تفسير سورة النحل

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النحل من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة النحل
﴿ بسم الله ﴾ المحيط بدائرة الكمال ما شاء فعل ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره صغيره وكبيره ﴿ الرحيم * ﴾ الذي خص من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه.

﴿بسم الله﴾ المحيط بدائرة الكمال ما شاء فعل ﴿الرحمن﴾ الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره وصغيره وكبيره ﴿الرحيم *﴾ الذي خص من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه.
لما ختم الحجر بالإشارة إلى إتيان اليقين، وهو صالح لموت الكل، ولكشف الغطاء بإتيان ما يوعدون مما يستعجلون به استهزاء من العذاب
101
في الآخرة بعد ما يلقون في الدنيا، ابتدأ هذه بمثل ذلك سواء، غير أنه ختم تلك باسم الرب المفهم للإحسان لطفاً بالمخاطب، وافتتح هذه باسم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء لأن ذلك أليق بمقام التهديد، ولما ستعرفه من المعاني المتنوعة في أثناء السورة، وسيكرر هذا الاسم فيها تكريراً تعلم منه صحة هذه الدعوى، وعبر عن الآتي بالماضي إشارة إلى تحققه تحقق ما وقع ومضى، وإلى أن كل آتٍ ولا بد قريب، فقال تعالى: ﴿أتى أمر الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، بما يذل الأعداء، ويعز الأولياء، ويشفي صدورهم، ويقر أعينهم.
ولما كانت العجلة نقصاً، قال مسبباً عن هذا الإخبار: ﴿فلا تستعجلوه﴾ أيها الأعداء استهزاء، وأيها الأولياء استكفاء واستشفاء، وذلك مثل ما أفهمه العطف في قوله تعالى ﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ كما تقدم؛ والضمير يجوز أن يكون لله وأن يكون للأمر.
ولما كان الجزم بالأمور المستقبلة لا يليق إلا عند نفوذ الأمر، ولا نفوذ إلا لمن لا كفوء له، وكانت العجلة - وهي الإتيان بالشيء
102
قبل حينه الأولى به - نقصاً ظاهراً لا يحمل عليها إلا في ضيق الفطن، وكان التأخير لا يكون إلا عن منازع مشارك، نزه نفسه سبحانه تنزيهاً مطلقاً جامعاً بقوله تعالى: ﴿سبحانه﴾ أي تنزه عن الاستعجال وعن جميع صفات النقص ﴿وتعالى﴾ أي تعالياً عظيماً جداً ﴿عما يشركون *﴾ أي يدعون أنه شريك له، فلا مانع مما يريد فعله، وساقه في غير قراءة حمزة والكسائي - في أسلوب الغيبة، إظهاراً للإعراض الدال على شدة الغضب، وهي ناظرة إلى قوله آخر التي قبلها ﴿وأعرض عن المشركين﴾ [الحجر: ٩٤] وقوله: ﴿الذين يجعلون مع الله إلهاً ءاخر﴾ [الحجر: ٩٦] وقد آل الأمر في نظم الآية إلى أن صار كأنه قيل: إنه لا يعجل لأنه منزه عن النقص، ولا بد من إنفاذ أمره لأنه متعالٍ عن الكفوء؛ أو يقال: لا تستعجلوه لأنه تنزه عن النقص فلا يجعل، وتعالى عن أن يكون له كفوء يدفع ما يريد فلا بد من وقوعه، فهي واقعة موقع التعليل لصدر الآية كما أن صدر الآية تعليل لآخر سورة الحجر.
ولما تقرر بذلك تنزهه عن كل نقص: شرك وغيره، شرع يصف نفسه سبحانه بصفات الكمال من الأمر والخلق، ولما كان الأمر أقدم وأعلى، بدأ به، ولما كان من أمره إنزال الملائكة على الصورة التي
103
طلبوها في قولهم
﴿لو ما تأتينا بالملائكة﴾ [الحجر: ٧] وقص عليهم في سورة إبراهيم ولوط عليهما السلام ما يترتب على إنزالهم مجتمعين، وفهم منه أن لهم في نزولهم حالة أخرى لا تنكرها الرسل، وهي حالة الإتيان إليهم بالعلم الذي نسبته إلى الأرواح نسبة الأرواح إلى الأشباح، وكان ذلك ربما أثار لهم اعتراضاً يطلبون به الفرق بينهم وبين الرسل في إنزالهم عليهم دونهم - كما تقدم في الحجر، وكان ما يشركون به لا تصرف له أصلاً بإنزال ولا غيره، قال تعالى مشيراً إلى ذلك وإلى أن الوحي بواسطة الملك، وأن النبوة عطائية لا كسبية: ﴿ينزل الملائكة﴾ الذين هم الملأ الأعلى ﴿بالروح﴾ أي المعنى الأعظم الذي هو للأرواح بمنزلة الأرواح للأشباح ﴿من أمره﴾ الذي هو كلامه المشتمل على الأمر والنهي ﴿ألا له الخلق والأمر﴾ وهو مما تميز به لحقيته وإعجازه عن جميع المخلوقات، فكيف بما لا يعقل منها كالأصنام!
104
﴿على ما يشاء من عباده﴾ دون بعض، لأن ذلك نتيجة فعله بالاختيار، وأبدل من الروح أو فسر الإنزال بالوحي لأنه متضمن معنى القول فقال: ﴿أن أنذروا﴾ أي الناس سطواتي، فإنها لا محالة نازلة بمن أريد إنزالها به، بسبب ﴿أنه لا إله إلا أنا﴾ وعبر بضمير المتكلم لأنه أدل على المراد لكونه أعرف؛ وسبب عن وحدانيته التي هي منتهى كمال القوة العلمية قوله آمراً بما هو أقصى كمال القوة العملية: ﴿فاتقون *﴾ أي فليشتد خوفكم مني وأخذكم لما يكون وقاية لكم من عذابي، فإنه لا مانع مما أريد، فمن علمت أنه أهل للنقمة أنزلتها به، ومن علمته أهلاً لتلقي الروح منحته إياه.
ولما وحد نفسه، دل على ذلك بقوله، شارحاً لإيجاده أصول العالم وفروعه على وجه الحكمة: ﴿خلق السماوات﴾ أي التي هي السقف المظل ﴿والأرض﴾ أي التي هي البساط المقل
105
﴿بالحق﴾ أي بالأمر المحقق الثابت، لا بالتمويه والتخييل ﴿ألا له الخلق والأمر﴾.
ولما كان ذلك من صفات الكمال المستلزمة لنفي النقائص، وكان قاطعاً في التنزه عن الشريك، لأنه لو كان، لزم إمكان الممانعة، فلزم العجز عن المراد، أو وجود الضدين المرادين لهما، وكل منهما محال، فإمكان الشريك محال، ولأنهما وكل ما فيهما ملكه وفي تصرفه، لا نزاع لمن أثبت الإله في ذلك، تلاه بقوله - نتيجة لذلك دالة على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام: ﴿تعالى﴾ أي تعالياً فات الوصف ﴿عما يشركون *﴾ - عرياً عن افتتاحه بالتنزيه كالأولى.
106
ولما كان خلق السماوات والأرض غيباً لتقدمه، وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة، مع كونه أدل على ذلك من حيث إنه أشرف من كل ما يعبده من دون الله، ولن يكون الرب أدنى من العبد أصلاً، قال معللاً: ﴿خلق الإنسان﴾ أي هذا النوع الذي خلقه أدل ما يكون على الوحدانية والفعل بالاختيار، لأنه أشرف ما في
106
العالم السفلي من الأجسام لمشاركته للحيوان الذي هو أشرف من غيره بالقوى الشريفة من الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، واختصاصه بالنطق الذي هو إدراك الكليات والتصرف فيها بالقياسات ﴿من نطفة﴾ أي آدم عليه السلام من مطلق الماء، ومن تفرع منه بعد زوجه من ماء مقيد بالدفق.
ولما كان - مع مشاركته لغيره من الحيوان في كونه من نطفة - متميزاً بالنطق المستند إلى ما في نفسه من عجائب الصنع ولطائف الإدراك، كان ذلك أدل دليل على كمال قدرة الفاعل واختياره، فقال تعالى: ﴿فإذا هو﴾ أي الإنسان المخلوق من الماء المهين ﴿خصيم﴾ أي منطيق عارف بالمجادلة ﴿مبين *﴾ أي بين القدرة على الخصام، وموضح لما يريده غاية الإيضاح بعد أن كان ما لا حسّ به ولا حركة اختيارية عنده بوجه، أفلا يقدر الذى ابتدأ ذلك على إعادته!
ولما صار التوحيد بذلك كالشمس، وكان كل ما في الكون - مع أنه دال على الوحدانية - نعمة على الإنسان يجب عليه شكرها، شرع يعدد ذلك تنبيهاً له على وجوب الشكر بالتبرؤ من الكفر، فقال مقدماً الحيوانات لأنها أشرف من غيرها، وقدم منها ما ينفع الإنسان لأنه
107
أجلّ من غيره. مبتدئاً بما هو أولاها بالذكر لأنه أجلّها منفعة في ضرورات المعيشة وألزمها لمن أنزل الذكر بلسانهم: ﴿والأنعام﴾ أي الأزواج الثمانية: الضأن والمعز والإبل والبقر ﴿خلقها﴾ غير ناطقة ولا مبينة مع كونها أكبر منكم خلقاً وأشد قوة.
ولما كان أول ما يمكن أن يلقى الإنسان عادة من نعمها اللباس، بدأ به، فقال على طريق الاستئناف: ﴿لكم فيها دفء﴾ أي ما يدفأ به فيكون منه حر معتدل من حر البدن الكائن بالدثار بمنع البرد، وثنى بما يعم جميع نعمها التي منها اللبن فقال: ﴿ومنافع﴾ ثم ثلث بالأكل لكونه بعد ذلك فقال تعالى: ﴿ومنها تأكلون *﴾ وقدم الظرف دلالة على أن الأكل من غيرها بالنسبة إلى الأكل منها مما لا يعتد به، ثم تلاه بالتجمل لأنه النهاية لكونه للرجال فقال تعالى: ﴿ولكم﴾ أي أيها الناس خاصة ﴿فيها﴾ أي الأنعام ﴿جمال﴾ أي عظيم.
ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح، قدمه فقال: ﴿حين يريحون﴾ بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة ﴿وحين تسرحون *﴾ بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون
108
لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنس لأهلها كبير.
109
ولما كانت الأسفار بعد ذلك، تلاه بقوله تعالى: ﴿وتحمل﴾ أي الأنعام ﴿أثقالكم﴾ أي أمتعتكم مع المشقة ﴿إلى بلد﴾ أي غير بلدكم أردتم السفر إليه ﴿لم تكونوا﴾ - أي كوناً أنتم مجبولون عليه - قادرين على حملها إليه، وتبلغكم - بحملها لكم - إلى بلد لم تكونوا ﴿بالغيه﴾ بغير الإبل ﴿أي بشق﴾ أي بجهد ومشقة وكلفة ﴿الأنفس﴾ ويجوز أن يكون المعنى: لم تبلغوه بها، فكيف لو لم تكن موجودة؛ والشق: أحد نصفي الشيء، كأنه كناية عن ذهاب نصف القوة لما يلحق من الجهد؛ والآية من الاحتباك: ذكر حمل الأثقال أولاً دليلاً على حمل الأنفس ثانياً، وذكر مشقة البلوغ ثانياً دليلاً على مشقة الحمل أولاً.
ولما كان هذا كله من الإحسان في التربية، ولا يسخره للضعيف إلا البليغ في الرحمة، وكان من الناس من له من أعماله سبب لرضى ربه، ومنهم من أعماله كلها فاسدة،
109
قال: ﴿إن ربكم﴾ أي الموجد لكم والمحسن إليكم ﴿لرؤوف﴾ أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه ﴿رحيم *﴾ أي بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب.
ولما كانت الأنعام أكثر أموالهم، مع أن منافعها أكثر، بدأ بها ثم ثنى بما هو دونها، مرتباً له على الأشراف فالأشراف، فقال تعالى: ﴿والخيل﴾ أي الصاهلة ﴿والبغال﴾ أي المتولدة بينها وبين الحمر ﴿والحمير﴾ أي الناهقة.
ولما كان الركوب فعل المخاطبين، وهو المقصود بالنفعة، ذكره باللام التي هي الأصل في التعليل فقال: ﴿لتركبوها﴾ ولما كانت الزينة تابعة للمنفعة، وكانت فعلاً لفاعل الفعل المعلل، نصبت عطفاً على محل ما قبلها فقال: ﴿وزينة﴾.
ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق الامتنان، دل على أنها لا تتناهى في ذلك السياق، فنبه على أنه خلق لهم أموراً لو عدها لهم لم يفهموا المراد على سبيل التجديد والاستمرار في الدنيا
110
والآخرة ﴿ما لا تعلمون *﴾ فلا تعلمون له موجداً غيره ولا مدبراً سواه.
111
ولما كانوا في أسفارهم واضطرابهم في المنافع بهذه الحيوانات وغيرها يقصدون أسهل الطرق وأقومها وأوصلها إلى الغرض، ومن عدل عن ذلك كان عندهم ضالاً سخيف العقل غير مستحق للعد في عداد النبلاء، نبههم على أن ما تقدم في هذه السورة قد بين الطريق الأقوم الموصل إليه سبحانه بتكفله ببيان أنه واحد قادر عالم مختار، وأنه هو المنعم، فوجب اختصاصه بالعبادة، وأخبرهم سبحانه أنه أوجب هذا البيان على نفسه فضلاً منه فقال تعالى: ﴿وعلى﴾ أي قد بين لكم الطريق الأمم وعلى ﴿الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل الشيء ﴿قصد السبيل﴾ أي بيان الطريق العدل، وعلى الله بيان الطريق الجائر حتى لا يشك في شيء منهما، فإن الطريق المعنوية كالحسية، منها مستقيم من سلكه اهتدى ﴿ومنها جائر﴾ من سلكه ضل عن الوصول فهلك ﴿وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم﴾ [التوبة: ١١٥] الآية ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً﴾ [الإسراء: ١٥] فالآية من الاحتباك: ذكر أن عليه بيان القصد أولاً دلالة على حذف أن عليه بيان الجائر ثانياً، وذكر أن من الطرق
111
الجائر ثانياً دلالة على حذف أن منها المستقيم أولا، وتعبير الأسلوب لبيان أن المقصود بالذات إنما هو بيان النافع، ومادة قصد تدور على العدل المواه، ومنه القصد، أي الاستقامة، واستقامة الطريق من غير تعريج، وضد الإفراط كالاقتصاد، ورجل ليس بالجسيم ولا بالضئيل، وذلك لا يكون إلا عن إرادة وتوجه، فإطلاق القصد على العزم مستقيماً كان أو جائراً، إذا قلت: قصدته - بمعنى أتيته أو أممته ونويته، من دلالة الالتزام، وكذا القصد بمعنى الكسر بأيّ وجه كان، وقيل: لا يقال: قصد، إلا إذا كان بالنصف، والقصيد: ما تم شطر أبياته، لأن ذلك أعدل حالاته، قال في القاموس: ثلاثة أبيات فصاعداً أو ستة عشر فصاعداً؛ وقال الإمام أبو الفتح عثمان بن جني في آخر كتابه المغرب في شرح القوافي: فالبيت على ثلاثة أضرب: قصير، ورمل، وزجر، فأما القصيد فالطويل التام، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ومعنى قولنا: المديد التام والوافر التام.
112
نريد أتم ما جاء منهما في الاستعمال، أعني الضربين الأولين منهما، فأما أن يجيئا على أصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مطّرخ؛ والقصيد: المخ السمين أو دونه، والعظم الممخ، والناقة السمينة بها نفي، والسمين من الأسنمة - لأن بهذا الحال استقامة كل ما ذكر، وكذا القاصد: القريب، وبيننا وبين الماء ليلة قاصدة، أي هينة السير، لأنه أقرب إلى الاستقامة، ومنه قصدت كذا - إذا اعتمدته وأممته وتوجهت إليه سواء كان ذلك عدلاً أو جوراً، وانقصد الرمح - إذا انكسر على السواء، كأنه مطاوع قصده، والواحدة من تلك الكِسَر قصده بالكسر، ورمح قصد - ككتف: متكسر، والقصد - بالتحريك: العوسج - لأنه سريع التكسر، والجوع - لأن الجائع قاصد لما يأكله متوجه إليه، والقصد: مشرة العضاه تخرج في أيام الخريف لدنة تتثنى في أطراف الأغصان، وهي خوصة تخرج
113
فيها، وفي كثير من الشجر في تلك الأيام، أو هي الأغصان، أو هي الأغصان الرطبة قبل أن تتلون وتشتد - سميت بذلك لخروجها وتوجهها إلى منظر العين، أو توجه النظر إليها للسرور بها، والقصيد: العصا - لأنها تقصد ويقصد بها، وأقصد السهم: أصاب فقتل مكانه، وأقصد فلاناً: طعنه فلم يخطئه، والحية: لدغت فقتلت - يمكن أن يكون ذلك من الاستقامة لأن قصد فاعله القتل، فكأنه استقام قصده بنفوذه، ويمكن أن يكون من السلب أي أنه أزال الاستقامة لأن من مات فقد زالت استقامة حياته، ومنه المقصد كمخرج، وهو من يمرض ويموت سريعاً، والقصيد بمعنى اليابس من اللحم - فعيل بمعنى مفعل، أي أقصد فزالت استقامته بأن هلك جفافاً يبساً.
والصدق ضد الكذب، وهو من أعدل العدل وأقوم القصد، والصدق: الشدة، إذ بها يمتحن الصادق من الكاذب، ومنه رجل صدق، أي يصدق ما يعزم عليه أو يقوله بفعله، فهو شديد العزم سديد الأمر، والصديق - كأمير: الحبيب الذي يصدق قوله في الحب بفعل، والمصادقة والصداق - بالكسر: المخالة كالتصادق، والصيدق - كصقيل:
114
الأمين - لأنه مصدق في قوله، والملك - لأن محله يقتضي الصدق لعدم حاجته إلى الكذب، والقطب - لأنه أصدق النجوم دلالة لثباته، وقال أبو عبد الله القزاز: هو اسم للسها، وهو النجم الخفي الذي مع بنات نعش، والصدق - بالفتح: الصلب المستوي من الرماح - لأنه صدق ظن الطاعن به، وكذا من الرجال، والكامل من كل شيء، ورجل صدق اللقاء والنظر، ومصداق الشيء: ما يصدقه، وشجاع ذو مصدق - كمنبر: صادق الحملة، أي شديدها، والصدقة - محركة: ما أعطيته في ذات الله لأنها تصدق دعوى الإيمان لدلالتها على شدة العزم فيه، والصدقة - بضم الدال وسكونها: مهر المرأة لأنه يصدق العزم فيه وكسكيت: الكثير الصدق، وصدقت الله حديثاً إن لم أفعل كذا - يمين لهم، أي لا صدقت، وفعله غب صادقة، أي بعد ما تبين له الأمر، وصدقه تصديقاً - ضد كذبه، والوحشي: عدا ولم يلتفت لما حمل عليه، والمصدق - كمحدث: آخذ الصدقات، والمتصدق: معطيها.
ولما كان أكثر الخلق ضالاً، كان ربما توهم متوهم أنه خارج عن الإرادة، فنفي هذا التوهم بقوله - عطفاً على ما تقديره: فمن شاء هداه قصد السبيل، ومن شاء أسلكه الجائر، وهو قادر على ما يريد
115
من الهداية والإضلال -: ﴿ولو شاء﴾ هدايتكم ﴿لهداكم أجمعين *﴾ بخلق الهداية في قلوبكم بعد بيان الطريق القصد، ولكنه لم يشأ ذلك فجعلكم قسمين.
ولما كان ما مضى كفيلاً ببيان أنه الواحد المختار، شرع يوضح ذلك بتفصيل الآيات إيضاحاً يدعه في أتم انكشاف في سياق معدّد للنعم مذكر بها داع إلى شكرها، فقال بعد ما دل به من الإنسان وما يليه في الشرف من الحيوان مبتدئاً بما يليهما في الشرف من النبات الذي هو قوام حياة الإنسان وما به قوام حياته من الحيوان: ﴿هو﴾ لا غيره مما تدعي فيه الإلهية ﴿الذي أنزل﴾ أي بقدرته الباهرة ﴿من السماء﴾ قيل: نفسها. وقيل: جهتها، وقيل: السحاب - كما هو مشاهد ﴿ماء﴾ أي واحداً تحسونه بالذوق والبصر ﴿لكم منه﴾ أي خاصة ﴿شراب﴾ ظاهر على وجه الأرض من العيون والأنهار والغدران وغيرها.
116
ولما كان أول ما يقيم الآدمي شراب اللبن الناشىء عن الماء فقدمه، أتبعه ما ينشأ منه أشرف أغذيته وهو الحيواني، فقال تعالى: ﴿ومنه شجر﴾ لسريانه في الأرض الواحدة واختلاطه بها، فينعقد من ذلك نبات ﴿فيه تسيمون *﴾ أي ترعون على سبيل الإطلاق ليلاً ونهاراً ما خلق لكم من البهائم، والشجر هنا - بما أفهمته الإسامة - عام لما يبقى في الشتاء حقيقة، ولغيره مجازاً؛ قال القزاز: الشجر ما بقي له ساق في الشتاء إلى الصيف، ثم يورق، والبقل ما لا يبقى له ساق، قال الخليل: جل الشجر عظامه وما يبقى منه في الشتاء، ودقه صنفان: أحدهما تبقى له أرومة في الأرض في الشتاء، وينبت في الربيع، ومنه ما ينبت من الأرض كما تنبت البقلة، والفرق بينه وبين البقل أن الشجر يبقى له أرومة على الشتاء ولا يبقى للبقل، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن النبات ثلاثة أقسام: شجر وهو ما يبقى في الشتاء، ولا يذهب فرعه ولا أصله، وما نبت في بزر ولم ينبت في أرومة ثابتة فهو البقل، وما نبت في أرومة - أي أصل - وكان مما يهلك فرعه وأصله في الشتاء فهو الجنبة، لأنه فارق الشجر الذي
117
يبقى فرعه وأصله، والبقل الذي يبيد فرعه وأصله، فكان جنبة بينهما.
ولما كان الشجر عاماً، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه: ﴿ينبت﴾ أي هو سبحانه ﴿لكم﴾ أي خاصة ﴿به﴾ مع كونه واحداً في أرض واحدة ﴿الزرع﴾ الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً، ﴿والزيتون﴾ الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً.
ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى: ﴿والنخيل﴾ ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى: ﴿والأعناب﴾ وهما من أوسط ذلك ﴿ومن كل الثمرات﴾ وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه ﴿إن في ذلك﴾ أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة ﴿لآية﴾ بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء،
118
وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده.
ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته - لقربه وسهولة ملابسته - ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى: ﴿لقوم يتفكرون *﴾ أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء - كما قال تعالى في آية ﴿تسقى بماء واحد﴾ [الرعد: ٤] وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى ﴿فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون﴾ [الحجر: ٩٢] وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين ﴿فسوف يعلمون﴾ أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى ﴿أتى أمر الله فلا تستعجلوه﴾ [النحل: ١] وزاد هذا بياناً قوله ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾ فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم، وأتبع ذلك تنزيهاً وتعظيماً فقال تعالى {خلق السماوات
119
والأرض بالحق تعالى عما يشركون} ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته ﴿خلق الإنسان من نطفة﴾ ثم أبلغه تعالى حداً يكون فيه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله ﴿ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد، وابتدأهم ابتداء واحداً ﴿خلق الإنسان من نطفة﴾ فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر - إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون﴾ انتهى.
120
ولما كان ربما قال بعض الضلال: إن هذه الأشياء مستندة إلى تأثير الأفلاك، نبه على أنها لا تصلح لذلك بكونها متغيرة فلا بد لها من قاهر أثر فيها التغير، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن ينتهي إلى واحد قديم فاعل بالاختيار، لما تقرر من بطلان التسلسل، فقال تعالى: ﴿وسخر لكم﴾ أي أيها الناس لإصلاح أحوالكم ﴿الَّيل﴾ للسكنى ﴿والنهار﴾ للابتغاء؛ ثم ذكر آية النهار فقال تعالى: ﴿والشمس﴾ أي لمنافع اختصها بها، ثم ذكر آية الليل فقال: ﴿والقمر﴾ لأمور علقها به ﴿والنجوم﴾ أي لآيات نصبها لها، ثم نبه على تغيرها بقوله: ﴿مسخرات﴾ أي بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها ﴿بأمره﴾ سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم، دلالة على وحدانيته وفعله بالاختيار، ولو شاء لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب.
ولما كان أمرها مع كونه محسوساً - ليس فيه من المنافع القريبة الأمر السهلة الملابسة ما يشغل عن الفكر فيه، لم يحل أمره إلى غير مطلق العقل، إشارة إلى وضوحه وإن كان لا بد فيه من استعمال القوة المفكرة، ولأن الآثار العلوية أدل على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، فقال: ﴿إن في ذلك﴾ أي التسخير
121
العظيم ﴿لآيات﴾ أي كثيرة متعددة عظيمة ﴿لقوم يعقلون﴾ وجمع الآيات لظهور تعدادها بالتحديث عنها مفصلة.
ولما كان ما مضى موضعاً للتفكر المنتج للعلم بوحدة الصانع واختياره، وكان التفكر في ذلك مذكراً بما بعده من سر التفاوت في اللون الذي لا يمكن ضبط أصنافه على التحرير، وكان في ذلك تمام إبطال القول بتأثير الأفلاك والطبائع، لأن نسبتها إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة، قال تعالى عطفاً على الليل: ﴿وما ذرأ﴾ أي خلق وبث وفرق التراب والماء ﴿لكم﴾ أي خاصة، فاشكروه واعلموا أنه ما خصكم بهذا التدبير العظيم إلا لحكم كبيرة أجلَّها إظهار جلاله يوم الفصل ﴿في الأرض﴾ أي مما ذكر ومن غيره حال كونه ﴿مختلفاً ألوانه﴾ حتى في الورقة، الواحدة، فترى أحد وجهيها - بل بعضه - في غاية الحمرة، والآخر في غاية السواد أو الصفرة ونحو ذلك، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلم قطعاً أنه إنما هو قادر مختار، ولم يذكر
122
اختلاف الصور لأن دلالتها - لأجل اختلاف أشكال النجوم من السماء وصور الجبال والروابي والوهاد من الأرض - ليست على إبطال الطبيعة كدلالة اختلاف اللون.
ولما كان ذلك - وإن كان خارجاً عن الحد في الانتشار - واحداً من جهة كونه لوناً، وحد الآية فقال: ﴿إن في ذلك﴾ الذي ذرأه في هذه الحال على هذا الوجه العظيم ﴿لآية﴾ ولما نبه في التي قبلها على أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتاج معه إلى غير بديهة العقل، نبه هنا على أن ذلك معلوم طرأ عليه النسيان والغفلة، حثاً على بذل الجهد في تأمل ذلك، وإشارة إلى أن دلالته على المقصود في غاية الوضوح فقال: ﴿لقوم يذكرون *﴾ ولو لم يمنعوا - بما أفاده الإدغام؛ والتذكر: طلب المعنى بالتفكر في متعلقه، فلا بد من حضور معنى يطلب به غيره، وقد رتب سبحانه ذلك أبدع ترتيب، فذكر الأجسام المركبة عموماً، ثم خص الحيوان، ثم مطلق الجسم النامي وهو النبات، ثم البسائط من الماء ونحوه، ثم الأعراض من الألوان.
123
ولما دل على قدرته واختياره سبحانه دلالة على القدرة على كل ما أخبر به لاسيما الساعة، بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر
123
من خلق الناس، ثم ذكر بعض ما في المكشوف من الأرض المحيط به الهواء من التفاوت الدال على تفرد الصانع واختياره، وختمه باللون، أتبع ذلك بالمغمور بالماء الذي لا لون له في الحقيقة، إشارة إلى أنه ضمنه من المنافع والحيوانات التي لها من المقادير والكيفيات والأشكال والألوان البديعة التخطيط، الغريبة الصباغ - ما هو أدل من ذلك فقال: ﴿وهو﴾ أي لا غيره ﴿الذي سخر البحر﴾ أي ذلَّله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكون الجواهر، وغير ذلك من المنافع، والمراد به السبعة الأبحر الكائنة في الربع المرتفع عن الماء، وهو المسكون من كرة الأرض المادَّة من البحر المحيط الغامر لثلاثة أرباع الأرض، فجعله بالتسخير بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به بالركوب والغوص وغيرهما ﴿لتأكلوا منه﴾ أي بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك ﴿لحماً طرياً﴾ لا تجد أنعم منه ولا ألين، وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً لذيذاً مع نشبه في ملح زعاق ﴿وتستخرجوا منه﴾ أي بجهدكم في الغوص وما يتبعه ﴿حلية تلبسونها﴾
124
أي نساؤكم، وهن بعضكم لكم، فكأن اللابس أنتم، وهي من الحجارة التي لا ترى أصلب منها ولا أصفى من اللؤلؤ وكذا من المرجان وغيره، مع نسبة هذا الصلب وذاك الطري إلى الماء، فلو أنه فاعل بطبعه لاستويا.
ولما ذكر المنافع العامة مخاطباً لهم بها، وكان المخر - وهو أن تجري السفينة مستقبلة الريح، فتشق الماء، فيسمع لجريها صوت معجب، وذلك مع الحمل الثقيل - آية عظيمة لا يتأملها إلا أرباب القلوب خص بالخطاب أعلى أولي الألباب، ومن قاربه في ابتغاء الصواب، فقال: ﴿وترى الفلك﴾ ولما كان النظر إلى تعداد النعم هنا أتم منه في سورة فاطر، قدم المخر في قوله: ﴿مواخر فيه﴾ أي جواري تشق الماء مع صوت، لتركبوها فتستدلوا - بعدم رسوبها فيه مع ميوعه ورقته وشدة لطافته - على وحدانية الإله وقدرته.
