الجليلة.
52
ولما ذكر سبحانه خلق الإنسان، أتبعه ذكر ما خلقه قبله من الجنان فقال:
﴿والجان﴾ أي الذي هو للجن كآدم عليه السلام للناس: وقيل: هو إبليس
﴿خلقناه﴾ وعبر عن تقليل زمان سبق خلقه وتقريبه بإثبات الجار فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل خلق الإنسان
﴿من نار السموم *﴾ أي الحر الشديد، قيل: هي نار لا دخان لها، يكون منها الصواعق، وهي بين السماء وبين الحجاب، فإذا أراد الله تعالى خرقت الحجاب، فهدت إلى ما أمرت به، فالهداة التي يسمعها الناس هي خرق ذلك الحجاب؛ وقال الرازي في اللوامع: نار لطيفة تناهت في الغليان في أفق الهواء، وهي بالإضافة إلى النار التي جعلها الله تعالى متاعاً كالجمد إلى الماء والحجر إلى التراب - انتهى. وقال عبد الله: هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم
52
التي خلق الله منها الجان، وهي مأخوذة من دخولها بلطفها في مسام البدن، ومنه السم القاتل - انتهى.
ولما كانت نعمة الإيجاد كافية في إخلاص العبادة للموجد، ثم لم يعتبرها أهل الضلال، أشار تعالى إلى نعمة هي أكبر منها، وهي التفضيل على جميع المخلوقات على وجه مبين لسبب الضلال، فقال عاطفاً على ما تقديره: اذكر هذا فإنه كافٍ في المراد لكل ذي لب:
﴿وإذ﴾ أي واذكر قول ربك إذ
﴿قال ربك﴾ أي المحسن إليك بتشريف أبيك آدم عليه السلام لتشريفك
﴿للملائكة﴾ ولما كان مما يتوقف فيه، أكده فقال:
﴿إني خالق بشراً﴾ أي حيواناً غير مُلبَس البشرة بما جعله عليه من الطبيعة على الصورة الإنسانية
﴿من صلصال﴾ أي طين شديد اليبس
﴿من حمإ﴾ أي طين أسود منتن
﴿مسنون *﴾ أي مصور بصورة الآدمي في تجويفه وأعضائه كأنه مصبوب في قالب؛ قال الرماني: وأصله الاستمرار في جهة من قولهم: على سَنن واحد
﴿فإذا سويته﴾ أي عدلته وأتممته وهيأته لنفخ الروح تهيئة قريبة من الفعل
﴿ونفخت فيه من روحي﴾ أي خلقت الحياة فيه
53
كما تعلق النار بالفتيلة بالنفخ، وهو تمثيل، وأضاف الروح إليه تشريفاً، وهو ما يصير به الجسم حياً، وأشرف منه ما يصير به الروح عالماً، وأشرف منه ما يصير به العالم عاملاً خاشعاً
﴿فقعوا له﴾ أي تعظيماً، حال كونكم
﴿ساجدين *﴾ أي اسجدوا له سجود من كان في مبادرته به وسهولة انقياده كأنه وقع من غير اختياره
﴿فسجد الملائكة﴾ أي بسبب هذا الأمر من غير توقف لما جاء الوقت الذي أمرتهم فيه لذلك البشر، وهو أبوكم آدم عليه السلام وأنتم في صلبه
﴿كلهم أجمعون *﴾.
54
ولما أبلغ في تأكيد ما أفهمه الجمع، استثنى فقال:
﴿إلا إبليس﴾ قيل: هو من قوم من الملائكة، وقيل: بل - لكونه كان واحداً بينهم منضافاً إليهم عاملاً بأعمالهم - كان معموراً فيهم، فكان كأنه منهم، فصح استثناءه لذلك، فكأنه قيل: ما فعل. فقيل استعظاماً لمخالفته:
﴿أبى أن يكون﴾ أي لشكاسة في جبلته
﴿من الساجدين *﴾ أو إنه لم يقل: فأبى - بالعطف، لأن الاستثناء منقطع، فإن إبليس من نار والملائكة من نور، وهم لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون بخلافه، فكأنه قيل: فما فعل به الملك؟ فقيل: لم يعاجله بالعقوبة، بل
54
أخره إلى أجله المحكوم به في الأزل كما أنه لم يعاجلكم لذلك، فكأنه قيل: فما قال له؟ فقيل:
﴿قال﴾ له ليقيم الحجة عليه عند الخلائق ظاهراً كما قدمت عليه الحجة في العلم باطناً:
﴿يا إبليس﴾ اختار هذا الاسم هنا لأن الإبلاس معناه اليأس من كل خير، والسكون والانكسار، والحزن والتحير، وانقطاع الحجة والندم
﴿مالك﴾ أي شيء لك من الأعذار في
﴿ألا تكون﴾ أي بقلبك وقالبك
﴿مع الساجدين *﴾ لمن أمرتك بالسجود له وأنت تعلم مما أنا عليه من العظمة والجلال ما لا يعلمه كثير من الخلق
﴿قال لم أكن﴾ وأكد إظهاراً للإصرار والإضرار بالكبر فقال:
﴿لأسجد لبشر﴾ أي ظاهر البدن، لا قدرة له على التشكل والتطور
﴿خلقته من صلصال﴾ أي طين يابس لا منعة فيه، بل إذا نقر أجاب بالتصويت
﴿من حمإ﴾ أي طين متغير أسود كدر
﴿مسنون *﴾ أي مصور بصورة الفخار متهيىء للدلك، لا يرد يد لامس، وأنا خير منه لأنك خلقتني من نار نافعة بالإشراق، ممتنعة ممن يريدها بالإحراق، فخضوعي له منافٍ لحالي وممتنع مني، وإلزامي به جور، فكأنه قيل: فماذا أجيب؟ فقيل:
﴿قال فاخرج﴾ أي تسبب عن كبرك
55
أني أقول لك: اخرج
﴿منها﴾ أي من دار القدس، قيل: السماء، وقيل: الجنة
﴿فإنك رجيم *﴾ أي مطرود إذ الرجم لا يكون إلا لمن هو بعيد يراد الزيادة في إبعاده بل إهلاكه، وعلة الإخراج أنها دار لا يقيم بها متكبر عاصٍ بمخالفة أمري، فإن لي الحاكم النافذ والعظمة التامة المقتضية لوجوب الطاعة، لا ينبغي لمن أمرته بما مر أن يتخلف عن أمري فضلاً عن أن يضرب لي الأمثال، ويواجهني بالجدال، طاعناً فيما لي من الجلال والجمال؛ ثم أكد بُعده بالإخبار باستمراره فقال:
﴿وإن عليك﴾ أي خاصة
﴿اللعنة﴾ أي الكاملة للقضاء بالمباشرة لأسباب البعد
﴿إلى يوم الدين *﴾ أي إلى يوم انقطاع التكليف وطلوع صبح الجزاء بفناء الخلق أجمعين وفوات الأمد التي تصح فيه التوبة التي سبب القرب، فذلك إيذان بدوام الطرد، وتوالي البعد والمقت، فلا يتمكن في هذا الأمد من عمل يكون سبباً للقرب من حضرة الأنس، وجناب القدس، ومن منع من التوبة عن الكفر في وقتها يعلم قطعاً أنه لا يغفر له، فهو معذب أبداً.
