بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرةمقدمة للسورة :
في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس. وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل الله والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل الله. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه.
وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال : إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال : إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول، حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات.
وكل هذا يسوغ القول : إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة، وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها، بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى.
ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت ( رضي الله عنه ) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين – وزيد هو الذي تولى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان من كتاب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع » وقد علق البيهقي على ذلك بقوله :«يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ١. مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها ؛ حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة ؛ لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها.
وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول : إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا ؛ لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا.
ولقد أثر حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ) ٢ وحديث آخر جاء فيه :( إن ملكاً نزل من السماء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ منهما حرفا إلا أوتيته ) ٣ حيث يدل هذا دلالة قوية، بل قاطعة على أن هذه السورة قد تمّ تأليفها على الوجه الذي ورد في المصحف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما نعتقده بالنسبة لسائر السور الطويلة المدنية التي فيها فصول مختلفة المواضيع نزلت في ظروف مختلفة ومتباعدة.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في فضل سورة البقرة منها حديث جاء فيه :«لكل شيء سنامٌ وإنّ سنامَ القرآن سورة البقرة » ٤. وهذا الحديث إذ يذكر سورة البقرة يدل أيضا على أنها كانت مؤلفة تامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمجمع عليه أن تفوقها على غيرها في عدد الآيات والحيز من أسباب وضعها في أول المصحف بعد سورة الفاتحة التي وصفت بأنها مفتتح القرآن وبراعته الاستهلالية على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وليس من شأن هذا أن ينقض ما وضحناه : من أن جعلها أولى سورة مدنية هو بسبب احتمال كون فصلها الأول هو أول فصول القرآن نزولاً في المدينة، والله تعالى أعلم.
تعليق على ترتيب السور في المصحف
وننبه بهذه المناسبة على أن علماء القرآن قالوا : إن ترتيب سور القرآن في المصحف قد جاء حسب أطوالها. حيث قدمت السور المسماة بالطوال ثم ما عرف بالمئين – أي التي عدد آياتها في حدود المئة تزيد قليلا أو تنقص قليلا – ثم ما عرف بالمثاني، ثم ما عرف بالقصار ثم ما عرف بالمفصل أي القصار جدا ٥.
وروى المفسرون ٦ حديثاً عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضّلني ربي بالمفصل » ٧ وهذا الحديث لم يرد في الصحاح، وصيغته لا تبعث الطمأنينة بصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والملاحظ أن القول : إن سور القرآن رتبت على النحو المذكور آنفا أي الطوال فالمئين فالمثاني فالمفصل ليس دقيقا كل الدقة إلا بالنسبة لسورة البقرة فقط. فثانية السور في عدد الآيات هي سورة الشعراء مثلا، غير أنها وضعت في عداد المثاني، وبعد عدد كبير من السور التي منها ما هو أقل منها حيزا أي أقصر طولا فضلا عن كونه أقل في عدد الآيات مثل سورة الرعد وإبراهيم والحجر والفرقان والنور والمؤمنون والأنبياء والحج. وسورة الرعد وإبراهيم والحجر قد قدمت في الترتيب مع أن بعدها سورا كثيرة أكثر منها عدد آيات وأطول حيزا. ومثل هذا يلاحظ في سور عديدة أخرى في الطوال والمئين والمثاني والقصار والمفصل. ولما كنا نعتقد أن ترتيب السور في المصحف قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرشاده وهو بمصطلح علماء القرآن توفيقي ٨ فنحن نعتقد أنه لا بد من أن يكون لهذا الترتيب حكمة وإن كانت قد خفيت علينا وعلى غيرنا.
هذا، والذي نرجحه أن تأليف السور على الصورة التي شرحناها إنما هو بالنسبة للسور المدنية فقط وبخاصة للطوال والمئين والمثاني منها دون السور المكية. ففي السور المكية وحدة مواضيع وتشابه قوي في الفصول. وهي قاصرة على الدعوة ومبادئها وتدعيماتها المتنوعة والحجاج حول ذلك، مما لا يقتضي أن ينزل فصل من سورة ثم يعقبه فصل من سورة أخرى قبل أن تتم فصول السورة التي قبلها. وهذا بالنسبة للسور الطويلة منها حتى التي فيها فصول تبدو غير مترابطة ؛ حيث إنها لا تخرج عما قلناه مما نبهنا عليه وأوردنا قرائنه في سياق تفسيرها. وهذا القول يكون أقوى بالنسبة للسور الطويلة المسجعة منها التي تكون وحدة السبك والنظم فيها من دلائل هذه القوة. ويمكن أن يكون أقوى وأكثر بالنسبة للسور القصيرة والقصيرة جدا كما هو المتبادر باستثناء سورة العلق على التأكيد وسور القلم والمزمل والمدثر على الاحتمال، على ما شرحناه في سياق تفسيرها. يضاف إلى هذا أن السور المكية كانت قد تمت نزولا في آخر العهد المكي ٩.
ولا يتعارض هذا مع ما هو محقق من إضافة بعض الآيات المدنية إلى بعض السور المكية ؛ إذ أن هذه الآيات قد أضيفت إلى مناسباتها على ما شرحناه في سياقها في سور المزمل والأعراف والشعراء، والله سبحانه وتعالى أعلم ١٠.
أما ما روي عن تدوين القرآن أو جمعه في زمن أبي بكر وعثمان ( رضي الله عنهما ) فليس ذلك جمعا وتدويناً وترتيباً جديداً. فالقرآن كان مدونا ومرتبا وكان لكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحف. غير أن القرآن كان مفتوح الصحف لاحتمال نزول الوحي بقرآن جديد. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد هناك احتمال لذلك رأى أبو بكر وعمر وكبار الصحابة أن يكون هناك مصحف إمام ليكون المرجع لما قد يكون من خلاف في المصاحف المتداولة، فكتب هذا المصحف الذي بذلت الجهود العظيمة في كتابته وقورن وقوبل كل ما كان متداولا مخطوطا ومحفوظا من القرآن بسبيل ذلك ١١.
غير أن هذا على ما يظهر لم يحل المشكلة ؛ لأن المسلمين كثروا وتفرقوا في البلاد وكانوا يكتبون مصاحفهم بخطوطهم. وكان يقع تباين في الكتابة وصار الناس في زمن عثمان رضي الله عنه يقرؤون قراءات متباينة نتيجة لذلك فرأى بعض كبار أصحاب رسول الله صلى الله تلافياً لذلك أن يكتب المصحف من جديد بإملاء واحد وخط واحد فتم ذلك ونسخ من هذا المصحف الجديد نسخ عديدة أرسلت إلى العواصم الإسلامية، وأمر الناس بنسخ المصاحف عنها وإحراق ما هو متداول بين الأيدي من المصاحف المتباينة في الخطوط، فكان هذا مما حفظ القرآن سليماً على مدى القرون وتحققت به المعجزة القرآنية المنطوية في آية سورة الحجر هذه :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾﴿ ٩ ﴾ ١٢. ولقد أوردنا ما يورد على ذلك وشرحنا الأمر شرحا يضعه في نصابه الحق إن شاء الله في سياق تفسير الآية المذكورة.
٢ انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج، ٤/١٣-١٤.
٣ انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج، ٤/١٣-١٤.
٤ انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير وغيره.
٥ انظر أيضا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ١/٦٠-٦٨. والمفصل هي السور القصيرة. وسمّيت كذلك لكثرة الفصل بينها. وهناك أقوال مختلفة في تعيين كل مجموعة من المجموعات الأربع، منها أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وقد ذكر الراوي أنه نسي السابعة. وهناك ما يذكر الأنفال والتوبة معاً كسابعة، وهناك ما يذكر سورة يونس كسابعة. والمئين بعد يونس إلى الكهف وبعدها المثاني. والمفصل يبدأ في رواية بالحجرات وفي رواية بسور (ق) وفي رواية بسورة الضحى.
٦ انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
٧ انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
٨ انظر المصدر السابق.
٩ انظر كتابنا القرآن المجيد، ص: ٥٢-١١٢ ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.
١٠ نفسه.
١١ نفسه.
١٢ اقرأ كتابنا المجيد ص: ٥٢ وما بعدها. ونستطرد إلى القول: إنه لا يعرف على وجه اليقين أن في الدنيا اليوم مصحفا من المصاحف التي نسخت عن المصحف الذي كتب بأمر عثمان وأرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ولقد جاء في الجزء الأول من الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى خبر عن النسخة التي أرسلت إلى دمشق من هذه النسخ حيث روى المؤلف أن أبا القاسم التجيبي السبتي قال: إنه رآها وعاينها في سنة ٦٥٧ هجرية في مقصورة جامع بني أمية في دمشق المعروفة بقبة الشراب. ولقد نقل مؤلف الاستقصاء أيضا قولا للخطيب ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن جاء فيه: إني اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطهما واحداً وقد كتب على ظهر المدني: هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وغيرهم ممن أشرف على تدوين هذا المصحف، وقد روى المؤلف أن عبد المؤمن نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش سنة ٥٥٢ هجرية وصنع له كسوة من السندس المزركش بالذهب والفضة المرصعة بأنواع الحجارة الكريمة واتخذ للحمل كرسيا على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوتا يصان فيه (الجزء الأول من الاستقصاء، ص: ٥٠) وليس من الممكن أن يجزم أن نسخة قرطبة كانت أصلية؛ لأنها لم تكن من عواصم الإسلام التي أرسل إليها النسخ في زمن عثمان (رضي الله عنه).
ﰡ
﴿ الم { ١ ﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿ ٢ ﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿ ٣ ﴾ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿ ٤ ﴾ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ٥ ﴾ }.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم وهي هنا للاسترعاء والتنبيه أيضا على ما رجحناه في أمثالها. وقد أعقبت الحروف إشارة تنبيه وتنويه إلى القرآن جريا على الأسلوب القرآني في معظم السور المبدوءة بالحروف المتقطعة.
وتعتبر ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ وإن كان قد يفيد من الوجهة الموضوعية ما نزل من القرآن إلى حين نزول الآية، غير أنه يجب أن يعتبر تعبيرا شاملا لجميع القرآن ما نزل منه وما سوف ينزل بعده كما هو المتبادر. وبعضهم يقف عند استعمال ﴿ ذَلِكَ ﴾ ويقول : إن هذا للعبد ولا يفيد أن القصد هو القرآن، وهذا تمحل لا مبرر له، فصيغة الآيات ومحتواها فيها الدلالة على أن المقصود هو القرآن الكتاب الذي يتلى على الناس.
وقد تضمنت بقية الآيات : تقرير كون القرآن هدى للذين يتقون الله ويرغبون في رضائه، والذين يؤمنون بما يسمعون فيه من الحقائق المغيبة عنهم، ولم لو تدركها حواسهم أو يقم دليل مادي عليها ؛ لأنهم يؤمنون بأن القرآن من عند الله وهو الذي يخبر بها، والذين يقيمون الصلاة لله وينفقون مما رزقهم في وجوه البر، والذين يؤمنون بما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم وبما أنزل كذلك على الأنبياء من قبله، والذين يوقنون بالحياة الآخرة وحسابها وجزائها. فهم السائرون في سبيل الله القويم وعلى هداه، وأنهم لهم الناجون الفائزون.
والآيات احتوت بيان الصفات التي يجب أن تتحقق في المؤمن الصالح وبشرى وتنويها لمن يتصف بها. وقد انطوت –كما هو المتبادر- على التنويه بالذين كانوا يؤمنون بالله ورسوله حين نزوله. وانطوت إلى هذا على تقرير كون كتاب الله إنما هو هدى لذوي النيات الحسنة الذين يراقبون الله ويتقونه ويرغبون في رضائه.
وما تقرره هذه الآيات قد تكرر في الآيات المكية، غير أنه جاء هنا قويا محبوكا.
ولقد رجحنا في مقدمة السورة أن هذه السورة اعتبرت أولى سور القرآن نزولا ؛ لأن فصلها الأول هو أول القرآن المدني نزولا. وبدء هذا الفصل بالحروف المتقطعة يدل على أن هذه الآيات هي مطلع السورة، وتكون –والحالة هذه- أولى الآيات نزولا في المدينة والله أعلم.
﴿ الم ﴿ ١ ﴾ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿ ٢ ﴾ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿ ٣ ﴾ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿ ٤ ﴾ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ٥ ﴾ ﴾.
بدأت السورة بحروف الألف واللام والميم وهي هنا للاسترعاء والتنبيه أيضا على ما رجحناه في أمثالها. وقد أعقبت الحروف إشارة تنبيه وتنويه إلى القرآن جريا على الأسلوب القرآني في معظم السور المبدوءة بالحروف المتقطعة.
وتعتبر ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ وإن كان قد يفيد من الوجهة الموضوعية ما نزل من القرآن إلى حين نزول الآية، غير أنه يجب أن يعتبر تعبيرا شاملا لجميع القرآن ما نزل منه وما سوف ينزل بعده كما هو المتبادر. وبعضهم يقف عند استعمال ﴿ ذَلِكَ ﴾ ويقول : إن هذا للعبد ولا يفيد أن القصد هو القرآن، وهذا تمحل لا مبرر له، فصيغة الآيات ومحتواها فيها الدلالة على أن المقصود هو القرآن الكتاب الذي يتلى على الناس.
وقد تضمنت بقية الآيات : تقرير كون القرآن هدى للذين يتقون الله ويرغبون في رضائه، والذين يؤمنون بما يسمعون فيه من الحقائق المغيبة عنهم، ولم لو تدركها حواسهم أو يقم دليل مادي عليها ؛ لأنهم يؤمنون بأن القرآن من عند الله وهو الذي يخبر بها، والذين يقيمون الصلاة لله وينفقون مما رزقهم في وجوه البر، والذين يؤمنون بما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم وبما أنزل كذلك على الأنبياء من قبله، والذين يوقنون بالحياة الآخرة وحسابها وجزائها. فهم السائرون في سبيل الله القويم وعلى هداه، وأنهم لهم الناجون الفائزون.
والآيات احتوت بيان الصفات التي يجب أن تتحقق في المؤمن الصالح وبشرى وتنويها لمن يتصف بها. وقد انطوت –كما هو المتبادر- على التنويه بالذين كانوا يؤمنون بالله ورسوله حين نزوله. وانطوت إلى هذا على تقرير كون كتاب الله إنما هو هدى لذوي النيات الحسنة الذين يراقبون الله ويتقونه ويرغبون في رضائه.
وما تقرره هذه الآيات قد تكرر في الآيات المكية، غير أنه جاء هنا قويا محبوكا.
ولقد رجحنا في مقدمة السورة أن هذه السورة اعتبرت أولى سور القرآن نزولا ؛ لأن فصلها الأول هو أول القرآن المدني نزولا. وبدء هذا الفصل بالحروف المتقطعة يدل على أن هذه الآيات هي مطلع السورة، وتكون –والحالة هذه- أولى الآيات نزولا في المدينة والله أعلم.
وتعليقا على جملة :﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ نقول : إن الله أمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في آية سورة الشورى [ ١٥ ] وآية سورة العنكبوت [ ٤٥ ] بإعلان إيمانهم بما أنزل الله من كتاب فجاءت هذه الجملة لتقرر اتباع المؤمنين لهذا الأمر واتصاف المؤمن به.
ولقد بينا ما ينبغي أن تكون عليه العقيدة الإسلامية المنطوية في هذا الأمر بالنسبة للكتب المتداولة اليوم بين أيدي الكتابيين من نصارى ويهود في سياق تفسير سورتي الشورى والعنكبوت فلم نر ضرورة للإعادة أو الزيادة.
ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن جملة ﴿ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ﴾ عنت مؤمني أهل الكتاب. غير أن هناك مؤولين كثيرين قالوا : إنها عنت المؤمنين بالرسالة المحمدية إطلاقا ؛ لأنهم أمروا بالإيمان بكتب الله المنزلة على الأنبياء السابقين فآمنوا، ونرى هذا هو الأوجه، وقد أخذنا به في شرح الآيات.
في الآيتين تقرير بأن الكفار لا يؤمنون سواء أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم ؛ لأن قلوبهم مغلقة عن فهم الحق، وآذانهم مسدودة عن سماعه، وأبصارهم معمية عن رؤية نوره، وقد استحقوا من أجل ذلك عذاب الله العظيم.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيتين والمتبادر أنهما جاءتا استطرادا تعليليا لموقف الكفار ومكابرتهم وللمقابلة بين موقفهم وموقف المتقين الذين اهتدوا بهدى القرآن. فهؤلاء ذوو رغبة صادقة في الهدى يخشون الله فآمنوا وصدقوا حينما سمعوا القرآن ورأوا أعلام الحق، في حين انفقدت النية الحسنة والرغبة الصادقة في الكفار، فكأنما انغلقت قلوبهم وسدت آذانهم وعميت أبصارهم.
ومضمون الآيتين تكرر في مواضع عديدة من القرآن المكي، وقد أولناه هنا بما أولنا به ما يماثله في المواضع المكية ؛ لأن هذا هو المتسق مع روح القرآن وتلقينه ومضامينه ثم مع الإنذار بالعذاب العظيم للكفار ؛ ثم مع تعبير ﴿ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ الذي هو صريح بصدور الكفر عنهم.
وفي آيات سورة يس هذه توضيح وتأييد :﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ { ٩ ﴾ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿ ١٠ ﴾ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿ ١١ ﴾ } حيث تضمنت كون الكافرين هم الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم، وكون المؤمنين هم الذين رغبوا في اتباع الحق وآمنوا بالله واستشعروا خوفه.
هذا، وننبه بهذه المناسبة إلى ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة من أن هذا إنما هو تسجيل لواقع أمر الكفار حينما نزلت الآيات وليس هو على سبيل التأييد ؛ لأن معظم الذين وصفوا به قد آمنوا فيما بعد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما يظل قائما بالنسبة للذين كفروا وماتوا وهم كفار.
وللشيخ محيي الدين بن العربي تفسير للآيتين جاء فيه :«يا محمد إن الذين كفروا ستروا محبتهم فيّ. دعهم فسواء عليهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك ؛ لأنهم لا يعقلون غيري. وأنت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه. وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم أجعل فيها متسعا لغيري. وعلى سمعهم فلا يسمعون كلاما في العالم إلا مني وعلى أبصارهم غشاوة من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي. ولهم عذاب عظيم عندي. أردهم بعد هذا المشهد السّنيّ إلى إنذارك، وأحجبهم حتى كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى. أنزلتك إلى من يكفر بك، ويرد ما جئت به إليه مني في وجهك وتسمع فيّ ما يضيق له صدرك. فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في إسرائك، فهكذا رضائي على خلقي الذين أخفيتهم رضاي عنهم »[ التفسير والمفسرون، للذهبي، ٢/١٣ عزوا إلى تفسير ابن العربي المعروف بالفتوحات ].
وفي هذا من الشطح الذي يقلب به معاني العبارة القرآنية ويبتعد بها عن معناها ودلالتها القطعية ما هو ظاهر أيضا.
يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين، وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم : فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم ؛ لأن الله يعرف حقائقهم، ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثاً ومرضاً واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نُصحوا ونُهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم : آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء، وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم : إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم، وأن ما يتظاهرون به ليس إلا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.
والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين ؛ لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون.
والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صوراً كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته. ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.
ولقد ذكر المفسرون ١ أن كلمة ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه :﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً { ١٣٨ ﴾ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴿ ١٣٩ ﴾ } ٢ وآيات سورة محمد هذه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ { ٢٥ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿ ٢٦ ﴾ } ٣.
وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدو من بعض الناس في كل زمن ومكان.
ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة، بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها ٤. ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ هي في معنى ( ندعهم مستمرين فيه ) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب ( يضل الله الظالمين ) وجملة ﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ]. فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.
تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها
إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب ( المدينة المنورة ) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير ( رضي الله عنه ) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليها معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة، وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلى الله عليه وسلم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم ٥. وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلباً مع عبد الله بن أبي وزمرته وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة، فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن رأوا خطراً تحايدوا وابتعدوا.
ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة، وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين. ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في موقف من المواقف ٦. وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ { ١ ﴾ } وآيات سورة التوبة هذه :﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ { ٥٦ ﴾ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿ ٥٧ ﴾ } وآية سورة التوبة هذه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ { ٧٤ ﴾ } وآية سورة التوبة هذه :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ { ٥٤ ﴾ }. وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في
٢ المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.
٣ هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [١٤] وسورة الحشر [١١] وسورة المائدة [٥٢-٥٣].
٤ انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.
٥ انظر سيرة ابن هشام، ٣/٣٣٥-٣٣٦.
٦ انظر المصدر السابق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿ ٨ ﴾ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿ ٩ ﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿ ١٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿ ١١ ﴾ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴿ ١٢ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٣ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴿ ١٤ ﴾ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿ ١٥ ﴾ ﴾.
يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين، وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم : فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم ؛ لأن الله يعرف حقائقهم، ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثاً ومرضاً واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نُصحوا ونُهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم : آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء، وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم : إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم، وأن ما يتظاهرون به ليس إلا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.
والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين ؛ لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون.
والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صوراً كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته. ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.
ولقد ذكر المفسرون ١ أن كلمة ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه :﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴿ ١٣٨ ﴾ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴿ ١٣٩ ﴾ ﴾ ٢ وآيات سورة محمد هذه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴿ ٢٥ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿ ٢٦ ﴾ ﴾ ٣.
وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدو من بعض الناس في كل زمن ومكان.
ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة، بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها ٤. ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ هي في معنى ( ندعهم مستمرين فيه ) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب ( يضل الله الظالمين ) وجملة ﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ]. فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.
تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها
إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب ( المدينة المنورة ) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير ( رضي الله عنه ) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليها معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة، وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلى الله عليه وسلم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم ٥. وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلباً مع عبد الله بن أبي وزمرته وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة، فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن رأوا خطراً تحايدوا وابتعدوا.
ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة، وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين. ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في موقف من المواقف ٦. وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴿ ١ ﴾ ﴾ وآيات سورة التوبة هذه :﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿ ٥٧ ﴾ ﴾ وآية سورة التوبة هذه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ٧٤ ﴾ ﴾ وآية سورة التوبة هذه :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿ ٥٤ ﴾ ﴾. وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في
٢ المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.
٣ هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [١٤] وسورة الحشر [١١] وسورة المائدة [٥٢-٥٣].
٤ انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.
٥ انظر سيرة ابن هشام، ٣/٣٣٥-٣٣٦.
٦ انظر المصدر السابق.
تعليق على ما جاء في بعض كتب التفسير
في سياق جملة ﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ﴾
من تقرير كون النساء سفهاء
إن كلمة السفهاء جاءت قبل هذه الآية في الآية [ ١٠٠ ] من سورة الأعراف وصفا من موسى عليه السلام لبعض قومه ؛ لأنهم طلبوا منه مطالب تعجيزية. منها رؤية الله تعالى جهرة على ما فسره المفسرون وتؤيده آيات أخرى، هذا أولا. وثانيا : إن المفسرين متفقون على أن معنى الكلمة هم ناقصو العقل والرشد والتمييز مطلقا. وثالثا : إنهم رووا عن أهل التأويل أن المنافقين قصدوا بالكلمة المحكية عنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخاصة الأرقاء والضعفاء.
ومع ذلك فإن بعض المفسرين قالوا : إن الكلمة هنا تعني النساء والصبيان وأوردوا في مناسبة ذلك قولا معزوا إلى ابن عباس وابن مسعود في صدد آية سورة النساء هذه :﴿ ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ﴾ أن الله عز وجل ( سمى النساء والصبيان سفهاء ) للتدليل على كونها هنا أيضا عنت النساء لأن بعضهن آمن بالله ورسوله.
وواضح بادئ الأمر أن ذكر النساء في سياق الآية مقحم، ثم إن قول ابن عباس وابن مسعود غير وثيق السند، وفيه غرابة لأنه يعزو تسمية النساء بالسفهاء لله تعالى، وليس في القرآن شيء من ذلك. وهما بعد أفقه من أن يغيب عنهما أن الكلمة في الآية مطلقة تشمل كما هو المعقول والمتسق مع روح الآية ومقامها كل قاصري العقول ضعفاء الأحلام من رجال ونساء وصبيان. ولقد رد القرآن على قول المنافقين :﴿ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ﴾ قائلا :﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء ﴾ وهذا يدعم ذلك ؛ لأن القائلين رجال فوصفهم الله بأنهم ضعاف العقول والأحلام. وقد يقال : إن هناك أحاديث نبوية فيها وصف للنساء بأنهن ناقصات عقل ودين يوردها المفسرون في سياق هذه الآية وآية سورة النساء وغيرها بسبيل التدليل على صواب ما قالوه، ومن هذه الأحاديث ما هو صحيح. ولقد أوردنا هذه الأحاديث في التعليق الذي علقنا به على الآية [ ٢١ ] من سورة الروم والذي استطردنا فيه إلى بحث مساواة الرجل والمرأة ومركز المرأة والزوجة في القرآن، وذكرنا ما يتبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله في صدد هذه الأحاديث، وفي صدد ما قرره القرآن وخاطبها به من المساواة التامة مع الرجل في كل شأن من شؤون الدين والدنيا، ومن أهليتها التامة لكل ذلك، ومن تكليفها بكل ما كلف به الرجل، ومن ترتيب كل ما رتب عليه عليها بدون أي تمييز مما يتنافى مع وصف النساء بالسفهاء بصورة مطلقة، بالإضافة إلى الحقيقة القرآنية الكبرى وهي أن كل ما خوطب به المؤمنون والكافرون والمشركون والمنافقون من تلك الشؤون مما ليس فيه قرينة تخصيصية للذكور وهو شامل للذكور والإناث معاً، ولا يمكن أن يصح هذا في عقل عاقل إلا مع فرض الأهلية التامة للمرأة عقليا وروحيا وأخلاقيا وجبلة.
وقد يكون في بعض آيات القرآن في السور المدنية ما يوهم تعارضا شيئا ما مع هذا التعميم والإطلاق. ولكنه في حقيقته ليس من شأنه أن ينقضه على ما سوف نشرحه في مناسباته والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿ ٨ ﴾ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿ ٩ ﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿ ١٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿ ١١ ﴾ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴿ ١٢ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٣ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴿ ١٤ ﴾ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿ ١٥ ﴾ ﴾.
يتفق المؤولون على أن الآيات تعني المنافقين، وقد تضمنت صفاتهم ومواقفهم والرد عليهم والتنديد بهم : فهم الذين يقولون آمنا بألسنتهم وقلوبهم غير مؤمنة بقصد خداع الله والمؤمنين، في حين أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم ؛ لأن الله يعرف حقائقهم، ولأن هذه الحقائق غير خافية على المؤمنين. ولقد خبثت نياتهم ومرضت قلوبهم فازدادوا بخداعهم وكذبهم خبثاً ومرضاً واستحقوا عذاب الله الأليم بسبب ذلك. وهم إذا نُصحوا ونُهوا عن الإفساد بنفاقهم وخداعهم ودسهم وكيدهم أنكروا وادعوا الصلاح مع أن ما هم فيه هو الفساد بعينه، ولكنهم لا ينتبهون إلى ما هم فيه من تناقض. وهم إذا قيل لهم : آمنوا إيمانا صحيحا قلبا وقالبا مثل غيرهم من المؤمنين الصادقين استكبروا وغمزوا المؤمنين الصادقين، ونعتوهم بالسفهاء، وتساءلوا تساؤل المستهزئ عما إذا كان يصح أن يؤمنوا مثل إيمانهم. مع أنهم السفهاء لا غيرهم، ولكنهم لا يدركون حقيقة أمرهم. وهم الذين إذا لقوا المؤمنين سايروهم وخادعوهم وقالوا لهم : إننا مؤمنون، ثم إذا خلوا إلى شياطينهم الذين يحرضونهم ويوسوسون لهم أكدوا لهم بقاءهم في جانبهم، وأن ما يتظاهرون به ليس إلا من قبيل الهزء والسخرية، فالله هو الذي يهزأ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون عن الحق لينالوا جزاءه الرهيب.
والآيات أولى الآيات المدنية التي احتوت إشارة إلى طبقة المنافقين التي نجمت في العهد المدني في وقت مبكر جدا بل قبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أو عقب وصوله مباشرة ولو لم ترد فيها كلمة النفاق أو المنافقين ؛ لأن الوصف منطبق عليهم والمؤولون متفقون على ذلك. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزولها. والمتبادر أنها استمرار في الاستطراد لإتمام سلسلة مختلف فئات الناس إزاء الدعوة المحمدية حين نزولها وهم المؤمنون الصادقون والكافرون المكابرون، والمنافقون الكاذبون المخادعون.
والوصف القوي الذي وصف به المنافقون في الآيات، والتنديد الشديد الذي ندد بهم فيها، يدلان على ما كان لظهور هذه الطبقة من خطورة وأثر. ولقد احتوت آيات قرآنية كثيرة في سور مدنية عديدة صوراً كثيرة متنوعة عن حركة النفاق والمنافقين، وما كانوا يقفونه من مواقف ضد الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم ومصلحة المسلمين كانت حقا شديدة الخطورة والأثر على ما سوف نشرحه في مناسباته. ولقد كان منافقون من أهل المدينة ومنافقون من الأعراب، غير أن نفاق منافقي المدينة هو الأبكر والأشد خطورة وأثرا. والأرجح أن الآيات إنما عنت هؤلاء.
ولقد ذكر المفسرون ١ أن كلمة ﴿ شَيَاطِينِهِمْ ﴾ مصروفة إلى اليهود، وهو وجيه ومتسق مع مفهوم الآيات، حيث يفهم منها أن المنافقين شيء وشياطينهم شيء آخر، حتى ولو كانوا زعماءهم، بل إن العبارة تفيد أن الموصوفين هم من الزعماء مما فيه توكيد للتوجيه. وفي القرآن المدني آيات كثيرة تؤيد أن المنافقين وزعماءهم خاصة كانوا حلفاء مع اليهود ضد الدعوة الإسلامية، وأن اليهود كانوا يوسوسون للمنافقين ويوجهونهم في طرق الكيد والمكر والتشكيك. من ذلك آيات سورة النساء هذه :﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴿ ١٣٨ ﴾ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴿ ١٣٩ ﴾ ﴾ ٢ وآيات سورة محمد هذه ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴿ ٢٥ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿ ٢٦ ﴾ ﴾ ٣.
وهكذا يكون اليهود بعد أن قرر معظمهم جحود رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ومناوأته على ما سوف يأتي في آيات أخرى من السورة قد وجدوا في الطبقة المريضة القلب الخبيثة النية من أهل المدينة الذين وسموا بالنفاق مجالا لدسائسهم فخالفوهم وظلوا يوسوسون لهم ويقفون معهم مواقف الكيد والدس والتعجيز ضد الدعوة وصاحبها والمؤمنين بها. ولم يضعف شأن النفاق والمنافقين إلا بعد أن أظهر الله تعالى نبيه على اليهود ومكّنه منهم فأجلى بعضهم عن المدينة وبطش ببعضهم في المدينة والقرى اليهودية الأخرى في طريق الشام. غير أن حركة النفاق لم تزل بالمرة لأنها طبيعة من طبائع الاجتماع.
ومع ما في الآيات من خصوصية زمنية واحتوائها صورة للمنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإن في إطلاق الخطاب وتعميمه تلقينا عاما مستمر المدى بتقبيح الأخلاق والمواقف والأقوال المنسوبة للمنافقين والتي تبدو من بعض الناس في كل زمن ومكان.
ويقف بعضهم عند الآية الأخيرة، بل ويتشاد أهل المذاهب الإسلامية فيها ٤. ولسنا نرى فيها ما يتحمل توقفا ولا مشادة، وقد ورد من بابها جمل كثيرة في السور المكية وشرحنا مداها بما يزيل الإشكال فجملة ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ ﴾ هي في معنى ( ندعهم مستمرين فيه ) لأنهم اختاروه لينالوا جزاءه العالي ولا نعني أن الله يفعل ذلك جزافا فيهم. ومن باب ( يضل الله الظالمين ) وجملة ﴿ اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ هي من قبيل المشاكلة الأسلوبية الخطابية، ومن باب ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ ﴾ [ آل عمران : ٤٥ ]. فهم يستهزئوون بالله ورسوله وهم الأولى بالاستهزاء من الله ورسوله.
تعليق على حركة النفاق وأسبابها ومداها
إن المستفاد من مضامين الآيات القرآنية الكثيرة الواردة في هذه الحركة وأصحابها ومن روايات السيرة أن هذه الحركة نجمت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. فقد التقى النبي مرتين ببعض زعماء قبيلتي الخزرج والأوس سكان يثرب ( المدينة المنورة ) في المواسم فدعاهم فآمنوا واتفق معهم على الهجرة إلى المدينة هو وأصحابه. وأرسل إليهم مصعب بن عمير ( رضي الله عنه ) نائبا عنه وقارئا وداعية للإسلام وإماما. فصار يدعو الناس ويساعده في دعوته الزعماء الذين آمنوا فانبرى له بعض أهل المدينة يناوئون دعوته ويعطلون عليها، وكان عبد الله بن أبي بن سلول أحد زعماء الخزرج وهم الأقوى والأكثر من قبيلة الأوس ثانية القبيلتين التي ينتسب إليها معظم سكان المدينة على رأس هذه الحركة، وقد استطاع أن يؤثر على بعض أقاربه فانضووا إلى حركته. ولقد كان الخزارجة على وشك المناداة به ملكا على يثرب في الظرف الذي اتصل النبي صلى الله عليه وسلم فيه ببعض رجال الأوس والخزرج وبايعوه على الإسلام ورحبوا بهجرته مع أصحابه إليهم وعاهدوه على النصر والدفاع فاعتبر حركة النبي وهجرته سببا في حرمانه من ذلك فحقد ونقم ٥. وهناك شخص قوي آخر تذكره الروايات من الأوس وهو أبو عامر المسمى بالراهب والذي كان من زمرة الموحدين الصابئين وتنصّر حيث حسد النبي على اختصاصه بالنبوة دونه وحقد عليه واستطاع أن يؤثر على بعض أقاربه وأن يكون هو وإياهم إلباً مع عبد الله بن أبي وزمرته وإلى جانب هاتين الزمرتين في المدينة، فقد كان في الأعراب الذين هم حول المدينة منافقون أيضا وإن كان الدور المؤذي الذي قام به المنافقون هو الدرجة الأولى دور منافقي المدينة حيث كان إسلام الأعراب المنافقين يدور مع المنفعة، فإن رأوا في الإقدام منفعة أقبلوا وتضامنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن رأوا خطراً تحايدوا وابتعدوا.
ولقد كانت مواقف منافقي المدينة ومكايدهم بعيدة المدى والأثر حتى لكأنه نضال قوي يذكر بما كان من نضال بين النبي صلى الله عليه وسلم وزعماء مكة وإن اختلفت الأدوار والنتائج، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ودائرة دعوته تتسع وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز. ولم يكن هؤلاء المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية بارزة، وكانوا وظلوا قلة وكان شأنهم يتضاءل بنسبة تزايد قوة النبي صلى الله عليه وسلم واتساع دائرة الإسلام. وكان جل أقاربهم من المؤمنين المخلصين. ومن جملتهم ابن كبيرهم عبد الله بن أبيّ الذي كان من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي أظهر استعداده لقتل أبيه إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في موقف من المواقف ٦. وكانوا يتنصلون من النفاق ويحلفون أنهم مؤمنون مخلصون، ويؤدون فرائض الإسلام ويشتركون في الحركات الجهادية ولو على كره منهم على ما حكته آيات عديدة. منها آية سورة المنافقون هذه :﴿ إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴿ ١ ﴾ ﴾ وآيات سورة التوبة هذه :﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴿ ٥٧ ﴾ ﴾ وآية سورة التوبة هذه :﴿ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ٧٤ ﴾ ﴾ وآية سورة التوبة هذه :﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴿ ٥٤ ﴾ ﴾. وإنما كانوا يقومون بحركاتهم المؤذية المنافية للإيمان ومصلحة الدعوة الإسلامية والمسلمين بطرق مريبة ملتوية، ولا يتظاهرون بعض الشيء إلا في الظروف الحرجة التي كانت تمرّ بالمؤمنين في
٢ المقصود من الكافرين هنا اليهود. انظر تفسير الآية في تفسير الخازن مثلا.
٣ هذه الآيات ليست كل ما ورد في هذا الصدد انظر آيات سورة المجادلة [١٤] وسورة الحشر [١١] وسورة المائدة [٥٢-٥٣].
٤ انظر تفسير الكشاف وفي ذيل تعليقات ابن المنير.
٥ انظر سيرة ابن هشام، ٣/٣٣٥-٣٣٦.
٦ انظر المصدر السابق.
تعليق على رواية في صدد الآية [ ١٤ ]
ولقد ذكر المفسر الخازن عزوا إلى ابن عباس أن الآية [ ١٤ ] نزلت في عبد الله ابن أبي وأصحابه المنافقين، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله لأصحابه : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحبا بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله، فقال له علي : اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فإن المنافقين شرّ خليقة الله تعالى، فقال : مهلاً يا أبا الحسن إني لا أقول هذا نفاقاً والله إن إيماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم، ثم تفرقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيراً.
والصنعة قوية البروز على الرواية ؛ لأن هذه الأوصاف التي وصف بها الثلاثة ( رضوان الله عليهم ) إنما صاروا يوصفون بها بعد مدة طويلة من الهجرة إن لم نقل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل وبعد وفاتهم. ويخيل إلينا أنها حيكت لإبراز علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) أنه هو وحده الذي فطن لنفاق المنافق، والرواية بعد تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة انسجاما قويا في الفصل يدل على أنها نزلت مع آيات الفصل دفعة واحدة.
والذي نرجحه أن ما حكته الآية كان يقع من المنافقين عموماً حينما كانوا يلتقون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين منهم خاصة وبغير أقاربهم الذين يمكنهم أن يتبسطوا معهم فجاء في الآية وصفا عاما من أوصافهم ومواقفهم.
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :
١- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
٢- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
٣- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
٤- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً.
٥- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة ﴿ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ ١٢-١٣ ] والروم [ ٢٤ ] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا ١ تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴿ ١٦ ﴾ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [ ١ ] نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴿ ١٧ ﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴿ ١٨ ﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ [ ٢ ] مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿ ١٩ ﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [ ٣ ] وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ٢٠ ﴾ ﴾
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :
١- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
٢- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
٣- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
٤- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً.
٥- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة ﴿ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ ١٢-١٣ ] والروم [ ٢٤ ] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا ١ تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :
١- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
٢- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
٣- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
٤- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً.
٥- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة ﴿ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ ١٢-١٣ ] والروم [ ٢٤ ] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا ١ تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴿ ١٦ ﴾ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [ ١ ] نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴿ ١٧ ﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴿ ١٨ ﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ [ ٢ ] مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿ ١٩ ﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [ ٣ ] وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ٢٠ ﴾ ﴾
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :
١- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
٢- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
٣- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
٤- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً.
٥- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة ﴿ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ ١٢-١٣ ] والروم [ ٢٤ ] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا ١ تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴿ ١٦ ﴾ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [ ١ ] نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ﴿ ١٧ ﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ﴿ ١٨ ﴾ أَوْ كَصَيِّبٍ [ ٢ ] مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿ ١٩ ﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ [ ٣ ] وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ٢٠ ﴾ ﴾
الآيات كما هو المتبادر معقبة على سابقاتها بسبيل وصف حالة المنافقين والتمثيل لهم والتنديد بهم :
١- فقد اشتروا الضلالة بالهدى فلم تربح تجارتهم ولم يهتدوا.
٢- وإن مثلهم كمثل الذي أوقد ناراً في الظلمة فلم تكد تضيء ما حوله حتى ذهب الله بنوره فعاد إلى الظلمات لا يبصر شيئا.
٣- وأنهم صاروا بمثابة العمي والبكم والصمّ، فلم يعودوا يرون الحق ولا يسمعونه ولا ينطقون به، فلا أمل في رجوعهم إليه.
٤- وإن مثلهم كذلك كمثل الذي يسير في ليلة شديدة المطر والرعد والبرق قد اكتنفته الظلمات وملأه الخوف من الصواعق واصطكت أذناه من الرعد حتى إنه ليسدها بيده من شدته ويتخطف البرق عيونه، فإذا لمع البرق وأضاء ما حوله سار، غير أن البرق لا يلبث أن ينقطع فيقف حائراً ذاهلاً.
٥- وإن الله لو شاء لأخذ سمعهم وأبصارهم فهو القادر على كل شيء والمحيط بالكافرين فلن يفلتوا منه.
والآيات قوية رائعة في تمثيلها ووصفها وتنديدها. وقد تضمنت تقرير كون الرسالة المحمدية جاءت نورا يهتدي به الناس وقد رآه المنافقون فاهتدوا به ثم غلب عليهم خبث نواياهم فكفروا أو نافقوا وعموا عن النور وخسروا.
ولقد أول جمهور المفسرين جملة ﴿ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ﴾ بأن الله قد أطفأ النار التي أوقدوها فلم يعودوا يرون شيئا. ويتبادر لنا أن التعبير أسلوبي على ما جرى عليه النظم القرآني وأن شرحنا للجملة آنفا هو أكثر اتساقاً مع روح الآيات. فالنور الذي لاح هو نور الرسالة المحمدية ولم يكن الله ليطفئه. وإنما هم الذين غلبت عليهم نياتهم الخبيثة فلم يعودوا يرونه. وجملة ﴿ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ مما يدعم هذا التوجيه فقد أحرزوا الهدى بإيمانهم ثم باعوه واستبدلوا النفاق والضلال به فهم المسؤولون عن النتيجة التي هي من فعلهم وكسبهم.
ونقول هذا ما قلناه في صدد وصف الكافرين في الآية السابقة لفصل المنافقين. ففي هذا الفصل تسجيل لواقع أمر المنافقين حينما نزلت الآيات، وليس على سبيل التأبيد إلا للذين ماتوا على نفاقهم مع التنبيه على أن كثيرا منهم تابوا وحسن إسلامهم.
ولقد أورد المفسرون في سياق ذكر البرق والرعد والصواعق روايات عن أهل الصدر الأول عن ماهيات هذه الظواهر. وقد أوردناها في سياق آيات الرعد [ ١٢-١٣ ] والروم [ ٢٤ ] التي وردت فيها هذه الكلمات. والروايات بعد غير وثيقة السند والبيانات لا تتسم بسمة العلم. والمتبادر أنها مما كان يقال عن هذه الظواهر في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها وقت نزول القرآن. والآيات تسوق ما يعرفه الناس ويشاهدون آثاره على سبيل التمثيل والتنديد والوصف. والأولى أن تبقى في هذا النطاق دون تزيد وتخمين لا ضرورة لهما ولا طائل بالنسبة لأهداف الآيات ومقامها.
وللسيد رشيد رضا ١ تقرير وجيه في هذا الصدد حيث قال : إن ذلك ليس من مباحث القرآن. وإنما تذكر الظواهر الطبيعية في القرآن لأجل الاعتبار والاستدلال وصرف العقل إلى البحث الذي يقوى به الفهم والدين ؛ وهذا متسق مع ما فتئنا ننبه إليه في المناسبات المماثلة.
في الآيات :
١- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعابدة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم.
٢- ونهى لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك.
٣- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
٤- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي ؛ لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان الإذعان. وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد.
ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مراراً في الآيات المكية، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به.
تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني
والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [ ٨٨ ] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله.
وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا، ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [ ٥١ ] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية ٣٩ مكية
وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [ ٣٩ ] مكية ؛ لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا. وتشابه المضمون الذي قد يكون وارداً ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ٢١ ﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [ ١ ] ﴿ ٢٢ ﴾ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم [ ٢ ] مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٢٣ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾.
في الآيات :
١- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعابدة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم.
٢- ونهى لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك.
٣- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
٤- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي ؛ لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان الإذعان. وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد.
ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مراراً في الآيات المكية، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به.
تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني
والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [ ٨٨ ] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله.
وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا، ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [ ٥١ ] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية ٣٩ مكية
وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [ ٣٩ ] مكية ؛ لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا. وتشابه المضمون الذي قد يكون وارداً ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ٢١ ﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [ ١ ] ﴿ ٢٢ ﴾ وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم [ ٢ ] مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٢٣ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾.
في الآيات :
١- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعابدة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم.
٢- ونهى لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك.
٣- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
٤- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي ؛ لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان الإذعان. وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد.
ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مراراً في الآيات المكية، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به.
تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني
والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [ ٨٨ ] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله.
وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا، ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [ ٥١ ] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية ٣٩ مكية
وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [ ٣٩ ] مكية ؛ لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا. وتشابه المضمون الذي قد يكون وارداً ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء.
في الآيات :
١- هتاف بالناس إلى عبادة الله ربهم الذي هو وحده المستحق للعابدة اتقاء لغضبه واستحقاقا لرضائه. فهو الذي خلقهم وخلق من قبلهم، وهو الذي جعل لهم الأرض مبسوطة ممهدة لتيسير الإقامة والحياة فيها. وبنى فوقها السماء وأنزل من السماء الماء فأخرج به لهم شتى أنواع الثمرات التي يقيمون بها أودهم وحياتهم.
٢- ونهى لهم عن اتخاذ الأنداد والشركاء مع الله، ولا سيما أنهم يعلمون أنه الإله الأعظم مما يقتضي تنزيهه عن ذلك.
٣- وتحدّ لهم فيما إذا كانوا في ريب من صحة ما أنزله الله على نبيه وصدق صلته به بالإتيان بسورة من مثله وبالاستعانة على ذلك بمن يريدون من الشركاء والأنصار.
٤- ودعوة لهم إلى اتقاء النار التي أعدها للكافرين والتي سيكون الناس والحجارة وقودها بالإيمان والتصديق إذا عجزوا عن استجابة هذا التحدي ؛ لأن الحجة تكون قد لزمتهم مع التقرير بأنهم سيظلون عاجزين عن ذلك أبدا.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات، والمتبادر أنها جاءت بمثابة التعقيب على الآيات السابقة. فبعد أن ذكرت هذه الآيات الفرق الثلاث للناس إزاء الدعوة النبوية جاءت لتهتف بهم جميعا بأسلوب مطلق بالإيمان الإذعان. وتذكرهم بمشاهد قدرة الله في الكون وما فيه من منافع عظيمة ميسرة لهم واستحقاقه وحده للعبادة، وتنذر الذين يصرون على الجحود والعناد.
ولقد ذكر خلق السموات والأرض، وبناء السماء وبسط الأرض وجعلها فراشا مراراً في الآيات المكية، وعلقنا على ذلك بما يغني عن التكرار، وواضح أن هدفها هنا كما في الآيات المماثلة لفت نظر السامعين إلى مشاهدة قدرة الله تعالى في السماء والأرض، وما فيهما من منافع للناس.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن مسعود أن الحجارة التي ستكون من وقود النار الأخروية هي من الكبريت. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح والمشهد المذكور في الآية مشهد أخروي غيبي لا يؤخذ فيه إلا بما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والأولى والحالة هذه الوقوف عند ما وقف عنده القرآن مع الإيمان به.
تعليق على تحدي الناس جميعا بالإتيان بشيء من مثل القرآن في أول العهد المدني
والتحدي بالإتيان بشيء من مثل القرآن قد تكرر في السور المكية، وهذه مرة ثانية يقرر فيها عجز الناس عن ذلك حيث قررت ذلك آية سورة الإسراء [ ٨٨ ] مع فارق واحد هو أن آية سورة الإسراء قررت عجزهم عن الإتيان بمثل القرآن وآية البقرة التي نحن في صددها قررته عن الإتيان بسورة من مثله.
وتكرار التحدي بهذه القوة للناس جميعا في أوائل العهد المدني مع تقرير العجز بأسلوب التأييد ينطوي على أن هذا العجز استمر طيلة العهد المكي أولا، ثم على معنى قوي بسبيل تلقين الشعور التام بالوثوق في صحة الرسالة النبوية وصلة القرآن بالوحي الرباني وصدوره عنه كما ينطوي على موقف القوة والاستعلاء للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر.
ولقد علقنا على موضوع هذا العجز ومدى الإعجاز القرآني الذي عجز عنه الناس في سياق تفسير آية الإسراء المذكورة ثم في سياق تفسير الآية [ ٥١ ] من سورة العنكبوت فنكتفي بهذا التنبيه دون الإعادة.
تعليق على زعم بعض المستشرقين بأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر الآية ٣٩ مكية
وقد رأينا بعض المستشرقين يزعمون أن هذه الآيات إلى آخر الآية [ ٣٩ ] مكية ؛ لأن أسلوبها مشابه للأسلوب المكي. ولم نطلع على رواية ما قد تفيد هذا. وتشابه المضمون الذي قد يكون وارداً ليس كافيا لتصويب الزعم. ولا سيما أن معظم الناس في الجزيرة العربية وحول يثرب كانوا حين نزولها كفارا يتحملون الخطاب بهذا الأسلوب. وهذا فضلا عن معنى التعقيب الذي ذكرناه على الآيات السابقة وتحمله لهذا الأسلوب أيضا. وقد يكون القائلون استندوا إلى ما قاله بعض العلماء من أن كل جملة تبتدئ بيا أيها الناس تكون مكية. غير أن هذا القول اجتهادي شخصي غير متفق عليه. وقد استعمل هذا الخطاب في آيات مدنية لا خلاف في مدنيتها ولا تتحمل أي احتمال لذلك مثل مطلع سورة النساء.
عبارة الآية واضحة، وفيها التفات إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية بمثابة تنويه وبشرى ومقابلة لما أنذر الكفار به من نار وعذاب في الآخرة كما هو المتبادر. وهكذا تكون الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها. مع واجب الإيمان بحقيقتها الآتية.
ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد وقال : إن الحاكم رواه في مستدركه وقال إنه صحيح على شرط الشيخين في معنى ﴿ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ﴾ وهو " إنهن مطهرات من الحيض والغائط والنخامة والبزاق ".
تعليق على جملة
﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾
ولقد روى المفسرون ١ عن ابن عباس وغيره أقوالا متعددة في تأويل جملة :﴿ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ منها أن الكلام في صدد ثمر الجنة حيث يكون متشابها في اللون والشكل مختلفا في الطعم واللذة، فيظن المنعم أنه نفس ما أكله من قبل. ومنها أن الكلام في صدد تشبيه ثمر الدنيا بثمر الجنة، حيث يرى المنعم الذي يؤتى إليه به في الجنة مشابها لما اعتاده في الدنيا. وقد عقب المفسرون على القول الثاني : بأنه يكون مشابها لثمر الدنيا في الشكل والاسم مختلفا عنه في الطعم واللذة، ونحن نرجح القول الثاني ؛ لأن كلمة ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ تنصرف إلى الدنيا أكثر فيما يتبادر لنا.