ولما علل التسخير بمنفعة البحر نفسه من الأكل وما تبعه، عطف على ذلك النفع به، فقال تعالى: ﴿ولتبتغوا﴾ أي تطلبوا
125
طلباً عظيماً بركوبه ﴿من فضله﴾ أي الله بالتوصل بها إلى البلدان الشاسعة للمتاجر وغيرها ﴿ولعلكم تشكرون *﴾ هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره؛ والمخر: شق الماء عن يمين وشمال، وهو أيضاً صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها، وقد ابتدىء فيه بما يغوص تارة ويطف أخرى بالاختيار، وثنى بما طبعه الرسوب، وثلث بما من طبعه الطفوف.
126
ولما ذكر الأغوار، الهابطة الضابطة للبحار، أتبعها الأنجاد الشداد، التي هي كالأوتاد، تذكيراً بما فيها من النعم فقال: ﴿وألقى في الأرض﴾ أي وضع فيها وضعاً، كأنه قذفه فيها قذفاً، جبالاً ﴿رواسي﴾ مماسة لها ومزينة لنواحيها، كراهة ﴿أن تميد﴾ أي تميل مضطربة يميناً وشمالاً، أي فيحصل لكم الميد، وهو دوار يعتري راكب البحر ﴿بكم﴾ فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء، ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك.
ولما ذكر الأوهاد، وأتبعها الأوتاد، تلاها بما تفجره غالباً منها، عاطفاً على ﴿رواسي﴾ لما تضمنه العامل من معنى «جعل» فقال: ﴿وأنهاراً﴾ وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار، ولحقها من الحديث عن الأنهار، فإنها لو تحركت ولو بمقدار شعرة في كل يوم لأغرقت البحارُ من إلى جانب الانخفاض، وتعاكست مجاري الأنهار،
126
فعادت منافعها أشد المضار، ولو زادت البحار، بما تصب فيها الأنهار، على مر الليل وكر النهار، لأغرقت الأرض، ولكنه تعالى دبر الأمر بحكمته تدبيراً تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء، بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف وبعض غيره من الفصول، فسرت في أغوارها، وحميت في أعماقها في الشتاء، فأسخنت مياه البحار وغيرها فتصاعدت منها بخارات كما يتصاعد من القدر المغلي بقدر ما صبت فيها الأنهار، فانعقدت تلك البخارات في الجو مياهاً لما بردت، فنزل منها المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وتخلل أعماقها منه ما شاء الله، فأمد الأنهار، ولذلك تزيد بزيادة المطر وتنقص بنقصه، وهكذا في كل عام، فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله من غير زيادة، فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم! ولما ذكر ذلك، أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه فقال تعالى: ﴿وسبلاً﴾.
ولما كانت الجبال والبحار والأنهار أدلة على السبل الحسية والمعنوية، قال تعالى: ﴿لعلكم تهتدون *﴾ أي يحصل الاهتداء فتهتدوا إلى مقاصدكم.
ولما كانت الأدلة في الأرض غير محصورة فيها، قال: ﴿وعلامات﴾
127
أي من الجبال وغيرها، جمع علامة وهي صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون علامة وضعية، وقد تكون برهانية.
ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً، نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى: ﴿وبالنجم هم﴾ أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم ﴿يهتدون *﴾ وقدم الجار تنبيهاً على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة.
ولما لم يبق - بذكر الدلائل على الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ - شبهة في أن الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال حكمته، لجعله تلك
128
الدلائل نعماً عامة، ومنناً تامة، مع اتضاح العجز في كل ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار، للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار، فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد.
قال مسبباً عن ذلك: ﴿أفمن يخلق﴾ أي يجدد ذلك حيث أراد ومتى أراد فلا يمكن عجزه بوجه لتمكن شركته ﴿كمن﴾ شركته ممكنة، فهو أصل في ذلك بسبب أنه ﴿لا يخلق﴾ أي لا يقع ذلك منه وقتاً ما من الأصنام وغيرها، في العجز عن الإتيان بما يقوله؛ المستلزم لأن يكون ممكناً مخلوقاً، ولو كان التشبيه معكوساً كما قيل لم يفد ما أفاد هذا التقدير من الإبلاغ في ذمهم بإنزال الأعلى عن درجته، وعبر ب «من» لأنهم سموها آلهة، وأنهى أمرها أن تكون عاقلة، فإذا انتفى عنها وصف الإلهية معه لعدم القدرة على شيء انتفى بدونه من باب الأولى.
ولما سبب عن هذه الأدلة إنكار تسويتهم الخالق بغيره في العجز،
129
سبب عن هذا الإنكار إنكار تذكرهم، حثاً لهم على التذكر المفيد لترك الشرك فقال: ﴿أفلا تذكرون *﴾ بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه - بما أفاده الإدغام - لتذكروا ما يحق اعتقاده.
130
ولما كانت المقدورات لا تحصر، وأكثرها نعم العباد مذكرة لهم بخالقهم، قال تعالى ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم: ﴿وإن تعدوا﴾ أي كلكم ﴿نعمة الله﴾ أي إنعام الملك الذي لا رب غيره، عليكم وإن كان في واحدة فإن شعبها تفوت الحصر ﴿لا تحصوها﴾ أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كفرها وإعراضكم جملة عن شكرها، فلو شكرتم لزادكم من فضله.
ولما كانوا مستحقين لسلب النعم بالإعراض عن التذكير، والعمى عن التبصر، أشار إلى سبب إدرارها، فقال تعالى: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال بجميع صفات الإكرام والانتقام ﴿لغفور رحيم *﴾ فلذلك هو يدر عليكم نعمه وأنتم منهمكون فيما يوجب نقمه.
ولما جرت العادة بأن المكفور إحسانه يبادر إلى قطعه عند علمه بالكفر، فكان ربما توهم متوهم أن سبب مواترة الإحسان عدم العلم بالكفران، أو عدم العلم بكفران لا يدخل تحت المغفرة، قال
130
مهدداً مبرزاً للضمير بالاسم الأعظم الذي بنيت عليه السورة للفصل بالفرق بين الخالق وغيره ولئلا يتوهم تقيد التهديد بحيثية المغفرة إيماء إلى أن ذلك نتيجة ما مضى: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الإكرام والانتقام ﴿يعلم﴾ أي على الإطلاق ﴿ما تسرون﴾ أي كله. ولما كان الإسرار ربما حمل على حالة الخلوة، فلم يكن علمه دالاً على الإعلان، قال تعالى: ﴿وما تعلنون *﴾ ليعلم مقدار المضاعفة لموجبات الشكر وقباحة الكفر، وأما الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا أسفه ممن عبدها.
ولما أثبت لنفسه تعالى كمال القدرة وتمام العلم وأنه المنفرد بالخلق، شرع يقيم الأدلة على بعد ما يشركونه به من الإلهية بسلب تلك الصفات فقال تعالى: ﴿والذين يدعون﴾ أي دعاء عبادة ﴿من دون الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿لا يخلقون شيئاً﴾ ولما كان ربما ادعى مدع في شيء أنه لا يخلق ولا يخلق، قال: ﴿وهم يخلقون *﴾.
131
ولما كان من المخلوقات الميت والحي، وكان الميت أبعد شيء عن صفة الإله، قال نافياً عنها الحياة - بعد أن نفى القدرة والعلم - المستلزم لأن يكون عبدتها أشرف منها المستلزم لأنهم بخضوعهم لها في غاية السفه: ﴿أموات﴾ ولما كان الوصف قد يطلق على غير الملتبس به مجازاً عن عدم نفعه بضده وإن كان قائماً به عريقاً فيه قال: ﴿غير أحياء﴾ مبيناً أن المراد بذلك حقيقة سلب الحياة على ضد ما عليه الله ﴿ألا له الخلق﴾ من كونه حياً لا يموت، ولعله اقتصر على وصفهم - مع أنهم موات - بأنهم أموات لأن ذلك مع كونه كافياً في المقصود من السياق - وهو إبعادهم عن الإلهية - يكون صالحاً لكل مخلوق ادعى فيه الإلهية وإن اتصف بالحياة، لأن حياته زائلة يعقبها الموت، ومن كان كذلك كان بعيداً عن صفة الإلهية.
ولما كانوا - مع علمهم بأن الأصنام حجارة لا حياة لها - يخاطبون من أجوافها بألسنة الشياطين - كما هو مذكور في السير وغيرها من الكتب المصنفة في هواتف الجان، فصاروا يظنون أن لها علماً بهذا الاعتبار، ولذلك كانوا يظنون أنها تضر وتنفع، احتيج إلى نفي العلم عنها، ولما كانوا يخبرون على ألسنتها ببعض ما يسترقونه من السمع،
132
فيكون كما أخبروا، لم ينف عنها مطلق العلم، بل نفي ما لا علم لأحد غير الله به، لأنهم لا يخبرون عنه بخبر إلا بان كذبه، فقال تعالى عادّاً للبعث عداد المتفق عليه: ﴿وما يشعرون﴾ أي في هذا الحال كما هو مدلول ما ﴿أيان﴾ أي أيّ حين ﴿يبعثون *﴾ فنفى عنهم مطلق الشعور الذي هو أعم من العلم، فينتفي كل ما هو أخص منه.
133
ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً: ﴿إلهكم﴾ أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق ﴿إله﴾ أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان ﴿واحد﴾ لا يقبل التعدد - الذي هو مثار النقص - بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم
133
للبعد عن رتبة الإلهية ﴿فالذين﴾ أي فتسبب عن هذا أن الذين ﴿لا يؤمنون بالآخرة﴾ أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة ﴿قلوبهم منكرة﴾ أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر - لما تقدم في هود من أن مادة «نكر» تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة ﴿مستكبرون *﴾ أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى: ﴿ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون﴾ [هود: ٢٠] وربما دل ﴿مستكبرون﴾ على أن ﴿منكرة﴾ بمعنى «جاحدة ما هي به عارفة».
ولما كانوا - لكون الإنسان أكثر شيء جدلاً - ربما أنكروا الاستكبار، وادعوا أنه او ظهر لهم الحق لأنابوا، قال على طريق الجواب لمن كأنه قال: إنهم لا يأبون استكباراً ما لا يشكون معه في أن هذا كلام الله ﴿لا جرم﴾ أي لا ظن في ﴿أن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يعلم﴾ علماً غيبياً وشهادياً ﴿ما يسرون﴾ أي
134
يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس. ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر - كما مضى غير مرة، قال: ﴿وما يعلنون﴾ فهو أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء.
ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد: فليجازينهم على دق ذلك وجهل من غير أن يغفر منه شيئاً - كما يأتي التصريح به في قوله: ﴿ليحملوا أوزارهم كاملة﴾ [النحل: ٢٥] علل هذا المعنى بقوله: ﴿إنه﴾ أي العالم بالسر والعلن ﴿لا يحب المستكبرين *﴾ أي على الحق، كائناً ما كان.
ولما كان الطعن في القرآن - بما ثبت من عجزهم عن معارضته - دليل الاستكبار قال تعالى عاطفاً على قوله ﴿قلوبهم منكرة﴾ :﴿وإذا قيل﴾ أي من أيّ قائل كان في أي وقت كان ولو تكرر ﴿لهم﴾ أي لمنكري الآخرة: ﴿ماذا﴾ أي أي شيء ﴿أنزل ربكم﴾ أي المحسن إليكم المدبر لأموركم ﴿قالوا﴾ مكابرين في إنزاله عادّين «ذا» موصولة لا مؤكدة للاستفهام: الذي تعنون أنه منزل ليس منزلاً، بل هو ﴿أساطير الأولين﴾ - مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضة
135
سورة منه مع علمهم بأنه أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه.
136
ولما كان الكتاب هو الصراط المستقيم المنقذ من الهلاك، وكان قولهم هذا صداً عنه، فكان - مع كونه ضلالاً - إضلالاً، ومن المعلوم أن من ضل كان عليه إثم ضلاله، ومن أضل كان عليه وزر إضلاله - هذا ما لا يخفى على ذي عقل صحيح، فلما كان هذا بيناً، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بالخفيات فكيف بالجليات، حسن جداً قوله: ﴿ليحملوا﴾ فإنهم يعلمون أن هذا لازم لهم قطعاً وإن قالوا بألسنتهم غيره، أو يقال: إنه قيل ذلك لأنه - مع أن الجهل أولى لهم منه - أخف أحوالهم لأنهم إما أن يعلموا أنهم فعلوا بهذا الطعن ما ليس لهم أولاً، فعلى الثاني هم أجهل الناس، وعلى الأول فإما أن يكونوا ظنوا أنهم يؤخذون به أو لا، فعلى الثاني يكون الخلق سدى، وليس هو من الحكمة في شيء، فمعتقد هذا من الجهل بمكان عظيم، وعلى الأول فهم يشاهدون كثيراً من الظلمة لا يجازون في الدنيا، فيلزمهم في الحكمة اعتقاد الآخرة، ليجازى بها المحسن والمسيء، وهذا أخف الأحوال المتقدمة، ولا يخفى ما في الإقدام
136
على مثله من الغباوة المناقضة لادعائهم أنهم أبصر الناس، فقد آل الأمر إلى التهكم بهم لأنهم نُسبوا إلى علم الجهل خير منه ﴿أوزارهم﴾ التي باشروها لنكوبهم عن الحق تكبراً لا عن شبهة.
ولما كان الله من فضله يكفر عن أهل الإيمان صغائرهم بالطاعات وباجتناب الكبائر فكان التكفير مشروطاً بالإيمان، وكان هؤلاء قد كفروا بالتكذيب بالكتاب، قال تعالى: ﴿كاملة﴾ لا ينقص منها وزر شيء مما أسروا ولا مما أعلنوا، لخفاء ولا ذهول بتكفير ولا غيره من دون خلل في وصف من الأوصاف، فهو أبلغ من «تامة» لأن التمام قد يكون في العدة مع خلل في بعض الوصف ﴿يوم القيامة﴾ الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه ﴿و﴾ ليحملوا ﴿من﴾ مثل ﴿أوزار﴾ الجهلة الضعفاء ﴿الذين يضلونهم﴾ فيضلون بهم كما بين أولئك الذين ضلوا ﴿بغير علم﴾ يحملون من أوزارهم من غير أن يباشروها لما لهم فيها من التسبب من غير أن ينقص من أوزار الضالين بهم شيء وإن كانوا جهلة، لأن لهم عقولاً هي بحيث تهدي إلى سؤال أهل الذكر، وفطراً أولى تنفر من الباطل «أول» ما يعرض علهيا فضيعوها؛ ثم استأنف التنبيه
137
على عظيم ما يحصل لهم من مرتكبهم من الضرر وعيداً لهم فقال تعالى: ﴿ألا ساء ما يزرون *﴾ فأدخل همزة الإنكار على حرف النفي فصار إثباتاً على أبلغ وجه.
ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد - بل مع إقامة شبه ربما راجت - وإن اشتد ضعفها - على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى:
﴿بل زين للذين كفروا مكرهم﴾ [الرعد: ٢٣] شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عدداً وأقوى يداً، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى: ﴿قد مكر الذين﴾ ولما كان المقصود بالإخبار ناساً مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من قبلهم﴾ ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم ﴿فأتى الله﴾ أي بما له من مجامع العظمة ﴿بنيانهم﴾ أي إتيان بأس وانتقام ﴿من القواعد﴾ التي بنوا عليها مكرهم ﴿فخر﴾ أي سقط مع صوت عظيم لهدته ﴿عليهم السقف﴾.
ولما كانت العرب تقول: خر علينا سقف ووقع علينا حائط -
138
إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه كما نقله أبو حيان عن ابن الأعرابي، قال تعالى صرفاً عن هذا إلى حقيقة السقوط المقيد بالجار: ﴿من قولهم﴾ وكانوا تحته فهلكوا كما هو شأن البنيان إذا زالت قواعده.
ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله: ﴿وأتاهم العذاب﴾ أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى ﴿من حيث لا يشعرون *﴾ لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم، وهذا على سبيل التمثيل، وقيل: إنه على الحقيقة فيما بناه نمرود من الصرح.
ذكر قصته من التوراة:
قال في السفر الأول منها في تعداد أولاد نوح عليه السلام: وكوش - يعني ابن حام بن نوح - ولد نمرود، وكان أول جبار في الأرض، وهو كان مخوفاً ذا صيد بين يدي الرب، ولذلك يقال:
139
هذا مثل نمرود الجبار القناص، فكان مبدأ ملكه بابل والكوش والأهواز والكوفة التي بأرض شنعار، ومن تلك الأرض خرج الموصلي فابتنى نينوى ورحبوت القرية - وفي نسخة: قرية الرحبة - والإيلة والمدائن؛ ثم قال بعد أن عد أحفاد نوح عليه السلام وممالكهم: هؤلاء قبائل بني نوح وأولادهم وخلوفهم وشعوبهم، ومن هؤلاء تفرقت الشعوب في الأرض بعد الطوفان، وإن أهل الأرض كلهم كانت لغتهم واحدة، ومنطقهم واحداً، فلما ظعنوا في المشرق انتهوا إلى قاع في أرض شنعار - وفي نسخة: العراق - فسكنوه، فقال كل امرىء منهم لصاحبه: هلم بنا نلبن اللبن ونحرقه بالنار، فيصير اللبن مثل الحجارة ويصير الجص بدل الطين للملاط، ثم قال: هلموا! نبن لنا قرية نتخذها، وصرحاً مشيداً لاحقاً بالسماء، ونخلف لنا شيئاً نذكر به، لعلنا ألا نتفرق على الأرض كلها، فنظر الرب القرية والصرح الذي يبينه الناس، فقال الرب: إني أرى هذا الشعب رأيهم واحد ولغتهم واحدة
140
وقد هموا أن يصنعوا هذا الصنيع فهم الآن غير مقصرين فيما هموا أن يفعلوه، فلأورد أمراً أشتت به لغتهم حتى لا يفهم المرء منهم لغة صاحبه، ثم فرقهم الرب من هنالك على وجه الأرض كلها، ولم يبنوا القرية التي هموا ببنائها، ولذلك سميت بابل لأن هنالك فرق الرب لغة أهل الأرض كلها - انتهى.
قال لي بعض علماء اليهود: إن بابل معرب بوبال، ومعنى بوبال بالعبراني الشتات - هذا ما في التوراة، وأما المفسرون فإنهم ذكروا أن الصرح بني على هيئة طويلة في الطول والإحكام، وأن الله تعالى هدمه، فكانت له رجة تفرقت لعظم هولها لغة أهل الأرض إلى أنحاء كثيرة لا يحصيها إلا خالقها فالله أعلم.
141
ولما بين سبحانه وتعالى حال المكرة المتمردين عليه في الدنيا، أخذ يذكر حالهم في الآخرة تقريراً للآخرة وبياناً لأن عذابهم غير مقصور على الدنيوي، فقال تعالى: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم﴾ أي الله تعالى الذي فعل بهم في الدنيا ما تقدم، خزياً يشهده جميع الخلائق
141
الوقوف في ذلك اليوم، فيحصل لهم من الذل - جزاء على تكبرهم - ما يجل عن الوصف، وعطفه ب «ثم» لاستبعادهم له ولما له من الهول والعظمة التي يستصغر لها كل هول ﴿ويقول﴾ أي لهم في ذلك الجمع تبكيتاً وتوبيخاً: ﴿أين شركاءي﴾ على ما كنتم تزعمون، وأضاف سبحانه إلى نفسه المقدس لأنه أقطع في توبيخهم وأدل على تناهي الغضب ﴿الذين كنتم﴾ أي كوناً لا تنفكون عنه ﴿تشاقون فيهم﴾ أوليائي، فتكونون بمخالفتهم في شق غير شقهم، فتخضعون لما لا ينبغي الخضوع له، وتتكبرون على من لا ينبغي الإعراض عنه، ما لهم لا يحضرونكم ويدفعون عنكم في هذا اليوم؟ وقرىء بكسر النون لأن مشاققة المأمور مشاققة الآمر.
ولما كان المقام للجلال والعظمة المستلزم لزيادة الهيبة التي يلزم
142
عنها غالباً خرس المخزي عن جوابه لو كان له جواب، وكان من أجل المقاصد في تعذيبهم العدل بتفريح الأولياء وإشماتهم بهم، جزاء لما كانوا يعملون بهم في الدنيا، وكانت الشماتة أعلى محبوب للشامت وأعظم مرهوب للمشموت فيه، وأعظم مسلّ للمظلوم، دل على سكوتهم رغباً عن المبادرة بالجواب بتأخير الخبر عنه وتقديم الخبر عن شماتة أعدائهم فيهم في سياق الجواب عن سؤال من قال: هل علم بذلك المؤمنون؟ فقيل: ﴿قال الذين﴾ ولما كان العلم شرفاً للعالم مطلقاً، بني للمفعول قوله: ﴿أوتوا العلم﴾ أي انتفعوا به في سلوك سبيل النجاة من الأنبياء عليهم السلام ومن أطاعهم من أممهم، إشارة إلى أن الهالك يصح سلب العلم عنه وإن كان أعلم الناس، وعدل عن أن يقول: أعداؤهم أو المؤمنون ونحوه، إجلالاً لهم بوصفهم بالعلم الذي هو أشرف الصفات لكونه منشأ كل فضيلة، وتعرضاً بأن الحامل للكفار على الاستكبار الجهل الذي هو سبب كل رذيلة ﴿إن الخزي﴾ أي البلاء المذل ﴿اليوم﴾ أي يوم الفصل الذي يكون للفائز فيه العاقبة المأمونة ﴿والسوء﴾ أي كل ما يسوء ﴿على الكافرين *﴾ أي العريقين في الكفر الذين
143
تكبروا في غير موضع التكبر، لا على غيرهم؛ ثم رغبهم في التوبة بقوله: ﴿الذين تتوفّاهم﴾ بالفوقية في قراءة الجمهور لأن الجمع مؤنث، وبالتحتية في قراءة حمزة لأن المجموع غير مؤنث، وكان وفاتهم على وجهين: وجه خفيف - بما أشار إليه التأنيث لخفة كفر صاحبه، وآخر ثقيل شديد لشدة كفر صاحبه، ولم يحذف شيء من التاءين للإشارة إلى نقصان حالهم لأنه لا يمكن خيرها لموتهم على الكفر بخلاف ما تقدم في تارك الهجرة في النساء ﴿الملائكة﴾ أي المؤكلون بالموت، حال كونهم ﴿ظالمي أنفسهم﴾ بوضعها من الاستكبار على الملك الجبار غير موضعها.
فلما تم ذلك على هذا الوجه البديع، والأسلوب الرفيع المنيع، ابتدأ الخبر عن جوابهم على وجه معلم بحالهم فقال: ﴿فألقوا﴾ أي من أنفسهم عقب قول الأولياء وبسبب سؤال ذي الكبرياء ﴿السلم﴾ أي المقادة والخضوع بدل ذلك التكبر والعلو قائلين
144
ارتكاباً للكذب من غير احتشام: ﴿ما كنا نعمل﴾ وأعرقوا في النفي فقالوا: ﴿من سوء﴾ فكأنه قيل: إن هذا لبهتان عظيم في ذلك اليوم الجليل، فماذا قيل لهم؟ فقيل: ﴿بلى﴾ قد عملتم أعظم السوء؛ ثم علل تكذيبهم بقوله: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم من كل وجه ﴿بما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تعملون *﴾ أي من الضلال والإضلال، فلا يسعكم الإنكار، أفما آن لكم أن تنزعوا عن الجهل فيما يضركم ولا ينفعكم ويخفضكم ولا يرفعكم!
145
ولما كان هذا الفعل مع هذا العلم سبباً لدخول جهنم من غير أن يقام لهم وزن، لأنه لا وزن لما ضيع أساسه، قال معقباً مسبباً: ﴿فادخلوا﴾ أي أيها الكفرة ﴿أبواب جهنم﴾ أي أبواب طبقاتها ودركاتها ﴿خالدين﴾ أي مقدرين الخلد ﴿فيها﴾ أي في جهنم التي دأبها تجهم من دخلها.
ولما كان هذا المقام للمشاققة. وكان أمرها زائد القباحة. كان هذا الدخول أقبح دخول، وكان سبباً لأن يقال: ﴿فلبئس﴾ بالأداة الجامعة لمجامع الذم ﴿مثوى المتكبرين *﴾ على وجه التأكيد وبيان الوصف الذي استحقوا به ذلك، لتقدم كذبهم في قولهم {ما كنا
145
نعمل من سوء} تعريضاً بأنهم جديرون - لغاية ما لهم من البلادة - أن يستحسنوا النار كما كذبوا مع العلم التام بأنه لا يروج في ذلك اليوم كذب.
ولما تم الخبر عن المنكر لما أنزل الله على ألسنة الملائكة من الروح من أمره على الأنبياء عليهم السلام، إنكاراً لفضلهم وتكبراً بما ليس لهم، بالاعتراض على خالقهم، ابتدأ الخبر عن المقرين تصديقاً لهداتهم واعترافاً بفضلهم وتسليماً لمن هم عبيده في تفضيل من يشاء، منبهاً على الوصف الذي أوجب لهم الاعتراف بالحق، فقال حاذفاً ل «إذا» دلالة على الرضى بأيسر شيء من الخير والمدح عليه ولو لم يتكرر: ﴿وقيل للذين اتقوا﴾ أي خافوا عقاب الله ﴿ماذا﴾ أي أي شيء ﴿أنزل ربكم﴾ أي المحسن إليكم من روحه المحيي للأرواح، على رسوله ﴿قالوا﴾ معترفين بالإنزال، غير متوقفين في المقال، فاهمين أن ذا مؤكدة للاستفهام لا بمعنى الذي: أنزل ﴿خيراً﴾ وإنما أطبق القراء على نصب هذا ورفع الأول فرقاً بين جوابي المقر والجاحد بمطابقة المقر بين الجواب والسؤال، وعدول الجاحد بجوابه
146
عن السؤال؛ ثم أخذ يرغب بما لهم من حسن المآل على وجه الجواب لسؤال من كأنه قال: ما لهم على ذلك؟ فقيل مظهراً موضع الإضمار مدحاً لهم وتعميماً لمن اتصف بوصفهم: ﴿للذين أحسنوا﴾ فبين أن اعترافهم بذلك إحسان؛ ثم أخبر عنه بقوله: ﴿في هذه الدنيا حسنة﴾ أي جزاء لهم على إحسانهم ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان﴾ [الرحمن: ٦٠].
ولما كانت هذه الدار سريعة الزوال، أخبر عن حالهم في الآخرة فقال: ﴿ولدار الآخرة خير﴾ أي جزاء ومصيراً؛ ثم مدحها ومدحهم بقوله تعالى: ﴿ولنعم دار المتقين *﴾ أي هي، مرغباً في الوصف الذي كان سبب حيازتهم لها، وهو الخوف المنافي لما وصف به الأشرار من الاستكبار، بإظهاره موضع الإضمار وحذف المخصوص بالمدح لتقدم ما يدل عليه، وهو صالح لتقدير الدنيا - أي لمن عمل فيها بالتقوى - ولتقدير الآخرة، وهو واضح.
ولما كان هذا المدح مشوفاً لتفصيل ذلك قيل: ﴿جنّات عدن﴾ أي إقامة لا ظعن فيها ﴿يدخلونها﴾ حال كونها ﴿تجري من تحتها﴾ أي من تحت غرفها ﴿الأنهار﴾ ثم أجيب من كأنه سأل عما فيها من
147
الثمار وغيرها بقوله تعالى: ﴿لهم فيها﴾ أي خاصة، لا في شيء سواها من غير أن يجلب إليهم من غيرها ﴿ما يشاؤون﴾ ثم زاد في الترغيب بقوله: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الجزاء العظيم ﴿يجزي الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿المتقين *﴾ أي الراسخين في صفة التقوى، ثم حث على ملازمة التقوى بالتنبيه على أن العبرة بحال الموت، فقال تعالى: ﴿الذين تتوفّاهم﴾ أي تقبض أرواحهم وافية من نقص شيء من الروح أو المعاني - بما أشار إليه إثبات التاءين والإظهار ﴿الملائكة طيبين﴾ أي طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر متحلين بحلية الإيمان، فكأنه قيل: ماذا تقول لهم الملائكة؟ فقيل: ﴿يقولون﴾ أي مكررين للتأكيد تسكيناً لما جبلوا عليه من تعظيم جلال الله بالتقوى ﴿سلام عليكم﴾ ويقال لهم لتحقق فوزهم ﴿ادخلوا الجنة﴾ أي دار التفكه التي لا مثل لها ﴿بما كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿تعملون *﴾ ترغيباً لهم في الأعمال التي لا يستطيعونها إلا برحمة الله لهم بتوفيقهم لها.
148
ولما أخبر تعالى عن أحوال الكفار السائلين في نزول الملائكة بعد أن وهىّ شبههم، وأخبر عن توفي الملائكة لهم ولأضدادهم المؤمنين، مشيراً بذلك إلى أن سنته جرت بأنهم لا ينزلون إلا لإنزال الروح من أمره على من يختصه لذلك أو لأمر فيصل لا مهلة فيه، قال منكراً عليهم: ﴿هل ينظرون﴾ أي هؤلاء الكفار في تقاعسهم عن تصديق الرسل في الإخبار بما أنزل ربهم، وجرد الفعل إشارة إلى قرب ما ينتظرونه ﴿إلا أن تأتيهم﴾ أي بأمر الله ﴿الملائكة﴾ وهم لا يأتونهم إلا بمثل ما أتوا به من قبلهم ممن قصصنا أمرهم من الظالمين إن لم يتوبوا ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ أي المحسن إليك المدير لأمرك بأمر يفصل النزاع من غير واسطة ملك أو غيره.