56
ولما علم من هذا دوام لعنه، لأنه منع التقرب في دار العمل،
56
وما بعد ذلك محل الجزاء لا العمل، وكان ذلك مفهماً لإنظاره إلى ذلك الحد، وكان ظاهره أن لعنه معني به، كان كأنه قيل: فماذا قال حين سمع ذلك؟ فقيل:
﴿قال﴾ ذاكراً صفة الإحسان والتسبب في سؤال الإنظار:
﴿رب﴾ فاعترف بالعبودية والإحسان إليه، ولم يحمله ذلك على التوبة للحكم بدوام لعنه فلا يطمع طامع في إيمان من ختم بكفره بالإجابة إلى ما يقترح، وأتى بفاء السبب لما فهم من الإملاء فقال:
﴿فأنظرني﴾ والإنظار: تأخير المحتاج للنظر في أمره
﴿إلى يوم يبعثون *﴾ فحمل يوم الدين على حقيقته، وأراد التصريح بالإنظار إليه ليأمن الموت. فكأنه قيل: ماذا قيل له؟ فقيل:
﴿قال﴾ له ربه:
﴿فإنك﴾ أي بسبب ما تقدم من الحكم
﴿من المنظرين *﴾ وقطع عليه ما دبج به من المكر فقال:
﴿إلى﴾ ولما كان اليوم ما يتم فيه أمر ظاهر، وكانت الأيام الهائلة ثلاثة: زمان موت الأحياء الخارجين من دار الخلد، ثم بعث الأموات، ثم الفصل بينهم بإحلال كل فريق في داره، قال:
﴿يوم﴾ ولما كان الوقت أدل ألفاظ الزمان على الأجل، قال:
﴿الوقت﴾ ولما كان قد دبج في سؤاله هذا تدبيجاً أوهم تجاهله بتحتم
57
الموت على كل مكلف، بين تعالى أنه مما لا يجهل فقال:
﴿المعلوم *﴾ أي الذي قدرت عليك الموت فيه، وهو النفخة الأولى وما يتبعها من موت كل مخلوق لم يكن في دار الخلد.
ولما أفهم ما تقدم - كما قلنا - الحكم بإغوائه، كان السامع كأنه قال: فماذا قال؟ فقيل:
﴿قال﴾ منسوباً نفسه بالمعبود العلي - الذي لا يسأل عما يفعل، وكل أفعاله عدل وحكمة - بعد أن رفع نفسه على العبد البشري:
﴿رب﴾ أي أيها الموجد والمربي لي وعزتك
﴿بما أغويتني﴾ أي بسبب إغوائك لي من أجلهم، وللاهتمام بهذا السبب قدمه على جواب القسم الدال على المقسم به، وهو قوله:
﴿لأزينن لهم﴾ أي تزييناً عظيماً، المعاصي والمباحات الجارّة إليها الشاغلة عن الطاعة الصارفة عنها
﴿في الأرض﴾ أي التي هي محل الغفلة وهم منها، والشيء إلى ما هو منه أميل، فهي بهذا التقدير
58
مساوية لآية
«ص» «فبعزتك» ؛ والتزيين: جعل الشيء متقبلاً في النفس من جهة الطبع والعقل بحق أو بباطل
﴿ولأغوينهم﴾ أي بالإضلال عن الطريق الحميدة
﴿أجمعين﴾ انتقاماً لنفسي
﴿إلا عبادك منهم﴾ أي المشرفين بالإضافة إليك، فهم لذلك لا يميلون عنك إلى شيء سواك، فلذلك أبدل منهم
﴿المخلصين *﴾ فزاد بهذا الكلام في الضلال، ولم يقدر أن يقول بدل ذلك: ربّ تب عليّ - ونحوه من الاستعطاف كما قال آدم عليه السلام لما حفه اللطف وداركه العفو، فارعوا هذه النعمة! والإخلاص: إفراد الشيء عما يشوبه من غيره، فكأنه قيل: فبماذا أجيب؟ فقيل:
﴿قال﴾ الله في جوابه، راداً على ما أوهمه كلامه من أن له فعلاً يستقل به، مكذباً له:
﴿هذا﴾ أي الذي ذكرته من حال المستثنى والمستثنى منه
﴿صراط عليّ مستقيم *﴾ لأني قضيت به ولو لم تقله أنت وحكمت به عليك وعليهم، فلا محيص لكم عنه، فكأنه قيل: عليّ إقامته، أو هو وارد عليّ ألا عوج لسالكيه عن الرجوع إليّ والمرور عليّ - يعني أنه لا يقدر أحد أن يعمل شيئاً
59
بغير إرادتي، فإني بالمرصاد؛ ثم شرح ذلك بقوله - مضيفاً جميع العباد إليه كما هو الحقيقة، نافياً ما قد يوهمه الكلام من أن لإبليس عملاً مستقلاً -:
﴿إن عبادي﴾ أي عامة
﴿ليس لك﴾ أي بوجه من الوجوه
﴿عليهم سلطان﴾ أي لتردهم كلهم عما يرضيني
﴿إلا من اتبعك﴾ أي بتعمد منه ورغبة في اتباعك
﴿من الغاوين﴾ ومات عن غير توبة؛ فإني جعلت لك عليهم سلطاناً بالتزيين والإغواء، وقيل وهو ظاهر: إن الإضافة للتشريف، فلا تشمل إلا الخلص، فحينئذ يكون الاستثناء منقطعاً، وفائدة سوقه بصورة الاستثناء - على تقدير الانقطاع - الترغيب في رتبة التشرف بالإضافة إليه والرجوع عن اتباع العدو إلى الإقبال عليه، لأن ذوي الأنفس الأبية والهمم العلية ينافسون في ذلك المقام، ويرونه - كما هو الحق - أعلى مرام
﴿وإن جهنم لموعدهم﴾ أي الغاوين من إبليس ومن شايعه
﴿أجمعين *﴾ ثم بين أنهم متفاوتون فيها فقال:
﴿لها سبعة أبواب﴾ قال الرماني: وهي أطباق بعضها فوق بعض - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة وابن جريح رحمهم الله
﴿لكل باب منهم﴾ أي الغاوين خاصة، لا يشاركهم
60
فيه مخلص
﴿جزء مقسوم *﴾ معلوم لنا من القدم لتقديرنا إياه، لا يزيد شيئاً ولا ينقص شيئا، فلا فعل فيه بغير التسبب الذي أظهرناه، لنربط به الأحكام على ما يقتضيه عقولكم ومجاري عاداتكم، وعن ابن جريح أن العليا جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وفي نسخة تقديم سقر على لظى، وعن الضحاك أن العليا لأهل التوحيد، ثم يخرجون، والثانية للنصارى، والثالثة لليهود، والرابعة للصائبة، والخامسة للمجوس، والسادسة لمشركي العرب، والسابعة للمنافقين، والسبب في تصاعدها اختلاف أنواع الكفر في الغلط والخفة
﴿ولا يظلم ربك أحداً﴾ [الكهف: ٤٩] رحمة منه سبحانه، ولعلها كانت سبعة باعتبار أصناف الكفار، لأنهم إما معطلة أو مثبتة، والمثبتة إما يهود أو صابئة أو نصارى أو مجوس أو عباد أوثان، والكل إما مصارحون أو منافقون، ولما كان المنافق لا يعرف ظاهراً من أيّها هو؟ عدَّ قسماً واحداً ووكل أمره في ميزه إلى العليم الخبير، ولما كان الكل عاملين بما لم يأذن به الله كانوا في حكم المعطلة، لوصفهم الله بغير صفته، فرجعت
61
الأقسام إلى ستة، فأضيفت إليها العصاة من كل فرقة فجعلت جزء الطبقة العليا من النار مقابلة لقسم المنافقين من كل أمة، لعملهم أعمال الكفار مع الإيمان، كما أن عمل المنافقين عمل المؤمنين مع الكفران، فكانوا أخفى الكفار فكان لهم الدرك الأسفل من النار، ثم رأيت في
«رشف النصائح الإيمانية وكشف الفضائح اليونانية» للعارف بالله تعالى شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي رحمه الله أنها جعلت سبعة على وفق الأعضاء السبعة من العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليد، والرجل، لأنها مصادر السيئات، فكانت مواردها الأبواب السبعة - وهو مأخوذ من كتاب المحاسبة من كتاب الإحياء للإمام الغزالي - ولما كانت هي بعينها مصادر الحسنات بشرط النية، والنية من أعمال القلب، زادت الأعضاء واحداً، فجعلت أبواب الجنان ثمانية هذا معنى قوله، قال: وأعمال القلوب من السيئات غير مؤاخذ بها.