وفي الآيات المكية الكثيرة التي ذكرت فيها وسائل النعيم الأخروي تدعيم لهذا القول ؛ حيث ذكر في كثير منها أسماء كثير من الفواكه والثمار والأشربة والوسائل المعروفة في الدنيا مثل الرمان والنخل ولحم الطير والزنجبيل والكافور والمسك والأرائك والنمارق والزرابي والأكواب والصحاف والحرير واللؤلؤ إلخ.. إلخ. وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف ومشاهد الحياة الأخروية ووسائل نعيمها وعذابها مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا ؛ لأن الفكر البشري لا يستطيع أن يفهم ما لم يكن قد رآه، ودخل في نطاق تصوره المستمد من حواسه على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة. مع واجب الإيمان بحقيقة الأوصاف والمشاهد الأخروية التي أخبر عنها القرآن وكونها في نطاق قدرة الله تعالى ومقتضى حكمته.
في الآيتين الأوليين : تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها. فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا ؛ لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا.
وفي الآيتين الأخيرتين : تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء.
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة ﴿ وكنتم أمواتا ﴾ هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه.
ولقد روى المفسرون عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا : ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾ و﴿ كصيّب من السماء ﴾ للمنافقين قال المنافقون : الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال.
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام، ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا، وإنما ذكر ﴿ الذين كفروا ﴾ فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم.
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه، وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم ؛ لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته.
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا : أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا : أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا : أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا –أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين ١- مما يعترف به الكافرون المشركون ؛ حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار، وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة.
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين.
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار ٢.
تعليق على جملة
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾
وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة.
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال : إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى ( الفاسقين ) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا، وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين، وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك.
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها.
٢ انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.
في الآيتين الأوليين : تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها. فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا ؛ لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا.
وفي الآيتين الأخيرتين : تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء.
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة ﴿ وكنتم أمواتا ﴾ هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه.
ولقد روى المفسرون عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا : ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾ و﴿ كصيّب من السماء ﴾ للمنافقين قال المنافقون : الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال.
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام، ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا، وإنما ذكر ﴿ الذين كفروا ﴾ فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم.
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه، وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم ؛ لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته.
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا : أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا : أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا : أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا –أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين ١- مما يعترف به الكافرون المشركون ؛ حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار، وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة.
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين.
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار ٢.
تعليق على جملة
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾
وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة.
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال : إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى ( الفاسقين ) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا، وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين، وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك.
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها.
٢ انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.
في الآيتين الأوليين : تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها. فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا ؛ لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا.
وفي الآيتين الأخيرتين : تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء.
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة ﴿ وكنتم أمواتا ﴾ هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه.
ولقد روى المفسرون عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا : ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾ و﴿ كصيّب من السماء ﴾ للمنافقين قال المنافقون : الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال.
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام، ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا، وإنما ذكر ﴿ الذين كفروا ﴾ فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم.
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه، وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم ؛ لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته.
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا : أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا : أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا : أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا –أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين ١- مما يعترف به الكافرون المشركون ؛ حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار، وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة.
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين.
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار ٢.
تعليق على جملة
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾
وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة.
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال : إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى ( الفاسقين ) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا، وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين، وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك.
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها.
٢ انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.
في الآيتين الأوليين : تقرير بأن الله تعالى لا يرد في حقه الحياء من ضرب الأمثال للناس في القرآن مهما بدا أنها بديهية أو تافهة كبعوضة أو ما فوقها. فالمؤمنون يقبلون على تدبر هذه الأمثال وتلقيها حقا ؛ لأنها وحي الله الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا الحق والحكمة. وأما الكافرون فهم الذين يتمحلون ويتساءلون، تمحّل المستخف المستهين وتساؤله عن مدى مراد الله منها. وإن الله ليهدي بالأمثال القرآنية كثيرين ويضل كثيرين، غير أن الذين يضلون بها هم الفاسقون المتمردون سيئو النية وخبثاء الطوية. الذين من صفاتهم نقض عهد الله من بعد توكيده وقطع ما أمر الله به أن يوصل والفساد في الأرض، ومن كان هذا شأنه فهو الخاسر الخائب حقا.
وفي الآيتين الأخيرتين : تعقيب تنديدي بالكفار في صيغة التساؤل الإنكاري عن جرأتهم على الكفر بالله وانحرافهم عن سبيله، وهو الذي أحياهم بعد أن كانوا أمواتا ثم يميتهم ثم يحييهم، وإليه مرجعهم في النهاية. كما أنه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا لينتفعوا به ويتمتعوا، وهو الذي استوى بعد خلق الأرض إلى السماء فسواهن سبع سموات، وهو العليم بكل شيء.
وجمهور المؤولين الذين يروي الطبري وغيره أقوالهم على أن جملة ﴿ وكنتم أمواتا ﴾ هي بمعنى كنتم عدما أو لا شيء، وهو تأويل وجيه.
ولقد روى المفسرون عزوا إلى ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين روايتين كسبب لنزول الآية الأولى. واحدة تذكر أن الله لما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت والنمل قال المشركون أو قال اليهود والمشركون معا : ماذا أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة، وإنه أجل من أن يضرب بها الأمثال. والثانية جاء فيها أن الله لما ضرب المثلين اللذين وردا في الآيات السابقة أي ﴿ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ﴾ و﴿ كصيّب من السماء ﴾ للمنافقين قال المنافقون : الله أعلى وأجل من ضرب هذه الأمثال.
والمتبادر أن الرواية الثانية هي الأكثر مناسبة للمقام، ولا يرد على هذا كون المنافقين لم يذكروا، وإنما ذكر ﴿ الذين كفروا ﴾ فوصف المنافق المتفق عليه هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. وقد نعتهم القرآن بالكفر في آيات عديدة على ما ذكرناه في التعليق السابق عنهم. ولما كانت الآيات الثلاث منسجمة مع الآية الأولى موضوعا وهدفا، فالمتبادر كذلك أنها نزلت معا، وأن الآية الأولى لم تنزل لحدتها. وعلى ضوء هذه الرواية تبدو الصلة بين هذه الآيات وما قبلها واضحة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعدها بسبيل الرد والتنديد بالكفار لاعتراضهم وتمحلهم والتنويه بالمؤمنين لتصديقهم وحسن تلقيهم.
والرد ينطوي على حقيقة من الحقائق التي نبهنا عليها أكثر من مرة في المناسبات السابقة. وهي أن القرآن في أمثاله وتقريراته إنما يخاطب الناس بما يفهمونه، وما هو مستمد من مألوفاتهم وأساليبهم ؛ لأجل التقريب لأذهانهم وإثارة انتباههم بقطع النظر عن ماهيته.
وأسلوب الآية الرابعة الأخيرة يلهم أولا : أنه بسبيل تقرير ما هو واقع أمر الناس من انتفاعهم بما خلق الله في الأرض من مختلف الأسباب والوسائل، وثانيا : أن السامعين يسلمون بذلك ويعترفون به، وثالثا : أن فيه تنويها أو تكريما لبني آدم الذين هم أكثر خلق الله انتفاعا بما خلق الله في الأرض حتى لكأنه خلقه لهم ولعل فيه بالإضافة إلى ذلك هدف التدليل على ما قررته الآية التي قبلها من قدرة الله على إحياء الناس بعد الموت، ومن كون مرجعهم إليه. والتدليل على هذه النقطة الأخيرة منطو في شطر هذه الآية الذي يقرر أن الله أحيا الناس بعد أن كانوا أمواتا –أي عدما على ما أوله جمهور المفسرين ١- مما يعترف به الكافرون المشركون ؛ حيث حكته عنهم آيات مكية عديدة. وفي كل هذا إلزام وإفحام للكفار، وهو ما انطوى في السؤال التنديدي الإنكاري الذي بدأت به الآية الثالثة.
ولقد احتوت السور المكية تقريرات كثيرة مماثلة، والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تكراره بالأسلوب الذي جاء به في مطلع العهد المدني وبمناسبة اعتراض المنافقين.
والفقرة الأخيرة من الآية الرابعة جاءت تتمة أو استطرادا على ما هو المتبادر. ولقد علقنا على ما فيها من خلق الله الأرض وما فيها والسموات السبع في مناسبات سابقة تعليقا يغني عن التكرار ٢.
تعليق على جملة
﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾
وما بعدها
وهذه الجملة من الجمل القرآنية المحكمة التي يصح أن تكون مفسرة لكل ما يأتي مطلقا من آيات الهدى والضلال، حيث ينطوي فيها تقرير كون الضلال هو نتيجة للفسق المنبثق عن سوء النية وخبث الطوية وفساد الخلق، وحيث يتسق هذا مع التقريرات القرآنية المحكمة في صدد كون الله قد بين للناس طريق الهدى والضلال بواسطة رسله وكتبه، وأودع فيهم قابلية التمييز والاختيار، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضلّ عليها، مما نبهنا عليه في المناسبات الكثيرة السابقة.
وفي الآية التي تلي هذه الجملة وصف قوي للفاسقين، ومظاهر فسقهم نحو الله والناس فهم ينقضون عهد الله من بعد ما ارتبطوا به، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من رحم، وفعل برّ وخير وتعاون وتضامن، ويفسدون في الأرض بأفعالهم وأقوالهم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها الطبري وغيره عن المؤولين السابقين في المقصود بالفاسقين منها أنهم المنافقون، ومنها أنهم كفار أهل الكتاب، ومنها أنهم الكفار من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين جميعا. بل هناك من قال : إنهم الخوارج. والقول الأخير هو على ما هو المتبادر من وحي الأحداث والاجتهاد في التطبيق. والأفعال المنسوبة إلى ( الفاسقين ) في الآية تدل على أن المقصودين ليسوا الكفار والمشركين مطلقا، وإنما الناقضين للعهد والقاطعين لما أمر الله به أن يوصل والمفسدين في الأرض. وقد يكون هذا يسوغ ترجيح المنافقين الذين كان نفاقهم بمثابة نقض لما عاهدوا الله ورسوله عليه من الإيمان. ومما أدى إلى حالة الكره والشقاق والقطيعة والبغضاء بينهم وبين أقاربهم ثم إلى حالة الاضطراب والبلبلة والفساد بما كان من مساعيهم الهادفة إلى إفساد حالة الإسلام والمسلمين، وبخاصة بما كان من تآمرهم مع اليهود على ذلك.
ويتبادر لنا مع ذلك أن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون عبارة الآية مطلقة ليكون تلقينها مستمر المدى في التنديد بهذه الأخلاق والمواقف وتقبيحها وخطرها.
٢ انظر تفسير سور ق والإسراء وفصلت.
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ { ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ } [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٠:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٣١ ﴾ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿ ٣٢ ﴾ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿ ٣٣ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٣٤ ﴾ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ﴿ ٣٥ ﴾ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا [ ١ ] فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴿ ٣٦ ﴾ فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٣٧ ﴾ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٣٨ ﴾ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
تعليق على توبة آدم
وحكمة ذكرها
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربّه ليتوب عليه منها جملة :﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٢٣ ] الواردة عن لسانهما في سورة الأعراف. ومنها عبارات أخرى مماثلة. ومنها أن آدم سأل ربه إن كان له توبة فقال له : نعم. فدعا ربه تائبا مستغفرا. ومنها رواية غريبة وهي أن الله علم آدم أركان الحج وأمره بالطواف حول مكان الكعبة الذي كان ربوة حمراء سبعا، ثم بصلاة ركعتين وطلب المغفرة. وليس لكل ما رووه سند وثيق، وليس من طائل في التخمين في أمر مغيب. وقد أخبرنا الله في الآيات أنه ألهمه أن يتوب عن ذنبه ففعل فتاب وتاب عليه، وكفى.
ونكرر هنا ما قلناه في سياق القصة في سورة طه من أنه قد تبادر لنا من حكمة ذكر قبول الله لتوبة آدم الرد على ما كان النصارى، وما زالوا يعتقدونه من عقيدة عجيبة وهي تسلسل خطيئة آدم في ذريته من بعده وكون الله إنما أرسل ابنه الذي هو نفسه سبحانه وتعالى بعد مدة طويلة ليفتدي بني آدم من خطيئة أبيهم !.
ومفسرو الشيعة يروون روايات عديدة على هامش آيات القصة، من ذلك أن الشجرة التي نهى الله آدم وحواء عنها هي شجرة علم محمد وآل محمد الذين آثرهم الله عز وجل بها. وأن محمدا وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا يأكلون منها فلا يحسون بجوع ولا عطش ولا نصب ولا تعب. ومن ذلك إن الله إنما أمر الملائكة بالسجود لآدم ؛ لأنه كان في صلبه أنوار النبي وآله المعصومين المفضلين على الملائكة. ومن ذلك أن آدم رأى على العرش أسماء يتلألأ النور منها فسأل فقيل : إنها أسماء أجلّ الخلق عند الله محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين فتوسل بهم إلى ربّه فقبل توبته. وطابع الصنع والهوى الحزبي بارز على هذه الروايات العجيبة التي يبدو منها شدة استغراق رواة الشيعة في الحزبية العمياء مهما بدا فيما يروونه من صنعة وغرابة [ انظر كتاب التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/٩١، ٩٢، ٩٣، ١٦١، ١٦٣ وانظر تفسير الطبرسي الذي نقلناه عنه بعض الروايات أيضا.
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
الآيات تتألف من مجموعتين متناسبتين، ولذلك أوردناهما معا. والأولى تضمنت حكاية محاورة بين الله سبحانه والملائكة في صدد خلق آدم أول البشر. والثانية تضمنت حكاية أمر الله للملائكة بالسجود لآدم وامتناع إبليس وإغراقه لآدم وزوجته حتى كان سببا في إخراجهما من الجنة، وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
والمجموعة الثانية مماثلة بعض المماثلة لما جاء في سورة الأعراف وغيرها من السور المكية عن قصة آدم وإبليس. أما المجموعة الأولى فهي جديدة، ولكن روح المجموعتين وفحواهما يلهمان أن الأولى بمثابة مقدمة وتمهيد للثانية، ولم نطلع على رواية خاصة بنزول آيات المجموعتين.
وقد رأى الطبري أن بدء الآيات في كلتا المجموعتين بحرف ( إذا ) التذكيري مع واو العطف يعني أن الكلام استمرار للآيات السابقة التي تضمنت تذكير الكفار بنعمة الله عليهم بما خلقه لهم في الأرض، والتنديد بهم لكفرهم حيث جاءت هذه الآيات بعدها لتذكيرهم كذلك بما كان من نعمته على آدم وذريته باستخلافهم في الأرض.
وهو رأي وجيه يؤيده فحوى الآيات ونظمها ويفيد قيام الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها.
لقد أورد المفسرون أقوالا وأحاديث كثيرة متنوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد هذه الآيات. منها ما هو غفل المصدر، ومنها ما فيه إغراب وخيال، ومنها ما هو متعدد ومتناقض مع وحدة مصدره حتى لقد شغل ذلك من تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة، وليس شيء من ذلك واردا في كتب الأحاديث الصحيحة إلا أربعة أحاديث نبوية.
وكثير مما أوردوه ومن ذلك الأحاديث النبوية الأربعة هو مما يتصل بالمجموعة الثانية أي بقصة آدم وإبليس. ولقد أوردنا هذه الأحاديث وأوردنا بعض النماذج من المرويات الأخرى في سياق آيات هذه القصة الواردة في سورة ( ص ) مع تعليق مسهب في هذه السورة شرحنا فيه ما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله. كما أوردنا بعض نماذج أخرى من المرويات في سياق آيات القصة في سور الأعراف والحجر والإسراء وطه والكهف. وعلقنا عليها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد شيء أو التعليق بشيء جديد على هذه القصة إلا القول : إن هذا الفيض من الروايات مهما يكن أمرها تدل كما قلنا قبل على أن قصة آدم وإبليس وحواشيها مما كان معروفا متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾
والآيات التسع التالية لها
قلنا : إن هذه الآيات مجموعتان. ونقول هنا : إن المجموعة الأولى جديدة يأتي فحواها لأول مرة وفيها ما يفيد أن الله تعالى قد أراد منذ الأزل أن يسكن الله آدم وذريته الأرض ويعمروها ويكونوا فيها خلفاء. وأن ذلك لم يكن سببا طارئا بسبب مخالفة آدم لأمر الله عز وجل وأكله من الشجرة بإغراء إبليس وإخراجه مع زوجته من الجنة، وأن ذلك إنما كان سببا ظاهريا ومباشراً.
وننبه على أن ما جاء في هذه المجموعة لم يرد شيء منه في سفر التكوين المتداول اليوم الذي ذكر قصة خلق السموات والأرض وخلق آدم وخروجه من الجنة مع زوجته بسبب أكلهما من الشجرة. مما ورد أيضا في سورتي الأعراف وص. ولكن هذا لا يمنع أن يكون شيء منه قد ورد في أسفار أو قراطيس كانت في أيدي الكتابيين كما هو شأن ما لم يرد في سفر التكوين وورد في القرآن مثل أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وسجودهم وامتناع إبليس من مثل ذكر الحية بدلا من إبليس إلخ.
وفي كتب التفسير أحاديث وروايات عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيه في صدد هذه المجموعة. من ذلك في صدد جملة :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ حديث عن ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به، وهي الأرض التي قال الله ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، وكان كل نبي إذا هلك قومه ونجا هو والصالحون أتوا إليها فتعبدوا الله فيها حتى يموتوا، وإن قبر نوح وهود وصالح وشعيب بين زمزم والركن والمقام. ومن ذلك عن ابن عباس : أن الأرض كانت معمورة بالجن فأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرسل الله عليهم جنداً من الملائكة بقيادة إبليس فقاتلوهم وألحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال وذلك أن الله خلق الجن قبل آدم فكفر قوم منهم وسفك بعضهم دم بعض فكانت الملائكة تقاتلهم فقالوا ما قالوه نتيجة التجربة. ومن ذلك أن الملائكة قالوا ما قالوه ؛ لأن الله لما قال لهم ﴿ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ سألوه عنها فقال : ذرية يخلف بعضها بعضاً في الأرض ويفسدون فيها ويسفكون الدماء فقالوا له ما قالوه. ومن ذلك أنه لم يكن أحد في الأرض غير الملائكة فقالوا ما قالوه على سبيل الفرض. ومن ذلك في تأويل كلمة ( خليفة ) أنها بمعنى أناس يعمرون الأرض ويخلف بعضهم بعضاً. أو بمعنى حكام يحكمون الأرض أو أناس يسكنون الأرض بعد الطوائف التي كانت فيها وأبيدوا بسبب فسادهم. ومن ذلك في تأويل جملة :﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ﴾ أن الله ألهمه أٍسماء كل شيء في الأرض وفي السماء وأفعال وحركات كل شيء فيهما فصار يسمي كل شيء يراه أو يحسن به باسمه من دواب وطيور وزواحف وجن وملائكة وجبال وبحار وأنهار ونجوم وشجر وهواء وماء إلخ، ومن ذلك في تأويل الجملة أن الله علمه إياها تعليما...
والحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، وفحواه يسوغ التوقف فيه، والأقوال الأخرى لم توثق بأسناد صحيحة، وكثير منها غفل، وهي مع ذلك اجتهادية وتخمينية وهذه الأمور مغيبة لا يصح الأخذ بها بالاجتهاد والتخمين.
وفي تفسير المنار لرشيد رضا في سياق تفسير الآيات تعليقات صائبة على المجموعتين معا جاء فيها فيما جاء :«إن أمر الخلقة وكيفية التكوين من الشؤون الإلهية التي يعز الوقوف عيها كما هي. وقد قص الله علينا في هذه الآيات خبر النشأة الإنسانية على نحو ما يؤثر عن أهل الكتاب قبلنا. ومثل لنا المعاني في صور محسوسة. وأبرز لنا الحكم والأسرار بأسلوب المناظرة والحوار كما هي سنته في مخاطبة الخلق وبيان الحق. وقد ذهب الأستاذ – يعني الشيخ محمد عبده- إلى أن هذه الآيات من المتشابهات التي لا يمكن حملها على ظاهرها ؛ لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة وذلك محال على الله تعالى، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم ومحاجة وجدال وذلك لا يليق بالله تعالى أيضا ولا بملائكته ولا يجامع ما جاء به الدين من وصفهم بأنهم :﴿ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ] ومما أورده الأستاذ رشيد رضا من كلام أستاذه على سبيل تدعيم ما قاله :«إن الأمة الإسلامية أجمعت على أن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقات. وقد قام البرهان العقلي والبرهان النقلي على هذه العقيدة فكانت هي الأصل المحكم في الاعتقاد الذي يجب أن يرد إليه غيره. وهو التنزيه، فإذا جاء في نصوص القرآن أو السنة شيء ينافي ظاهره التنزيه فللمسلمين فيه طريقتان، إحداهما طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيد العقل فيه النقل كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقوله :﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿ ١٨٠ ﴾ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ﴿ ١٨١ ﴾ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾ [ الصافات : ١٨٠ ]. وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا، ويأتينا في ذلك بما يقرب المعاني من عقولنا ويصورها لمخيلاتنا. والثانية طريقة الخلف وهي التأويل حيث يقولون : إن قواعد الدين الإسلامي وضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يراد به ظاهره ولا بدّ له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل، وطريقة السلف هي الأولى بالأخذ في مثل هذه الأمور ».
ومما أورده من فوائد وحكم ما احتوته الآيات :
١- إن الله تعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ولا سيما عند الحيرة. والسؤال يكون بالمقال ويكون بلسان الحال. والتوجه إلى الله تعالى في استفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت سنته تعالى بأن يفيض منها كالبحث العملي والاستدلال العقلي والإلهام الإلهي. وربما كان للملائكة طريق آخر لاستفاضة العلم غير معروفة لأحد من البشر فيمكننا أن نحمل سؤال الملائكة على ذلك.
٢- إذا كان من أسرار الله تعالى وحكمه ما يخفى على الملائكة فنحن أولى بأن يخفى علينا. فلا مطمع للإنسان في معرفة جميع أسرار الخليقة وحكمها ؛ لأنه لم يؤت من العلم إلا قليلا.
٣- إن الله تعالى هدى الملائكة في حيرتهم وأجابهم عن سؤالهم لإقامة الدليل بعد الإرشاد إلى الخضوع والتسليم. وذلك بعد أن أخبرهم بأنه يعلم ما لا يعلمون ثم علّم آدم الأسماء كلها فعرضهم على الملائكة فعجزوا عن معرفة شيء منها.
٤- تسليته النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب الناس، ومحاجتهم في النبوة بغير
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ { ١٥٦ ﴾ } والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿ ٤٠ ﴾ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿ ٤١ ﴾ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٤٢ ﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿ ٤٣ ﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٤٤ ﴾ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [ ١ ] إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿ ٤٥ ﴾ الَّذِينَ يَظُنُّونَ [ ٢ ] أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿ ٤٦ ﴾ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٤٧ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ ٣ ] وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿ ٤٨ ﴾ ﴾
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿ ٤٠ ﴾ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿ ٤١ ﴾ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٤٢ ﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿ ٤٣ ﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٤٤ ﴾ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [ ١ ] إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿ ٤٥ ﴾ الَّذِينَ يَظُنُّونَ [ ٢ ] أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿ ٤٦ ﴾ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٤٧ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ ٣ ] وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿ ٤٨ ﴾ ﴾
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٠:﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿ ٤٠ ﴾ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿ ٤١ ﴾ وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٤٢ ﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿ ٤٣ ﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٤٤ ﴾ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [ ١ ] إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿ ٤٥ ﴾ الَّذِينَ يَظُنُّونَ [ ٢ ] أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿ ٤٦ ﴾ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٤٧ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [ ٣ ] وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿ ٤٨ ﴾ ﴾
تعليق على أولى الحلقات الواردة في
يهود بني إسرائيل في العهد المدني
هذه الآيات بداية سلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة الإسلامية. ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه البداية، وتوجيه الكلام فيها إلى بني إسرائيل بدعوتهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن قد يدل على أنها أول ما نزل من قرآن مدني في اليهود كما أن وضعها بعد الآيات السابقة قد يدعم هذه الأولية. بل ويجوز أن تكون قد نزلت بعد الآيات السابقة مباشرة فوضعت بعدها. وتدل كذلك على أن اليهود وقفوا موقف الجحود من الدعوة النبوية منذ بدء العهد المدني. وقد تكون بمثابة استطراد إلى ذكر اليهود ومواقفهم من هذه الدعوة بعد وصفهم في فصل المنافقين بأنهم شياطين المنافقين، وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآيات السابقة قد احتوت بيان حالة ثلاث فئات من الناس من الدعوة الإسلامية في أوائل العهد المدني وهم المؤمنون والكفار المشركون والمنافقون فجاءت هذه الآيات لبيان حالة فئة أخرى وهي الكتابيون. ولما كان اليهود هم الفئة الأكبر عددا والأرسخ قدما والأوسع حيزا ونفوذا في المدينة فقد اقتضت حكمة التنزيل أن يدار الكلام عليهم. وكل هذا يجعل الصلة بين هذه الآيات وسابقاتها قائمة.
ولقد احتوت الآيات :
١- تذكيرا مكررا بأفضال الله على بني إسرائيل.
٢- وإهابة لهم للوفاء بعهده حتى يوفي لهم بعهده مع اتقاء غضبه.
٣- وأمرا بالإيمان برسالة النبي والقرآن مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين دون انفراد.
٤- ونهيا عن أن يكونوا من أول الكافرين بها ابتغاء أعراض الدنيا التافهة وعن تشويه الحق بالباطل وكتمه مع معرفتهم به حق المعرفة.
٥- وتنديدا بأسلوب السؤال الاستنكاري عما إذا كان يصح مع دعواهم العقل أن يأمروا الناس بالبر والعمل الصالح وينسون أن يفعلوا هم ذلك وهم يعرفون مدى ما في هذا من مناقضة ؛ لأنهم يقرأون الكتاب ويعلمون منه الحق والواجب.
٦- ودعوة لهم إلى اتقاء غضب الله في اليوم الآخر يوم لا تجزى فيه نفس عن نفس ولا يقبل في أحد شفاعة والتماس ولا يؤخذ من أحد بدل ولا يجد أحد نصيرا له من دون الله.
وقد تضمنت الآيتان الخامسة والسادسة [ ٤٤ و٤٥ ] وهما تأمرانهم بالاستعانة بالصبر والصلاة تقرير كون الاعتراف بالحق والتزامه وإن كان شاقا على الطبع إلا أن ذلك ليس على الناس الخاشعين لله المعترفين له الذين يوقنون أنهم ملاقوه وراجعون إليه والمفروض أنهم منهم.
ولقد روى المفسرون ١ عن أهل التأويل بيانات توضيحية لمدى بعض الآيات. من ذلك أن النعمة التي يذكرهم الله بها هي ما كان من تنجيتهم من آل فرعون وما أغدقه الله عليهم من منح. وهذا حق وقد حكته آيات مكية عديدة وحكته آيات في السلسلة من باب التذكير والتنديد. ومن ذلك أن العهد الذي طلب منهم الوفاء فيه هو الميثاق الذي أخذه الله منهم بالاستقامة على توحيد الله والتزام أوامره ونواهيه والإيمان برسله. وهذا حق أيضا وقد حكته آيات مكية عديدة. ومن ذلك أن جملة ﴿ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ هي في صدد ما يعلمونه من كون رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حق، وهذا حق أيضا وقد حكته عنهم وعن أهل الكتاب عامة آيات مكية عديدة. ولقد تعددت أقوال المؤولين في صدد جملة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾ بسبب ما يبدو فيها من إشكال من حيث إن اليهود ليسوا في الواقع أول الكافرين بالقرآن وبالرسالة المحمدية، فمن ذلك أنها بمعنى لا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب، ومن ذلك أنها في مقام التنديد بهم ؛ لأنهم أولى أن يكونوا أول المؤمنين ولا يصح أن يكونوا من أول الكفار به حينما هاجر النبي إلى المدينة التي كانت مقرّ كتلتهم الكبرى في الديار الحجازية. وكلا القولين وجيه وإن كان المتبادر أن القول الأول أوجه على ضوء الآيات المكية العديدة التي حكت فرح أهل الكتاب وإيمانهم وتصديقهم واعترافهم بأن رسالة محمد حق والقرآن منزل من الله بما جاء في آيات الأنعام [ ٢٠ و ١١٤ ] والأعراف [ ١٠٧ ] والرعد [ ٣٦ ] والإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] والقصص [ ٥٢-٥٥ ] والعنكبوت [ ٤٨ ] والأحقاف [ ١٠ ].
ومضمون الآيات وأسلوبها يلهمان أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الدعوة إلى اليهود على أثر هجرته إلى المدينة، فلم يقابلوا الدعوة مقابلة حسنة وحاولوا تشكيك الناس فيها وصرفهم عنها والمكابرة فيها مع يقينهم بصحتها وصدقها وتطابقها بالأسس مع ما عندهم، ثم تحالفوا مع المنافقين ضدها واستغلوا حركة النفاق استغلالا كبيرا فاستحقوا التنديد والإنذار والزجر الذي احتوته الآيات.
تلقينات الآيات الواردة في حق اليهود [ ٤٠-٤٨ ]
ومع أن الآيات هي بسبيل بيان موقف اليهود والتنديد به فإنها احتوت تلقينات جليلة مستمرة المدى لكل مسلم في كل وقت. سواء في التنبيه على ما في كتم الحق وتشويهه بالباطل والمكابرة فيه عن تعمد وعلم ونبذ آيات الله لقاء منافع دنيوية من إثم ديني وأخلاقي، أم ما في أمر المرء غيره بالخير والمكرمات ومناقضته لذلك في خاصة نفسه، أم ما في نسيان فضل الله وجحوده من مثل ذلك، وفي وجوب اجتناب ذلك أيضا.
وفي الآيتين الخامسة والسادسة ينطوي تلقين جليل فيه معالجة روحية رائعة وهي التنبيه على ما في الصلاة من التوجه إلى الله وذكره والخشوع له والخوف منه والتحلي بالصبر في سبيل مرضاته من أٍسباب طمأنينة النفس وإلانة الطبع وجعل الإنسان يعترف بالحق ولا يماري فيه مهما كان ذلك شاقا. وقد تكرر هذا في مواضع عديدة من السور المكية ونبهنا على ما فيه من مثل هذه المعالجة الروحية ؛ حيث يتسق القرآن المدني مع القرآن المكي في هذا كما يتسقان في كل شأن آخر وإن اختلف الأٍسلوب اختلافا اقتضته طبيعة كل من العهد المكي والعهد المدني على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة أيضا.
وهناك أحاديث نبوية أوردها ابن كثير في سياق الآيات فيها تلقينات متسقة مع التلقينات التي انطوت في الآيات، منها حديث رواه الطبراني عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسريّ بي على قوم تُقرض شفاهُهم بمقاريض من نار قلت : من هؤلاء ؟ قال : خطباء أمّتك من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبرّ وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أسامة قال :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يُجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابٌ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار بالرّحى، فيطيف به أهل النار فيقولون : يا فلان ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه » ٣. وحديث رواه الطبراني عن ابن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال أو دعا إليه ». وحديث رواه البخاري عن سمرة بن جندب جاء فيه : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا يشدخُ رأس رجل وكلما التأم جرحُه عاد فشدخه فسأل عنه فقيل له : إنه رجل علّمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به في النهار » ٤. وحديث رواه الترمذي وابن ماجة عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من طلب العلم ليجازيَ به العلماءَ أو ليماريَ به السفهاءَ أو يصرفَ به وجوهَ الناس إليه أدخله الله النار » ٥. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه أيضا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار » ٦.
جنسية يهود الحجاز الذين وجه إليهم الخطاب في الآيات
هذا، وفي توجيه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل دلالة حاسمة على أن اليهود الذين كانوا في المدينة وحولها إسرائيليون أصلا وطارئون على الحجاز. وفي القرآن دلالات كثيرة على ذلك أيضا منها هذه الآية في سورة الأنعام :﴿ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ﴿ ١٥٦ ﴾ ﴾ والآية تخاطب العرب وتذكر ما كانوا يقولونه ؛ حيث كانوا يقولون إن الكتب السماوية الأولى هي بلغة غير لغتهم، وأن الذين يقرأونها إنما يقرأونها بلغتها الأصلية ؛ وحيث ينطوي في هذا أن اليهود كانوا لا يزالون يعرفون لغة آبائهم الأصلية ويقرأون كتبهم بها. ومنها ربط أخلاق يهود الحجاز هؤلاء بأخلاق آبائهم ومواقفهم القديمة ومخاطبتهم كسلسلة متصلة بعضها ببعض مما احتوته الآيات التي تلي هذه الآيات من السلسلة الطويلة. والأسماء المأثورة من أسمائهم عبرانية. ولقد تسمى بعضهم بأسماء عربية غير أن أسماء آبائهم التي تذكر معهم على ما هو المعتاد عند العرب من ذكر الأب والجد مع اسم الشخص عبرانية ٧. ولقد ذكر ابن سعد في طبقاته ٨ أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل سرية لقتل أبي رافع بن أبي الحقيق في خيبر، وقد اختير رئيساً لها عبد الله بن عتيك ؛ لأنه كان يرطن باليهودية أي يعرف العبرانية لغة اليهود. حيث يدل ذلك على أن اليهود كانوا ما يزالون يتكلمون في ما بينهم بلغتهم الأصلية أيضا، وبالتالي يدل على أنهم إسرائيليون.
وهناك حديث رواه الترمذي بسند صحيح عن زيد بن ثابت قال :«أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلّم له كتاب يهود، قال : إني والله لا آمن يهودَ على كتاب. قال : فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلّمته، فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبتُ لهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم ». حيث يفيد هذا أن المكاتبات كانت تجري بين النبي وبينهم باللغة العبرانية.
وهناك حديث آخر روا
٢ أورد ابن كثير هذا الحديث من طرق عديدة أخرى عزوا إلى ابن مردويه وابن حبان وابن أبي حاتم.
٣ روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود أيضا، انظر التاج، ٥/٢٠٣.
٤ التاج، ٤/٢٧٥-٢٧٧ والحديث طويل.
٥ التاج، ١/٦٥ والمتبادر أن المقصد من الحديث الأخير هو استغلال العلم في ما لا يرضي الله تعالى أو في معصيته أما من يتعلم العلم وينتفع به في شأن من شؤون الدنيا المباحة ولا يكون في ذلك معصية ولا إهمال لجانب الله وتقواه فالمتبادر أنه لا يدخل في شمول الإنذار النبوي والله أعلم.
٦ انظر المصدر السابق نفسه.
٧ مثال على ذلك ما أورده ابن هشام من أٍسماء (عبد الله بن صوريا – ثعلبة بن شعيا، رفاعة بن زيد بن التابوت – نعمان بن آضا الخ اقرأ سيرة ابن هشام، ٢/١٤٠ و١٤٢ و ١٤٩ و١٥١ و١٥٢ و١٥٧ و١٦٠ و١٦١ و١٦٣. وفي سياق الآيات في الطبري أسماء لأشخاص منهم عبرانية مثل ياسين وبنيامين وعازر وآزر وأشيع وصوريا إلخ.
٨ طبقات ابن سعد، ٣/١٣٤.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
[ ٤ ] وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون : تقديرها وما آذونا أو ما أضرونا بكفرهم وعنادهم وتعجيزهم وإنما آذوا وأضروا أنفسهم.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
[ ٨ ] فومها : قيل بمعنى الحنطة، وقيل بمعنى الثوم.
[ ٩ ] مصراً : تعددت الأقوال في تخريج ورود هذه الكلمة منونة مصروفة مع أنها جاءت في سور مكية غير منونة وغير مصروفة. وأوجه الأقوال أنها في السور المكية عنت القطر المعروف، وأنها هنا عنت ما تعنيه الكلمة لغة وهو : المدينة مطلقاً، أو المكان المعمور مطلقاً.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ [ ١ ] مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿ ٤٩ ﴾ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٠ ﴾ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٥١ ﴾ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٢ ﴾ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ ٢ ] لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ٥٣ ﴾ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ٥٤ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴿ ٥٥ ﴾ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٥٦ ﴾ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ [ ٣ ] وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ ٤ ] ﴿ ٥٧ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً [ ٥ ] مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ [ ٦ ] فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا [ ٧ ] وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا [ ٨ ] وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً [ ٩ ] فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٥٨ ﴾ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴿ ٥٩ ﴾ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿ ٦٠ ﴾ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿ ٦١ ﴾ ﴾
تعليقات على الحلقة الثانية من الآيات
الموجهة إلى بني إسرائيل في المدينة [ ٤٧-٥٧ ]
هذه حلقة ثانية من السلسلة الطويلة النازلة في بني إسرائيل ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتربط كما هو المتبادر بين ما بدا من يهود المدينة من كفر ودسائس وتعطيل للدعوة المحمدية بما كان من بني إسرائيل أجدادهم الأولين من مواقف وأخلاق، ولتهيب بهم بأن لا يكرروا تاريخهم ويعرضوا أنفسهم لنكال الله وانتقامه. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات السابقة في سلسلة واحدة أو عقبها بعد فترة ما والله أعلم.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت بعض وقائع بني إٍسرائيل في زمن موسى عليه السلام وبعده وتذكير اليهود السامعين بما كان من أفضال الله على آبائهم وبما كان من هؤلاء الآباء إزاء هذه الأفضال من تمرد وجحود وكفر وعبادة عجل وحجاج ولجاج وقتل أنبياء ظلماً وعدواناً، وبما كان من نكال الله لهم وضربه الذلة والمسكنة عليهم وتعرضهم لغضب الله وسخطه.
واستعمال ضمير المخاطب في توجيه الكلام حتى ليكاد يكون للسامعين مع أنه في صدد اليهود القدماء مما يقوي معنى التعقيب والربط والإهابة الذي استهدفته الآيات كما هو واضح. وينطوي فيه قصد بيان وتوكيد شدة اللحمة في الأخلاق والجبلة والمواقف بين القديمين والحاضرين. وهو أسلوب من أساليب الخطاب المألوفة في المواقف المماثلة وبخاصة في صدد التنديد بأفعال الأبناء المكروهة إذا كانت على وتيرة أفعال الآباء. وينطوي في ذلك توكيد بأن اليهود السامعين هم أنسال بني إسرائيل القدماء كما هو المتبادر.
وفحوى الآيات وصيغتها تدلان على أن اليهود السامعين كانوا يخاطبون بأمور ووقائع معروفة عندهم ومتداولة فيما بينهم، وهذا مما يجعل الإنذار والتنديد أشد إلزاماً وتأثيراً بطبيعة الحال، ولقد وردت الأحداث المذكورة فيها في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم وإن كان فيما ورد في هذه الأسفار مباينة في الأسلوب والجزئيات لما جاء في الآيات. ونحن نعتقد أن ما جاء في الآيات مما كان متداولاً عند اليهود السامعين أو وارداً في قراطيس أخرى عندهم ولم تصل إلينا، لأن هذا هو المتسق مع حكمة التنزيل التي استهدفت التنديد والزجر والتذكير بأحداث وأمور معروفة.
وبعض ما ورد في الآيات ورد في سياق قصص بني إسرائيل في السور المكية مثل الأعراف ويونس وطه والقصص مع اختلاف في الأٍسلوب حيث ورد في السور المكية في معرض التمثيل والتذكير للعرب، في حين ورد هنا في معرض التذكير لليهود والتنديد بهم. وهناك فارق آخر وهو أن الأٍسلوب هنا ليس قصصيا كما هو في السور المكية وإنما هو تقريعي، وهذا منسجم مع الموقف الذي نزلت فيه وهو فارق يلحظ في ما نزل في شأن بني إسرائيل عامة، وبه يتميز الأسلوب المكي عن الأٍسلوب المدني.
والجديد في هذه الآيات الذي لم يرد في السور المكية ما جاء في الآيات [ ٥٥ و٥٦ و٦١ ].
والمتبادر أن المقصود بالطعام الواحد الذي أعلن بنو إٍسرائيل أنهم لا يصبرون عليه هو المنّ والسلوى، وشيء مما ورد في هذا وارد في سفر العدد من أسفار العهد القديم.
ولقد أورد المفسرون روايات معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم فيها تفصيل لما جاء في الآيات منها ما هو متطابق مع ما جاء في الأسفار ومنها ما لا يتطابق. ومنها ما فيه إغراب ومبالغة حتى لقد شغل ذلك في تفسير الطبري أربعين صفحة كبيرة. ولم نر طائلا لإيرادها مسهبة أو ملخصة لأنها غير متصلة بأهداف الآيات وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن القرية والسجود وقول ( حطة ) والتبديل الذي بدل بنو إسرائيل من القول مما جاء في الآيتين [ ٥٨ و٥٩ ] وأوردوا بعض الأحاديث في ذلك. ولقد جاءت كل هذه النقاط في آيتي سورة الأعراف [ ١٦١ و١٦٢ ] فعلقنا عليها وأوردنا ما ورد في صددها من أقوال وأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
وننبه بمناسبة هذا الفصل التنديدي وما بعده من فصول وربطها بين حاضر اليهود وغابرهم على أن أسفار العهد القديم قد احتوت فصولاً كثيرة عما كان من انحرافات اليهود وآثامهم المتنوعة. وفيها صور بشعة جدا من ذلك. كما احتوت تنديدات شديدة وإنذارات قارعة وحملات عنيفة عليهم بسببها، منها ما هو مبلغ عن الله بواسطة موسى عليه السلام، ومنها ما هو مبلغ عن الله بواسطة أنبيائهم بعد موسى، ومنها ما سجل عليهم من الأنبياء أنفسهم ومنها ما سجل به عليهم قتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم وعبادتهم العجل والأصنام والمعبودات الأخرى بصورة مستمرة وارتكابهم مختلف المنكرات والموبقات مما هو متسق في جوهره مع هذه الفصول ١.
والمتبادر من أسلوب الآية [ ٦١ ] أن جملة ﴿ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ ليست استمراراً لحكاية قول موسى لهم وإنما هي تقرير رباني مباشر بأن الله كتب ذلك على مختلف أجيال بني إسرائيل من لدن موسى وما بعده نتيجة للمواقف اللجاجية والانحرافات الدينية والأخلاقية التي كانوا وظلوا يرتكبونها بما في ذلك تكذيب الأنبياء وقتلهم، وعصيان أوامر الله وعدوانهم حيث يكون في ذلك عقاب رباني ملازم لهم على مدى الدهر يشاهده بنو الإنسان جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين. وفي كل زمن ومكان رغم ما قد يبدو من ظروف يتاح فيها لبعضهم أن يبرزوا في المجتمعات ؛ حيث لا يلبث المرء أن يكتشف أن ذلك مظهر سطحي وحسب فضلا عن أنه ليس إلا بالنسبة لأفراد وظروف، وأن الكثرة الكاثرة منهم مسربلة دوماً بذلك العقاب الذي كتبه الله عليهم. ولقد جاء هذا في آية سورة الأعراف هذه قويا حاسما وشاملا :﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ... ﴾ [ ١٦٧ ].
هذا، ومع أن الآيات بسبيل التنديد باليهود ومواقفهم فمما لا ريب فيه أن فيها تلقينات عامة مستمرة المدى في تقبيح ما بدا من اليهود سابقاً ولاحقاً من انحرافات وآثام ومكابرة وتعجيز وجحود وكفر، وفي تعليل ما حل باليهود بسببه من عذاب وذلة ومسكنة وفي الإهابة بالمسلمين بتجنب ذلك، واعتبار ما كان من أمر اليهود دروساً يتعظون بها.
وفي كتب التفسير تفصيلات طويلة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم ٢ قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم قد تدل على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود
تعليق على آية ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ﴾
عبارة الآية واضحة، وفيها تقرير لرضاء الله عن من آمن بالله واليوم الآخر إيماناً صادقاً وعمل الصالحات من أهل الملل المذكورة فيها وتبشير لهم.
ولقد روى الطبري أن الآية نزلت جواباً على سؤال من سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه عن مصير قوم من النصارى أخبروه ببعثته، وكان من الممكن أن يؤمنوا لو التقوا به.
والمشكل في الأمر وضع الآية في سلسلة يعود ما قبلها وما بعدها إلى أحوال اليهود المعاصرين ومواقف الموجودين منهم في الحجاز من الرسالة الإسلامية وسيرة بني إسرائيل القديمة أولا، وكون اليهود بعد عيسى يعتبرون على ما تفيده نصوص قرآنية عديدة مثل آيات سورة آل عمران [ ٥٢-٥٧ ] وآية سورة النساء [ ١٥٠ ] وآية سورة الصف [ ١٤ ] لأنهم كذبوا عيسى وكفروا به واستحقوا العذاب ولم يعودوا يستحقون كيهود المصير المذكور في الآية إلا إذا لم يكونوا مرتكبين المنكرات المعزوة إلى بني إٍسرائيل قديماً وحديثاً وماتوا كذلك قبل عيسى ثانياً، وكون النصارى بعد بعثة النبي محمد يعتبرون كفاراً إذ ظلوا يجحدون رسالته، ولا يستحقون ذلك المصير كنصارى حتى لو لم يكونوا ممن سجل القرآن عليهم الكفر بقولهم : إن الله هو المسيح ابن مريم أو إن الله ثالث ثلاثة، أو إن المسيح هو ابن الله على ما تفيده آيات عديدة منها آيات سورة النساء هذه :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً { ١٥٠ ﴾ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً ﴿ ١٥١ ﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٥٢ ﴾ }. ويقال هذا بالنسبة لليهود الذين بقوا على يهوديتهم بعد عيسى، ثم بقوا عليها بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بطبيعة الحال. ومثل هذا كله يقال بالنسبة للصابئين الذين لم يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا متصفين بما وصفوا به في الآية.
ولقد قال السيد رشيد رضا : إن الآية بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة لها لكل من اتصف بما جاء فيها. وقال ابن كثير : إن الله تعالى لما بيّن حال من خالف أوامره وارتكب زواجره نبّه على أن من أحسن من الأمم السابقة وأطاع فإن له الجزاء الحسن. وكلا القولين وجيه ووارد ويفيد أن من جهة أن الآية جاءت بمثابة استطراد واستثناء، وهذا مألوف في النظم القرآني وقد يكون سؤال ما ورد على النبي صلى الله عليه وسلم من سلمان الفارسي بعد نزول الآية فتلاها النبي صلى الله عليه وسلم كجواب على السؤال الذي فيه سؤال عن حالة أناس صالحين من النصارى لم يدركوا النبي صلى الله عليه وسلم فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها نزلت لحدتها جواباً على السؤال. وهذا يجعلنا نرجح أن الآية في صدد بيان حالة اليهود الصالحين قبل بعثة عيسى وحالة النصارى الصالحين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وحالة الصابئين قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كذلك والقرآن يتمم بعضه بعضاً. ولما كان قد دعا جميع الناس بما فيهم اليهود والنصارى والصابئين إلى الإيمان برسالة النبي محممد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن والانتهاء عن ما هم عليه من انحراف عن الدين الحق والطريق القويم بآيات عديدة منها ما مرّ في سورة البقرة وفي السور السابقة ومنها ما سوف يأتي بعد. ولما كان طوائف مختلفة فيها يهود ونصارى وصابئون قد فهموا ذلك وآمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن على ما حكته آيات عديدة في سور مكية ومدنية مرّ بعضها، وسيأتي بعضها بعد، فلا يصح أن يوقف عند هذه الآية لحدتها وتؤخذ على ظاهرها ويتوهم متوهم أنها تنطوي على تقرير نجاة اليهود والنصارى والصابئين عند الله مع بقائهم على مللهم بعد البعثة النبوية إذا لم يؤمنوا بالنبي محمد والقرآن ويصبحوا من معتنقي الرسالة الإسلامية التي يمثلانها.
وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«والذي نفسي بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلتُ به إلا كان من أصحاب النار » ١.
تعليق على الحلقة الثالثة
من سلسلة الآيات الواردة في بني إٍسرائيل
وهذه الحلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة. وفيها وصل ما انقطع بالآية [ ٦٢ ] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيداً للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيراً بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء، وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ؛ ليكون ذلك نكالاً للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين.
وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أموراً معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم ؛ لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلاً. وهذا وارد في الآية [ ١٧١ ] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأٍسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إٍسرائيل كانوا يسمعون أمراً واضح المدى في أذهانهم ووارداً في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
وعدوان بني إٍسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.
والمتبادر أن جملة ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [ ٥٢ و٥٤ ] من آيات الحلقة الثانية، وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحاً من الزمن.
هذا، ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرئيل فإن فيما احتوته تلقيناً مستمراً للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها.
تعليق على الحلقة الثالثة
من سلسلة الآيات الواردة في بني إٍسرائيل
وهذه الحلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة. وفيها وصل ما انقطع بالآية [ ٦٢ ] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيداً للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيراً بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء، وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ؛ ليكون ذلك نكالاً للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين.
وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أموراً معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم ؛ لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلاً. وهذا وارد في الآية [ ١٧١ ] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأٍسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إٍسرائيل كانوا يسمعون أمراً واضح المدى في أذهانهم ووارداً في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
وعدوان بني إٍسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.
والمتبادر أن جملة ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [ ٥٢ و٥٤ ] من آيات الحلقة الثانية، وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحاً من الزمن.
هذا، ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرئيل فإن فيما احتوته تلقيناً مستمراً للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها.
تعليق على الحلقة الثالثة
من سلسلة الآيات الواردة في بني إٍسرائيل
وهذه الحلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة. وفيها وصل ما انقطع بالآية [ ٦٢ ] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيداً للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيراً بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء، وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ؛ ليكون ذلك نكالاً للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين.
وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أموراً معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم ؛ لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلاً. وهذا وارد في الآية [ ١٧١ ] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأٍسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إٍسرائيل كانوا يسمعون أمراً واضح المدى في أذهانهم ووارداً في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
وعدوان بني إٍسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.
والمتبادر أن جملة ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [ ٥٢ و٥٤ ] من آيات الحلقة الثانية، وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحاً من الزمن.
هذا، ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرئيل فإن فيما احتوته تلقيناً مستمراً للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها.
تعليق على الحلقة الثالثة
من سلسلة الآيات الواردة في بني إٍسرائيل
وهذه الحلقة ثالثة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في هذه السورة. وفيها وصل ما انقطع بالآية [ ٦٢ ] التي جاءت استطرادية. وفيها استمرار للخطاب الموجه لبني إسرائيل السامعين في صدد ما كان من آبائهم من مواقف منحرفة بضمير الجمع المخاطب توكيداً للّحمة الوثيقة بين السامعين والآباء الغابرين بقصد الإنذار والتحذير من أن يكرروا مواقف وانحرافات أولئك الآباء. ومن الممكن أن تكون نزلت بعد سابقاتها مباشرة أو بعد فترة ما فوضعت بعدها.
وعبارتها واضحة، وقد تضمنت حكاية ما كان من رفع الله الطور فوق بني إسرائيل وأخذه عليهم الميثاق بأن يتمسكوا بما أنزل الله إليهم من وصايا وتعليمات بقوة، ويظلوا يحافظون عليه ويذكروه حتى يقوا غضب الله وما كان من انحرافهم عنه، وتذكيراً بالذين احتالوا في يوم السبت واعتدوا على حرمته من أولئك الآباء، وما كان من غضب الله عليهم ومسخه إياهم قردة ؛ ليكون ذلك نكالاً للمنحرفين في كل وقت وعبرة وموعظة للمتقين.