ولما كان هذا أمراً مفزعاً، كان موجباً لمن له فهم أن يقول: هل فعل هذا أحد غير هؤلاء؟ فقيل: نعم! ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل البعيد لبشاعته عن مناهج العقلاء، مكراً في تدبير الأذى،
149
واعتقاداً وقولاً ﴿فعل الذين﴾ ولما كان الفاعلون مثل أفعالهم في التكذيب لم يستغرقوا الزمان، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من قبلهم وما﴾ أي والحال أنه ما ﴿ظلمهم الله﴾ أي الذي له الكمال كله في تقديره ذلك عليهم، لأنه المالك المطلق التصرف والملك الذي لا يسأل عما يفعل ﴿ولكن كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿أنفسهم﴾ أي خاصة ﴿يظلمون *﴾ فاستحقوا العقاب لقيام الحجة عليهم على السنن الذي جرت به عوائدكم فيمن باشر سوء من غير أن يكره عليه إكراهاً ظاهراً، وهذا بعينه هو العلة في إرسال الرسل، ونصب الشرئع والملل ﴿فأصابهم﴾ أي فتسبب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم ﴿سيئات﴾ أي عقوبات أو جزاء سيئات ﴿ما عملوا وحاق﴾ أي أحاط ضابطة ﴿بهم﴾ من العذاب والمرسل به من الملائكة ﴿ما كانوا به﴾ أي خاصة ﴿يستهزؤن *﴾ تكبراً عن قبول الحق.
ومادة حاق واوية ويائية - بتراكيبها الست: حوق، حقو، قحو، قوح، وقح، حيق - تدور على الإحاطة، ويلزمها صلابة المحيط ولين المحاط به: حاق به الشيء - إذا نزل به فأحاط، والحيق:
150
ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، وحاق فيه السيف: حاك أي عمل - من التسمية باسم الجزء، ولأنه في الأغلب يكون في عمله الموت المحيط بالأجل، وحاق بهم الأمر: لزمهم ووجب عليهم ونزل بهم، والحيقة: شجرة كالشيح يؤكل بها التمر - كأنه يحيط بالتمرة، وحايقه: حسده وأبغضه - لإحاطة ذلك.
والحوق - بالضم: ما أحاط بالكمرة من حروفها، وبالضم والفتح معاً: استدارة في الذكر، والحوق - بالفتح فقط: الإحاطة، والأحوق والمحوق - كمعظم: الكمرة - كأنها مختصة بذلك لكبرها، ومنه فيشلة حوقاء: عظيمة - كأنها لعظمها هي التي ظهر حرفها دون غيرها، وأرض محوقة - بضم الحاء: قليلة النبت لقلة المطر - كأنه تشبه بالكمرة في ملاستها، وتركت النخلة حوقاء - إذا أشعل في الكرانيف - لاستدارة النار بها أو لشبهها بعد حريق السعف بالذكر أو رأسه، والحوقة بالفتح: الجماعة الممخرقة - لأن الجماعة لها قوة الاستدارة، والممخرق إن كان من الكذب فمن لازمه العوج، وإن كان من المخراق - وهو المنديل الذي يلف للعب به - فاللعب به على هيئة الاستدارة، وحوق
151
عليه تحويقاً: عوج عليه الكلام، والحوق - بالفتح أيضاً: الكنس والدلك والتمليس لأن كلاًّ منها ترد فيه اليد إلى قريب من مكانها فيشبه الإحاطة ولو بالتعويج.
والحقو: الكشح، وهو ما بين عظم رأس الورك إلى الضلع الخلف لأنه موضع إحاطة الإزار، والإزار نفسه حقو لأنه آلته أو الحقو معقد الإزار، والحقو: موضع غليظ مرتفع عن السيل - من الصلابة والاستدارة لأن السيل يحيط به أو يكاد، ومن السهم: موضع الريش لأنه يشبه الحقو في استدارته وغلظ بعض ودقة بعض، وفي إحاطة الريش به، ومن الثنية: جانباها - من الإحاطة أو مطلق العوج، والحقوة: وجع في البطن من أكل اللحم - للحوق وجعه الحقو.
والأقحوان: نبت يستدير به زهرة، وأقاحي الأمر: تباشيره - لأنها تحيط به غالباً، وقحاً المال: أخذه - لما يلزمه من الإحاطة، والمقحاة: المجرفة - لأنها تحيط بالمجروف.
ومن اللين: قاح الجرح يقوح: صارت فيه مدة خالصة لا يخالطها
152
دم كقاح يقيح - واوية ويائية، ولما يلزمه من الاستدارة غالباً، وقوّح الجرح: انتبر - إما من الموضع الغليظ المرتفع عن السيل، وإما من استدارته، وقاح البيت: كنسه كقوّحه، والقاحة: الساحة - لاستدارتها غالباً، وأقاح: صمم على المنع بعد السؤال - إما من لإزالة - أي أزال اللين - وإما من الصلابة.
ومن الصلابة: الوقاح - للحافر الصلب، وهو من الاستدارة أيضاً، ورجل وقاح الوجه: قليل الحياء - منه، والموقح - كمعظم: المجرب، وتوقيح الحوض: إصلاحه بالمدر والصفائح - للاستدارة والصلابة.
ولما تم ما هو عجب من مقالهم ومآلهم، في سوء أحوالهم، وختم بتهديدهم، عطف على قوله ﴿وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم﴾ موجباً آخر للتهديد، معجباً من حالهم فيه، فقال: ﴿وقال الذين أشركوا﴾ أي الراسخ منهم في هذا الوصف والتابع له، على سبيل الاعتراض على من يدعوهم إلى التوحيد من نبي وغيره، محتجين بالقدر عناداً منهم، ومعترضين على من لا يسأل عما يفعل بأنه - لقدرته على كل شيء -
153
غير محتاج إلى بعث الرسل، فإرسالهم عبث - تعالى الله الحكيم عن قولهم، فهو قول من يطلب العلة في أحكامه تعالى وفي أفعاله، وهو قول باطل، لأنه سبحانه الفعال لما يريد سواء أطلع العباد على حكمته أم لا: ﴿لو شاء الله﴾ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، عدم عبادتنا لغيره ﴿ما عبدنا﴾.
ولما كانت الرتب كلها متقاصرة عن رتبته وكانت متفاوته، وكان ما يعبدونه من الأصنام في أدناها رتبة، أدخلوا الجار فقالوا: ﴿من دونه﴾ وأعرقوا في النفي فقالوا: ﴿من شيء﴾ أي من الأشياء ﴿نحن ولا ءاباؤنا﴾ من قبلنا! ولما ذكروا الأصل أتبعوه الفرع فقالوا: ﴿ولا حرمنا﴾ أي على أنفسنا ﴿من دونه﴾ أي دون أمره ﴿من شيء﴾ لأن ما يشاء لا يتخلف على زعمكم، لكنه لم يشأ العدم، فقد شاء وجود ما نحن عليه، فنحن نتبع ما شاءه لا نتغير عنه، لأنه لا يشاء إلا ما هو حق، وضل عن الأشقياء - بكلمتهم هذه الحق التي أرادوا بها الباطل - أن مدار السعادة والشقاوة إنما هو موافقة الأمر لا موافقة الإرادة، فما كان من الفعل والكف على وفق الأمر سعد فاعله، وما خالفه قامت به الحجة على فاعله على
154
ما جرت به عوائد الناس فشقي.
فلما انتهك ستر هذه المقالة المموهة، وكان كأنه قيل استبعاداً لها: هل قالها غيرهم؟ فقيل: نعم! ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البعيد من السداد، والقول الخارج عن الهداية والرشاد، وهو الاعتراض على ربهم في إرسال الرسل، مانعين لجواز الإرسال بهذه الشبهة الضعيفة، فإنه تعالى يريد إظهار ثمرة الملك بالحكم على ما يتعارفه العباد من إقامة الحجة بالأفعال الاختيارية وإن كانت بقضائه، لأن ذلك مستور عن العباد ﴿فعل﴾ أي كذب بدليل الأنعام ﴿الذين﴾ ودل على عدم الاستغراق للزمان بقوله: ﴿من قبلهم﴾ وكان تكذيباً، لأن قولهم اقتضى أن يكون ما هم عليه مما يرضاه الله، والرسل يقولون: لا يرضاه، ولا يرضى إلا ما أخبروا بأن صاحبه مثاب عليه أو غير معاقب، فكان ذلك سبباً للإنكار عليهم بقوله: ﴿فهل﴾ أي فما ﴿على الرسل﴾ أي الذين لا رسل في الحقيقة غيرهم، وهم الذين أرسلهم الله لدعاء العباد خلفاً عن سلف؛ ولما كان الاستفهام
155
بمعنى النفي - كما تقدم - إلا أنه صور بصورته ليكون كدعوى الشيء بدليلها فقال: ﴿إلا البلاغ المبين *﴾ وقد بلغوكم وأوضحوا لكم، فصار وبال العصيان خاصاً بكم.
156
ولما كان جمع الرسل مفهماً لتوزيعهم على الأمم، كان موضع توقع التصريح بذلك، فقال - دافعاً لكرب هذا الاستشراف، نافياً لطروق احتمال، دالاً علا أن هذا القول السابق منصب إنكاره بالذات إلى اعتراضهم على الإرسال، ومسلياً لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وحاثاً لهم على الاعتبار، عطفاً على ما تقديره: فلقد بعثناك في أمتك هذه لأن يعبدوا الله وحده ويجتنبوا الطاغوت، فمنهم من هدينا، ومنهم من حقت عليه الضلالة، فكان من غير شك بعضهم مرضٍ لله وبعضهم مغضب له، فإنه لا يكون حكم المتنافيين واحداً أبداً: ﴿ولقد﴾ أي والله لقد ﴿بعثنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي من اعترض عليها أخذ ﴿في كل أمة﴾ من الأمم الذين قبلكم ﴿رسولا﴾ فما بقي في الأرض أحد لم تبلغه الدعوة، ولأجل أن
156
الرسل قد تكون من غير المرسل إليهم كلوط وشعيب عليهما السلام في أصحاب الأيكة وسليمان عليه السلام في غير بني إسرائيل من سائر من وصل إليه حكمه من أهل الأرض لم يقيد ب «منهم».
ولما كان البعث متضمناً معنى القول، كان المعنى: فذهبوا إليهم قائلين: ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي الملك الأعلى وحده ﴿واجتنبوا﴾ أي بكل جهدكم ﴿الطاغوت﴾ كما أمركم رسولنا ﴿فمنهم﴾ أي فتسبب عن إرسال الرسل أن كانت الأمم قسمين: منهم ﴿من هدى الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة، للحق فحقت له الهداية فأبصر الحق وعمل به باتباع الدعاة الهداة فيما أمروا به عن الله، فحقت له الجنة ﴿ومنهم من حقت﴾ أي ثبتت غاية الثبات ﴿عليه الضلالة﴾ بأن أضله الله فنابذ الأمر فلم يعمل به وعمل بمقتضى الإرادة، فإن الأمر قد لا يكون ما تعلق به، والإرادة لا بد أن يكون ما تعلقت به، وقد يكون موافقها عاملاً بالضلالة فحق عليه عذابها فحقت له النار فهلك، لأنه لم تبق له حجة يدفع بها عن نفسه، فلو كان كل ما شاءه
157
حقاً كان الفريقان محقين فلم يعذب أحدهما، لكنه لم يكن الأمر كذلك، بل عذب العاصي ونجى الطائع في كل أمة على حسب ما قال الرسل، وهذا هو معنى رضي الله، إطلاقاً لاسم الملزوم على اللازم، فدل ذلك قطعاً على صدق الرسل وكذب مخالفيهم، فالآية من الاحتباك: ذكر فعل الهداية أولاً دليلاً على فعل الضلال ثانياً، وحقوق الضلالة ثانياً دليلاً على حقوق الهداية أولاً.
ثم التفت إلى مخاطبتهم إشارة إلى أنه لم يبق بعد هذا الدليل القطعي في نظر البصيرة إلا الدليل المحسوس للبصر فقال: ﴿فسيروا﴾ أي فإن كنتم أيها المخاطبون في شك من إخبار الرسل فسيروا ﴿في الأرض﴾ أي جنسها ﴿فانظروا﴾ أي إذا سرتم ومررتم بديار المكذبين وآثارهم، وعبر هنا بالفاء المشيرة إلى التعقب دون تراخ لأن المقام للاستدلال المنقذ من الضلال الذي تجب المبادرة إلى الإقلاع عنه بخلاف ﴿ثم انظروا﴾ في الأنعام لما تقدم، وأشار بالاستفهام إلى أن أحوالهم مما يجب أن يسأل عنه للاتعاظ به فقال: ﴿كيف كان﴾ أي كوناً لا قدرة على الخلاص منه ﴿عاقبة﴾ أي
158
آخر أمر ﴿المكذبين *﴾ أي من عاد ومن بعدهم الذين تلقيتم أخبارهم عمن قلدتموهم في الكفر من أسلافكم، فإنهم كذبوا الرسل فيما أمرتهم بإبلاغه مخالفة لأمري وعملاً بمشيئتي، فأوقعت بهم لأنهم خالفوا أمري باختيارهم مع جهلهم بإرادتي، فقامت عليهم الحجة على ما يتعارفه الناس بينهم.
ولما كان المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد، أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم، فقال مسلياً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿إن تحرص على هداهم﴾ فتطلبه بغاية جدك واجتهادك ﴿فإن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿لا يهدي﴾ أي هو بخلق الهداية في القلب - هذا على قراءة الكوفيين بفتح الياء وكسر الدال، ومن هاد ما بوجه من الوجوه على قراءة الجمهور بالبناء للمفعول ﴿من يضل﴾ أي من يحكم بضلاله، وهو الذي أضلهم فلا يمكن غيره أن يهديهم لأنه لا غالب لأمره؛ وقرىء شاذاً بفتح الياء من ضل بمعنى نسي، أي فلا تمكن هداية من نسيه، أي
159
تركه من الهداية ترك المنسي فإنه ليس في يد غيره شيء، ونقل الصغاني في مجمع البحرين أنه يقال: ضل فلان البعير أي أضله، والضلال عند العرب سلوك غير سبيل القصد، فالمعنى أنه كان سبباً لسلوك البعير غير المقصود، فمعنى الآية: لا تهدي من يضله الله - بفتح الياء، أي يكون سبباً لسلوكه غير سبيل القصد، فلا تحزن ولا يضيق صدرك من عدم تأثرهم بنصحك وإخلاصك في الدعاء، ولا يقع في فكرك أن في دعائك نقصاً، إنما النقص في مرائيهم العمياء، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى -: ﴿وما لهم﴾ أي هؤلاء الذين أضلهم الله وجميع من يضله ﴿من ناصرين *﴾ أي ينصرونهم عند مجازاتهم على الضلال، لينقذوهم مما لحقهم عليه من الوبال، كما فعل بالمكذبين من قبلهم - عطف على نتيجة ما قبله، وهو فلا هادي لهم ما أراد الله ضلالهم، وتبكيت لهم وتقريع وحث وتهييج على أن يقوموا بأنفسهم ويستعينوا بمن شاؤوا على نصب دليل ما يدعونه من أنهم أتبع الناس للحق، إما بأن يبرهنوا على صحة معتقدهم أو يعينوهم على الرجوع عنه عند العجز عن ذلك، أو يكفوا عنهم العذاب إذا حاق بهم.
160
ولما كان من حقهم - بعد قيام الأدلة على كمال قدرته وشمول علمه وبلوغ حكمته في إبداع جميع المخلوقات مما نعلم وما لا نعلم على أبدع ترتيب وأحسن نظام - تصديق الهداة في إعلامهم بأنه سبحانه يعيدهم للبعث وأنهم لم يفعلوا ولا طرقوا لذلك احتمالاً، بل حلفوا على نفيه من غير شبهة عرضت لهم ولا إخبار عن علم وصل إليهم فعل الجلف الجافي الغبي العاسي، أتبع ذلك سبحانه تعجيباً آخر من حالهم، فقال - عاطفاً على ﴿وقال الذين أشركوا﴾ لأن كلاًّ من الجملتين لبيان تكذيبهم الرسل والتعجيب منهم في ذلك، دالاً على ان اعتقادهم مضمون هذه الجملة هو الذي جرأهم على قول الأولى وما تفرع منها -: ﴿وأقسموا بالله﴾ أي الملك الأعظم ﴿جهد أيمانهم﴾ جعلت الأيمان جاهدة لكثرة ما بالغوا فيها: ﴿لا يبعث الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿من يموت﴾ أي يحيي أحداً بعد موته، استناداً منهم إلى مجرد استبعاد مالم تجر به نفسه عندهم عادة، جموداً منهم عن حلها بأن النشأة الأولى كانت من غير عادة، مع ادعائهم أنهم أعقل الناس وأحدهم أذهاناً وأثقبهم أفهاماً.
ثم رد عليهم بقوله تعالى: ﴿بلى﴾ أي ليبعثهم لأنه لا مانع له
161
من ذلك وقد وعد به ﴿وعداً﴾ وبين أنه لا بد منه بقوله: ﴿عليه﴾ وزاده تأكيداً في مقابلة اجتهادهم في أيمانهم بقوله: ﴿حقاً﴾ أي لأنه قادر عليه وهو لا يبدل القول لديه، فصار واجباً في الحكمة كونه، وأمر البعث معلوم عند كل عاقل سمع أقوال الهداة تاركاً لهواه ﴿ولكن أكثر الناس﴾ أي بما لهم من الاضطراب ﴿لا يعلمون *﴾ أي لا علم لهم يوصلهم إلى ذلك لأنه من عالم الغيب لا يمكن عقولهم الوصول إليه بغير إرشاد من الله، ولا هم يقبلون أقوال الدعاة إليه الذين أيدهم بروح منه لتقيدهم بما توصلهم إليه عقولهم، وهي مقصورة على عالم الشهادة لا يمكنها الترقي منه إلى عالم الغيب بغير وساطة منه سبحانه تعالى، فلذلك ترى الإنسان منهم يأبى ذلك استعباداً لأن يكون شيء معقول لا يصل إليه بمجرد عقله وهو خصيم مبين.
162
ولما بين أنه لا بد من ذلك لسبق الوعد به من القادر، بين حكمته بأمر مبين أنه لا يسوغ تركه بوجه، وهو أنه لا يجوز في عقل عاقل أن أحداً ملكاً فما دونه يأمر عبيده بشيء ثم يهملهم فلا يسألهم ولا سيما إن اختلفوا ولا سيما إن أدى اختلافهم إلى المقاطعة والمقاتلة
162
فكيف إن كان حاكماً فكيف إذا كان حكيماً فكيف وهو أحكم الحاكمين! فقال معلقاً بما دل عليه ﴿بلى﴾ :﴿ليبين﴾ أي فعله ووعد به فهو يبعثهم ليبين ﴿لهم﴾ أي للناس ﴿الذي يختلفون﴾ أي يوجد اختلافهم ﴿فيه﴾ من البعث وغيره، ويجزي كلاًّ بما عمل لأن ذلك من العدل الذي هو فعله ﴿وليعلم الذين كفروا﴾ أي جهلوا الآيات الدالة عليه، فكأنهم ستروها لأنها لظهورها لا تجهل ﴿أنهم كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿كاذبين *﴾ أي عريقين في الكذب في إنكارهم للمعاد وزعمهم أنهم المختصون بالمفاز علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
ولما بين تحتمه وحكمته، بين إمكانه ويسره عليه وخفته لديه، فقال تعالى: ﴿إنما قولنا﴾ أي بما من العظمة ﴿لشيء﴾ إبداء وإعادة ﴿إذا أردناه﴾ أي أردنا كونه ﴿أن نقول له﴾ ثم ذكر محكى القول النفسي فقال - بانياً من «كان» التامة ما دل على موافقة الأشياء المرادة موافقة المأمور للآمر المطاع -: ﴿كن﴾ أي أحدث ﴿فيكون *﴾ أي فيتسبب عن ذلك القول أنه يكون حين تعلق القدرة به من غير مهلة أصلاً، فنحن خلقنا الخلق لنأمرهم وننهاهم.
ولما كان التقدير تفصيلاً لفريقي المبين لهم وترغيباً في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام: فالذين كفروا
163
واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعملون، عطف عليه قوله تعالى: ﴿والذين هاجروا﴾ أي أوقعوا المهاجرة فراراً بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه ﴿في الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما «تمادى» المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم.
ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى: ﴿من بعد ما ظلموا﴾ أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين ﴿لنبوئنهم﴾ أي نوجد لهم منزلاً هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة ﴿في الدنيا﴾ مباءة ﴿حسنة﴾ كبيرة عظيمة، جزاء لهم على هدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من يتدبر بمعني لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافاً
164
لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها.
ولما كان التقدير: ولنبوئنهم في الآخرة أجراً كبيراً، عطف عليه قوله تعالى: ﴿ولأجر الآخرة﴾ المعد لهم ﴿أكبر﴾ مما جعلته لهم في الدنيا ﴿لو كانوا يعلمون *﴾ أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا - بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لا سيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم - أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم - روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل - ثم تلا هذه الآية.
165
ولما نبه على إحسانه إليهم، وكان فيه من أول الأمر نوع غموض لظهور الكفرة في بادي الرأي، وصفهم بما يحتاج إليه في الاستجلاب لتمامه حثاً وإلهاباً، فقال تعالى - واصفاً للمهاجرين بياناً لأصل ما حملهم
165
على ما استحقوا به هذا لأجر الجزيل -: ﴿الذين صبروا﴾ أي استعملوا الصبر على ما نابهم من المكاره من الكفار وغيرهم في الإقامة بين أظهرهم مدة ثم في الهجرة بمفارقة الوطن الذي هو حرم الله المشرب حبه لكل قلب، فكيف بقلوب من هو مسقط رؤوسهم ومألف أبدانهم ونفوسهم، وفي بذل الأرواح في الجهاد وغير ذلك، ولفت الكلام إلى وصف والإحسان تنبيهاً على ما يحمل على التوكل فقال تعالى: ﴿وعلى ربهم﴾ أي المحسن إليهم بإيجادهم وهدايتهم وحده ﴿يتوكلون *﴾ في كل حالة يريدونها رضى بقضاء الله تعالى.
ولما أخبر تعالى أنه بعث الرسل، وكان عاقبة من كذبهم الهلاك، بدلالة آثارهم، وكانوا قد قدحوا في الرسالة بكون الرسول بشراً ثم بكونه ليس معه ملك يؤيده، رد ذلك بقوله - مخاطباً لأشرف خلقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكونه أفهمهم عنه مع أنه أجل من توكل وصبر، عائداً إلى مظهر الجلال بياناً لأنه يظهر من يشاء على من يشاء -: ﴿وما أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال بالفعل إنما كان في بعض الأزمنة، دل عليه
166
بالجار فقال: ﴿من قبلك﴾ إلى الأمم من طوائف البشر ﴿إلا رجالاً﴾ لا ملائكة بل آدميين، هم في غاية الاقتدار على التوكل والصبر الذي هو محط الرجلة ﴿نوحي إليهم﴾ بواسطة الملائكة، وما أحسن تعقيب ذلك للصابرين، لأن الرسل أصبر الناس.
ولما كانوا قد فزعوا إلى سؤال أهل الكتاب في بعض الأمور، وكانوا قد أتوا علماً من عند الله، سبب عن هذا الإخبار الأمر بسؤالهم عن ذلك، فقال مخاطباً لهم ولكل من أراد الاستثبات من غيرهم: ﴿فسئلوا﴾ أي أيها المكذبون ومن أراد من سواهم ﴿أهل الذكر﴾ أي العلم بالكتاب، سمي ذكراً لأن الذكر - الذي هو ضد السهو - بمنزلة السبب المؤدي إليه فأطلق عليه، كأن الجاهل ساهٍ وإن لم يكن ساهياً، وكذا الذكر - الذي هو الكلام المذكور - سبب للعلم.
ولما كان عندهم حسّ من ذلك بسماع أخبار الأمم قبلهم، أشار إليه بقوله تعالى: ﴿إن كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿لا تعلمون*﴾ أو هو التنفير من الرضى بالجهل.
ولما كانت رسل الملوك تقترن بما يعرف بصدقهم، قال - جواباً لمن كأنه قال: بأي دلالة أرسلوا؟ -: ﴿بالبينات﴾ المعرفة بصدقهم
167
﴿والزبر﴾ أي الكتب الهادية إلى أوامر مرسلهم.
ولما كان القرآن أعظم الأدلة، أشار إلى ذلك بذكره مدلولاً على غيره من المعجزات بواو العطف، فقال - عاطفاً على ما تقديره: وكذلك أرسلناك بالمعجزات الباهرات -: ﴿وأنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إليك﴾ أي وأنت أشرف الخلق ﴿الذكر﴾ أي الكتاب الموجب للذكر، المعلي للقدر، الموصل إلى منازل الشرف ﴿لتبين للناس﴾ كافة بما أعطاك الله من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق، واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها وقد أوصلك الله فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد ﴿ما نزل﴾ أي وقع تنزيله ﴿إليهم﴾ من هذا الشرع الحادي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل، وشرح ما أشكل، من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد، ومن البعث وغيره، وهو شامل لبيان الكتب القديمة لأهلها ليدلهم على ما نسخ، وعلى ما بدلوه فمسخ.
ولما كان التقدير: لعلهم بحسن بيانك يعملون! عطف عليه بياناً
168
لشرف العلم قوله تعالى: ﴿ولعلهم يتفكرون *﴾ إذا نظروا أساليبه الفائقة، ومعانيه العالية الرائقة، فيصلوا بالفكر فيه - بسبب ما فتحت لهم من أبواب البيان - إلى حالات الملائكة، بأن تغلب أرواحهم على أشباحهم فيعلموا أنه تعالى واحد قادر فاعل بالاختيار، وأنه يقيم الناس للجزاء فيطيعونه رغبة ورهبة، فيجمعون بين شرفي الطاعة الداعية إليها الأرواح، والانكفاف عن المعصية الداعية إليها النفوس بواسطة الأشباح.
169
ولما نبه سبحانه على التفكر، وكان داعياً للعاقل إلى تجويز الممكن والبعد من الخطر، سبب عنه إنكار الأمن من ذلك فقال تعالى: ﴿أفأمن﴾ أي أتفكروا فتابوا، أو استمروا على عتوهم؟ أفأمن ﴿الذين مكروا﴾ بالاحتيال في قتل الأنبياء وإطفاء نور الله الذي أرسلهم به، المكرات ﴿السيئات أن﴾ يجازوا من جنس عملهم بأن ﴿يخسف الله﴾ أي المحيط بكل شيء ﴿بهم﴾ أي خاصة ﴿الأرض﴾ فإذا هم في بطنها، لا يقدرون على نوع تقلب بمدافعة ولا غيرها، كما فعل بقارون وأصحابه وبقوم لوط عليه السلام من قبلهم ﴿أو يأتيهم العذاب﴾ على غير تلك الحال ﴿من حيث لا يشعرون *﴾ به في حالة من هاتين الحالتين شعوراً ما، هم في حال سكون ودعة بنوم أو غفلة ﴿أو يأخذهم﴾
169
أي الله بعذابه ﴿في﴾ حال ﴿تقلبهم﴾ وتصرفهم ومشاعرهم حاضرة وقواهم مستجمعة.
ولما كانت هذه الأحوال الثلاثة مفروضة في حال أمنهم من العذاب وكان الأمن من العدو يكون عن ظن عدم قدرته عليه، علل ذلك بقوله تعالى: ﴿فما هم بمعجزين *﴾ أي في حالة من هذه الأحوال، سواء علينا غفلتهم ويقظتهم، ولم يعلل ما بعده بذلك لأن المتخوف مجوّز للعجز، فقال تعالى: ﴿أو يأخذهم﴾ أي الله أخذ غضب ﴿على تخوف﴾ منهم من العذاب وتحفظ من أن يقع بهم ما وقع بمن قبلهم من عذاب الاستئصال، ويجوز أن يراد بما مضى عذاب الاستئصال، وبهذا الأخذ شيئاً فشيئاً، فإن التخوف التنقص عند هذيل، روي أن عمر رضي الله عنه سأل الناس عنها فسكتوا فأجابه شيخ من هذيل بأنه التنقص، فقال عمر رضي الله عنه: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم! قال شاعرنا
170
أبو كثير الهذلي يصف ناقة:
تخوف الرحل منها تامكاً قرداً كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس! عليكم بديوانكم لا يضل، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.
ولما كان التقدير: لم يأمنوا ذلك في نفس الأمر، ولكن جهلهم بالله - لطول أناته وحلمه - غرهم سبب عنه قوله التفاتاً إلى الخطاب استعطافاً: ﴿فإن ربكم﴾ أي المحسن إليكم بإهلاك من يريد وإبقاء من يريد ﴿لرءوف﴾ أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بنوع وسيلة، وكذا لمن قاطعه أتم مقاطعة، وإليه أشار بقوله تعالى:
171
﴿رحيم *﴾ أي فتسبب عن إمهاله لهم في كفرهم وطغيانهم مع القدرة عليهم العلم بأن تركه لمعاجلتهم ما هو إلا لرأفته ورحمته.
ولما خوفهم، دل على تمام قدرته على ذلك وغيره بقوله: عاطفاً على ما تقديره: أو لم يروا إلى عجزهم عما يريدون وقسره لهم على ما لا يريدون، فيعلموا بذلك قدرته وعجزهم، فيعلموا أن عفوه عن جرائمهم إحسان منه إليهم ولطف بهم: ﴿أولم﴾ ولما كان حقهم المبادرة بالتوبة فلم يفعلوا، أعرض عنهم في قراءة الجماعة تخويفاً فقال تعالى: ﴿يروا﴾ بالياء التحتية، وقرأ حمزة والكسائي بالخطاب على نسق ما قبله، أي ينظروا بعيون الأبصار متفكرين بالبصائر، وبين بعدهم عن المعارف الإلهية بحرف الغاية فقال تعالى: ﴿إلى ما خلق الله﴾ أي الذي له جميع الأمر ﴿من شيء﴾ أي له ظل ﴿يتفيؤا﴾ أي تترجع إلى جهة الشاخص ﴿ظلاله﴾ وهو ما ستره الشاخص عن الشمس متجاوزة له ﴿عن اليمين﴾ وهي ما على يمين المستدير للشمال، المستقبل للجنوب، الذي هو ناحية الكعبة لمن في بلاد الشام التي هي مسكن الأنبياء عليهم السلام، وأفراد لأن
172
الظل يكون أول ما تشرق الشمس مستقيماً إلى تلك الجهة على استواء، وجمع في قوله: ﴿والشمائل﴾ لأن الشمس كلما ارتفعت تحول ذلك الظل راجعاً إلى جهة ما وراء الشاخص، ولا يزال كذلك إلى أن ينتصب عند الغروب إلى جهة يساره قصداً على ضد ما كان انتصب إليه عند الشروق، فلما كان بعد انتصابه إلى جهة اليمين طالباً في تفيئه جهة اليسار، سميت تلك الجهات التي تفيأ فيها باسم ما هو طالبه تنبيهاً على ذلك، وفيه إشارة إلى قلة الجيد المستقيم وكثرة المنحرف الرديء.