ولما ذكر الكافرين وما جرهم إلى الضلال، وجرأهم على قبائح الأعمال، ذكر المخلصين فقال - مؤكداً لإنكار المكذبين بالبعث:
﴿إن المتقين﴾ أي العريقين في هذا الوصف؛ والمتقي: من جعل
62
الإيمان بإخلاصه حاجزاً بينه وبين العقاب
﴿في جنَّات وعيون﴾.
63
ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس والأمن، قال تعالى:
﴿ادخلوها﴾ أي يقال لهم ذلك
﴿بسلام﴾ أي سالمين من كل آفة، مرحباً بكم ومسلماً عليكم حال الدخول
﴿آمنين *﴾ من ذلك دائماً.
ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر، قال:
﴿ونزعنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿ما في صدورهم من غل﴾ أي حقد ينغل أي ينغرز في القلب حال كونهم
﴿إخواناً﴾ أي متصافين، حال كونهم
﴿على سرر﴾ جمع سرير، وهو مجلس رفيع موطأ للسرور
﴿متقابلين *﴾ لا يرى بعضهم قفا بعض؛ في آخر الثقفيات عن الجنيد رحمه الله أنه قال: ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب! وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد! ولما كان النظر في الدوام والمآل بعد ذلك، قال:
﴿لا يمسّهم فيها نصب﴾ أي إعياء وتعب وجهد ومشقة
﴿وما هم منها﴾ ولما كان المنكى في كل شيء إنما هو الإكراه، بني للمفعول قوله:
﴿بمخرجين *﴾.
ولما كان المفهوم من هذا السياق أن الناجي إنما هو المتقي المخلص
63
الذي ليس للشيطان عليه سلطان، وكان مفهوم المخلص من لا شائبة فيه، وكان الإنسان محل النقصان، وكان وقوعه في النقص منافياً للوفاء بحق التقوى والإخلاص، وكان ربما أيأسه ذلك من الإسعاد، فأوجب له التمادي في البعاد، قال سبحانه - جواباً لمن كأنه قال: فما حال من لم يقم بحق التقوى؟
﴿نبىء عبادي﴾ أي أخبرهم إخباراً جليلاً
﴿أني أنا﴾ أي وحدي
﴿الغفور الرحيم *﴾ أي الذي أحاط - محوه للذنوب وإكرامه لمن يريد - بجميع ما يريد، لا اعتراض لأحد عليه.
ولما كان ذلك ربما سبباً للاغترار الموجب للإصرار، قال تعالى:
﴿وأن عذابي هو﴾ أي وحده
﴿العذاب الأليم *﴾ أي الكامل في الإيلام، فعلم أن الأول لمن استغفر، والثاني لمت أصر، وعرف من ذلك أن المتقين إنما دخلوا الجنة بعفوه، والغاوين إنما عذبوا بعدله، فهو لف ونشر مشوش - على ما هو الأفصح.
ولما أتم سبحانه شرح قوله:
﴿وليعلموا أنما هو إله واحد﴾ وما تبعه من الدلالة على البعث، شرع في شرح
﴿وليذكر أولوا الألباب﴾ بقصة الخليل عليه السلام وما بعدها مع الوفاء بذكر المعاد، تارة تلويحاً
64
وتارة تصريحاً، والرجز عن الاجتراء على طلب الإتيان بالملائكة عليهم السلام، والالتفات إلى قوله:
﴿الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق﴾ [إبراهيم: ٣٩] في أسلوب شارح لما تعقبه هذه القصة، فإن حصول القنوط سبب لآية المغفرة، والإخبار بعذاب الأمم تمثيل لآية العذاب ليزدجر المخاطبون، وأفراد لهم ذكر من هو أقرب إلى بلادهم ممن يعرفونه من المعذبين لأنه أوقع في النفس، فقال تعالى:
﴿ونبئهم﴾ أي خبرهم إخباراً عظيماً
﴿عن ضيف إبراهيم *﴾ والضيف هو المنضم إلى غيره لطلب القرى، فهؤلاء سموا بهذا الاسم لأنهم على صورة الضيف، فهو من دلالة التضمن
﴿إذ دخلوا عليه﴾ أي إبراهيم عليه السلام
﴿فقالوا﴾ أي عقب الدخول
﴿سلاماً﴾.
ولما كان طلبهم في هذه الصورة للملائكة على وجه أوكد مما في سورة هود عليه السلام، أشار لهم إلى ما في رؤية الملائكة من الخوف ولو كانوا مبشرين وفي أحسن صورة من صور البشر - بقوله:
﴿قال﴾ بلسان الحال أو القال:
﴿إنا﴾ أي أنا ومن عندي
﴿منكم وجلون *﴾ وأسقط ذكر جوابه بالسلام، ولا يقدح ذلك فيما في سورة هود وغيرها
65
من ذكره، فإن إذ ظرف زمان بمعنى حين، والحين قد يكون واسعاً، فيذكر ما فيه تارة جميعه على ترتيبه، وأخرى على غير ذلك، وتارة بعضه مع إسقاط البعض مع صدق جميع وجوه الإخبار لكونه كان مشتملاً على الجميع، وتكون هذه التصرفات على هذه الوجوه لمعانٍ يستخرجها من أراد الله.
66
ولما أخبر أنه أخبرهم بوجله منهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقال:
﴿قالوا﴾ مريدين أمنه:
﴿لا توجل﴾ والوجل: اضطراب النفس لتوقع ما يكره؛ ثم عللوا ذلك بقولهم مؤكدين لقلع ما في نفسه من الوجل المنافي للبشرى
﴿إنا نبشرك بغلام﴾ أي ولد ذكر هو في غاية القوة وليس هو كأولاد الشيوخ ضعيفاً. ولما كان خوفه لخفاء أمرهم عليه، كان للوصف بالعلم في هذا السياق مزيد مزية فقالوا:
﴿عليم *﴾ فكأنه قيل: فما قال؟ فقيل:
﴿قال﴾ مظهراً للتعجب إرادة تحقيق الأمر وتأكيده:
﴿أبشرتموني﴾ أي بذلك
﴿على أن مسني الكبر﴾ أي الذي لا حركة معه يأتي منها ولد، أم على أن أعود شاباً؟ ولذلك سبب عنه قوله:
﴿فبم تبشرون *﴾ بينوا لي ذلك بياناً شافياً
66
﴿قالوا بشرناك بالحق﴾ أي الأمر الثابت المقطوع به الواقع لا محالة الذي يطابق خبرنا
﴿فلا تكن﴾ أي بسبب تبشيرنا لك بالحق
﴿من القانطين *﴾ أي الآئسين الذين ركنوا إلى يأسهم، لقولك نحو أقوالهم.
فلما ألهبوه بهذا النهي
﴿قال﴾ منكراً لأن يكون من القانطين:
﴿ومن يقنط﴾ أي ييأس هذا اليأس
﴿من رحمة ربه﴾ أي الذي لم يزل إحسانه دارّاً عليه
﴿إلا الضالون *﴾ أي المخطئون طريق الاعتقاد الصحيح في ربهم من تمام القدرة وأنه لا تضره معصية ولا تنفعه طاعة، وهذا إشارة إلى أنه ما كان قانطاً، وإنما كان مريداً لتحقيق الخبر، وفي هذا تلويح إلى أمر المعاد.
فلما تحقق البشرى ورأى إتيانهم مجتمعين على غير الصفة التي يأتي عليها الملك للوحي، وكان هو وغيره من العارفين بالله عالمين بأنه ما تنزل الملائكة إلا بالحق، كان ذلك سبباً لأن يسألهم عن أمرهم ليزول وجله كله، فلذلك
﴿قال فما﴾ بفاء السبب
﴿خطبكم﴾ قال أبو حيان: والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد - انتهى. وقال الرماني: إنه الأمر الجليل
﴿يا أيها المرسلون *﴾ فإنكم ما جئتم إلا لأمر عظيم يكون فيصلاً بين هالك وناج
﴿قالوا إنا﴾ ولما كان عالماً بمرسلهم، بنوا للمفعول
67
قولهم:
﴿أرسلنا﴾ أي بإرسال العزيز الحكيم الذي أنت أعرف الناس في هذا الزمان به
﴿إلى قوم﴾ أي ذوي منعة
﴿مجرمين﴾ أي عريقين في الإجرام كلهم.