وأسلوب الآيات كأسلوب ما سبقها يلهم أن اليهود المخاطبين يسمعون أموراً معروفة متداولة بينهم عن آبائهم مما فيه توثيق لقوة الإنذار والتحذير لهم.
ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الله رفع فوقهم الطور بقصد قذفه عليهم ؛ لأنهم أبوا أن ينفذوا أمره فيدخلوا الباب سجدا ويقولوا حطة. وعن ابن عباس أن الله أنذرهم بقذف الجبل عليهم إذا لم يلتزموا بميثاقه. وروح العبارة تفيد أن الله رفع فوقهم الجبل فعلاً. وهذا وارد في الآية [ ١٧١ ] من سورة الأعراف. وعبارة هذه الآية تفيد أن ذلك كان من قبيل إظهار معجزة لهم حينما أمرهم بإطاعته والتزام وصاياه وعلى كل حال فالأٍسلوب التذكيري الذي وردت به العبارة القرآنية يفيد أن بني إٍسرائيل كانوا يسمعون أمراً واضح المدى في أذهانهم ووارداً في بعض قراطيسهم على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية سورة الأعراف.
وعدوان بني إٍسرائيل على السبت ومسخ المعتدين قردة مما ورد في سورة الأعراف، وقد علقنا على ذلك بما يغني عن التكرار.
والمتبادر أن جملة ﴿ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ قد عنت ما كان من عفو الله عنهم وتوبته عليهم بعد انحرافهم إلى عبادة العجل في حياة موسى ولجاجهم معه مما ذكر في الآيتين [ ٥٢ و٥٤ ] من آيات الحلقة الثانية، وما كان بعد ذلك من صلاح أحوالهم واستقامة أمورهم ردحاً من الزمن.
هذا، ومع أن ما في الحلقة هو في صدد بني إسرئيل فإن فيما احتوته تلقيناً مستمراً للمسلمين أيضا كما هو شأن الحلقات السابقة سواء في وجوب التمسك بتعاليم الله وعدم الانحراف عنها، أم في عدم الاحتيال عليها.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
[ ٢ ] بكر : هي البقرة الفتية.
[ ٣ ] عوان بين ذلك : متوسطة أو متناصفة في العمر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿ ٦٧ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ [ ١ ] وَلاَ بِكْرٌ [ ٢ ] عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [ ٣ ] فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴿ ٦٨ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿ ٦٩ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿ ٧٠ ﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ [ ٤ ] تُثِيرُ الأَرْضَ [ ٥ ] وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [ ٦ ] مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا [ ٧ ] قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴿ ٧١ ﴾ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [ ٨ ] وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿ ٧٢ ﴾ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٣ ﴾ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ٧٤ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
[ ٥ ] تثير الأرض : تحرث الأرض.
[ ٦ ] ولا تسقي الحرث : أي لا تستخدم في عملية إرواء الأرض.
[ ٧ ] مسلّمة لا شية فيها : صافية ليس فيها بقعة ما : أي هي صفراء تمام الصفرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿ ٦٧ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ [ ١ ] وَلاَ بِكْرٌ [ ٢ ] عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [ ٣ ] فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴿ ٦٨ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿ ٦٩ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿ ٧٠ ﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ [ ٤ ] تُثِيرُ الأَرْضَ [ ٥ ] وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [ ٦ ] مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا [ ٧ ] قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴿ ٧١ ﴾ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [ ٨ ] وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿ ٧٢ ﴾ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٣ ﴾ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ٧٤ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٧:﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿ ٦٧ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ [ ١ ] وَلاَ بِكْرٌ [ ٢ ] عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [ ٣ ] فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ ﴿ ٦٨ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿ ٦٩ ﴾ قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿ ٧٠ ﴾ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ [ ٤ ] تُثِيرُ الأَرْضَ [ ٥ ] وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [ ٦ ] مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا [ ٧ ] قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ ﴿ ٧١ ﴾ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [ ٨ ] وَاللّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿ ٧٢ ﴾ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٣ ﴾ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ٧٤ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
تعليق على الحلقة الرابعة من سلسلة الآيات الواردة في السورة عن بني إسرائيل
وهذه رابع حلقة من السلسلة وعبارتها واضحة، وفيها حكاية قتل ومعجزة ربانية ؛ حيث قتل بعضهم شخصاً وتنصلوا من قتله أو اختلفوا واختصموا فيه فطلب موسى بأمر الله منهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ففعلوا فأحياه الله. وقد حكت الآيات في سياق حكاية ذلك ما كان من لجاج اليهود وكثرة مراجعاتهم حتى شقوا بذلك على أنفسهم بأسلوب فيه تنديد وتقريع. فقد أمروا بذبح بقرة ما، وكان يجزيهم أن يذبحوا أية بقرة. وقد انتهت الآيات بذكر ما كان بعد الحادث من قسوة قلوبهم بدلاً من أن تلين لمعجزة الله حتى صارت أقسى من الحجارة التي منها ما يلين فيتفجر من خلاله الأنهار ويتشقق فيخرج من خلاله الماء ويهبط من خشية الله، ثم بتقرير كون الله غير غافل عن أفعالهم بأسلوب ينطوي على التنديد أيضا وأسلوب الآيات التذكيري مثل أسلوب سابقاتها من السلسلة فيجوز أن تكون نزلت معها أو بعدها بفترة ما والله أعلم.
ولقد روى المفسرون ١ روايات عديدة عن القصة معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين متفقة في الجوهر حيث أراد ابن أخ فقير استعجال موت عمّ له غني ليرثه فقتله ووضع جثته على باب دار رجل آخر ليحصل من ذلك على دية عنه أيضا زيادة في الطمع والإثم فكان شغب وكاد يقع قتال فأمر الله موسى أن يطلب منهم ذبح بقرة وضرب القتيل ببعضها ففعلوا بعد اللجاج، فأحيا الله القتيل فسألوه عن قاتله فأِشار إلى ابن أخيه ثم مات.
وهذه القصة غير واردة في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم، وإن كان في سفر التثنية المتداول اليوم والذي فيه تذكير بأحداث رسالة موسى وعهده شيء قد يمتّ إليها حيث احتوى الإصحاح الواحد والعشرون تشريعاً في صدد القتيل الذي لا يعرف قاتله جاء فيه فيما جاء أن يكسر عنق بقرة لم يحرث عليها ولم تجر بالنير في وادٍ لم يفلح ولم يزرع ويغسل جميع شيوخ القرية أيديهم على العجلة المكسورة العنق ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، وعيوننا لم تر، ويسألون الله الغفران.
على أن أسلوب الآيات وهي توجه الخطاب إلى السامعين من بني إٍسرائيل كأنما هم الفاعلون وليسوا آباءهم – وتندد بهم وتصف لجاجهم وقسوة قلوبهم بسبيل توكيد اللحمة بينهم وبين آبائهم الغابرين أفعالاً وأخلاقاً ونسباً يدل على أنها تساق إلى قوم يعرفونها وعلى أنها كانت مذكورة في بعض قراطيسهم التي لم تصل إلينا.
وفي كتب التفسير تفصيلات كثيرة في صدد القصة وجزئياتها معزوة إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم حتى لقد استغرقت من تفسير الطبري اثنتين وعشرين صفحة كبيرة. وليس منها شيء وارد في كتب الصحاح وقد تدل مع ذلك على أن القصة كانت متداولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع حواشٍ وشروح. وليس لهذا مصدر غير اليهود ولم نر طائلا في إيراد تلك التفصيلات ولو تلخيصاً ؛ لأن القصة كما هو واضح من أسلوبها لم تورد لذاتها وإنما أوردت لبيان ما كان اليهود القدماء يجنحون إليه من لجاج ومشاقة إزاء ما كان يأمرهم الله به بلسان موسى حتى لقد كانوا يشقون على أنفسهم أو يجعلون الله يشق عليهم نتيجة لذلك. ثم لبيان ما كان من عدم اتعاظهم بآيات الله وقسوة قلوبهم بعد هذا الحادث، تلك القسوة الشديدة التي صورتها الآيات بأروع أسلوب وأقواه. وبمعنى آخر للتنديد بآباء اليهود السامعين والإهابة بالسامعين إلى عدم تكرار تاريخ هؤلاء الآباء وتحذيرهم من قسوة القلب التي كان عليها أولئك الآباء.
وهكذا تتسق أهداف هذه الحلقة مع أهداف الحلقات السابقة.
وكما قلنا في أعقاب الحلقات السابقة نقول هنا : إن في القصة تلقيناً مستمر المدى سواء في التحذير من اللجاج والشقاق وتوريط النفس بهما أم في التحذير من قسوة القلب إزاء أوامر الله تعالى وآياته.
ولم يترك مفسرو الشيعة قتيل بني إسرائيل القديم وبقرتهم بدون تحريف في مناسبتهما. فأوردوا أربع روايات ٢. في واحدة : أن الله أوحى إلى موسى بأمر بني إسرائيل بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله عند ضربهم القتيل ببعض البقرة ليحييه لهم ففعلوا فأحياه الله. وفي واحدة : أن القتيل توسل بعد أن أحياه الله بمحمد وآله أن يبقيه في الدنيا ويجزي أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيبا فاستجاب له. وفي واحدة : أن الله أوحى إلى موسى حينما يشتبه في قتل قتيل أن يحلف شيوخ المدينة التي وجد القتيل في أرضها بمحمد وآله الطيبين بأنهم لم يقتلوه ولم يعلموا قاتله. وفي رابعة : أن البقرة الموصوفة في القرآن كانت عند شاب من بني إسرائيل رأى في منامه محمداً وعلياً والحسن والحسين فأحبهما فقالوا له إننا بسبب هذا الحب سنسوق لك جزاءك في الدنيا فلا تبع بقرتك إلا بملء جلد ثور من الدنانير، فتمسك ببقرته عملاً بالوصية حتى حصل على ما بشر به !. وهم إلى هذا يسوقون الآيتين [ ٧٢ و٧٣ ] للتدليل على صحة عقيدتهم في الرجعة أي رجعة علي والأئمة إلى الحياة على ما شرحناه في سياق آية سورة النمل [ ٨٢ ].
٢ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/ ٢١٥-٢١٦.
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [ ١ ] وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ٧٥ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ [ ٢ ] لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٦ ﴾ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [ ٣ ] لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [ ٤ ] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [ ٥ ] ﴿ ٧٩ ﴾ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٨٠ ﴾ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨١ ﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨٢ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [ ١ ] وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ٧٥ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ [ ٢ ] لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٦ ﴾ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [ ٣ ] لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [ ٤ ] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [ ٥ ] ﴿ ٧٩ ﴾ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٨٠ ﴾ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨١ ﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨٢ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
[ ٤ ] أمانيّ : قيل إنها بمعنى التمني والأمل بالعفو. وقيل : إنها جمع أمنية بمعنى ما يشتهيه المرء ويطلبه وقيل إنها بمعنى القراءة الضعيفة. وقد وردت الكلمة في حلقة أخرى من السلسلة تفيد أنها التمني أو الظن، والذي نرجحه أنها في مقامها هنا بمعنى التخمين والظن بدليل جملة ﴿ وإن هم إلا يظنون ﴾ الواردة في نفس الآية التي وردت فيها.
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [ ١ ] وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ٧٥ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ [ ٢ ] لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٦ ﴾ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [ ٣ ] لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [ ٤ ] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [ ٥ ] ﴿ ٧٩ ﴾ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٨٠ ﴾ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨١ ﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨٢ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ [ ١ ] وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ٧٥ ﴾ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ [ ٢ ] لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴿ ٧٦ ﴾ أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿ ٧٧ ﴾ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ [ ٣ ] لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ [ ٤ ] وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ﴿ ٧٨ ﴾ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ [ ٥ ] ﴿ ٧٩ ﴾ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٨٠ ﴾ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨١ ﴾ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٨٢ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
تعليق على الآية
﴿ بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
لقد وقف المفسرون عند هذه الآية من الحلقة واعتبروها شاملة المدى. وهذا وجيه لأن عبارتها مطلقة رغم كونها بسبيل الرد على اليهود وتكذيبهم. ولقد تعددت الأقوال التي يروونها عن أهل التأويل أو يقولونها من أنفسهم في صددها. من ذلك أن السيئة في الآية في معنى الشرك. وأن جملة ﴿ وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ﴾ تعني استمراره في الشرك وعدم مفارقته له بالإيمان والتوبة. وهذا وجيه وصواب لأنه متسق مع وعيد الخلود في النار الذي جاء في الآية، ومن ذلك أن السيئة تعني الكبيرة أيضاً، وأن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وهذا قول المعتزلة.
وهناك من قال : إن خلود مرتكب الكبيرة في النار رهن باستحلاله لها، وهو الأوجه فيما هو المتبادر وهناك أحاديث نبوية تدعم هذا منها ما هو صحيح، ومن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان... » [ التاج ١/ ٢٦-٢٧ ]. وحديث رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أتاني جبريل عليه السلام فبشّرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق... » ١ والمفروض على ضوء صراحة الحديث الأول أن يكون الشخص داخل النار على ذنوب ارتكبها وهو مؤمن ولم يستحلّها وهذا ينسحب على الزاني والسارق الذي يدخل الجنة إذا مات لا يشرك بالله كما هو المتبادر ؛ لأن الحديث لا يقول إنه لا يعذب أو لا يدخل النار قطّ، وإنما يقول إنه يدخل الجنة. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن » ٢. وشراح الحديث يحملون هذا الحديث على فرض أن يكون مرتكبو هذه الكبيرات وهم مستحلّون لها، وهذا حقّ وصواب فيما هو المتبادر.
أما الذنوب التي يتوب عنها أصحابها توبة صادقة ولو كانت من الكبائر فمن حقهم أن يأملوا عفو الله وعدم دخول النار بسببها. وهناك آيات كثيرة تفتح باب التوبة، وتعد بغفران الله لكل فئة من المذنبين بما فيهم المشركون والمنافقون والمحاربون لله ورسوله والمفسدون في الأرض والزناة والسارقون والقاتلون الخ إذا ما تابوا توبة صادقة على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في تفسير سورة البروج، والله أعلم.
٢ التاج ٣/٥.
تعليق على الحلقة الخامسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة خامسة من سلسلة الآيات. وقد وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأسلوب سؤال يتضمن التقرير بأن طمعهم في إيمان اليهود في غير محله. ثم أخذت الآيات تعدد أفعالهم وأقوالهم ومواقفهم للبرهنة على فقد أي أمل في إيمانهم :
١- فقد كان منهم من يسمع آيات القرآن، ثم يحرفون ما سمعوا تعمداً بقصد التشويش والتعطيل والتشكيك بعد أن يكونوا عقلوه وفهموه.
٢- وكان فريق منهم إذا التقى بالمؤمنين قالوا لهم : آمنا بأن ما جاء في القرآن حق مطابق لما عندنا، فإذا خلا بعضهم إلى بعض ندد بعضهم بهذا الفريق وقرعوهم، وقالوا لهم : إنكم بما تقولونه للمؤمنين عما عندكم من علم الله وكتبه تعطونهم حجة عليكم وبرهاناً ضدكم عند الله.
٣- ومنهم الأميون الجاهلون الذين لا يعلمون ما في الكتاب علماً يقينياً ويتظاهرون مع ذلك بالعلم به وينسبون إلى كتاب الله ما ليس فيه أو يكتبون كتابات بأيديهم ويدعون أنها من كتاب الله قاصدين بذلك المنافع الخسيسة والقيم البخسة.
٤- وكانوا يتبجحون بحظوتهم عند الله، ويزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة.
وقد تخلل الآيات مقاطع فيها تنديد وإنذار جرياً على الأسلوب القرآني : فالويل لهم مما يكتبون ويكذبون ويتبجحون وإنهم لعلى سخف وضلال لتجاهلهم أن الله يعلم ما يسرّون كما يعلم ما يعلنون. وهم إذ يقولون لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة يقولون ذلك كأنما أخذوا عهداً من الله به فلم يعودوا يبالون بما يصدر منهم من آثام، فضلاً عما في ذلك من افتراء على الله ؛ لأن سنته وعدله يجريان دائما على أن من اقترف سيئة وأحاطت به خطيئة فهم من أصحاب النار خالدين فيها أيا كانوا، وأن من آمنوا وعملوا صالحاً فهم وحدهم أصحاب الجنة الخالدون فيها.
وأسلوب هذه الحلقة التفانيّ، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.
وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها.
والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة ؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم.
ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه :
١- في صدد جملة ﴿ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ ﴾ حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة ﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ﴾ المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.
٢- في صدد جملة ﴿ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ ﴾ رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف ؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.
٣- في صدد جملة :﴿ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً ﴾ رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون : محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول : إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة.
وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [ التاج ٤/٤٣ ]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم.
ومن المؤسف أن كثيرين من مفسري المسلمين برغم هذه التنبيهات دونوا كثيراً مما كان اليهود أو مسلمتهم يحدثون به من أحاديث فيها ما لا يصح أن يُخفى عليهم من كذب وتناقض وغلوّ ومفارقات فكان من ذلك ما امتلأت به كتبهم مما عرف بالإسرائيليات التي شوشت أذهان المسلمين وما تزال تشوشها.
استطراد إلى بيان أسباب تنكر اليهود للدعوة الإسلامية ومناوأتها وما ردده القرآن من فقد الأمل بإيمانهم بها
لقد قلنا : إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [ ١٩٩ ] والنساء [ ١٦٢ ] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول : إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه :﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٢٠ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ ﴾ وهذه :﴿ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾ ١، ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه :﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ﴿ ٩٠ ﴾ ﴾ [ الأنعام : ٩٠ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿ ٢٣ ﴾ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴿ ٢٤ ﴾ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ] ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [ الجاثية : ١٦ ] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [ ٤٠-٤٤ ] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني.
ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.
ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ ا
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [ ١ ] وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴿ ٨٣ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿ ٨٤ ﴾ ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء [ ٢ ] تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم [ ٣ ] بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ٨٥ ﴾ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿ ٨٦ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بأسلافهم القدماء.
وقد تضمنت تذكيراً بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديداً بالحاضرين بسبب نقضهم لها :
١- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به، ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.
٢- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضاً ولا يظاهر أحد منهم غريباً على أحد منهم، فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضاً عن أرضه، وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغياً وعدواناً. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلاً يناقضون أنفسهم، ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة ؛ لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.
والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية [ ٨٤ ] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضاً ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلاً عديدة متعادية أيضا ثالثاً.
وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى ؛ حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزلت الآيات فيهم.
وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.
تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بأسلافهم القدماء.
وقد تضمنت تذكيراً بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديداً بالحاضرين بسبب نقضهم لها :
١- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به، ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.
٢- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضاً ولا يظاهر أحد منهم غريباً على أحد منهم، فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضاً عن أرضه، وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغياً وعدواناً. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلاً يناقضون أنفسهم، ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة ؛ لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.
والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية [ ٨٤ ] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضاً ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلاً عديدة متعادية أيضا ثالثاً.
وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى ؛ حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزلت الآيات فيهم.
وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.
[ ٣ ] تظاهرون عليهم : تساعدون الغير عليهم.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً [ ١ ] وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ ﴿ ٨٣ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ﴿ ٨٤ ﴾ ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء [ ٢ ] تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم [ ٣ ] بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ٨٥ ﴾ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ﴿ ٨٦ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بأسلافهم القدماء.
وقد تضمنت تذكيراً بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديداً بالحاضرين بسبب نقضهم لها :
١- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به، ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.
٢- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضاً ولا يظاهر أحد منهم غريباً على أحد منهم، فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضاً عن أرضه، وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغياً وعدواناً. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلاً يناقضون أنفسهم، ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة ؛ لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.
والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية [ ٨٤ ] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضاً ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلاً عديدة متعادية أيضا ثالثاً.
وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى ؛ حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزلت الآيات فيهم.
وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.
تعليق على الحلقة السادسة من سلسلة الآيات الواردة في السورة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سادسة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل في السورة، وفيها عود على بدء في مخاطبة بني إسرائيل التي انقطعت بالآيات الالتفاتية السابقة، وذكر انحرافاتهم والتنديد بهم وربط حاضرهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته بأسلافهم القدماء.
وقد تضمنت تذكيراً بالعهود التي أخذها الله على بني إسرائيل وتنديداً بالحاضرين بسبب نقضهم لها :
١- فقد أخذ الله عليهم العهد بعبادته وحده وبالبرّ بالوالدين والأقارب واليتامى والمساكين، وبقول الحق والصدق وحسن التعامل مع الناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأقروا بذلك وتعهدوا به، ولكن أكثرهم نقض ولم يفعل بما عاهد الله عليه.
٢- وقد أخذ الله عليهم العهد بالتضامن فلا يقتل بعضهم بعضاً ولا يظاهر أحد منهم غريباً على أحد منهم، فنقضوا العهد حيث سفك بعضهم دم بعض وأجلى بعضهم بعضاً عن أرضه، وظاهر بعضهم الغريب على بعض آخر بغياً وعدواناً. وفيما هم يفعلون ذلك وهو محرّم عليهم أصلاً يناقضون أنفسهم، ويفتدون الأسرى الذين أسرهم الغرباء بمساعدتهم ومظاهرتهم. وهكذا يكونون مؤمنين ببعض ما أمروا به وهو فك أسراهم من يد الغرباء وكافرين ببعض وهو سفك دم بعضهم وإجلاء بعضهم وأسر بعضهم والمظاهرة على بعضهم. ومن يفعل ذلك يستحق الخزي في الدنيا وأشد عذاب الله في الآخرة ؛ لأنه يكون بذلك قد سار سير من يرغب في منافع الدنيا وأعراضها دون أن يراقب الله ويذكر الآخرة وأهوالها. وبعبارة أخرى سير من يشتري دنياه بآخرته، ومثل هؤلاء لا يخفف عنهم عذاب الله ولا ينصرون في موقف من مواقفهم.
والآيات قوية في تنديدها وإفحامها، وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية [ ٨٤ ] أن بني النضير وبني قينقاع من يهود يثرب كانوا حلفاء للخزرج وأن بني قريظة كانوا حلفاء للأوس. وكان بين الخزرج والأوس خلافات تجرّ أحيانا إلى القتال، فكان كل من فريقي اليهود يقاتل مع حليفه فيقتل بعضهم بعضاً ويأسر بعضهم بعضاً ويجلي بعضهم بعضاً ويظاهر كل فريق حليفه نتيجة لذلك. وكانوا حينما تهدأ الحرب وتنعقد الهدنة يتعاونون على فداء الأسرى اليهود فيما بينهم. والرواية متسقة مع فحوى الآيات كما هو المتبادر. وفي ذلك صورة من صور الحياة الاجتماعية والسياسية اليهودية في البيئة العربية اليثربية وقرينة على ما كان من اندماج اليهود في الحياة العربية وتقاليدها أولا، وعلى قدم وجودهم في هذه البيئة ثانيا، وعلى أن اليهود لم يكونوا كتلة واحدة متضامنة، بل كانوا كتلاً عديدة متعادية أيضا ثالثاً.
وذكر بني إسرائيل في الآيات في سياق الإشارة إلى مخالفات قبائل اليهود مع العرب قرينة بل دليل على أن هذه القبائل كانت إسرائيلية الجنس. وفي أسفار الخروج والعدد واللاويين وتثنية الاشتراع من أسفار العهد القديم حكاية وصايا كثيرة وصى الله بها بني إسرائيل بواسطة موسى عليه السلام واتخذ عليهم الميثاق بها. ومن جملة ذلك ما جاء في الآية الأولى ؛ حيث ينطوي في ذلك إفحام وإلزام لليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذين نزلت الآيات فيهم.
وكما انطوى في الحلقات السابقة تلقينات مستمرة للمسلمين انطوى في هذه الحلقة حيث تلقنهم وجوب القيام بعهد الله وميثاقه في كل ما أمر به من خير وبرّ ومعروف وحسنى وما نهى عنه من إثم وبغي وعدوان، والحذر من التناقض في ذلك، وما في هذا وذاك من دلالة على ضعف الإيمان والرغبة في منافع الدنيا العاجلة وعدم مراقبة الله مما يجعلهم يستحقون غضبه وعذابه.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على جملة
﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾
في هذه الجملة موضوعان الأول : إتيان عيسى ( عليه السلام ) البينات، والثاني : تأييده بروح القدس. وفي صدد الأول فإن جمهور المفسرين على أن البينات هي المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وإخباره بأمور مغيبة وخلقه من الطين كهيئة الطير ونفخه فيه ليصير طيراً مما ورد بصراحة في آيات في سورة آل عمران والمائدة. وندع الكلام على ذلك إلى تفسير هاتين السورتين لأن ذلك أكثر مناسبة. وفي صدد الثاني نقول : إن جملة :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ قد تفيد لأول وهلة أن هذا شيء خاص بعيسى عليه السلام، ولقد تكررت هذه الصدقية في آية سورة البقرة [ ٢٥٣ ] والمائدة [ ١١٣ ]، وننبه أولاً على أن تعبير روح القدس قد ورد في آية سورة النحل هذه :﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ { ١٠٢ ﴾ } التي يمكن أن تفيد خلافاً لما يبدو من جملة :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ بالنسبة لعيسى أن تأييد الله لعيسى بروح القدس في القرآن ليس محصوراً به وأن القرآن قد ذكر أيضا أن الله قد أيّد نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام به. وثانيا : أن آية النحل تفيد أن ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ هو اسم الذي كان ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد هذا التعبير بلفظ ﴿ الرُّوحُ الأَمِينُ ﴾ في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ { ١٩٣ ﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ﴿ ١٩٥ ﴾ } وفي آية سورة البقرة التي ستأتي بعد قليل اسم جبريل بوصفه الذي كان ينزل بالقرآن حيث يكون التعبير في سورتي النحل والشعراء كناية عن جبريل، ومع هذا فإن المفسرين قد أوردوا في تأويل جملة :﴿ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ الواردة في الآية والتي قد لا يكون معناها في معنى ما جاء في سورتي النحل والشعراء أقوالاً عديدة، منها أن تأييد الله بمعنى تأييده بروحه وقوته ونصره، وأنه بمعنى تأييد الله له بجبريل. ومنها أنه تأييد الله له بالإنجيل. ومنها أن الجملة تعني إفاضة الله التقديس والطهارة على نفس عيسى عليه السلام، وقد يكون أوجه هذه الأقوال القول الأول.
ولقد ورد تعبير ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ في الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم والتي يعترف بها وحدها النصارى بأساليب متعددة بل وبمعانٍ مختلفة أيضا على ما يفيده السياق الذي وردت فيه. فمن ذلك ما ورد في سياق حبل مريم في إنجيل متى ( لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجتمعا حبلى من الروح القدس ). وفي إنجيل لوقا على لسان الذي بشر مريم بحبلها :( فأجاب الملاك وقال لها : إن الروح القدس يحل عليك ). ومن ذلك في إنجيل متى على لسان عيسى :( من قال كلمة على ابن البشر يغفر له وأما من قال على الروح القدس فلا يغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي ). وفي إنجيل مرقس على لسان عيسى أيضا :( فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا من قبل بما تتكلمون به بل بما أعطيتم في تلك الساعة تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين ولكن الروح القدس ). و( أما من جدف على الروح القدس فلا مغفرة له ). وفي إنجيل لوقا ( ورجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ بالروح القدس ). و( كان رجل في أورشليم اسمه سمعان وهو رجل صديق تقي كان ينتظر تعزية إسرائيل والروح القدس كان عليه. وكان أوحى إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب ). وفي إنجيل يوحنا على لسان يوحنا المعمدان الذي هو النبي يحيى في القرآن :( إن الذي ترى الروح ينزل ويستقر عليه هو الذي يعمد بالروح القدس ).
وبعض هذه العبارات الإنجيلية قد يفيد أن روح القدس شخصية إلهية مقدسة. كما قد يفيد بعضها أنه روح ربانية تنزل لتأييد الأشخاص المؤمنين. أو أنه رسول رباني لتنفيذ أوامر الله وهذا المعنى الأخير لما جاء في القرآن على ما شرحناه في سياق تفسير سورة مريم.
ومعلوم أن هذا التعبير في العقيدة النصرانية يعني أحد أقانيم أو صور الذات الإلهية التي هي الأب والابن وروح القدس. وهذه الألفاظ وردت في الأناجيل المتداولة. ولكن تلك العقيدة ليست محبوكة بشكلها الراهن في أي إنجيل، وإنما هي من قرارات مجامع دينية انعقدت في القرن الرابع بعد الميلاد بأمر ورعاية الامبراطور الروماني بسبب ما كان بين رجال الدين النصراني من خلافات حول لاهوتية المسيح والروح القدس على ما شرحناه في سياق سورة مريم أيضا. والمرجج أن هذا التعبير كان مستعملاً من قبل نصارى العرب قبل الإسلام ترجمة عن اللغة الإنجيلية السريانية أو اليونانية.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن التعبير القرآني يضع الأمر في نصابه من وجهة نظر القرآن والعقيدة الإسلامية في عيسى عليه السلام ؛ حيث ينطوي في الجملة التي جاء فيها تقرير كون عيسى رسول من رسل الله، وأن الجملة تعني تأييد الله إياه بروح وقوة منه اقتضت حكمة التنزيل تسميتها ﴿ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾ ولا ضير على المسلم بل من واجبه أن يستعمل هذه التسمية في التعبير عن تأييد الله تعالى لعيسى عليه السلام ؛ لأن ذلك نص قرآني، مع الوقوف عند ذلك وإيكال مدى هذه الحكمة لله تعالى، ودون أن يكون ذلك من المسلم تسليما منه بما استقرت عليه عقائد النصارى المجمعية من مدى ومعنى روح القدس لأن فحوى الجملة وروحها ومقامها في القرآن لا يمكن أن يتحمل ذلك. وهي صريحة كل الصراحة بأن روح القدس الذي يؤيد الله به عيسى غير ذاته وليس جزءاً منه أو صورة له بأي حال كما هو في تلك العقائد. والقرآن هو الضابط المهيمن على الكتب السماوية التي ينسبها أهل الكتاب إلى الله ويتداولونها كما جاء صراحة في آية سورة المائدة :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ فما يقرره هو الحق وما يتناقض معه يكون محرفاً بصورة ما لفظاً أو معنى من وجهة العقيدة الإسلامية.
هذا، وننبه تعليقاً على جملة ﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾ في الآيات على أن في القرآن آيات كثيرة منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور آتية تذكر أن الله قد أتى النبيين الآخرين ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم البينات وأرسلهم بالبينات وجاؤوا بالبينات. حيث يفيد هذا أن هذه الجملة ليست على سبيل حصر ذلك بعيسى عليه السلام، وإنما جاءت في مقامها وبأسلوبها حسب ما اقتضته حكمة التنزيل وحسب. وأكثر ما ورد في صدد الأنبياء من ذلك ورد في معنى التعبير عن المعجزات الذي يتفق المفسرون على أن الجملة التي نحن في صددها عنت ذلك أيضا بالنسبة لعيسى عليه السلام.
[ ٣ ] لعنهم الله : اللعن في الأصل بمعنى الطرد والحرمان من الخير والجملة هنا استدراك تنديدي بمعنى وحقيقة أمرهم أن الله لعنهم وجعلهم موضع سخطه وغضبه ونقمته.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
[ ٧ ] أشربوا في قلوبهم العجل : تمكنت عبادة العجل في قلوبهم.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا [ ١ ] مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ ﴿ ٨٧ ﴾ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ [ ٢ ] بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه [ ٣ ] بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿ ٨٨ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿ ٨٩ ﴾ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ [ ٥ ] بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴿ ٩٠ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩١ ﴾ وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا [ ٦ ] وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [ ٧ ] بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٩٣ ﴾ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ٩٤ ﴾ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ ﴿ ٩٥ ﴾ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ [ ٨ ] مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴿ ٩٦ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة السابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل
وهذه حلقة سابعة من سلسلة الآيات الواردة في بني إسرائيل على سبيل التنديد، وقد ربط فيها بين أفعال بني إسرائيل في الغابر ومواقفهم الحاضرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لتوكيد اللحمة الأخلاقية بين السابقين واللاحقين تبعاً للحمة الجنسية كما كان الأمر والهدف في الحلقات السابقة.
وقد جاء بعض آياتها على سبيل الحكاية عن الغابرين والحاضرين وبعضها بضمير الجمع المخاطب الذي يعود إليهم كما هو المتبادر من الآيات صراحة وضمناً.
وقد تضمنت الآيات ما يلي :
١- لقد آتى الله موسى الكتاب لهدايتهم وتعليمهم، ثم أرسل إليهم من بعده رسلاً عديدين، ثم أرسل عيسى مؤبداً بالمعجزات وروح القدس. فكانوا –أي بني إسرائيل الغابرين على ما يلهمه فحوى الآيات- كلما جاءهم رسول من عند الله لا يجاريهم في أهوائهم استكبروا عليه وخالفوه وكذبوه أو قتلوه.
٢- وكانوا –أي- بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلهمه فحوى الآيات كذلك- كلما تلا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم آيات القرآن ودعاهم إلى التدبر فيها تجاهلوا وتصامموا، وقالوا قلوبنا غير واعية لما تقول أو مملوءة فلا محل فيها لزيادة وأصروا على الجحود والكفر ؛ حيث يدل هذا على ضعف إيمانهم لأنهم لو كانوا مؤمنين إيماناً صادقاً وتاماً بما عندهم لما وقفوا هذا الموقف ؛ لأن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عليهم هو متطابق مع ما عندهم ؛ وهكذا كفروا بما أنزل الله متطابقاً مع ما عندهم فاستحقوا لعنة الله التي يستحقها الكافرون.
٣- ولقد كانوا يستفتحون على العرب بما عندهم من علم ومعرفة فلما جاءهم ما عرفوا أنه حق ومطابق لما عندهم كفروا وجحدوا وكان ذلك منهم بغياً وحنقاً لكون الله ينزل من فضله على عبد من عباده من غير جنسهم وملتهم. وهكذا اشتروا الكفر بالإيمان ولبئس ما كان من بيع وشراء باؤوا بهما بعذاب الله المهين وغضبه الشديد المضاعف ولعنته المحيطة بالكافرين أمثالهم.
٤- ولقد كانوا كلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم آمنوا بما أنزل الله عليه قالوا : نكتفي بما أنزل الله علينا ولسنا في حاجة إلى غيره. مع أن ما أنزل عليه هو متطابق مع ما عندهم والحق والمنطق يلزمانهم بالإيمان به ؛ لأنه حلقة من نفس السلسلة وصادر من نفس المصدر.
٥- ولقد كان هذا شأن آبائهم من قبل فقد جاءهم موسى بالبينات فانحرفوا عنها ظالمين لأنفسهم وعبدوا العجل وقتلوا أنبياء الله بعد موسى، ولقد أخذ الله منهم العهد والميثاق على أن يستمسكوا بما جاءهم من عند الله بكل قوة ويسمعوا إليه فقالوا : سمعنا بأفواههم ولسان حالهم يقول عصينا ؛ لأنهم انحرفوا عما عاهدوا عليه وتمكنت عبادة العجل في قلوبهم. فلبئس هذا الإيمان الذي يتبجحون به إذا كان يأمرهم ويأمر آباءهم من قبل بما يفعلونه هم وبما كان يفعله آباؤهم قبلهم من المنكرات والانحرافات.
وفي الآيات الثلاث الأخيرة تحدّ قوي لهم :
١- حيث تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إذا كانت الدار الآخرة ونعيمها لهم وحدهم من دون الناس كما يزعمون فليتمنوا الموت حتى يصيروا إليها :
٢- وحيث تقرر أنهم لن يتمنوا الموت لأنهم يعرفون ما اقترفت أيديهم ويتيقنون في قرارة أنفسهم أن ما هم فيه بغي متعمد، وأن الذي لهم عند الله هو ما للظالمين، وأنهم نتيجة لذلك أحرص على الحياة والرغبة عن الموت وما بعد الموت حتى إنهم ليفوقون في ذلك المشركين، وحتى إن الواحد منهم ليتمنى أن يعيش ألف سنة ولكن هذا لن يجديهم نفعاً ولن يجعلهم يفلتون من عذاب الله الذي هو خبير بكل ما يفعلون، غير غافل عنه قد أحصاه عليهم وأعدّ لهم جزاءه.
والتقريع والتنديد في هذه الحلقة عنيفان جدا، وهذا العنف متناسب مع ما تحكيه من انحراف الآباء والأبناء وكفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء تارة، واستكبارهم وتكذيبهم تارة، وعبادتهم العجل ونقضهم عهد الله وميثاقه عمداً وبغياً مما يستثير النقمة والسخط حقا ويدل على ما كان لمواقف الحاضرين من أثر أو ما كان يتوقع لها من أثر في الأوساط العربية التي كان لهم فيها مركز ديني وثقافي. ولا سيما أن القرآن المكي كثيراً ما استشهد بالكتابيين –ومنهم بنو إسرائيل- على صحة الرسالة المحمدية والوحي القرآني وصدق صلتهما بالله. وفي الأسفار المتداولة اليوم صور كثيرة من مواقف اليهود القدماء فيها تكذيب وانحراف وتمرد وقتل أنبياء ؛ حيث ينطوي في ذلك أولا قصد تذكير اليهود السامعين بما كانوا يعرفونه من مواقف آبائهم والتنديد بهم لأنهم يكررون بمواقفهم الجحودية ما فعله أولئك الآباء، ويستحكم فيهم بذلك الإفحام والإلزام.
وقد أورد المفسرون ١ في جملة ﴿ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ [ ٤ ] عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أقوالاً معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم، منها أن اليهود كانوا يتفاخرون على العرب بما عندهم من كتاب سماوي وبما هم عليه من دين سماوي فلما جاءهم ما هو متطابق مع ما كانوا يتفاخرون ويعرفون أنه حق كفروا به. ومنها أن اليهود كانوا يقولون للعرب حينما يشتد بينهم الجدل أو الخلاف إنه سوف يبعث قريباً نبي عربي، صفاته مذكورة عندنا وسنتفق معه عليكم ونقتلكم معه قتل عاد وإرم. والجملة تتحمل هذا وتتحمل ذاك وفي آية سورة الأعراف هذه :﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿ ١٥٧ ﴾ ﴾ ما قد يؤيد القول الثاني.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن اليهود لما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وجحدوا رسالته قال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء : اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا. فقال سلام بن مشكم من بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله الآية :﴿ وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ... ﴾ وعلى كل حال فإن الآية تقرر بصراحة أنه قد جاءهم ما عرفوا أنه الحق فكفروا به، وأن الآية التالية لها تقرر أن ذلك إنما كان حسداً وبغياً وغيظاً فاستحقوا الحملة العنيفة التي احتوتها الآيات.
وآيات الحلقة بنوع خاص تدعم ما شرحناه من أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية ؛ حيث كبر عليهم أن يبعث الله نبيا من غيرهم فيدعوهم إلى الانضواء إليه ويهدد بحركته ما كان لهم من مراكز ومصالح. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل أن جملة ﴿ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ﴾ تنطوي على الإشارة إلى ما كان من كفرهم بالمسيح والإنجيل ثم بمحمد والقرآن فاستحقوا بذلك غضب الله المضاعف. وأن جملة :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ ﴾ عنت ما كان من كفرهم بالإنجيل ثم بالقرآن. وإن جملة ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ عنت ما كان من مخالفتهم لما أنزل إليهم وقتلهم أنبياءهم الذين كانوا يبلغونهم أوامر الله. وأن التحدي بتمني الموت الذي أمر الله النبي بتوجيهه إليهم هو جواب على تبجحهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم الذين اختصهم الله بالجنة يوم القيامة، وجميع هذه التأويلات واردة وسديدة.
وبعض آيات الحلقة تلهم أنها تتضمن حكاية مواقف حجاجية كانت تحدث من النبي واليهود قبل نزولها فتضمنت الآيات الإشارة إليها بسبيل الرد عليهم والتنديد بهم وتحديهم.
وخبر رفع الطور فوقهم ورد في الآية [ ١٧٠ ] من سورة الأعراف، وقد أوردنا في سياق ما روي عن أهل التأويل في صدده وعلقناه عليه بما رأيناه متبادراً، فنكتفي بهذا التنبيه بمناسبة ورود الخبر ثانية في هذه الحلقة.
والآيات وإن كانت في صدد مواقف اليهود فهي كسابقاتها تنطوي على تلقين مستمر المدى للمسلمين، سواء في تقبيح التناقض بين الأقوال والأفعال أم المكابرة في الحق ومحاربته حقداً وغيظاً وحسداً على أصحابه. أم عدم التمسك بعهد الله وميثاقه باتباع الحق وعمل المعروف والانحراف عن ذلك إلى البغي والجحود والعدوان.
في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين. أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ... ﴾
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ١ في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها، ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال : جبريل، فقالوا : إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سبباً في حياته وتخريبه هيكلنا. ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك. ومنها أن محاورة جرب بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا : إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب، وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب. وإن جبريل وميكال عدوان لبعضهما، وإن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلاً : كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيتان.
وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه ٢ :«إن عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ، فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزِع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال : أخبرني بهن جبريل آنفاً، قال : جبريل ؟ قال : نعم. قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ ثم قال له : أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماءَ المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتُوني. فجاء اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ». ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معاً في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا : إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وإن الحديث لم يذكر ميكال.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وإن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان : إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه.
وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم.
هذا، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما هو المتبادر منه. وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل. وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين ( جبرا ) و( ايل ) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة. وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوماً كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى ٣. وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله، وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه وهي :﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ { ٤ ﴾ }. ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر. وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة. وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [ ٤ ] والنبأ [ ٣٨ ]. وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي. وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة.
وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل. وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه :«ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيرَايَ من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيرايَ من أهل الأرض فأبو بكر وعمر » ٤.
والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية، وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضاً على ما هو المتبادر.
وتعبير ﴿ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ { ١٩٣ ﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ } وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الأيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سياق سورة القيامة.
ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ». ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءتَه » ٥.
والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته. وفيها إيذان بمثل ما في الآية. أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم.
٢ التاج ٤/٣٦-٣٧.
٣ انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا.
٤ التاج ٣/٢٨١.
٥ هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد، ٥/ ١٨٨-١٨٩ ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم.
في الآية الأولى من هاتين الآيتين أمر رباني للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد على من يعلن عداءه لجبريل وتوكيد له بأن جبريل هو الذي ينزل القرآن على قلبه بإذن الله مصدقا لما سبقه من كتب الله وليكون بشرى وهدى للمؤمنين. أما الآية الثانية ففيها تقرير إنذاري بأن الله عدو للكافرين الذين يكون منهم من يعادي الله ورسله وملائكته وبخاصة جبريل وميكال منهم.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ... ﴾
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ١ في سياق طويل روايات عديدة مختلفة في الصيغ والوقائع متفقة في الجوهر في صدد الآيتين، منها أن فريقا من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أسئلة عديدة ووعدوه بأن يتابعوه إذا أجاب عليها إجابات صحيحة فأجابهم إجابات اعترفوا بصحتها، ثم سألوه عمن ينزل عليه بالوحي فقال : جبريل، فقالوا : إنه عدونا وإنه ينزل بالخسف والشدة وإنه حال دون قتل بختنصر فكان سبباً في حياته وتخريبه هيكلنا. ولو كان غيره الذي يأتيك لتابعناك. ومنها أن محاورة جرب بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفريق من اليهود قالوا له فيما قالوا : إن جبريل عدونا وينزل بالخسف والحرب، وإن ميكال سلمنا وينزل بالخصب. وإن جبريل وميكال عدوان لبعضهما، وإن أولهما يقف إلى يمين الله وثانيهما إلى يساره فسفههما قائلاً : كيف يكونان عدوين وهما المقربان من الله، ثم نقل خبر المحاورة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآيتان.
وهناك حديث عن أنس بن مالك رواه البخاري جاء فيه ٢ :«إن عبد الله بن سلام سمع بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال له : إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلا نبيّ، فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزِع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ فقال : أخبرني بهن جبريل آنفاً، قال : جبريل ؟ قال : نعم. قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ ثم قال له : أما أول أشراط الساعة فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت. وإذا سبق ماء الرجل ماءَ المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. ثم قال : يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتُوني. فجاء اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم ؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا : شرّنا وابن شرّنا وانتقصوه، قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله ». ويلحظ أن الآية الثانية قرنت جبريل وميكال معاً في معرض إعلان عداء الله للذين يعادونهما في حين أن الروايات تذكر أن اليهود قالوا : إن جبريل عدونا وميكال سلمنا وإن الحديث لم يذكر ميكال.
ومهما يكن من أمر فإن روح الآيتين وورودهما في سياق جملة طويلة على اليهود واختصاص جبريل وميكال بالذكر يلهم أنهما نزلتا بسبب محاورة جرت بشأنهما مع اليهود وإن هؤلاء أعلنوا عداءهم لهما أو لأحدهما فردت الآيتان عليهم كأنما تقولان : إذا كانوا أعداء لجبريل فليموتوا بغيظهم فهو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه هو وميكال صاحبا حظوة عند الله وأن معاداتهما هي كمعاداة الله وكفر به ومجلبة لعدائه.
وواضح من هذا أن الآيتين جزء من السلسلة والمتبادر أن الحادث وقع في أثناء نزول السلسلة وبعد نزول حلقاتها الأولى فتضمنت الآيات الرد عليهم والله أعلم.
هذا، وأسلوب الآية الأولى أسلوب توكيد وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كما هو المتبادر منه. وهذه أول مرة يرد فيها ذكر جبريل بصراحة، وأنه هو الذي ينزل بالقرآن على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. أما قبل ذلك فقد ورد بتعبير الروح الأمين في سورة الشعراء والروح القدس في سورة النحل. وجبريل لفظ معدول أو معرب عن جبرائيل المؤلفة من مقطعين ( جبرا ) و( ايل ) والمقطع الثاني يعني الله في اللغات العربية القديمة. وفي تفسير الطبري ما يفيد أن هذا كان مفهوماً كذلك عند أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. وهكذا يكون معنى الاسم جبر الله أو قوة الله وقد ورد ذكره في الأناجيل بوصفه ملك الله الذي بشر زكريا بابنه يحيى ٣. وأسلوب ذكره هنا يشعر بعظم مقامه عند الله، وهذا ما يشعر به أسلوب ذكره للمرة الثانية في آية سورة التحريم التي نزلت في ظروف أزمة وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم ونسائه وهي :﴿ إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴿ ٤ ﴾ ﴾. ولقد ورد ذكر نزول الروح والملائكة ليلة القدر في سورة القدر. وأوردنا في سياق ذلك ما رواه المفسرون عن أهل التأويل من تأويل الروح بجبريل، واستنتجنا من ذلك أنه عظيم الملائكة. وقد ورد في نفس المعنى في آيات المعارج [ ٤ ] والنبأ [ ٣٨ ]. وهناك أحاديث عديدة تذكر أن جبريل هو الذي كان ينزل عادة بالقرآن وبأوامر الله على النبي. وقد أوردنا بعضها في مناسبات سابقة.
وميكال أيضا يذكر هنا للمرة الأولى والوحيدة، وهو أيضا معرب أو معدول عن ميكائيل. وقد ورد اسمه في حديث نبوي رواه أبو سعيد الخدري جاء فيه :«ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيرَايَ من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأما وزيرايَ من أهل الأرض فأبو بكر وعمر » ٤.
والمرجح وهو ما تعضده الروايات أن اسمي جبريل وميكال كانا يذكران في الأوساط الكتابية اليهودية والنصرانية، وأن العرب قد عرفوهما بوصفهما من كبار ملائكة الله المقربين عن طريق هذه الأوساط قبل نزول القرآن، وقد عربوا اسميهما في صيغة عربية قبل ذلك أيضاً على ما هو المتبادر.
وتعبير ﴿ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ﴾ قد ورد في آيات سورة الشعراء هذه :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿ ١٩٣ ﴾ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ ﴾ وعلقنا على مدى هذا التعبير في سياق تفسير هذه الأيات بما يغني عن التكرار هنا بمناسبة ورود مثل هذا التعبير في الآية الأولى من الآيتين اللتين نحن في صددهما، هذا بالإضافة إلى شرحنا لمدى الوحي الرباني الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في سياق سورة القيامة.
ولقد أورد المفسران ابن كثير والقاسمي في سياق الآيتين بعض أحاديث نبوية، ومما أورده الأول حديث عزاه إلى صحيح البخاري عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب ». ومما أورده الثاني حديث عزاه كذلك إلى البخاري عن أبي هريرة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله بتردّدي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءتَه » ٥.
والمتبادر أن المفسرين أوردا ما أورداه في مناسبة ما جاء في الآية الثانية من إيذان الله بأن من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوّ للكافرين الذين يكون منهم من يعاديه ويعادي رسله وملائكته. وفيها إيذان بمثل ما في الآية. أما بقية الحديث الثاني فمن الحكمة الملموحة فيها تطمين المؤمنين المخلصين وتبشيرهم وحثّ على الإخلاص لله تعالى والله أعلم.
٢ التاج ٤/٣٦-٣٧.
٣ انظر الإصحاح الأول من إنجيل لوقا.
٤ التاج ٣/٢٨١.
٥ هذا الحديث ورد في التاج برواية البخاري والإمام أحمد، ٥/ ١٨٨-١٨٩ ونرجح أن الحديث الأول هو جزء ملتبس من الحديث الثاني والله أعلم.
تعليق على الحلقة الثامنة
من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود
في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات، وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة.
وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم وتجاهله، بل إن ذلك دأب أكثرهم ؛ لأن إيمانهم بالله ضعيف واهٍ فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه.
وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا.
وجملة ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾ تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه ؛ حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين ١.
وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن.
فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة، وفحواها الذي يماثل إجمالاً ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [ ٩٩ ] » والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي. ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق ؛ لأنه لا يقف المواقف المذكورة بها إلا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم.
ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم على ما جاء تقريره في الآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد : إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئاً ولم يأخذ لك علينا عهداً.
وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر.
ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم ؛ حيث أرادت القول : إن في كل وقت يأخذ الله عهداً على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم.
وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة ( فريق ) في الآية الثالثة ناقضاً لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أُريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٩:﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴿ ٩٩ ﴾ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿ ١٠٠ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ [ ١ ] فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠١ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الثامنة
من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود
في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات، وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة.
وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم وتجاهله، بل إن ذلك دأب أكثرهم ؛ لأن إيمانهم بالله ضعيف واهٍ فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه.
وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا.
وجملة ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾ تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه ؛ حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين ١.
وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن.
فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة، وفحواها الذي يماثل إجمالاً ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [ ٩٩ ] » والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي. ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق ؛ لأنه لا يقف المواقف المذكورة بها إلا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم.
ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم على ما جاء تقريره في الآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد : إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئاً ولم يأخذ لك علينا عهداً.
وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر.
ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم ؛ حيث أرادت القول : إن في كل وقت يأخذ الله عهداً على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم.
وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة ( فريق ) في الآية الثالثة ناقضاً لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أُريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٩:﴿ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ ﴿ ٩٩ ﴾ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴿ ١٠٠ ﴾ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ [ ١ ] فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠١ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة الثامنة
من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة في اليهود
في الآية الأولى تقرير وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله أنزل إليه آيات القرآن بينات واضحات، وأن الفاسقين المتمردين على الله الذين خبثت نياتهم وأخلاقهم هم فقط الذين يكفرون بها لأن فيها من الهدى والحق والوضوح ما لا يمكن أن يكابر فيه ذو نية حسنة ورغبة صادقة.
وفي الآية الثانية سؤال تنديدي يتضمن التقرير بأنهم كلما عاهدوا عهداً نقضه فريق منهم وتجاهله، بل إن ذلك دأب أكثرهم ؛ لأن إيمانهم بالله ضعيف واهٍ فلا يبالون بنقض ما عاهدوا عليه باسمه.
وفي الآية الثالثة تقرير إخباري بأنهم لما جاءهم من عند الله رسول مصدق لما معهم تجاهل فريق من أهل الكتاب كتاب الله ونبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون من حقائقه شيئا.
وجملة ﴿ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ ﴾ تحتمل أن يكون الكتاب الذي نبذوه هو القرآن كما تحتمل أن يكون كتاب أهل الكتاب الذي يأمرهم بما جاءهم به الرسول مصدقا لما معهم أو الذي يعرفون منه صفات هذا الرسول وخبر رسالته وهم مأمورون فيه باتباعه. والاحتمال الثاني هو الأوجه ؛ حيث تستحكم به الحجة عليهم وهو ما رجحه غير واحد من المفسرين ١.
وجمهور المفسرين متفقون على أن ضمائر الجمع الغائب في الآيتين الثانية والثالثة عائدة لليهود وبسبيل حكاية موقفهم من رسالة النبي والقرآن.
فالآيات والحالة هذه حلقة ثامنة من السلسلة، وفحواها الذي يماثل إجمالاً ما وصف به اليهود ومواقفهم في الآيات السابقة يؤيد ذلك.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن ابن صوريا الحبر اليهودي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتبعك بها فأنزل الله الآية [ ٩٩ ] » والرواية ليست واردة في كتب الصحاح. والآية منسجمة في السياق بحيث يسوغ الترجيح بأنها لم تنزل لحدتها في مناسبة قول اليهودي. ويتبادر لنا أنها بمثابة تمهيد لما احتوته الآيات التالية لها ولدمغهم بالفسق ؛ لأنه لا يقف المواقف المذكورة بها إلا الفاسقون. وهذا لا يمنع أن يكون بعض اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما روته الرواية عن موقف من مواقف حجاجهم ولجاجهم.
ومما أورده المفسرون في صدد العهد الذي نبذه فريق من اليهود المذكور في الآية الثانية أنه العهد الذي أعطوه لله تعالى بأن يعملوا ما في التوراة ومن جملة ذلك اتباع كل نبي يدعوهم إلى الله وشرائعه ومن جملتهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم على ما جاء تقريره في الآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف، وقد رووا أنهم قالوا للنبي حينما ذكرهم بهذا العهد : إن الله لم يعهد إلينا فيك شيئاً ولم يأخذ لك علينا عهداً.
وهذا وجيه ومتسق مع التقريرات القرآنية فيما هو المتبادر.
ومن المحتمل أن تكون الآية الثانية بسبيل ربط غابر اليهود بحاضرهم ؛ حيث أرادت القول : إن في كل وقت يأخذ الله عهداً على بني إسرائيل أو يعاهدون فيه الله على عهد ينبذه فريق منهم وإن هذا كان شأنهم في الغابر وهو شأنهم اليوم.
وفي حالة صحة هذا الاحتمال كما نرجو تكون كلمة فريق في الآية بالنسبة للحاضرين شاملة لجميع اليهود. ولسنا نرى ورود كلمة ( فريق ) في الآية الثالثة ناقضاً لهذا الاحتمال على ضوء التقريرات القرآنية التي مرت والتي تنسب الكفر والجحود إلى عامة بني إسرائيل الحاضرين. على أن من المحتمل أنه أُريد بذلك استثناء الذين آمنوا وصدقوا منهم على ما ذكرناه وأوردنا الآيات الدالة عليه في نبذة سابقة عقدناها على أسباب تنكر اليهود للدعوة المحمدية. وجملة :﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ في الآية الثانية على كل حال تفيد أن النابذين هم الأكثر.
[ ٢ ] وما أنزل على الملكين : ما ألهموه وما تلقوه.
[ ٣ ] بابل : اسم مدينة كانت عاصمة ملك الكلدانيين في العراق الذين كان منهم الملك نبوخذ نصر المشهور باسم بختنصر الذي نسف دولة اليهود في القدس ودمرها وسبى أهلها.
[ ٤ ] خلاق : نصيب وحظ.
[ ٥ ] شروا به أنفسهم : باعوا به أنفسهم.
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ ١ ] وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [ ٢ ] بِبَابِلَ [ ٣ ] هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [ ٤ ] وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ [ ٥ ] لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠٢ ﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ [ ٦ ] مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠٣ ﴾ ﴾
تعليق على آية
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ... ﴾
والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه
جمهور المفسرين على أن ضمير ﴿ وَاتَّبَعُواْ ﴾ عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في نزول الآية الأولى روايات عديدة. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا : ما كان سليمان إلا ساحراً وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات وارداً في كتب الصحاح، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود ؛ لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقاً لما معهم مع معرفتهم صدقه، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذباً فنسبوا بذلك إليه الكفر ؛ لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضاً واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحداً إلا بعد أن يقولا له : إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحداً إلا بإذن الله.
فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت، وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيراً ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.
والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثاً ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه تأييد لذلك.
ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصاً من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما، وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود.
وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم : إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولاً في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول : إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال : إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا ؛ حيث يكون الملكان هما داود وسليمان، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت، ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه ؛ لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة، أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر.
وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله قالت الملائكة أي رب ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ ﴾. قالوا : ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لهم : هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا : ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبداً. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا : لا والله لا نقتله أبداً. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا». وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله : هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه. وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو : أن الملكين جعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة ناراً. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله : إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا : لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى.
وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه : أن امرأة من أهل دومة الجندال جاءت إليها عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تريد أن تقصّ عليها أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلباً أٍسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر، فقالا لها : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حباً فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد.
وليس شيء من هذه الأحاديث والرويات التي اكتفينا بما أوردناه منها – لأنها متماثلة – وارداً في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولاً عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال : وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاف اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالاً للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلاً وموضوعاً. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالاً مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت جاء استطرداً، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر.
والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين، ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن، وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولاً والله تعالى أعلم.
والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقد
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [ ١ ] وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [ ٢ ] بِبَابِلَ [ ٣ ] هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [ ٤ ] وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ [ ٥ ] لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠٢ ﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ [ ٦ ] مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٠٣ ﴾ ﴾
تعليق على آية
﴿ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ... ﴾
والآية التالية لها وهما الحلقة التاسعة من السلسلة واستطراد إلى هاروت وماروت والسحر وحقيقته وحكمه
جمهور المفسرين على أن ضمير ﴿ وَاتَّبَعُواْ ﴾ عائد لليهود والآيتان معطوفتان على ما قبلهما الذي فيه تنديد بأفعال اليهود وأقوالهم مما فيه تأييد لذلك. وهكذا تكون الآيتان حلقة تاسعة من السلسلة. ولقد روى الطبري عن أهل التأويل في نزول الآية الأولى روايات عديدة. منها أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن السحر وجادلوه وزعموا أن كتب السحر مروية عن سليمان. ومنها أنهم لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن سليمان من أنبياء الله تعجبوا وأنكروا وقالوا : ما كان سليمان إلا ساحراً وأنه كان يضبط الإنس والجن والريح. والروايات طويلة، وما تقدم خلاصة لها وليس شيء من الروايات وارداً في كتب الصحاح، ويلحظ أن الآية الأولى لم تقتصر على نسبة السحر إلى سليمان وأن الآية الثانية منسجمة مع الأولى وأن الآيتين بسبيل التنديد باليهود ؛ لأنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين من السحر ونسبوه إلى سليمان، واتبعوا كذلك أعمال السحر التي يعلمها هاروت وماروت. وهذا ما يجعلنا نتوقف في الروايات كسبب لنزول الآية ونرجح أن الآيتين استمرار في حكاية أفعال اليهود وانحرافاتهم والتنديد بهم، ويجوز أن تكونا نزلتا لحدتهما كحلقة جديدة، ويجوز أن تكونا نزلتا مع الآيات السابقة ونحن نرجح هذا وقد تضمنت الآيتان تقرير كون اليهود لم يقفوا عند نقض كل عهد، وعند نبذ كتاب الله وجحود رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء مصدقاً لما معهم مع معرفتهم صدقه، بل اتبعوا ما كانت الشياطين يتلونه منذ عهد سليمان وأقوالهم وأفعالهم المأثورة التي كانوا يعلمون بها السحر. ونسبوا ذلك إلى سليمان كذباً فنسبوا بذلك إليه الكفر ؛ لأن أعمال السحر من الكفر. واتبعوا كذلك ما يتلو الملكان هاروت وماروت في بابل اللذان كانا يعلمان الناس السحر أيضاً واللذان كانا مع ذلك لا يعلمان أحداً إلا بعد أن يقولا له : إننا أو إن ما نعلمه فتنة وامتحان ويحذراه من الكفر ثم يتعلم منهما بعض الأعمال السحرية التي منها ما يفرق بين المرء وزوجه والتي تضرّ المتعلمين ولا تنفعهم والتي لا تضرّ مع ذلك أحداً إلا بإذن الله.
فاليهود اتبعوا ما يتلو الشياطين وهاروت وماروت، وهم يعلمون أن الذي يسير في مثل هذه الطرق والأساليب مستحق لخزي الله وعذابه ومحروم من رضائه في الآخرة. ولبئس ما باعوا به أنفسهم. في حين أنهم لو آمنوا وصدقوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأيدوا الحق واتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم ومواقفهم لكان ذلك خيراً ووسيلة قربى وثواب لهم عند الله.
والآيتان قويتا التعبير والتنديد وقد رجحنا أنهما في صدد اليهود السامعين المعاصرين. وينطوي فيهما والحالة هذه أن من هؤلاء من كان يتعاطى السحر ويعزوه إلى سليمان وهاروت وماروت. ولقد أوردنا في تفسير سورة العلق حديثاً ذكر فيه اسم ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه تأييد لذلك.
ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة طه نصوصاً من أسفار العهد القديم فيها حكاية عن الله في شجب السحر والعرافة والنهي عنهما ورجم من يتعاطاهما، وبهذا يستحكم التنديد الذي تضمنته الآيات باليهود.
وفي تفسير الطبري وغيره بيانات كثيرة معزوة إلى ابن عباس وغيره في صدد السحر الذي كان ينسبه اليهود إلى سليمان متفقة المدى على اختلاف في الصيغ خلاصتها أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويوحون بما يسمعونه إلى الكهان ويزيدون عليه أكاذيب كثيرة وأنهم كانوا يعلمونهم السحر أيضا. وأن الكهان كتبوا ذلك وفشا في الناس حتى علم به سليمان فصادر هذه الكتب ودفنها تحت عرشه وأنذر كل من يتعاطى السحر ويزعم أن الشياطين يعلمون الغيب بالقتل. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى الكهنة فقال لهم : إني أريد أن أدلكم على كنز لا ينفد، فإن سليمان إنما كان يضبط الناس والجن والريح والطير والوحوش بالسحر. وإن كتب سحره مدفونة تحت عرشه فحفروا فوجدوها وصاروا يتداولونها ويتعاطون السحر على أن ذلك من صنع سليمان وظلوا على ذلك إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومهما كان من أمر هذه الروايات فإن الآية الأولى قد تضمنت حكاية ما كان من تعاطي اليهود السحر ونسبته إلى سليمان. وإن المتبادر أن ذلك مما كان متداولاً في أوساط بني إسرائيل ومما كان يسمعه العرب أو بعضهم منهم وفي صدد هاروت وماروت نقول : إن في تفسير الطبري وغيره أحاديث وروايات وبيانات كثيرة في ذلك. من ذلك أن اليهود كانوا يزعمون بالإضافة إلى زعمهم أن سليمان كان يعلم السحر ويعلمه أن جبريل وميكال أيضا كانا يعلمانه. وهناك من قرأ لام الملكين بالكسر وقال : إن اليهود عزوا السحر إلى داود أيضا ؛ حيث يكون الملكان هما داود وسليمان، وأن العبارة القرآنية بسبيل نفي السحر وتعليمه عنهما أو عن الملكين جبريل وميكال ونسبة السحر وتعلمه إلى رجلين من البشر كانا في بابل وهما هاروت وماروت، ومن ذلك أن نعت هاروت وماروت بالملكين هو على سبيل التشبه ؛ لأنهما كانا يظهران الصلاح ويعلمان الناس السحر بعد تحذيرهم فشبهوهما بالملائكة، أو لأنهما كانا صاحبي سمات ووقار فشبهوهما بالملوك على اختلاف قراءة اللام بالفتح أو الكسر.
وإلى هذا فهناك أحاديث عديدة مختلفة الصيغ والطرق متفقة المدى معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جاء في صيغة يرويها الإمام أحمد عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله قالت الملائكة أي رب ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ ﴾. قالوا : ربّنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله لهم : هلمّوا ملكين منكم حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان. قالوا : ربّنا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض ومثّلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا : والله لا نشرك بالله شيئا أبداً. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبيّ تحمله فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا : لا والله لا نقتله أبداً. ثم ذهبت ورجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبيّ، فلما أفاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئا أبيتماه عليّ إلا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا». وعقب ابن كثير على هذا الحديث الذي نقلناه عنه بقوله : هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبّان في صحيحه. وهو حديث صحيح كل رجاله ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، وأورد ابن كثير صيغة أخرى فيها نوع العذاب وهو : أن الملكين جعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة ناراً. وهناك رواية تذكر أن الذي أمر بحبسهما وعذابهما في بابل هو سليمان. وبعض الصيغ أن الملائكة لما اعترضوا قال لهم الله : إنه ركّب في بني آدم الشهوات فيها يقعون في الآثام فقالوا : لو ركّبتها فينا لما وقعنا فيها فركّبها في اثنين منهما هما هاروت وماروت وأهبطهما إلى الأرض فأثما مع المرأة وارتكبا الآثام الأخرى.
وهناك حديث طويل يرويه ابن كثير عن عائشة جاء فيه : أن امرأة من أهل دومة الجندال جاءت إليها عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تريد أن تقصّ عليها أمرها وتستعتبه. فقصّته عليها وهي تبكي خائفة أن تكون أثمت وخلاصته أن زوجها غاب عنها فذهبت إلى عجوز ساحرة لتعيده إليها فأركبتها كلباً أٍسود وركبت مثله فلم تلبثا أن وصلتا إلى بابل ورأتا هاروت وماروت معلّقين من أرجلهما وطلبت منهما أن يعلّماها السحر، فقالا لها : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي فأبت وظلّت تلحّ عليهما حتى علّماها بعض أعمال السحر حيث جعلاها تبذر حباً فينضج فتحصده فتطحنه فتخبزه في يوم واحد.
وليس شيء من هذه الأحاديث والرويات التي اكتفينا بما أوردناه منها – لأنها متماثلة – وارداً في الصحاح وفيها ما هو ظاهر من الغرائب التي توجب التحفظ والتوقف. والصيغ الأولى لا تنطبق على فحوى الآية حيث لا تذكر تعليم هاروت وماروت السحر للناس والتلفيق في الصيغة الأخيرة واضح. ولقد أورد ابن كثير الذي لخصنا عنه الروايات قولاً عن سالم بن عبد الله بن عمر جاء فيه أن المروي عن أبيه ليس مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مروي عن كعب الأحبار. ثم قال : وسالم أثبت عن أبيه من نافع عن مولاه. وقال المفسر القاسمي عن جميع الروايات إنها من قصص القصاصين واختلاف اليهود. وأورد هذا المفسر أقوالاً للرازي وابن حزم وأبي مسلم فيها تفنيدات قوية في بطلان صحة نسبة السحر وتعليمه إلى الملائكة نقلاً وموضوعاً. وكلام السيد رشيد رضا في الموضوع في تفسيره متطابق إجمالاً مع ذلك. ومهما يكن من أمر فالآيتان هما بسبيل حكاية ما كان يتعاطاه اليهود من أعمال السحر ومزاعمهم وتكذيب لهم والتنديد بهم. وما جاء عن هاروت وماروت جاء استطرداً، وما دام أنه ليس في ذلك أثر نبوي صحيح فالأولى الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، وعدم الأبوه للأخبار غير الوثيقة التي فيها ما فيها من غرائب، وإن كانت تدل على أن ما جاء فيها وبخاصة هاروت وماروت كان مما يتداول عند سامعي القرآن من عرب ويهود فاقتضت حكمة التنزيل الاستطراد إلى ذكرهما على سبيل تدعيم التنديد باليهود الذين يتبعون ما عرف عنهما من أعمال السحر.
والمتبادر أن الاسمين معربان عن لفظين أعجميين، ونعتقد أنهما معربان بصيغتهما قبل نزول القرآن، وفي هذا توثيق لما قلناه من أن خبرهما لم يكن مجهولاً والله تعالى أعلم.
والآيتان وإن كانتا في صدد اليهود وآثامهم ومواقفهم فإنهما تنطويان على تلقين مستمر المدى شأن الفصول السابقة والقصص القرآنية عامة. ومن هذا التلقين أنه لا يجوز للمؤمنين أن يعتقد
[ ٢ ] انظرنا : انظر إلينا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا [ ١ ] وَقُولُواْ انظُرْنَا [ ٢ ] وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿ ١٠٤ ﴾ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿ ١٠٥ ﴾ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [ ٣ ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٠٦ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٠٧ ﴾ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴿ ١٠٨ ﴾ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٠٩ ﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا [ ١ ] وَقُولُواْ انظُرْنَا [ ٢ ] وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿ ١٠٤ ﴾ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿ ١٠٥ ﴾ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [ ٣ ] نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٠٦ ﴾ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴿ ١٠٧ ﴾ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ﴿ ١٠٨ ﴾ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٠٩ ﴾ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾.
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
تعليق على الحلقة العاشرة
من سلسلة الآيات الواردة في السورة في اليهود
في الآيات انتقال استطرادي عن اليهود إلى خطاب المؤمنين مما هو مماثل للحلقة الخامسة ومضامينها واضحة الدلالة على أنها متصلة بمواقف اليهود وأقوالهم، وقد احتوت بعض صور من مواقفهم ودسائسهم وعبارتها واضحة.
وقد روى المفسرون ١ في صدد الآية الأولى أي [ ١٠٤ ] ولفظ ( راعنا ) الذي جاء فيها أن هذا اللفظ كان لفظ شتيمة عند اليهود أو أن اليهود كانوا يخلطون بين معناها من الرعاية والمراعاة وبين مشابههما اللفظي وهو ( الرعونة ) فكانوا حينما يسمعون المسلمين يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم به وهو من أساليب الخطاب المعتادة يتخذون ذلك موضوع تفكه وسخرية، فأمرتهم الآية الأولى بالكف عن استعمال هذا اللفظ واستعمال اللفظ البديل وهو انظر إلينا. والرواية لم ترد في كتب الصحاح ولكن روح الآية قد يفيد احتمال صحتها. وفي سورة النساء آية تذكر أن اليهود كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ ( راعنا ) ويلوون به ألسنتهم ليؤدي ما يعنون حقا من الغمز والسخرية والنعت بالرعونة وهي هذه :﴿ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿ ٤٦ ﴾ ﴾. ومما روي أن سعد بن معاذ زعيم الأوس انتبه إلى خبث اليهود ومقصدهم من ترديد الكلمة فقال لهم : يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه. فقالوا له : ألستم أنتم تقولونها له ؟.
وقد روى المفسّرون ٢ في صدد الآية الثالثة أي الآية [ ١٠٦ ] أن المشركين أو اليهود كانوا يغمزون النبي صلى الله عليه وسلم ويثيرون الشك في المسلمين نحوه بقولهم : إنه يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، وإن هذا ليس هو شأن الأنبياء. فاحتوت الآية رداً عليهم حيث تضمنت تقريراً ربانياً بأنه ليس من غير الجائز لله أن ينسخ آية بآية أو يؤجل ويبدله بآخر أو ينسي أحداً آية من آياته بقصد نسخها ورفعها. فإن له ملك السموات والأرض وله الأمر من قبل ومن بعد. ولقد يأمر في وقت بأمر ثم ينسخه أو يستبدل به آخر أو ينسيه تبعاً لمقتضيات الحوادث والظروف. وهو شيء طبيعي لا ينبغي أن يكون محلاً للاستغراب ولا مجالاً للدس، والسامع يعلم أو النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء قدير، وليس لأحد من دونه ولي ولا نصير ؛ وقد جاء هذا بصيغة السؤال الذي يتضمن التقرير والتوكيد.
وهذه الرواية لم ترد كذلك في الصحاح ولكنها متسقة مع فحوى الآية، مع التنبيه على أن رواية كون الغمز من اليهود أوجه من كونه من المشركين، فلم يكن في المدينة مشركون يجرؤون على مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وفي شرح الآيات التالية ما يدعم ما قلناه إن شاء الله.
ويتبادر لنا أنه جرى في ظروف نزول هذه الفصول حادث ما من نسخ أو تبديل أو إنساء في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم أو آيات القرآن فنشأ عنه بعض القيل والقال ووجد اليهود فيه مجالاً للدس والتشكيك فاحتوت الآية ردا وتنديداً. وننبه على أننا لم نطلع فيما اطلعنا عليه على رواية في حادث معين بالذات ولما كانت السلسلة التالية لهذه الآيات تحتوي في قسمها الأخير أي الآيات [ ١٤٢-١٥٠ ] إشارة إلى تبديل سمت القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وإلى ما كان بسبب ذلك من اعتراض اليهود ودسهم فمما يرد على البال أن يكون بين ما احتوته الآية وبين هذا الحادث صلة ما. ولا ندري إذا كان تعبير ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ مما يمكن أن يضعف هذا الخاطر. غير أن الأسلوب القرآني من جهة والإطلاق في التعبير من جهة أخرى قد يساعدان على تصويبه. وهذا بالإضافة إلى أن علماء القرآن يعتبرون تبديل سمت القبلة مما يدخل في نطاق المنسوخات القرآنية ٣.
وقد روى بعض المفسرين أن الآية [ ١٠٨ ] موجهة إلى اليهود ؛ لأنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ٤ وروى بعضهم أنها موجهة إلى المشركين الذين سألوا أن يأتيهم النبي بالله والملائكة وأن يفجر لهم الأنهار ويجعل جبل الصفا ذهبا ٥. وروى بعضهم أنها موجهة إلى المسلمين لأن واحداً منهم قال : يا رسول الله لو أن كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطاهم، كانوا إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه مع بيان كفارتها. فإن كفرها كانت له خزياً في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة. وقد أعطاكم ﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ] وإن الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، وإن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله إلا هالك» فأنزل الله الآية ٦.
وكل هذه الروايات لم ترد في الصحاح، وطلبات المشركين رويت وأوردت في سياق آيات أخرى مكية فليس لها هنا محل في ما هو المتبادر. وطلب اليهود المروي قد حكته إحدى آيات سورة النساء :﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً ﴿ ١٥٣ ﴾ ﴾ فليس له هنا محل أيضا. وفحوى الآية وروحها تؤيدان كون الآية موجهة إلى المسلمين. ومع ما في الجواب المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوة وروعة على السؤال المروي من أحد المسلمين فإنه لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة. ويلحظ أن الآية :﴿ وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١١٠ ﴾ ﴾ هي في سورة النساء المتأخرة كثيراً في النزول عن ظروف نزول هذه الآية، وهذا فضلاً عن أن ما تمناه المسلم لا ينطبق تماماً على ما في الآية من سؤال تنديدي.
والذي يتبادر لنا من فحوى الآية ثم من فحوى الآيات عامة أن بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم سؤالا فيه قصد تعجيزي أو شكّ ما، واحتواء الآية إنذاراً لمن يتبدل الكفر بالإيمان مما يؤيد ذلك.
وقد روى الطبري عن ابن عباس أن الآية [ ١٠٩ ] نزلت في حيي بن أخطب وياسر بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب واجتهاداً في ردّ الناس عن الإسلام. والرواية كسابقاتها لم ترد في الصحاح وإن كان ما ذكر فيها يتسق مع ما حكته الآية مع القول : إن صيغة الآية تفيد أن الأمر لم يكن قاصراً على شخصين من اليهود بل كان شأن الكثيرين منهم بالإضافة إلى المشركين. وأن هذا كان بادياً منهم قبل نزول آيات الحلقة بل وقبل نزول آيات حلقات سابقة أخرى. وأن الآية أرادت تنبيه المسلمين إلى سوء نية اليهود ضدهم وشدّة غيظهم وحسدهم لهم رغم ما يعرفونه من الحق والصدق في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وإن ورودها بعد الآية التي فيها إنكار لرغبة المسلمين في إيراد الأسئلة على رسول الله وإنذار لمن يبدل الكفر بالإيمان يدل على أن هذه الرغبة كانت من إيحاء اليهود وتلقينهم. ومن نوع ما حكي عن اليهود القدماء وتعجيزهم لموسى عليه السلام.
ويتبادر لنا أن ذكر المشركين في الآيتين [ ١٠٥ و١٠٩ ] قد جاء من قبيل الاستطراد وأن المقصد القريب هو اليهود. ولعله أُريد بذكر المشركين في هذا المقام تقرير كون اليهود الذين يفرض أنهم أقرب إلى المسلمين ديناً هم والمشركون سواء في إرادة الشرّ وسوء النية نحو المسلمين.
وقد تكون التنبيهات التي وردت في الآيتين المذكورتين آنفاً قد هدفت إلى توكيد النهي القريب الذي احتوته الآية [ ١٠٤ ] للمسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة يلوي اليهود بها ألسنتهم لتكون شتيمة له وسخرية به حتى لا يتحججوا بهم، غير أن روح الآيتين بل فحواهما يلهمان أنهما أوسع مدى من الكلمة المنهي عنها فاليهود يريدون أن يردوهم عن دينهم بكل وسيلة ويضمرون لهم الغيظ والحسد فيجب عليهم أن يتنبهوا لدسائسهم ولا يقعوا في حبائلهم.
وقد تدل هذه التنبيهات على ما كان من قوة أثر اليهود في أوساط المسلمين الذين كانت غالبيتهم من أهل المدينة، وهم مواطنوهم وحلفاؤهم قبل الإسلام. وقد يكون من مقاصدها بل ومن مقاصد الآيات السابقة واللاحقة من السلسلة الطويلة فضح نوايا اليهود وخبث سرائرهم وتخليص المسلمين من أثرهم القوي. وتجريدهم من أسباب النجاح من دسهم على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته.
وفي صدد الشطر الثاني من الآية [ ١٠٩ ] نقول إنه احتوى خطة للمسلمين وإنذاراً لليهود، فعلى المسلمين أن يتسامحوا ويصبروا إلى أن يكون أمر آخر لله، وعلى اليهود أن لا يستعجلوا هذا الأمر الآخر الرباني.
والمتبادر أن اليهود لم يكونوا قد تجاوزوا المماحكات الكلامية ومواقف الدسّ الحذرة إلى النكث والعداء الصريحين فاقتضت حكمة التنزيل أن يؤمر المسلمون بما أمروا. ثم تجاوزوها إلى النكث والعداء الصريحين فأتى بذلك أمر الله الأخير بقتالهم والتنكيل بهم على ما سو
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [ ١ ] قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿ ١١١ ﴾ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ١١٢ ﴾ وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴿ ١١٣ ﴾ ﴾.
تعليق على آية
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى... إلخ ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١١٣ ] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة
في الآيات :
( ١ ) حكاية لقول كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا أبناء ملتهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم وطلب البرهان على صدق قولهم بأسلوب يقرر عجزهم عن ذلك.
( ٣ ) وتقرير بأن هذا القول من قبيل الظن والتمني وهوى النفس.
( ٤ ) ووضع للأمر في نصابه الصحيح : فالذين يحوزون رضاء الله ويستحقون الأجر والثواب عنده ولا يكون عليهم خوف ولا حزن هم الذين يسلمون أنفسهم إليه فيؤمنون به وحده ويخضعون لأوامره ويتقونه ويحسنون فيما يفعلون.
( ٥ ) وحكاية لما كان يقوله كل من اليهود والنصارى في حق بعضهم ؛ حيث كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم المهتدون وينكرون أن يكون النصارى على شيء من الحق، وحيث كان هؤلاء يقفون من اليهود نفس الموقف، وتنديد بالفريقين معاً فأقوالهم كأقوال الجاهلين الذين يتخبطون في الظلام وليس عندهم شيء من العلم في حين أن بين أيديهم كتاب الله يتلونه، وأن المفروض أنهم يعرفون حقائق الأمور وليس من اللائق أن يصدر ذلك الكلام عنهم.
( ٦ ) وتعقيب على ذلك يتضمن تقرير كون الله سوف يحكم يوم القيامة فيما يختلف فيه الفريقان فيؤيد الحق وأصحابه ويخذل الباطل وأصحابه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومناظرته، وأن فريقاً من أحبار اليهود شهدوا مجلس المناظرة وقال الفريقان فيه في حقّ بعضهم ما ذكرته الآية. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح.
ولم يذكر المفسرون شيئا عن مناسبة الآية الأولى. وقد تقتضي الرواية أن يكون ما حكته هذه الآية من جملة ما قاله كل من الفريقين في المجلس أيضا ؛ لأنه من باب واحد وإن اختلفت الصيغة.
وننبه إلى أن سلسلة طويلة من سورة آل عمران حكت مجلس مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والنصارى، وروى المفسرون أنهم وفد نصارى نجران. وقد جاء فيها بعض آيات يمكن أن تفيد أن مجلساً ما شهده بعض اليهود مع وفد نجران على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير آيات آل عمران فلم يعد والحالة هذه محل لذكر مشاهد مناظرة نصارى نجران أو بعضها في هذه السورة ولا سيما أن قدوم هذا الوفد كان في أواسط العهد المدني. وكان اليهود قد أجلوا جميعهم تقريباً عن المدينة قبل ذلك. يضاف إلى هذا أن الآيات في مكانها وسياقها ومضمونها تبدو كأنها جزء من السلسلة الطويلة الواردة في السورة في حق اليهود في أوائل العهد المدني، واستمرار في حملة التنديد بدسائس اليهود ومواقفهم وأقوالهم.
لذلك نحن غير مطمئنين لما روي من صلة وفد نجران بهذا الموقف. ونرجح أن الآيات هي في الدرجة الأولى في صدد مواقف اليهود وأقوالهم، وأن ذكر النصارى فيها إما أن يكون بسبب قول مماثل صدر عن النصارى في موقف ما فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم استطراداً، وإما أن يكون حكاية حال صادقة وهذا ما نرجحه لأن الذين تمسكوا بنصرانيتهم لا بد من أنهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم الناجحون أصحاب الجنة، وأن اليهود منحرفون عن شرائعهم وليسوا على شيء من الحق، وسياق الآيات الخاص باليهود ومواقفهم يرجح ما نقول فيما نرى ونرجو أن يكون هو الصواب.
والآية الثانية أي الآية [ ١١١ ] تحتوي تقرير المعنى الذي قررته الآية [ ٦٢ ] كما شرحناها بشمول أوسع. فالدعوة النبوية القرآنية قائمة على الدعوة إلى الله وإسلام النفس إليه وحده والعمل الصالح الحسن. فاليهود والنصارى وغيرهم مدعوون إليها. فمن اعتنقها نال رضاء الله ونال أجره وأمن من الخوف والحزن، ويدخل في ذلك المؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعقيدة اليهود في النصارى، والنصارى في اليهود المحكية في الآية [ ١١٠ ] كانت وما تزال واقعة ومشاهدة. وفيها تدعيم لقوة الرسالة المحمدية فكل منهما يسفّه الآخر ويراه على باطل وضلال. والناجي منهما هو الذي يسلم وجهه لله ويعمل الصالحات. وهذا حال الذين يستجيبون إلى تلك الرسالة وينضوون إليها لأنها تدعو إلى الحق وتبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. وتضع كل شيء في نصابه الحق وتحل الإشكالات التي يرتكس فيها كل من النصارى واليهود سواء أفي نظرة كل من الفريقين إلى عيسى عليه السلام – وفي إحداهما إفراط كبير وفي أخراهما بغي كبير – أم في مناقضة شرائع الله وكتبه وتحريفها والانحراف عنها وتغدو هي المنار الهادي والملاذ الواقي والطريق القويم الوسط الذي لا عوج فيه ولا تعقيد ولا انحراف ولا غلو ولا إفراط ولا بغي مصداقاً لهذه الآية من هذه السورة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] ولآية المائدة هذه :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... ﴾ [ ٤٨ ].
والتدعيم بهذا الشرح يبدو قويا رائعا كما هو واضح، وتزداد قوته وروعته حينما يذكر أن التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى على موسى وعيسى عليهما السلام واللذين لم يصلا إلى عهدنا قد ذكرا صفة الرسول الأمين وأمرا أهلهما باتباعه كما جاء في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ]، وأن عيسى عليه السلام بشّر بنبي من بعده اسمه أحمد كما جاء في سورة الصف، مما يتضمن أمراً باتباعه بطبيعة الحال. ولقد جاء الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» حاسما في هذا الباب.
ولقد تعددت الأقوال المروية في المقصودين في جملة :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ حيث روى الطبري عن عطاء أنهم الأمم السابقة لليهود والنصارى والتوراة والإنجيل. وعن السدي أنهم مشركو العرب الذين كانوا يقولون : إن محمدا ليس على شيء، وهذه الأقوال لم ترد في الصحاح وإن كانت مما تتحمله الجملة ونحن نرجح القول الثاني لأن روح الجملة قد تلهم أنها في صدد واقع حاضر.
وهذا لا ينقض بطبيعة الحال ما قلناه في الشرح من أن المرد بالجملة تقوية التنديد باليهود والنصارى بتشبيههم بالجاهلين الذين يلقون الكلام جزافاً بدون علم.
تعليق على آية
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى... إلخ ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١١٣ ] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة
في الآيات :
( ١ ) حكاية لقول كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا أبناء ملتهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم وطلب البرهان على صدق قولهم بأسلوب يقرر عجزهم عن ذلك.
( ٣ ) وتقرير بأن هذا القول من قبيل الظن والتمني وهوى النفس.
( ٤ ) ووضع للأمر في نصابه الصحيح : فالذين يحوزون رضاء الله ويستحقون الأجر والثواب عنده ولا يكون عليهم خوف ولا حزن هم الذين يسلمون أنفسهم إليه فيؤمنون به وحده ويخضعون لأوامره ويتقونه ويحسنون فيما يفعلون.
( ٥ ) وحكاية لما كان يقوله كل من اليهود والنصارى في حق بعضهم ؛ حيث كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم المهتدون وينكرون أن يكون النصارى على شيء من الحق، وحيث كان هؤلاء يقفون من اليهود نفس الموقف، وتنديد بالفريقين معاً فأقوالهم كأقوال الجاهلين الذين يتخبطون في الظلام وليس عندهم شيء من العلم في حين أن بين أيديهم كتاب الله يتلونه، وأن المفروض أنهم يعرفون حقائق الأمور وليس من اللائق أن يصدر ذلك الكلام عنهم.
( ٦ ) وتعقيب على ذلك يتضمن تقرير كون الله سوف يحكم يوم القيامة فيما يختلف فيه الفريقان فيؤيد الحق وأصحابه ويخذل الباطل وأصحابه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومناظرته، وأن فريقاً من أحبار اليهود شهدوا مجلس المناظرة وقال الفريقان فيه في حقّ بعضهم ما ذكرته الآية. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح.
ولم يذكر المفسرون شيئا عن مناسبة الآية الأولى. وقد تقتضي الرواية أن يكون ما حكته هذه الآية من جملة ما قاله كل من الفريقين في المجلس أيضا ؛ لأنه من باب واحد وإن اختلفت الصيغة.
وننبه إلى أن سلسلة طويلة من سورة آل عمران حكت مجلس مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والنصارى، وروى المفسرون أنهم وفد نصارى نجران. وقد جاء فيها بعض آيات يمكن أن تفيد أن مجلساً ما شهده بعض اليهود مع وفد نجران على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير آيات آل عمران فلم يعد والحالة هذه محل لذكر مشاهد مناظرة نصارى نجران أو بعضها في هذه السورة ولا سيما أن قدوم هذا الوفد كان في أواسط العهد المدني. وكان اليهود قد أجلوا جميعهم تقريباً عن المدينة قبل ذلك. يضاف إلى هذا أن الآيات في مكانها وسياقها ومضمونها تبدو كأنها جزء من السلسلة الطويلة الواردة في السورة في حق اليهود في أوائل العهد المدني، واستمرار في حملة التنديد بدسائس اليهود ومواقفهم وأقوالهم.
لذلك نحن غير مطمئنين لما روي من صلة وفد نجران بهذا الموقف. ونرجح أن الآيات هي في الدرجة الأولى في صدد مواقف اليهود وأقوالهم، وأن ذكر النصارى فيها إما أن يكون بسبب قول مماثل صدر عن النصارى في موقف ما فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم استطراداً، وإما أن يكون حكاية حال صادقة وهذا ما نرجحه لأن الذين تمسكوا بنصرانيتهم لا بد من أنهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم الناجحون أصحاب الجنة، وأن اليهود منحرفون عن شرائعهم وليسوا على شيء من الحق، وسياق الآيات الخاص باليهود ومواقفهم يرجح ما نقول فيما نرى ونرجو أن يكون هو الصواب.
والآية الثانية أي الآية [ ١١١ ] تحتوي تقرير المعنى الذي قررته الآية [ ٦٢ ] كما شرحناها بشمول أوسع. فالدعوة النبوية القرآنية قائمة على الدعوة إلى الله وإسلام النفس إليه وحده والعمل الصالح الحسن. فاليهود والنصارى وغيرهم مدعوون إليها. فمن اعتنقها نال رضاء الله ونال أجره وأمن من الخوف والحزن، ويدخل في ذلك المؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعقيدة اليهود في النصارى، والنصارى في اليهود المحكية في الآية [ ١١٠ ] كانت وما تزال واقعة ومشاهدة. وفيها تدعيم لقوة الرسالة المحمدية فكل منهما يسفّه الآخر ويراه على باطل وضلال. والناجي منهما هو الذي يسلم وجهه لله ويعمل الصالحات. وهذا حال الذين يستجيبون إلى تلك الرسالة وينضوون إليها لأنها تدعو إلى الحق وتبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. وتضع كل شيء في نصابه الحق وتحل الإشكالات التي يرتكس فيها كل من النصارى واليهود سواء أفي نظرة كل من الفريقين إلى عيسى عليه السلام – وفي إحداهما إفراط كبير وفي أخراهما بغي كبير – أم في مناقضة شرائع الله وكتبه وتحريفها والانحراف عنها وتغدو هي المنار الهادي والملاذ الواقي والطريق القويم الوسط الذي لا عوج فيه ولا تعقيد ولا انحراف ولا غلو ولا إفراط ولا بغي مصداقاً لهذه الآية من هذه السورة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] ولآية المائدة هذه :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... ﴾ [ ٤٨ ].
والتدعيم بهذا الشرح يبدو قويا رائعا كما هو واضح، وتزداد قوته وروعته حينما يذكر أن التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى على موسى وعيسى عليهما السلام واللذين لم يصلا إلى عهدنا قد ذكرا صفة الرسول الأمين وأمرا أهلهما باتباعه كما جاء في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ]، وأن عيسى عليه السلام بشّر بنبي من بعده اسمه أحمد كما جاء في سورة الصف، مما يتضمن أمراً باتباعه بطبيعة الحال. ولقد جاء الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» حاسما في هذا الباب.
ولقد تعددت الأقوال المروية في المقصودين في جملة :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ حيث روى الطبري عن عطاء أنهم الأمم السابقة لليهود والنصارى والتوراة والإنجيل. وعن السدي أنهم مشركو العرب الذين كانوا يقولون : إن محمدا ليس على شيء، وهذه الأقوال لم ترد في الصحاح وإن كانت مما تتحمله الجملة ونحن نرجح القول الثاني لأن روح الجملة قد تلهم أنها في صدد واقع حاضر.
وهذا لا ينقض بطبيعة الحال ما قلناه في الشرح من أن المرد بالجملة تقوية التنديد باليهود والنصارى بتشبيههم بالجاهلين الذين يلقون الكلام جزافاً بدون علم.
تعليق على آية
﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى... إلخ ﴾
وما بعدها إلى الآية [ ١١٣ ] وهي الحلقة الحادية عشرة من السلسلة
في الآيات :
( ١ ) حكاية لقول كل من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا أبناء ملتهم.
( ٢ ) وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتحديهم وطلب البرهان على صدق قولهم بأسلوب يقرر عجزهم عن ذلك.
( ٣ ) وتقرير بأن هذا القول من قبيل الظن والتمني وهوى النفس.
( ٤ ) ووضع للأمر في نصابه الصحيح : فالذين يحوزون رضاء الله ويستحقون الأجر والثواب عنده ولا يكون عليهم خوف ولا حزن هم الذين يسلمون أنفسهم إليه فيؤمنون به وحده ويخضعون لأوامره ويتقونه ويحسنون فيما يفعلون.
( ٥ ) وحكاية لما كان يقوله كل من اليهود والنصارى في حق بعضهم ؛ حيث كان اليهود يعتبرون أنفسهم هم المهتدون وينكرون أن يكون النصارى على شيء من الحق، وحيث كان هؤلاء يقفون من اليهود نفس الموقف، وتنديد بالفريقين معاً فأقوالهم كأقوال الجاهلين الذين يتخبطون في الظلام وليس عندهم شيء من العلم في حين أن بين أيديهم كتاب الله يتلونه، وأن المفروض أنهم يعرفون حقائق الأمور وليس من اللائق أن يصدر ذلك الكلام عنهم.
( ٦ ) وتعقيب على ذلك يتضمن تقرير كون الله سوف يحكم يوم القيامة فيما يختلف فيه الفريقان فيؤيد الحق وأصحابه ويخذل الباطل وأصحابه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وسلم ومناظرته، وأن فريقاً من أحبار اليهود شهدوا مجلس المناظرة وقال الفريقان فيه في حقّ بعضهم ما ذكرته الآية. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح.
ولم يذكر المفسرون شيئا عن مناسبة الآية الأولى. وقد تقتضي الرواية أن يكون ما حكته هذه الآية من جملة ما قاله كل من الفريقين في المجلس أيضا ؛ لأنه من باب واحد وإن اختلفت الصيغة.
وننبه إلى أن سلسلة طويلة من سورة آل عمران حكت مجلس مناظرة بين النبي صلى الله عليه وسلم والنصارى، وروى المفسرون أنهم وفد نصارى نجران. وقد جاء فيها بعض آيات يمكن أن تفيد أن مجلساً ما شهده بعض اليهود مع وفد نجران على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير آيات آل عمران فلم يعد والحالة هذه محل لذكر مشاهد مناظرة نصارى نجران أو بعضها في هذه السورة ولا سيما أن قدوم هذا الوفد كان في أواسط العهد المدني. وكان اليهود قد أجلوا جميعهم تقريباً عن المدينة قبل ذلك. يضاف إلى هذا أن الآيات في مكانها وسياقها ومضمونها تبدو كأنها جزء من السلسلة الطويلة الواردة في السورة في حق اليهود في أوائل العهد المدني، واستمرار في حملة التنديد بدسائس اليهود ومواقفهم وأقوالهم.
لذلك نحن غير مطمئنين لما روي من صلة وفد نجران بهذا الموقف. ونرجح أن الآيات هي في الدرجة الأولى في صدد مواقف اليهود وأقوالهم، وأن ذكر النصارى فيها إما أن يكون بسبب قول مماثل صدر عن النصارى في موقف ما فاقتضت حكمة التنزيل ذكرهم استطراداً، وإما أن يكون حكاية حال صادقة وهذا ما نرجحه لأن الذين تمسكوا بنصرانيتهم لا بد من أنهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم الناجحون أصحاب الجنة، وأن اليهود منحرفون عن شرائعهم وليسوا على شيء من الحق، وسياق الآيات الخاص باليهود ومواقفهم يرجح ما نقول فيما نرى ونرجو أن يكون هو الصواب.
والآية الثانية أي الآية [ ١١١ ] تحتوي تقرير المعنى الذي قررته الآية [ ٦٢ ] كما شرحناها بشمول أوسع. فالدعوة النبوية القرآنية قائمة على الدعوة إلى الله وإسلام النفس إليه وحده والعمل الصالح الحسن. فاليهود والنصارى وغيرهم مدعوون إليها. فمن اعتنقها نال رضاء الله ونال أجره وأمن من الخوف والحزن، ويدخل في ذلك المؤمنون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
وعقيدة اليهود في النصارى، والنصارى في اليهود المحكية في الآية [ ١١٠ ] كانت وما تزال واقعة ومشاهدة. وفيها تدعيم لقوة الرسالة المحمدية فكل منهما يسفّه الآخر ويراه على باطل وضلال. والناجي منهما هو الذي يسلم وجهه لله ويعمل الصالحات. وهذا حال الذين يستجيبون إلى تلك الرسالة وينضوون إليها لأنها تدعو إلى الحق وتبين الحق من الباطل والهدى من الضلال. وتضع كل شيء في نصابه الحق وتحل الإشكالات التي يرتكس فيها كل من النصارى واليهود سواء أفي نظرة كل من الفريقين إلى عيسى عليه السلام – وفي إحداهما إفراط كبير وفي أخراهما بغي كبير – أم في مناقضة شرائع الله وكتبه وتحريفها والانحراف عنها وتغدو هي المنار الهادي والملاذ الواقي والطريق القويم الوسط الذي لا عوج فيه ولا تعقيد ولا انحراف ولا غلو ولا إفراط ولا بغي مصداقاً لهذه الآية من هذه السورة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] ولآية المائدة هذه :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... ﴾ [ ٤٨ ].
والتدعيم بهذا الشرح يبدو قويا رائعا كما هو واضح، وتزداد قوته وروعته حينما يذكر أن التوراة والإنجيل المنزلين من الله تعالى على موسى وعيسى عليهما السلام واللذين لم يصلا إلى عهدنا قد ذكرا صفة الرسول الأمين وأمرا أهلهما باتباعه كما جاء في آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ]، وأن عيسى عليه السلام بشّر بنبي من بعده اسمه أحمد كما جاء في سورة الصف، مما يتضمن أمراً باتباعه بطبيعة الحال. ولقد جاء الحديث الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :«والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» حاسما في هذا الباب.
ولقد تعددت الأقوال المروية في المقصودين في جملة :﴿ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ﴾ حيث روى الطبري عن عطاء أنهم الأمم السابقة لليهود والنصارى والتوراة والإنجيل. وعن السدي أنهم مشركو العرب الذين كانوا يقولون : إن محمدا ليس على شيء، وهذه الأقوال لم ترد في الصحاح وإن كانت مما تتحمله الجملة ونحن نرجح القول الثاني لأن روح الجملة قد تلهم أنها في صدد واقع حاضر.
وهذا لا ينقض بطبيعة الحال ما قلناه في الشرح من أن المرد بالجملة تقوية التنديد باليهود والنصارى بتشبيههم بالجاهلين الذين يلقون الكلام جزافاً بدون علم.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [ ١ ] أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿ ١١٤ ﴾ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ١١٥ ﴾ ﴾
الآية الأولى تضمنت تنديداً شديداً بمن يمنع الناس من ذكر الله في مساجده ويسعى في تعطيل إقامة شعائر الله فيها، مع أن أمثال هؤلاء ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. وإنذاراً لهم بما يستحقون من الخزي والهوان في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
والآية الثانية تضمنت تقرير كون المشرق والمغرب لله، وأن عابد الله والمتجه إليه يجده أينما ولّى وجهه. فالله سبحانه غير محصور في جهة دون أخرى وهو واسع الملك والحكم عليم بحقائق الأمور ومقتضياتها.
ومن المؤولين من أوّل جملة ﴿ وَجْهُ اللهِ ﴾ برضائه وتوجيهه، ومنهم من أوّلها بذاته، ومنهم من أوّلها بوجوده وكل من هذه التأويلات وارد ومن الواجب الوقوف عند ذلك دون تزيد على ما نبهنا عليه في مناسبة الآية [ ٨٩ ] من سورة القصص التي ورد فيها كلمة ﴿ وَجْهُ ﴾ بمعنى وجه الله تعالى.
تعليق على آية
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾
والآية التي بعدها وهما الحلقة الثانية عشرة من سلسلة بني إسرائيل
لقد تعددت الروايات والأقوال التي يرويها ويذكرها المفسرون في صدد كل من الآيتين، فمن ذلك في صدد أولاهما أنها للتنديد ببختنصر البابلي الذي هدم معبد بين المقدس وبالنصارى والروم الذين ساعدوه على ذلك لحقدهم على اليهود الذين قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، ومن ذلك أنها للتنديد بالنصارى الذين كانوا يطرحون الأذى في ذلك المعبد ويمنعون الناس عن الصلاة فيه، ومن ذلك أنها للتنديد بالروم الذين خربوا ذلك المعبد، ومن ذلك أنها للتنديد بالمشركين الذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام يوم الحديبية ١.
وفي بعض هذه الأقوال تهافت وغرابة وبعد مناسبة مثل مساعدة النصارى لبختنصر مع أن بختنصر سابق لميلاد المسيح وليحيى بن زكريا بستة قرون. ومثل طرح النصارى الأذى على المعبد ومنعهم من الصلاة فيه مع أن المعبد هدم وصار أطلالا في زمن الروم قبل أن يستطيع النصارى فعل شيء بل كانوا هم أيضا مضطهدين. ورواية كونها في صدد منع قريش للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعيدة أيضا ؛ لأن هذا كان في السنة السادسة وبعد التنكيل باليهود وإجلائهم عن المدينة. وهذه الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت فقط فيما كان اليهود لا يزالون موجودين في المدينة وعلى شيء من القوة والحيوية.