ولما كانت كثرة الخاضعين أدل على القهر وأهيب، جمع بالنظر إلى معنى «ما» في قوله: ﴿سجداً﴾ أي حال كونهم خضعاً ﴿لله﴾ أي الملك الأعلى بما فيهم من الحاجة إلى مدبرهم.
ولما كان امتداد الظل قسرياً لا يمكن أحداً الانفصال عنه، قال جامعاً بالواو والنون تغليباً: ﴿وهم داخرون *﴾ ذلاً وصغاراً، لا يمتنع شيء منهم على تصريفه، وخص الظل بالذكر لسرعة تغيره، والتغير دال على المغير.
ولما حكم على الظلال بما عم أصحابها من جماد وحيوان، وكان الحيوان
173
أشرف من الجماد، رقي الحكم إليه بخصوصه فقال تعالى: ﴿ولله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿يسجد﴾ أي يخضع بالانقياد للمقادير والجري تحت الأقضية، وعبر بما هو ظاهر في غير العقلاء مع شموله لهم فقال تعالى: ﴿ما في السماوات﴾ ولما كان المقام للمبالغة في إثبات الحكم على الطائع والعاصي، أعاد الموصول فقال تعالى: ﴿وما في الأرض﴾ ثم بين ذلك بقوله تعالى: ﴿من دآبة﴾ أي عاقلة وغير عاقلة.
ولما كان المقرب قد يستهين بمن يقربه، قال مبيناً لخضوع المقربين تخصيصاً لهم وإن كان الكلام قد شملهم: ﴿والملائكة﴾.
ولما كان الخاضع قد يحكم بخضوعه وإن كان باطنه مخالفاً لظاهره، قال - دالاً على أن في غيرهم من يستكبر فيكون انقياده للإرادة كرهاً، وعبر عن السجودين: الموافق للأمر والإدارة طوعاً، والموافق للارداة المخالف للأمر كرهاً، بلفظ واحد، لأنه يجوز الجمع بين مفهومي المشترك والحقيقة والمجاز بلفظ: ﴿وهم﴾ أي الملائكة ﴿لا يستكبرون *﴾ ثم علل خضوعهم بقوله دلالة على أنهم كغيرهم في الوقوف بين الخوف والرجاء: ﴿يخافون ربهم﴾ أي الموجد لهم، المدبر لأمورهم، المحسن إليهم، خوفاً مبتدئاً ﴿من فوقهم﴾ إشارة إلى علو الخوف عليهم وغلبته لهم، أو حال كون ربهم مع إحسانه إليهم له العلو والجبروت، فهو المخوف المرهوب،
174
فهم عما نهوا عنه ينتهون ﴿ويفعلون﴾ أي بداعية عظيمة علماً منهم بما عليهم لربهم من الحق مع عدم منازع من حظ أو شهوة أو غير ذلك، ودل على أنهم مكلفون بقوله تعالى: ﴿ما يؤمرون *﴾ فهم لرحمته لهم يرجون؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الخوف أولاً دال على الرجاء ثانياً، وذكر الفعل ثانياً دال على الانتهاء أولاً.
175
ولما كان التوحيد أعظم المأمورات، وكان العصيان فيه أعظم العصيان، وكان سبحانه قد أكثر التخويف من عصيانه، أبلغ الأمر إلى نهايته بالإخبار بأن الملائكة تخافه، وكان الملائكة من أعظم الموحدين، كما كانوا من أعظم الساجدين، من أهل السماوات والأرضين، وكانت هذه الآيات من أعظم أدلة التوحيد، أتبعها - عطفاً على ﴿وأنزل إليك الذكر﴾ ليتظافر على ذلك أدلة العقل والنقل وتسليكاً بأحوال الملائكة - قوله تعالى: ﴿وقال الله﴾ فعبر لأجل تعظيم المقام بالاسم الأعظم الخاص الذي بنيت عليه السورة: ﴿لا تتخذوا﴾ أي لا تكلفوا فطركم الأولى السليمة المجبولة على معرفة أن الإله واحد إلى أن تأخذ في اعتقادها ﴿إلهين﴾ ويجوز أن يكون معطوفاً على ما علم من المقدمات المذكورة أول السورة إلى قوله: ﴿وما يشعرون أيان يبعثون﴾ من النتيجة وهي ﴿إلهكم إله واحد﴾ لاحتمال أن يقول متعنت: إنه لم يأمرنا
175
بذلك وإن دلت عليه الأدلة، ويجوز وهو أقرب - أن يعطف على قوله: ﴿وقال الذين أشركوا﴾ تبكيتاً لهم بأنهم احتجوا بحكمه، ولم يبادروا إلى امتثال أمره.
ولم كان قد فهم المراد من التثنية، وكان ربما قال المتعنت: إن المنهي عنه تكثير الأسماء، قال مؤكداً ومحققاً: ﴿اثنين﴾ تنبيهاً على أن الألوهية لأنه موضع لإمكان التنازع الملزوم للعجز المنافي لتلك الرتبة مطلق العدد ينافي المنيفة الشماء، وفي ذلك أيضاً - مع كون معبوداتهم كانت كثيرة - إشارة إلى أن ما يسمى آلهة - وإن زاد عدده - يرجع بالحقيقة إلى اثنين: خالق ومخلوق، ومن المعلوم لكل ذي لب أن المخلوق غير صالح للألوهية، فانحصر الأمر في الخالق، وإن لم يكن فيه الخالق كان منقسماً لا محالة، وأقل ما ينقسم إلى اثنين: وباب الاتخاذ إذا كان مفعوله نكرة، اكتفى بواحد كما تقول: اتخذت بيتاً، واتخذت زوجة - ونحو ذلك، ثم علل ذلك النهي بما اقتضاه السياق من الوحدانية فقال تعالى: ﴿إنما هو﴾ أي الإله المفهوم من لفظ ﴿إلهين﴾ الذي لا يستحق غيره أن يطلق عليه هذا الضمير إلا مجازاً، لأنه لا يطلق إطلاقاً حقيقياً إلا على ما وجدوه من ذاته ﴿إله﴾ أي يستحق هذا الوصف على الإطلاق.
176
ولما كان السياق مفهماً للوحدانية من النهي عن التثنية، وكان ربما تعنت متعنت بأن المراد إثبات الإله الدال على الجنس، قال رافعاً لكل شبهة: ﴿واحد﴾ أي لا يمكن أن يثني بوجه ولا أن يجزأ لغناء المطلق عن كل شيء واحتياج كل شيء إليه، فكونوا ممن يسجد له طوعاً ولا تكونوا ممن لا يسجد له إلا كرهاً.
ولما كان أسلوب الغيبة لا يعين الإله في المتكلم، التفت إلى أسلوب التلكم فقال تعالى: ﴿فإياي﴾ أي ذلك الواحد أنا وحدي لا شريك لي، فمن لم يوحدني أوقعت به بقوتي ما لا يطيقه لعجزه.
ولما كانت الوحدانية مما لا يخفى على عاقل، وكانت مركوزة في كل فطرة بدليل الاضطراب عند المحن، والشدائد والفتن، وكانت الرهبة - كما مضى عن الحرالي في البقرة - خاصة بالخوف مما خالف العاصي فيه العلم، عبر بها فقال تعالى: ﴿فارهبون *﴾ مختصاً بذلك ولا تخافوا شيئاً غيري من صنم ولا غيره، فإنه ليس لشيء من ذلك قدرة، وإن أودعته فإنه لا يتمكن من إنفاذها، فالأمر كله إليّ وحدي.
177
ولما كان أسلوب الغيبة من الحاضر دالاً على التردي بحجاب الكبر المؤذن بشدة البطش وسرعة الانتقام وبعد المقام، رجع إليه فقال تعالى: ﴿وله﴾ فأعاد الضمير على الله الاسم العلم الجامع لجميع الأسماء الحسنى ﴿ما في السَّماوات﴾.
ولما كان الأمر قد تأكد وتأطد، وظهر المراد منه غاية الظهور، لم يحتج إلى تأكيده بإعاداة النافي، فقال تعالى: ﴿والأرض﴾ أي مما تعبدونه وغيره، فكيف يتصور أن يكون شيء من ذلك إلهاً وهو ملكه، مع كونه محتاجاً إلى الزمان والمكان وغيرهما ﴿وله الدين﴾ أي الخضوع والتذلل من كل ما فيهما ومن فيهما بالطوع والكره، بإنفاذ القضاء والقدر، بالصحة والسقم، والغنى والفقر، والحياة والموت، والإيجاد والإعدام، والإذلال والإعزاز، والإقبال والإعراض - كما بين آنفاً، وله الدينونة بالمجازاة ﴿واصباً﴾ أي دائماً ثابتاً عاماً لا كالملوك الذين تنقطع ممالكهم مع خصوصها، والمعبودات التي تنقطع عبادتها في وقت من الأوقات
178
فتصير كاسدة بعد أن كانت رابحة وإن طال المدى، مع خصوصها بناس دون غيرهم، ولا يخلو يوم من الأيام لملك غيره من جري أمور على غير مراده وإن عظم سلطانه، وعلا شأنه، وكثرت أعوانه، فكيف يتصور من له أدنى بصر أن يكون غيره إلهاً، وقد تقدم في ﴿إن ربي على صراط مستقيم﴾ [هود: ٥٦] في هود ما ينفع استحضاره هنا.
ولما تقرر هذا الدليل على هذه الصفة، وكان من مفهومات الدين الجزاء الناظر إلى الأفعال الواقية مما يضر، تسبب عنه الإنكار الشديد على من يلتفت بشيء من أفعاله إلى غيره بعد علمه بأنه دائم لا يزول، وأن كل ما سواه زائل، فقال معبراً بالتقوى التي هي نتيجة الرهبة: ﴿أفغير الله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿تتقون *﴾ وأتبع ذلك ما يوجب تعظيم الإنكار عليهم، فقال مبيناً أنه لا ينبغي أن يتعلق خوف ولا رجاء إلا به: ﴿وما بكم﴾ أي التبس بكم أيها الناس عامة مؤمنكم وكافركم ﴿من نعمة﴾ أي جليلة أو حقيرة ﴿فمن الله﴾ أي المحيط بكل شيء وحده لا من غيره.
ولما كان إخلاصهم له - مع ادعائهم ألوهية غيره - أمراً مستبعداً، عبر بأداة التراخي والبعد في قوله تعالى: ﴿ثم إذا مسكم﴾ أي أدنى مس
179
﴿الضر﴾ بزوال نعمة مما أنعم به عليكم ﴿فإليه﴾ أي وحده ﴿تجأرون *﴾ أي تعرفون أصواتكم بالاستعانة لما ركز في فطركم الأولية السليمة من أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
180
ولما كان الرجوع إلى الإشراك بعد الإخلاص مستبعداً أيضاً لاستهجانهم سرعة الاستحالة، قال تعالى: ﴿ثم إذا كشف﴾ سبحانه عما تشركون ﴿الضر﴾ أي الذي مسكم ﴿عنكم﴾ ونبه على مسارعة الإنسان في الكفران فقال تعالى: ﴿إذا فريق﴾ أي جماعة هم أهل فرقة وضلال ﴿منكم﴾ أيها العباد! ﴿بربهم﴾ الذي تفرد بالإنعام عليهم ﴿يشركون *﴾ أي يوقعون الإشراك به بعبادة غيره تغيراً منهم عما كانوا عليه عند الاستغاثة به في الشدة، فكان منطبقاً عليهم ما ضربوا المثل بكراهته بقولهم:
وإذا تكون كريهة أُدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
وهذا أجهل الجهل.
ولما كان هذا ملزوماً بجحد النعمة، وكان من شأن العاقل البصير
180
بالأمور - كما يدعونه لأنفسهم - أن يغفل عن شيء من لوازم ما يقدم عليه، قال: ﴿ليكفروا﴾ أي يوقعوا التغطية لأدلة التوحيد التي دلتهم عليها غرائز عقولهم ﴿بما ءاتينهم﴾ أي من النعمة، تنبيهاً على أنهم ما أقدموا على ذلك الشرك إلا لهذا الغرض إحلالاً لهم محل العقلاء البصراء الذين يزعمون أنهم أعلاهم، ورفعاً لهم عن أحوال من يقدم على ما لا يعلم عاقبته، ولا خزي أعظم من هذا، لأنه أنتج أن الجنون خير من عقل يكون هذا مآله، فهو من باب التهكم ﴿فتمتعوا﴾ أي فتسبب عن هذا أن يُقبل على هذا الفريق إقبال عالم قادر عليه قائلاً: تمتعوا ﴿فسوف﴾ أي فإن تمتعكم على هذا الحال سبب لأن يقال لكم تهديداً: سوف ﴿تعلمون *﴾ غب تمتعكم، فهو إقبال الغضب والتهديد بسوء المنقلب، وحذف المتهدد به أبلغ وأهول لذهاب النفس في تعيينه كل مذهب.
ولما هددهم بإشراكهم المستلزم لكفر النعمة، أتبعه عجباً آخر من أمرهم فقال عاطفاً على قوله تعالى ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم﴾ :
181
﴿ويجعلون﴾ أي على سبيل التكرير ﴿لما لا يعلمون﴾ مما يعبدونه من الأصنام وغيرها لكونه في حيز العدم في نفسه وعدماً محضاً بما وصفوه به كما قال تعالى ﴿أم تنبئونه بما لا يعلم﴾ [الرعد: ٣٣] ﴿نصيباً مما رزقناهم﴾ بما لنا من العظمة، من الحرث والأنعام وغير ذلك، تقرباً إليها كما مضى شرحه في الأنعام، ولك أن تعطفه - وهو أقرب - على ﴿يشركون﴾ فيكون داخلاً في حيز «إذا» أي فاجأوا مقابلة نعمته في الإنجاء بالإشراك والتقرب برزقه إلى ما الجهل به خير من العلم به، لأنه عدم لأنه لا قدرة له ولا نفع في المقام الذي أقاموه فيه؛ ثم التفت إليهم التفاتاً مؤذناً بما يستحق على هذا الفعل من الغضب فقال تعالى: ﴿تالله﴾ أي الملك الأعظم ﴿لتسئلن﴾ يوم الجمع ﴿عما كنتم﴾ أي كوناً هو في جبلاتكم ﴿تفترون *﴾ أي تتعمدون في الدنيا من هذا الكذب، سؤال توبيخ، وهو الذي لا جواب لصاحبه إلا بما فيه فضيحته.
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه وغناه عنه على وجه
182
التوالد المستحيل عليه مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: ﴿يجعلون لله﴾ أي الذي لا معلوم على الحقيقة سواه لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: ﴿البنات﴾ فلا أعجب منهم حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك معجباً من وقوعه من عاقل بقوله تعالى: ﴿سبحانه﴾.
ولما ذكر ما جعلوا له مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم مع لزوم الحاجة والضعف فقال: ﴿ولهم ما يشتهون *﴾ من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم؛ ثم بين حالهم إذا حصل لهم نوع ما جعلوه له سبحانه فقال تعالى: ﴿وإذا﴾ أي جعلوا كذا والحال أنه إذا ﴿بشر أحدهم﴾ ولما تعين وزال المحذور، جمع بين الخساستين كما بين آخر الصافات فقال تعالى: ﴿بالأنثى﴾ أي قابل هذه البشرى
183
التي تستحق السرور بحصول نسمة تكون سبباً لزيادة هذا النوع، وقد تكون سبب سعادته، دالة على عظمة الله - بضد ما تستحق مما لا يفيده شيئاً بأن ﴿ظل وجهه﴾ وكنى عن العبوس والتكدر والغبرة بما يفوز فيه من الغيظ بقوله تعالى: ﴿مسوداً﴾ أي من الغم والكراهة، ولعله اختير لفظ «ظل» الذي معناه العمل نهاراً وإن كان المراد العموم في النهار وغيره دلالة على شهرة هذا الوصف شهرة ما يشاهد نهاراً ﴿وهو كظيم *﴾ ممتلىء غيظاً على المرأة ولا ذنب لها بوجه، والبشارة في أصل اللغة: الخبر الذي يغير البشرة من حزن أو سرور، ثم خص في عرف اللغة بالسرور، ولا تكون إلا بالخبر الأول، ولعله عبر عنه بهذا اللفظ تنبيهاً على تعكيسهم للأمور في جعلهم وسرورهم وحزنهم وغير ذلك من أمرهم.
184
ولما كان سواد الوجه والكظم قد لا يصحبه الخزي، وصل به قوله تعالى: ﴿يتوارى﴾ أي يستخفي بما يجعله في موضع كأنه الوراء لا اطلاع لأحد عليه ﴿من القوم﴾ أي الرجال الذين هو
184
فيهم ﴿من سوء ما بشر به﴾ لعده له خزياً، ثم بين ما يلحقه من الحيرة في الفكر عند ذلك بقوله تعالى: ﴿أيمسكه على هون﴾ أي ذلك وسفول أمر، ولما كانوا يغيبون الموءودة في الأرض على غير هيئة الدفن، عبر عنه بالدس فقال تعالى: ﴿أم يدسه في التراب﴾ قال ابن ميلق: قال المفسرون: كانت المرأة إذا أدركها المخاض احتفرت حفيرة وجلست على شفيرها، فإن وضعت ذكراً أظهرته، وظهر السرور أهله، وإن وضعت أنثى استأذنت مستولدها، فإن شاء أمسكها على هون وإن شاء أمر بإلقائها في الحفيرة ورد التراب عليها وهي حية لتموت - انتهى. قالوا: وكان الوأد في مضر وخزاعة وتميم.
ولما كان حكمهم هذا بالغاً في القباحة، وصفه بما يستحقه فقال مؤكداً لقبحه: ﴿ألا ساء ما يحكمون *﴾ أي بجعل ما يكرهونه لمولاهم الذي لا نعمة عندهم إلا منه، وجعل ما يختارونه لهم خاصاً بهم.
ولما كان شرح هذا أنهم تكلموا بالباطل في جانبه تعالى وجانبهم، بين ما هو الحق في هذا المقام، فقال تعالى على تقدير الجواب لمن كأنه قال: فما يقال في ذلك؟ مظهراً في موضع الإضمار، تنبيهاً على الوصف الذي أوجب الإقدام على الأباطيل من غير خوف:
185
﴿للذين لا يؤمنون﴾ أي لا يوجدون الإيمان أصلاً ﴿بالآخرة مثل﴾ أي حديث ﴿السوء﴾ من الضعف والحاجة والذل والرعونة ﴿ولله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿المثل﴾ أي الحديث أو المقدار أو الوصف أو القياس ﴿الأعلى﴾ من الغنى والقوة وجميع صفات الكمال بحيث لا يلحقه حاجة ولا ضعف ولا شائبة نقص أصلاً، وأعدل العبارات عن ذلك لا إله إلا الله، ويتأتى تنزيل المثل على الحقيقة كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في سورة الروم.
ولما كان أمره سبحانه وتعالى أجل مما تدركه العقول، وتصل إليه الأفهام، أشار إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿وهو﴾ لا غيره ﴿العزيز﴾ الذي لا يمتنع عليه شيء فلا نظير له ﴿الحكيم *﴾ الذي لا يوقع شيئاً إلا في محله، فلو عاملهم بما يستحقونه من هذه العظائم التي تقدمت عنهم لأخلى الأرض منهم ﴿ولو يؤاخذ الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال ﴿الناس﴾ كلهم.
ولما كان السياق للحكمة، وكان الظلم - الذي هو إيقاع الشيء في غير موقعه - شديد المنافاة لها، وكان الشرك - الذي هذا سياقه -
186
أظلم الظلم، قال معبراً بالوصف الشامل لما وقع منهم منه بالفعل ولما هم منطوون وهو وصف لهم ولم يباشروه إلى الآن بالفعل قال: ﴿بظلمهم﴾ أي يعاملهم معاملة الناظر لخصمه المعامل له بمحض العدل من غير نظر إلى الفضل، وعبر بصيغة المفاعلة لأن دلالتها على المناقشة أبلغ ﴿ما ترك﴾ ولما اقتضى الحال ذكر الظلم، وكان سياق هذه الآية أغلظ من سياق فاطر، عبر بما يشمل كل محمول الأرض سواء كان على الظهر أو في البطن مغموراً بالماء أو لا فقال تعالى: ﴿عليها﴾ أي الأرض المعلوم أنها مستقرهم المدلول عليها التراب، وأعرق في النفي فقال تعالى: ﴿من دآبة﴾ أي نفس تدب على وجه الأرض، لأن الكل إما ظالم يعاقب بظلمه، وإما من مصالح الظالم فيهلكه عقوبة للظالم، أو لأنه ما خلقهم إلا للبشر، فإذا أهلكهم أهلكهم كما وقع قريب منه في زمن نوح عليه السلام ﴿ولكن﴾ لا يفعل بهم ذلك فهو ﴿يؤخرهم﴾ إمهالاً بحكمته وحلمه ﴿إلى أجل مسمى﴾ ضربه لهم في الأزل.
187
ولما قطع العلم بالغاية عما يكون، سبب عن ذلك الإعلام بما يكون فيه فقال: ﴿فإذا جاء أجلهم﴾ الذي حكم بأخذهم عنده ﴿لا يستأخرون﴾ أي عنه ﴿ساعة﴾ أي وقتاً هو عام التعارف بينكم، ثم عطف على جملة الشرط من أولها قوله تعالى: ﴿ولا يستقدمون *﴾ أي عن الأجل شيئاً.
188
ولما كان ما تقدم أمارة على كراهتهم لما نسبوه إلى الله تعالى، أتبعه التصريح بعد التلويح بقوله تعالى: ﴿ويجعلون لله﴾ أي وهو الملك الأعظم ﴿ما يكرهون﴾ أي لأنفسهم، من البنات والأموال والشركاء في الرئاسة، ومن الاستخفاف برسلهم وجنودهم والتهاون برسالاتهم، ثم وصف جراءتهم مع ذلك، الكائنة في محل الخوف، المقتضية لعدم التأمل اللازم لعدم العقل فقال: ﴿وتصف﴾ أي تقول معتقدة مع القول الصفاء، ولما كان قولاً لا حقيقة له بوحه، أسنده إلى اللسان فقال: ﴿ألسنتهم﴾ أي مع ذلك مع أنه قول لا ينبغي أن يتخيله عاقل ﴿الكذب﴾ ثم بينه بقوله: ﴿أن لهم الحسنى﴾ أي عنده، ولا جهل أعظم ولا حكم أسوأ من أن تقطع بأن من تجعل له ما تكره يجعل لك ما تحب، فكأنه قيل: فما لهم
188
عنده؟ فقيل: ﴿لا جرم﴾ أي لا ظن ولا تردد في ﴿أن لهم النار﴾ التي هي جزاء الظالمين ﴿وأنهم مفرطون *﴾ أي مقدمون معجلون إليها بتقديم من يسوقهم وإعجاله لهم؛ وقال الرماني: متروكون فيها، من قول العرب: ما أفرطت ورائي أحداً، أي ما خلفت ولا تركت، وقرأ نافع بالتخفيف والكسر، أي مبالغون في الإسراف والجراءة على الله. ولما بين مآلهم، وكانوا يقولون: إن لهم من يشفع فيهم، بين لهم ما يكون من حالهم، بالقياس على أشكالهم تهديداً، وتسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال تعالى: ﴿تالله﴾ أي الملك الأعلى ﴿لقد أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة، رسلاً من الماضين ﴿إلى إمم﴾ ولما كان الإرسال بالفعل لم يستغرق زمان القبل، قال: ﴿من قبلك﴾ كما أرسلناك إلى هؤلاء ﴿فزين لهم الشيطان﴾ أي المحترق بالغضب. المطرود باللعنة ﴿أعمالهم﴾ كما زين لهؤلاء فضلوا كما ضلوا فأهلكناهم ﴿فهو﴾ لا غيره ﴿وليهم اليوم﴾ بعد إهلاكهم حال كونهم في النار ولا قدرة له على نصرهم ﴿ولهم عذاب أليم *﴾ فلا ولي لأنه لو قدر على نصرهم لما أسلمهم للهلاك وقد أطاعوه، بل لو عدموا ولايته كان ذلك أولى لهم، فهو نفي لأن يكون لهم ولي على أبلغ الوجوه.
189
ولما كان حاصل ما مضى الخلاف والضلال والنقمة، كان كأنه قيل: فبين لهم وخوفهم ليرجعوا، فإنا ما أرسلناك إلا لذلك ﴿وما أنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة من جهة العلو ﴿عليك الكتاب﴾ أي الجامع لكل هدى. ولما كان في سياق الدعاء والبيان عبر بما يقتضي الإيجاب فقال: ﴿إلا لتبين﴾ أي غاية البيان ﴿لهم﴾ أي لمن أرسلت إليهم وهم الخلق كافة ﴿الذي اختلفوا فيه﴾ من جميع الأمور ديناً ودنيا لكونك أغزرهم علماً وأثقبهم فهماً، وعطف على موضع «لتبين» ما هو فعل المنزل، فقال تعالى: ﴿وهدى﴾ أي بياناً شافياً ﴿ورحمة﴾ أي وإكراماً بمحبة.
ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم، نفاه بقوله تعالى: ﴿لقوم يؤمنون *﴾ والتبيين: معنى يؤدي إلى العلم بالشيء منفصلاً عن غيره، وقد يكون عن المعنى نفسه، وقد يكون عن صحته، والبرهان لا يكون إلا عن صحته فهو أخص، والاختلاف: ذهاب كل إلى غير جهة صاحبه، والهدى: بيان طريق العلم المؤدي إلى الحق.
190
ولما انقضى الدليل على أن قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به، وختمه بما أحيا به القلوب بالإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار، وكان أجل هذه المقاصد الإلهيات، شرع في أدلة الوحدانية والقدرة والفعل بالاخيتار المستلزم للقدرة على البعث على وجه غير المتقدم ليعلم أن أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار، وأجلى من ضياء النهار فعطف على قوله: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي: ﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿أنزل من السماء﴾ في الوقت الذي يريده ﴿ماء﴾ بالمطر والثلج والبرد ﴿فأحيا به الأرض﴾ الغبراء. ولما كانت عادته بذلك مستمرة، وكان السياق لإثبات دعائم الدين، وكان الإحياء بالماء لا يزال أثره قائماً في زرع أو شجر في بعض الأراضي، أعرى الظرف من الجار لأن المعنى به أبلغ فقال: ﴿بعد موتها﴾ باليبوسة والجدب وتفتت النبات أصلاً ورأساً.
ولما كان ما أقامه على ذلك في هذه السورة من الأدلة قد صار إلى
191
حد لا يحتاج معه السامع العاقل إلى أكثر من السماع، قال تعالى ﴿إن في ذلك﴾ الماء المؤثر بتدبيره هذا الأثر العظيم ﴿لآية لقوم يسمعون *﴾ هذا التنبيه في هذا الأسلوب المتضمن لما مضى من التشبيه، فيعلمون أنه ينزل من أمره ما يريده فيحيي به أجساد العباد بعد موتها كما أحيى أجساد النبات بالماء بعد موتها وأرواح الأشباح بالعلم بعد موتها، والحاصل ان هذه الأدلة لا تحتاج مع الحس إلى كبير عمل بالقلب غير الانقياد إلى الحق، وترك العناد والجهل، فهو من سماع الأذن وما ينشأ عنه من الإجابة، استعمالاً للشيء في حقيقته ومجازه، ولعله لم يختمها ب «يبصرون» لئلا يظن أن ذلك من البصيرة، فيظن أنه يحتاج فيها إلى كبير فكر فيفوت ما أريد من الإشارة إلى شدة الوضوح.
ولما ذكر سبحانه هذا الأمر العام، ونبه على ما فيه من غريب الصنع الذي غفل عنه لشدة الألف به، أتبعه بعض ما ينشأ عنه من تفاصيل الأمور، المحتوية على عجائب المقدور، وبدأ بأعمها وأشدها ملابسة لهم، وأكثرها في نفسه وأعظمها منفعة ودخلاً في قوام عيشهم، فقال: ﴿وإن لكم﴾ أي أيها المخاطبون المغمورون في النعم! ﴿في الأنعام﴾ ولما كانت الأدلة يعبر بها من الجهل
192
إلى العلم قال: ﴿لعبرة﴾ فكأنه قيل: ما هي؟ فقيل: ﴿نسقيكم﴾ بضم النون في قراءة الجماعة من أسقاه - إذا أعد له ما يشربه دائماً من نهر أو لبن وغيرهما، وبالفتح في قراءة نافع وابن عامر وعاصم في رواية شعبة: من سقاه - إذا ناوله شيئاً فشربه.
ولما كان الأنعام اسم جمع، فكان مفرداً كما نقل ذلك سيبويه، وذكر المسقي وهو اللبن، لما اقتضاه سياق السورة من تعداد النعم فتعينت إرادة الإناث لذلك، فانتفى الالتباس مع تذكير الضمير، قال تعالى: ﴿مما﴾ أي من بعض الذي ﴿في بطونه﴾ فذكر الضمير لأمن اللبس والدلالة على قوة المعنى لكونها سورة النعم بخلاف ما في المؤمنون.
ولما كان موضع العبرة تخليص اللبن من غيره، قدم قوله تعالى: ﴿من بين فرث﴾ وهو الثفل الذي ينزل إلى الكرش، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً ﴿ودم لبناً خالصاً﴾ من مخالط منهما أو من غيرهما
193
يبغي عليه بلون أو رائحة؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما: إذا أكلت البهيمة العلف واستقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثاً، وأوسطه لبناً، وأعلاه دماً. والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها، فيجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقى الفرث في الكرش. ﴿سائغاً﴾ أي سهل المرور في الحقل ﴿للشاربين *﴾ ثم عطف عليه ما هو أنفس منه عندهم وأقرب إليه في المعاني المذكورة، فقال تعالى معلقاً ب «نسقيكم» ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب﴾.