68
ولما كان إرسالهم للعذاب، قالوا مستثنين من الضمير في
﴿مجرمين﴾ أي قد أجرموا كلهم إجراماً عظيماً
﴿إلا آل لوط﴾ فاستثنوهم من أن يكونوا مجرمين، المستلزم لكونهم ما أرسلوا لتعذيبهم، فكان ذلك محركاً للنفس إلى السؤال عن حالهم، فإنهم ممن وقع الإرسال بسببه، فأجابوا بقولهم:
﴿إنا لمنجوهم﴾ أي تنجية عظيمة بتدريج الأسباب على العادة
﴿أجمعين إلا امرأته﴾.
فلما استثنوها من أن ينجّوها فكان أمرها محتملاً لأن تعذب ولأن ينجيها الله تعالى بسبب غيرهم، تشوفت النفس للوقوف على ما قضى الله به من ذلك، فقيل بإسناد الفعل إلى أنفسهم لما لهم من الاختصاص بالمقدر سبحانه:
﴿قدرنا﴾ ولما كان فعل التقدير متضمناً للعلم، علقه عن قوله:
﴿إنها﴾ أي امرأته، وأكد لأجل ما أشير إليه هنا من عظيم تشوف الخليل عليه السلام إلى معرفة أمرهم
68
وتشديد سؤاله، في نجاة لوط عليه السلام وجميع آله - كما مضى التصريح به في هود - فطماً له عن سؤال في نجاتها بخلاف ما في النمل، فإن سياقها عار عن ذلك
﴿لمن الغابرين﴾ أي الباقين الذين لا ينجون مع لوط عليه السلام، بل تكون في الهلاك والعبرة؛ والآل - قال الرماني: أهل من يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال: أهل البلد، ولا يقال آل البلد، والتقدير: جعل الشيء على مقدار غيره لتظهر المساواة والمباينة، والغابر: الباقي فيمن يهلك.
فلما تم ما أريد الإخبار عنه من تحاورهم مع إبراهيم عليه السلام، أخبر عن أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال:
﴿فلما﴾ بالفاء الدالة على سرعة وصولهم إليه، وكأنه ما اشتد إنكاره لهم إلا بعد الدخول إلى منزله، إما لخوفه عليهم وهم لا يخافون، أو غير ذلك من أحوال لا تشبه أحوال البشر فلذا قال:
﴿جاء آل لوط﴾ أي في منزله
﴿المرسلون *﴾ أي لإهلاك قومه
﴿قال إنكم قوم﴾ أي أقوياء
﴿منكرون *﴾ لا بد أن يكون عن إتيانكم إلى هذه البلدة
69
شر كبير لأحد من أهل الأرض، وهو معنى
﴿سيء بهم﴾ [العنكبوت: ٣٣] الآية، فقدم حكاية إنكاره إياهم وإخبارهم عن العذاب لمثل ما تقدم في قصة إبراهيم عليه السلام من الزجر عن قولهم
﴿لو ما تأتينا بالملائكة﴾ المحتمل لإرادة جميع الملائكة
﴿إن كنت من الصادقين﴾ تعريفاً لهم بأن بعض الملائكة أتوا من كانا أكمل أهل ذلك الزمان على أجمل صور البشر، مبشرين لهما، ومع ذلك خافهم كل منهما، فكيف لو كان منهم جمع كثير؟ أم كيف لو كانوا على صورهم؟ أم كيف لو كان الرائي لهم غيرهما؟ أم كيف لو كان كافراً
﴿يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً﴾ [الفرقان: ٢٢] ويجوز أن يكون قوله لهم هذه المقالة إنما كان عند إخبارهم له بأنهم رسل الله، ويكون المعنى حينئذ أنكم لستم على صفة الآتي بالوحي، فقد اشتد على أمركم، لكوني لا أعرفكم مع
70
الاستيحاش منكم، وذلك بعد محاورته لقومه ثم مقارعتهم عنهم، فكان خائفاً عليهم، فلما أخبروه أنهم ملائكة خاف منهم أن يكونوا أتوا بشيء يكرهه، وقد تقدم آنفاً أن الإخبار عما كان في حين من الأحيان لا يضر تقديم بعضه على بعض ولا إسقاط بعض وذكر آخر، ولم يزد هنا الحرف الذي أصله المصدر، وهو
«أن» كما في العنكبوت، لأن استنكاره لهم وإن كان مرتباً على مجيئهم إلا أنه ليس متصلاً بأوله بخلاف المساءة.
71
ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن
﴿قالوا بل﴾ أي لسنا منكرين لأنا
﴿جئناك﴾ لنفرج عنك
﴿بما﴾ أي بسبب إيقاع ما
﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿فيه يمترون *﴾ بما جرت عادتنا أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به، والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه، من حيث إنه لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه
﴿وأتيناك بالحق﴾ الفاصل بينك وبينهم، الواقع بهم مطابقاً لإخبارنا؛ والإتيان: الانتقال إلى جهة الشيء، والذهاب: الانتقال عنه
71
﴿وإنا لصادقون *﴾ في الإخبار بما يطابق الواقع.
ولما أخبروه بوقوع العذاب بهم، أمروه بما يكون سبباً فيما أمروا به من إنجائه، فقالوا:
﴿فأسر﴾ فأتو بالفاء لأن ما بعدها مسبب عما قبلها
﴿بأهلك بقطع﴾ أي طائفة
﴿من الليل واتبع﴾ أي كلف نفسك أن تتبع
﴿أدبارهم﴾ لتكون أقربهم إلينا وإلى محل العذاب، لأنك أثبتهم قلباً وأعرفهم بالله، والشر من ورائكم، وقد جرت عادة الكبراء أن يكونوا أدنى جماعتهم إلى الأمر المخوف سماحاً بأنفسهم وتثبيتاً لغيرهم، وعلماً منهم بأن مداناة ما فيه وجل لا يقرب من أجل، وضده لا يغني من قدر، ولا يباعد من ضرر، ولئلا يشتغل قلبك بمن خالفك، وليحتشموك فلا يلتفتوا، أو يتخلف أحد منهم - وغير ذلك من المصالح؛ والدبر: جهة الخلف وهو ضد القبل
﴿ولا يلتفت﴾ أي أصلاً
﴿منكم أحد﴾ إذ لا فائدة فيه لأن الملتفت غير ثابت، لأنه إما غير مستيقن لخبرنا أو متوجع لهم، فمن التفت ناله العذاب، وذلك أيضاً أجد في الهجرة، وأسرع في السير،
72
وأدل على إخراج ما خلفوه من منازلهم وأمتعتهم من قلوبهم، وعلى أنهم لا يرقون لمن غضب الله عليهم مع أنهم ربما رأوا ما لا تطيقه أنفسهم
﴿وامضوا حيث﴾ وتعبيره بالمضارع يشعر بأنه يكون معهم بعض الملائكة عليهم السلام في قوله:
﴿تؤمرون *﴾.
ولما تقرر بهذا أمر إهلاكهم من غير تصريح ولا تعيين لوقت، قال تعالى:
﴿وقضينا﴾ أي بما لنا من العظمة، موحين
﴿إليه﴾ أي خاصة
﴿ذلك الأمر﴾ وأشار إلى تعظيمه بالإشارة إليه بأداة البعد، ثم فسره بقوله:
﴿أن دابر﴾ أي آخر
﴿هؤلاء﴾ أي الحقيرين عند قدرتنا، وأشار بصيغة المفعول إلى عظمته سبحانه وسهولة الأمر عنده فقال تعالى:
﴿مقطوع﴾ حال كونهم
﴿مصبحين *﴾ ولا يقطع الدابر حتى يقطع ما دونه، لأن العدو يكون مستقبلاً لعدوه، فهو كناية عن الاستئصال بأن آخرهم وأولهم في الأخذ سواء، لأن الآخذ قادر، لا كما يفعل بعض الناس مع بعض من أنهم يملون في آخر الوقائع فيفوتهم البعض.