ومما أوردوه في صدد الآية الثانية أنها ردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وقالوا : إن محمدا قد ضيّع على المسلمين صلاتهم. ومن ذلك أنها نزلت في النجاشي حين توفي قبل أن يصلي إلى القبلة. ومنها أنها نزلت لتخيير المسلمين بتوجيه وجوههم في الصلاة أنى يريدون وأن ذلك كان قبل فرض التوجه نحو البيت الحرام. ومنها أنها نزلت في مناسبة صلاة بعض المسلمين في ليلة مظلمة دون تيقنهم من القبلة ومراجعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومعظم الروايات لم ترد في الصحاح. وهناك حديث رواه الترمذي عن عامر بن ربيعة قد يؤيد الرواية الأخيرة جاء فيه :«كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله. فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ ٢. والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة مع أنها منسجمة مع سابقاتها ومع السلسلة. ويتبادر لنا من سياق السلسلة أن رواية كونها للردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى قوية الاحتمال والصحة، وأن ذلك يشمل الآية الأولى أيضاً، وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد تنديدي وإنذاري للرد الذي احتوته الآية الثانية على اليهود، وأن لهذا الرد صلة بالآية [ ١٠٦ ] من الحلقة التاسعة التي رجحنا أنها في صدد نسخ القبلة وتحويل سمتها عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
ومما يدعم توجيهنا إن شاء الله كون الآيتين غير منفصلتين عن السلسلة الطويلة التي ما فتئت تذكر دسائس اليهود وتعطيلهم وجحودهم وتندد بهم. ثم الآيات [ ١٢٤-١٢٩ ] الآتية بعد قليل والتي فيها تنويه بالكعبة وبنائها من قبل إبراهيم وإسماعيل بأمر الله لتكون مثابة للناس وأمنا ومكانا للطائفين والعاكفين والركع السجود مما ينطوي فيه تبرير لتحويل سمت القبلة إليها. ثم الآيات [ ١٤١-١٥٠ ] التي تذكر إنكار اليهود لتحويل القبلة وتشكيكهم المسلمين في صلواتهم وفي نبيهم. وقد قالوا لهم فيما قالوه : إنه يأمرهم بشيء ثم يعدل عنه وهذا ليس من شأن الأنبياء وأن استقبال المسجد الأقصى إذا كان خطأ فيكون قد أضاع صلواتهم وإن كان صواباً فيكون في عدوله عنه إضاعة لصلواتهم أيضا ٣ فجاءت الآيتان لتندد باليهود لأنهم يمنعون الناس عن ذكر الله في مساجد الله ويسعون في خرابها والمسجد الحرام منها على اعتبار أن إهماله من المسلمين بالمرة بمثابة خرابه. ولتطمئن المسلمين بأن الله تعالى موجود في كل مكان وليس منحصراً في اتجاه بيت المقدس. وبأن الأمر في جوهره هو عبادة الله الموجود في كل مكان. والمتبادر إذا صح هذا كما نرجو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية حينما أخبره عامر بما كان من أمرهم في الليل فالتبس الأمر عليه أو على الرواة وظنوا أنها نزلت جواباً على السؤال.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ٤ في جملة :﴿ أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ فمن ذلك أن الذين يعطلون مساجد الله هم الأحرى ألا يدخلوها إلا خائفين من بطش المسلمين. ومن ذلك أن الأحرى بهم أن يدخلوها خائفين من هيبة الله فكيف يكونون مفسدين ومخربين لها وهذا هو ما اختاره السيد رشيد رضا، ونحن نراه الأوجه.
ومع خصوصية الآيات ففيها تلقينات سامية مستمرة المدى سواء في تقريرها حرية العبادة لله وأماكنها، وتنديدها بمن يحول دونها ويعتدي عليها بالتخريب والتعطيل أم في تقريرها سعة أفق الدين الإسلامي واهتمامه للجوهر دون العرض.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآية الثانية نسخت بالآية :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ ١٤٤ ] التي تأتي بعد قليل. وقد يكون هذا في محله من حيث الموضوعية. غير أن الآية قد جاءت في معرض الرد على دس اليهود وشغبهم، ويظل مداها محتملاً لسعة أفق الإسلام على ما ذكرناه آنفاً فيما هو المتبادر والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما بين المشرق والمغرب قبلة» ٥. وروى عن ابن عمر حديثا فيه توضيح وإن لم يرد في الصحاح جاء فيه :«إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلتَ القبلة» والحكمة الملموحة في الحديث الأول التوسيع على المسلمين وعدم المشقة عليهم في التحري والتدقيق. وتقرير كون الواجب عليهم هو الاتجاه نحو سمت الكعبة.
وهناك حديث رواه الخمسة عن جابر قال :«كان النبي يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبّح على الراحلة قِبل أيّ وجه توجّه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» ٦. وحديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال :«كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوّعا أينما توجّهت به وهو جاءٍ من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر ﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ وقال : أنزلت في هذا» ٧. وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» ٨. وفي الأحاديث توسيع على المسلمين في صلواتهم التطوعية التي يصلونها على ظهور رواحلهم مستمد من سعة الأفق المنطوي في الآية. ويصح أن يقاس عليه الصلوات التطوعية في البواخر والقطارات والطيارات كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
الآية الأولى تضمنت تنديداً شديداً بمن يمنع الناس من ذكر الله في مساجده ويسعى في تعطيل إقامة شعائر الله فيها، مع أن أمثال هؤلاء ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين. وإنذاراً لهم بما يستحقون من الخزي والهوان في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة.
والآية الثانية تضمنت تقرير كون المشرق والمغرب لله، وأن عابد الله والمتجه إليه يجده أينما ولّى وجهه. فالله سبحانه غير محصور في جهة دون أخرى وهو واسع الملك والحكم عليم بحقائق الأمور ومقتضياتها.
ومن المؤولين من أوّل جملة ﴿ وَجْهُ اللهِ ﴾ برضائه وتوجيهه، ومنهم من أوّلها بذاته، ومنهم من أوّلها بوجوده وكل من هذه التأويلات وارد ومن الواجب الوقوف عند ذلك دون تزيد على ما نبهنا عليه في مناسبة الآية [ ٨٩ ] من سورة القصص التي ورد فيها كلمة ﴿ وَجْهُ ﴾ بمعنى وجه الله تعالى.
تعليق على آية
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾
والآية التي بعدها وهما الحلقة الثانية عشرة من سلسلة بني إسرائيل
لقد تعددت الروايات والأقوال التي يرويها ويذكرها المفسرون في صدد كل من الآيتين، فمن ذلك في صدد أولاهما أنها للتنديد ببختنصر البابلي الذي هدم معبد بين المقدس وبالنصارى والروم الذين ساعدوه على ذلك لحقدهم على اليهود الذين قتلوا يحيى بن زكريا عليهما السلام، ومن ذلك أنها للتنديد بالنصارى الذين كانوا يطرحون الأذى في ذلك المعبد ويمنعون الناس عن الصلاة فيه، ومن ذلك أنها للتنديد بالروم الذين خربوا ذلك المعبد، ومن ذلك أنها للتنديد بالمشركين الذين صدوا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام يوم الحديبية ١.
وفي بعض هذه الأقوال تهافت وغرابة وبعد مناسبة مثل مساعدة النصارى لبختنصر مع أن بختنصر سابق لميلاد المسيح وليحيى بن زكريا بستة قرون. ومثل طرح النصارى الأذى على المعبد ومنعهم من الصلاة فيه مع أن المعبد هدم وصار أطلالا في زمن الروم قبل أن يستطيع النصارى فعل شيء بل كانوا هم أيضا مضطهدين. ورواية كونها في صدد منع قريش للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعيدة أيضا ؛ لأن هذا كان في السنة السادسة وبعد التنكيل باليهود وإجلائهم عن المدينة. وهذه الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت فقط فيما كان اليهود لا يزالون موجودين في المدينة وعلى شيء من القوة والحيوية.
ومما أوردوه في صدد الآية الثانية أنها ردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام وقالوا : إن محمدا قد ضيّع على المسلمين صلاتهم. ومن ذلك أنها نزلت في النجاشي حين توفي قبل أن يصلي إلى القبلة. ومنها أنها نزلت لتخيير المسلمين بتوجيه وجوههم في الصلاة أنى يريدون وأن ذلك كان قبل فرض التوجه نحو البيت الحرام. ومنها أنها نزلت في مناسبة صلاة بعض المسلمين في ليلة مظلمة دون تيقنهم من القبلة ومراجعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. ومعظم الروايات لم ترد في الصحاح. وهناك حديث رواه الترمذي عن عامر بن ربيعة قد يؤيد الرواية الأخيرة جاء فيه :«كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة فصلّى كلّ رجل منّا على حياله. فلمّا أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت :﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ ٢. والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت منفردة مع أنها منسجمة مع سابقاتها ومع السلسلة. ويتبادر لنا من سياق السلسلة أن رواية كونها للردّ على اليهود الذين استنكروا تحويل القبلة عن المسجد الأقصى قوية الاحتمال والصحة، وأن ذلك يشمل الآية الأولى أيضاً، وأن الآية الأولى هي بمثابة تمهيد تنديدي وإنذاري للرد الذي احتوته الآية الثانية على اليهود، وأن لهذا الرد صلة بالآية [ ١٠٦ ] من الحلقة التاسعة التي رجحنا أنها في صدد نسخ القبلة وتحويل سمتها عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام.
ومما يدعم توجيهنا إن شاء الله كون الآيتين غير منفصلتين عن السلسلة الطويلة التي ما فتئت تذكر دسائس اليهود وتعطيلهم وجحودهم وتندد بهم. ثم الآيات [ ١٢٤-١٢٩ ] الآتية بعد قليل والتي فيها تنويه بالكعبة وبنائها من قبل إبراهيم وإسماعيل بأمر الله لتكون مثابة للناس وأمنا ومكانا للطائفين والعاكفين والركع السجود مما ينطوي فيه تبرير لتحويل سمت القبلة إليها. ثم الآيات [ ١٤١-١٥٠ ] التي تذكر إنكار اليهود لتحويل القبلة وتشكيكهم المسلمين في صلواتهم وفي نبيهم. وقد قالوا لهم فيما قالوه : إنه يأمرهم بشيء ثم يعدل عنه وهذا ليس من شأن الأنبياء وأن استقبال المسجد الأقصى إذا كان خطأ فيكون قد أضاع صلواتهم وإن كان صواباً فيكون في عدوله عنه إضاعة لصلواتهم أيضا ٣ فجاءت الآيتان لتندد باليهود لأنهم يمنعون الناس عن ذكر الله في مساجد الله ويسعون في خرابها والمسجد الحرام منها على اعتبار أن إهماله من المسلمين بالمرة بمثابة خرابه. ولتطمئن المسلمين بأن الله تعالى موجود في كل مكان وليس منحصراً في اتجاه بيت المقدس. وبأن الأمر في جوهره هو عبادة الله الموجود في كل مكان. والمتبادر إذا صح هذا كما نرجو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية حينما أخبره عامر بما كان من أمرهم في الليل فالتبس الأمر عليه أو على الرواة وظنوا أنها نزلت جواباً على السؤال.
ولقد تعددت تأويلات المفسرين ٤ في جملة :﴿ أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾ فمن ذلك أن الذين يعطلون مساجد الله هم الأحرى ألا يدخلوها إلا خائفين من بطش المسلمين. ومن ذلك أن الأحرى بهم أن يدخلوها خائفين من هيبة الله فكيف يكونون مفسدين ومخربين لها وهذا هو ما اختاره السيد رشيد رضا، ونحن نراه الأوجه.
ومع خصوصية الآيات ففيها تلقينات سامية مستمرة المدى سواء في تقريرها حرية العبادة لله وأماكنها، وتنديدها بمن يحول دونها ويعتدي عليها بالتخريب والتعطيل أم في تقريرها سعة أفق الدين الإسلامي واهتمامه للجوهر دون العرض.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآية الثانية نسخت بالآية :﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [ ١٤٤ ] التي تأتي بعد قليل. وقد يكون هذا في محله من حيث الموضوعية. غير أن الآية قد جاءت في معرض الرد على دس اليهود وشغبهم، ويظل مداها محتملاً لسعة أفق الإسلام على ما ذكرناه آنفاً فيما هو المتبادر والله أعلم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما بين المشرق والمغرب قبلة» ٥. وروى عن ابن عمر حديثا فيه توضيح وإن لم يرد في الصحاح جاء فيه :«إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلتَ القبلة» والحكمة الملموحة في الحديث الأول التوسيع على المسلمين وعدم المشقة عليهم في التحري والتدقيق. وتقرير كون الواجب عليهم هو الاتجاه نحو سمت الكعبة.
وهناك حديث رواه الخمسة عن جابر قال :«كان النبي يصلي على راحلته حيث توجهت، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبّح على الراحلة قِبل أيّ وجه توجّه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة» ٦. وحديث رواه الترمذي عن ابن عمر قال :«كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته تطوّعا أينما توجّهت به وهو جاءٍ من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمر ﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ﴾ وقال : أنزلت في هذا» ٧. وحديث رواه أصحاب السنن عن جابر قال :«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلّي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع» ٨. وفي الأحاديث توسيع على المسلمين في صلواتهم التطوعية التي يصلونها على ظهور رواحلهم مستمد من سعة الأفق المنطوي في الآية. ويصح أن يقاس عليه الصلوات التطوعية في البواخر والقطارات والطيارات كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
تعليق على الحلقة الثالثة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في الآيتين الأوليين : حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون : إن الله اتخذ ولداً وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغنٍ عن الولد والشريك والندّ.
وفي الآيتين الأخريين :
١- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز.
٢- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم، وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق.
٣- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق وبشيراً ونذيراً وحسب.
٤- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.
وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين ١ في من عنته الآيات فقالوا : إنهم النصارى، وقالوا : إنهم اليهود، وقالوا : إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ { ٣٠ ﴾ } أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية ٢.
غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات. ولعل جملة ﴿ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صواباً تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا.
ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فيه نظر ؛ لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جواباً سديداً وهو : أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا ؛ لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم.
ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثاً فأنزلها الله ». وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى، ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً رواه البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولداً » ٣. وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيراً لحكمة يعلمها الله ورسوله.
٢ انظر آيات سورة آل عمران [١٨٣] والأنعام [١٥٨] والنحل [٣٣] والفرقان [١٢].
٣ التاج ٤/٣٧ و٣٨ فصل التفسير.
تعليق على الحلقة الثالثة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في الآيتين الأوليين : حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون : إن الله اتخذ ولداً وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغنٍ عن الولد والشريك والندّ.
وفي الآيتين الأخريين :
١- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز.
٢- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم، وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق.
٣- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق وبشيراً ونذيراً وحسب.
٤- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.
وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين ١ في من عنته الآيات فقالوا : إنهم النصارى، وقالوا : إنهم اليهود، وقالوا : إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ ﴾ أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية ٢.
غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات. ولعل جملة ﴿ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صواباً تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا.
ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فيه نظر ؛ لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جواباً سديداً وهو : أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا ؛ لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم.
ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثاً فأنزلها الله ». وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى، ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً رواه البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولداً » ٣. وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيراً لحكمة يعلمها الله ورسوله.
٢ انظر آيات سورة آل عمران [١٨٣] والأنعام [١٥٨] والنحل [٣٣] والفرقان [١٢].
٣ التاج ٤/٣٧ و٣٨ فصل التفسير.
تعليق على الحلقة الثالثة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في الآيتين الأوليين : حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون : إن الله اتخذ ولداً وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغنٍ عن الولد والشريك والندّ.
وفي الآيتين الأخريين :
١- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز.
٢- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم، وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق.
٣- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق وبشيراً ونذيراً وحسب.
٤- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.
وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين ١ في من عنته الآيات فقالوا : إنهم النصارى، وقالوا : إنهم اليهود، وقالوا : إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ ﴾ أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية ٢.
غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات. ولعل جملة ﴿ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صواباً تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا.
ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فيه نظر ؛ لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جواباً سديداً وهو : أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا ؛ لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم.
ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثاً فأنزلها الله ». وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى، ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً رواه البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولداً » ٣. وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيراً لحكمة يعلمها الله ورسوله.
٢ انظر آيات سورة آل عمران [١٨٣] والأنعام [١٥٨] والنحل [٣٣] والفرقان [١٢].
٣ التاج ٤/٣٧ و٣٨ فصل التفسير.
تعليق على الحلقة الثالثة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في الآيتين الأوليين : حكاية بأسلوب تنديدي لقول الذين يقولون : إن الله اتخذ ولداً وتنزيه له عن ذلك. فهو الذي أبدع السموات والأرض وخلقهما من العدم على هذا النظام البديع وهو الذي يخضع له كل ما فيهما. وهو الذي يقول للشيء إذا أراده كن فيكون ومثل هذا الإله منزه ومستغنٍ عن الولد والشريك والندّ.
وفي الآيتين الأخريين :
١- حكاية لاقتراح بعض الجاهلين أن يكلمهم الله أو تأتيهم منه آية بأسلوب فيه تحدّ وتعجيز.
٢- وردّ تنديدي عليهم فهم في اقتراحهم وتعجيزهم كالذين من قبلهم، وهذا مظهر من مظاهر تشابه القلوب والأخلاق.
٣- وتنبيه إلى أن الله تعالى إنما أنزل آياته بينات لمن يريد أن يؤمن به ويرغب في الاهتداء إليه. وأن الله إنما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق وبشيراً ونذيراً وحسب.
٤- وتسلية للنبي فهو غير مسؤول عن إيمان الذين خبثت سرائرهم وقست قلوبهم واستحقوا النار بوقوفهم موقف التعجيز والمكابرة.
وقد تعددت أقوال وروايات المفسرين ١ في من عنته الآيات فقالوا : إنهم النصارى، وقالوا : إنهم اليهود، وقالوا : إنهم المشركون. وكل من هؤلاء قد نسب الولد لله سبحانه وتعالى وفي سورة التوبة آية تحكي عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله :﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿ ٣٠ ﴾ ﴾ أما دعوى المشركين والنصارى فقد حكتها آيات كثيرة مكية ومدنية. وقد حكت آيات مكية ومدنية كثيرة تحدي المشركين واليهود النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالمعجزات ومنها ما هو من نوع ما ذكرته الآية الثانية ٢.
غير أن عطف الآيات على ما قبلها وكونها من سلسلة طويلة في حق بني إسرائيل وأفعالهم ومواقفهم يجعلنا نرجح أن اليهود هم المقصودون في الآيات. ولعل جملة ﴿ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ﴾ قرينة على أن المقصود هم اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أجدادهم يطلبون من موسى أن يريهم الله جهرة تارة وأن يكلمهم الله تارة وأن يأتيهم بالآيات تارة على ما ذكرته بعض آيات السلسلة على سبيل التذكير والتنديد. وبهذا الذي نرجو أن يكون صواباً تكون هذه الآيات حلقة من سلسلة الآيات الواردة في يهود بني إسرائيل أيضا.
ولقد ورد أن وصف اليهود بجملة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ فيه نظر ؛ لأنهم كانوا يوصفون بأهل العلم وأهل الكتاب ووصفوا بذلك في القرآن. وقد أجاب القاسمي على هذا جواباً سديداً وهو : أن الله تعالى نفى عنهم العلم بطلبهم ما طلبوا ؛ لأن ذلك لا يطلبه من عنده علم، وقد يصح أن يزاد على هذا أن النفي من قبل التبكيت والتنديد والله أعلم.
ولقد روى الطبري في صدد الآية الثالثة عن محمد بن كعب القرظي وابن جريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم :«ليت شعري ما فعل أبواي ثلاثاً فأنزلها الله ». وقد فند الطبري الرواية وأول الجملة بتأويل مماثل لتأويلنا.
وهذه الجملة قد تكررت في مقامات عديدة نصا أو معنى، ولا سيما في العهد المكي للهدف نفسه على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة، ويظهر أن حكمة التنزيل اقتضت إيحاءها في هذا المقام في صدد ما كان من شدة إنكار اليهود وجحودهم ودسائسهم.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً رواه البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ ولداً » ٣. وفي الحديث تنديد رباني بالمشركين والجاحدين لليوم الآخر بأسلوب آخر غير الأسلوب القرآني الذي تكرر ذلك كثيراً لحكمة يعلمها الله ورسوله.
٢ انظر آيات سورة آل عمران [١٨٣] والأنعام [١٥٨] والنحل [٣٣] والفرقان [١٢].
٣ التاج ٤/٣٧ و٣٨ فصل التفسير.
تعليق على الحلقة الرابعة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيراً.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المهادنة، ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى ؛ لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية، وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ﴾ وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلى الله عليه وسلم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين ؛ حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وليس شيء من الروايات وارداً في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [ ١٦٢ ].
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في ﴿ بِهِ ﴾ في الآية الثانية. فمنهم من قال : إنه عائد إلى القرآن، ومنهم من قال : إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب. والمقام يتحمل هذا وذاك، ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة ﴿ العِلْمِ ﴾ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [ ١٩ و١٠٠ ] والأعراف [ ١٥٧ ] والصف [ ٦ ] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علناً ويسمعها أهل الكتاب، وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه، وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون : إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.
هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا : إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولاً لابن مسعود جاء فيه :«والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله ». وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا. وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباط من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولاً وفعلاً. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولاً وفعلاً وسلوكاً وإيماناً، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمَهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة » ١. ورواية أبي داود هي :«سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء » ٢.
٢ نفسه.
تعليق على الحلقة الرابعة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيراً.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المهادنة، ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى ؛ لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية، وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ﴾ وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلى الله عليه وسلم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين ؛ حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وليس شيء من الروايات وارداً في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [ ١٦٢ ].
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في ﴿ بِهِ ﴾ في الآية الثانية. فمنهم من قال : إنه عائد إلى القرآن، ومنهم من قال : إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب. والمقام يتحمل هذا وذاك، ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة ﴿ العِلْمِ ﴾ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [ ١٩ و١٠٠ ] والأعراف [ ١٥٧ ] والصف [ ٦ ] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علناً ويسمعها أهل الكتاب، وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه، وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون : إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.
هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا : إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولاً لابن مسعود جاء فيه :«والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله ». وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا. وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباط من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولاً وفعلاً. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولاً وفعلاً وسلوكاً وإيماناً، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمَهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة » ١. ورواية أبي داود هي :«سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء » ٢.
٢ نفسه.
تعليق على الحلقة الرابعة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيراً.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المهادنة، ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى ؛ لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية، وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ﴾ وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلى الله عليه وسلم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين ؛ حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وليس شيء من الروايات وارداً في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [ ١٦٢ ].
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في ﴿ بِهِ ﴾ في الآية الثانية. فمنهم من قال : إنه عائد إلى القرآن، ومنهم من قال : إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب. والمقام يتحمل هذا وذاك، ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة ﴿ العِلْمِ ﴾ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [ ١٩ و١٠٠ ] والأعراف [ ١٥٧ ] والصف [ ٦ ] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علناً ويسمعها أهل الكتاب، وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه، وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون : إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.
هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا : إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولاً لابن مسعود جاء فيه :«والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله ». وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا. وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباط من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولاً وفعلاً. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولاً وفعلاً وسلوكاً وإيماناً، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمَهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة » ١. ورواية أبي داود هي :«سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء » ٢.
٢ نفسه.
تعليق على الحلقة الرابعة عشرة
من سلسلة الآيات الواردة في اليهود في هذه السورة
وجّه الخطاب في الآية الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم لتقرر له فيها بأن اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ويسير على طريقتهم، ولتأمره بالرد عليهم بأن هدى الله الذي هداه إليه هو الهدى الصحيح ولتنبهه بأنه لو اتبع أهواءهم بعدما جاءه من العلم الذي فيه الحق والهدى لتخلّى الله عن نصرته ولما وجد له من دونه وليا ولا نصيراً.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ممن آتاهم الله الكتاب. فهؤلاء هم الذين يعرفون الحق الذي فيه ويسيرون على هداه ولا يمارون فيه، أما الذين يكفرون بالحق والهدى منهم فإنهم الخاسرون.
وفي الآيتين الثالثة والرابعة خطاب إنذاري وتذكيري موجه إلى بني إسرائيل ليذكروا نعمة الله عليهم وما كان من تفضيله إياهم على الناس وليتقوا هول اليوم الآخر الذي لا تغني فيه نفس عن نفس، ولا يقبل فيه بدل ولا عدل، ولا تنفع فيه شفاعة ولا يكون لأحد نصر من أحد.
ولقد ذكر المفسرون في صدد الآية الأولى أن كلا من اليهود والنصارى كانوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم المهادنة، ويأملون أن يتبع ملتهم ويراودوه على ذلك ليؤمنوا به. ومما ذكروه كذلك أن كلا منهم كان يطلب منه الثبات على استقبال المسجد الأقصى ؛ لأنه قبلتهم حتى يؤمنوا برسالته فنزلت للرد عليهم وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وساوسهم. ويتبادر لنا أن اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى في الآية، وأن ذكر النصارى هو للتعبير عن لسان حال الذين تمسكوا بنصرانيتهم كما رجحنا ذلك بالنسبة للآية :﴿ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ﴾ وأن اليهود قد اضطربوا وانفعلوا حينما تحول سمت القبلة عن قبلتهم إلى المسجد الحرام فحاولوا خداع النبي صلى الله عليه وسلم أو إغراءه، والخطاب موجه لبني إسرائيل فقط في الآيتين الأخريين ؛ حيث يدعم هذا ترجيحنا كون اليهود هم الموضوع الرئيسي في السلسلة الطويلة وكون ذكر النصارى هو من باب الاستطراد.
ولقد روى المفسرون أربعة أقوال في من عنتهم الآية الثانية، منها قولان عن ابن عباس واحد يذكر أنهم جماعة من الأحباش آمنوا وقدموا المدينة مع جعفر بن أبي طالب حين رجع من الهجرة الأولى، وواحد يذكر أنهم جماعة من الروم فيهم بحيرا الراهب، وقول عن الضحاك أنهم الذين آمنوا من اليهود مثل عبد الله بن سلام. وقول عن عكرمة أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وليس شيء من الروايات وارداً في الصحاح. ورواية الحبشة بعيدة لأن جعفر رجع بعد صلح الحديبية وإجلاء اليهود عن المدينة والآيات تفيد أنهم كانوا ما يزالون فيها. وجماعة النصارى ورد فيها آيات في سورة المائدة، ونعت الجماعة بالذين آتيناهم الكتاب يجعل صرفها إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غير سائغ. والسياق في اليهود بحيث يسوغ الترجيح بكونهم من اليهود الذين آمنوا. وفي سورة النساء آية صريحة بأن بعض الراسخين في العلم من اليهود آمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهي الآية [ ١٦٢ ].
ولقد اختلف المفسرون في عائدية ضمير الغائب في ﴿ بِهِ ﴾ في الآية الثانية. فمنهم من قال : إنه عائد إلى القرآن، ومنهم من قال : إنه عائد إلى كتب أهل الكتاب. والمقام يتحمل هذا وذاك، ونحن نرجح القول الأول الذي عبر عنه بكلمة ﴿ العِلْمِ ﴾ في الآية الأولى. فتكون الآية الثانية بذلك مع ظرفية نزولها قد انطوت على تقرير عام مستمر المدى بأن كل من يتلو كتب الله حق تلاوتها وتفهمها حق الفهم من أهل الكتاب لا بد من أن يؤمن برسالة محمد وبما أنزله الله عليه. وهذا تقرير صادق دامغ، ولقد أخبرنا الله في آيات عديدة مثل الأنعام [ ١٩ و١٠٠ ] والأعراف [ ١٥٧ ] والصف [ ٦ ] أن اليهود والنصارى يجدون صفات محمّد في التوراة والإنجيل وأن عيسى بشّر به، وأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وأن القرآن منزل من الله. ولقد كانت هذه الآيات تتلى علناً ويسمعها أهل الكتاب، وقد علموا ما فيها من حق وصدق فآمن منهم من استطاع أن يتغلب على أنانيته ومنافعه، وإذا كان أهل الكتاب اليوم يقولون : إن ذلك ليس في التوراة والإنجيل فإن التوراة والإنجيل ليسا في أيديهم وقد فقدا، وإن ما في أيديهم مكتوب بأقلام متأخرة وقد طرأ عليها تحريف وتبديل وشيبت بالتناقض على ما شرحناه في سياق شرحنا للتوراة والإنجيل في تفسير سورة الأعراف.
هذا وننبه على أنه ليس من محل للتوهم من سبك جملة :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ أن النبي صلى الله عليه وسلم مال إلى اتباع ملة اليهود أو النصارى فالجملة أسلوبية ورد مثلها في مقامات عديدة بهدف تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وبثّ الثقة والحذر في نفسه وحسب.
ولعل من مقاصد التحذير من اتباع أهواء اليهود والنصارى التنبه على ما كانوا عليه حين نزول الآيات من خلاف ونزاع وانقسام إلى شيع وأحزاب في الدين وانحرافات وشذوذ عن الأصل الذي تتطابق معه الدعوة الإسلامية. ثم الاستدراك لما عسى أن يوجه إلى القرآن والنبي من نقد بسبب الحملة عليهم وتقرير ضلالهم بعد تقريرهما هذا التطابق، وتقرير كون التطابق هو مع الأصل الصافي الذي حرفوه وانحرفوا عنه.
وإلى هذا ففي هذا التحذير تلقين جليل مستمر المدى في وجوب الثبات على الأصل الصافي للرسالة المحمدية التي يمثلها القرآن والسنة وعدم الانحراف عنهما واتباع الهوى وتأويلهما كما فعل الكتابيون ذلك.
ومع أن جملة ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ ﴾ هي في صدد أهل الكتاب وكتبهم فإن أهل التأويل والمفسرين وقفوا عندها لاستنباط حكم عام منها على المسلمين بالنسبة للقرآن وقالوا : إنها توجب عليهم أن يتدبروا أحكامه ويتمعنوا في محتواه ويتبعوا أوامره ونواهيه حق الاتباع. وأوردوا قولاً لابن مسعود جاء فيه :«والذي نفسي بيده إن حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرّف الكلام عن مواضعه ولا يتناول شيئا على غير تأويله ». وذكر القاسمي الذي نقلنا عنه هذا أن قولا مثله مروي عن ابن عباس أيضا. وهذا حق في ذاته بل هو تحصيل حاصل بدون ضرورة إلى استنباط من الجملة التي لا شك في أنها في صدد أهل الكتاب وكتبهم.
وقد يناسب هذا إشارة إلى ما عليه جمهور المسلمين من تلاوة للقرآن تلاوة آلية للتعبد وحسب، ومع أن تلاوة القرآن لذاتها وسيلة قربى إلى الله فإنهم على الأعم الأغلب يتلونه بدون تدبر ولا تذكر ويخالفون أحكامه وأوامره ونواهيه ومواعظه وعبره قولاً وفعلاً. وليس هذا من تلاوة القرآن حق تلاوته في شيء، والله أنزله ليتدبر الناس آياته وليخرجهم من الظلمات إلى النور قولاً وفعلاً وسلوكاً وإيماناً، ولقد روى مسلم وأبو داود عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ بعدي من أمتي أو سيكون من بعدي من أمتي قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حلاقيمَهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه. هم شرّ الخلق والخليقة » ١. ورواية أبي داود هي :«سيكون من أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يدعون إلى كتاب وليسوا منه في شيء » ٢.
٢ نفسه.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى [ ١ ] إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿ ١٢٤ ﴾ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً [ ٢ ] لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ [ ٣ ] مُصَلًّى [ ٤ ] وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [ ٥ ] وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [ ٦ ] مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ ٧ ] وَيُزَكِّيهِمْ [ ٨ ] إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ ﴾
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
[ ٣ ] مقام إبراهيم : مكان أو حجر كان في فناء الكعبة معروف بهذا الاسم.
[ ٤ ] مصلى : محل صلاة.
[ ٥ ] العاكفين : العكوف بمعنى الإقامة. ثم صار منها اصطلاح، وهو التعكف بمعنى الإقامة في الحرم أو المسجد بقصد العبادة.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى [ ١ ] إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿ ١٢٤ ﴾ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً [ ٢ ] لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ [ ٣ ] مُصَلًّى [ ٤ ] وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [ ٥ ] وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [ ٦ ] مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ ٧ ] وَيُزَكِّيهِمْ [ ٨ ] إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ ﴾
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى [ ١ ] إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿ ١٢٤ ﴾ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً [ ٢ ] لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ [ ٣ ] مُصَلًّى [ ٤ ] وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [ ٥ ] وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [ ٦ ] مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ ٧ ] وَيُزَكِّيهِمْ [ ٨ ] إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ ﴾
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
[ ٨ ] يزكيهم : يطهر نفوسهم.
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى [ ١ ] إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴿ ١٢٤ ﴾ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً [ ٢ ] لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ [ ٣ ] مُصَلًّى [ ٤ ] وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [ ٥ ] وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿ ١٢٥ ﴾ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿ ١٢٦ ﴾ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ [ ٦ ] مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٢٧ ﴾ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿ ١٢٨ ﴾ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [ ٧ ] وَيُزَكِّيهِمْ [ ٨ ] إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ﴿ ١٢٩ ﴾ ﴾
تعليقات على الآية ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ... ﴾ الخ
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٢٩ ]
وهي الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في اليهود
في هذه الآيات :
١- إشارة تذكيرية إلى أن الله تعالى كان أمر إبراهيم عليه السلام بفعل بعض الأمور على سبيل الاختيار ففعل ذلك كما ينبغي فاستحق رضاءه، وقال له : إني جاعلك للناس إماماً وقدوة، فسأل ربّه أن يكون هذا الفضل شاملا لذريته أيضا فأجابه : إن الظالمين أي المنحرفين الباغين منهم لا يصح أن ينالوه.
٢- وتقرير بأن الله قد جعل البيت أي الكعبة مثابة ومحجا للناس جميعهم وبأنه أمر باتخاذ مقام إبراهيم مكان صلاة.
٣- وإشارة إلى ما كان من أمر هذا البيت في البدء ؛ حيث اختص الله مكانه ليكون معبداً ومنطقة أمن وسلام، وأمر إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا هذا المكان ويهيئاه ويبنياه ليكون مكان طواف وعكوف وركوع وسجود للناس جميعاً، وحيث صدعا بالأمر ورفعا قواعد البيت ودعوا الله أن يتقبل منهما خدمتهما وأن يهديهما إلى معرفة ما يجب عليهما من المناسك ويساعدهما على أدائها وأن يجعلهما مسلمين له وحده، وأن يجعل ذريتهما أيضا أمة مسلمة منقادة له وحده. وأن يبعث فيها رسولاً منها يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب وكل ما فيه الصواب والسداد ويطهر نفوسهم وينقذهم من الضلال ويرشدهم إلى الحق والخير والهدى. وأن يجعل البلد الذي فيه البيت آمنا لا يقع فيه بغي ولا ظلم ولا سفك دم، وأن يرزق من يكون مؤمنا من أهله بالله واليوم الآخر من الثمرات وييسر لهم الرزق الرغد.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات التي قد تبدو الآيات فصلا مستقلا لا علاقة له باليهود والسياق الطويل السابق. غير أن الحلقة التي جاءت بعدها عادت إلى ذكر اليهود ومواقفهم وأقوالهم والتنديد بهم ثم جاءت بعدها حلقة أخرى احتوت موضوع تبديل القبلة إلى اتجاه الكعبة ونددت باليهود لموقفهم من هذا التبديل موقف النقد والتشكيك مما يجعل هذه الآيات غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق ؛ ومما يسوغ القول : إن فيها تبريراً وتدعيماً للتبديل المذكور ورداً على موقف اليهود منه في بيان صلة الكعبة بالله تعالى وإبراهيم وإسماعيل ( عليهما السلام ) وفضلها وكونها جعلت بأمر الله منذ القديم مثابة للناس ومحجاً ومكان عبادة وطواف وسجود وركوع له.
وهذا فضلا عن شمول جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ لليهود من بني إسرائيل المنحرفين عن الحق والهدى بل فضلا عن احتمال كون المقصود بها هم هؤلاء وبخاصة المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم موضوع الكلام في الدرجة الأولى.
وكل هذا جعلنا نسلكها في عداد الحلقات الواردة في هذه السورة فيهم.
ولقد أورد المفسرون ١ أقوالاً عديدة في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم معزوة إلى بعض علماء التابعين وتابعيهم. منها أنها قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس في الجبهة وتقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول. ومنها أنها حلق العانة والختان ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقصّ الشارب والاغتسال يوم الجمعة والطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. ومنها أنها عبادة الكوكب ثم القمر ثم الشمس التي أداها ثم ارتدّ عنها لأفولها ثم النار التي ألقي فيها ثم الهجرة ثم الختان. وقد قال الطبري : إنه لم يصح من ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تكون هذه أو غيرها وبعضها أو جميعها وهو كلام صائب. ويبدو أن ما قيل في صدد ذلك من باب التخمين، وليس من وراء اكتشاف الكلمات بالتخمين من طائل. والأولى أن يكتفى بالقول إنها أوامر ونواه ربانية أمر الله بها خليله عليه السلام فأداها على النحو الذي أمره بها. وإن كان من شيء يمكن أن يقال بالإضافة إلى هذا، فهو أن الروايات تذكر أن العادات الجسدية المذكورة في أول الأقوال مما كان ممارساً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى الطواف والسعي. وظلت تمارس في الإسلام منها ما كان بأمر قرآني وهو الطواف والسعي ومنها ما كان بتعليم نبوي قولي وفعلي. فمن الجائز أن يكون التخمين بالنسبة لهذه العادات مستمدا من ذلك وأن يكون أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وظلوا ينسبونها إلى إبراهيم عليه السلام والله أعلم.
وكلمة ﴿ ذُرِّيَّتِي ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٤ ] تشمل كما هو المتبادر جميع المنتسبين إلى إبراهيم بالنبوة وأبناء إبراهيم الذين خلفوا ذريته هم اسحق وإسماعيل وزمران ويقشان ومدان ومدين ويشاق وشوما إذا صح ما ورد في سفر التكوين بالنسبة للستة الآخرين. أما إسحق وإسماعيل فقد نسبهما القرآن لإبراهيم فيجب الإيمان بذلك، والمشهور المتداول أن بني إسرائيل من ذرية إسحق، وأن العرب العدنانيين الذين منهم القرشيون من ذرية إسماعيل على ما ذكرناه في مناسبات سابقة.
ولقد أول المؤولون على ما رواه الطبري جملة ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ بأنها بمعنى لا يكون من الظالمين من ذرية إبراهيم من يرضى الله أن يكون إماماً للناس أو أنها بمعنى استثناء الظالمين مطلقاً من ذريته من مدى عهد الله له، ويتبادر لنا أن حكمة الله في هذا الاستثناء هدفت إلى إحباط تبجح المنتسبين بالنبوة إلى إبراهيم إذا كانوا منحرفين عن ملته وطريقته وجادة الحق التي كان يسير عليها والانقياد إلى الله وإسلام النفس له وحده. ومن المحتمل أن يكون أريد بهذا في المقام والسياق اللذين وردت فيهما الآية بنو إسرائيل الذين وقفوا من النبي صلى الله عليه وسلم موقف البغي والظلم والجحود. والذين كانوا يتبجحون بأنهم على هدى وأنهم أئمة وقدوة للناس حيث أريد تكذيبهم في دعاويهم هذه برغم انتسابهم إلى إبراهيم عليه السلام، وهو احتمال قوي في ما يتبادر لنا والله أعلم.
أما كلمة ﴿ ذُرِّيَّتِنَا ﴾ الواردة في الآية [ ١٢٨ ] فقد قال الطبري وغيره إنها عنت العرب، وروح الآية التي وردت فيها الكلمة تلهم صواب ذلك. ومما يؤيده أيضا اشتراك إسماعيل في الدعوة ؛ لأن إسماعيل هو الذي ينتسب إليه العدنانيون ثم القرشيون من العرب على ما ذكرناه قبل.
ولقد أورد الطبري حديثاً في سياق الجملة جاء فيه :«إنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. قال : نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى عليه السلام». والحديث لم يرد في الصحاح وإن كان القرآن يؤيد فحواه في الجملة التي نحن في صددها وفي آية سورة الصف [ ٦ ] على أننا نقول مع ذلك : إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من دون ريب أن رسالته من مقتضيات حكمة الله الأزلية قبل إبراهيم ودعوته. وإنه يتبادر لنا من حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل في هذه الآية وفي الحديث إذا صح أن القصد من ذلك بالإضافة إلى واجب الإيمان بما أخبر به القرآن من كلام إبراهيم في صدد ذريته توكيد الصلة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأرومات التي انحدر منها وبين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وهناك حديث نبوي صحيح رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» ٢.
ومثل ما تقدم يقال بالنسبة لحكاية دعاء إبراهيم في الآية [ ١٢٦ ] بأن يجعل الله البلد الذي فيه البيت آمنا ميسّر الرزق حيث انطوى فيها بالإضافة إلى واجب الإيمان بخبر دعاء إبراهيم الذي أخبر به القرآن توكيد الصلة بين إبراهيم وبين أمن البلد الحرام وما يتمتع أهله به من رغد الرزق. وهذا كله يقال أيضا بالنسبة لما ذكرته الآية [ ١٢٧ ] من بناء البيت من قبل إبراهيم وإسماعيل.
ومقام إبراهيم هو على أرجح الروايات وأوجهها مكان معين في فناء الكعبة ما يزال معروفاً بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وصيغة الآية وروحها يلهمان أن هذا المكان كان معروفاً باسم مقام إبراهيم قبل البعثة النبوية، وقد أثر حديث عن عمر بن الخطاب رواه البخاري جاء فيه :«وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى... الخ». وقد روى المفسرون أنه كان يطلق على مكان فيه حجر عليه ما يشبه طبعة قدم كان العرب يعتقدون أنها أثر قدم إبراهيم حيث كان يقف عليه حينما كان يبني الكعبة. وفي الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس وأوردناه في سياق تفسير الآيات [ ٣٥-٤١ ] من سورة إبراهيم والذي فيه خبر إسكان إبراهيم ولده إسماعيل في وادي مكة وبناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة بأمر الله إشارة إلى هذا الحجر ؛ حيث ينطوي في هذا ما قلناه في مناسبات سابقة من أن العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره كانوا يتداولون ذلك. وإذا كان ليس اليوم هناك حجر عليه طبعة قدم فهذا لا ينفي ذلك التداول الذي كان مستنداً إلى مشاهدة ؛ حيث يكون قد زال الأثر بتأثير السنين الطويلة.
وفي كتب التفسير في سياق هذه الآيات أحاديث وروايات مسهبة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه وتابعيهم في صدد أولية وظروف بناء الكعبة من قبل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وقد أوردنا من ذلك ما رأينا فيه الكفاية والفائدة في سياق تفسير سور قريش وإبراهيم والحج فنحيل القارئ عليه ونكتفي هنا بهذا التنبيه.
ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في صدد جملة ﴿ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ﴾ في الآية [ ١٢٨ ] أن المقصود منها مناسك الحج وهي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات والإفاضة منها والإفاضة من المزدلفة ورمي الجمار في منى ( وهي الحصيات التي تقذف على أنصاب حجرية في م
﴿ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ [ ١ ] وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴿ ١٣٠ ﴾ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿ ١٣١ ﴾ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿ ١٣٢ ﴾ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿ ١٣٣ ﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿ ١٣٤ ﴾ وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿ ١٣٥ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السادسة عشرة من سلسلة الآيات الواردة في حق اليهود
في الآيات الثلاث الأولى :
١- تنديد بمن ينصرف عن ملّة إبراهيم حيث يكون قد نمّ عن سفاهة عقل وورط نفسه وأضاعها.
٢- وبيان في صدد ما كان من انقياد إبراهيم لله ووصيته ووصية يعقوب لبنيهم بأن يستمروا على طريقته : فالله قد اصطفى إبراهيم في الدنيا وسيكون في الآخرة في صف الصالحين المتمتعين برضاء الله ؛ لأنه سارع إلى الاستجابة لأمر ربه فأعلن إسلام نفسه لله رب العالمين ووصى بنيه بأن لا يكون لهم طريق وخطة غير ذلك حتى الموت. وفعل مثله يعقوب أيضا حيث جمع بنيه عند موته، وسألهم عما يعبدون بعده فأجابوه وعاهدوه على أن لا يعبدوا إلا إله آبائه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق موحدين له غير مشركين به، وأن يكونوا دائما مسلمي أنفسهم إليه.
وفي الآية الرابعة إشارة فيها تنويه وإنذار معاً : فهؤلاء أمة مضت في سبيلها، لها ما كسبت ولمن جاء بعدها وسامعي القرآن ما كسبوه. ولا يسأل أحد عن عمل أحد وإنما يسأل كل امرئ عن نفسه.
وفي الآية الخامسة حكاية لقول قائلين بأن على من يريد الهدى أن يكون يهودياً أو نصرانياً وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم بأن على من يريد الهدى أن يسير على ملة إبراهيم الذي كان مخلصاً مستقيماً والذي لم يكن مشركاً أحداً مع الله.
ولقد روى الطبرسي أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دعوة عبد الله بن سلام ابني أخيه إلى الإسلام وقوله لهما : إن صفة محمد في التوراة فأسلم الأول وأبى الثاني. وروى الطبري أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول ابن صوريا وغيره من اليهود للنبي اتبعنا فما نحن عليه هو الهدى وقول جماعة من النصارى له مثل ذلك. ولم يرد شيء من ذلك في ذلك. ونحن نرجح أن الآيات هي في صدد مواقف اليهود وأقوالهم واستمراراً للسياق، وأن ذكر النصارى جاء استطراداً هنا، إما لأن القول صدر عن بعضهم في موقف ما وإما لأنه حكاية حال صادقة عن الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية منهم، وأن الآيات استهدفت نفس أهداف الآيات السابقة لها.
وذكر إبراهيم ويعقوب في الآيات أولا ونص الآية [ ١٣٣ ] ثانياً يدعمان ذلك، ويلهمان أنها هدفت إلى إحباط تبجح اليهود والتنديد بهم، فطريقة آبائهم هي الإسلام وقد وصى الآباء بها الأبناء، ولن يقضي عنهم كونهم متصلين بهم بالنسب ما داموا منحرفين عنها. وفي الآية [ ١٣٤ ] توكيد لذلك في شكل حكاية لما كانوا يقولونه والرد عليهم بأن الطريق الحق ليست اليهودية وليست النصرانية. وإنما ملّة إبراهيم الذي كان حنيفاً مسلما وما كان من المشركين والتي هي الإيمان بالله وحده وعدم الشرك به وتنزيهه عن كل شائبة من ولد وصاحبة وإقرار بربوبيته للعالمين وإسلام النفس إليه والاستقامة على ذلك والآيات محكمة قوية. وهي تعبر عن واقع انحراف اليهود عن ملّة آبائهم، وفيها إفحام لهم في حكاية موقف هؤلاء الآباء وإخلاصهم.
وما قلناه في تأويل جملة ﴿ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾ ينسحب على الآية الخامسة من حيث الترجيح بأن المقصود في الدرجة الأولى اليهود، وأن جمع النصارى معهم هو تعبير عن لسان الحال الذي يشمل الطائفتين ؛ لأن كلا من الذين لم يؤمنوا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يزعمون أنهم هم وحدهم على الهدى وانصباب الكلام على اليهود في الدرجة الأولى في السلسلة الطويلة مما يؤيد ذلك كما هو المتبادر.
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿ ١٣٦ ﴾ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [ ١ ] فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٣٧ ﴾ صِبْغَةَ اللّهِ [ ٢ ] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴿ ١٣٨ ﴾ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴿ ١٣٩ ﴾ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٠ ﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤١ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٦:﴿ قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴿ ١٣٦ ﴾ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [ ١ ] فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿ ١٣٧ ﴾ صِبْغَةَ اللّهِ [ ٢ ] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ ﴿ ١٣٨ ﴾ قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴿ ١٣٩ ﴾ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٠ ﴾ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤١ ﴾ ﴾
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
تعليق على الحلقة السابعة عشرة
من السلسلة الواردة في السورة في صدد اليهود ومواقفهم وأقوالهم
في الآيات الخمس الأولى وجه الخطاب بصيغة الضمير المخاطب المفرد والجمع. وروح الآيات وفحواها أن الخطاب موجه فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حسب اقتضاء حكمة التنزيل والخطاب.
وقد تضمنت :
١- أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يعلنوا عقيدتهم، فيقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى وسائر النبيين دون تفريق بين أحد منهم أو إنكار منهم، وإننا مخلصون مسلمون لله وحده كل الإخلاص والإسلام.
٢- وتعقيباً على ذلك فإذا آمن الذين يوجه إليهم ذلك القول والإعلان بمثل ما آمن به النبي والمؤمنون فيكونون قد اهتدوا وساروا على طريق الحق. وصاروا والمؤمنون سواء، وإن أعرضوا وتولوا فيكون ذلك برهاناً على أنهم مشاقون متعنتون وفي شقاق وخلاف في أمر العقيدة الصحيحة والملة المستقيمة.
٣- والتفاتاً خطابياً للنبي صلى الله عليه وسلم بسبيل تطمينه في حال إعراضهم وتوليهم بأن موقفهم لن يضره شيئا، وبأن الله سوف يكفيه شرهم وكيدهم.
٤- وهتافاً بلسان حال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن هذه العقيدة التي أمروا بإعلانها والدعوة إليها هي دين الله الحق، ولا يمكن أن يكون أي دين أو نحلة أو طريقة أحسن منها لأنها إعلان الإخلاص والإسلام لله وحده منزها عن كل شائبة وشك.
٥- وأمراً للنبي بسؤال الذين يحاجونه ويحاجون المؤمنين أتباعه ويعرضون عن دعوتهم سؤالاً تنديدياً عن معنى هذه المحاججة في حين أن كل ما يفعلونه هو إعلانهم بأن الله ربه وربهم جميعاً.
٦- وأمراً ثانيا للنبي صلى الله عليه وسلم بإعلان كون كل فريق مسؤولا عن عمله أمام الله وبإعلان كون المؤمنين مخلصين في دينهم له كل الإخلاص.
٧- وأمراً آخر له بسؤال المحاجين سؤالاً تنديدياً آخر عما إذا كانوا يريدون أن يزعموا أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى حينما يقولون : إن على الذين يريدون الهدى أن يكونوا هوداً أو نصارى فقط.
٨- وأمراً ثالثاً له بسؤالهم سؤالاً فيه تسفيه لمغالطتهم –الماثلة في مثل هذا الزعم من حيث إن هؤلاء كانوا قبل أن تنشأ ملة اسمها اليهودية وأخرى اسمها النصرانية- عما إذا كانوا هم أعلم أم الله في تقرير الهدى وماهيته والذين يصح أن يوصفوا به.
٩- وأمراً رابعاً له بأن يبكتهم على هذه المغالطات بإعلان أنه ليس من أحد أشدّ ظلما ممن يكتمون الشهادة بما عندهم من علم الله هو ما يفعلونه في مغالطاتهم وبأن ينذرهم بأن الله غير غافل عما يفعلون.