ولما كان لهم مدخل في اتخاذ ما ذكر منه بخلاف اللبن الذي لا صنع لهم يه أصلاً، أسند الأمر إليهم وليكون ذلك إشارة إلى كراهة السكر وتوطئة للنهي عنه في قوله مستأنفاً: ﴿تتخذون﴾ أي باصطناع منكم وعلاج، ولأجل استئناف هذه الجملة كان لا بد من قوله: ﴿منه﴾ أي من مائه، وعبر عن السكر
194
بالمصدر إبلاغاً في تقبيحه، وزاد في الإبلاغ بالتعبير بأثقل المصدرين وهو المحرك، يقال: سكر سكْراً وسكَراً مثل رشد رشْداً ورشَداً، ونحل نحْلاً ونحَلاً، فقال تعالى: ﴿سكراً﴾ أي ذا سكر منشّياً مطرباً سادّاً لمجاري العقل قبيحاً غير مستحسن للرزق ﴿ورزقاً حسناً﴾ لا ينشأ عنه ضرر في بدن ولا عقل من الخل والدبس وغيرهما، ولا يسد شيئاً من المجاري، بل ربما فتحها كالحلال الطيب، فإنه ينير القلب، ويوسع العقل، والأدهان كلها تفتح سدد البدن، وهذا كما منحكم سبحانه العقل الذي لا أحسن منه فاستعمله قوم على صوابه في الوحدانية، وعكس آخرون فدنسوه بالإشراك؛ قال الرماني: قيل: السكر ما حرم من الشراب، والرزق الحسن: ما أحل منه - عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي وأبي رزين والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم. والسكر في اللغة على أربعة أوجه: الأول ما أسكر. الثاني ما أطعم من الطعام. الثالث السكون.
195
الرابع المصدر من السكر، وأصله انسداد المجاري مما يلقي فيها، ومنه السكر - يعني بكسر ثم سكون، ومن حمل السكر على السكر قال: إنها منسوخة بآية المائدة، والتعبير عنه بما يفهم سد المجاري يفهم كراهته عندما كان حلالاً؛ والآية من الاحتباك: ذكر السكر أولاً دال على الفتح ثانياً، وذكر الحسن دال القبيح أولاً، فالآية أدل ما في القرآن على المعتزلة في أن الرزق يطلق على الحرام، ولتقارب آيتي الأنعام والأشجار جمعهما سبحانه فقال تعالى: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من هذه المنافع ﴿لآية﴾ ولوضوح أمرهما في كمال قدرة الخالق ووحدانيته قال تعالى: ﴿لقوم يعقلون *﴾.
196
ولما كان أمر النحل في الدلالة على تمام القدرة وكمال الحكمة أعجب مما تقدم وأنفس، ثلث به وأخره لأنه أقل الثلاثة عندهم، وغير الأسلوب وجعله من وحيه إيماء إلى ما فيه من غريب الأمر وبديع الشأن فقال تعالى: ﴿وأوحى ربك﴾ أي المحسن إليك بجعل العسل في مفاوز البراري المقفرة المفرطة المرارة وغيرها
196
من الأماكن وبغير ذلك من المنافع، الدال على الفعل بالاختيار وتمام الاقتدار ﴿إلى النحل﴾ أي بالإلهام؛ قال الرازي في اللوامع: فالله تعالى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، فبعضها بالتسخير المجرد كالجمادات، وبعضها بالإلهام والتسخير كالنحل والسرفة - أي بضم وسكون، وهي دويبة تتخذ بيتاً من دقاق العيدان فتدخله وتموت - والعنكبوت، وبعضها بالتسخير والإلهام والعقل المتفق على نظام واحد كالملائكة، وبعضها بكل ذلك والفكر والتمييز والأعمال المختلفة المبنية على الفكر كالإنسان.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، أتى ب «أن» المفسرة فقال تعالى: ﴿أن اتخذي﴾ أي افعلي ما يفعله المتكلف من أن يأخذ ﴿من الجبال بيوتاً﴾ أيّ بيوت! ما أعجبها! ﴿ومن الشجر﴾ أي الصالحة لذلك في الغياض والجبال والصحارى ﴿ومما يعرشون *﴾ أي يرفع الناس من السقوف والجدران وغيرها، وبدأ بالبيوت لأنها من عجب الدهر في حسن الصنعة وبداعة الشكل وبراعة الإحكام وتمام التناسب.
197
ولما كان أهم شيء للحيوان بعد الراحة من همّ المقيل الأكل، ثنى به، ولما كان عاماً في كل ثمر، ذكره بحرف التراخي إشارة إلى عجيب الصنع في ذلك وتيسيره لها، فقال تعالى: ﴿ثم كلي﴾ وأشار إلى كثرة الرزق بقوله تعالى: ﴿من كل الثمرات﴾ قالوا: من أجزاء لطيفة تقع على أوراق الأشجار من الظل، وقال بعضهم: من نفس الأزهار والأوراق.
ولما أذن لها في ذلك كله، وكان من المعلوم عادة أن تعاطيه لا يكون إلا بمشقة عظيمة في معاناة السير إليه، نبه على خرقه للعادة في تيسيره لها فقال تعالى: ﴿فاسلكي﴾ أي فتسبب عن الإذن في الأكل الإذن في السير إليه ﴿سبل ربك﴾ أي المحسن إليك بهذه التربية العظيمة لأجل الأكل ذاهبة إليه وراجعة إلى بيوتك حال كون السبل ﴿ذللاً﴾ أي موطأة للسلوك مسهلة كما قال تعالى ﴿هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً﴾ [الملك: ١٥] وأشار باسم الرب إلى أنه لولا عظيم إحسانه في تربيتها لما اهتدت إلى ذلك؛ ثم أتبعه نتيجة ذلك جواباً لمن كأنه قال: ماذا يكون عن هذا كله؟ فقال تعالى: - ﴿يخرج من بطونها﴾ - بلفت الكلام لعدم قصدها إلى هذه النتيجة ﴿شراب﴾ أيّ شراب! وهو العسل لأنه مع كونه من أجلّ المآكل هو «مما يشرب» ﴿مختلف ألوانه﴾
198
من أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك، اختلافاً دالاً على أن فاعله مع تمام قدرته مختار، ثم أوضح ذلك بقوله تعالى: ﴿فيه﴾ أي مع كونه من الثمار النافعة والضارة ﴿شفاء للناس﴾ قال الإمام الرازي في اللوامع: إذ المعجونات كلها بالعسل، وقال إمام الأولياء محمد بن علي الترمذي: إنما كان ذلك لأنها ذلت لله مطيعة وأكلت من كل الثمرات: حلوها ومرها محبوبها ومكروهها، تاركة لشهواتها، فلما ذلت لأمر الله، صار هذا الأكل لله، فصار ذلك شفاء للأسقام، فكذلك إذا ذل العبد لله مطيعاً، وترك هواه، صار كلامه شفاء للقلوب السقيمة - انتهى.
وكونه شفاء - مع ما ذكر - أدل على القدرة والاختيار من اختلاف الألوان، لا جرم وصل به قوله تعالى: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من أمرها كله ﴿لآية﴾ وكما أشار في ابتداء الآية إلى غريب الصنع في أمرها، أشار إلى مثل ذلك في الختم بقوله تعالى: ﴿لقوم يتفكرون *﴾ أي في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة واللطائف الخفية بالبيوت المسدسة، والاهتداء إلى تلك الاجزاء اللطيفة
199
من أطراف الأشجار والأوراق - وغير ذلك من الغرائب حيث ناطه بالفكر المبالغ فيه من الأقوياء، تأكيداً لفخامته وتعظيماً لدقته وغرابته في دلالته على تمام العلم وكمال القدرة، وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين، تارة بالإفراد وتارة بالجمع، ونوطها تارة بالعقل وتارة بالفكر، وتارة بالذكر وتارة بغيرها.
وقد جعل الإمام الرباني أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح لذلك باباً بعد أن جعل أسنان الألباب مثل أسنان الأجساد ما بين تمييز واحتلام وشباب وكهولة وغيرها كما تقدم نقله عنه في سورة براءة عند قوله تعالى ﴿ومنهم الذين يؤذون النبي﴾ [براءة: ٦١] فقال: الباب التاسع في وجوه إضافات الآيات واتساق الأحوال لأسنان القلوب في القرآن - أي فإن لذلك مراتب في العلم والأفهام -: اعلم أن الآيات والأحوال تضاف وتتسق لمن اتصف بما به أدرك معناها، ويؤنب عليها من تقاصر عنها، وينفي منالها عمن لم يصل إليها، وهي أطوار أظهرها
200
آيات الاعتبار البادية لأولي الأبصار، لأن الخلق كله إنما هو عَلَم للاعتبار منه، لا أنه موجود للاقتناع به ﴿ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون﴾ [يونس: ٧-٨] اتخذوا ما خلق للعبرة به إلى ربه كسباً لأنفسهم حتى صار عندهم وعند أتباعهم آيتهم، لا آية خالقه ﴿أتبنون بكل ريع ءاية تعبثون﴾ [الشعراء: ١٢٨]، ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ ثم يلي آيات الاعتبار ما ينال إدراك آيته العقل الأدنى ببداهة نظره ﴿وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾ [النحل: ١٢] جمع الآيات لتعدد وجوهها في مقصد البيان، ثم يلي ما يدرك ببداهة العقل ما يحتاج إلى فكر يثيره العقل الأدنى لشغل الحواس بمنفعته عن التفكر في وجه آيته
﴿هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون﴾ [النحل: ١٠] أفرد الآية لاستناد كثرته إلى وحدة الماء ابتداء ووحدة الانتفاع انتهاء؛ ثم يلي ما يدرك بفكر العقل الأدنى ما يقبل
201
بالإيمان ويكون آية أمر قائم على خلق، وهو مما يدرك سمعاً لأن الخلق مرئي والأمر مسموع ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون﴾ [النحل: ٦٣-٦٤-٦٥] هذه آية حياة القلوب بنور العلم والحكمة الذي أخذ سمعاً عند تقرر الإيمان، وعند هذا الحد يتناهى العقل إلى فطرة الأشد وتعلو بداهته وتترقى فطره إلى نظر ما يكون آية في نفس الناظر لأن محار غيب الكون يرد إلى وجدان نقص الناظر، وكما أن الماء آية حياة القلوب صار الشرابان: اللبن والخمر، آيتين على أحوال تخص القلوب بما يغذوها من الله غذاء اللبن وينشيها نشوة السكر، منبعثاً من بين فرث ودم ونزول الخلق المقام عن الأمر القائم عليه ﴿وإن لكم في الأنعام لعبرة﴾ - الآيتين إلى قوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ وهذا العقل الأعلى، وأفرد الآية لانفراد موردها في وجد القلب،
202
وكما للعقل الأدنى فكرة تنبىء عن بداهته فكذلك للعقل الأعلى فكرة تنبىء عن عليّ فطرته ﴿وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر - إلى قوله: لآية لقوم يتفكرون﴾ وهذا العقل الأعلى هو اللب الذي عنه يكون التذكر بالأدنى من الخلق لللأعلى من الأمر ﴿وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون﴾ [النحل: ١٣] وفي مقابلة كل من هذه الأوصاف أضداد يرد البيان فيها بحسب مقابلتها، وكذلك حكم وصف المسلمين فيها يظهر أن «لا أنجى للعبد من إسلامه نفسه لربه» ووصف المحسنين فيما يظهر قيام ظاهر حسه ﴿آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين﴾ [البقرة: ١] من استغنى بما عنده من وجدٍ لم يتفرغ لقبول غيب ﴿يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وءامنوا برسوله﴾ [الحديد: ٢٨]، ﴿إذا ما اتقوا وءامنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وءامنوا ثم اتقوا وأحسنوا﴾ [المائدة: ٩٣]، ﴿ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه﴾، ﴿ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين﴾ «
203
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» ﴿وفي خلقكم وما يبث من دابة ءايات لقوم يوقنون﴾ [الجاثية: ٤] ﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥] ولجملة هذه الأوصاف أيضاً أضداد يرد بيان القرآن فيها بحسب تقابلها ويجري معها إفهامه، وما أوصله خفاء المسمع والمرأى إلى القلب هو فقهه، ومن فقد ذلك وصف سمعه بالصمم وعينه بالعمى، ونفى الفقه عن قلبه، ونسب إلى البهيمية، ومن لم تنل فكرته أعلام ما غاب عيانه نفي عنه العلم
﴿الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعاً﴾ [الكهف: ١٠١]، ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون﴾ [الأعراف: ١٧٩]، ﴿يقولون لئن رجعنا إلى المدينة﴾ [المنافقون: ٨]-إلى قوله: ﴿ولكن المنافقين لا يعلمون﴾ [المنافقون: ٨]، ﴿يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا﴾ - الآية إلى قوله تعالى: ﴿ولكن المنافقين لا يفقهون﴾ نفي العلم فيما ظهرت أعلامه والفقه فيما خفي أمره، ومراد البيان عن أضدادها هذه الأوصاف بحسب تقابلها، وهذا الباب لمن يستفتحه من أنفع فواتح
204
الفهم في القرآن - انتهى.
205
ولما أيقظهم من رقدتهم، ونبههم على عظيم غفلتهم من عموم القدرة وشمول العلم، المقتضي للفعل بالاختيار، المحقق للبعث وغيره، من كل ما يريده سبحانه ببعض آياته المبثوثة في الآفاق من جماد ثم حيوان، وختم ذلك بما هو شفاء، ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك مذكراً بمراتب عمر الإنسان الأربع، وهي سن الطفولية والنمو، ثم سن الشباب الذي يكون عند انتهائه الوقوف، ثم سن الكهولة وفيه يكون الانحطاط مع بقاء القوة، ثم سن الانحطاط مع ظهور الضعف وهو الشيخوخة، مضمناً ما لا يغني عنه دواء، حثاً على التفكر في آياته والتعقل لها قبل حلول ذلك الحادث، فيفوت الفوت، ويندموا حيث لا ينفع الندم، فقال: ﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿خلقكم﴾ فجعلكم بعد العدم أحياء فهّماً خصّماً ﴿ثم يتوفاكم﴾ على اختلاف الأسنان، فلا يقدر الصغير على أن يؤخر، ولا الكبير على أن يقدم، فمنكم من يموت حال قوته ﴿ومنكم من يرد﴾ أي بأيسر أمر منا، لا يقدر على مخالفته بوجه ﴿إلى أرذل العمر﴾ لأنه يهرم فيصير إلى مثل حال الطفولية
205
في الضعف مع استقذار غيره له، ولا يرجى بعده ﴿لكي لا يعلم﴾.
ولما كان مقصود السورة الدلالة على تمام القدرة وشمول العلم والتنزه عن كل شائبة نقص، وكان السياق هنا لذلك أيضاً بدليل ختم الآية، نزع الخافض للدلالة على استغراق الجهل لزمن ما بعد العلم، فيتصل بالموت، ولا ينفع فيه دواء ولا تجدي معه حيلة فقال: ﴿بعد علم شيئاً﴾ لا يوجد في شيء من ذلك عند إحلاله شفاء، ولا يمنعه دواء: فبادروا إلى التفكر والاعتبار قبل حلول أحد هذين، ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿عليهم قدير *﴾ أي بالغ العلم شامل القدرة، فمهما أراد كان، ومهما أراد غيره ولم يرده هو، أحاط به علمه، فسبب له بقدرته ما يمنعه.
ولما ذكر المفاوتة في الأعمار المنادية بإبطال الطبائع الموجبة للمسابقة إلى الاعتبار لأولي الأبصار للخوف كل لحظة من مصيبة الموت، ثنى بالمفاوتة في الأرزاق فقال تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله
206
﴿فضل بعضكم﴾ أيها الناس ﴿على بعض﴾.
ولما كانت وجوه التفضيل كثيرة، وكان التفضيل في المعاش الذي يظن الإنسان أن له قدرة على تحصيله، وكانت المفاوتة فيه أدل على تمام القدرة والفعل بالاختيار الذي السياق له، قال تعالى: ﴿في الرزق﴾ أي ولربما جعل الضعيف العاجز الجاهل أغنى من القوي المحتال العالم، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، وأقبلوا بجميع قلوبكم على ما ينفعكم من الاستبصار؛ قال الإمام أبو نعيم في الحلية: حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد ثنا أحمد بن أحمد بن عمرو الخلال قال: سمعت ابن أبي عمر يقول: كنا عند سفيان بن عيينة فذكروا الفضل بن الربيع ودهاءه، فأنشأ سفيان يقول:
كم من قويّ قوي في تقلبه مهذب الرأي عنه الرزق منحرف
ومن ضعيف ضعيف العقل مختلط كأنه من خليج البحر يغترف
وعن نوادر أبي علي القالي أنه قال: قال أبو بكر بن الأنباري: وحدثني
207
أبي قال: بعث سليمان المهلبي إلى الخليل بن أحمد بمائة ألف درهم وطالبه بصحبته فرد عليه المائة ألف، وكتب إليه هذه الأبيات:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخي بنفسي أني لا أرى أحداً يموت هزلاً ولا يبقى على حال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال
والفقر في النفس لا في المال تعرفه ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ولما كان جعل المملوك في رتبة المالك مما يتعاظمهم في حقوقهم مع أنه في الحقيقة لا مالك ولا مُلك، فلا يدينون لذلك ولا يدانونه وإن جل الخطب وأدى إلى ذهاب الأرواح، بل من كانت أمه مملوكة حطوا رتبته وإن كان أبوه من كان، وإن كانت العبرة عندهم في
208
النسب بالأب، وهذا هو الذي أحوج عنترة إلى قوله:
إني امرؤ من خير عبس منصباً شطري وأحمي سائري بالمنصل
إلى غير ذلك مما كان يعتذر به عن جهة أمه، نبههم سبحانه على ما وقعوا فيه في حقه من ذلك بسبب الإشراك مع أنه مالك الملك وملك الملوك بعد ما اجترؤوا عليه في تفضيل أنفسهم في نسبة البنات إليه، فقال تعالى: ﴿فما الذين فضلوا﴾ أي في الرزق ﴿برادّي رزقهم﴾ أي الذي اختصوا به ﴿على ما ملكت أيمانهم﴾ وإن جل نفعهم وتعاظم عندهم وقعهم ﴿فهم فيه سواء﴾ أي فيكون بذلك الرد المالك والمملوك سواء، فهو جواب للنفي - نقله الرمال عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.
ولما وضح ذلك وضوح الشمس وظهر حتى ما به أصلاً نوع لبس، تسبب عنه الإنكار في قوله على وجه الإعراض عن خطابهم
209
المؤذن بالمقت: ﴿أفبنعمة الله﴾ أي الذي لا رب غيره ﴿يجحدون *﴾ في جعلهم له شركاء يضيفون إليهم بعض ما أنعم به عليهم، فيسوون بينهم وبينه في ذلك وبنعمتهم يعترفون ولها يحفظون في إنزال ما ملكت أيمانهم عنهم في المراتب والأموال.
ولما ذكر الخلق والرزق، أتبعهما الألذاذ بالتأنس بالجنس من الأزواج والأولاد وغيرهما اللازم له القيام بالمصالح فقال تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له تمام القدرة وكمال العلم ﴿جعل لكم﴾ ولما كان الأزواج من الجنس، قال: ﴿من أنفسكم﴾ لأن الشيء آلف لنوعه وأقرب إلى جنسه ﴿أزواجاً﴾ أي تتوالدون بها ويبكون السكون إليها سبباً لبقاء نوعكم ﴿وجعل لكم﴾ أي أيها الناس الذين يوجهون رغباتهم إلى غيره! ﴿من أزواجكم بنين﴾ ولعله قدمهم للشرف؛ ثم عطف على ذلك ما هو أعم فقال: ﴿وحفدة﴾ أي من البنات والبنين وأولادهم والأصهار والأختان، جمع حافد، يخفّون في أعمالكم ويسرعون في خدمكم طاعة وموالاة، لا كما يفعل الأجانب وبعض العاقين، وهذا معنى ما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه فسرهم بالخدام والأعوان، وهو الصواب لأن مادة حفد
210
تدور على الإسراع والخفة.
حفد: خفّ في العمل وأسرع، والحفد - محركة: الخدم - لخفتهم، ومشي دون الخبب، والحفدة: البنات وأولاد الأولاد أو الأصهار - لذلك، وصناع الوشي - لإسراعهم فيه وإسراع لابسه إلى لبسه منبسط النفس، والمحفد - كمجلس ومنبر: شيء يعلف فيه الدواب - لإسراعها إليه، وكمنبر: طرف الثوب لإسراع حركته، وقدح يكال به - لخفته، وكمجلس الأصل - لدوران الأمور عليه وإسراعها إليه، وسيف محتفد: سريع القطع، وأحفده: حمله على الإسراع، والفادحة: النازلة، وفوادح الدهر - خطوبه - لإسراعها بالمكروه وإسراع المنزول به ومن يهمه شأنه إلى مدافعتها، ومن ذلك فدحه الأمر: أثقله - لأن المكروه يسرع فيثقل فيكثر اضطراب المنزول به.
211
ولما ذكر ذلك سبحانه، أتبع ما لا يطيب العيش إلا به، فقال تعالى: ﴿ورزقكم﴾ أي لإقامة أودكم وإصلاح أحوالكم؛ ولما كان كل النعيم إنما هو في الجنة، بعّض فقال: ﴿من الطيبات﴾ بجعله ملائماً للطباع، شهياً للأرواح، نافعاً للإشباع، فعلم من هذا قطعاً أن صاحب هذه الأفعال، هو المختص بالجلال، ومن أنكر شيئاً من حقه فقد ضل أبعد الضلال، فكيف بمن أنكر خيره، وعبد غيره، وهو باسم العدم أحق منه باسم الوجود، فلذلك تسبب عنه قوله معرضاً عن خطابهم إعراض المغضب: ﴿أفبالباطل﴾ أي من الأصنام وما جعلوا لهم من النصيب ﴿يؤمنون﴾ أي على سبيل التجديد والاستمرار ﴿وبنعمت الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿هم﴾ وله عليهم خاصة - غير ما يشاركون فيه الناس - من المنن ما له ﴿يكفرون﴾ حتى أنهم يجعلون مما أنعم به عليهم من السائبة والوصيلة والحامي وغيرها لأصنامهم، وذلك متضمن لكفران النعمة الكائنة منه، ومتضمن لنسبتها إلى غيره، لأنه لم يأذن لهم في شيء مما حرموه،
212
ولا يحل التصرف في مال المالك إلا بإذنه؛ ثم قال عطفاً على ما أنكره عليهم هناك: ﴿ويعبدون﴾ وأشار إلى سفول المراتب كلها عن رتبته سبحانه فقال تعالى: ﴿من دون الله﴾ أي من غير من له الجلال والإكرام مما هو في غاية السفول من الأصنام وغيرها ﴿ما لا يملك﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿لهم رزقاً﴾ تاركين من بيده جميع الرزق، وهو ذو العلو المطلق الذي رزقهم من الطيبات؛ ثم بين جهة الرزق فقال تعالى: ﴿من السماوات والأرض﴾ ثم أكد تعميم هذا النفي بقوله - مبدلاً من ﴿رزقاً﴾، مبيناً أن تنوينه للتحقير -: ﴿شيئاً﴾ ثم أكد حقارتهم بقوله جامعاً لأن ما عجز عند الاجتماع فهو عند الانفراد أعجز: ﴿ولا يستطيعون﴾ أي ليس لهم نوع استطاعة أصلاً، ولك أن تجعله معطوفاً على ما مضى من المعجَّب منه من أقوالهم وأفعالهم في قوله ﴿ويجعلون لله ما يكرهون﴾ ونحوه.
213
ولما دحض بهذه الحجة جميع ما أقاموه من الشبه وضربوه من الأمثال فيما ارتكبوه من قولهم إن الملك لا يتوصل إليه إلا
213
بأعوان من حاجب ونائب ونحو ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بأنواع القربان، فعبدوا الأصنام، وفعلوا لها ما يفعل له تشبيهاً به عز شأنه، وتعالى سلطانه، لأن الفرق أن ملوك الدنيا المقيس عليهم إنما أقاموا مَن ذكر لحاجتهم وضعف مُلكهم ومِلكهم، فحالهم مخالف لوصف من لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يشغله شأن عن شأن، وكل شيء في قبضته وتحت قهره وعظمته، فلذلك تسبب عنها قوله تعالى: ﴿فلا تضربوا لله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿الأمثال﴾ أي فتشبهوه تشبيهاً بغيره وإن ضرب لكم هو الأمثال؛ قال أبو حيان وغيره: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي لا تشبهوه بخلقه - انتهى. وهو - كما قال في الكشاف - تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالاً بحال وقصة بقصة - انتهى. وهذا النهي عام في كل مثل لخطر الأمر خشية أن يكون ذلك المثل غير لائق بمقداره، وقد تقرر أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، لا سيما في هذا لأن الخطأ فيه كفر، ويدل على ذلك تعليل الحكم بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره ﴿يعلم﴾
214
أي له جميع صفة العلم، فإذا ضرب مثلاً أتقنه بإحاطة علمه بحيث لا يقدر غيره أن يبدي فرقاً ما بين الممثل والممثل به في الأمر الممثل له ﴿وأنتم لا تعلمون *﴾ أي ليس لكم علم أصلاً، فلذلك تعمون عن الشمس وتلبّس عليكم ما ليس فيه لبس، وهذا المقام عال ومسلكه وعر، وسالكه على غاية من الخطر.
ولما ختم سبحانه بذلك تأكيداً لإبطال مذهب عبدة الأصنام بسلب العلم الذي هو مناط السداد عنهم، حسن أن يصل به قوله - إقامة للدليل على علمه بأن أمثاله لا يتطرق إليها الطعن، ولا يتوجه نحوها الشكوك -: ﴿ضرب الله﴾ أي الذي له كمال العلم وتمام القدرة ﴿مثلاً﴾ بالأحرار والعبيد له ولما عبدتموه معه؛ ثم أبدل من مثلاً: ﴿عبداً﴾ ولما كان العبد يطلق على الحر بالنسبة إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿مملوكاً﴾ لا مكاتباً ولا فيه شائبة للحرية ﴿ولا يقدر على شيء﴾ بإذن سيده ولا غيره، وهذا مثل شركائهم، ثم عطف على «عبداً» قوله: ﴿ومن رزقناه منا﴾ من الأحرار ﴿رزقاً حسناً﴾ واسعاً طيباً ﴿فهو ينفق منه﴾ دائماً، وهو معنى ﴿سراً وجهراً﴾ وهذا مثل الإله وله المثل الأعلى؛ ثم بكتهم إنكاراً عليهم بقوله تعالى:
215
﴿هل يستوون﴾ أي هذان الفريقان الممثل بهما، لأن المراد الجنس، فإذا كان لا يسوغ في عقل أن يسوي بين مخلوقين: أحدهما حر مقتدر والآخر مملوك عاجز، فكيف يسوي بين حجر موات أو غيره وبين الله الذي له القدرة التامة على كل شيء؟
ولما كان الجواب قطعاً: لا، وعلم أن الفاضل ما كان مثالاً له سبحانه، على أن من سوى بينهما أو فعل ما يؤول إلى التسوية أجهل الجهلة.
فثبت مضمون ﴿إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ وأن غيره تعالى لا يساوي شيئاً، فثبت بلا ريب أنه المختص بالمثل الأعلى، فعبر عن ذلك بقوله تعالى: ﴿الحمد لله﴾ أي له الإحاطة بالعلم وجميع صفات الكمال التي منها اختصاصه بالشكر، لكونه هو المنعم وليس لغيره إحاطة بشيء من ذلك ولا غيره، فكأنهم قالوا: نحن نعلم ذلك، فقيل: ﴿بل أكثرهم﴾ أي في الظاهر والباطن - بما أشار إليه الإضمار ﴿لا يعلمون *﴾ لكونهم يسوون به غيره، ومن نفى عنه العلم - الذي هو أعلى صفات الكمال - كان في عداد الأنعام، فهم لذلك يشبهون به ما ذكر، ويضربون الأمثال الباطلة، ويضيفون نعمه إلى ما لا يعد، ولعله أتى بضمير الغيبة لقصر ذلك على من ختم بموته على الضلال، أو يقال وهو أرشق: لما كان الجواب قطعاً: لا يستووت والفاضل مثالك، فقد علم كل ذي لب أن لك المثل الأعلى، فترجم عن وصفه
216
بقوله «الحمد لله» أي الإحاطة بصفات الكمال للملك الأعظم، وعن نسبتهم إلى علم ذلك بقوله تعالى ﴿بل أكثرهم لا يعلمون﴾ أي ليس لهم علم بشيء أصلاً، لأنهم يعملون في هذا بالجهل، فنسبتهم إلى الغباوة أحسن في حقهم من نسسبتهم إلى الضلال على علم، وسيأتي في سورة لقمان إن شاء الله تعالى ما يكون نافعاً في هذا المقام، وإنما فسرت الحمد بما تقدم لأنه قد مضى في سورة الفاتحة أن مادة «حمد» تدور على بلوغ الغاية، ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة، فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضى فيلزمه الشكر، وبيانه أن الحمد بمعنى الرضا والشكر لأنهما يكونان غالباً من غاية الإحسان، ويرجع إلى ذلك الحمد بمعنى الجزاء وقضاء الحق، وحماداك - بالضم، أي غايتك، ويوم محتمد: شديد الحر، وحمد النار - محركة: صوت التهابها، وأما يتحمد عليّ - بمعنى يمتن - فأصله: يذكر ما يلزم منه حمده، ومنه المدح: وهو حسن الثناء، وتمدح بمعنى تكلف أن يمدح وافتخر
217
وتشبع بما ليس عنده، فإنه في كل ذلك بذل جهده، ودحمه - كمنع: دفعه شديداً، والمرأة: نكحها - لما في ذلك من بلوغ الغاية في الشهوة وما يلزمها من الدفع ونحوه، والدحم - بالكسر: الأصل - لأنه غاية الشيء الذي ينتهي إليه، وحدم النار - ويحرك: شدة احتراقها وحميها، واحتدم الدم: اشتدت حمرته حتى يسود، والحدمة - محركة: النار - لأنها غاية الحر، والحدمة أيضاً: صوتها - لدلالته على قوة التهابها، ومن ذلك الحدمة أيضاً لصوت جوف الحية، أو صوت في الجوف كأنه تغيظ - لأنه يدل على غاية التهاب الباطن، والحدمة - كفرحة: السريعة الغلي من القدور؛ ومن الاتساع: تمدحت الأرض أي اتسعت؛ ومن الاستدارة: الداحوم لحبالة الثعلب - لأنها بلغت الغاية من مراد الصائد، ولأنه لما لم يقدر على الخلاص منها كانت كأنها قد أحاطت به، والدمحمح: المستدير الململم، ودمح تدميحاً: طأطأ رأسه - لأن الانعطاف مبدأ الاستدارة - والله سبحانه وتعالى الموفق.