73
فلما تم ما دار بينه وبين الرسل مقدماً لما بيّن، أتبعه البيان عن
73
حال قومه إشارة إلى أن الملائكة إن كانوا بصفات البشر لم يعرفهم الكفرة، وإن كانوا بصفاتهم أو بإظهار شيء من خوارقهم لم تحتمله قواهم، فلا نفع لهم في مكاشفتهم في حالة من الحالات، فسؤالهم الإتيان بهم جهل عظيم، فقال تعالى:
﴿وجاء أهل المدينة﴾ أي التي كان هذا الأمر فيها - قالوا: وهي سدوم - لإرادة عمل الفاحشة بالأضياف
﴿يستبشرون *﴾ أي يلوح على بشراتهم السرور، فهم يوجدونه لأنفسهم إيجاد من هو شديد الرغبة في طلبه، فكان حال لوط عليه السلام أن
﴿قال﴾ لهم:
﴿إن هؤلاء﴾ أي الأقرباء مني
﴿ضيفي﴾.
ولما كان إكرام الضيف إكراماً لمن هو عنده وإهانته إهانته، سبب عن ذلك ما أشار إليه الكلام فقال:
﴿فلا تفضحون *﴾ في إصابتهم بفاحشة، وكان ذلك قبل معرفته أنهم ملائكة
﴿واتقوا الله﴾ أي الذي له جميع العظمة
﴿ولا تخزون *﴾ أي بإهانة ضيفي، فيكون ذلك عاراً عليّ مدى الدهر، فلم يكفهم ذلك بل
﴿قالوا﴾ بفظاظة، عاطفين على ما تقديره: ألم تعلم أنا لا نترك هذا الأمر لشيء من الأسباب:
﴿أو لم ننهك﴾ أي من قبل هذا
﴿عن العالمين *﴾ أن تجير علينا
74
أحداً منهم، فما وصلوا إلى هذا الحد من الوقاحة، ذكر لهم الحريم ليحملهم ذلك على الحياء، لأنه دأب من له أدنى مروءة ولا سيما ذكر الأبكار في سياق يكاد يصرح بمراده، بأن
﴿قال هؤلاء﴾ مشيراً إلى بيته الذي فيه بناته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضي عنهن
﴿بناتي إن كنتم﴾ ولا بد
﴿فاعلين *﴾ أي قد عزمتم عزماً ماضياً على هذا الفعل، إشارة بأداة الشك إلى أن هذا الفعل مما لا ينبغي أن يفعل، يعني وأنتم عالمون بأني لا أسلم بناتي أبداً، فعلم من ذلك أن وصولكم إلى أضيافي دون هلاكي محال.
ولما ذكر ما ذكر من أمورهم وعظيم فجورهم، وهم قد فرغ من أمرهم وقضي باستئصالهم، كان كل من يعلم ذلك قاضياً بأنهم لا عقول لهم، فأتبع سبحانه ذلك ما يدل عليه بقوله:
﴿لعمرك﴾ أي وحياتك يا كريم الشمائل، وأكد لأن الحال قاض في ذلك الحين استبعاد ردهم، ولتحقيق أن ذلك ضلال منهم صرف وتعنت محض، فقال:
﴿إنهم لفي سكرتهم﴾ أي غوايتهم الجاهلية
﴿يعمهون *﴾ أي يتحيرون ولا يبصرون طريق الرشد، فلذلك لا يقبلون قول النصوح، فإن كان المخاطب لوطاً عليه السلام، كان ضمير الغيبة
75
لقومه، وإن كان المخاطب نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو الظاهر - كان الضمير لقومه، وكان التقدير أنهم في خبط بعيد عن السنن في طلبهم إتيان الملائكة كما كان قوم لوط عليه السلام يقصدون الالتذاذ بالفاحشة بمن مكن من هلاكهم، فشتان ما بين القصدين! وهيهات لما بين الفعلين! فصار المعنى أن ما قذفوك به أول السورة بهم لابك، لأن من يطلب إتيان الملائكة - مع جواز أن يكون حاله حال قوم لوط عليه السلام عند إتيانهم - هو المجنون؛ والعمر - بالفتح: العمر - بالضم، وهو مدة بقاء الشيء حيّاً، لكنه لا يقال في القسم إلا بالفتح لخفته مع كثرة دور القسم، ولذلك حذفوا الذي تقديره: قسمي، والسكرة: غمور السهو للنفس.
76
ولما تم ذلك، سبب عن القضاء دابرهم قوله تعالى:
﴿فأخذتهم﴾ أي أخذ انتقام وغلبة
﴿الصيحة﴾ أي التي هي لعظمها وهولها هي الصيحة، وغيرها عدم بالنسبة إليها؛ والأخذ: فعل يصير به الشيء في جهة الفاعل، والصيحة: صوت يخرج من الفم بشدة؛ وقوله:
﴿مشرقين *﴾ أي داخلين في الإشراق، وهو ضياء الشمس
76
عند بزوغها، وتبين به أن وقته يسمى صبحاً لغة، فإن الصبح والصبّاح والإصباح أول النهار، ولعله يطلق عليه إلى وقت الغداء أو الزوال، أو تكون الصيحة وقت الإشراق آخر أمرهم، وقلع المدائن من أماكنها وقت الصبح ابتداء أمرهم؛ ثم بين سبحانه ما تسبب عن الصيحة متعقباً لها فقال:
﴿فجعلنا عاليها﴾ أي مدائنهم
﴿سافلها وأمطرنا﴾.
ولما كان الزجر في هذه السورة أعظم من الزجر في سورة هود عليه السلام، لطلبهم أن يأتي بجميع الملائكة، أعاد الضمير على المعذبين لا على مدنهم - كما مضى في سورة هود عليه السلام - لأن هذا أصرح، فقال:
﴿عليهم﴾ أي أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم
﴿حجارة من سجيل﴾ ثم حقق أن ذلك كله شرح لقوله
﴿وليذكر أولوا الألباب﴾ بقوله:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم جداً
﴿لآيات﴾ أي عدة من جهة غمرها بالماء بعد خسفها، ومن جهة كونه مخالفاً لمياه الأرض بالنتن والخباثة، وعدم عيش الحيوان فيه، وعدم النفع به، ومن جهة فظاعة منظرة - وغير ذلك من أمره
﴿للمتوسمين *﴾ جمع متوسم، وهو الناظر في السمة الدالة - وهي الأثر الدال في الوجه - والقرائن القاضية بالخير
77
والشر، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بمثل ذلك، فهو إلهاب لهم وتبكيت؛ ثم بين أن ذلك غير خفي عنهم ولا بعيد عمن أراد الاتعاظ به، فقال جعلاً لهم - لعدم اعتبارهم بها ومع رؤيتهم إياها في كل حين - في عداد المنكرين:
﴿وإنها﴾ أي هذه المدائن
﴿لبسبيل مقيم *﴾ أي ثابت، وهو مع ذلك مبين، فالاعتبار بها في غاية السهولة لقومك، وكانوا يمرون عليها في بعض أسفارهم إلى الشام.