أما الآية السادسة الأخيرة فهي مماثلة للآية التي جاءت في الآيات السابقة حيث قررت ثانية أن أولئك الأنبياء قد مضوا إلى سبيلهم ولهم ما كسبوا وعلى القائلين السامعين ما كسبوا ولا يسأل أحد عن أحد ولا يغني أحد عن أحد.
ولقد روى المفسرون ١ أن بعض هذه الآيات نزل في مناسبة إنكار اليهود لرسالة عيسى عليه السلام، وأن بعضهما نزل في مناصرة قول النصارى إن عيسى ليس نبيا وإنما هو الله وابن الله. والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة ومتصلة بالسياق السابق اتصالاً وثيقاً. وقد احتوت تعليماً ربانياً للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بما يجب أن يجيبوا به على ما حكته الآية السابقة مباشرة عن لسان اليهود والنصارى. ويجوز أن تكون نزلت مع الآيات السابقة ويجوز أن تكون نزلت عقبها، والله تعالى أعلم.
وأسلوب الآيات قوي رائع سواء في بيان عقيدة الإسلام في كتب الله وأنبيائه والتي هي من أسس الرسالة المحمدية أم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق ويثير الإعظام والإجلال والخشوع إذا ما تجرد السامع من الملل الأخرى من الأنانية والهوى والعناد وقصد الشقاق وأراد الحق والهدى ورغب فيهما رغبة صادقة. وتدعيم هذه العقيدة بالإيمان بجميع الأنبياء وما جاءهم من الله قوي رائع أيضاً من شأنه أن يجعل الدعوة الإسلامية ملتقى جميع الأديان السماوية التي يحسن بأهلها الانضواء إليها ونبذ ما هم عليه من شقاق وأهواء وخلاف ومشاكل وتعقيد ؛ لأنهم يجدون فيها جوهر دينهم مع الاعتراف والاحترام لكتبهم وأنبيائهم كما يجدون فيها تصحيحاً لما تورطوا فيه من أخطاء وأهواء وغلوّ وإفراط وتفريط وانحراف وتحريف في الأصول والفروع معاً. والمتبادر أن الآيات قد استهدفت كل هذه الأهداف السامية.
ولقد تكرر تقرير عقيدة المسلمين بما أنزل إليهم وما أنزل من قبلهم ويكون إلههم وربهم هو إله الكتابيين وربهم أيضا، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بإعلان ذلك في السور المكية وفي أوائل هذه السورة. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك في معرض محاججة اليهود والنصارى ودعوتهم إلى الانضواء للدعوة المحمدية. ولا سيما أن ذلك قد تكرر في العهد المدني كما كان شأن ذلك في العهد المكي وخطورة ذلك واضحة في معرض الدعوة.
ولقد شرحنا ما ينبغي أن تكون عليه عقيدة المسلمين بالنسبة للكتب السماوية المتداولة اليوم في سياق تفسير سورة الشورى فلا حاجة للإعادة.
والآيات وإن كانت كما يبدو تحكي أقوال كل من اليهود والنصارى بكونهم وحدهم على الهدى وتحاججهم فيها فإننا نقول ما قلناه قبل : إن المقصود في الآيات في الدرجة الأولى هم اليهود، وإن جمع النصارى معهم هو للتعبير عن لسان حالهم. ولعل في السؤال الوارد في الآية [ ١٣٩ ] قرينة بل دليلاً حيث ذكرت آباء اليهود الأولين فقط وهم إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهذا بالإضافة إلى قرينة انصباب الكلام في السلسلة الطويلة على اليهود في الدرجة الأولى.
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في صدد جملة :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ ﴾ في الآية [ ١٤٠ ] حيث روي أنها في التنديد باليهود والنصارى لأنهم كانوا يقولون : إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ونصارى مع علمهم أن موسى وعيسى اللذين نسبت إليهما اليهودية والنصرانية جاءا بعدهم. وحيث روي أيضا أنها في التنديد بهم لأنهم كتموا ما يجدون في التوراة والإنجيل من صفات محمد وكلا القولين وارد. وإن كنا نرجح الثاني لأنه موضوع السلسلة الذي هو الدعوة إلى الإيمان بمحمد والتنديد بمن لم يؤمن به، ووقف من رسالته موقف الجحود والمناوأة.
ولقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أن ﴿ وَالأسْبَاطِ ﴾ هم أسباط بني إسرائيل إسرائيل. وهذا التعبير يطلق على ذرية أبناء يعقوب الاثني عشر الذين ذكرنا أسماءهم في سياق التعريف بالكلمة في سورة الأعراف. والمتبادر أن المقصود بالكلمة هنا هو أبناء يعقوب الاثني عشر بذواتهم وليس ذرياتهم بصورة عامة خلافاً لما تفيده رواية الطبري. والنص القرآني يفيد أنهم من الأنبياء ومن واجب المسلم أن يؤمن بذلك. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى حديثاً أخرجه ابن أبي حاتم عن معقل بن يسار قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنوا بالتوراة والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن » وهذا متسق مع تقريرات القرآن التي أوجبت الإيمان بالكتب المنزلة من الله على أنبيائه السابقين والعمل بالقرآن. والنقطة الأولى من مقتضيات الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها، وهناك آيات مماثلة أخرى ومنها آيات في سور مكية سبق تفسيرها. والنقطة الثانية مستفادة من آيات سورة المائدة [ ١٥ و١٦ و٤٨ و٤٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباتها.
ولقد روى البخاري في سياق الآية الأولى حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... إلى آخر الآية » [ التاج ٤/٤٣ ].
والمتبادر الذي نرجو أن يكون فيه الصواب إن شاء الله أن المقصود من مدى الحديث هو ما يخبر برأي أهل الكتاب مما ليس فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث ولا يعلم المسلم حقيقته. أما ما كان فيه مناقضة صريحة للقرآن والثابت من الحديث وكذلك ما فيه توافق تام معهما فلا يدخل في النهي، فواجب المسلم بالنسبة للأول تكذيبه وبالنسبة للثاني تصديقه. والحديث وإن ذكر اليهود والتوراة فهو شامل لما يخبر به النصارى، وينسحب ما قلناه على ذلك أيضاً والله تعالى أعلم.
[ ٢ ] ما ولاّهم : ما صرفهم.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء [ ١ ] مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [ ٢ ] عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ١٤٢ ﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [ ٣ ] لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٤٣ ﴾ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [ ٤ ] وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٤ ﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿ ١٤٥ ﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٤٦ ﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿ ١٤٧ ﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [ ٥ ] هُوَ مُوَلِّيهَا [ ٦ ] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٤٨ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٩ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ١٥٠ ﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٥١ ﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿ ١٥٢ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء [ ١ ] مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [ ٢ ] عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ١٤٢ ﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [ ٣ ] لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٤٣ ﴾ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [ ٤ ] وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٤ ﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿ ١٤٥ ﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٤٦ ﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿ ١٤٧ ﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [ ٥ ] هُوَ مُوَلِّيهَا [ ٦ ] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٤٨ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٩ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ١٥٠ ﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٥١ ﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿ ١٥٢ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليق على الآية
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ... ﴾ إلخ
ولقد قال المفسرون ١ بناء على بعض الروايات : إن هذه الآية هي في صدد يوم القيامة ؛ حيث يشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بلغهم الرسالة ويشهد المسلمون بأنهم بُلّغوها وبلّغوها للناس. والآية تحتمل هذا غير أنه يتبادر لنا مع ذلك من روح الآية وفحواها أنها بسبيل التنويه بما كان من عناية الله في الدعوة الإسلامية وبما حملته هذه الدعوة لمتبعيها من عظيم التبعات وجعلتهم فيه من خطير المركز. وبالتالي أنها بسبيل مركز وواجب المسلمين في الحياة الدنيا أيضا. وتعبير ﴿ وَسَطاً ﴾ يعني فيما يعنيه الخيرية في كل شيء والاعتدال في كل شيء وعدم التفريط والإفراط، وعدم الغلو والتقصير وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية، مما فيه خير دين ودنيا، وكل هذا متمثل في الرسالة الإسلامية حيث قامت على أسس وقواعد ومبادئ وأحكام وتقريرات وخطوط عامة حلت بها ما في مختلف النحل من مشاكل وتعقيدات وخلافات وتناقضات متصلة بعقيدة الله، وحيث حكت من الطقوس المعقدة والتكاليف والأغلال الشديدة وحيث واءمت بين الدنيا والآخرة والمادية والروحية والعقل والقلب والعلم والدين، وحيث فتحت الآفاق للإنسان في مختلف المجالات لا يمنعه مانع من أي جهد وتصرف في حدود الإيمان والاعتدال والحق. وحيث تطابقت مع طبائع الأشياء ونواميس الكون ومقتضيات المنطق والعقل. وحيث جمعت بين حظ الدنيا وحظ الآخرة وأباحت كل طيب وحرمت كل رجس وخبث ومنعت الاستغلال والاحتكار والحرمان والاستعلاء والتمييز والبغي والتجبر. ودعت إلى كل فضيلة ونهت عن كل رذيلة فجعلها كل ذلك خير رسالة أخرجت للناس ومتطابقة مع كل زمن وظرف ومطلب. ومرشحة للعمومية والخلود مما انطوى تقريره في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً { ٢٨ ﴾ } وآية سورة الأنبياء هذه :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ { ١٠٧ ﴾ }.
ولقد قلنا في صدد الآية الأخيرة من سورة الحج التي فيها جملة :﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ [ ٧٨ ] إنها عنت العرب واستدللنا على ذلك بما احتوته الآية من تذكير العرب بأبوة إبراهيم لهم. وفي جملة :﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة :[ ١٥١ ] من الحلقة التي نحن في صددها دليل على أن العرب هم المقصودون أيضا في الخطاب في جملة :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ الواردة في الآية [ ١٤٣ ] من آيات الحلقة.
ولقد علقنا على ما في ذلك من خطورة ونبهنا على حدود ذلك وما للمسلمين عامة من شأن وتبعات أيضا في سياق تفسير آية الحج المذكورة فلم نر حاجة إلى التكرار.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء [ ١ ] مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [ ٢ ] عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ١٤٢ ﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [ ٣ ] لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٤٣ ﴾ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [ ٤ ] وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٤ ﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿ ١٤٥ ﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٤٦ ﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿ ١٤٧ ﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [ ٥ ] هُوَ مُوَلِّيهَا [ ٦ ] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٤٨ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٩ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ١٥٠ ﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٥١ ﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿ ١٥٢ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
[ ٦ ] هو موليها : هو متوليها أي متجه إليها.
﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء [ ١ ] مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ [ ٢ ] عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿ ١٤٢ ﴾ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [ ٣ ] لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٤٣ ﴾ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ [ ٤ ] وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٤ ﴾ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿ ١٤٥ ﴾ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿ ١٤٦ ﴾ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿ ١٤٧ ﴾ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ [ ٥ ] هُوَ مُوَلِّيهَا [ ٦ ] فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿ ١٤٨ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿ ١٤٩ ﴾ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴿ ١٥٠ ﴾ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٥١ ﴾ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴿ ١٥٢ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
تعليق على الآية
﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ... ﴾
وفي الآية [ ١٥١ ] توضيح للمهمة التي حملها الله تعالى لرسوله بالنسبة لأتباعه، وتنويه بها بأسلوب قوي نافذ. فالله قد أمره أن يتلو عليهم آياته ويفهمهم ما في كتابه ويطهر نفوسهم وقلوبهم بتعليمه وإرشاده وسنته. ويعلمهم ما فيه الحكمة أي الصواب والسداد والخير والحق في سلوكهم وتصرفهم وسائر شؤونهم.
وقد انطوى في هذا إيجاب إيماني بتلقي كل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم والسير وفاقه. ويكون ما يلقيه النبي صلى الله عليه وسلم من كل ذلك جزءاً لا يتجزأ عن رسالته التي يجب على كل مؤمن أن لا ينحرف عنها.
ولقد أوردنا في التعليق الذي علقنا به على الآية [ ٤٤ ] من سورة النحل الآيات القرآنية التي توجب اتباع الرسول وطاعته، وتقرر أن سننه الفعلية والقولية هي مرجع المسلمين الثاني بعد القرآن في جميع شؤونهم الدينية والدنيوية كما شرحنا فيه جهود رجال الحديث الأولين رحمهم الله في تتبع هذه السنن وتمحيصها وتدوينها وضوابط الصحيح منها، وما فيها من رائع التعليم والبيان والتلقين والهدى والحكمة والسداد المتساوقة مع مبادئ القرآن وتلقيناته والمتممة لها. والموقف الذي يجب على المسلم أن يقفه تجاه ما لا يدركه عقله منها إذا لم يتناقض مع تلك الضوابط، وهذه المبادئ والتلقينات فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.
هذا وبمناسبة ورود جملة ﴿ رَسُولاً مِّنكُمْ ﴾ في الآيات نذكر أن مثل هذه الجملة ورد في الآية [ ١١٢ ] من سورة النحل أيضا وعلقنا عليها، وأوردنا ما روي وقيل في مداها فنكتفي كذلك بهذا التنبيه دون التكرار.
تعليقات على آيات تحويل القبلة من [ ١٤١-١٥٢ ]
وهي الحلقة الثامنة عشرة والأخيرة من السلسلة
هذه السلسلة بشأن تبديل سمت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة، وقد تضمنت ما يلي :
١- أخبرت الآية الأولى أن السفهاء من الناس سيتساءلون مستغربين عن الأسباب التي حملت المسلمين على الانصراف عن قبلتهم التي كانوا عليها أي سمت بيت المقدس، وأمرت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعلن جواباً على ذلك إن المشرق لله والمغرب لله وإنه هو الذي يهدي من يريد إلى الصراط المستقيم.
٢- وطمأنت الآية الثانية المسلمين ونوهت بهم : فالله تعالى قد جعلهم بهداه عدولاً وجنبهم مساوئ الإفراط والتفريط ليكونوا من الأمم في مركز الحكم العدل والشاهد وجعل الرسول شهيدا عليهم. والله قد أراد في أمر القبلة امتحانهم لإظهار الثابت في إيمانه وتصديقه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم في اتجاهه للقبلة التي كان يصلي إليها من المتشكك المتردد. وإنه لامتحان عظيم حقا لا يثبت له إلا الذين هداهم الله وتشبعوا بالإيمان واطمأنت نفوسهم به وكانوا موضع عناية الله وتوفيقه. والله لم يكن ليضيع ثواب إيمان المسلمين وعبادتهم فهو الرؤوف الرحيم بالناس والمؤمنون به أولى الناس برأفته ورحمته بطبيعة الحال.
٣- ووجهت الآية الثالثة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم : فالله يرى تقلّب وجهه في السماء كأنه يرجو أن يهديه إلى قبلة يرضى بها وتطمئن نفسه. وقد استجاب رجاءه فولاّه هذه القبلة ؛ حيث يأمره بأن يولي وجهه شطر المسجد الحرام بعد الآن في أي وقت وفي أي مكان وأن المسجد الحرام لأحقّ بالاستقبال، وأن أهل الكتاب ليعلمون ذلك حقّ العلم، والله غير غافل عما يعملون.
٤- ووجهت الآية الرابعة الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كذلك مبينة حقيقة الأمر من موقف أهل الكتاب وانتقادهم : فهم صادرون عن هوى وغرض ومكابرة وعناد. ومثل هؤلاء لن يتبعوا الحق ولن يتبعوا بالتالي قبلته مهما أتاهم به من حجج وآيات مقنعة. وإنهم لفي خلاف فيما بينهم أيضا، فليس بعضهم بتابع قبلة بعض وليس يصح والحالة هذه أن يتبع هو قبلتهم بعد أن جاءه العلم والحق من الله ؛ لأنه يكون حينئذ قد اندمج في أهوائهم ويكون من الظالمين المنحرفين عن الحق.
٥- واحتوت الآيتان الخامسة والسادسة تقريراً من ناحية أخرى لمكابرة أهل الكتاب : فهم يعرفون في قرارة أنفسهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وكون ما فعله حقا كما يعرفون أبناءهم، وإن منهم لفريقا يكتمون الحق وهم يعلمونه حق العلم وإن الحق هو ما أوحى الله به فلا محل للارتياب والتردد في اتباعه.
٦- واحتوت الآية السابعة تقريراً لطبيعة ما يرى من اختلاف الناس في اتجاهاتهم، فلكل وجهته التي يتجه إليها، وعلى المسلمين أن لا يبالوا كثيراً بهذه المشاهد المختلفة وليس عليهم إلا أن يتسابقوا في عمل الخير ويسبقوا إليها معتقدين أنهم راجعون إلى الله، وهو القادر على الإتيان بهم من أي مكان كانوا فيه ليوفيهم جزاء أعمالهم.
٧- واحتوت الآيتان الثامنة والتاسعة توكيداً مكرراً ووجه الخطاب فيهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أولا وإلى المؤمنين ثانيا : فعليهم أن يولوا وجوههم شطر المسجد الحرام في أي وقت وفي أي مكان. فهو الحق من الله الذي ليس هو غافلا عما يعملون وإن في اتباع هذا الأمر منعاً لكل حجة ونقد يمكن أن يوجها إليهم من أناس معتدلين. أما الظالمون الذين يصدرون في نقدهم واعتراضهم عن الغرض والبغي فعلى المسلمين أن لا يهتموا بهم، وأن لا يخشوا نقدهم واعتراضهم وأن لا يخشوا إلا الله فبذلك يتم الله نعمته عليهم وفي هذا هداهم.
٨- واحتوت الآيتان العاشرة والحادية عشرة خطاباً موجها إلى المسلمين جاء بمثابة تعقيب على الآيات السابقة، فمن نعمة الله عليهم ورغبته في هدايتهم أن أرسل فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويطهر نفوسهم وقلوبهم من كل شائبة وسوء ويعلمهم الكتاب والحكمة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمونه. وعليهم والحالة هذه أن يذكروا نعمة الله عليهم، وأن يقابلوه عليها بالشكر وأن يتجنبوا الكفران والجحود لها.
والحلقة قد تبدو فصلاً مستقلاً، غير أن ما احتوته الآيات السابقة من تمهيدات متصلة بالكعبة وملة إبراهيم وذكر أهل الكتاب ولجاجهم الذين كان اليهود هم المقصودون في الدرجة الأولى وما في الآيات من تكرار ذلك والتنديد بهم من أجله تجعل الصلة قائمة بين هذا الفصل والفصول السابقة. وتبرر اعتباره حلقة من حلقات السلسلة الطويلة الواردة في هذه السورة في صدد مواقف اليهود. وكلمة السفهاء مطلقة قد تعني المشركين والمنافقين والكتابيين. وهذا ما رواه المفسرون عن أهل التأويل غير أن معظم الأقوال المروية تفيد أن المقصود بها هم اليهود ١.
وهذا ما يدعم ما قلناه أيضا ويجعل الصلة وثيقة بين هذا الفصل والفصول السابقة. ولقد روى المفسرون أن نفراً كبيراً من أحبار اليهود وزعمائهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له : ما ولاّك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه، فارجع إليها نتبعك ونصدقك. يريدون بذلك فتنته، فلما لم يصغ إليهم أخذوا يدسون بين المسلمين ويقولون : إن كانت القبلة الحق بيت المقدس فسوف تضيع صلاتهم بعد الآن، وإن كانت الكعبة فقد ضاع عليهم ما صلّوه إلى بيت المقدس.
والآية الخامسة أي [ ١٤٧ ] تحتمل أن تكون قصدت تقرير كون أهل الكتاب يعرفون أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم حق وكون ما يأمر به حقا ووحيا ربانيا. كما ذكرناه في الشرح كما تحتمل أن تكون قصدت تقرير كونهم يعرفون أن اتخاذ الكعبة قبلة هو حق. وقد قال المفسرون هذا كما قالوا ذاك، وقد اخترنا ما أوردناه في الشرح ؛ لأن الآية مطلقة من جهة، ولأن الشرح المذكور عام يدخل في متناوله الاحتمالان. وليس في الآية تصريح بجنسية أهل الكتاب الذين تكرر ذكرهم في آيات أخرى من الحلقة. ومع أن المفسرين قالوا باحتمال أن يكون المقصودون هم اليهود والنصارى معا فإن بعضهم ٢ رجح أن يكونوا اليهود. وروح الآيات والسياق السابق واتفاق الجمهور على أن المعترضين السفهاء هم اليهود وكون اليهود موضوع السلسلة في الدرجة الأولى مما يبرر هذا الترجيح.
ولقد روى بعض المفسرين ٣ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل : وددت أن الله صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها، فقال له : إنما أنا عبد مثلك وأنت كريم على ربّك فادع ربّك وسلْه. وارتفع جبريل وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل بالذي سأله ربّه فما لبث أن نزل جبريل بالآيات. وقد روى بعضهم ٤ عن الحسن وأبي العالية وعكرمة من التابعين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الدعاء والابتهال بأن يوجّهه الله إلى الكعبة فاستجاب الله دعاءه وأنزل الآيات. وقد روى البخاري والترمذي عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ٥ وكان يحب أن يوجّه إلى الكعبة فأنزل الله :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ فوجه نحو الكعبة فصلى رجل معه العصر ثم مرّ على قوم من الأنصار وهم ركوع في صلاة العصر نحو بيت المقدس. فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد وجّه إلى الكعبة فانحرفوا وهم ركوع.
وروح الآيات تتسق مع هذه الأحاديث الثلاثة وإن كان الأولان لم يردا في الصحاح. وبدء الحلقة بحرف الاستقبال يلهم أن نشاط اليهود في الدس والتشكيك كان متوقعاً. وهذا ما يفسر احتواء الآيات حججاً وتبريراً وإقراراً وتطميناً كما هو المتبادر. ولا نريد أن ننفي بهذا احتمال كون اليهود قد انتقدوا ودسوا وشككوا بعد التحويل. وليس في بدء الآيات بحرف السين وتقدم الآية ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٢ ] على آية :﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء... ﴾ إلخ [ ١٤٤ ] ما يمنع هذا لأن الآيات وحدة كاملة محبوكة.
ولقد روى الطبرسي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة يتجه إلى الكعبة، فلما هاجر تحول عن هذا الاتجاه إلى سمت المسجد الأقصى ليتميز المسلمون عن المشركين الذين كانو
وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :
١- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
٢- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
٣- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
٤- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.
والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾
وما بعدها [ ١٥٣-١٥٧ ] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد، ٣/٤٤-٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ]. وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين، وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ ١٦٨-١٧١ ] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :
١- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
٢- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
٣- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
٤- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.
والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾
وما بعدها [ ١٥٣-١٥٧ ] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد، ٣/٤٤-٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ]. وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين، وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ ١٦٨-١٧١ ] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :
١- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
٢- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
٣- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
٤- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.
والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾
وما بعدها [ ١٥٣-١٥٧ ] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد، ٣/٤٤-٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ]. وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين، وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ ١٦٨-١٧١ ] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :
١- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
٢- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
٣- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
٤- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.
والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾
وما بعدها [ ١٥٣-١٥٧ ] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد، ٣/٤٤-٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ]. وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين، وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ ١٦٨-١٧١ ] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
وجّه الخطاب في الآيات إلى المسلمين :
١- لتحثهم على الاستعانة بالصبر والصلاة على ما يمكن أن يصيبهم من المصائب.
٢- ولتطمئنهم بأن الله مع الصابرين ينصرهم ويؤيدهم.
٣- ولتنهاهم عن اعتبار الذين يقتلون في سبيل الله أمواتا وتقرر لهم أنهم أحياء وإن لم يدركوا كنه حياتهم ويشعروا بها.
٤- ولتنبههم إلى أن الله تعالى سوف يظل يبتليهم على سبيل الاختبار ببعض المصائب من جوع وخوف وضياع أموال وأنفس. ولتبشر الصابرين الذين يثبتون على الاختيار ويقابلون ما يصيبهم من ذلك بالصبر ويعلنون إسلام الأمور لله ويقررون أن الله ربهم وإليه مرجعهم وهو مالكهم في جميع الأحوال كلما أصابتهم مصيبة، ولتقرر أن هؤلاء هم أهل لمغفرة الله ورحمته وبركاته وأنهم المهتدون بهدى الله.
والآيات تبدو فيما احتوته فصلاً جديداً لا صلة له بالسياق السابق موضوعياً. وقد تكرر هذا في سورة البقرة والسور المدنية الطويلة الأخرى على ما شرحناه في مقدمة تفسير السورة. ومع ذلك فقد تكون حكمة وضع هذا الفصل في مكانه في ترتيب آيات السورة في الآيات التي قبلها مباشرة التي خوطب بها المسلمون وطلب منهم الشكر وعدم الكفر ووعدوا بإتمام نعمة الله عليهم. وإذا صح هذا الفرض، ونرجو أن يكون صحيحاً فيكون فيه صورة من صور تأليف السور المدنية ووضع آياتها فصلاً بعد فصل في مناسبات ملائمة، وهذا لا يمنع من احتمال أن تكون هذه الآيات نزلت بعد سابقاتها مباشرة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها بعدها.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ﴾
وما بعدها [ ١٥٣-١٥٧ ] وما فيها من تلقين
وقد روى بعض المفسرين [ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والخازن ] أن الآيات نزلت لتسكين روع المؤمنين وتثبيتهم في فاجعتهم في شهداء بدر وأحد الروايات لم ترد في الصحاح. وروح الآيات وصيغتها تلهم أنها نزلت حقا في صدد تطمين المؤمنين وتسكينهم في حادث استشهاد بعضهم. غير أننا إذا لحظنا أن المؤمنين في غزوة بدر كانوا منتصرين فرحين بنصر الله، وأن أخبارها نزلت في سورة الأنفال وأن أخبار غزوة أحد وأحزان المسلمين بما كان في فاجعتهم فيها نزلت في سورة آل عمران، ساغ لنا أن نتردد في احتمال صلة هذه الآيات بإحدى الغزوتين. والذي نرجحه أنها في صدد استشهاد بعض المؤمنين في الحركات الحربية التي أخذت تنشب بين المؤمنين وقريش بعد قليل من الهجرة وقبل واقعة بدر [ انظر الطبقات لابن سعد، ٣/٤٤-٤٩ حيث ذكر فيها أخبار وقائع حربية بين المهاجرين وأهل مكة قبل واقعة بدر ]. وفي سورة البقرة بعض آيات متصلة بذلك سوف تأتي بعد قليل.
ولقد تضمنت الآيات تلقينات جليلة مستمرة المدى بالإضافة إلى ما تضمنته من تطمين المؤمنين الأولين، وهم في أول عهد هجرتهم.
فعلى المسلمين أن يوطدوا النفس دائما على أنهم سيتعرضون لمصاعب ومشاق وخسائر في المال والنفس وحرمان وخوف وجوع في سبيل الله التي هي الدعوة الإسلامية التي حملهم الله مهمتها وأعطاهم رايتها الشاملة للدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق وتأييد الحق ومحاربة الباطل ودفع البغي والظلم والعدوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن والبر والرأفة والتضامن والمساواة والحرية والإخاء، وأن يتحملوا ما يصيبهم من ذلك راضين مطمئنين متجملين بالصبر ؛ لأن الله مع الصابرين وناصرهم، وأن يستعينوا على ذلك أيضا بعبادة الله وذكره ومراقبته وإسلامهم النفس إليه في كل أحوالهم لأن هذا يمدهم بقوة روحية تساعدهم على التحمل وطمأنينة النفس وتجعلهم موضع رضاء الله ورحمته وبركاته وصلواته وهداه. ولا يصح لهم أن يظنوا أن من يقتل في ذلك السبيل ميت بل هو حي، وإن لم يدركوا مدى هذه الحياة.
أما هذه الحياة فالأولى فيما نعتقد أن يوقف منها عندما وقف عند القرآن دون تزيد وتوسع. ولا سيما أن الآية تقرر أن الناس لا يمكنهم إدراكها. ومع ذلك ففي التعبير القرآني تلقين جليل أيضا، فلا يصح أن يسمى الشهيد في سبيل الله ميتا ؛ لأن الميت هو الذي تنقطع صلته بالحياة حينما يموت ميتة عادية بعكس الذي يموت شهيدا في سبيل الله ؛ حيث يكون دائم الاستمتاع برضاء الله وتكريمه في العالم المغيب بالإضافة إلى ما يكون له من حسن الذكر الدائم عند الأحياء وفي هذا ما فيه من بواعث القوة والجرأة على النضال في سبيل الله وإعلاء كلمة الحق ومحاربة الظلم والبغي.
وننبه على أن هناك أحاديث نبوية عديدة في ما أعده الله لمن يقتل في سبيله من تكريم ورزق وعناية. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد. وأورد بعض المفسرين بعضها في سياق هذه الآيات وأورد بعضهم بعضها في سياق الآيات [ ١٦٨-١٧١ ] من سورة آل عمران، وقد رأينا تأجيل إيرادهما والتعليق عليها إلى تفسير هذه الآيات ؛ لأنها أكثر تناسباً بسبب ما فيها من صراحة بذلك.
وعبارة الآيات في الصبر والصابرين قوية نافذة. وفيها توكيد لما نبهنا عليه في المناسبات السابقة من السور المكية من عناية القرآن ببث فضيلة الصبر في نفوس المؤمنين وحثهم عليها وما يؤدي ذلك إليه من طمأنينة نفس وسكينة قلب وتحمل للمشاق والمصاعب في سبيل الله والحق، وهكذا يتسق القرآن المكي والمدني معاً في هذا الأمر كما يتسق في سائر الأمور.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات بعض الأحاديث، منها حديث رواه مسلم عن أم سلمة قالت :«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها ». وروى الإمام أحمد حديثا عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وحديث رواه الشيخان عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همّ ولا حزن ولا أذى ولا غمّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ». وحديث رواه الشيخان أيضا عن عبد الله قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله به عنه من سيئاته كما تحطّ الشجرة من ورقها » حيث ينطوي في الأحاديث تهدئة لروع المؤمن المبتلي وإعداده على تحمل ما يصاب به بدون جزع ولا هلع. وفي ذلك ما فيه من معالجة روحية متساوقة مع ما احتوته الآيات من ذلك.
[ ١ ] الصفا والمروة : قيل إن الصفا جمع الصفاة، وقيل العكس أيضا. وقيل إن معناها الصخرة الملساء وقيل بل الصخرة اليابسة. وصفوان تثنية لها. والمروة هي الصخرة الرخوة أو الصخرة الصغيرة. وتجمع على مرو ومروان تثنية لها. والصفا والمروة صخرتان قريبتان من الكعبة بينهما نحو أربعمائة متر.
[ ٢ ] فمن حج البيت : شرحنا معنى الحج في تفسير سور الحج والبيت هنا كناية عن الكعبة وقد مرّ ذكره في سورة قريش وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.
[ ٣ ] اعتمر : من الاعتمار وهي في اللغة قصد الشيء أو المكان والتردد عليه وإعماره وزيارته. ومنه ( العمرة ) وهي النسك الإسلامي المعروف أي زيارة الكعبة. وتعبير ( اعتمر ) زار الكعبة زيارة عمرة.
[ ٤ ] لا جناح عليه : الجناح من الجنوح وهو الانحراف أو الإثم، والجملة بمعنى لا إثم عليه.
تقرر الآية أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله ومظاهر عبادته، وأنه لا إثم على من طاف بينهما إذا حجّ البيت أو اعتمره، وأن الله تعالى شاكر لكل من تطوع وزاد على المطلوب في العبادة وعمل الخير وهو العليم بنيات الناس ومقاصدهم.
وجملة ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾ [ ١٥٨ ] تفيد أن زيارة الكعبة نوعان نوع يسمى الحج ويكون في أشهر الحج المحددة وهو فرض أو ركن لا بدّ منه لتمام فريضة الحج وقد أيدت فرضيته هذه الجملة في آية سورة آل عمران :﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { ٩٧ ﴾ } والنوع الثاني هو ( الاعتمار أو العمرة ) ويكون في غير أشهر الحج وهو سنة نبوية وسوف نزيد كل هذا شرحاً في سياق آيات آتية في هذه السورة.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ شَعَآئِرِ اللّهِ... ﴾ إلخ
هناك أولا : حديث رواه الخمسة في نزول هذه الآية عن عروة قال :«قلت لعائشة : ما أرى على أحدٍ لم يطفْ بين الصفا والمروة شيئا. وما أبالي ألا أطوف بينهما. فقالت : بئسما قلتَ يا ابن أختي، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون وإنما كان من أهلَّ لمناةَ الطاغية التي بالمشلّل لا يطوفون بين الصفا والمروة فأنزل الله ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [ ١٥٨ ]. فلو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه ألا يطوف بهما. قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن فأعجبه وقال : إن هذا العلم. وقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقول إن هذا من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بين الصفا والمروة. فأنزل الله تعالى الآية. قال أبو بكر : فأراها نزلت في هؤلاء وهؤلاء » ١. وهناك صيغ أخرى لهذا الحديث برواية الخمسة ٢ وبرواية الطبري أيضا وليس بينها تعارض. وهناك إلى هذا روايات تذكر أن الصفا والمروة كانتا مكان طواف وسعي في الجاهلية وأنه كان على إحداهما صنم اسمه ( أساف ) وعلى ثانيتهما صنم اسمه ( نائلة ) وأن العرب كانوا يقربون عندهما القرابين أو يتمسحون بهما في طوافهم. وأن بعض المسلمين تحرجوا من الطواف بينهما بسبب ذلك ومن الروايات ما يذكر أن أهل تهامة كانوا لا يطوفون بينهما ٣.
والآية تلهم على كل حال أنها نزلت في صدد الحثّ على الطواف بينهما ورفع الحرج عن الطائفين. ومن المحتمل أن تكون نزلت بناء على سؤال أو بسبب التحرج من الطواف بينهما بعد الإسلام. وصيغة الآية تدل على أن هذا الطواف كان من تقاليد الحج الرئيسية الراسخة عند غالبية العرب. وروى المفسرون روايات تفيد أن ذلك متصل بأولية سكنى إسماعيل وأمّه في وادي مكة حيث عطش فأخذت تركض بحثاً عن الماء بين الصفا والمروة، وقد ذكرنا ذلك بتفصيل أوفى في سياق تفسير سورة إبراهيم. والراجح أن هذا مما كان متداولاً بين العرب. وأن مما كان متداولا أيضا كون الطواف بين الصفا والمروة من مناسك الحج المتصلة بإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
ومما روي ٤ أن الآية نزلت في ظروف زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لمكة قبل الفتح بناء على صلح الحديبية الذي تمّ في السنة السادسة بعد الهجرة. غير أن وضع الآية في موضعها قد لا يؤيد الرواية التي لم ترد في الصحاح. وقد يدل على أنها نزلت في أوائل العهد المدني بناء على سؤال أو تحرج على ما جاء في الأحاديث والروايات.
ومن المحتمل أن تكون الآية وضعت في مكانها ؛ لأنها تخاطب المسلمين مثل ما سبقها من آيات، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك لنزولها بعد الآيات السابقة لها مباشرة والله تعالى أعلم.
وما تقدم قد يسوّغ القول إن من المسلمين من كان يذهب إلى الحج في موسمه أو يذهب إلى مكة فيزور الكعبة معتمراً في غير موسم الحج قبل فتح مكة. وهذا قد يستفاد أيضا من آيات سورة الحج التي فيها ذكر بعض مناسك الحج والتي سبق تفسيرها، ومن آيات في سورة البقرة تأتي بعد فيها ذكر بعض المناسك. ومن آية في سورة آل عمران فيها فرض الحج على المستطيع ومن آيات في سورة المائدة فيها ذكر بعض المناسك. فإن جميع هذه السور نزلت قبل ذلك الفتح. والله تعالى أعلم.
وهناك اختلاف بين علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية في حكم الطواف بين الصفا والمروة على ما شرحه المفسرون، وبخاصة الطبري وابن كثير حيث يذهب فريق إلى أنه واجب، ولا تجوز عنه فدية، وحيث يذهب فريق إلى أنه عمل تطوعي يجوز تركه، وحيث يذهب فريق إلى أنه سنة وتصحّ الفدية عنه.
وقد رجح الطبري القول الأول وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم مناسك الحج وعلم الطواف بين الصفا والمروة فيما علمه وأداهما فوجب على المسلمين اتباعه. ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال :«قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة سبعا، وقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ». وروى النسائي والترمذي عن جابر قال :«قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف بالبيت سبعا وقال اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى فصلّى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال : نبدأ بما بدأ به الله فبدأ بالصفا وقرأ ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ شَعَآئِرِ اللّهِ ﴾ ٥ ». وعلى ضوء هذا يكون القول الأول الذي رجّحه الطبري هو الأوجه. ووصف الصفا والمروة بشعائر الله في الآية قد يدعم ذلك والله تعالى أعلم.
وفي الحديث الطويل الذي يرويه مسلم عن جابر عن حجة الوداع النبوية «أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بين الصفا والمروة راكباً على راحلته » ٦. واستند بعض الفقهاء إلى هذا فأجازوا الطواف بينهما للمسلم وهو راكب. وقيده بعضهم بالعذر، وقد يكون هذا هو الأوجه لأن المسافة قصيرة لا تتحمل الركوب إلا بالنسبة للمعذور. وهناك حديث يرويه مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما طاف على راحلته ليراه الناس وليشرف عليهم وليسألوه » ٧. وهذا قد يدعم ذلك.
ويطلق على الطواف بين الصفا والمروة تعبير ( السعي ) أيضا. وهذا مما ورد في حديث ابن عمر الذي أوردناه آنفا. والمؤولون متفقون على أن معناه المشي بسرعة أو هرولة وهناك حديث يرويه الشيخان عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سعى إلى مشي بسرعة أو هرولة ليري المشركين قوته [ المصدر نفسه ]. والممارس منذ عهد الخلفاء الراشدين أن يمشي الطائف مسافة ويسعى أو يهرول مسافة.
ولقد شرحنا في سياق سورة الحج حكمة الله في إبقاء تقاليد الحج السابقة للإسلام بعد تجريدها من شوائب الشرك والقبح فنكتفي بهذا التنبيه في هذا المقام.
٢ التاج، ٢/١٢١-١٢٢.
٣ انظر كتب تفسير الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي.
٤ انظر تفسير الطبرسي.
٥ التاج، ٤/٤٥-٤٦.
٦ التاج، ٢/١٤١-١٤٥.
٧ أورد الحديثين القاسمي وعزا أولهما إلى مسلم، وثانيهما إلى الشيخين.
في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال : إن هذا الفصل ينطوي على مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.
والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.
ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة ؛ حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :«من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »١. ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم، بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبيتها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾ [ ١٥٧ ] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى اعلم.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جلمة ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.
وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.
والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين، ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.
وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها، وأنه إنما يظل وارداً ولازماً بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.
استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم
ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه ؛ لأنه يكون مستحقا للعن، وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه ؛ لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى قال :«من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله » ٢. وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه :«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّاباً. كان يقول عند المعتبة : مَا لَه تَرِبَ جبينه » ٣ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه :«قيلَ يا رسول الله ادع على المشركين، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة » ٤. وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه :«من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه » ٥. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء » ٦.
ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيراً من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية، وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقيناً باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.
استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات
ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذاراً لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر ٧.
٢ التاج، ٥/٣٣-٣٤.
٣ نفسه.
٤ نفسه.
٥ نفسه.
٦ نفسه.
٧ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/٨٦.
في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال : إن هذا الفصل ينطوي على مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.
والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.
ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة ؛ حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :«من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »١. ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم، بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبيتها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾ [ ١٥٧ ] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى اعلم.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جلمة ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.
وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.
والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين، ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.
وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها، وأنه إنما يظل وارداً ولازماً بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.
استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم
ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه ؛ لأنه يكون مستحقا للعن، وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه ؛ لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى قال :«من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله » ٢. وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه :«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّاباً. كان يقول عند المعتبة : مَا لَه تَرِبَ جبينه » ٣ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه :«قيلَ يا رسول الله ادع على المشركين، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة » ٤. وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه :«من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه » ٥. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء » ٦.
ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيراً من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية، وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقيناً باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.
استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات
ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذاراً لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر ٧.
٢ التاج، ٥/٣٣-٣٤.
٣ نفسه.
٤ نفسه.
٥ نفسه.
٦ نفسه.
٧ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/٨٦.
في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال : إن هذا الفصل ينطوي على مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.
والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.
ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة ؛ حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :«من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »١. ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم، بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبيتها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾ [ ١٥٧ ] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى اعلم.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جلمة ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.
وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.
والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين، ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.
وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها، وأنه إنما يظل وارداً ولازماً بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.
استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم
ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه ؛ لأنه يكون مستحقا للعن، وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه ؛ لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى قال :«من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله » ٢. وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه :«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّاباً. كان يقول عند المعتبة : مَا لَه تَرِبَ جبينه » ٣ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه :«قيلَ يا رسول الله ادع على المشركين، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة » ٤. وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه :«من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه » ٥. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء » ٦.
ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيراً من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية، وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقيناً باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.
استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات
ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذاراً لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر ٧.
٢ التاج، ٥/٣٣-٣٤.
٣ نفسه.
٤ نفسه.
٥ نفسه.
٦ نفسه.
٧ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/٨٦.
في الآيات حملة عنيفة على الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والدلائل التي بينها الله تعالى في كتبه التي أوحى بها إلى أنبيائه باستثناء الذين يتوبون عن ذلك ويتلافون خطأهم فإن الله يتوب عليهم وعبارة الآيات واضحة.
تعليق على الآية
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى... ﴾ إلخ
والآيات الثلاث التالية لها
روى الطبري وغيره أن بعض المسلمين سألوا نفراً من اليهود عمّا في التوراة من صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموا أو أبوا أن يجيبوهم فأنزل الله الآيات. والرواية لم ترد في الصحاح. وفحوى الآيات يلهم أنها أوسع شمولا لأن التنديد يتناول ما بيّن الله من بينات وهدى. وبعد قليل تأتي آيات فيها بحث عن الأطعمة الحيوانية المحرمة وحملة على الذين يكتمون ما في كتاب الله حيث يلوح أن بين الحملة في هذه الآيات والحملة الآتية صلة موضوعية ما. وهذا بالإضافة إلى ما احتوته حلقة آيات تحويل القبلة والحلقات التي قبلها من تنديد قارع باليهود لكتمهم الحق الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ حيث يسوّغ القول أيضا إنها قد تكون بسبيل التنديد بهم من أجل ذلك. وعلى كل حال فإنه يصح أن يقال : إن هذا الفصل ينطوي على مواقف مناوأة يهودية للدعوة النبوية بقصد التشكيك والدس.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة مباشرة فوضعت في مقامها ومن المحتمل أن يكون وصفها بسبب توافق ما فيها من موضوع مع ما كان قبل فصل الطواف من مواضيع متصلة بمواقف اليهود والله أعلم.
والحملة شديدة قارعة مما قد يلهم أن المواقف التي نزلت في صددها كانت شديدة الوقع والأثر.
ومع ما هو مرجح من أن موضوع الآيات هو اليهود ومواقفهم فقد جاءت مطلقة ؛ حيث يبدو أن حكمة الله اقتضت ذلك لتشمل كل من يكتم ما أنزل الله من الهدى والبينات الواردة في كتبه سواء أكانوا من أهل الكتب السابقين أم من المسلمين. ولقد أورد الطبري في سياقها حديثا نبويا رواه أيضا أبو داود والترمذي عن أبي هريرة بهذا النص :«من سُئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة »١. ونرى أن ننبه على أمر مهم في صدد الحديث النبوي. ففيه الحق من دون ريب غير أن الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها لا تشترط السؤال لاستحقاق لعنة الله واللاعنين على الكاتم، بل توجب على كل من يعلم ما في كتاب الله من هدى وبينات أن يبيتها سواء أسئل أم لم يسأل، وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ﴾ [ ١٥٧ ] توكيد لذلك فيما يتبادر لنا والله تعالى اعلم.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن جلمة ﴿ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ تعني الملائكة أو غير الإنس والجن من خلق الله. ولم يرو هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. ويتبادر لنا أن الجملة أسلوبية لبيان كون الكاتمين يستحقون لعنة كل من خلقه الله إطلاقا من باب التسديد والتشميل وهي من باب الجملة الثانية في الآية التالية وبأسلوب آخر، والله أعلم.
وفحوى الآية الثالثة في مقامها قد يفيد أن صفة الكفر تلصق بالذين يكتمون ما أنزل الله في كتابه والله أعلم.
والاستثناء الوارد في الآية الثانية جليل التلقين، ومن حكمته الملموحة أن يكون وسيلة إلى حمل الكاتم على الارعواء، فإذا ما كتم عالم ما عنده من علم الله وكتابه وأسباب الهدى إليه استحقّ اللعنة الشاملة، فإذا ما ارعوى وندم وتاب تاب الله عليه.
وفي الآيات توكيد أو تأييد لما نبهنا عليه أكثر من مرة في مناسبات سابقة من أن احتوته آيات القرآن من حملات شديدة على الكفار وما وصفتهم بها من قوة القلب وعمى البصيرة وعدم الاهتداء واستحقاقهم لعنة الله إنما هو تسجيل لواقع أمرهم حين نزولها، وأنه إنما يظل وارداً ولازماً بالنسبة للذين ماتوا وهم كفار.
استطراد إلى موضوع لعن الكفار وغيرهم
ولقد وقف المفسرون عند هذه الآيات، فمنهم من أجاز لعن الكفار عامة في الحياة بعد الممات بدون تعيين، ومنع لعن كافر بعينه لأنه لا يعلم إلا الله ما إذا كان تاب قبل الموت فصار في نطاق الاستثناء الذي جاء في الآية الثانية. وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين. ومنهم من أجاز لعن كافر بعينه إذا ما كان متيقنا من كفره عند لعنه ؛ لأنه يكون مستحقا للعن، وقاس على ذلك الظالمين والكاذبين والمنافقين والفاسقين بأعيانهم. ويتبادر لنا أن الرأي الأول هو الأوجه ؛ لأن المرء لا يعلم حالة الناس وسرائرهم علما يقينيا يجعله على يقين بأن الذي يلعنه منهم بعينه مستحق للعنة حقا. وهناك أحاديث نبوية نراها تدعم هذا الرأي من ذلك حديث رواه الخمسة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى قال :«من قذف مؤمنا بكفر فهو كمن قتله » ٢. وحديث رواه البخاري عن أنس جاء فيه :«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا لعّانا ولا سبّاباً. كان يقول عند المعتبة : مَا لَه تَرِبَ جبينه » ٣ وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه :«قيلَ يا رسول الله ادع على المشركين، قال : إني لم أبعث لعّانا وإنما بعثت رحمة » ٤. وحديث رواه أبو داود عن سمرة جاء فيه :«من لعن شيئا ليس بأهل رجعت اللعنة عليه » ٥. وحديث رواه الترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء » ٦.
ولقد جعلت هذه الأحاديث كثيراً من العلماء يذهبون إلى أنه لا ينبغي للمسلم أن يلعن قطّ، وأنه ليس في الآيات التي نحن في صددها إيعاز بلعن أحد وإنما هي من قبيل الوعيد الرباني ويتحاشون عن لعن أحد معيّنا كان أم غير معيّن. وتطرق بعضهم إلى ما درج عليه بعض المسلمين من لعن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان والحجاج بن يوسف وما درج عليه الشيعة من لعن كثير من أصحاب رسول الله وجميع ملوك ورجال وقواد بني أمية، وما في ذلك من بغي وعدوان ومخالفة للسنة النبوية. بل وخروج عن ربقة الإسلام من حيث إن من يلعن من لم يكن مستحقا يقينا اللعنة عادت اللعنة إليه ومن نعت بالكفر من لم يكن كافرا يقيناً باء بالنعت. وفي كل هذا وجاهة ظاهرة. وللإمام ابن تيمية في كتابه منهج السنة ومختصره المنتقى كلام قوي وسديد في هذا الباب.
استطراد إلى تفسير الشيعة للآيات
ويصرف الشيعة هذه الآيات إلى علي ( رضي الله عنه ) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون إن الله قد بيّن صفاته وخلقه في الكتاب وإن فيها إنذاراً لمن يكتم ذلك ويكفر به بعد أن بينه الله للناس في الكتاب. برغم ما هو ظاهر من مدى الآيات واتفاق المفسرين على أنها في صدد اليهود وعدم وجود أية مناسبة بين السياق وبين زعمهم الذي مؤداه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصة كبارهم قد أسقطوا من كتاب الله صفات عليّ وخلقه، فاستحقوا ما احتوته الآيات من وصف وإنذار رهيبين. والتعسف والزور بارزان على هذا الكلام كما هو المتبادر ٧.
٢ التاج، ٥/٣٣-٣٤.
٣ نفسه.
٤ نفسه.
٥ نفسه.
٦ نفسه.
٧ انظر التفسير والمفسرون للذهبي، ٢/٨٦.
عبارة الآيتين واضحة وقد تضمنتا تقرير وحدة الله المتصف بشمول الرحمة، ودلائل وحدانيته وعظمته، فيما في السموات والأرض من نواميس وآيات باهرة مما يقع عليها نظر السامعين ومما يستمتعون به منها من منافع عظيمة متنوعة يدركها العاقل المتدبر من الناس وتجعله موقنا باستحقاق الله وحده للخضوع والعبادة.
والآيتان مما تكرر كثيراً في السور المكية فحوى ومقصداً، ولقد علقنا على مثلهما في تلك السور تعليقات كافية فلا نرى ضرورة للتكرار.
ولقد روى المفسرون [ انظر تفسيرهما في الطبري والطبرسي ] أن الآية الأولى نزلت بناء على طلب المشركين وصفة الله، وأن الآية الثانية نزلت بناء على طلبهم البرهان على ما قررته الآية الأولى والروايات لم ترد في الصحاح. ولقد حكت آيات مكية كثيرة اعتقاد المشركين بوجود الله وكونه هو الخالق للأكوان المدبر لها الرازق النافع الضار. فليس مما يحتمل أن يطلبوا ما ذكرته الروايات، فضلا عن أن أسلوبهما لا يتسق كثيراً مع هذه الروايات. والذي يتبادر لنا أنهما جاءتا معقبتين على ما سبقهما فالآيات السابقة أنذرت الذين يكتمون بينات الله ويصرون على الكفر بالنار وسجلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فجاءت هاتان الآيتان لتبينا ما في الكون من آيات دالة على وجود الله وعظمته وما في الكفر به من سخف وضلال.
على أن هذا لا يمنع احتمال أن تكون الآيتان مقدمة للآيات التالية لها التي احتوت اتخاذ بعض الناس شركاء لله.
ومن المحتمل أن تكون الآيتان وما بعدهما قد نزل بعد الفصل السابق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعهما بعدها في ترتيب آيات السورة.
عبارة الآيتين واضحة وقد تضمنتا تقرير وحدة الله المتصف بشمول الرحمة، ودلائل وحدانيته وعظمته، فيما في السموات والأرض من نواميس وآيات باهرة مما يقع عليها نظر السامعين ومما يستمتعون به منها من منافع عظيمة متنوعة يدركها العاقل المتدبر من الناس وتجعله موقنا باستحقاق الله وحده للخضوع والعبادة.