ولما انقضى هذا المثل كافياً في المراد، ملزماً لهم لاعترافهم بأن الأصنام عبيد الله في قولهم «لبيك اللهم لبيك لا شريك لك
218
إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان ربما كابر مكابر فقال: إنهم ليسوا ملكاً له، أتبعه مثلاً آخر لا تمكن المكابرة فيه، فقال تعالى: ﴿وضرب الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة أيضاً ﴿مثلاً﴾ ثم أبدل منه ﴿رجلين﴾ ثم استأنف البيان لما أجمل فقال تعالى: ﴿أحدهما أبكم﴾ أي ولد أخرس؛ ثم ترجم بكمته التي أريد بها أنه لا يَفهم ولا يُفهِم بقوله: ﴿لا يقدر على شيء﴾ أي أصلاً ﴿وهو كل﴾ أي ثقل وعيال، والأصل فيه الغلظ الذي يمنع من النفوذ، كلت السكين كلولاً - إذا غلظت شفرتها فلم تقطع، وكل لسانه - إذا لم ينبعث في القول، لغلظه وذهاب حده - قاله الرماني ﴿على مولاه﴾ الذي يلي أمره؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى: ﴿أينما يوجهه﴾ أي يرسله ويصرفه ذلك المولى ﴿لا يأت بخير﴾ وهذا مثل شركائهم الذين هم عيال ووبال على عبدتهم.
219
ولما انكشف ضلالهم في تسويتهم الأنداد - الذين لا قدرة لهم على شيء ما - بالله الذي له الإحاطة بكل شيء قدرة وعلماً، حسن كل الحسن توبيخهم والإنكار عليهم بقوله تعالى: ﴿هل يستوي هو﴾ أي هذا المذكور ﴿ومن﴾ أي ورجل آخر على ضد صفته، فهو عالم فطن قوي خبير مبارك الأمر ميمون النقيبة ﴿يأمر﴾ بما له من العلم والقدرة ﴿بالعدل﴾ أي ببذل النصيحة لغيره ﴿وهو﴾ في نفسه ظاهراً وباطناً ﴿على صراط﴾ أي طريق واضح واسع ﴿مستقيم﴾ أي عامل بما يأمر به، وهذا مثال للمعبود بالحق الذي يكفي عابده جميع المؤن، وهو دال على كمال علمه وتمام قدرته.
220
ولما تم هذان المثلان، الدالان على تمام علمه وشمول قدرته، والقاضيان بأن غيره عدم، عطف على قوله ﴿إن الله يعلم﴾ قوله مصرحاً بتمام علمه وشمول قدرته: ﴿ولله﴾ أي هذا علم الله في المشاهدات الذي علم من هذه الأدلة أنه مختص به، ولذي الجلال والإكرام وحده ﴿غيب السماوات والأرض﴾ كما أن له وحده شهادتهما، فما أراد
220
من ذلك كانت قدرته عليه كقدرته على الشهادة من الساعة التي تنكرونها استعظاماً لها، ومن غيرهما بما فصله لكم من أول السورة إلى هنا من خلق السماوات والأرض وما فيهما ﴿وما أمر الساعة﴾ وهي الوقت الذي يكون فيه البعث، على اعتقادكم أنها لا تكون استبعاداً لها واستصعاباً لأمرها في سرعته عند الناس لو رأوه، ولذا عبر عنه بالساعة ﴿إلا كلمح البصر﴾ أي كرجع الطرف المنسوب إلى البصر أيّ بصر كان ﴿أو هو أقرب﴾ وإذا الخلق قد قاموا من قبورهم مهطعين إلى الداعي - هذا بالنسبة إلى علمهم وقياسهم، وأما بالنسبة إليه سبحانه فأمره في الجلالة والعظم والسرعة والإتقان يجل عن الوصف، وتقصر عنه العقول، ولا شك فيه ولا تردد، ولذلك علله بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿على كل شيء﴾ أي ممكن ﴿قدير *﴾.
ولما انقضى توبيخهم على إيمانهم بالباطل وكفرانهم بالحق وما استتبعه، وختم بأمر الساعة، عطف على قوله تعالى ﴿والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً﴾ ما هو من أدلة الساعة وكمال القدرة والفعل بالاختيار من النشأة الأولى، فقال تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له العظمة كلها
221
﴿أخرجكم﴾ بعلمه وقدرته ﴿من بطون أمهاتكم﴾ والذي أخرجكم منها قادر على إخراجكم من بطن الأرض بلا فرق بل بطريق الأولى، حال كونكم عند الإخراج ﴿لا تعلمون شيئاً﴾ من الأشياء قل أو جل، وعطف على ﴿أخرجكم﴾ قوله: ﴿وجعل لكم﴾ بذلك أيضاً ﴿السمع والأبصار والأفئدة﴾ آلات لإزالة الجهل الذي وقعت الولادة عليه، وفتق مواضعها وسواها وعدلها وأنتم في البطون حيث لا تصل إليه يده، ولا يتمكن من شق شيء منه بآلة، فالذي قدر على ذلك في البطون إبداعاً قادر على إعادته في بطن الأرض، بل بطريق الأولى، ولعله جمعهما دون السمع، لأن التفاوت فيهما أكثر من التفاوت فيه بما لا يعلمه إلا الله؛ والأفئدة هي القلوب التي هيأها للفهم وإصلاح البدن بما أودعها من الحرارة اللطيفة القابلة للمعاني الدقيقة ﴿لعلكم تشكرون *﴾ أي لتصيروا - بمعارف القلوب التي وهبكموها إذا سمعتم المواعظ وأبصرتم الآيات - في حال يرجى فيها شكركم لما أفاض عليكم من لطائف صنعه، بأن تعرفوا ما له من العلم والقدرة وحسن التعرف، فتعترفوا له بجميع ما أتتكم به رسله، وأهمه
222
الذي تبنى عليه جميع مقاصد الأصول أو المنعم عليكم بهذه النعم إله واحد عالم بكل شيء قادر على كل شيء فاعل بالاختيار، وأن الطبائع من جملة مقدوراته، لا فعل لها إلا بتصريفه.
ولما كان المقصود من تعداد هذه النعم الإعلام بأنه الفاعل بالاختيار وحده لا الطبائع ولا غيرها، دلهم على ذلك مضموناً إلى ما مضى بقوله مقرراً لهم: ﴿ألم يروا﴾ بالخطاب والغيبة - على اختلاف القراءتين لأن سياق الكلام وسباقه يحتمل المقبل والمعرض بخلاف سياق الملك فإنه للمعرض فقط، فلذا اختلف القراء هنا وأجمعوا هناك ﴿إلى الطير مسخرات﴾ أي مذللات للطيران بما أقامهن الله فيه من المصالح والحكم بالطيران وغيره ﴿في جو السماء﴾ في الهواء بين الخافقين بما لا تقدرون عليه بوجه من الوجوه مع مشاركتكم لها في السمع والبصر وزيادتكم عليها بالعقول، فعلم قطعاً ما وصل بذلك من قوله: ﴿ما يمسكهن﴾ أي في الجو عن الوقوع.
223
ولما كان للسياق هنا مدخل عظيم في الرد على أهل الطبائع وهم الفلاسفة، ولهم وقع عظيم في قلوب الناس، عبر بالاسم الأعظم، إشارة إلى أنه لا يقوى على رد شبههم إلا من أحاط علماً بمعاني الأسماء الحسنى، فكان متمكناً من علم أصول الدين فقال: ﴿إلا الله﴾ أي الملك الأعظم، لأن نسبتكم وإياها إلى الطبيعة واحدة، فلو كان ذلك فعلها لا ستويتم؛ ثم نبههم على ما في ذلك من الحكم بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم من إخراجكم على تلك الهيئة، والإنعام عليكم بما ليس لها، وتقديرها على ما لم تقدروا عليه مع نقصها عنكم ﴿لآيات﴾ ولما كان من لم ينتفع بالشيء كأنه لم يملكه، قال تعالى: ﴿لقوم يؤمنون *﴾ أي هيأهم الفاعل المختار للإيمان.
224
ولما ذكرهم سبحانه بنعمة الإدراك بعد ابتداء الخلق، وأتبعه ما منّ به على الطير من الارتفاع الحامي لها من الحر، أتبعه ما يسكنون إليه فيظلهم ويجمعهم لأنه أهم الأشياء للحيوان، فقال تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة ﴿جعل لكم﴾ أي أيها الغافلون ﴿من بيوتكم﴾ أصل البيت المأوى ليلاً ثم اتسع فيه ﴿سكناً﴾ هو
224
مصدر بمعنى مفعول، ولم يسلط عليكم فيها الحشرات والوحوش كما سلطكم عليهم؛ ثم أتبع ما يخص الحضر ما يصلح له وللسفر بما ميزهم به عن الطير وغيرها من سائر الحيوانات، فقال تعالى: ﴿وجعل لكم﴾ أي إنعاماً عليكم ﴿من جلود الأنعام﴾ التي سلطكم عليها.
ولما كانت الخيام، التي من جلود الأنعام، في ظلها الظليل تقارب بيوت القرى، جمعها جمعاً فقال تعالى: ﴿بيوتاً﴾ فإنهم قالوا: إن هذا الجمع بالمسكن أخص، والأبيات بالشعر أخص ﴿تستخفونها﴾ أي تطالبون بالاصطناع خفها فتجدونها كذلك ﴿يوم ظعنكم﴾ أي وقت ارتحالكم، وعبر به لأنه في النهار أكثر ﴿ويوم إقامتكم﴾ ثم أتبعه ما به كمال السكن فقال تعالى: ﴿ومن أصوافها﴾ أي الضأن منها ﴿وأوبارها﴾ وهي للإبل كالصوف للغنم ﴿وأشعارها﴾ وهي ما كان من المعز ونحوه من المساكن والملابس والمفارش والأخبية وغيرها ﴿أثاثاً﴾ أي متاعاً من متاع البيت كثيراً، من قولهم: شهر أثيث أي كثير، وأث النبت. إذا كثر ﴿ومتاعاً﴾ تتمتعون به
225
﴿إلى حين *﴾ أي وقت غير معين بحسب كل إنسان في فقد ذلك، وأعرض عن ذكر الحرير والكتان والقطن لأنها لم تكن من صناعتهم، وإشارة إلى الاقتصاد وعدم الإسراف.
ولما ذكر ما يخصهم، أتبعه ما يشاركون فيه سائر الحيوانات فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿جعل لكم﴾ أي من غير حاجة منه سبحانه ﴿مما خلق ظلالاً﴾ من الأشجار والجبال وغيرها ﴿وجعل لكم﴾ أي مع غناه المطلق ﴿من الجبال أكناناً﴾ جمع كن وهو ما يستكن به - أي يستتر - من الكهوف ونحوها، ولو كان الخالق غير مختار لكانت على سنن واحد لا ظلال ولا أكنان؛ ثم أتبع ذلك ما هداهم إليه عوضاً مما جعله لسائر الحيوان فقال: ﴿وجعل لكم﴾ أي مَنّاً منه عليكم ﴿سرابيل﴾ أي ثياباً ﴿تقيكم الحر﴾ وهي كل ما لبس من قميص وغيره - كما قال الزجاج.
ولما كانت السرابيل نوعاً واحداً، لم يكرر «جعل» فقال تعالى: ﴿وسرابيل﴾ أي دروعاً ومغافر وغيرها ﴿تقيكم بأسكم﴾ أضافه إليهم إفهاماً لأنه الحرب، وذلك كما جعل لبقية الحيوان - من الأصواف ونحوها والأنياب والأظفار ونحوها - ما هو نحو ذلك يمنع
226
من الحر والبرد، ومن سلاح العدو، ولم يذكر سبحانه هنا وقاية البرد لتقدمها في قوله تعالى ﴿لكم فيها دفء﴾ [النحل: ٥].
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: نبهنا سبحانه بهذا الكلام على تمام نعمة الإيجاد، فهل بعدها من نعمة؟ فقال: نعم! ﴿كذلك﴾ أي كما أتم نعمة الإيجاد عليكم هذا الإتمام العظيم بهذه الأمور ونبهكم عليها ﴿يتم نعمته عليكم﴾ في الدنيا والدين بالهداية والبيان لطريق النجاة والمنافع، والتنبيه على دقائق ذلك بعد جلائله ﴿لعلكم تسلمون *﴾ أي ليكون حالكم - بما ترون من كثرة إحسانه بما لا يقدر عليه غيره مع وضوح الأمر - حال من يرجى منه إسلام قياده لربه، فلا يسكن ولا يتحرك إلا في طاعته.
227
فلما صار هذا البيان، إلى أجلى من العيان، كان ربما وقع في الوهم أنهم إن لم يجيبوا لِحقَ الداعي بسبب إعراضهم حرج، فقال تعالى نافياً لذلك معرضاً عنهم بإعراض المغضب، مقبلاً عليه
227
صلى الله عليه وعلى آله وسلم إقبال المسلي، معبراً بصيغة التفعل المفهمة لأن الفطر الأولى داعية إلى الإقبال على الله فلا يعرض صاحبها عما يرضيه سبحانه إلا بنوع معالجة: ﴿فإن تولوا﴾ أي كلفوا أنفسهم الإعراض ومتابعة الأهواء فلا تقصير عليك بسبب توليهم ولا حرج ﴿فإنما﴾ أي بسبب أنه إنما ﴿عليك البلاغ المبين *﴾ وليس عليك أن تردهم عن العناد، فكأنه قيل: فهل كان إعراضهم عن جهل أو عناد؟ فقيل فيهم وفيهم: ﴿يعرفون﴾ أي كلهم ﴿نعمت الله﴾ أي الملك الأعظم، التي تقدم عد بعضها في هذه السورة وغيرها ﴿ثم ينكرونها﴾ بعبادتهم غير المنعم بها أو بتكذيب الآتي بالتنبيه عليها، بعضهم لضعف معرفته، وبعضهم عناداً، وكان بعضهم يقول: هي من الله ولكن بشفاعة آلهتنا ﴿وأكثرهم﴾ أي المدعوين بالنسبة إلى جميع أهل الأرض الذين أدركتهم دعوته صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿الكافرون *﴾ أي المعاندون الراسخون في الكفر.
ولما كان من أجل المقاصد بهذه الأساليب التخويف من البعث، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعراض عن البيان والإصرار على كفران المعروف من الإحسان إلا المجازاة لأن الحكيم يمهل ولا يهمل،
228
قال تعالى: عاطفاً على ثمرة ﴿فإنما عليك البلاغ المبين﴾ وهي: فبلغهم وبين لهم ولا تيأس من رجوعهم: ﴿ويوم﴾ أي وخوفهم يوم ﴿نبعث﴾ بعد البعث ﴿من كل أمة شهيداً﴾ يحكم بقوله الملك إجراء للأمر على ما يتعارفون وإن كان غنياً عن شهيد.
ولما كان الإذن لهم في الاعتذار في بعض المواقف الطويلة في ذلك اليوم متعذراً، عبر عنه سبحانه بأداة البعد فقال تعالى: ﴿ثم لا يؤذن﴾ أي لا يقع إذن على تقدير من التقادير ﴿للذين كفروا﴾ أي بعد شهادة الشهداء في الاعتذار كما يؤذن في هذه الدار للمشهود عليه عند السؤال في الإعذار، لأنه لا عذر هناك في الحقيقة ﴿ولا هم﴾ أي خاصة ﴿يستعتبون *﴾ أي ولا يطلب منهم الإعتاب المؤثر للرضى وهو إزالة العتب وهو الموجدة المعبر بها عن الغضب المعبر به عن آثاره من السطوة والانتقام، وأخذ العذاب لأهل الإجرام من قبيح ما ارتكبوا، لأن تلك الدار ليست بدار تكليف؛ ثم وصل به أن ما يوجبه الغضب يدوم عليهم في ذلك اليوم، فقال تعالى عاطفاً على
229
ما بعد «ثم» :﴿وإذا رءا﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً فقال تعالى: ﴿الذين ظلموا﴾ فعبر بالوصف الموجب للعذاب ﴿العذاب﴾ بعد الموقف وشهادة الشهداء، وجزاء الشرط محذوف لدلالة ما قرن بالفاعلية تقديره: لابسهم ﴿فلا يخفف﴾ أي يحصل تخفيف بنوع من الأنواع ولا بأحد من الخلق ﴿عنهم﴾ شيء منه ﴿ولا هم ينظرون *﴾ بالتأخير ولا لحظة بوجه من الوجوه على تقدير من التقادير من أحد ما.
ولما بين سبحانه حاصل أمرهم في البعث وما بعده، وما من أهم المهم أمرهم في الموقف مع شركائهم الذين كانوا يترجونهم، عطف على ذلك قوله تعالى: ﴿وإذا رءا﴾ أي بالعين يوم القيامة ﴿الذين أشركوا﴾ فأظهر أيضاً الوصف المناسب للمقام ﴿شركاءهم﴾ أي الآلهة التي كانوا يدعونها شركاء ﴿قالوا ربنا﴾ يا من أحسن إلينا وربانا! ﴿هؤلاء شركاؤنا﴾ أضافوهم إلى أنفسهم لأنه لا حقيقة لشركتهم سوى تسميتهم لها الموجب لضرهم؛ ثم بينوا المراد بقولهم: ﴿الذين كنا ندعوا﴾ أي نعبد.
ولما كانت المراتب متكثرة دون رتبته سبحانه لأن علوه غير منحصر، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من دونك﴾ ليقربونا إليك، فأكرمنا لأجلهم
230
جرياً على منهاجهم في الدنيا في الجهل والغباوة، فخاف الشركاء من عواقب هذا القول والإقرار عليه سطوات الغضب ﴿فألقوا﴾ أي الشركاء ﴿إليهم﴾ أي المشركين ﴿القول﴾ أي بادروا به حتى كان إسراعه إليهم إسراع شيء ثقيل يلقى من علو؛ وأكدوا قولهم لأنه مطاعنة لقول المشركين فقالوا: ﴿إنكم لكاذبون *﴾ في جعلنا شركاء وأنا نستحق العبادة أو نشفع أو يكون لنا أمر نستحق به أن نذكر ﴿وألقوا﴾ أي الشركاء ﴿إلى الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة إذ نبعث من كل أمة شهيداً ﴿السلم﴾ أي الانقياد والاستسلام بما علم به الكفار أنهم من جملة العبيد لا أمر لهم أصلاً، فأصلد زندهم، وخاب قصدهم، وقيد بذلك اليوم لأنهم كانوا في الدنيا - بتزيين الشياطين لأمورهم ونطقهم على ألسنتهم - بحيث يظن عابدوهم أن لهم منعة، وبهم قوة ويجوز أن يكون ضمير «ألقوا» للمشركين ﴿وضل عنهم﴾ أي عن الكفار ﴿ما كانوا﴾ أي بجبلاتهم ﴿يفترون *﴾ أي يتعمدون من دعوى النفع لهم والضر كذباً وفجوراً، فكأنه قيل: هذا للذين أشركوا، فما للذين كانوا دعاة إلى الشرك مانعين من الانتقال عنه؟ فقيل: ﴿الذين كفروا﴾ أي أوجدوا
231
الكفر في أنفسهم ﴿وصدوا﴾ مع ذلك غيرهم ﴿عن سبيل الله﴾ أي الذي له الإحاطة كلها ﴿زدناهم﴾ أي بما لنا من العظمة، بصدهم غيرهم ﴿عذاباً فوق العذاب﴾ الذي استحقوه على مطلق الشرك ﴿بما كانوا﴾ أي كوناً جبلياً ﴿يفسدون *﴾ أي يوقعون الفساد ويجددونه؛ ثم كرر التحذير من ذلك اليوم على وجه يزيد على ما أفهمته الآية السالفة، وهو أن الشهادة تقع على الأمم لا لهم، وتكون بحضرتهم، فقال تعالى: ﴿ويوم﴾ أي وخوفهم يوم ﴿نبعث﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿في كل أمة﴾ من الأمم ﴿شهيداً﴾ أي هو في أعلى رتب الشهادة ﴿عليهم﴾.
ولما كانت بعثة الأنبياء السابقين عليهم السلام خاصة بقومهم إلا قليلاً، قال: ﴿من أنفسهم﴾ وهو نبيهم.
ولما كان لذلك اليوم من التحقق ما لا شبهة فيه بوجه وكذا شهادة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عبر بالماضي إشارة إلى ذلك، وإلى أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يزل من حين بعثه متصفاً بهذه الصفة العلية فقال تعالى: ﴿وجئنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿بك شهيداً﴾ أي شهادة هي مناسبة لعظمتنا ﴿على هؤلاء﴾ أي الذين بعثناك
232
إليهم وهم أهل الأرض، وأكثرهم ليس من وقوعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك لم يقيد بعثته بشيء؛ ثم بين أنه لا إعذار في شهدائه فإنه لا حجة في ذلك اليوم لمن خالف أمره اليوم، لأنه سبحانه أزاح العلل، وترك الأمر على بيضاء نقية ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فقال عاطفاً على قوله ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب﴾ - الآية، المتعقب لقوله ﴿لا جرم﴾ - الآيتين: ﴿ونزلنا﴾ أي بعظمتنا بحسب التدريج والتنجيم ﴿عليك الكتاب﴾ الجامع للهدى ﴿تبياناً﴾ أي لأجل البيان التام، قالوا: وهو اسم وليس بمصدر كتلقاء ﴿لكل شيء﴾ ورد عليك من أسئلتهم ووقائعهم وغير ذلك، وهو في أعلى طبقات البيان كما أنه في أعلى طبقات البلاغة، لأن المعنى به أسرع إلى الأفهام وأظهر، في الإدراك، والنفس أشد تقبلاً له لما هو عليه من حسن النظام والقرب إلى الافهام، وإنما احتيج إلى تفسيره مع أنه في نهاية البيان لتقصير الإنسان في العلم بمذاهب العرب الذين هم الأصل في هذا اللسان، وتقصير العرب عن جميع مقاصده كما قصروا عن درجته في البلاغة، فرجعت الحاجة إلى تقصير الفهم لا إلى تقصير الكلام في البيان، ولهذا تفاوت الناس في فهمه لتفاوتهم في درجات البلاغة ومعرفة طرق العرب في جميع أساليبها؛ قال الإمام الشافعي
233
رضي الله عنه في آخر خطبة الرسالة بعد أن دعا الله تعالى أن يرزقه فهماً في كتابه ثم في سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها، واحتج بآيات منها هذه، وذلك لأنه سبحانه بين فيه التوحيد والمبدأ والمعاد والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود والأحكام بالنص على بعضها، وبالإحالة على السنة في الآخر، وعلى الإجماع في نحو قوله تعالى ﴿ويتبع غير سبيل المؤمنين﴾ [النساء: ١١٥] وعلى الاقتداء بالخلفاء الراشدين في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وبالاقتداء بجميع أصحابه رضي الله عنهم في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد ولم يخرج أحد منهم عن الكتاب والسنة، فهو من دلائل النبوة في كونه صلى الله عليه وعلى آله وسلم شهيداً لكونه ما أخبر عنهم إلا بما هم أهله.
234
ولما كان لتبيان قد يكون للضلال، قال تعالى: ﴿وهدى﴾ أي موصلاً إلى المقصود. ولما كان ذلك قد لا يكون على سبيل الإكرام، قال تعالى: ﴿ورحمة﴾ ولما كان الإكرام قد لا يكون بما هو في أعلى طبقات السرور، قال سبحانه: ﴿وبشرى﴾ أي بشارة عظيمة جداً ﴿للمسلمين﴾ ويجوز أن يكون التقدير ﴿في كل أمة شهيداً عليهم﴾ وهو رسولهم الذي أرسلناه إليهم في الدنيا ﴿وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ لكوننا أرسلناك إليهم وجعلناك أميناً عليهم ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾ فلا عذر لهم، فيكون معطوفاً على ما دل الكلام السابق دلالة واضحة على تقديره.
235
ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم، فقال تعالى جامعاً لما يتصل بالتكاليف فرضاً ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً: ﴿إن الله﴾ أي الملك المستجمع لصفات الكمال ﴿يأمر بالعدل﴾ وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه،
235
وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء، وتارة يقال: هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه، وتارة يقال: هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة وبه يستتب أمر العالم، وبه قامت السماوات والأرض، وهو وسط كل أطرافه جور، وبالجملة الشرع مجمع العدل، وبه تعرف حقائقه، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل - ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال لمحمد بن كعب القرظي رضي الله عنه: صف لي العدل، فقال: كن لصغير الناس أباً، ولكبيرهم ابناً، وللمثل أخاً، وللنساء كذلك، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم، ولا تضربن
236
لغضبك سوطاً واحداً فتعدَّى فتكون من العادين انتهى. ﴿والإحسان﴾ وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه، فالعدل فرض، والإحسان فضل، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس، لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى، وشهود الله وحده، وهو التوحيد على الحقيقة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وهو روح الإنسانية، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال:: «حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: وأنا غلام أعقل وأفهم، قال: فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقولسوّ ذا أو خذ ذا! قال: حتى ظن الناس أنها سنة، فالتفت إليهم فقال: أن هذا لا ينفع الميت ولا يضره، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا
237
عمل أن يحسن»
﴿وإيتاء ذي القربى﴾ فإنه من الإحسان، وهو أولى الناس بالبر، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم.
ولما أمر بالمكارم، نهى عن المساوىء والملائم فقال تعالى: ﴿وينهى عن الفحشاء﴾ وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان ﴿والمنكر﴾ وهو ما قصر عن العدل في الجملة ﴿والبغي﴾ وهو الاستعلاء على الغير ظلماً، وقال البيضاوي في سورة الشورى: هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية. وهو من المنكر، صرح به اهتماماً، وهو أخو قطيعة الرحم ومشارك لها في تعجيل العقوبة «ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه ورفعه، وأصل البغي الإدارة، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور - المحذور عند حذف مفعوله، لأن الإنسان - لكونه مجبولاً على النقصان - لا يكاد يصلح منه إرادة، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار، مع الملك الجبار، الواحد القهار، فتكون إرادته تابعة لإرادته، واختياره من وراء طاعته، وعن الحسن أن الخلقين
238
الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها.
ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة، وزاد من الحسن ما شاء، فإن الإحسان من ثمرات العفة، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة إذن فيما سواه منها، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم وكان هذا أبلغ وعظ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى: ﴿يعظكم﴾ أي يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة ﴿لعلكم تذكرون *﴾ أي ليكون حالكم حال من يرجى تذكره، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل، الداعي إلى كل خير، الناهي عن كل ضير، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات، فمن كان له عقل واعتبر بعقله علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه، وعز اسمه، وتعالى جده، وعظم أمره!.
239
ولما تقررت هذه الجمل التي جمعت - بجمعها للمأمورات والمنهيات ما تضيق عنه الدفاتر والصدور، وشهد لها المعاندون من بلغاء العرب أنها بلغت قاموس البحر وتعالت عن طوق البشر، عطف على ما أفهمه السياق - من نحو: فتذكروا أو فالزموا ما أمرتم به ونابذوا ما نهيتم عنه - بعض ما أجملته، وبدأ بما هو مع جمعه أهم وهو الوفاء بالعهد الذي يفهم منه العلماء بالله ما دل عليه العقل من الحجج القاطعة بالتوحيد وصدق الرسل ووجوب اتباعهم، فكانت أعظم العهود، ويفهم منه غيرهم ما يتعارفونه مما يجري بينهم من المواثيق، فإذا ساروا فيها بما أمر سبحانه وتحروا رضاه علماً منهم بأنه العدل، قادهم ذلك إلى رتبة الأولين فقال تعالى: ﴿وأوفوا﴾ أي أوقعوا الوفاء الذي لا وفاء في الحقيقة غيره ﴿بعهد الله﴾ أي الملك الأعلى الذي عاهدكم عليه بأدلة العقل والنقل من التوحيد وغيره من أصول الدين وفروعه
﴿الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق﴾ [الرعد: ٢٠] ﴿وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه﴾ [البقرة: ٢٧] ﴿إذا عاهدتم﴾ بتقبلكم له بإذعانكم لأمثاله من الأدلة فيما عرف من عوائدكم، وصرحتم به
240
عند شدائدكم ﴿ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون﴾ ثم عطف عليه ما هو من جنسه وأخص منه فقال تعالى: ﴿ولا تنقضوا الأيمان﴾ واحترز عن لغو اليمين بقوله تعالى: ﴿بعد توكيدها﴾ وحذف الجار لأن المنهي عنه إنما هو استغراق زمان البعد بالنقض، وذلك لا يكون إلا بالكذب الشامل له كله، بعضه بالقوة وبعضه بالفعل، ولعله جمع إشارة إلى أن المذموم استهانتها من غير توقف على كفارة، لأن من فعل ذلك ولو في واحدة كان فاعلاً ذلك في الجميع، بخلاف من ينقض ما نقضه خير بالكفارة فإنه ناقض للبعض لا للكل، لأنه دائر مع الخير والأول دائر مع الهوى؛ ثم حذرهم من النقض بأنه مطلع قادر، فقال تعالى مقبحاً حالهم إذ ذاك: ﴿وقد جعلتم الله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿عليكم كفيلاً﴾ أي شاهداً ورقيباً.