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال بالتوسم الدال - مما هي عليه من المخالفة لسائر مياه الأرض العذبة الورادة إليها على كثرتها ومع أن البلاد التي هي بها من أبهج البلاد في عذوبة المياه وطراوة الأرض وحسن الأشجار وغير ذلك - على أن لها نبأ هو في غاية الغرابة، وأتبع ذلك سهولة الوصول إليها حثاً على إتيانها بقصد نظرها والاعتبار بها والسؤال عن سبب كونها كذلك، قال تعالى مشيراً إلى زيادة الحث بالتأكيد:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من حالها
﴿لآية﴾ أي علامة عظيمة في الدلالة علينا
﴿للمؤمنين *﴾ أي الراسخين في الصدق والتصديق، فإذا أخبروا أن سبب كونها هكذا أن الله أمر بعض جنده فرفعها ثم قلبها ثم أتبعها الحجارة ثم خسف بها وغمرها
78
بهذا الماء - الذي هو في القذارة وعدم الثمرة مناسب لأفعال أهلها - لأجل عصيانهم رسوله صلى الله علية وعلى آله وسلم، آمنوا حذراً من مثل هذا العذاب إيماناً بالغيب.
ولما ذكر هذه القصة، ضم إليها ما هو على طريقها مما عذب قومه بنوع آخر من العذاب يشابه عذاب قوم لوط في كونه ناراً من السماء، فقال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يكون عذابهم لأجل التكذيب، أو عدّاً لهم - لأجل تماديهم على الغواية مع العلم به - عداد المنكرين:
﴿وإن﴾ أي وإنه
﴿كان﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿أصحاب الأيكة﴾ وهم قوم شعيب عليه السلام؛ والأيكة: الشجرة - عن الحسن، وجمعه الأيك كشجرة وشجر، وقيل: الأيكة: الشجر الملتف
﴿لظالمين *﴾ أي العريقين في الظلم
﴿فانتقمنا منهم﴾ أي بسبب ذلك؛ ثم أخبر عن البلدين لتقاربهما في العذاب والمكان وكونهما على طريق واحدة من طرق متاجر قريش فقال:
﴿وإنهما﴾ أي قرى قوم لوط ومحال أصحاب الأيكة
﴿لبإمام﴾ أي طريق يؤم ويتبع ويهتدي به
﴿مبين *﴾ واضح لمن أراده، بحيث إنه من شدة وضوحه موضح لعظمة الله
79
وانتصاره لأنبيائه ممن يكذبهم، وهو مع وضوحه مقيم في مكانه لم تندرس أعلامه، ولم تنطمس آثاره، فالآية من الاحتباك: ذكر في الأولى
﴿مقيم﴾ دلالة على حذف مثله ثانياً، وفي الثانية
﴿مبين﴾ دلالة على حذف مثله أولاً.
80
ولما كان ربما قيل: إنه لو كان لأصحاب الأيكة بيوت متقنة لمنعتهم من العذاب؟ عطف عليهم من هم على طريق أخرى من متاجرهم إلى الشام، وكانوا قد طال اغترارهم بالأمل حتى اتخذوا الجبال بيوتاً، وكانت آيتهم في غاية الوضوح فكذبوا بها، تحقيقاً لأن المتعنتين لو رأوا كل آية لقالوا إنما سكرت أبصارنا فقال:
﴿ولقد كذب﴾.
ولما كان السياق للمكذبين وما وقع لهم بتكذيبهم، قدم فاعل، فقال مشيراً إلى إتقان بيوتهم:
﴿أصحاب الحجر﴾ وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، وديارهم بين المدينة الشريفة والشام
﴿المرسلين *﴾ أي كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك، لأن الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع، وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء؛ ثم أتبع ذلك قوله:
﴿وءاتيناهم﴾ أي بعظمتنا على يد رسولهم صالح عليه السلام
80
﴿ءاياتنا﴾ أي كلها، بإيتاء الناقة وسقيها ودرها وشربها، لأن الممكنات كلها بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فمن كذب بواحدة منها فقد كذب بالجميع
﴿فكانوا﴾ أي كوناً هو كالجبلة
﴿عنها﴾ أي الآيات كلها خاصة، لا عن زينة الدنيا التي تجر إلى الباطل
﴿معرضين *﴾ أي راسخين في الإعراض، لم يؤمنوا بها، التفاتاً إلى قوله تعالى
﴿ولو فتحنا عليهم باباً من السماء﴾ - الآيتين، وتمثيلاً له رداً للمقطع على المطلع؛ ثم أخبر أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشد منهم فقال:
﴿وكانوا ينحتون﴾ والنحت: قلع جزء بعد حزء من الجسم على سبيل المسح
﴿من الجبال﴾ التي تقدم أنا جعلناها رواسي
﴿بيوتاً ءامنين *﴾ عليها من الانهدام، وبها من لحاق ما يكره، لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة
﴿فأخذتهم﴾ أي فتسبب عن تكذيبهم أن أخذتهم أخذ العذاب والانتقام
﴿الصيحة﴾ حال كونهم
﴿مصبحين *﴾ أي داخلين في الصبح
﴿فما﴾ أي فتسبب عن
81
الصيحة أنه ما
﴿أغنى﴾ أي أجزأ
﴿عنهم ما كانوا﴾ أي بجبلاتهم
﴿يكسبون *﴾ من البيوت والأعمال والعدد والآلات الخبيثة، لأنه لا يعجزنا شيء لأنه لا كلفة علينا فيما نفعل
﴿إنما نقول له كن فيكون﴾ وفعلنا بهم ذلك لأنهم كانوا على باطل، فكان تعذيبنا لهم حقاً.
82
ولما كان المتعنت ربما قال: ما له يخلقهم ثم يهلكهم وهو عالم حين خلقهم أنهم يكذبون؟ وكانت هذه الآية ملتفتة - مع ما فيها من ذكر الأرض - إلى تلك التي أتبعها ذكر الخافقين، استدلالاً على الساعة، قال على ذلك النمط:
﴿وما خلقنا﴾ أي على عظمتنا
﴿السماوات﴾ أي على ما لها من العلو والسعة
﴿والأرض﴾ على ما بها من المنافع والغرائب
﴿وما بينهما﴾ من هؤلاء المكذبين وعذابهم، ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك
﴿إلا بالحق﴾ أي خلقاً ملتبساً بالحق، فيتفكر فيه من وفقه الله فيعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى، أو بسبب الحق من إثبات ثوابت الأمور ونفي مزلزلها، لتظهر عظمتنا بإنصاف المظلوم من الظالم، وإثابة الطائع وعقاب العاصي في يوم الفصل - إلى غير ذلك من الحكم كما قال تعالى {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي
82
الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم: ٣١] فمن أمهلناه في الدنيا أخذنا منه الحق بعد قيام الساعة، فلا بد من فعل ذلك
﴿وإن الساعة لآتية﴾ لأجل إقامة الحق لا شك في إتيانها لحكم علمها سبحانه فيظهر فيها كل ذلك، ويمكن أن يكون التقدير: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما فعلنا ذلك إلا بالأمر من قولنا
«كن» وهو الحق
﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ أي بالأمر
﴿ألا له الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤] يعني أنه لا مشقة علينا في شيء من ذلك، وسنعدم ذلك بالحق إذا أردنا قيام الساعة، وأن الساعة لآتيه، لأنا قد وعدنا بذلك، وليس بينكم وبين كونها إلا أن نريد فتكون كما كان غيرها مما أردناه
﴿فاصفح الصفح﴾ أي فأعرض - بسبب تحقق الأخذ بثارك - الإعراض
﴿الجميل *﴾ بالحلم ولإغضاء وسعة الصدر، في مثل قولهم
﴿ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ فإنه لا بد من الأخذ لك منهم بالحق ولو لم يكن لك نصرة إلا في ذلك اليوم لكانت كافية؛ ثم علل هذا الأمر بقوله:
﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك الآمر لك بهذا
﴿هو﴾
83
أي وحده
﴿الخلاّق﴾ المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له.