والآيتان مما تكرر كثيراً في السور المكية فحوى ومقصداً، ولقد علقنا على مثلهما في تلك السور تعليقات كافية فلا نرى ضرورة للتكرار.
ولقد روى المفسرون [ انظر تفسيرهما في الطبري والطبرسي ] أن الآية الأولى نزلت بناء على طلب المشركين وصفة الله، وأن الآية الثانية نزلت بناء على طلبهم البرهان على ما قررته الآية الأولى والروايات لم ترد في الصحاح. ولقد حكت آيات مكية كثيرة اعتقاد المشركين بوجود الله وكونه هو الخالق للأكوان المدبر لها الرازق النافع الضار. فليس مما يحتمل أن يطلبوا ما ذكرته الروايات، فضلا عن أن أسلوبهما لا يتسق كثيراً مع هذه الروايات. والذي يتبادر لنا أنهما جاءتا معقبتين على ما سبقهما فالآيات السابقة أنذرت الذين يكتمون بينات الله ويصرون على الكفر بالنار وسجلت عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فجاءت هاتان الآيتان لتبينا ما في الكون من آيات دالة على وجود الله وعظمته وما في الكفر به من سخف وضلال.
على أن هذا لا يمنع احتمال أن تكون الآيتان مقدمة للآيات التالية لها التي احتوت اتخاذ بعض الناس شركاء لله.
ومن المحتمل أن تكون الآيتان وما بعدهما قد نزل بعد الفصل السابق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعهما بعدها في ترتيب آيات السورة.
في الآيات :
١- إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأنداداً يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه.
٢- وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه.
٣- وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيداً لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته.
والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٥:﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴿ ١٦٥ ﴾ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [ ١ ] ﴿ ١٦٦ ﴾ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴿ ١٦٧ ﴾ ﴾
في الآيات :
١- إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأنداداً يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه.
٢- وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه.
٣- وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيداً لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته.
والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي.
في الآيات :
١- إشارة تنديدية إلى الناس الذين يتخذون مع الله شركاء وأنداداً يعبدونهم ويحبونهم مثل عبادة الله وحبه.
٢- وتنويه استدراكي بالمؤمنين به وحده الذين كل حبهم موجه إليه.
٣- وتنبيه إنذاري بما سوف يكون من أمر أولئك الظالمين المشركين يوم القيامة حينما يرون العذاب فيتيقنون أن القوة جميعها لله. ولسوف يتنصل ويتبرأ المتبوعون من التابعين وتتقطع الروابط التي كانت تربطهم ببعض. ولسوف يندم التابعون ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليتبرأوا من تابعيهم كما تبرأوا منهم. وهكذا يشعر الجميع بالحسرة على انحرافهم وسوء أفعالهم ولن يكون لهم خروج من النار.
ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وفحواها وروحها يقوّيان احتمال أن تكون الآيتان السابقتان مقدمة أو تمهيداً لها على سبيل تسفيه وتسخيف الذين يشركون بالله غيره مع ما هو ماثل في الكون من دلائل عظمته ووحدانيته.
والصورة التي ترسمها الآيتان الثانية والثالثة قوية. وقد تكرر ورودها في سور مكية عديدة والمتبادر أنها استهدفت هنا ما استهدفته مثيلاتها وهو حمل التابعين بنوع خاص وهم الأكثرية الكبرى على الارعواء قبل فوات الوقت والندم الذي لا يجدي.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [ ١ ] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ١٦٨ ﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء [ ٢ ] وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٦٩ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [ ٣ ] عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴿ ١٧٠ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [ ٤ ] بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿ ١٧١ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿ ١٧٢ ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [ ٥ ] وَلاَ عَادٍ [ ٦ ] فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٧٣ ﴾ ﴾.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [ ١ ] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ١٦٨ ﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء [ ٢ ] وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٦٩ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [ ٣ ] عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴿ ١٧٠ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [ ٤ ] بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿ ١٧١ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿ ١٧٢ ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [ ٥ ] وَلاَ عَادٍ [ ٦ ] فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٧٣ ﴾ ﴾.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [ ١ ] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ١٦٨ ﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء [ ٢ ] وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٦٩ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [ ٣ ] عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴿ ١٧٠ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [ ٤ ] بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿ ١٧١ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿ ١٧٢ ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [ ٥ ] وَلاَ عَادٍ [ ٦ ] فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٧٣ ﴾ ﴾.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [ ١ ] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ١٦٨ ﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء [ ٢ ] وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٦٩ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [ ٣ ] عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴿ ١٧٠ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [ ٤ ] بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿ ١٧١ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿ ١٧٢ ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [ ٥ ] وَلاَ عَادٍ [ ٦ ] فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٧٣ ﴾ ﴾.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
[ ٦ ] عاد : من العدوان.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً [ ١ ] وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ١٦٨ ﴾ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء [ ٢ ] وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٦٩ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا [ ٣ ] عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴿ ١٧٠ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ [ ٤ ] بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴿ ١٧١ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿ ١٧٢ ﴾ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ [ ٥ ] وَلاَ عَادٍ [ ٦ ] فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٧٣ ﴾ ﴾.
في هذه الآيات وجّه الخطاب إلى ثلاث فئات في موضوع واحد :
فأولا : وجّه للناس عامة هاتفاً بهم بأن الله قد أحلّ لهم كل طيب في الأرض فليأكلوه، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيخرجوا عن هذا الحد والوصف فإن الشيطان عدوّ لهم ولا يوسوس إلا بما فيه السوء والشر والقبح والافتراء على الله بما لا يعلمون حقيقته وبرهانه.
وثانيا : وجّه الخطاب للكفار بأسلوب تنديدي : فحينما يقال لهم اتبعوا ما أنزل الله ولا تنحرفوا عن الحدود التي رسمها يجيبون بأنهم إنما يفضلون السير على ما وجدوا عليه آباءهم. وقد وجه لهم سؤال إنكاري ينطوي على التقريع عما إذا كان يصحّ أن يصروا على السير على ما كان عليه الآباء، ولو كانوا ليسوا على علم وعقل وهدى ؛ ثم شبهت حالتهم بحالة البهائم التي يصرخ فيها راعيا فتسمع صوته ولا تفهم معنى كلامه، فهم صمّ لا يسمعون وبكم لا ينطقون وعمي لا يبصرون.
وثالثا : وجّه الخطاب إلى المؤمنين هاتفا بهم بأن يأكلوا مما رزقهم الله من الطيب الطاهر الحلال، وبأن يشكروا نعمته ويلتزموا حدوده إذا كانوا حقا مخلصين له في الإيمان والخضوع. ومبينا لهم ما حرّم أكله عليهم وهو الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذكر اسم غير الله عليه حين ذبحه مستثنيا من الحظر المضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فليس عليه إثم على شرط أن لا يتجاوز حدود الضرورة، ولا يكون سيء النية باغياً فالله غفور رحيم في مثل هذه الحال.
وتبدو الآيات فصلا جديدا، غير أن احتواء الآيات السابقة تقريعاً ولعنة للذين لا يبينون ما عندهم من علم الله واحتواء الآيات التالية لها تقريعاً للذين يكتمون ما أنزل الله ولأهل الكتاب الذين هم متنازعون مختلفون فيما بين أيديهم من كتب الله يسوغ القول : إن بين هذه الآيات وما قبلها وما بعدها صلة ما.
وقد روى المفسرون [ انظر ابن كثير والطبرسي والخازن ] أن الآية الأولى نزلت في العرب الذين حرّموا على أنفسهم بعض الأنعام المنذورة وأن الآية الثانية نزلت في اليهود حين دعاهم إلى اتباعه. والروايات لم ترد في الصحاح، ويقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أن الملموح أنها وحدة ؛ حيث يرجح استلهاماً من انسجام الآيات جميعها أنها نزلت في موقف واحد وهو الذي حكته الآية [ ١٧٠ ] وأن الأمر متصل بصورة عامة ببعض تقاليد الكفار من العرب المتصلة بالأطعمة الحيوانية. وأن الموقف كان حجاجياً ووجاهياً بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض هؤلاء الكفار وأن الآية الأولى جاءت بمثابة تمهيد لحكاية هذا الموقف وأن الآيات [ ١٧٢-١٧٣ ] التي خوطب بها المؤمنون جاءت كتعقيب على هذا الموقف لتنبيه المؤمنين إلى الحدود التي يجب عليهم التزامها دون أبوه بموقف الكفار وتقاليد الآباء المخالفة لإرادة الله تعالى في القرآن إن كانوا يؤمنون به ويعبدونه حقا. ولقد احتوت سورتا الأنعام والنحل آيات مشابهة لهذا الفصل، وآيات الأنعام [ ١٣٤-١٤٥ ] نزلت في صدد موقف حجاج ولجاج كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والكفار المشركين. وآيات النحل [ ١١٢-١١٧ ] وجهت إلى المؤمنين واحتوت نهيا عن التحريم والتحليل بدون علم وإنذاراً لمن يكذب على الله. فالظاهر أن مثل هذا الموقف قد حدث بين النبي وبعض الكفار في العهد المدني فأوحى الله بهذه الآيات في مناسبة ذلك. ولا يبعد أن يكون اليهود قد لعبوا دوراً إيحائيا في الموقف. وقد يكون في الآيات التالية وفي الآيات السابقة قرينة على ذلك حيث يحتمل أن يكون الكفار طلبوا إشهاد اليهود على صدق تحريم الأنواع الأربعة فاستشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها محرمة عندهم أيضا فراوغوا أو لم يشهدوا. ومن الجدير بالتنبيه أن فصل سورتي الأنعام والنحل اتبعا بذكر ما حرم على اليهود على ما مرّ شرحه في سياق تفسير السورتين.
ولقد علقنا على ما تلهمه الآيات وما تنطوي عليه من تلقينات جليلة مستمرة المدى وأوردنا طائفة من الأحاديث في صددها في سياق تفسير سورتي الأنعام والنحل فلا نرى ضرورة للتكرار. غير أننا نلفت النظر إلى الصورة التي ترسمها الآية [ ١٧١ ] للكفار والتشبيه الذي شبهوا به وإلى التنديد الذي ندد بهم بسبب تمسكهم بما ورثوه من آبائهم الذي لا يكون له سند من حق وعقل وصالح. ففي كل ذلك تلقين بليغ مستمر المدى في تقبيح التمسك بالتقليد الباطل لأنه قديم وعدم التدبر فيما فيه الحق والهدى من جديد.
وهذا مما تكرر في سور مكية عديدة وتكرر كذلك في سور مدنية أخرى. ومردّ حكمة تكراره فيما هو المتبادر أولا : تجدد المواقف والمناسبات، وثانيا : ما ينطوي عليه من خطورة بالغة، ودلالة عظيمة على سعة أفق الدعوة الإسلامية وحيويتها المتجددة ؛ وكون الهدف الذي تستهدفه وتلزم به أتباعها هو الحق والصالح والهدى وما يتسق مع العقل والمنطق بقطع النظر عن قدمه وجدته.
ولقد أورد المفسرون في صدد خطوات الشيطان التي نهت الآية الأولى عن اتباعها بعض أقوال للمؤولين منها أنها تعني كل معصية إطلاقا ؛ لأن الشيطان يأمر بجميع المعاصي، ومنها في مقامها عنت ما كان عليه أهل الجاهلية من تقاليد في تحليل بعض الأطعمة وتحريمها. والمتبادر أن هذا هو الأكثر ورودا في هذا المقام وإن كان القول الأول يظل وجيها بصورة عامة. ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث النبوية في سياق الآية من ذلك حديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله تعالى : إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم«ومنها حديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال :«تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله ادع لي الله أن يجعلني مستجاب الدعوة. فقال : يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة. والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به». وحديث أخرجه ابن أبي حاتم عن مسروق قال :«أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم. فقال : لا أريده. فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا. فما شأنك ؟ قال : حرّمت أن آكل ضرعا أبدا. فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان فاطعم وكفّر عن يمينك».
وفي الأحاديث توضيح لمدى العبارة القرآنية وتحذير وتنبيه على هامشها.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تقريعاً وإنذاراً شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعاً ولا شقاقاً.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل : أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح، ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة، وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [ ٩٣ ] وسورة النحل [ ١١٥ ] لتكون الحجة أقوى وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا، وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم.
ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في الجملة ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان ؛ حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٤:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿ ١٧٤ ﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [ ١ ] ﴿ ١٧٥ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [ ٢ ] ﴿ ١٧٦ ﴾ ﴾
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تقريعاً وإنذاراً شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعاً ولا شقاقاً.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل : أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح، ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة، وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [ ٩٣ ] وسورة النحل [ ١١٥ ] لتكون الحجة أقوى وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا، وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم.
ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في الجملة ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان ؛ حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٤:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿ ١٧٤ ﴾ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ [ ١ ] ﴿ ١٧٥ ﴾ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [ ٢ ] ﴿ ١٧٦ ﴾ ﴾
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت تقريعاً وإنذاراً شديدين للذين يكتمون ما أنزل الله في كتبه وتقرير كونهم في شذوذهم وخلافاتهم فيها منحرفين بعيدين عن الحق على اعتبار أن سبيل الله والحق لا تتحملان خلافا ولا نزاعاً ولا شقاقاً.
ولقد روى الطبري عن أهل التأويل : أن المقصود بالآيات اليهود أو أحبارهم لأنهم كانوا يكتمون ما في كتب الله عندهم من صفات النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. والرواية ليست من الصحاح، ومع أنها تنطوي على حقيقة الواقع من أحبار اليهود وقد أشير إلى مثل ما ذكرته عن اليهود في آيات سابقة. فإن الذي يتبادر لنا أن الآيات غير منقطعة الصلة عن الفصل السابق. ويخطر للبال على ضوء السياق أن اليهود استشهدوا على صحة ما ورد تحريمه في القرآن من الأطعمة الحيوانية المحرمة، وهو ما ورد في آيات سورة الأنعام [ ٩٣ ] وسورة النحل [ ١١٥ ] لتكون الحجة أقوى وألزم على الكفار المشركين. ولعل هؤلاء طلبوا استشهادهم فلم يشهدوا بالحق الذي في كتبهم والذي بينه وبين ما حرمه القرآن تطابق ما وكتموا ذلك بقصد التعطيل والتشكيك فاستحقوا التنديد والإنذار الرهيبين هنا، وفي الفصل الذي جاء بعد فصل الطواف بين الصفا والمروة لأن السياق متصل والله تعالى أعلم.
ولقد جاءت الآيات هنا مطلقة كسابقاتها أيضا لتكون شاملة لكل من يكتم كتاب الله. وما أوردناه في سياق الآيات السابقة من تنبيهات وأقوال وأحاديث يورد هنا بتمامه بطبيعة الحال مع التنبه إلى ما في الجملة ﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ في الآيات التي نحن في صددها من تشديد أقوى في التنديد في حالة توخي المنافع الدنيوية الخبيثة من الكتمان ؛ حيث يزيد هذا من إثم الكاتم وجريمته ويجعل عقوبته عند الله تعالى مضاعفة.
[ ١ ] البرّ : قرئت بفتح الباء وقرئت ( البار ) أيضا، وقدّروا وراء البرّ الثانية محذوفا بحيث تكون الجملة «ولكن البرّ برّ من آمن بالله واليوم الآخر ».
[ ٢ ] على حبه : على شدة الرغبة فيه والحرص عليه.
[ ٣ ] وفي الرقاب : وفي سبيل شراء العبيد وعتقهم أي تحرير الرقاب.
[ ٤ ] البأساء والضراء : أوقات الشدة والمصائب والمحن.
[ ٥ ] البأس : هنا بمعنى الحرب.
عبارة الآية واضحة، وهي موجهة إلى السامعين والمرجح الذي تلهمه روحها أن المقصود هم المؤمنون، لتنبههم إلى أن البرّ ليس في توجيه الوجوه إلى المشرق والمغرب، ولكنه هو ما ذكرته الآية من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة وكتب الله وأنبيائه وإعطاء المال المحبب للنفس للمحتاجين وبنوع خاص لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ولأجل تحرير الرقيق وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في المحن والشدائد وفي ميدان الحرب، فالذين يفعلون ذلك هم الصادقون المتقون.
تعليق على الآية
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ ﴾
وما فيها من تلقين
ولقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل في سبب نزول هذه الآية. من ذلك ما رواه الطبري عن قتادة أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ فأنزل الله الآية. وروى الطبري عن قتادة رواية أخرى تفيد أن اليهود كانوا يصلون قبل المغرب وأن النصارى كانوا يصلّون قبل المشرق فنزلت الآية لبيان حقيقة البرّ. وروى الطبرسي أنه لما حوّلت القبلة أكثر اليهود والنصارى الخوض في ذلك، وقيل فيما قيل : إن البرّ وطاعة الله هما التوجه في الصلاة فأنزل الله الآية. وروى عن قتادة أيضا أنها نزلت في اليهود خاصة ؛ لأنهم هم الذين أكثروا الخوض في تحويل القبلة. وليس شيء من الروايات من الصحاح. والرواية الأخيرة مع ذلك هي الأكثر وروداً استئناساً بالسياق والله أعلم.
ولما كانت المواضيع التي احتوتها الآيات التالية لهذه الآية مواضيع جديدة غير متصلة بالسياق السابق، وكان اليهود هم موضوع الكلام في الدرجة الأولى في الفصول السابقة لها باستثناء الآيات [ ١٥٣-١٥٨ ] التي فيها تثبيت للمؤمنين وموضوع الطواف بين الصفا والمروة ؛ فتكون هذه الآية خاتمة قوية للسياق الطويل الذي بدأ من الآية الأربعين واحتوى حلقات عديدة في صدد مواقف اليهود ضد الدعوة الإسلامية وجحودهم ودسائسهم وربط حاضرهم بغابرهم. وقد استغرق أكثر من ثلث السورة، وتضمن صور المرحلة الأولى من مراحل الاحتكاك بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود في العهد المدني التي كانت قاصرة على الجدال والنقاش والمناظرة والتنديد والإنذار والتي يبدو من خلالها مع ذلك ما بذله اليهود من قوة النشاط المعادي للدعوة الإسلامية في مختلف المجالات وما قصده القرآن من فضح هذا النشاط وإحباطه وهدم المركز القوي الثقافي والديني والسياسي والمالي الذي كان يتمتع به اليهود في الأوساط العربية. ولقد احتوت السور النازلة بعد هذه السورة صوراً مماثلة لصور هذه المرحلة، ثم صوراً للعداء الخطير الذي انتهى إلى الاشتباكات الحربية حتى أظهر الله نبيه والمؤمنين عليهم وساعدهم على تطهير المدينة منهم. وخضد شوكتهم في القرى الأخرى في نهاية السنة السادسة من العهد المدني على ما سوف نشرحه في المناسبات الآتية.
والآية فصل جامع رائع من جوامع القرآن وروائعه. وقد احتوت تقرير أهداف الدعوة الإسلامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بأسلوب قوي نافذ. ولقد ذكرت هذه الأهداف بأساليب متنوعة في القرآن المكي مما يؤكد الاتساق التام بين القرآن المكي والقرآن المدني. ولقد علقنا عليها في المناسبات العديدة التي ذكرت فيها بما يغني عن التكرار. غير أن في الآية خصوصية جليلة جديرة بالتنويه والتنبيه، وهي تقريرها كون أهداف الدعوة الحقيقية والجوهرية ليست الأعراض والأشكال والمظاهر، وإنما هي الصدق في الإيمان والعمل والقيام بالواجب نحو الله ومساعدة المحتاجين على اختلافهم من أقارب وأباعد والوفاء بالعهد والصبر عند المحن والثبات في الجهاد والتضحية بالمال والنفس. وفي هذا ما فيه من قوة حيوية الدعوة وعظمتها ومرشحاتها للعمومية والخلود. وينوه بنوع خاص بخاتمة الآية التي تقرر أن المتصفين بما فيها من صفات هم الصادقون المتقون، ولقد شرحنا سابقاً مدى التقوى والصدق وما في الآية من صفات مما يماثل ذلك حقا وصدقاً.
ولقد أورد ابن كثير بعض الأحاديث في سياق هذه الآية فيها توضيح لبعض عباراتها وتساوق مع تلقيناتها. منها حديث رواه الحاكم في مستدركه عن ابن مسعود قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وآتى المال على حبّه أن تعطيَه وأنت صحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » [ روى الشيخان والنسائي هذا الحديث بهذه الصيغة :«جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجراً ؟ قال : أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى. ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان » التاج، ٢/٣٦ ]. وحديث رواه ابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية » [ روى الترمذي هذا الحديث بهذه الصبغة :«سألتُ أو سئل النبي عن الزكاة فقال : إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا الآية ». التاج، ٢/٣٩ ]. وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال :«ليس المسكين هذا الطوّاف الذي تردّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه » [ روى مؤلف التاج هذا الحديث برواية الخمسة إلا الترمذي بهذه الصيغة :«ليس المسكين الذي يطوف على الناس تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس » التاج، ٢/٣٨ ].
[ ٢ ] القصاص : مقابلة العمل بمثله.
[ ٣ ] وأداء إليه : الجمهور على أن الجملة تعني أداء الدية في حالة العفو.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ [ ١ ] عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ [ ٢ ] فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ [ ٣ ] بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿ ١٧٨ ﴾ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ١٧٩ ﴾ ﴾.
الآيتان موجهتان إلى المسلمين. وقد احتوت أولاهما : إيجاب القصاص في حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما : بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سنداً لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا.
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على آية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى... الخ ﴾
والتالية لها
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلتا، ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلاً منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها ١. والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعاً عاماً للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية.
والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواهٍ في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك أوضح، فالمسلمون في مكة كانوا قلة، فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معاً، فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشياً مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجواباً على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات.
وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو : أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق، وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن بغياً وتعصباً وحقداً فيقولون : إن هناك تناقضاً في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادئ والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة، ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها، أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبته.
٢- إن من المؤولين والمفسرين من قال : إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقاً، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الخ ﴾ [ ٤٥ ] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعاً للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) ليس مما يمكن التسليم به استناداً إلى الآيات المذكروة على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ويتبادر لنا أن جملة ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلاً لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقاً هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحلّ دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» [ التاج، ٣/١٧ ]. وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» ٢.
ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقاً سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبداً أو أمة، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا : لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استناداً إلى نص الآية الأولى.
ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة، وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقاً هو الأوجه. ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني، وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه :«كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» ٣. وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» ٤.
ومن رأي أبي حنيفة استناداً إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده.
٣- مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هي في صدد من يقتل قاتلاً بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلاً بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية» ٥. وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالداً فيها» [ التاج، ٣/١٥ ]. والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية. والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص، وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة.
٤- ومما رواه المفسرون في جملة :﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف، وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص، وهذا سديد وجيه.
والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفو عن دم قتيلهم بدون دية أيضا، وهذا حق متبادر من روح الآية.
وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة، فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر.
٥- وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبراً يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير : إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة. وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلاً في القتل، وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.
٦- والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال :«حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» ٦.
٧- والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله ( شبه عمد ) ولا يستوجب قصاصاً، وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمداً. وهناك من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال : إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية. وقد صوب الطبري قول من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.
٨- والأ
الآيتان موجهتان إلى المسلمين. وقد احتوت أولاهما : إيجاب القصاص في حوادث القتل التي تقع بينهم كفرض مكتوب عليهم فأوجبت قتل الحرّ القاتل بالحرّ المقتول والعبد القاتل بالعبد المقتول والأنثى القاتلة بالأنثى المقتولة. وأوردت احتمال العفو عن القاتل من قبل ولي المقتول وإباحته. وذكرت ما يجب في مثل هذه الحال وهو التزام الحق والإحسان من جانب القاتل المعفو عن دمه فيسير في التعويض ودفع الدية لأهل القتيل وفق المعروف وبدون عطل وبخس. وبينت أن هذه الإباحة تخفيف من الله ورحمة منه بالمسلمين. وأنذرت من يستغل ذلك فيعتدي ويبغي على غيره. وقد تضمنت ثانيتهما : بيان حكمة إيجاب القصاص فذكرت أن في القصاص حياة للمجتمع حيث يكون وسيلة من وسائل تقوى الله والارتداع عن الظلم والعدوان وإراقة دماء الناس. ووجهت الكلام في آخرها إلى أولي العقول فيهم الذين يستطيعون إدراك هذه الحكمة والعمل بمقتضاها. الجملة التي احتوت هذه الحكمة من روائع الوجائز والحكم القرآنية التي يمكن أن تكون سنداً لكل تشريع وتنفيذ جزائي في الدنيا.
والآيتان فصل جديد لا صلة له بالسياق السابق. ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل نزل بعد الآية السابقة لهما فوضع بعدها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
تعليق على آية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى... الخ ﴾
والتالية لها
ولقد تعددت الروايات في سبب نزول الآيتين، منها أنه كان بين حيين من العرب دماء في الجاهلية، وكان الحي الأقوى قد نذر بأن يقتل من عدوه الحرّ بالعبد والرجل بالأنثى والحرّ بالحرّ. وبأن يجعل دية جراحاته مضاعفة. فلما أسلم الحيان حكما النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا ومنها أن العرب في جاهليتهم كانوا طبقات، وكان أشرافهم يغالون في القصاص والدية ويضاعفونهما بالنسبة لمن هم أقل شرفا وقوة، وأن بعض العرب رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلتا، ومنها أن اليهود كانوا يقاصون بدون عفو وأن النصارى كانوا لا يقاصون فنزلتا لبيان حكم الإسلام الوسط بينهما. ومنها أنه كان قوم من العرب إذا قتل عبد قوم آخرين رجلاً منهم لم يرضوا بقتل العبد حتى يقتلوا سيده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا منهم لم يرضوا بقتل القاتلة حتى يقتلوا رجلا من عشيرتها ١. والروايات ليست من الصحاح غير أن مضمون الآية الأولى يلهم احتمال نزول الآيتين في إحدى الحالات المروية عن العرب وبخاصة في الحالة الأخيرة لحل المشكل الدموي الواقع الذي رفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع ترجيحنا خصوصية المناسبة فالذي يتبادر من صيغة الآيتين أنهما نزلتا لتكونا تشريعاً عاماً للتطبيق في الظروف المماثلة. وهذا شأن معظم الآيات التشريعية والتعليمية.
والآيتان هما أولى الآيات التي تحمل طابع التشريع والتقنين في شأن من شؤون الحياة وهو طابع خاص بالعهد المدني، وما ورد في الآيات المكية من أوامر ونواهٍ في هذه الشؤون يحمل طابع الحثّ والعظة والزجر والإنذار والتنديد. وسبب ذلك أوضح، فالمسلمون في مكة كانوا قلة، فلم يكن إمكان ولا مجال للتقنين والتشريع. وقد تغير هذا في العهد المدني حيث كثر المسلمون وصار النزاع والخلاف على شؤون الحياة مما يكثر بينهم. وقد صار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا في مركز الرئيس والقائد والقاضي معاً، فانفسح المجال واقتضى الحال التشريع تمشياً مع الظروف واستجابة للمناسبات وحلا للمشاكل والوقائع وجواباً على الاستفتاءات والاستعلامات والمراجعات.
وننبه بهذه المناسبة على أمر هام وهو : أن معظم ما نزل به تشريع وتقنين من شؤون الحياة في العهد المدني قد نزل به بأمر ونهي وزجر وحثّ وإنذار وتبشير في القرآن المكي. ومن جملة ذلك حظر القتل بغير حق، وتقرير حق ولي المقتول بالقصاص مما ورد في سور الإسراء والأنعام والفرقان. وفي هذا ردّ على الأغيار الذين يحلو لهم غمز النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن بغياً وتعصباً وحقداً فيقولون : إن هناك تناقضاً في الدعوة وأهدافها وسيرها بين العهدين. فالأسلوب المدني هو إيجاب تطبيقي للمبادئ والأحكام التي قررتها الآيات المكية مما ينطوي فيه كل الحكمة والحق والصواب ومقتضيات الحياة، ثم الانسجام التام بين قرآني العهدين.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيتين بعض الأحاديث والاجتهادات الفقهية نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- المؤولون والمفسرون متفقون على أن حكم الآية الأولى هو في صدد القتل العمد. وهذا متبادر من فحواها، أما القتل الخطأ فقد ذكر حكمه في إحدى آيات سورة النساء وسيأتي شرح ذلك في مناسبته.
٢- إن من المؤولين والمفسرين من قال : إن حكم الآية قد نسخ بحكم النفس بالنفس مطلقاً، الذي ورد في آية سورة المائدة هذه :﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ... الخ ﴾ [ ٤٥ ] وهذه الآية حكاية لما كتبه الله على بني إسرائيل في التوراة وليست تشريعاً للمسلمين على ما تلهم الآيات التي جاءت بعدها. ونظرية ( شرع ما قبلنا شرع لنا ) ليس مما يمكن التسليم به استناداً إلى الآيات المذكروة على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
ويتبادر لنا أن جملة ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ الواردة في الآية الثانية قد تضمنت تعديلاً لحكم الأولى فصار القصاص أي قتل القاتل العمد مطلقاً هو الحكم المبدئي العام. وهناك أحاديث نبوية تؤيد هذا التعديل. منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحلّ دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والثيّب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» [ التاج، ٣/١٧ ]. وحديث رواه أبو داود عن قيس بن عباد في صدد كتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يدٌ على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر» ٢.
ولقد استند أبو حنيفة وآخرون إلى بعض هذه الأحاديث مع مبدأ القصاص فقرروا أن المسلم يقتل بالمسلم إطلاقاً سواء أكان القاتل أو القتيل رجلا أو امرأة أو عبداً أو أمة، وخالف بعضهم هذا الرأي وقالوا : لا يقتل الرجل بالمرأة ولا الحرّ بالعبد استناداً إلى نص الآية الأولى.
ويتبادر لنا أن الآية الأولى إنما نزلت لحل مشكلة دموية قائمة بأوصاف معينة، وأن الرأي الأول المستنبط من أحاديث نبوية ومن مبدأ القصاص مطلقاً هو الأوجه. ولم نطلع على أثر نبوي يدعم الرأي الثاني، وهناك أحاديث فيها صراحة أكثر تدعم الرأي الأول منها حديث رواه أصحاب السنن جاء فيه :«كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن في جملة ما كتب أن الرجل يقتل بالمرأة» ٣. وحديث رواه أصحاب السنن أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه» ٤.
ومن رأي أبي حنيفة استناداً إلى مبدأ القصاص المطلق أن المسلم يقتل بالكافر الذمي أو المعاهد والأكثرون على أن المسلم لا يقتل بالكافر. وهذا مما يدعمه حديث سبق إيراده.
٣- مما رواه المفسرون عن المؤولين أن جملة :﴿ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ هي في صدد من يقتل قاتلاً بعد العفو عنه وأخذ الدية منه. وقد استند إليها بعضهم فأوجبوا قتل من قتل قاتلاً بعد العفو وأخذ الدية. وهناك أحاديث نبوية تساق في تأييد ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«لا أعافي رجل قتل بعد أخذ الدية» ٥. وحديث رواه أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من أصيب بقتل يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتصّ وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالداً فيها» [ التاج، ٣/١٥ ]. والمتبادر أن الرابعة هي قتل القاتل بعد العفو وأخذ الدية. والراجح أن هذا يكون في حالة تعدد أولياء القتيل وعفو بعضهم وقبولهم بالدية دون الآخرين. والجمهور على أن عفو بعض الأولياء وقبولهم بالدية يمنع القصاص، وهذا وجيه ومؤيد لما رجحناه من وجه المسألة.
٤- ومما رواه المفسرون في جملة :﴿ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ أنها في معنى أن لولي القتيل الذي يعفو ويقبل بالدية أن يطالب بها بالمعروف أي بدون عنف، وأن على القاتل وأهله أن يؤدوا الدية بالحسنى بدون إبطاء ونقص، وهذا سديد وجيه.
والجمهور متفقون على أن لأولياء القتيل أن يعفو عن دم قتيلهم بدون دية أيضا، وهذا حق متبادر من روح الآية.
وهكذا تكون الآية قد انطوت على تلقين جليل في حالة العفو. فالله تعالى إذا أباح العفو فإن ذلك منه تخفيف ورحمة، فلا يجوز للمسلمين أن يسيئوا استعمال هذه الرخصة. وعليهم أن يسيروا في أداء ما يترتب عليهم وفي مقاضاته بالحسنى والمعروف والحق. وهذا عدا ما في مبدأ إباحة العفو والصيغة المحببة التي ورد بها من تمشّ مع طبيعة الأمور وملاحظة مصلحة الناس وحالاتهم في مختلف الظروف أيضا من تلقين جليل آخر.
٥- وأكثر أئمة الفقه على أنه إذا اشترك أكثر من واحد في قتل قتيل فإنهم يقتلون به. وقد أورد ابن كثير خبراً يفيد أن عمر قتل سبعة في غلام، وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم. وقال ابن كثير : إنه لا يعرف لهذا مخالف من الصحابة. وينسب إلى الإمام أحمد عدم تجويز قتل الجماعة بالواحد. ويتبادر لنا أن الرأي الأول أوجه إذا ما ثبت أن الجماعة اشتركوا فعلاً في القتل، وليس هناك بينة أو دليل على واحد بعينه أكثر من غيره والله أعلم.
٦- والجمهور على أن الوالد لا يقتل بابنه. وهناك حديث مؤيد لذلك رواه الترمذي عن سراقة قال :«حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه. وفي رواية لا يقتل الوالد بالولد» ٦.
٧- والجمهور على أن القتل العمد المستوجب للقصاص هو الضرب بدون كفّ حتى الموت. وأن القاتل إذا ضرب ثم كفّ قبل الموت ثم مات المضروب بعد فترة ما نتيجة للضرب فيكون قتله ( شبه عمد ) ولا يستوجب قصاصاً، وإنما يستوجب دية مثل دية العمد في حالة عفو أولياء القتيل عن دم قتيلهم المقتول عمداً. وهناك من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو قتل عمد. وهناك من قال : إن القتل لا يحسب قتل عمد إلا إذا كانت آلة الضرب حديدية. أما إذا كان الضرب بالعصا أو الحجر أو السوط فهو شبه عمد وإن لم يكفّ الضارب حتى الموت. والاختلاف في المذاهب هو لسبب اختلاف في الأحاديث النبوية المروية. وقد صوب الطبري قول من قال : إن الضرب حتى الموت بأية آلة هو عمد ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله أعلم.
٨- والأ
[ ٢ ] خيراً : هنا بمعنى المال، أو المال الكثير.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ [ ١ ] أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً [ ٢ ] الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٨٠ ﴾ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ١٨١ ﴾ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً [ ٣ ] أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾
في الآيات : إيجاب الوصية على كل مسلم – حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال – لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق.
والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقه، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان، فاقتضت الحكمة تنزيل آيات المواريث الواردة في سورة النساء ؛ لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني.
ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية.
تعليق على آيات الوصية
ولقد اختلفت أقوال المفسرين ١ ومن رووا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه :«إن الله أعطى كل ذي حقّ حقّه وإنه لا وصيّة لوارث» ٢ قد نسختها. ومنهم من قال : إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال : إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء، ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام، ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور الخ الخ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلاّ لمشكلتهم وسدا لعوزهم ؛ لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حق وروعة وجلال.
والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى، ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ٣.
وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثاً نبويا جاء فيه :«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه :«من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه :«من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية».
وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه :«من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله معصية». وقولاً آخر جاء فيه :«فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين».
وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر ؛ حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم، حتى لقد ذهب بعضهم استناداً إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري.
ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال :«مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله إن لي مالا كثيراً ولا يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كلّه ؟ قال : لا. قلت : فبثلثيه ؟ قال : لا. قلت : فالشطر ؟ قال : لا. قلت : فالثلث ؟ قال : الثلث. والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أتدعهم عالة يتكفّفون الناس» ٤. وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه :«إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزّأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديداً» حيث يفيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الثلث فقط ٥.
وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به.
وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. منها أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم له يعوده فقال له : إني أريد أن أوصيَ، فقال له : لا توص فإنك لم تترك خيراً فتوصيَ. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له : ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة :( إن ترك خيراً ) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين ديناراً وطاووساً حددها بثمانين ديناراً. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجاً عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال : إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعاً لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيراً نوعاً ما في ظرف قد يكون قليلاً لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم.
ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة :( إن ترك خيراً ) تعني : إن ترك مالاً كثيراً نوعاً ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث.
وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها ؛ لأن في ذلك إجحافاً لذي حقّ مكتسب ومنعاً للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييراً للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها.
وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها ؛ لأن الحال في الحالتين سيعود إلى والد أو والدة الحفيد، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» ٦. وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم.
ولقد أورد الطبري قولاً لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولاً لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثاً أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يُردّ من صدقة الحائفِ في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم.
وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه، وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقاً لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانياً أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴿ ٨ ﴾ ﴾ وإن هذه الآية تلهم جواز بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم.
وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون : إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية ؛ لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية.
وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف.
في الآيات : إيجاب الوصية على كل مسلم – حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال – لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق.
والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقه، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان، فاقتضت الحكمة تنزيل آيات المواريث الواردة في سورة النساء ؛ لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني.
ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية.
تعليق على آيات الوصية
ولقد اختلفت أقوال المفسرين ١ ومن رووا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه :«إن الله أعطى كل ذي حقّ حقّه وإنه لا وصيّة لوارث» ٢ قد نسختها. ومنهم من قال : إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال : إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء، ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام، ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور الخ الخ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلاّ لمشكلتهم وسدا لعوزهم ؛ لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حق وروعة وجلال.
والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى، ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ٣.
وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثاً نبويا جاء فيه :«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه :«من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه :«من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية».
وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه :«من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله معصية». وقولاً آخر جاء فيه :«فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين».
وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر ؛ حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم، حتى لقد ذهب بعضهم استناداً إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري.
ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال :«مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله إن لي مالا كثيراً ولا يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كلّه ؟ قال : لا. قلت : فبثلثيه ؟ قال : لا. قلت : فالشطر ؟ قال : لا. قلت : فالثلث ؟ قال : الثلث. والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أتدعهم عالة يتكفّفون الناس» ٤. وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه :«إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزّأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديداً» حيث يفيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الثلث فقط ٥.
وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به.
وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. منها أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم له يعوده فقال له : إني أريد أن أوصيَ، فقال له : لا توص فإنك لم تترك خيراً فتوصيَ. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له : ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة :( إن ترك خيراً ) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين ديناراً وطاووساً حددها بثمانين ديناراً. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجاً عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال : إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعاً لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيراً نوعاً ما في ظرف قد يكون قليلاً لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم.
ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة :( إن ترك خيراً ) تعني : إن ترك مالاً كثيراً نوعاً ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث.
وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها ؛ لأن في ذلك إجحافاً لذي حقّ مكتسب ومنعاً للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييراً للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها.
وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها ؛ لأن الحال في الحالتين سيعود إلى والد أو والدة الحفيد، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» ٦. وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم.
ولقد أورد الطبري قولاً لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولاً لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثاً أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يُردّ من صدقة الحائفِ في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم.
وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه، وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقاً لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانياً أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴿ ٨ ﴾ ﴾ وإن هذه الآية تلهم جواز بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم.
وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون : إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية ؛ لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية.
وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف.
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ [ ١ ] أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً [ ٢ ] الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٨٠ ﴾ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ١٨١ ﴾ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً [ ٣ ] أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٨٢ ﴾ ﴾
في الآيات : إيجاب الوصية على كل مسلم – حينما يدنو أجله وكان عنده فضل من مال – لوالديه ولأقاربه. وتنبيه على وجوب تنفيذ ذلك على وجه عادل من دون جنف على أحد وعلى الوجه المعروف بأنه الأفضل والأولى. وإنذار لمن يحرف أقوال الموصي أو يبدلها أو يكتمها أو يعطلها. وحثّ على الإصلاح بين ذوي العلاقة بالوصية إذا ما رئي من الموصي نية جنف أو إثم أو ظلم مخالفة للحق.
والآيات فصل جديد بأسلوب تشريعي كسابقه، ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة لنزولها وتلهم أنه لم يكن للآباء ولبعض طبقات الأقارب أنصبة معينة ومقررة في التركات وكان هؤلاء وأولئك عرضة للعوز والحرمان، فاقتضت الحكمة تنزيل آيات المواريث الواردة في سورة النساء ؛ لأن هذه الآيات عينت للآباء والأخوة والبنات أنصبة معينة في التركات وفي هذا كما هو المتبادر صورة تطورية للتنزيل القرآني.
ومن المحتمل أن يكون هذا الفصل قد نزل بعد فصل القصاص فوضع بعده، كما أن من المحتمل أن يكون وضعه بعده بسبب المماثلة التشريعية.
تعليق على آيات الوصية
ولقد اختلفت أقوال المفسرين ١ ومن رووا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مسألة نسخ هذه الآيات. فهناك من قال إن آيات المواريث الواردة في سورة النساء والحديث النبوي المشهور الذي جاء فيه :«إن الله أعطى كل ذي حقّ حقّه وإنه لا وصيّة لوارث» ٢ قد نسختها. ومنهم من قال : إنها لم تنسخ وإن حكمها قائم. ومنهم من قال : إن آيات المواريث والحديث النبوي قد نسخ الوصية للوارثين فقط دون غيرهم من الأقارب. والقول الأخير هو الأوجه كما هو المتبادر. ومن القرائن على استمرار حكم الوصية بعد نزول آيات المواريث في سورة النساء أن هذه الآيات كررت التنبيه على وجوب تنفيذ وصية الميت وأداء ما عليه من دين قبل توزيع التركة. وهناك كثير من طبقات الأقارب قد لا ينالهم من الإرث نصيب مثل الأخوة في حال وجود الأبناء الذكور والآباء، ومثل الأحفاد حينما يكون لهم أعمام، ومثل الأعمام والعمات والأخوال والخالات في حال وجود ورثة أقرب كالآباء والأبناء الذكور الخ الخ... حيث تكون الوصية لهؤلاء حلاّ لمشكلتهم وسدا لعوزهم ؛ لأنهم محجوبون عن الإرث وفي هذا ما فيه من حق وروعة وجلال.
والآية الأولى قوية التعبير حتى جعلت الوصية فرضا وحقا على من يتقي الله تعالى، ولعل هذا من مفردات التشريع الإسلامي وخصوصياته.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود حديثا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ٣.
وقد أورد الطبرسي في سياق تفسير الآيات حديثاً نبويا جاء فيه :«من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» وحديثا آخر جاء فيه :«من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته وعقله» وحديثا عن علي بن أبي طالب جاء فيه :«من لم يوص عند موته لذوي قرابته فقد ختم عمله بمعصية».
وقد أورد الطبري قولا عن الضحاك أحد علماء التابعين جاء فيه :«من مات ولم يوص لذوي قرابته فقد ختم عمله معصية». وقولاً آخر جاء فيه :«فإن لم يكن له قرابة فيوصي لفقراء المسلمين».
وفي كل ما تقدم من الروعة والجلال ما هو ظاهر ؛ حيث ينطوي في ذلك قصد إلى توزيع الثروة وعدم احتكارها في أيدي الورثة. وحضّ على عمل البرّ والخير وصلة الرحم، حتى لقد ذهب بعضهم استناداً إلى قوة الآيات والأحاديث إلى أن الذي يهمل الوصية يكون مضيعا لفرض من فروض الله تعالى على ما ذكره الطبري.
ولقد أثرت أحاديث وأقوال عن الحد الذي يجب فيه هذا الواجب، فهناك حديث نبوي مشهور رواه الخمسة عن سعد بن أبي وقاص قال :«مرضت عام الفتح مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت : يا رسول الله إن لي مالا كثيراً ولا يرثني إلا ابنتي، أفأوصي بمالي كلّه ؟ قال : لا. قلت : فبثلثيه ؟ قال : لا. قلت : فالشطر ؟ قال : لا. قلت : فالثلث ؟ قال : الثلث. والثلث كثير، إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أتدعهم عالة يتكفّفون الناس» ٤. وهناك حديث يرويه مسلم وأبو داود والنسائي عن عمران بن الحصين جاء فيه :«إن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزّأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديداً» حيث يفيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الثلث فقط ٥.
وهناك حديث يرويه القاسمي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب لوصية رجل بمال كثير ليتيم له وحدد له الثلث على الأكثر أو أقل مما أراد أن يوصي به.
وهناك أقوال يرويها ابن كثير والطبري وغيره من المفسرين عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم. منها أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم له يعوده فقال له : إني أريد أن أوصيَ، فقال له : لا توص فإنك لم تترك خيراً فتوصيَ. وكان ما عنده ما بين السبعمائة والتسعمائة درهم. ومنها أن رجلا استفتى عائشة وكان عنده أربعمائة دينار فقالت له : ما أرى فيها فضلا. ومنها أن قتادة حدد جملة :( إن ترك خيراً ) بألف درهم فما فوق. وأن ابن عباس حددها بستين ديناراً وطاووساً حددها بثمانين ديناراً. ومن المحتمل أن تكون تحديدات ابن عباس وطاووس بل وقتادة وعلي بعد ترتيب الأعطيات للمسلمين في زمن عمر وبعده بحيث يكون المبلغ المحدد خارجاً عن حاجة المسلم الضرورية. ومع هذا فيصح أن يقال : إن هذه المقادير عرضة للتبدل تبعاً لتبدل الظروف. وأن ما يعدّ كثيراً نوعاً ما في ظرف قد يكون قليلاً لا غناء فيه ولا يتحمل توصية في ظرف آخر والله تعالى أعلم.
ومهما يكن من أمر فالفهم العام الذي يستفاد من الأقوال ومن روح الآية أن جملة :( إن ترك خيراً ) تعني : إن ترك مالاً كثيراً نوعاً ما يتحمل فرز قسم منه لغير الورثة من الأقارب والمحتاجين. وفي هذا ما فيه من الحكمة والسداد بحيث يكون الحكم هو على أن الذين يتركون مثل هذا المال واجب الوصية على أن لا يكون أكثر من ثلث ما تركوه. وحديث المماليك الستة يفيد أن لولي أمر المسلمين وقاضيهم أن يمنع إجازة وصية تزيد عن الثلث.
وفي الآية الثانية إنذار لمن يبدلون الوصية أو يعطلون تنفيذها ؛ لأن في ذلك إجحافاً لذي حقّ مكتسب ومنعاً للخير والبرّ المنطويين في الوصية أو تغييراً للوجهة التي أحب صاحب الحق وهو صاحب المال أن يضع ماله فيها.
وروح الآية الثالثة وفحواها هما بسبيل منع الضرر من قبل الموصي ببعض ورثته أو تفضيل بعض على بعض بسائق من الحقد أو الهوى. وفي هذا ما فيه من حكمة وحق. ومن الأمثلة التي أوردها الطبري أن يوصي الأب لابن أحد أولاده دون غيره في حياة أبيه أو توصي المرأة لزوج إحدى بناتها ؛ لأن الحال في الحالتين سيعود إلى والد أو والدة الحفيد، وهما ورثة لا تجوز لهما الوصية ومن الممكن أن تورد أمثلة أخرى مماثلة. ولقد روى أبو داود والترمذي بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الرجل ليعمل أو المرأة لتعمل بطاعة الله تعالى ستين سنة ثم يحضرها الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار» ٦. وقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الجنف في الوصية من الكبائر» وهذا الحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية والله أعلم.
ولقد أورد الطبري قولاً لابن عباس بعدم جواز وإجازة الوصية التي فيها ضرر. وقولاً لقتادة أن للحاكم أن يردّ الوصية التي فيها الضرر ومجانبة للحق والعدل. وأورد ابن كثير حديثاً أخرجه ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يُردّ من صدقة الحائفِ في حياته ما يردّ من وصية المجنف عند موته. والحديث ليس من الصحاح ولكنه متطابق مع روح الآية أيضا والله أعلم.
وفي تفسير الطبري أقوال لبعض أهل العلم من التابعين في صدد نوع الموصى لهم. منها أن نصّ الآية يحصر الوصية للأقارب سواء أكانوا أغنياء أم فقراء وأن من الواجب الالتزام بذلك. ومنها ما يجيز الوصية لغير الأقارب في حالة وجود أقارب مع شرط أن يكون الأقارب من جملة الموصى لهم. وأن الموصي إذا وصّى لغير أقاربه، وكان له أقارب فيكون للحاكم أن ينتزع ثلثي ما وصّى به لغير أقاربه ويردّهما إلى الأقارب. وقد يكون القول الأول مطابقاً لحرفية الآية. غير أنه يجب أن يلاحظ أولا أن الوصية للأقارب في الآية كانت قبل نزول آيات المواريث وأنها بقيت محكمة للأقارب غير الورثة. وثانياً أن الأصل في الوصية لغير الورثة هو سدّ حاجة المحتاج منهم كما يلهمه سلك أولي القربى في سلك اليتامى والمساكين في آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴿ ٨ ﴾ ﴾ وإن هذه الآية تلهم جواز بل وجوب الوصية للمحتاجين من غير الأقارب أيضا والله تعالى أعلم.
وقد شجعت الفقرة الأخيرة من الآية الثالثة الوسطاء على التدخل بين الموصي الذي يريد بوصيته الضرر أو يخشى منه ذلك والإصلاح بينهم. وفي هذا ما فيه من حكمة سامية بسبيل منع الضرر وإقرار ما فيه الخير والمصلحة لمختلف الفرق. وقد قال المفسرون : إن هذا التشجيع مستمر المدى بعد موت الموصي أيضا بحيث يتدخل وسطاء الخير للإصلاح بين الورثة والموصى لهم حتى يزال الجنف والضرر اللذين يكونان في الوصية. وفي هذا وجاهة وصواب تؤيدهما جملة :﴿ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ بالنسبة للمتدخل للإصلاح حيث تنطوي على تبرئة الوسيط من إثم تبديل الوصية الذي أنذر به المبدلون لها في الآية الثانية ؛ لأن فعله بسبيل الخير والإصلاح الذي هو من أهداف الدعوة الإسلامية والمبادئ القرآنية والنبوية.
وعبارة الآية الثالثة يمكن أن تتناول أي مسلم قادر على الإصلاح كما يمكن أن تشمل ولي أمر المسلمين. وفي هذا ما فيه من توسيع فسحة الإصلاح ودفع الأذى والضرر والجنف.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى ١. وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضاً، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلاً تطوعياً لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره، وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه :«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ٢. وحديث ثان جاء فيه :«كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه » ٣ وفي رواية :«كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي ». وحديث ثالث جاء فيه :«قال أبو أمامة، قلت : يا رسول الله مرْني بأمر ينفعني الله به ؟ قال : عليك بالصيام فإنّه لا مثل له » ٤. وحديث رابع جاء فيه :«ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين » ٥. وحديث خامس جاء فيه :«ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ : وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين » ٦. وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد : وما تأخّر » ٧.