ولما كان من شأن الرقيب حفظ أحوال من يراقبه، قال تعالى مرغباً مرهباً: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿يعلم ما تفعلون *﴾ فلم تفعلوا شيئاً إلا بمشيئته وقدرته، فكانت كفالته مجعولة بهذا الاعتبار وإن لم يصرح بالجعل، فمتى نقضتم فعل بكم فعل الكفيل القادر
241
بالمكفول المماطل من أحد الحق والعقوبة.
ولما أمر بالوفاء ونهى عن النقض، شرع في تأكيد وجوب الوفاء وتحريم النقض وتقبيحه تنفيراً منه فقال تعالى: ﴿ولا تكونوا﴾ أي في نقضكم لهذا الأمر المعنوي ﴿كالتي نقضت غزلها﴾ ولما كان النقض لم يستغرق زمان البعد، قال تعالى: ﴿من بعد قوة﴾ عظيمة حصلت له ﴿أنكاثاً﴾ أي أنقاضاً، جمع نكث وهو كل شيء نقض بعد الفتل سواء كان حبلاً أو غزلاً، فهو مصدر مجموع من نقضت لأنه بمعنى نكثت، قال في القاموس: النكث - بالكسر أن تنقض أخلاق الأكسية لتغزل ثانية. فيكون مثل جلست قعوداً، أي فتكونوا بفعلكم ذلك كهذه المرأة التي ضربتم المثل بها في الخرق مع ادعائكم أنه يضرب بأدناكم المثل في العقل، ثم وصل بذلك ما يعرف أنهم أسفه من تلك المرأة بسبب أن ضررها لا يتعداها، وأما الضرر بفعلهم فإنه مفسد لذات البين فقال تعالى: ﴿تتخذون﴾
242
أي بتكليف الفطرة الأولى ضد ما تدعو إليه من الوفاء ﴿أيمانكم دخلاً﴾ أي فيضمحل كونها أيماناً إلى كونها ذريعة إلى الفساد بالخداع والغرور ﴿بينكم﴾ من حيث إن المحلوف له يطمئن فيفجأه الضرر، ولو كان على حذر لما نيل منه ولا جسر عليه، وكل ما أدخل في الشيء على فساد فهو دخل ﴿إن﴾ أي تفعلون ذلك بسب أن ﴿تكون أمة﴾ أي وهي الخادعة أو المخدوعة لأجل سلامتها ﴿هي﴾ أي خاصة ﴿أربى﴾ أي أزيد وأعلى ﴿من أمة﴾ في القوة أو العدد، فإذا وجدت نفاداً لزيادتها غدرت.
ولما عظم عليهم النقض، وبين أن من أسبابه الزيادة، حذرهم غوائل البطر فقال تعالى: ﴿إنما يبلوكم﴾ أي يختبركم ﴿الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿به﴾ أي يعاملكم معاملة المختبر بالأيمان والزيادة ليظهر للناس تمسككم بالوفاء أو انخلاعكم منه اعتماداً على كثرة أنصاركم وقلة أنصار من نقضتم عهده من المؤمنين «أو غيرهم» مع قدرته سبحانه على ما يريد، فيوشك أن يعاقب بالمخالفة فيضعف القوي ويقلل
243
الكثير ﴿وليبينن لكم﴾ أي إذا تجلى لفصل القضاء ﴿يوم القيامة﴾ مع هذا كله ﴿ما كنتم﴾ أي بجبلاتكم ﴿فيه تختلفون *﴾ فاحذروا يوم العرض على ملك الملوك بحضرة الرؤساء والملوك وجميع المعبودات والكل بحضرته الشماء داخرون، ولديه صاغرون، ومن نوقش الحساب يهلك.
244
ولما أمر ونهى، وخوف من العذاب في القيامة، وكان ربما ظن من لا علم له - وهم الأكثر - من كثرة التصريح بالحوالة على القيامة نقص القدرة في هذه الدار، صرح بنفي ذلك بقوله تعالى: ﴿ولو شاء الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، أن يجعلكم أمة واحدة لا خلاف بينكم في أصول الدين ولا فروعه ﴿لجعلكم أمة واحدة﴾ متفقة على أمر واحد لا تؤم غيره، منفياً عنها أسباب الخلاف ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك وشاء اختلافكم، فهو ﴿يضل من يشاء﴾ عدلاً منه، لأنه تام الملك عام الملك ولو كان الذي أضله على أحسن الحالات ﴿ويهدي﴾ بفضله ﴿من يشاء﴾ ولو كان على أخس الأحوال،
244
فبذلك يكونون مختلفين في المقاصد، يؤم هذا غير ما يؤمه هذا، فيأتي الخلاف مع تأدية العقل إلى أن الاجتماع خير من الافتراق فالاختلاف مع هذا من قدرته الباهرة.
ولما تقرر بهذا أن الكل فعله وحده فلا فعل لغيره أصلاً، كان ربما أوقع في الوهم أنه لا حرج على أحد في شيء يفعله بين أن السؤال يكون عن المباشرة ظاهراً على ما يتعارف الناس في إسناد الفعل إلى من ظهر اكتسابه له، فقال تعالى مرغباً مرهباً مؤكداً لإنكارهم البعث عما ينشأ عنه: ﴿ولتسئلن عما كنتم﴾ أي كوناً أنتم مجبولون عليه ﴿تعلمون *﴾ وإن دق، فيجازي كلاًّ منكم على عمله وإن كان غنياً عن السؤال، فهو بكل شيء عليم.
ولما بين أن الكذب وما جر إليه أقبح القبائح، وأبعد الأشياء عن المكارم، وكان من أعظم أسباب الخلاف، فكان أمره جديراً بالتأكيد، أعاد الزجر عنه بأبلغ مما مضى بصريح النهي مرهباً مما يترتب على ذلك، فقال معبراً بالافتعال إشارة إلى أن ذلك لا يفعل
245
إلا بعلاج شديد من النفس لأن الفطرة السليمة يشتد نفارها منه: ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً﴾ أي فساداً ومكراً وداء وخديعة ﴿بينكم﴾ أي في داخل عقولكم وأجسامكم ﴿فتزل﴾ أي فيكون ذلك سبباً لأن تزل ﴿قدم﴾ هي في غاية العظمة بسبب الثبات ﴿بعد ثبوتها﴾ عن مركزها الذي كانت به من دين أو دنيا، فلا يصير لها قرار فتسقط عن مرتبتها، وزلل القدم تقوله العرب لكل ساقط في ورطة بعد سلامة ﴿وتذوقوا السوء﴾ مع تلك الزلزلة ﴿بما صددتم﴾ أي أنفسكم ومنعتم غيركم بأيمانكم التي أردتم بها الإفساد لإخفاء الحق ﴿عن سبيل الله﴾ أي الملك الأعلى، يتجدد لكم هذا الفعل ما دمتم على هذا الوصف ﴿ولكم﴾ مع ذلك ﴿عذاب عظيم﴾ ثابت غير منفك إذا متم على ذلك.
ولما كان هذا خاصاً بالأيمان، أتبعه النهي عن الخيانة في عموم العهد تأكيداً بعد تأكيد للدلالة على عظيم النقض فقال تعالى: ﴿ولا تشتروا﴾ أي تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر في
246
العواقب أن تأخذوا وتستبدلوا ﴿بعهد الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿ثمناً قليلاً﴾ أي من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً، ثم علل قلته بقوله تعالى: ﴿إنما عند الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين ﴿هو خير لكم﴾ ولا يعدل عن الخير إلى ما دونه إلا لجوج ناقص العقل؛ ثم شرط علم خيريته بكونهم من ذوي العلم فقال تعالى: ﴿إن كنتم﴾ أي بجبلاتكم ﴿تعلمون *﴾ أي ممن يتجدد له علم ولم تكونوا في عداد البهائم، فصار العهد الشامل للأيمان مبدوءاً في هذه الآيات بالأمر بالوفاء به ومختوماً بالنهي عن نقضه، والأيمان التي هي أخص منه وسط بين الأمر والنهي المتعلقين به، فصار الحث عليها على غاية من التأكيد عظيمة ورتبة من التوثيق جليلة، ثم بين خيريته وكثرته بقوله تعالى على سبيل التعليل: ﴿ما عندكم﴾ أي من أعراض الدنيا، وهو الذي تتعاطونه بطباعكم ﴿ينفد﴾ أي يفنى، فصاحبه منغص العيش أشد ما يكون به اغتباطاً بانقطاعه أو بتجويز انقطاعه إن كان في عداد من يعلم ﴿وما عند الله﴾ أي الذي
247
له الأمر كله من الثواب ﴿باق﴾ فليؤتينكم منه إن ثبتم على عهده؛ ثم لوح بما في ذلك من المشقة عطفاً على هذا المقدر فقال تعالى مؤكداً لأجل تكذيب المكذبين: ﴿ولنجزين﴾ أي الله - على قراءة الجماعة بالياء ونحن - على قراءة ابن كثير وعاصم بالنون التفاتاً إلى التكلم للتعظيم ﴿الذين صبروا﴾ على الوفاء بما يرضيه من الأوامر والنواهي ﴿أجرهم﴾ ولما كان كرماء الملوك يوفون الأجور بحسب الأعمال من الأحسن وما دونه، أخبر بأنه يعمد إلى الأحسن فيرفع الكل إليه ويسوي الأدون به فقال: ﴿بأحسن ما كانوا﴾ أي كوناً هو جبلة لهم ﴿يعملون *﴾.
ولما وعد بعد أن توعد، أتبعه ما يبين أن ذلك لا يخص شريفاً ولا وضيعاً، وإنما هو دائر مع الوصف الذي رمز إليه فيما مضى بالعدل تارة، وبالعهد أخرى، وهو الإيمان، فقال تعالى جواباً لمن كأنه قال: هذا خاص بأحد دون أحد، مرغباً في عموم شرائع الإسلام: ﴿من عمل صالحاً﴾ ولما كانت عامة، وكانت ربما خصت الذكور، بين المراد من عمومها بقوله تعالى: ﴿من ذكر أو أنثى﴾ فعم ثم قيد مشيراً بالإفراد إلى قلة الراسخين
248
بقوله تعالى: ﴿وهو مؤمن﴾.
ولما كان الإنسان كلما علا في درج الإيمان، كان جديراً بالبلاء والامتحان، بين تعالى أن ذلك لا ينافي سعادته، ولذلك أكد قوله: ﴿فلنحيينه﴾ دفعاً لما يتوهمه المستدرجون بما يعجل لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ﴿حياة طيبة﴾ أي في الدنيا بما نؤتيه من ثبات القدم، وطهارة الشيم ﴿ولنجزينهم﴾ كلهم ﴿أجرهم﴾ في الدنيا والآخرة ﴿بأحسن ما كانوا﴾ أي كوناً جبلياً ﴿يعملون *﴾ قال العلماء رضي الله عنهم: المطيع في عيشه هنيئة، إن كان موسراً فلا كلام فيه، وإن كان معسراً فبالقناعة والرضى بحكم النفس المطمئنة، والفاجر بالعكس، إن كان معسراً فواضح، وإن كان موسراً فحرصه لا يدعه يتهنأ فهو لا يزال في عيشة ضنك.
ولما تقررت هذه الأحكام على هذه الوجوه الجليلة، وأشارت بحسن ألفاظها وشرف سياقها إلى أغراض هي مع جلالتها غامضة دقيقة، فلاح بذلك أن القرآن تبيان لكل شيء في حق من سلم من غوائل الهوى وحبائل الشيطان، وختم ذلك بالحث على العمل الصالح، وكان القرآن تلاوة وتفكراً وعملاً بما ضمن
249
أجل الأعمال الصالحة، تسبب عن ذلك الأمر بأنه إذا قرىء هذا القرآن المنزل على مثل تلك الأساليب الفائقة يستعاذ من الشيطان لئلا يحول بوساوسه بين القارىء وبين مثل تلك الأغراض والعمل بها، وحاصله الحث على التدبر وصرف جميع الفكر إلى التفهم والالتجاء إليه تعالى في كل عمل صالح لئلا يفسده الشيطان بوساوسه، أو يحول بين الفهم وبينه، بياناً لقدر الأعمال الصالحة، وحثاً على الإخلاص فيها وتشمير الذيل عند قصدها، لا سيما أفعال القلوب التي هي أغلب ما تقدم هنا، فقال تعالى مخاطباً لأشرف خلقه ليفهم غيره من باب الأولى فيكون أبلغ في حثه وأدعى إلى اتباعه: ﴿فإذا قرأت﴾ أي أردت أن تقرأ مثل ﴿وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا﴾ [الأعراف: ٤] ﴿القرآن﴾ الذي هو قوام العمل الصالح والداعي إليه والحاث عليه، مع كونه تبياناً لكل شيء، وهو اسم جنس يشمل القليل منه والكثير ﴿فاستعذ﴾ أي إن شئت جهراً وإن شئت سراً؛ قال الإمام الشافعي: والإسرار أولى في الصلاة، وفي قول: يجهر كما يفعل خارج الصلاة. ﴿بالله﴾ أي سل الذي له الكمال كله أن يعيذك ﴿من الشيطان﴾ أي المحترق باللعنة ﴿الرجيم *﴾ أي المطرود عن الرحمة من أن يصدك بوساوسه عن اتباعه، فإنه لا عائق
250
عن الإذعان، لأساليبه الحسان، إلا خذلان الرحمن، بوساوس الشيطان، فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأن ذلك أوفق للقرآن، وقد ورد به بعض الأخبار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً وهو المشهور ونص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه، والصارف لهذا الأمر عن الوجوب أحاديث كثيرة فيها القراءة بدون ذكر تعوذ كحديث البخاري وغيره «عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال له ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت أصلي، قال: ألم يقل الله: ﴿استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم﴾ [الأنفال: ٢٤] ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ » وفي رواية الموطأ «أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم نادى أبياً وأنه قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبي: فقرأت ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ حتى أتيت على آخرها»
ومن طالع كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» رأى مثل هذا أحاديث جداً من أحسنها حديث
251
نزول سورة الكوثر، وقيل: التعوذ بعد القراءة لظاهر الآية، وختام القرآن بالمعوذتين موافق لهذا القول بالنسبة إلى الحال، والقول الأول الصحيح بالنسبة إلى ما ندب إليه المرتحل من قراءة الفاتحة وأول البقرة.
ولما كان ذلك ربما هو أوهم تعظيمه، نفى ذلك بقوله جواباً لمن كأنه قال: هل له سلطان؟ :﴿إنه ليس له سلطان﴾ أي بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه ﴿على الذين ءامنوا﴾ بتوفيق ربهم لهم ﴿وعلى ربهم﴾ أي وحده ﴿يتوكلون *﴾ ويجوز أن يكون المعنى أنه لما تقرر في الأذهان أنه لا نجاة من الشيطان، لأنه سلط علينا بأنه يرانا من حيث لا نراه ويجري فينا مجرى الدم، وكانت فائدة الاستعاذة الإعاذة، أشير إلى حصولها بقوله على سبيل التعليل «إنه» أي استعذ بالله يعذك منه، لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا بالله ليردهم كلهم عما
252
يرضي الله، وعلى ربهم وحده يتوكلون، ثم وصل بذلك ما أفهمه من أن له سلطاناً على غيرهم فقال تعالى: ﴿إنما سلطانه﴾ أي الذي يتمكن به غاية التمكن بإمكان الله له ﴿على الذين يتولونه﴾ أي تولوه وأصروا على ذلك بتجديد ولايته كل حين ﴿والذين هم﴾ أي بظواهرهم وبواطنهم ﴿به﴾ أي بالشيطان ﴿مشركون *﴾ دائماً لأنهم إذا تبعوا وساوسه، وأطاعوا أوامره فقد عبدوه فجعلوه بذلك شريكاً، فهم لا يتأملون دقائق القرآن بل ولا يفهمون ظواهره على ما هي عليه لما أعماهم به الشيطان من وساوسه، وحبسهم به عن هذه الأساليب من محابسه، فهم لا يزالون يطعنون فيه بقلوب عمية وألسنة بذية؛ ثم عطف على هذا المقدر - الذي دل عليه الكلام - ما أنتجه تسلط الشيطان عليهم فقال تعالى: ﴿وإذا بدلنا﴾ أي بعظمتنا بالنسخ ﴿ءاية﴾ سهلة كالعدة بأربعة أشهر وعشر، وقتال الواحد من المسلمين لاثنين من الكفار، أو شاقّة كتحريم الخمر وإيجاب صلوات خمس، فجعلناها
253
﴿مكان ءاية﴾ شاقة كالعدة بحول، ومصابرة عشرة من الكفار، أو سهلة كالآيات المتضمنة لإباحة الخمر وإيجاب ركعتين أول النهار وركعتين آخره، فكانت الثانية مكان الأولى وبدلاً منها، أو يكون المعنى: نسخنا آية صعبة فجعلنا مكانها آية سهلة؛ والتبديل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الشاملة ﴿أعلم بما ينزل﴾ من المصالح بحسب الأوقات والأحوال بنسخ أو بغيره ﴿قالوا﴾ أي الكفار ﴿إنما أنت﴾ أي يا محمد! ﴿مفتر﴾ أي فإنك تأمر اليوم بشيء وغداً تنهى عنه وتأمر بضده، وليس الأمر كما قالوا ﴿بل أكثرهم﴾ وهم الذين يستمرون على الكفر ﴿لا يعلمون *﴾ أي لا يتجدد لهم علم، بل هم في عداد البهائم، لعدم انتفاعهم بما وهبهم الله من العقول، لانهماكهم في اتباع الشيطان، حتى زلت أقدامهم في هذا الأمر الواضح بعد إقامة البرهان بالإعجاز على أن كل ما كان معجزاً كان من عند الله، سواء كان ناسخاً أو منسوخاً أو لا، فصارت معرفة أن هذا القرآن وهذا غير قرآن بعرضه على هذا البرهان من أوضح الأمور وأسهلها تناولاً لمن أراد ذلك منهم أو من غيرهم من فرسان البلاغة
254
فكأنه قيل: فما أقول؟ فقال: ﴿قل﴾ لمن واجهك بذلك منهم: ﴿نزله﴾ أي القرآن بحسب التدريج لأجل اتباع المصالح لإحاطة علم المتكلم به ﴿روح القدس﴾ الذي هو روح كله، ليس فيه داعٍ إلى هوى، فكيف يتوهم فيما ينزله افتراء لا سيما مع إضافته الطهر البالغ، فهو ينزله ﴿من ربك﴾ أيها المخاطب الذي أحسن إليك بإنزاله ثم بتبديله بحسب المصالح كما أحسن تربيتك بالنقل من حال إلى حال لا يصلح في واحدة منها ما يصلح في غيرها من الظهر إلى البطن، ثم من الرضاع إلى الفطام، فما بعده، فكيف تنكر تبديل الأحكام للمصالح ولا تنكر تبديل الأحوال لذلك، حال كون ذلك الإنزال ﴿بالحق﴾ أي الأمر الثابت الذي جل عن دعوى الافتراء بأنه لا يستطاع نقضه ﴿ليثبت﴾ أي تثبيتاً عظيماً ﴿الذين آمنوا﴾ في دينهم بما يرون من إعجاز البدل والمبدل مع تضاد الأحكام، وما فيه من الحكم والمصالح بحسب تلك الأحوال - مع ما كان في المنسوخ من مثل ذلك بحسب الأحوال السالفة - وليتمرنوا على حسن الانقياد، ويعلم بسرعة انقيادهم في ترك الألف تمام استسلامهم وخلوصهم عن شوائب الهوى؛ ثم عطف على محل ﴿ليثبت﴾ قوله: ﴿وهدى﴾ أي بياناً واضحاً ﴿وبشرى﴾ أي بما فيه من تجدد العهد
255
بالملك الأعلى وتردد الرسول بينه وبينهم بوساطة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿للمسلمين *﴾ المنقادين المبرئين من الكبر الطامس للأفهام، المعمي للأحلام، ولولا مثل هذه الفوائد لفاتت حكمة تنجيمه.
256
ولما نقض شبهتهم هذه إشارة وعبارة بما فضحهم، نقض لهم شبهة أخرى بأوضح من ذلك وأفضح فقال تعالى: ﴿ولقد نعلم﴾ أي علماً مستمراً ﴿أنهم يقولون﴾ أي أيضاً قولاً متكرراً لا يزالون يلهجون به ﴿إنما يعلمه بشر﴾ وهم يعلمون أن ذلك سفساف من القول؛ ثم استأنف الرد عليهم فقال تعالى: ﴿لسان﴾ أي لغة وكلام ﴿الذين يلحدون﴾ أي يميلون أو يشيرون ﴿إليه﴾ بإن علمه إياه، مائلين عن القصد جائرين عادلين عن الحق ظالمين ﴿أعجمي﴾ أي غير لغة العرب، وهو مع ذلك ألكن في النادية غير بين، وهو غلام كان نصرانياً لبعض قريش اختلف في اسمه، وهذا التركيب وضع في لسان العرب للإبهام والإخفاء، ومنه عجم الزبيب - لاستتاره، والعجماء: البهيمة - لأنها لا تقدر على أيضاح ما في نفسها، وأما أعجمت الكتاب فهو للإزالة.
256
﴿وهذا﴾ أي القرآن ﴿لسان عربي مبين *﴾ أي هو من شدة بيانه مظهر لغيره أنه ذو بيان عظيم، فلو أن المعلم عربي للزمهم أن لا يعجزوا عن الإتيان بمثل ما علم، فكيف وهو أعجمي.
فلما بانت بهذا فضيحتهم، كان كأنه قيل: إن من العجب إقدامهم على مثل هذا العار وهم يدعون النزاهة؟ فأجاب بقوله تعالى: ﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ أي يصدقون كل تصديق معترفين ﴿بآيات الله﴾ أي الذي له العظمة كلها ﴿لا يهديهم الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق، بل يضلهم عن القصد، فلذلك يأتون بمثل هذه الخرافات فأبشر لمن بالغ في العناد، بسد باب الفهم والسداد.
ولما كان ربما توهم أنه لكونه هو المضل لا يتوجه اللوم عليهم نفى ذلك بقوله: ﴿ولهم عذاب أليم *﴾ أي بذلك، لمباشرتهم له مع حجب المراد عنهم وخلق القدرة لهم، إجراء على عوائد بعض الخلق مع بعض.
ولما زيف شبههم، أثبت لهم ما قذفوه به وهو بريء منه مقصوراً عليهم، فقال تعالى: ﴿إنما يفتري﴾ أي يتعمد ﴿الكذب الذين لا يؤمنون﴾ أي لا يتجدد منهم الإيمان ﴿بآيات الله﴾ أي الذي له الكمال كله، فإن ردهم لما قام الدليل على أنه حق وعجزوا
257
عنه تعمد منهم للكذب؛ ثم قصر الكذب عليهم فقال: ﴿وأولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الكاذبون *﴾ أي العريقون في الكذب ظاهراً وباطناً.
ولما ذكر الذين لا يؤمنون مطلقاً، أتبعهم صنفاً منهم هم أشدهم كفراً فقال تعالى: ﴿من﴾ أي أي مخلوق وقع له أنه ﴿كفر بالله﴾ أي الذي له صفات الكمال، بأن قال أو عمل ما يدل على الكفر، ولما كان الكفر كله ضاراً وإن قصر زمنه، أثبت الجار فقال تعالى: ﴿ومن بعد إيمانه﴾ بالفعل أو بالقوة، لما قام على الإيمان من الأدلة التي أوصلته إلى حد لا يلبس فصار استكباره عن الإيمان ارتداداً عنه وجوب الشرط دل ما قبله وما بعده على أنه: فهو الكاذب، أو فعليه غضب من الله ﴿إلا من أكره﴾ أي وقع إكراهه على قول كلمة الكفر ﴿وقلبه﴾ أي والحال أن قلبه ﴿مطمئن بالإيمان﴾ فلا شيء عليه، وأجمعوا - مع إباحة ذلك له - أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر، بل إن ثبت كان ذلك أرفع درجة، والآية
«نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه
258
أكرهوه فتابعهم وهو كاره، فأخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه كفر، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كلا! إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يبكي، فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح عينيه ويقول: إن عادوا فعد لهم بمثل ما قلت» ﴿ولكن من شرح﴾ أي فتح فتحاً صار يرشح به ﴿بالكفر صدراً﴾ أي منه أو من غيره بالتسبب فيه لأن حقيقة الإيمان والكفر يتعلق بالقلب دون اللسان، وإنما اللسان معبر وترجمان معرف بما في القلب لتوقع الأحكام الظاهرة ﴿فعليهم﴾ لرضاهم به ﴿غضب﴾ أي غضب؛ ثم بين جهة عظمه بكونه ﴿من الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿ولهم﴾ أي بظواهرهم وبواطنهم ﴿عذاب عظيم *﴾ لارتدادهم على أعقابهم.
ولما كان من يرجع إلى الظلمات بعد خروجه منها إلى النور جديراً بالتعجب منه، كان كأنه قيل: لم يفعلون، أو لم يفعل
259
بهم ذلك؟ فقال تعالى: ﴿ذلك﴾ الارتداد أو الوعيد العظيم ﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم ﴿استحبوا﴾ أي أحبوا حباً عظيماً ﴿الحياة الدنيا﴾ أي الدنيئة الحاضرة الفانية، فآثروها ﴿على الآخرة﴾ الباقية الفاخرة لأنهم رأوا ما فيه المؤمن من الضيق والكافر من السعة ﴿و﴾ بسبب ﴿أن الله﴾ أي الملك الذي له الغنى الأكبر ﴿لا يهدي القوم الكافرين *﴾ الذين علم استمرارهم عليه، بل يخذلهم ويسلط الشيطان عليهم يحتالهم عن دينهم.
260
ولما كان استمرارهم على الكفر أعجب من ارتدادهم، أتبعه سببه فقال تعالى: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الذين طبع﴾ أي ختم ختماً هو كفيل بالعطب ﴿الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه ﴿على قلوبهم﴾ ولما كان التفاوت في السمع نادراً، وحده فقال تعالى: ﴿وسمعهم وأبصارهم﴾ فصاروا - لعدم انتفاعهم بهذه المشاعر - كأنهم لا يفهمون ولا يسمعون ولا يبصرون ﴿وأولئك﴾ أي الأباعد من كل خير ﴿هم الغافلون *﴾ أي الكاملو الغفلة؛ ثم أتبع ذلك جزاءهم
260
عليه فقال تعالى: ﴿لا جرم﴾ أي لا شك ﴿أنهم في الآخرة هم﴾ أي خاصة ﴿الخاسرون *﴾ أي أكمل خسارة لأنهم خسروا رأس المال وهو نفوسهم، فلم يكن لهم مرجع يرجعون إليه.
ولما قدم الفاتن والمفتون، أتبع ذلك ذكر حكمهما على القراءتين فقال تعالى: بحرف التراخي إشارة إلى تقاصر رتبتهما عن رتبة من لم يفعل ذلك: ﴿ثم إن ربك﴾ أي المحسن إليك بالعفو عن أمتك وتخفيف الآصار عنهم في قبول توبة من ارتد بلسانه أو قلبه ﴿للذين هاجروا﴾ أهل الكفر بالنزوح من بلادهم توبة إلى الله تعالى مما كانوا فيه.
ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل في أي وقت كان، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى مبيناً أن الفتنة بالأذى - وإن كان بالغاً - غير قادحة في الهجرة وما تبعها، فيفيد ذلك في الهجرة بدونها من باب الأولى ﴿من بعد ما فتنوا﴾ بالبناء للمجهول - على قراءة الجماعة، لأن المضر هو الفتنة مطلقاً، وللفاعل على قراءة ابن عامر، أي ظلموا بأن فتنوا من آمن بالله حين كانوا كفاراً،
261
أو أعطوا الفتنة من أنفسهم ففتنوها بأن أطاعوا في كلمة الكفر، أو في الرجوع مع من ردهم إلى بلاد الكفر بعد الهجرة من بعد إيمانهم ﴿ثم جاهدوا﴾ أي أوقعوا جهاد الكفار مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم توبة إلى الله تعالى ﴿وصبروا﴾ على ذلك إلى أن ماتوا عليه ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بتسخير من هذه صفاتهم لك.
ولما كان له سبحانه أن يغفر الذنوب كلها ما عدا الشرك، وأن يعذب عليها كلها وعلى بعضها، وأن يقبل الصالح كله، وأن يرد بعضه، أشار إلى ذلك بالجار فقال تعالى: ﴿من بعدها﴾ أي هذه الأفعال الصالحة الواقعة بعد تلك الفاسدة وهي الفتنة ﴿لغفور﴾ أي بليغ المحو للذنوب ﴿رحيم *﴾ أي بليغ الإكرام فهو يغفر لهم ويرحمهم.
262
ولما تقدم كثير من التحذير والتبشير، وتقدم أنه لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون، وختم ذلك بانحصار الخسار في الكفار، بيَّن اليوم الذي تظهر فيه تلك الآثار، ووصفه بغير الوصف المقدم باعتبار المواقف، فقال تعالى مبدلاً من ﴿يوم نبعث من كل أمة شهيداً﴾
262
﴿يوم تأتي﴾ أي فيه ﴿كل نفس﴾ أي إنسان وإن عظم جرمها ﴿تجادل﴾ أي تعتذر، وعبر بالمجادلة إفهاماً للذفع بأقصى ما تقدر عليه، وأظهر في قوله: ﴿عن نفسها﴾ أي ذاتها بمفردها لا يهمها غير ذلك لما يوهم الإضمار من أن كل أحد يجادل عن جميع الأنفس. ولما كان مطلق الجزاء مخوفاً مقلقاً، بني للمفعول قوله: ﴿وتوفَّى كل نفس﴾ صالحة وغير صالحة ﴿ما عملت﴾ أي جزاء من جنسه ﴿وهم﴾ ولما كان المرهوب مطلق الظلم، وكان البناء للمفعول أبلغ جزاء في نفيه قال تعالى: ﴿لا يظلمون *﴾ أي لا يتجدد عليهم ظلم لا ظاهراً ولا باطناً، ليعلم بإبدال «يوم» من ذلك المتقدم أن الخسارة بإقامة الحق عليهم لا بمجرد إسكاتهم.