ولما كان إحكام المصنوعات لا يتم إلا بالعلم، قال تعالى:
﴿العليم *﴾ أي البالغ العلم بكل المعلومات، فلا ترى أفعالهم وأقوالهم إلا منه سبحانه لأنه خالقها، وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك، فإنه نعم المولى ونعم النصير، ولا يخفي عليه شيء منه؛ ويدل على ما قلته آية يس
﴿أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم﴾ [يس: ٨١] أو يقال: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون شيئاً مما أردنا من الحق، لأنا ما خلقنا عذابهم إلا بالحق كما خلقناهم بالحق، فلم يمتنع علينا شيء من ذلك
﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ أي بسبب إقامة الحق وإظهار أمرنا في العدل، ولولا أن سلطنا بعض الناس على بعض لم يظهر
84
لهم منا هذه الصفة غاية الظهور، فنحن نعجل من الحق الذي خلقنا ذلك بسببه على قيام الساعة - ما شئنا من الابتلاء والانتقام كما فعلنا ممن قصصنا أمرهم، ونؤخر من ذلك ما بقي إلى قيام الساعة
﴿وإن الساعة لآتية﴾ لا شك فيها، فلا ندع هناك شيئاً من الحقوق إلا أقمناه
﴿فأصفح الصفح الجميل﴾ فلا بد من الأخذ لك بحقك إما في الدنيا وإما في الآخرة أن أي لأن
﴿ربك هو الخلاّق﴾ أي الفاعل للخلق مرة بعد مرة، لا تنفذ قدرته ولا تهن كلمته
﴿العليم﴾ التام العلم، فهو قادر على ذلك عالم بوجه الحكمة فيه في وقته وكيفيته، فهو يعيد الخلائق في الساعة كما بدأهم، ويستوفي إذ ذاك جميع الحقوق ويؤتيك في ذلك اليوم ما يقر به عينك.
ولما ذكر صفة العلم بصيغة المبالغة، أتبعها ما آتاه في هذه الدار من مادة العلم بصيغة العظمة، فقال عطفاً على ما قدرته مما دل عليه السياق:
﴿ولقد آتيناك﴾ مما يدل على علمنا
﴿سبعاً من المثاني﴾ وهي الفاتحة الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن فتثني في النزول فإنها نزلت مرتين، وتثني في كل ركعة من الصلاة، وهي ثناء على الله
85
والصالحين من عباده، وهي مقسومة بين الله وعبده، وتثني فيه مقاصدها، ويورد كل معنى من معانيها فيه بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه في قوالب الألفاظ وجواهر التراكيب الهادية إليه - وغير ذلك من التثنية
﴿والقرآن العظيم *﴾ أي الحاوي لجميع علوم الأولين والآخرين مما في جميع الكتب السالفة وغيره.
86
ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله:
﴿لا تمدن عينيك﴾ أي مداً عظيماً بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احتزازاً عن حديث النفس
﴿إلى ما متعنا﴾ أي على عظمتنا
﴿به أزواجاً﴾ أي أصنافاً
﴿منهم﴾ أي أهل الدنيا؛ أو يقال: إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن - كما تقدم - كفيلاً بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما
86
أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال: إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير: فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله
﴿ولقد آتيناك﴾ أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحاً ما تقدم
﴿سبعاً من المثاني﴾ يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركاً بلفظها، وتذكيراً لمعانيها، تخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه
﴿و﴾ آتيناك
﴿القرآن العظيم﴾ الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل: فماذا أعمل؟
87
فقيل في معنى
﴿ذرهم يأكلوا﴾ :
﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم﴾ اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه
﴿ولا تحزن عليهم﴾ لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلاً ورأساً إلا في أمر البلاغ.
ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه رضي الله عنهم بالرفق واللين فقال تعالى:
﴿واخفض﴾ أي طأطىء
﴿جناحك للمؤمنين *﴾ أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه - قاله أبو حيان؛ وفي الجزء العاشر من الثقفيات عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى
88
آله وسلم قال:
«المؤمن لين حتى تخاله من اللين أحمق».
ولما كان الغالب على الخلق التقصير، قال له:
﴿وقل﴾ أي للفريقين، مؤكداً لما للكفار من التكذيب، ولما للمؤمنين به من طيب النفس:
﴿إني أنا﴾ أي لا غيري من المنذرين بالأعداء الدنيوية
﴿النذير المبين *﴾ لمن تعمد التقصير، إنذاري منقذ له من ورطته، لأنه محتف بالأدلة القاطعة.
ولما ذكر ما التحم بقصة أصحاب الحجر المقتسمين على قتل رسولهم، وختمه بالإنذار الذي هم أهله، عاد إلى تتميم أمرهم فشبههم بمن كذب من هذه الأمة فقال:
﴿كما﴾ أي كذب أولئك وآتيناهم آياتنا فأعرضوا عنها ففعلنا بهم من العذاب ما هم أهله مثل ما
﴿أنزلنا﴾ أي بعظمتنا من الآيات
﴿على المقتسمين *﴾ أي مثلهم من قريش حيث اقتسموا شعاب مكة، ينفرون الناس عنك ويفرقون القول في القرآن، فلا تأس عليهم لتكذيبهم وعنادهم مع رؤيتهم الآيات البينات، فإن سنتنا جرت بذلك فيمن أردنا شقوته كقوم صالح؛ ثم قال:
﴿الذين﴾ أي مع أنهم تقاسموا على قتلك واقتسموا طرق مكة للتنفير عنك
﴿جعلوا القرءان﴾ بأقوالهم
﴿عضين *﴾ أي قسموا القول فيه والحال
89
أنه جامع المعاني، لا متفرق المباني - منتظم التأليف أشد انتظام. متلائم الارتباط أحكم التئام، كما قدمنا الإشارة إليه بتسميته كتاباً وقرآناً، وختمنا بأن ذلك على وجه الإبانة لاخفاء فيه، فقولهم كله عناه، فقالوا: سحر، وقالوا: شعر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين - وغير ذلك، أنزلنا عليهم آياتنا البينات وأدلتنا الواضحات، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعهم من التعنت وغيره دأب أولئك فليرتقبوا مثل ما حل بهم، ومثلهم كل من تكلم في القرآن بمثل ذلك مما لا ينبغي من العرب وغيرهم؛ وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما
﴿جعلوا القرآن عضين﴾ قال: هم أهل الكتاب: اليهود والنصارى، جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. وسيأتي معنى هذه اللفظة
﴿فوربك﴾ أي فتسبب عن فعلهم هذا أنا نقسم بالموجد لك، المدبر لأمرك، المحسن إليك بإرسالك
﴿لنسئلنهم أجمعين *﴾ أي هؤلاء وأولئك
﴿عما كانوا﴾ أي كوناً هو جبلة لهم
﴿يعملون *﴾ أي من تعضية القرآن وغيرها لأنا نسأل كلاًّ عما صنع
﴿فاصدع﴾
90
أي اجهر بعلو وشدة، فارقاً بين الحق والباطل بسبب ذلك
﴿بما تؤمر﴾ به من القرآن وكتاب مبين
﴿وأعرض﴾ أي إعراض من لا يبالي
﴿عن المشركين *﴾ بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء، ويؤيد أن قوله
﴿كما﴾ راجع إلى قصة صالح ومتعلق بها - وإن لم أر من سبقني إليه - ذكرُ الوصف الذي به تناسبت الآيتان وهو الاقتسام، ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين، لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح، أي أتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم كما أنزلنا على هؤلاء الآيات فما كان منهم إلا ذلك، وإنما عبر في أولئك ب
﴿ءاتيناهم﴾ لأن آياتهم الناقة وولدها والبئر، وهي معطاة محسوسة، لا منزلة معقولة، وقال في هؤلاء أنزلنا إشارة إلى القرآن الذين هو أعظم الآيات، أو إلى الجميع وغلب عليها القرآن لأنه أعظمها، وإلى أنهم مبطلون في جحدهم وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل لأنه أعظم من تلك الآيات مع كونها محسوسات، وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة، فإنه لما أتم قصة صالح عليه السلام، علم أنه المتعنتين ربما قالوا: لأيّ شيء يخلقهم ثم يهلكهم مع علمه بعدم
91
إجابتهم؟ فرد عليهم بأنه ما خلق
﴿السماوات والأرض وما بينهما﴾ من هؤلاء المعاندين ومن أفعالهم وعذابهم وغير ذلك
﴿إلا بالحق وأن الساعة لآتية﴾ فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن، وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر والأبصار فاصفح عنهم، فإنه لا بد من الأخذ لك بحقك، إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع، ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله
﴿إن ربك هو الخلاّق العليم﴾ ثم سلاه - عما يضيّقون به صدره من التكذيب بالساعة، وأن الوعد بها إنما هو سحر، ونحو ذلك من القول، ومن افتخارهم بأموالهم ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق - بما آتاه من كنوز القرآن، وأمره بأن يزيد في التواضع واللين للمؤمنين لتطيب نفوسهم فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، وأن ينذر الجميع ويحذرهم من سطوات الله أمثال ما أنزل بالأقدمين، ثم عاد إليهم فشبههم بهؤلاء في التكذيب ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب لأنهم مشبه بهم، والمشبه به أعلى من المشبه، وذلك لكونهم أشد كفراً لأن نبيهم أعظم وآياته أجل وأكثر، وأجلى وأبهر، فيكون ذلك
92
سبب اشتداد حذرهم، ولك أن تقول ولعله أحسن: إنه تعالى لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين.
فأزعجتهم عنها صيحه سلبت أرواحهم، وقلبت أشباحهم، كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور، عند نفوذ المقدور، وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر بقوله تعالى
﴿ولقد جعلنا في السماء بروجاً﴾ وما بعد ذلك من الجن والإنس وغيرهما مما جعل ذكر اختراعه دليلاً على الساعة، أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين إنما هو الساعة فقال
﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ أي بالأمر الثابت لا بالتمويه والسحر كما أنتم تشاهدون، أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها يوم الجمع الأكبر، ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي، وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور
﴿وإن الساعة لآتيه بالحق﴾ أيضاً، وليست سحراً كما تظنون، ولما كان إتيانها لهذا العرض مما يشفي القلب لإدراك الثأر وهو حق لا بد منه، تسبب عنه قوله تعالى
﴿فاصفح الصفح الجميل﴾.
93
ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق، وكان صانع الشيء أعلم به من غيره فكيف إذا كان مع ذلك تام للعلم قال الله تعالى معللاً لذلك
﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك
﴿وهو الخلاّق﴾ أي التام القدرة على الإيجاد والإعدام، الفعال لذلك
«العليم» البالغ العلم؛ ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الأخبار عما أوتى أهل الحجر من الآيات، وأنه خلق الوجود بالحق لا بالتمويه، وكان ذلك موجباً لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها لإرشاد أمته، وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق كآية صالح، أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم، أشار إلى تفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفضل ابنه، فقال عاطفاً على ذلك
﴿ولقد ءاتيناك﴾ أي إن كنا أتينا صالحاً أو غيره آية مضت فلم يبق إلا ذكرها فقد آتيناك
﴿سبعاً من المثاني﴾ وهي الفاتحة التي خصصت بها، ثنى فيها البسملة للمبادىء، والحمدلة للكمالات، والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول والمرضي من الأعمال، وملك الدنيا المسمى بالربوبية لكونه مستوراً، وملك يوم الدين، وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب،
94
والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار، والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار، والهداية بالهادي والمهدي، والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال، وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار
﴿والقرآن الكريم﴾ الجامع لجميع الآيات مع كونه حقاً ثابتاً لا سحراً وخيالاً، بل هو آية باقية على وجه الدهر، مستمراً أمرها، دائماً تلاوتها وذكرها، تفني الجبال الرواسي وهي باقية، وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة، إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها هل من مبارز؟ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها: إني أناجز فلا تقوم لها قائم، ولا يحوم حول حماها حائم، ولا يروم خوض بحرها رائم.
ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية، ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية، حسن كل الحسن اتباعها بقوله
﴿لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم﴾ ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد، قال تعالى
«ولا تحزن عليهم» ولما كان الغني بها ربما طن حسن أنفة الغنى، عقبه قوله
﴿واخفض جناحك للمؤمنين﴾ ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء لا سيما لمن أعرض، نفى ذلك بقوله {وقل إني أنا النذير
95
المبين} تحريضاً على الاجتهاد في التحذير، وتثبيتاً للمؤمنين وإرغاماً للمعاندين، واستجلاباً لمن أراد الله إسعاده من الكافرين، إعلاماً بأن القلوب للمؤمنين بيد الله سبحانه وتعالى، فلا وثوق مع ذلك بمقبل، ولا يأمن عن مدبر.
ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين، والربط الوثيق المتين، التفت الخاطر إلى حال من يندرهم، وكان كفار قريش - في تقسيمهم القول في القرآن واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان، تنفيراً لمن أراد الإيمان - أشبه شيء بالمقتسمين على صالح عليه السلام، قال تعالى
﴿كما﴾ أي آتينا أولئك المقتسمين آياتنا فكانوا عنها معرضين، مثل ما
﴿أنزلنا﴾ آياتنا
﴿على المقتسمين﴾ أي الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك
﴿الذين جعلوا القرآن عضين﴾ أي ذا أعضاء أي أجزاء متفاصلة متباينة مثل أعضاء الجزور إذا قطعت، جمع عضة مثل عدة وأصلها عضوة
﴿فوربك لنسئلنهم أجمعين﴾ أي لا يمتنع علينا منهم أحد
﴿عما كانوا يعملون فاصدع﴾ أي بسبب أمرنا لك بالإنذار وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل
﴿بما تؤمر وأعرض عن المشركين﴾.
96
ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللاً له:
﴿إنا كفيناك﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿المستهزءين *﴾ أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله:
﴿الذين يجعلون مع الله﴾ أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله
﴿إلهاً﴾.
ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولا سيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله
﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن﴾ [الإسراء: ١١٠] الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله:
﴿ءاخر﴾ قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن،
97
فقال أبو جهل: إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين - وكانوا أعتاهم - أن يهدد الباقون بقولنا:
﴿فسوف يعلمون﴾ أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعاً لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين.
ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه:
﴿ولقد نعلم﴾ أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة
﴿أنك﴾ أي على ما لك من الحلم وسعة البطان
﴿يضيق صدرك﴾ أي يوجد ضيقه ويتجدد
﴿بما يقولون﴾ عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم:
﴿ياأيها الذي نزل عليه الذكر﴾ إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك
﴿فسبح﴾ بسبب ذلك، ملتبساً
﴿بحمد ربك﴾ أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل
98
الظالمون، مثبتاً له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو
﴿وكن﴾ أي كوناً جبلياً لا انفكاك له
﴿من الساجدين *﴾ له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لا سيما عند الشدائد، فقد قال تعالى:
﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥] وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى. وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح. وفي لفظ لأحمد: لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت
99
شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:
«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد».
ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال:
﴿واعبد ربك﴾ أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها
﴿حتى يأتيك اليقين﴾ بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما
﴿يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين﴾ قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حياً - انتهى. وقال البغوي: وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام
﴿وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً﴾ [مريم: ٣١] فقد انطبق آخر السورة - في الأمر باتخاذ القرآن بلاغاً لكل خير والإعراض عن الكفار - على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين: الآخر والأول أي اعتناق - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
100
سورة النحل
مقصودها الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل بالاختيار، منزه عن شوائب النقص، وادل ما فيها على هذا المعنى أم النحل لما ذكر من شأنها من دقة الفهمة في ترتيب بيوتها ورعيها وسائر أمرها من اختلاف ألوان ما يخرح منها من أعسالها، وجعله شفاء مع أكلها من الثمار النافعة والضارة - وغير ذلك من الأمور، ووسمها بالنعم واضح في ذلك - والله أعلم.
101