ولما عقب سبحانه ما ضرب سابقاً من الأمثال بقوله تعالى ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ وتلاه بذكر الساعة بقوله تعالى: ﴿وما أمر الساعة﴾ إلى آخره، واستمر فيما مضت مناسباته آخذاً بعضه بحجز بعض حتى ختم بالساعة وآمن من الظلم فيها، وبين أن الأعمال هناك هي مناط الجزاء، عطف على ما مضى - من الأمثال المفروضة المقدرة المرغبة - مثلاً محسوساً موجوداً، مبيناً أن الأعمال في هذه
263
الدار أيضاً مناط الجزاء، مرهباً من المعاجلة فيها بسوط من العذاب فقال تعالى: ﴿وضرب الله﴾ أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لكم أيها المعاندون! ﴿مثلاً قرية﴾ من قرى الماضين التي تعرفونها كقرية هود أو صالح أو لوط أو شعيب عليهم السلام كان حالها كحالهم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكة ﴿كانت ءامنة﴾ أي ذات أمن يأمن به أهلها في زمن الخوف ﴿مطمئنة﴾ أي تارة بأهلها، لا يحتاجون فيها إلى نجعة وانتقال بسبب زيادة الأمن بكثرة العدد وقوة المدد، وكف الله الناس عنها، ووجود ما يحتاج إليه أهلها ﴿يأتيها﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار ﴿رزقها رغداً﴾ أي واسعاً طيباً ﴿من كل مكان﴾ براً وبحراً بتيسير الله تعالى لهم ذلك.
ولما كانت السعة تجر إلى البطر غالباً، نبه تعالى لهم ذلك بالفاء فقال تعالى: ﴿فكفرت﴾ ونبه سبحانه على سعة فضله بجمع القلة الدال على أن كثرة فضلة عليهم تافهة بالنسبة إلى ما عنده سبحانه وتعالى فقال: ﴿بأنعم الله﴾ أي الذي له الكمال كله كما كفرتم ﴿فأذاقها الله﴾
264
أي المحيط بكل شيئ قدرة وعلماً ﴿لباس الجوع﴾ بعد رغد العيش ﴿والخوف﴾ بعد الأمن والطمأنينة حتى صار لهم ذلك بشموله لهم لباساً، وبشدة عركهم ذواقاً، فكأن النظر إلى المستعار له، وهو هنا أبلغ لدلالته على الإحاطة والذوق، ولو نظر إلى المستعار لقال: فكساها، فكان يفوت الذوق، وذلك كما نظر إليه كثيّر في قوله:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكاً غلقت لضحكته رقاب المال
استعار الرداء للمعروف لأنه يصون صون الرداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا وصف الرداء الذي هو المستعار، ولو نظر إليه لوصفه بالسعة أو الطول مثلاً كما نظر إليه من قال ذاكراً السيف الذي يصون به الإنسان نفسه:
265
فنظر إلى المستعار وهو الرداء في لفظ الاعتجار، فبانت فضيحة ابن الراوندي في زندقته إذ قال لابن الأعرابي: هل يذاق اللباس؟ فقال له: لا بأس يا أيها النسناس! هب أن محمداً ما كان نبياً، أما كان عربياً؟ ﴿بما كانوا﴾ أي بجبلاتهم ﴿يصنعون *﴾ من الكفر والكبر، قد مرنوا عليه بكثرة المداومة مرون الإنسان على صنعته.
ولما كان تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولاً، حقق ذلك بقوله تعالى: ﴿ولقد جاءهم﴾ أي أهل هذه القرية ﴿رسول منهم﴾ كما وقع لكم ﴿فكذبوه﴾ كما فعلتم ﴿فأخذهم العذاب﴾ كما سمعتم، وإن كان المراد بها مكة فالمراد به الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما قال «اللهم أعني بسبع كسبع يوسف» وأما الخوف فما كان من جهاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لهم ﴿وهم ظالمون *﴾ أي عريقون في وضع الأشياء في غير مواضعها، لأنهم استمروا على كفرهم مع الجوع، وسألوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الإغاثة فدعا لهم.
266
ولما تقرر بما مضى من أدلة التوحيد، فثبت ثباتاً لا يتطرق إليه شك أن الله هو الإله وحده كما أنه هو الرازق وحده، ونبههم على دقائق في تقديره للأرزاق تدل على عظمته وشمول علمه وقدرته واختياره، فثبت أنهم ظالمون فيما جعلوا للأصنام من رزقه، وأنه ليس لأحد أن يتحرك إلا بأمره سبحانه، وختم ذلك بهذا المثل المحذر من كفران النعم، عقبه بقوله تعالى صاداً لهم عن أفعال الجاهلية: ﴿فكلوا﴾ أي فتسبب عن جميع ما مضى أن يقال لهم: كلوا ﴿مما رزقكم الله﴾ أي الذي له الجلال والجمال مما عده لكم في هذه السورة وغيرها، حال كونه ﴿حلالاً طيباً﴾ أي لا شبهة فيه ولا مانع بوجه ﴿واشكروا نعمت الله﴾ أي الذي له صفات الكمال حذراً من أن يحل بكم ما أحل بالقرية الممثل بها ﴿إن كنتم إياه﴾ أي وحده ﴿تعبدون *﴾ كما اقتضته هذه الأدلة، لأن وحده هو الذي يرزقكم وإلا عاجلكم بالعقوبة لأنه ليس بعد العناد عن البيان إلا الانتقام، فصار الكلام في الرزق والتقريع على عدم الشكر مكتنفاً الأمثال قبل وبعد.
267
ولما كان الإذن إنما هو في بعض الرزق في الحال المذكور فاحتيج إلى معرفته، وكانت المباحات أكثر من المحظورات، حصر القليل ليعلم منه الكثير، لأن كل ضدين معروفين إجمالاً عُين أحدهما، عرف من تعيينه الآخر، فقال تعالى: ﴿إنما حرم﴾ أي الله الذي لا أمر لأحد معه ﴿عليكم الميتة﴾ التي بينت على لسان الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها ميتة وإن ذكيت ﴿والدم ولحم الخنزير﴾ خصه بالذكر بعد دخوله في الميتة لاتخاذ النصارى أكله كالدين ﴿وما أهل﴾ أي بأيّ إهلال كان من أي مهل كان. ولما كان مقصود السورة لبيان الكمال، كان تقديم غيره لتقبيح حال المعتنى به أولى فقال تعالى: ﴿لغير الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه ﴿به﴾.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى أكل كلّ ما يمكن أكله، بين لهم أنه رفق بهم فأباح لهم سد الرمق من الحرام فقال تعالى: ﴿فمن اضطر﴾ أي كيفما وقع له الاضطرار ﴿غير باغ﴾ على مضطر آخر ﴿ولا عاد﴾ سدَّ الرمق.
ولما كان الإذن في الأكل من هذه الأشياء حال الضرورة
268
إنما هو رخصة، وكانت الشهوة داعية إلى ما فوق المأذون فيه قال تعالى: ﴿فإن الله﴾ أي المختص بصفات الكمال، بسبب تناوله منها على ما حده ﴿غفور رحيم *﴾ فمن زاد على ما أذن له فيه فهو جدير بالانتقام.
269
ولما تبين بهذه الآية - كما مضى تقريره في الأنعام - جميع المحرم أكله من الحيوانات، فعلم بذلك جهلهم فيما حرموه على أنفسهم لأجل أصنامهم، صرح بالنهي عنه إبلاغاً في تأكيد ذلك الحصر فقال تعالى: ﴿ولا تقولوا﴾ أي بوجه من الوجوه في وقت ما.
ولما كان تحليلهم وتحريمهم قولاً فارغاً ليس له حقيقة أصلاً، لأنه لا دليل عليه، عبر عنه بأنه وصف باللسان لا يستحق أن يدخل إلى القلب فقال تعالى: ﴿لما تصف﴾ أي لأجل الذي تصفه ﴿ألسنتكم﴾ أي من الأنعام والحروث والزروع. ولما حرك النفس إلى معرفة ما يقال لأجل ذلك، بين مقول ذلك القول فقال تعالى: ﴿الكذب﴾ أي القول الذي هو عين الكذب.
ولما اشتد التشوف إلى تعيين ذلك المقول، أبدل منه فقال تعالى: ﴿هذا حلال وهذا حرام﴾ ويجوز أن يكون ﴿الكذب﴾ مفعول ﴿تصف﴾ فتكون ﴿ما﴾ مصدرية، أي لوصفها إياه، فكأن
269
حقيقة الكذب كانت مجهولة فلم تعرف إلا بوصف ألسنتهم لها، فهو مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، وما بعده مقول القول.
ولما كانوا - كما تقدم يدعون أنهم أعقل الناس، فكان اللائق بهم إرخاءً للعنان النسبة إلى معرفة اللوازم عند الإقدام على الملزومات، قال تعالى: ﴿لتفتروا على الله﴾ أي الملك الأعلى ﴿الكذب﴾ لأن من قال على أحد ما لم يأذن فيه كان قوله كذباً، وكان كذبه لقصد افتراء الكذب، وإلا لكان في غاية الجهل، فدار أمرهم في مثل هذا بين الغباوة المفرطة أو قصد ما لا يقصده عاقل، وهذا باب من التهكم عجيب، فكأنه قيل: فما يستحقون على ذلك؟ فأجاب بقوله تعالى: ﴿إن الذين يفترون﴾ أي يقتطعون عمداً ﴿على الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿الكذب﴾ منكم ومن غيركم ﴿لا يفلحون *﴾.
ولما كان الفلاح عندهم هو العيش الواسع في هذه الدنيا، أجاب من كأنه قال: فإنا ننظرهم بنعمة ورفاهة؟ فقال تعالى: ﴿متاع قليل﴾ أي ما هم فيه لفنائه وإن امتد ألف عام ﴿ولهم﴾ بعده ﴿عذاب أليم *﴾ ومن ألمه العظيم دوامه فأيّ متاع هذا.
ولما بين لهم نعمته بتوسعته عليهم بما ضيقوا به على أنفسهم، بين لهم نعمة أخرى بتمييزهم على بني إسرائيل فقال تعالى:
270
﴿وعلى الذين هادوا﴾ أي اليهود ﴿حرمنا﴾ أي بعظمتنا عقوبة لهم بعدوانهم وكذبهم على ربهم ﴿ما قصصنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي كان المقصوص بها معجزاً ﴿عليك﴾.
ولما لم يكن قص ذلك عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم مستغرقاً زمان القبل، أدخل الجار فقال: ﴿من قبل﴾ أي في الأنعام ﴿وما ظلمناهم﴾ أي الذين وقع منهم الهود بتحريمنا عليهم ما حرمنا ﴿ولكن كانوا﴾ أي دائماً طبعاً لهم وخلقاً مستمراً ﴿أنفسهم﴾ أي خاصة ﴿يظلمون *﴾ أي بالبغي والكفر، فضيقنا عليهم معاملة بالعدل، وعاملناكم أنتم حيث ظلمتم بالفضل، فاشكروا النعمة واحذروا غوائل النقمة.
ولما بين هذه النعمة الدنيوية عطف عليها نعمة هي أكبر منها جداً، استجلاباً لكل ظالم، وبين عظمتها بحرف التراخي فقال تعالى: ﴿ثم إن ربك﴾ أي المحسن إليك ﴿للذين عملوا السوء﴾ وهو كل ما من شأنه أن يسوء، وهو ما لا ينبغي فعله ﴿بجهالة﴾ كما عملتم وإن عظم فعلهم وتفاحش جهلهم ﴿ثم تابوا﴾.
ولما كان سبحانه يقبل اليسير من العمل، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من بعد ذلك﴾ أي الذنب ول كان عظيماً، فاقتصروا على ما أذن
271
فيه خالقهم ﴿وأصلحوا﴾ بالاستمرار على ذلك ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بتسهيل دينك وتيسيره. ولما كان إنما يغفر بعد التوبة ما عدا الشرك الواقع بعدها، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من بعدها﴾ أي التوبة وما تقدمها من أعمال السوء ﴿لغفور﴾ أي بليغ الستر لما عملوا من السوء ﴿رحيم *﴾ أي محسن بالإكرام فضلاً ونعمة.
272
ولما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وإن عظم جرمه، إجابة لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله ﴿فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم﴾ [إبراهيم: ٣٦] أتبع ذلك ذكره ترغيباً في اتباعه في التوحيد والميل مع الأمر والنهي إقداماً وإحجاماً إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله: ﴿إن إبراهيم﴾ أي أباكم الأعظم إمام الموحدين ﴿كان أمة﴾ فيه من المنافع الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به ﴿قانتاً﴾ أي مخلصاً ﴿لله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله ليس فيه شيء من الهوى ﴿حنيفاً﴾ ميالاً مع الأمر والنهي بنسخ أو بغيره، فكونوا حنفاء أتباعاً للحق،
272
لما قام عليه من الأدلة، واستناناً بأعظم آبائكم.
ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم عليه السلام، وكانت الأوصاف الثبوتية قريبة المأخذ سريعة الوصول إلى الفهم، وأتى بعدها وصف سلبي بجملة، حذف نون ﴿يكن﴾ منها إيجازاً وتقريباً للفهم تخفيفاً عليه وحفظاً له من أن يذهب قبل تمامها إلى غير المراد، وإعلاماً بأن الفعل منفي عنه عليه السلام على أبلغ وجوه النفي لا ينسب إليه شيء منه ولو قل، فقيل: ﴿ولم يك﴾ ولما كانوا مشركين هم وكثير من أسلافهم، قبح عليهم ذلك بأن أعظم من يعتقدون عظمته من آبائهم ليس من ذلك القبيل، فقال تعالى: ﴿من المشركين *﴾ الواقفين مع الهوى، فلا تكونوا منهم؛ ثم بين حاله فقال: ﴿شاكراً﴾ ولما كان لله على من جعله أمة من النعم ما لا يحصى، بين أن ذلك كله قليل في جنب فضله، فقال مشيراً إلى ذلك بجمع القلة وإلى أن الشاكر على القليل يشكر إذا أتاه الكثير من باب الأولى: ﴿لأنعمه﴾ فهو لا يزال يزيده من فضله، فتقبل دعاءه لكم
273
فاشكروا الله اقتداء به ليزيدكم، فكأنه قيل: فما أثابه على ذلك؟ أو علل ما قبل، فقال تعالى: ﴿اجتباه﴾ أي اختاره اختياراً تاماً ﴿وهداه﴾ أي بالبيان الأعظم والتوفيق الأكمل ﴿إلى صراط مستقيم *﴾ وهو الحنيفية السمحة، فكان ممن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، وكان مخالفاً للأبكم الموصوف في المثل السابق؛ ثم قال: ﴿وءاتيناه﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿في الدنيا﴾ بلسان الصدق والثناء الجميل الذي ذللنا له ألسنة الخلق ﴿حسنة﴾ ونبه بالتعبير عن المعطي بنون العظمة على جلالته حيث جعله إماماً معظماً لجميع أهل الملل، فجمع القلوب على محبته، وجعل له فيهم لسان صدق، ورزقه في أولاده من النبوة والصلاح والملك والكثرة ما هو مشهور.
ولما كانت عظمة الدنيا لا تعتبر إلا مقرونة بنعمة الآخرة، قال تعالى: ﴿وإنه في الآخرة﴾ وقال تعالى -: ﴿لمن الصالحين *﴾ أي له ما لهم من الثواب العظيم - معبراً ب «من» تعظيماً لمقام الصلاح وترغيباً فيه.
ولما قرر من عظمته في الدنيا والآخرة ما هو داعٍ إلى اتباعه، صرح بالأمر به تنبيهاً على زيادة عظمته بأمر متباعد في الرتبة على سائر النعوت التي أثنى عليه بها، وذلك كونه صار مقتدي لأفضل ولد آدم، مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي الدال على علو رتبته بعلو رتبة من أمر باتباعه فيما مهده مما أمر به من التوحيد والطريق الواضح
274
السهل فقال سبحانه: ﴿ثم أوحينا﴾ أي ثم زدناه تعظيماً وجلالة بأن أوحينا ﴿إليك﴾ وأنت أشرف الخلق، وفسر الإيحاء بقوله عز وجل ترغيباً في تلقي هذا الوحي أحسن التلقي باقتفاء الأب الأعظم: ﴿أن اتبع﴾ أي بغاية جهدك ونهاية همتك.
ولما كان المراد أصل الدين وحسن الاقتضاء فيه بسهولة الانقياد والانسلاخ من كل باطل، والدعوة بالرفق مع الصبر، وتكرير الإيراد للدلائل وكل ما يدعوا إليه العقل الصرف والفطرة السليمة، عبر بالملة فقال تعالى: ﴿ملة إبراهيم﴾ ولا بعد في أن يفهم ذلك الهجرة أيضاً.
ولما كانت الحنيفية أشرف أخلاق إبراهيم عليه السلام، فكانت مقصودة بالذات، صرح بها فقال تعالى: ﴿حنيفاً﴾ أي الحال كونك أو كونه شديد الانجذاب مع الدليل الحق؛ ورغب العرب في التوحيد ونفرهم من الشرك بقوله تعالى: ﴿وما كان﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿من المشركين *﴾ ولما دعا سبحانه فيها إلى معالي الشيم وعدم الاعتراض، وختم بالأمر بالملة الحنيفية التي هي سهولة الانقياد للدليل، وعدم الكون مع الجامدين، اقتداء بالأب
275
الأعظم، وكان الخلاف والعسر مخالفاً لملته، فكان لا يجر إلى خير، وكان من المعلوم أن كل حكم حدث بعده ليس من ملته، وكان اليهود يزعمون جهلاً أنه كان على دينهم، وكان السبت من أعظم شعائرهم، أنتج ذلك قوله تعالى جواباً لمن قد يدعي من اليهود أنه كان على دينهم، وتحذيراً من العقوبة على الاختلاف في الحق بالتشديد في الأمر. ﴿إنما جعل﴾ أي بجعل من لا أمر لغيره ﴿السبت﴾ أي تحريمه واحترامه أو وباله ﴿على الذين اختلفوا فيه﴾ حين أمرهم نبيهم بالجمعة فقبل ذلك بعضهم وأراد السبت آخرون، فبدلوا بالجمعة السبت. وشدد عليهم في أمره انتقاماً منهم بما تفهمه التعدية ب «على» فكان ذلك وبالاً عليهم، وفي ذلك تذكير بنعمة التيسير علينا؛ قال البغوي؛ قال الكلبي: أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة فقال: تفرغوا لله في كل سبعة أيام يوماً، فاعبدوه يوم الجمعة، ولا تعملوا فيه عملاً لصنعتكم، وستة أيام لصناعتكم، فأبوا إلا شرذمة منهم وقالوا:
276
لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت، فجعل ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم فيه، ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، فأخذوا الأحد، فأعطى الله الجمعة هذه الأمة فقبلوها وبورك لهم فيها.
وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرني معمر أخبرني من سمع مجاهداً يقول في قوله تعالى ﴿إنما جعل السبت﴾ فقال: ردوا الجمعة وأخذوا السبت مكانه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له. فهم لنا فيه تبع، فاليهود غداً والنصارى بعد غد».
ولما كان الإشراك واضحاً في أمر النصارى، استغنى بنفيه عنه عن التصريح بأنه ليس على دينهم؛ ثم حذر من الاختلاف مثبتاً أمر البعث فقال تعالى: ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بطواعية أصحابك لك ﴿ليحكم بينهم﴾ أي هؤلاء المختلفين ﴿فيه يختلفون *﴾ من قبول الجمعة وردها، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه. ﴿يوم القيامة﴾ واجتماع جميع
277
الخلائق ﴿فيما كانوا﴾ أي بجبلاتهم ﴿فيه يختلفون *﴾ من قبول الجمعة وردها، ومن الإذعان لتحريم الصيد وإبائه وغير ذلك، فيجازى كل فريق منهم بما يستحقه.
278
ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم، وأتبعه ضرب الأمثال، ونصب الجدال - على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة، والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق ما يجل عن الوصف، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق، ومشارع الرقائق، ومحكم الدلائل، ومتقن المقاصد والوسائل، ما يوضح - بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له ولا قرار، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار، وختم باتباع الأب الأعظم، لما كان ذلك، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره، ويقتدي بإضماره وإظهاره، فسر
278
له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى: ﴿ادع﴾ أي كل من تمكن دعوته ﴿إلى سبيل ربك﴾ أي المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية ﴿بالحكمة﴾ وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد - قاله الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به ﴿والموعظة﴾ بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة ﴿الحسنة﴾ أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك ﴿وجادلهم﴾ أي الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج ﴿بالتي هي أحسن﴾ من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة، ولا تعرض عنهم
279
يأساً منهم، ولا تجازهم بسيىء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً عنهم ورفقاً بهم، فهو بيان لأصناف الدعوة بحسب عقول المدعوين، لأن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بأن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وقيل: الدعوة إن كانت لتقرير الدين وتثبيت الاعتقاد في قلوب أهله - وهي مع ذلك يقينية مطهرة عن احتمال نقيض - فهي الحكمة وهي لطالب الحق المذعن إن كان مستعداً للقبول بفكره الثاقب، وإن كانت مقارنة لاحتمال النقيض مفيدة للظن والإقناع فهي الموعظة وهي للمذعن الذي لا استعداد له، وإن كانت لإلزام الجاحدين وإفحام المعاندين فهي المجادلة، فإن كانت مركبة من مقدمات مسلمة عند الجمهور أو عند الخصم فقط فهي الحسنة، وإن كانت من مقدمات كاذبة غير مسلمة يراد ترويجها بالحيل الباطلة والطرق الفاسدة فهي السيئة التي لا تليق بمنصف؛ ثم علل الملازمة لدعائهم على هذا الوجه بقوله تعالى: ﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بالتخفيف عنك ﴿هو﴾ أي وحده ﴿أعلم﴾ أي من كل من يتوهم فيه علم ﴿بمن ضل عن سبيله﴾ فكان في أدنى درجات الضلال - وهو أعلم بالضالين الراسخين في الجور عن الطريق -
280
فلا انفكاك له عن الضلال، وهو أعلم بمن اهتدى لسبيله فكان في أدنى درجات الهداية ﴿وهو﴾ أي خاصة ﴿أعلم بالمهتدين *﴾ أي الذين هم في النهاية منها، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً «من ضل» دليلاً على حذف ضده ثانياً، و ﴿المهتدين﴾ ثانياً دليلاً على حذف ضدهم أولاً.
وأما أنت فلا علم لك بشيء من ذلك إلا بإعلامنا، وقد ألزمناك البلاغ المبين، فلا تفتر عنه معرضاً عن الحرص المهلك واليأس فإنه ليس عليك هداهم.
ولما بين أمر الدعوة وأوضح طرقها وقدم أمر الهجرة والإكراه في الدين والفتن فيه المشير إلى ما سبب ذلك من المحن والبلاء من الكفار ظلماً، وختم ذلك بالأمر بالرفق بهم، عم - بعد ما خصه صلى الله عليه وعلى آله وسلم به من الأمر بالرفق، بالأمر لأشياعه بالعدل والإحسان كما تقدم ولو مع أعدى الأعداء، والنهي عن مجازاتهم إلا على وجه العدل - فقال تعالى: ﴿وإن عاقبتم﴾ أي كانت لكم عاقبة عليهم تتمكنون فيها من أذاهم ﴿فعاقبوا بمثل ما﴾
281
ولما كان الأمر عاماً في كل فعل من المعاقبة من أيّ فاعل كان فلم يتعلق بتعيين الفاعل غرض، بنى للمفعول قوله تعالى: ﴿عوقبتم به﴾ وفي ذلك إشارة - على ما جرت به عوائد الملوك في كلامهم - إلى إدالتهم عليهم وإسلامهم في يديهم، وجعله بأداة الشك إقامة بين الخوف والرجاء.
ولما أباح لهم درجة العدل، رقاهم إلى رتبة الإحسان بقوله تعالى: ﴿ولئن صبرتم﴾ بالعفو عنهم ﴿لهو﴾ أي الصبر ﴿خير للصابرين *﴾ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.
ولما كان التقدير: فاصبروا، عطف عليه إفراداً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالأمر، إجلالاً له وتسلية فيما كان سبب نزول الآية من التمثيل بعمه حمزه رضي الله عنه، وتنويهاً بعظم مقام الصبر زيادة في حث الأمة، لأن أمر الرئيس أدعى لامتثال أتباعه، فقال تعالى: ﴿واصبر﴾ ثم اتبع ذلك بما يحث على دوام الالتجاء إليه المنتج للمراقبة والفناء عن الأغيار ثم الفناء عن الفناء، لئلا يتوهم أن لأحد فعلاً مستقلاً فقال تعالى: ﴿وما صبرك﴾ أي أيها الرسول
282
الأعظم! ﴿إلا بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي شرع لك هذا الشرع الأقوم وأنت قائم في نصره، ولقد قابل هذا الأمر صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأعلى مقامات الصبر، وذلك أنهم مثلوا بقتلى المسلمين في غزوة أحد إلا حنظلة الغسيل رضي الله عنه فإن أباه كان معهم فتركوه له، فلما وقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على عمه حمزة رضي الله عنه فوجدهم قد جدعوا أنفه وقطعوا أذنيه وجبوا مذاكيره وبقروا بطنه، نظر إلى شيء لم ينظر قط إلى أوجع لقلبه منه فقال:
«رحمة الله عليك، فإنك كنت فعالاً للخير وصولاً للرحم، ولولا أن تحزن صفيه لسرني أن أدعك حتى تحشر من أجواف شتى، أما والله! لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم»، وقال الصحابة رضي الله عنهم: لنزيدن على صنيعهم، فلما نزلت الآية بادر صلى الله عليه وعلى آله وسلم الامتثال، وكان لا يخطب خطبة إلا نهى عن المثلة، وأحسن يوم الفتح بأن نهى عن قتالهم بعد أن صاروا في قبضته - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم دائماً أبداً.
283
ولما كان - بعد توطين النفس على الصبر وتفريغ القلب من الأحنة - يرجع إلى الأسف على إهلاكهم أنفسهم بتماديهم على العتو على الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي في شدة كفرهم فتبالغ في الحرص الباخع للنفس.
ولما كان سبحانه في مقام التبشير، بالمحل الكبير والموطن الخطير، الذي ما حازه قبل نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشير ولا نذير، وذلك هو الإسراء إلى الملكوت الأعلى، والمقام الأسمى من السماوات العلى، في حضرات القدس، ومحال الأنس، ووطأ لذلك في سورة النعم بمقامات الكرم إلى أن قارب الوصول إليه، أوجز في العبارة بحذف حرف مستغنى عنه دلالة عليه فقال: ﴿ولا تك﴾ بحذف النون أشارة إلى ضيق الحالة عن أدنى إطالة:
ينازعني ردائي عبد عمرو رويدك يا أخا بكر بن عمرو
لي الشطر الذي ملكت يميني ودونك فاعتجر منه بشطر
وأبرح ما يكون الشوق يوماً إذا دنت الديار من الديار
وهذا بخلاف ما يأتي في سورة النمل إن شاء الله تعالى ﴿في ضيق﴾ ولو قل - كما لوح إليه تنوين التحقير بما يشير إليه حذف النون، فإن أذى الكفار الذي السياق للتسلية عنه لا يضرك في المقصود الذي بعثت لأجله، وهو إظهار الدين وقمع المفسدين بوجه من الوجوه ﴿مما يمكرون *﴾ أي من استمرار مكرهم بك {واعبد ربك حتى
284
يأتيك اليقين} وكأنك به، وقد أتى فاصبر فإن الله تعالى معزك ومظهر دينك وإن كرهوا؛ ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال بلطفه وعونه ﴿مع الذين اتقوا﴾ أي وجد منهم الخوف من الله تعالى، فكانوا في أول منازل التقوى، وهو مع المتقين الذين كانوا في النهاية منها، فعدلوا في أفعالهم من التوحيد وغيره عملاً بأمر الله في الكتاب الذي هو تبيان لكل شيء، وهو مع الذين أحسنوا وكانوا في أول درجات الإحسان ﴿والذين هم﴾ أي بضمائرهم وظواهرهم ﴿محسنون *﴾ أي صار الإحسان صفة لهم غير منفكة عنهم، فهم في حضرات الرحمن، وأنت رأس المتقين المحسنين، فالله معك، ومن كان الله معه كان غالباً، وصفقته رابحة، وحالته صالحة، وأمره عال، وضده في أسوإ الأحوال، فلا تستعجلوا قلقاً كما استعجل الكفار استهزاء، تخلقاً في التأني والحلم بصفة من تنزه عن نقص الاستعجال، وتعالى عن ادعاء الأكفاء والأمثال، فقد عانق آخرها أولها، ووافق مقطعها، وآخرها احتباك: ذكر ﴿الذين اتقوا﴾ أولاً دليلاً على حذف ﴿الذين أحسنوا﴾ ثانياً، ﴿والمحسنين﴾ ثانياً دليلاً على حذف المتقين أولاً - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
285
سورة الإسراء
وتسمى سبحان وبني إسرائيل
المقصود بها الإقبال على اله وحده، وخلع كل ما سواه، لأنه وحده المالك لتفاصيل الأمور، وتفضيل بعض الخلق على بعض، وذلك هو العمل بالتقوى التي أدناها التوحيد الذي افتتحت به النحل، وأعلاها الإحسان الذي اختتمت به، وهو الفناء عما سوى الله، وهي من أوائل ما أنزل، روى البخاري في فضائل القرآن وغيره عن ابن مسعود رض الله عنه قال: بنو إسائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي.
وكل من أسمائها واضح الدلالة على ما ذكر أنه مقصودها، أما (سبحان)، الذي هو علم للتنزيه فمن أظهر ما يكون فيه، لأن من كان على غاية النزاهة عن كل نقص، كان جديراً بأن لا نعبد إلا إياه، وأن نعرض عن كل ما سواه، لكونه متصفاً بما ذكر، وأما بنو إسرائيل فمن أحاط أيضاً بتفاصيل
286
أمرهم في سيرهم إلى الأرض المقدسة الذي هو كالإسراء وإيتائهم الكتاب وما ذكر مع ذلك من أمرهم في هذه السورة عرف ذلك) باسم الله (الملك المالك لجميع الأمر) الرحمن (لكل ما أوجده بما رباه) الرحيم (لمن خصه بالتزام العمل بما يرضاه.
287
Icon