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلماً جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » ٨. وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر » ٩.
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات » ١٠. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة » ١١.
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » ١٢. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت :«إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاماً فقال : كلي، فقالت : إني صائمة. فقال : إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال : حتى يشبعُوا. وفي رواية : الصائم إذا أُكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة » ١٣.
وهناك حديث عن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي القرآن وفي رواية فيدارسُه القرآن، فإذا لقِيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة » ١٤.
وهناك حديث في صدد الإفطار عمداً رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه » ١٥.
ومع أن جملة :﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [ ٧٨ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- قال المفسّرون ورووا ١٦ في صدد جملة :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا : إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب ؛ وأن هذا مما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام رمضان وإن جملة ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الأولى في الآية [ ١٨٤ ] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
٣- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ عدة أقوال منها إن هناك محذوفاً مقدراً وهو ( لا ) قبل يطيقونه لأن في هذا بياناً لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ هو ( يتحملونه بجهد ومشقة ) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار، وأن ذلك نسخ بالآية [ ١٨٥ ] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ ﴾ فنسختها ١٧. ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون : إن حكم الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ باقٍ. وأوردوا حديثاً عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري :«ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان » ونصّ أبي داود :«هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا » ونصّ النسائي :«لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى » ١٨.
والمتبادر أن الفدي
٢ رواه النسائي وأحمد. انظر التاج، ٢/ ٤٢ وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعاً من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
٣ رواه الخمسة، التاج ٢/٤٣.
٤ رواه النسائي والحاكم، التاج ٢/ ٤٦.
٥ رواه الترمذي، التاج ٢/٤٦.
٦ التاج ٥/١٠٦-١٠٧.
٧ التاج ٢/٤٤.
٨ المصدر نفسه، ص: ٥٦-٥٧.
٩ انظر المصدر نفسه.
١٠ انظر المصدر نفسه، ص: ٢٢ و٢٤. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى.
١١ التاج ٢/٥٧.
١٢ التاج ٢/٥٧.
١٣ المصدر نفسه، ٥٧-٥٨.
١٤ المصدر نفسه، ٦٣.
١٥ المصدر نفسه، ص: ٦٣.
١٦ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعاباً الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتب وبخاصة من الطبري وابن كثير.
١٧ التاج ٢/٤٨ رواه الخمسة.
١٨ انظر المصدر نفسه، ص: ٧٠.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٣:﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ١٨٣ ﴾ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً [ ١ ] فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٨٤ ﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ١٨٥ ﴾ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿ ١٨٦ ﴾ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [ ٣ ] إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [ ٤ ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [ ٥ ] وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ ٦ ] ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿ ١٨٧ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى ١. وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضاً، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلاً تطوعياً لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره، وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه :«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ٢. وحديث ثان جاء فيه :«كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه » ٣ وفي رواية :«كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي ». وحديث ثالث جاء فيه :«قال أبو أمامة، قلت : يا رسول الله مرْني بأمر ينفعني الله به ؟ قال : عليك بالصيام فإنّه لا مثل له » ٤. وحديث رابع جاء فيه :«ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين » ٥. وحديث خامس جاء فيه :«ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ : وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين » ٦. وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد : وما تأخّر » ٧.
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلماً جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » ٨. وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر » ٩.
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات » ١٠. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة » ١١.
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » ١٢. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت :«إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاماً فقال : كلي، فقالت : إني صائمة. فقال : إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال : حتى يشبعُوا. وفي رواية : الصائم إذا أُكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة » ١٣.
وهناك حديث عن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي القرآن وفي رواية فيدارسُه القرآن، فإذا لقِيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة » ١٤.
وهناك حديث في صدد الإفطار عمداً رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه » ١٥.
ومع أن جملة :﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [ ٧٨ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- قال المفسّرون ورووا ١٦ في صدد جملة :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا : إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب ؛ وأن هذا مما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام رمضان وإن جملة ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الأولى في الآية [ ١٨٤ ] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
٣- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ عدة أقوال منها إن هناك محذوفاً مقدراً وهو ( لا ) قبل يطيقونه لأن في هذا بياناً لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ هو ( يتحملونه بجهد ومشقة ) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار، وأن ذلك نسخ بالآية [ ١٨٥ ] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ ﴾ فنسختها ١٧. ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون : إن حكم الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ باقٍ. وأوردوا حديثاً عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري :«ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان » ونصّ أبي داود :«هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا » ونصّ النسائي :«لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى » ١٨.
والمتبادر أن الفدي
٢ رواه النسائي وأحمد. انظر التاج، ٢/ ٤٢ وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعاً من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
٣ رواه الخمسة، التاج ٢/٤٣.
٤ رواه النسائي والحاكم، التاج ٢/ ٤٦.
٥ رواه الترمذي، التاج ٢/٤٦.
٦ التاج ٥/١٠٦-١٠٧.
٧ التاج ٢/٤٤.
٨ المصدر نفسه، ص: ٥٦-٥٧.
٩ انظر المصدر نفسه.
١٠ انظر المصدر نفسه، ص: ٢٢ و٢٤. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى.
١١ التاج ٢/٥٧.
١٢ التاج ٢/٥٧.
١٣ المصدر نفسه، ٥٧-٥٨.
١٤ المصدر نفسه، ٦٣.
١٥ المصدر نفسه، ص: ٦٣.
١٦ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعاباً الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتب وبخاصة من الطبري وابن كثير.
١٧ التاج ٢/٤٨ رواه الخمسة.
١٨ انظر المصدر نفسه، ص: ٧٠.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٣:﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ١٨٣ ﴾ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً [ ١ ] فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٨٤ ﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ١٨٥ ﴾ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿ ١٨٦ ﴾ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [ ٣ ] إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [ ٤ ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [ ٥ ] وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ ٦ ] ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿ ١٨٧ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى ١. وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضاً، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلاً تطوعياً لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره، وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه :«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ٢. وحديث ثان جاء فيه :«كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه » ٣ وفي رواية :«كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي ». وحديث ثالث جاء فيه :«قال أبو أمامة، قلت : يا رسول الله مرْني بأمر ينفعني الله به ؟ قال : عليك بالصيام فإنّه لا مثل له » ٤. وحديث رابع جاء فيه :«ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين » ٥. وحديث خامس جاء فيه :«ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ : وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين » ٦. وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد : وما تأخّر » ٧.
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلماً جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » ٨. وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر » ٩.
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات » ١٠. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة » ١١.
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » ١٢. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت :«إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاماً فقال : كلي، فقالت : إني صائمة. فقال : إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال : حتى يشبعُوا. وفي رواية : الصائم إذا أُكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة » ١٣.
وهناك حديث عن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي القرآن وفي رواية فيدارسُه القرآن، فإذا لقِيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة » ١٤.
وهناك حديث في صدد الإفطار عمداً رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه » ١٥.
ومع أن جملة :﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [ ٧٨ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- قال المفسّرون ورووا ١٦ في صدد جملة :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا : إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب ؛ وأن هذا مما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام رمضان وإن جملة ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الأولى في الآية [ ١٨٤ ] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
٣- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ عدة أقوال منها إن هناك محذوفاً مقدراً وهو ( لا ) قبل يطيقونه لأن في هذا بياناً لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ هو ( يتحملونه بجهد ومشقة ) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار، وأن ذلك نسخ بالآية [ ١٨٥ ] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ ﴾ فنسختها ١٧. ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون : إن حكم الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ باقٍ. وأوردوا حديثاً عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري :«ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان » ونصّ أبي داود :«هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا » ونصّ النسائي :«لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى » ١٨.
والمتبادر أن الفدي
٢ رواه النسائي وأحمد. انظر التاج، ٢/ ٤٢ وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعاً من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
٣ رواه الخمسة، التاج ٢/٤٣.
٤ رواه النسائي والحاكم، التاج ٢/ ٤٦.
٥ رواه الترمذي، التاج ٢/٤٦.
٦ التاج ٥/١٠٦-١٠٧.
٧ التاج ٢/٤٤.
٨ المصدر نفسه، ص: ٥٦-٥٧.
٩ انظر المصدر نفسه.
١٠ انظر المصدر نفسه، ص: ٢٢ و٢٤. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى.
١١ التاج ٢/٥٧.
١٢ التاج ٢/٥٧.
١٣ المصدر نفسه، ٥٧-٥٨.
١٤ المصدر نفسه، ٦٣.
١٥ المصدر نفسه، ص: ٦٣.
١٦ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعاباً الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتب وبخاصة من الطبري وابن كثير.
١٧ التاج ٢/٤٨ رواه الخمسة.
١٨ انظر المصدر نفسه، ص: ٧٠.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى ١. وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضاً، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلاً تطوعياً لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره، وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه :«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ٢. وحديث ثان جاء فيه :«كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه » ٣ وفي رواية :«كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي ». وحديث ثالث جاء فيه :«قال أبو أمامة، قلت : يا رسول الله مرْني بأمر ينفعني الله به ؟ قال : عليك بالصيام فإنّه لا مثل له » ٤. وحديث رابع جاء فيه :«ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين » ٥. وحديث خامس جاء فيه :«ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ : وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين » ٦. وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد : وما تأخّر » ٧.
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلماً جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » ٨. وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر » ٩.
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات » ١٠. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة » ١١.
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » ١٢. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت :«إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاماً فقال : كلي، فقالت : إني صائمة. فقال : إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال : حتى يشبعُوا. وفي رواية : الصائم إذا أُكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة » ١٣.
وهناك حديث عن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي القرآن وفي رواية فيدارسُه القرآن، فإذا لقِيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة » ١٤.
وهناك حديث في صدد الإفطار عمداً رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه » ١٥.
ومع أن جملة :﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [ ٧٨ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- قال المفسّرون ورووا ١٦ في صدد جملة :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا : إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب ؛ وأن هذا مما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام رمضان وإن جملة ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الأولى في الآية [ ١٨٤ ] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
٣- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ عدة أقوال منها إن هناك محذوفاً مقدراً وهو ( لا ) قبل يطيقونه لأن في هذا بياناً لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ هو ( يتحملونه بجهد ومشقة ) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار، وأن ذلك نسخ بالآية [ ١٨٥ ] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ ﴾ فنسختها ١٧. ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون : إن حكم الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ باقٍ. وأوردوا حديثاً عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري :«ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان » ونصّ أبي داود :«هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا » ونصّ النسائي :«لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى » ١٨.
والمتبادر أن الفدي
٢ رواه النسائي وأحمد. انظر التاج، ٢/ ٤٢ وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعاً من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
٣ رواه الخمسة، التاج ٢/٤٣.
٤ رواه النسائي والحاكم، التاج ٢/ ٤٦.
٥ رواه الترمذي، التاج ٢/٤٦.
٦ التاج ٥/١٠٦-١٠٧.
٧ التاج ٢/٤٤.
٨ المصدر نفسه، ص: ٥٦-٥٧.
٩ انظر المصدر نفسه.
١٠ انظر المصدر نفسه، ص: ٢٢ و٢٤. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى.
١١ التاج ٢/٥٧.
١٢ التاج ٢/٥٧.
١٣ المصدر نفسه، ٥٧-٥٨.
١٤ المصدر نفسه، ٦٣.
١٥ المصدر نفسه، ص: ٦٣.
١٦ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعاباً الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتب وبخاصة من الطبري وابن كثير.
١٧ التاج ٢/٤٨ رواه الخمسة.
١٨ انظر المصدر نفسه، ص: ٧٠.
[ ٤ ] تختانون أنفسكم : تخونون أنفسكم وتظلمونها.
[ ٥ ] باشروهن : كناية عن الجماع أيضا.
[ ٦ ] حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر : كناية عن بزوغ الفجر الصادق الذي يفرق بين ظلمة الليل وضوء النهار، ويساعد على التمييز بين الأبيض والأسود.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٨٣:﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿ ١٨٣ ﴾ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً [ ١ ] فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ١٨٤ ﴾ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ١٨٥ ﴾ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴿ ١٨٦ ﴾ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ [ ٣ ] إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ [ ٤ ] فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ [ ٥ ] وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ ٦ ] ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴿ ١٨٧ ﴾ ﴾.
تعليقات على آيات الصيام مع شروح متنوعة في صدد الصيام ورمضان
الآيات تحتوي فرض الصيام وحدوده وفوائده ورخصه، وعبارتها واضحة وهي فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد فصل الوصية التشريعي فوضعت بعده، أو أن تكون وضعت بعده للمماثلة التشريعية كما كان الأمر بالنسبة للآيات السابقة.
والصيام من العبادات الرياضية الروحية القائمة على حرمان الجسم في سبيل تصفية النفس، وهو ممارس على أشكال متنوعة منذ الأزمنة القديمة ومفروض على اليهود والنصارى، وهذا ما أشارت إليه الآية الأولى ١. وكثير من الأمم غير الكتابية تمارسه أيضاً، ومما لا ريب فيه أن لهذه العبادة الرياضية الروحية إلهامات ومزايا وفضائل سواء في تعويدها الصائمين تحمّل الحرمان تحمّلاً تطوعياً لا رقيب عليه ولا محاسب إلا إيمان الصائم وضميره، وما في هذا من وسيلة لتصفية النفس وتقوية الروح والإرادة ومغالبة الأهواء وكبح الشهوات. أم في تذكيرها بالمحرومين وما يقاسونه من آلام العوز والحرمان وما يؤدي هذا إليه من رقة النفس وإثارة الرغبة في البرّ والخير والمعونة والإحسان. فلا غرو أن يكون من فرائض الإسلام الذي انطوت فيه الدعوة إلى كل فضيلة ومكرمة وإلى قيام الإنسان بواجباته نحو الله والناس بكل وسيلة ومناسبة، ثم إلى كبح جماح الشهوات وتصفية النفس وإعدادها لتلقي فيض الله ومدده وروحانيته.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة في فضل الصيام وآدابه فيها الترغيب والبشرى والحضّ والتشجيع. منها حديث جاء فيه :«إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه » ٢. وحديث ثان جاء فيه :«كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربّه فرح بصومه » ٣ وفي رواية :«كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عزّ وجلّ : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به من يدع شهواته وطعامه لأجلي ». وحديث ثالث جاء فيه :«قال أبو أمامة، قلت : يا رسول الله مرْني بأمر ينفعني الله به ؟ قال : عليك بالصيام فإنّه لا مثل له » ٤. وحديث رابع جاء فيه :«ألا أدلّك على أبواب الخير : الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل شعار الصالحين » ٥. وحديث خامس جاء فيه :«ثلاثة لا تردّ دعوتهم : الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربّ : وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين » ٦. وحديث رواه الخمسة وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر الله ما تقدّم من ذنبه، وفي رواية أحمد : وما تأخّر » ٧.
وهناك حديثان مهمّان في صدد آداب الصائم وأخلاقه أحدهما رواه الخمسة إلا مسلماً جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه » ٨. وثانيهما رواه ابن ماجه وأحمد والحاكم جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : ربّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، وربّ قائم ليس له من قيامه إلا السهر » ٩.
ولقد اقتضت حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشريع زكاة الفطر لتكون مطهرة للصائمين مما قد يكونون ألموا به أثناء صومهم من هفوات حيث روى أبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات » ١٠. وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحرّ والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة » ١١.
وهناك أحاديث في فضل إطعام الطعام في رمضان والحثّ عليه، منها حديث رواه الترمذي وأحمد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فطّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً » ١٢. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أم عمارة قالت :«إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقدمت له طعاماً فقال : كلي، فقالت : إني صائمة. فقال : إنّ الصائم تصلّي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، وربّما قال : حتى يشبعُوا. وفي رواية : الصائم إذا أُكل عنده المفاطير صلّت عليه الملائكة » ١٣.
وهناك حديث عن وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة في رمضان ومدارسته القرآن مع جبريل فيه رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي القرآن وفي رواية فيدارسُه القرآن، فإذا لقِيَه كان أجود بالخير من الريح المرسلة » ١٤.
وهناك حديث في صدد الإفطار عمداً رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخّصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر وإن صامه » ١٥.
ومع أن جملة :﴿ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ هي في صدد الصوم وسياقه فإن إطلاقها ينطوي على تلقين عام يشمل مختلف شؤون المسلمين الدينية. ولقد علقنا على هذا المعنى في سياق الآية [ ٧٨ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي كتب التفسير روايات وأقوال عن أهل التأويل وأئمة الفقه في صدد آيات الصيام وأحكامه نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- قال المفسّرون ورووا ١٦ في صدد جملة :﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾ إن صيام رمضان كان هو المفروض على أهل الكتاب وإن ذلك متصل بسنة إبراهيم وإن الصيام كان يبدأ من النوم بعد الإفطار إلى عتمة اليوم التالي. وإن ذلك شقّ عليهم فغيروا وبدّلوا كما قالوا : إن الصيام كتب على المسلمين كما كتب على كل الناس وإن الصيام الأول كان ثلاثة أيام من كل شهر. وليس لما قالوه سند وثيق، والذي يتبادر لنا أن القصد من العبارة هو المماثلة، فقد كان لليهود والنصارى ولغيرهم أوقات صيام معينة فأشير إلى ذلك في سياق فرض الصيام على المسلمين.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ إن الصيام فرض لأول مرة ثلاثة أيام من كل شهر وكان هذا مما فرض على أهل الكتاب ؛ وأن هذا مما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تطوعا ثم فرضا ثم نسخ بفرض شهر رمضان. ومما قالوه ورووه أيضا أن جملة :﴿ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ ﴾ هي أيام رمضان وإن جملة ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ هي بدل بياني لتلك الأيام وليست ناسخة. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه وأن جملة ﴿ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ الأولى في الآية [ ١٨٤ ] قرينة على ذلك لأنها تفيد أن الأيام المعدودة معينة العين.
٣- وقالوا ورووا في صدد جملة :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ﴾ عدة أقوال منها إن هناك محذوفاً مقدراً وهو ( لا ) قبل يطيقونه لأن في هذا بياناً لحكمة الرخصة والفدية. ومنها إن معنى ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ هو ( يتحملونه بجهد ومشقة ) وهم الشيوخ والمرضى الذين لا يرجى برؤهم. ومنهم من أدخل معهم الحبالى والمرضعات إذا خفن على أنفسهن. ومنها إن الصيام فرض في البدء على التخيير فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا مع التنبيه الرباني على أن الصيام هو خير من الإفطار، وأن ذلك نسخ بالآية [ ١٨٥ ] التي خلت من رخصة الإفطار وأوجبت الصوم على من شهد الشهر وقصرت الرخصة على المريض والمسافر بشرط القضاء. ولقد جاء في هذا الصدد حديث عن سلمة بن الأكوع جاء فيه أنه لما نزلت ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل حتى نزلت الآية التي بعدها :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ [ ٢ ] فَلْيَصُمْهُ ﴾ فنسختها ١٧. ومع ذلك فإن بعض المفسرين لا يسلمون بأن هذه الآية نسخت ما قبلها ويقولون : إن حكم الآية :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ باقٍ. وأوردوا حديثاً عن ابن عباس رواه البخاري وأبو داود والنسائي بنصوص ثانية. ونصّ البخاري :«ليست منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان » ونصّ أبي داود :«هي رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة. وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا » ونصّ النسائي :«لا يرخّص إلا للذي لا يطيق الصيام أو مريض لا يُشفى » ١٨.
والمتبادر أن الفدي
٢ رواه النسائي وأحمد. انظر التاج، ٢/ ٤٢ وكثير من أهل الملل الأخرى كانت قبل الإسلام وما زالت تمارس نوعاً من الصوم كما يستفاد من مدوناتها.
٣ رواه الخمسة، التاج ٢/٤٣.
٤ رواه النسائي والحاكم، التاج ٢/ ٤٦.
٥ رواه الترمذي، التاج ٢/٤٦.
٦ التاج ٥/١٠٦-١٠٧.
٧ التاج ٢/٤٤.
٨ المصدر نفسه، ص: ٥٦-٥٧.
٩ انظر المصدر نفسه.
١٠ انظر المصدر نفسه، ص: ٢٢ و٢٤. والمراد بالصلاة صلاة العيد وفي التاج حديثان في صدد مقدار الزكاة أحدهما عن ابن عباس يذكر أن الزكاة صاع من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح حيث يبدو أن القمح كان أغلى من الشعير والتمر. وثانيهما يذكر أن عليا رضي الله عنه قال: أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعاً من كل شيء. وطبيعي أن هذا المقدار هو الحدّ الأدنى.
١١ التاج ٢/٥٧.
١٢ التاج ٢/٥٧.
١٣ المصدر نفسه، ٥٧-٥٨.
١٤ المصدر نفسه، ٦٣.
١٥ المصدر نفسه، ص: ٦٣.
١٦ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير في تفسير الآيات، وأكثرهم استيعاباً الطبري وابن كثير. وجميع ما أوردناه في النبذ مقتبس من هذه الكتب وبخاصة من الطبري وابن كثير.
١٧ التاج ٢/٤٨ رواه الخمسة.
١٨ انظر المصدر نفسه، ص: ٧٠.
فريقاً : هنا بمعنى قسماً أو بعضاً.
في الآية نهي موجه للسامعين المخاطبين عن أكل أموال بعضهم بالباطل أو التوسل بها مع الحكام بقصد أكل شيء من أموال بعضهم بغير حقّ وعن عمد وعلم وبيان ما في ذلك من إثم.
تعليق على الآية
﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ الخ ﴾
والآية فصل تشريعي جديد كما هو ظاهر، وقد تلهم روحها أن الخطاب فيها موجه إلى المؤمنين ؛ وإن كان إطلاقه يفيد تلقيناً مستمر المدى وشاملاً لجميع الناس، وقد يكون هذا الفصل نزل بعد فصل الصيام فوضع بعده أو يكون ذلك للمماثلة التشريعية.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية نزلت في مناسبة شكاية أحد المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم على آخر غصب له أرضاً. فكلفه بإقامة البينة فعجز فكلّف المدعى عليه باليمين فهمّ بأن يحلف فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«أمّا إنه إن حلف على ما ليس له ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض. ثم قال : إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن ٢ بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضي له قطعة من نار فليتحمّلها أو يذرها ». فارتدع المدعى عليه عن اليمين وسلّم الأرض إلى صاحبها المدعي فلم تلبث أن نزلت الآية.
وفي الكتب الخمسة ثلاثة أحاديث فيها ما جاء في رواية الخازن مع زيادات موضحة مفيدة دون أن يذكر فيها أن الآية نزلت في المناسبة المذكورة في رواية الخازن.
أولها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي جاء فيه :«جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرميّ : يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي : هي أرضي في يدي أزرعها وليس له فيها حق. فقال النبي للحضرميّ : ألك بيّنة ؟ قال : لا. قال : فلك يمين ؟ قال : يا رسول الله إنه فاجر لا يبالي بما حلف ليس يتورّع عن شيء. فقال : ليس لك منه إلا ذلك. فانطلق الرجل ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن حلف على مالك ليأكله ظلما ليلقينّ الله وهو عنه معرض » ٣. وثانيهما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت :«أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما ليست لهما بيّنة إلا دعواهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. فبكى الرجلان وقال كلّ منهما : حقّي لك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخّيا الحق ثم استهما ثم تحالاّ. وفي رواية : إنما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه » ٤. وثالثهما حديث عن أم سلمة يرويه الخمسة جاء فيه :«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار » ٥.
ومهما يكن من أمر فإن الآية قد تلهم أنها نزلت بسبب حادث مشابه لما جاء في رواية الخازن أو الحديثين الأولين. وقد جاءت بصيغة عامة فيكون التوجيه أو التلقين الذي احتوته هدى للمسلمين في كل زمن وزاجراً لهم عن الارتكاس فيما نهت عنه إيماناً ويقيناً وتقوى.
وينطوي في الآية النهي عن شهادة الزور والتزوير والحجة الباطلة المزوقة والدعوى المنمقة الخادعة التي تصور الحق باطلا والباطل حقا عن عمد وعلم، بل وينطوي فيها نهي عن استحلال المسلم مال أخيه بأية وسيلة من وسائل الباطل من غشّ وتغرير وكذب وغبن وافتعال وأيمان وقمار وسرقة ورشوة وخيانة الخ.
وقوة الزجر والتوجيه في الآية ملموحة ومتسقة مع شدة اهتمام القرآن لإقرار الحق وتوطيده وقيام العدل والإنصاف بين الناس والزجر عن الباطل والبغي والاحتيال والتزوير وتقبيح كل ذلك. وهذه القوة منطوية في الأحاديث النبوية حيث يتساوق التلقين القرآني والنبوي في هذا الأمر كما يتساوق في جميع الأمور.
ولقد رأى بعض المفسرين في تعبير ﴿ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ ﴾ معنى الرشوة والقصد إليها. وهذا المعنى أو القصد منطوٍ في الآية سواء أدلّ هذا التعبير بالذات عليه أو لم يدلّ. وفي هذا أيضاً يتساوق التلقين القرآني مع التلقين النبوي ؛ حيث روى أبو داود وأحمد والترمذي حديثاً عن أبي هريرة جاء فيه :«لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي في الحكم » ٦.
٢ أحذق وأبلغ في الكلام وتنميقه.
٣ التاج ٣/٥٤.
٤ المصدر نفسه، ص: ٥٣ و٦١.
٥ نفسه.
٦ التاج ٣/٥٠.
[ ١ ] الأهلة : جمع هلال. ومع ذلك فإن المتبادر أنها تعني حركات القمر وصوره خلال الشهر وتوالي ذلك شهراً بعد شهر.
في الآية :
١- حكاية لسؤال وجّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة بأنها تنظيم مواقيت الناس وحساب أيامهم ولأجل معرفة مواقيت الحج أيضا.
٣- وتنبيه للسائلين أو السامعين إلى أنه ليس في دخول البيوت من ظهورها برّ حقيقي مقرّب إلى الله، وإنما البرّ الحقيقي هو تقوى الله والتزام حدوده، وأمر لهم بدخول البيوت من أبوابها وبتقوى الله ليتمّ لهم الفلاح والسعادة.
والآية فصل جديد آخر، وعليه سمة تشريعية، ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد سابقتها فوضعت بعدها، أو أنها وضعت بعدها للمماثلة التشريعية.
وقد روى المفسرون ١ أن شطر الآية الأول نزل بمناسبة سؤال عن الحكمة في تبدل حالات القمر وأسرار ذلك، وأن شطرها الثاني نزل جواباً على سؤال آخر عن الحكم في تقليد من تقاليد الحج القديمة. وذلك أن العرب أو أهل يثرب كانوا حينما ينوون الحج ويحرمون له يحرمون على أنفسهم الاستظلال بسقف ما، فإذا ما احتاجوا إلى شيء في بيوتهم، أو أرادوا أن يدخلوا لبيوتهم فلا يدخلونها من الأبواب لئلا يظللهم السقف وإنما يصعدون إلى السطوح وينزلون منها إلى فناء البيت أو يخرقون خرقاً في الجدار.
وهناك حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء جاء فيه :«كانوا في الجاهلية إذا أحرموا أتوا البيت من ظهره فأنزل الله تعالى :﴿ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا ﴾ ». ولفظ مسلم :«كانت الأنصار إذا حجّوا ورجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه فلاموه فنزلت الآية.
ومهما يكن من أمر فالمتبادر أن الآية نزلت في مناسبة سؤالات في صدد ما ذكر فيها. ويتبادر لنا أن المسألتين عرضتا على النبي صلى الله عليه وسلم أو سئل عنهما في ظرف واحد قبل نزول الآية فنزلت الآية للإجابة عليهما معاً، والتناسب ملموح بين المسألتين كما هو ظاهر مما قد يدعم ذلك.
ويلوح لنا خاطر في صدد ( السؤال عن الأهلة ) إذا كان أراد السائل حقا كما روي معرفة أسرار تقلّب حالات القمر ونواميسه. وهو أن الجواب القرآني جاء على طريقة أسلوب الحكيم. فالسائل سأل عن السرّ فأجيب بما هو مفيد له وللناس من حكمة ذلك، وينطوي في هذا إذا صح الخاطر اهتمام القرآن ببيان المفيد الحكيم والتجاوز عما لا حاجة إلى بيانه أو لا طائل من بيانه من النواميس الكونية ٢.
والشطر الثاني من الآية ينطوي على إلغاء ذلك التقليد لما فيه من مشقة وعبث لا فائدة له. مقررا أنه ليس فيه شيء من البرّ، ومنبها إلى أن تقوى الله هي الجوهرية ووسيلة البرّ والفلاح الحقيقية.
وهذا متسق مع ما شرحناه في سورة الحج من حكمة الإبقاء على تقاليد الحج القديمة حيث ألغي منها ما فيه قبح أو عبث وجرّد ما أبقي عليه من شوائب الوثنية والشرك.
وهكذا يكون قد انطوى في هذا الشطر وهو يلغي هذا التقليد حكمة تشريعية من جهة وتلقين جليل مستمرّ المدى بأن الجوهري والبرّ الحقيقي عند الله هو تقواه والتزام حدوده دون الأشكال والأعراض والمظاهر، وهو ما انطوى في آيات عديدة سبق تفسيرها وبخاصة آية سورة البقرة [ ١٧٧ ].
٢ رأينا القاسمي يورد هذا الخاطر أيضا ولم نكن اطلعنا عليه قبل.
في الآيات :
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءاً وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون ؛ حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ وعليهم في هذه الحال أيضاً أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين ؛ لأن في التقصير فيهما تعريضاً لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٩٥ ]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريراً حيث قالت : إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقاً للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصاً لهم.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام، فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جواباً على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحداً غير عدو وغير معتدٍ بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد أوشرط، ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الاتفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعاً للاشتباك الفعلي، وحيث يكون التقصير في ذلك معرضاً للتهلكة والخطر.
٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سبباً مبرراً لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [ ٣٩-٤٣ ] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول : إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة :﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم : إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيداً حيث قال له :﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [ النساء : ٨٤ ] وإن جملة :«﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه ؛ لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة » ١. وفي سورة التوبة هذه الآية :﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ { ٩٢ ﴾ } وتنطوي على صورة مألوفة دائما، وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائماً وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه مولاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [ ٢٦١ ] وآية سورة الحجرات [ ١٥ ] وآية سورة محمد [ ٣٨ ] وآية سورة التوبة [ ٨٨ ] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة :﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ ١٩٠ ] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي :( من ألقى إليكم السلم وكف يده ) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري –الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلاً لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق، وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [ ٩٠-٩١ ] وسورة الممتحنة [ ٨-٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين ٢ عزواً إلى بعض التابعين أن كلمة ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ يعني الا
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٠:﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴿ ١٩٠ ﴾ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [ ١ ] وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿ ١٩١ ﴾ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٢ ﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿ ١٩٣ ﴾ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ [ ٢ ] قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ١٩٥ ﴾ ﴾.
في الآيات :
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءاً وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون ؛ حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ وعليهم في هذه الحال أيضاً أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين ؛ لأن في التقصير فيهما تعريضاً لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٩٥ ]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريراً حيث قالت : إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقاً للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصاً لهم.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام، فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جواباً على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحداً غير عدو وغير معتدٍ بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد أوشرط، ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الاتفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعاً للاشتباك الفعلي، وحيث يكون التقصير في ذلك معرضاً للتهلكة والخطر.
٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سبباً مبرراً لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [ ٣٩-٤٣ ] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول : إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة :﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم : إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيداً حيث قال له :﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [ النساء : ٨٤ ] وإن جملة :«﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه ؛ لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة » ١. وفي سورة التوبة هذه الآية :﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ ﴾ وتنطوي على صورة مألوفة دائما، وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائماً وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه مولاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [ ٢٦١ ] وآية سورة الحجرات [ ١٥ ] وآية سورة محمد [ ٣٨ ] وآية سورة التوبة [ ٨٨ ] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة :﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ ١٩٠ ] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي :( من ألقى إليكم السلم وكف يده ) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري –الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلاً لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق، وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [ ٩٠-٩١ ] وسورة الممتحنة [ ٨-٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين ٢ عزواً إلى بعض التابعين أن كلمة ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ يعني الا
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
في الآيات :
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءاً وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون ؛ حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ وعليهم في هذه الحال أيضاً أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين ؛ لأن في التقصير فيهما تعريضاً لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٩٥ ]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريراً حيث قالت : إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقاً للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصاً لهم.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام، فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جواباً على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحداً غير عدو وغير معتدٍ بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد أوشرط، ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الاتفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعاً للاشتباك الفعلي، وحيث يكون التقصير في ذلك معرضاً للتهلكة والخطر.
٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سبباً مبرراً لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [ ٣٩-٤٣ ] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول : إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة :﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم : إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيداً حيث قال له :﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [ النساء : ٨٤ ] وإن جملة :«﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه ؛ لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة » ١. وفي سورة التوبة هذه الآية :﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ ﴾ وتنطوي على صورة مألوفة دائما، وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائماً وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه مولاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [ ٢٦١ ] وآية سورة الحجرات [ ١٥ ] وآية سورة محمد [ ٣٨ ] وآية سورة التوبة [ ٨٨ ] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة :﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ ١٩٠ ] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي :( من ألقى إليكم السلم وكف يده ) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري –الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلاً لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق، وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [ ٩٠-٩١ ] وسورة الممتحنة [ ٨-٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين ٢ عزواً إلى بعض التابعين أن كلمة ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ يعني الا
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
في الآيات :
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءاً وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون ؛ حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ وعليهم في هذه الحال أيضاً أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين ؛ لأن في التقصير فيهما تعريضاً لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٩٥ ]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريراً حيث قالت : إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقاً للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصاً لهم.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام، فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جواباً على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحداً غير عدو وغير معتدٍ بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد أوشرط، ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الاتفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعاً للاشتباك الفعلي، وحيث يكون التقصير في ذلك معرضاً للتهلكة والخطر.
٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سبباً مبرراً لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [ ٣٩-٤٣ ] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول : إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة :﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم : إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيداً حيث قال له :﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [ النساء : ٨٤ ] وإن جملة :«﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه ؛ لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة » ١. وفي سورة التوبة هذه الآية :﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ ﴾ وتنطوي على صورة مألوفة دائما، وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائماً وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه مولاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [ ٢٦١ ] وآية سورة الحجرات [ ١٥ ] وآية سورة محمد [ ٣٨ ] وآية سورة التوبة [ ٨٨ ] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة :﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ ١٩٠ ] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي :( من ألقى إليكم السلم وكف يده ) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري –الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلاً لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق، وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [ ٩٠-٩١ ] وسورة الممتحنة [ ٨-٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين ٢ عزواً إلى بعض التابعين أن كلمة ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ يعني الا
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٩٠:﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ﴿ ١٩٠ ﴾ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [ ١ ] وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ ﴿ ١٩١ ﴾ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٢ ﴾ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿ ١٩٣ ﴾ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ [ ٢ ] قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴿ ١٩٤ ﴾ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿ ١٩٥ ﴾ ﴾.
في الآيات :
١- أمر للمسلمين بمقاتلة الذين يقاتلونهم في سبيل الله.
٢- ونهي عن العدوان بدءاً وتجاوز الحد في القتال فإن الله لا يحب المعتدين.
٣- وتحريض لهم على قتال الذين يقاتلونهم في أي زمن ومكان أصابوهم ووجدوهم وإخراجهم من ديارهم كما أخرجوهم.
٤- وتنبيه إلى أن الفتنة هي أشد من القتل. وينطوي في هذه الجملة تقرير كونها مما يبيح قتال الذين يقترفون الفتنة.
٥- ونهي عن قتالهم في منطقة المسجد الحرام إلا إذا قاتلوهم فيها فيكون قتالهم فيها جزاء استحقه الكافرون ؛ حيث يكونون هم البادئون في خرق حرمة المنطقة المحرمة.
٦- وأمر للمسلمين بالتوقف عن قتال الكفار إذا هم انتهوا فإن الله غفور لمن تاب وارتدع ورحيم شامل الرحمة.
٧- وأمر آخر لهم بقتال الكفار حتى لا تبقى فتنة ويكون الدين لله.
٨- وإيجاب الانتهاء من القتال إذا ما انتهى الكفار عن موقفهم.
٩- ونهي عن استئناف القتال من جانبهم إلا ضدّ المعتدي الظالم.
١٠- وإذن لهم بمقابلة العدوان بمثله، فإذا اعتدي عليهم في الشهر الحرام أو في المنطقة الحرام فلهم أن يقابلوا العدوان بمثله وفي مكانه وزمانه وهذا معنى جملة ﴿ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ﴾ وعليهم في هذه الحال أيضاً أن يتقوا الله فلا يتجاوزوا الحدود فإن الله مع الذين يتقونه ويراقبونه في أعمالهم.
١١- وأمر لهم بالإنفاق في سبيل الله والاستعداد للعدو والإحسان والإتقان في كلا الأمرين ؛ لأن في التقصير فيهما تعريضاً لأنفسهم للهلاك، وتقرير بأن الله يحب المحسنين ويؤيدهم.
تعليقات على الآية
﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
وما بعدها إلى آخر الآية [ ١٩٥ ]
والآيات فصل جديد، وسمة التشريع بارزة عليها. ووضعها في ترتيبها إما بسبب نزولها بعد سابقتها أو للمماثلة التشريعية.
ولقد روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآيات ونزولها. منها أن الآية الأولى هي أولى آية نزلت في القتال، وأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أمروا بها بقتال من يقاتلهم والكفّ عمن يكفّ عنهم فالتزموا بذلك في بدء عهدهم حتى نسخ الله ذلك في آيات سورة براءة. ومنها أنها نزلت حين اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون زيارة الكعبة في السنة الهجرية السادسة ومنعهم المشركون فأمرهم الله فيها بقتال من يقاتلهم. وأن الآية الثالثة نزلت في مناسبة قتل مسلم لرجل كافر في الشهر الحرام وعيب الكفار ذلك، فتضمنت تبريراً حيث قالت : إن الكفار يفتنون المؤمنين في الشهر الحرام وفي المسجد الحرام وهذا أشد خرقاً للحرمة من القتل والقتال فيهما. ومنها أن الآية الرابعة نزلت حينما اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم زيارة الكعبة مع المؤمنين في السنة السابعة من الهجرة بناء على شروط صلح الحديبية الذي انعقد بينهم وبين مشركي قريش في السنة السادسة. وقد كان منعهم في هذه السنة في شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم فأتاح الله لهم أن يزوروا الكعبة في السنة التالية في شهر ذي القعدة فكان ذلك قصاصاً لهم.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. والروايات تقتضي أن تكون الآيات نزلت متفرقة مع أنها وحدة منسجمة وسياقها وأسلوبها وانسجامها لا يساعد على الأخذ بأية رواية من هذه الروايات. وحادث صلح الحديبية وزيارة الكعبة في السنة التالية له كانا في السنتين السادسة والسابعة للهجرة. ونرجح بناء على فحوى وأسلوب الآيات أنها نزلت في وقت مبكر من العهد المدني ليكون للمسلمين فيها خطة جهادية حربية. والذي يتبادر لنا أن بين هذه الآيات والآية السابقة لها والآيات اللاحقة بها المتصلة بتقاليد الحج مناسبة ما حيث احتوت بيانات متصلة بهذه التقاليد التي منها حرمة الأشهر الحرم وحرمة منطقة المسجد الحرام، فمن المحتمل أن يكون بعض المسلمين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الأشهر الحرم وفي المسجد الحرام كما سألوه عن الأهلة ودخول البيوت من ظهورها فاحتوت الآيات جواباً على ذلك. وقد يكون من القرائن الداعمة لهذا مجيء هذه الآيات بين آيات متصلة بتقاليد الحج.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات وروحها يلهمان أنها أولى الآيات في أمر المسلمين بالقتال في سبيل الله ودينه. وقد احتوت قواعد تشريعية خطيرة في هذا الباب غدت روح المبادئ الجهادية الإسلامية وضابطها وهي :
١- واجب المسلمين في قتال الذين يقاتلونهم وحسب.
٢- عدم جواز بدئهم أحداً غير عدو وغير معتدٍ بقتال.
٣- واجب كفّهم عن القتال حال ما ينتهي العدو عن موقفه العدائي العدواني.
٤- حقهم في مقابلة العدو بالمثل دون قيد أوشرط، ودون أي مانع من أي تقليد واعتبار مع عدم التجاوز عن المثل.
٥- واجب الاتفاق والاستعداد للعدو بكل قوة وانتباه حيث يمكن أن يكون ذلك مانعاً للاشتباك الفعلي، وحيث يكون التقصير في ذلك معرضاً للتهلكة والخطر.
٦- اعتبار فتنة الكفار للمسلمين عن دينهم وأذيتهم وتعطيل الدعوة الإسلامية وحريتها سبباً مبرراً لقتال كل من يقف مثل هذه المواقف حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
وإنها لمبادئ في غاية الحق والعدل والاتساق مع طبائع الأمور تظل بها الشريعة الإسلامية متلألئة الغرة أبد الدهر ومترشحة للخلود. وفيها ردّ على كل من حاول أو يحاول أن يلصق بها ما هي براء منه في صدد الجهاد من مثل الإكراه في الدين والقتال بدءاً أو عدواناً لحمل الناس على الإسلام.
ولعل من المناسب التذكير بآيات سورة الشورى [ ٣٩-٤٣ ] التي احتوت تقريرات عامة في تبرير انتصار المظلوم من ظالمه ومقابلة العدوان بمثله، والردّ على البغاة المعتدين لنقول : إن المبادئ التي احتوتها هذه الآيات متسقة مع التقريرات المذكورة. وإن الاتساق قائم بين المبادئ القرآنية المكية والمدنية من حيث الجوهر والأساس شأن كل الأهداف والمبادئ القرآنية. وإن في هذا لرداًّ آخر على من حاول أو يحاول أن يوهم أن فيما شرعه القرآن المدني من شرائع الجهاد تناقضاً مع المبادئ المقررة في القرآن المكي.
ومما هو جدير بلفت النظر ما تخلل الآيات مرّة بعد مرّة من التحذير من الاعتداء ومن الأمر بتقوى الله وعدم تجاوز الحدّ الذي تقضي به المصلحة ويتحمل معنى المقابلة بالمثل، ومن تقرير كون العدوان إنما يجب على الظالمين البادئين أو العادين أي المعتدين ثانية. ففي هذا كلّه تدعيم لهذه المبادئ وسياج لفكرة الحق والعدل وعدم البغي والعدوان التي ما فتئ القرآن يقررها في كل مناسبة في المكي منه والمدني وبخاصة في ظروف القتال التي يكون فيها أشد ضرورة وإيجاباً، وفي هذا ما فيه من روعة التلقين وجلاله.
كذلك فإن أسلوب الآيتين الأخيرتين ومضمونهما جديران بالتنبيه إلى ما فيهما من قوة ومدى وتلقين للمسلمين في كل ظرف ومكان بوجوب الإنفاق والاستعداد الدائم والحذر المستمر ليظلوا أقوياء قادرين في كل وقت على مقابلة أي عدوان وعلى التنكيل بأي معتد. وكافلين لأنفسهم المنعة والعزة والكرامة والطمأنينة والأمن والحرية والربط بين الإنفاق والتهلكة وبخاصة الحث على المغالاة في الإنفاق – وهذا ما تعنيه جملة :﴿ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ على ما ذكره المؤولون – عظيم المغزى من أجل ذلك.
ولقد روى الطبري رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تابعيهم ظنوا أن الإقدام على مبادرة العدو في قلة قد يكون إلقاءً للنفس في التهلكة الذي نهت عنه الآية فانبرى أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم وفنّد رأيهم وقال لهم : إن الله أمر رسوله بالقتال ولو وحيداً حيث قال له :﴿ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ﴾ [ النساء : ٨٤ ] وإن جملة :«﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [ البقرة : ١٩٥ ] هي في صدد الإنفاق في سبيل الله والمغالاة فيه ؛ لأن الإمساك عن ذلك هو الذي يؤدي إلى التهلكة » ١. وفي سورة التوبة هذه الآية :﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ﴿ ٩٢ ﴾ ﴾ وتنطوي على صورة مألوفة دائما، وهي إن وجود المقاتلين من المؤمنين ميسور دائماً وإنما المشكل هو النفقة التي يمكن بها حشد المقاتلين وإعداد وسائل القتال مما يزيد في خطورة مدى العبارة القرآنية ومغزاها. ويفسر هذا ويدعمه مولاة القرآن في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله وجعل الجهاد بالمال مقدما على الجهاد في النفس في آيات كثيرة منها آية سورة البقرة [ ٢٦١ ] وآية سورة الحجرات [ ١٥ ] وآية سورة محمد [ ٣٨ ] وآية سورة التوبة [ ٨٨ ] وغيرها وغيرها.
ولقد روى المفسرون عن بعض التابعين أن جملة :﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [ ١٩٠ ] تعني الذين هم أهل للقتال وأنها تستثني النساء والشيوخ والذراري والرهبان ومنهم من روى عن ابن عباس زيادة وهي :( من ألقى إليكم السلم وكف يده ) ومما رووه عن ابن عباس أيضا أن جملة :﴿ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ تعني كذلك عدم قتال وقتل النساء والشيوخ والذراري –الأطفال- والرهبان. ومع أن هناك أحاديث نبوية تنهى حقا عن قتل هؤلاء سوف نوردها بعد فالذي يتبادر لنا أن العبارات القرآنية عامة مطلقة المدى تتناول كل من سالم المسلمين وكف يده عنهم وكل من لم يكن أهلاً لحرب وقتال وغير مشترك في حرب وقتال. وفي القرآن آيات عديدة تدعم هذا الإطلاق، وفيها قواعد وضوابط له منها آيات سورة النساء [ ٩٠-٩١ ] وسورة الممتحنة [ ٨-٩ ] على ما سوف يأتي شرحه في مناسباته.
ولقد قال بعض المفسرين ٢ عزواً إلى بعض التابعين أن كلمة ﴿ وَالْفِتْنَةُ ﴾ في الآيات تعني الشرك. وأن تعبير ﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ ﴾ يعني الا
٢ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
[ ١ ] الحج والعمرة : معنى الكلمتين اللغوي متقارب وهو الزيارة والتوجه والقصد. ثم صار لهما صيغة دينية قبل البعثة واستمرت بعدها. وفريضة الحج ركنان في أشهر الحج واحد زيارة الكعبة وتسمى عمرة وواحد الوقوف في عرفة ولا يتم الحج إلا بالركنين. ويتبادر لنا والله أعلم أن جمع الأمر ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ قد قُصد به الركنان. وقد تكون جملة :﴿ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ دليلاً أو قرينة على ذلك وسوف نزيد هذا شرحاً فيما بعد.
[ ٢ ] فإن أحصرتم : الإحصار هو منع مانع ما. ومعنى الجملة فإن منعتم وحالت أسباب قاهرة دون أدائكم الحج والعمرة.
[ ٣ ] ما استيسر : ما تيسر.
[ ٤ ] الهدي : ما ينذر للذبح قرباناً لله في الحج والعمرة من الأنعام. وسمّي هدياً على اعتبار أنه هدية لله وبيته.
[ ٥ ] محله : المكان الذي يحل الذبح فيه ويجوز أن يكون معنى الكلمة المكان والزمان معاً اللذان يحل الذبح فيهما. وفي سورة الحج آية تفيد المكان وهو الكعبة :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ { ٣٣ ﴾ } أما الزمان فقد عينته السنة وهو بعد الحج أو بعد العمرة.
[ ٦ ] نسك : الأصل في معناه التعبد. ولكنه هنا ما يقرّب إلى الله من الأنعام كفّارة عن عدم أداء بعض مناسك الحج وطقوسه أو الإخلال بها.
[ ٧ ] فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج : الذي يتحلل من الإحرام بعد الطواف والسعي للمدة الباقية إلى وقت الوقوف بعرفة ؛ حيث يحل له ما يحظر على المحرم الذي يظل محرما بعد العمرة إلى انتهاء الحج.
[ ٨ ] لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : لمن لم يكن مقيماً مع أهله في منطقة المسجد الحرام إقامة دائمة. فهذا له أن يتمتع بالعمرة إلى الحج بدون كفارة.
في هذه الآيات تشريعات في مناسك العمرة والحج :
١- فعلى المسلمين أن يقوموا بواجب الحج والعمرة بنية عبادة الله والتقرب إليه، وأن يتموا مناسكهما.
٢- فإذا خرج مسلم من منزله قاصداً القيام بهذا الواجب الديني، ثم أحصر في الطريق ومنع عن الوصول لأسباب قاهرة فيكتفي بتقريب ما تيسر له من ذبائح يقربها لله. وليس له أن يحلق رأسه إلا بعد أن تصل القرابين إلى المكان الذي ينبغي ذبحها فيه ؛ لأن حلق الرأس هو من محللات الإحرام ولا يكون إلا بعد ذبح القربان. ويرخص لمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه أن يتحلل من الإحرام ويفعل ما فيه وقاية له من ازدياد المرض أو شفائه منه ودفع الأذى عن رأسه من لبس ثياب وحلق شعر وتغطية رأس وتطيب وغير ذلك على أن يقدم فدية عن هذه الرخصة فيصوم أو يتصدق أو يذبح قرباناً. وإذا تيسرت أسباب الأمن وبلغ المسلمون المسجد الحرام فعلى الذين يتمتعون بحريتهم في الفترة الواقعة بين العمرة والحج – أي الذين يدخلون منطقة الحرم محرمين فيؤدون العمرة أي يطوفون حول الكعبة ويسعون بين الصفا والمروة، ثم يتحللون من إحرامهم ويتمتعون بما هو محظور على المحرمين : كالنساء والطيب والتزين والثياب العادية الخ إلى وقت الحج الأكبر والوقوف في عرفة والإحرام له – أن يقرّبوا قرباناً لله مقابل ما تمتعوا به من رخصة إذا لم يكونوا من سكان منطقة المسجد الحرام. فإذا لم يقدروا على تقريب القربان فعليهم مقابل ذلك صوم عشرة أيام ثلاثة منها في موسم الحج وسبعة بعد الرجوع إلى منازلهم.
وانتهت الآية بالحثّ على تقوى الله والتحذير من عقابه الشديد في حالة تجاوز حدوده والتقصير في طاعته وتقواه.
تعليقات على آية
﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ... ﴾ الخ
وسمة التشريع بارزة على الآية كمثيلاتها السابقة، ونرجح أن بينها وبين الآيات السابقة لها صلة موضوعية بشكل ما. وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في عام الحديبية حينما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بقصد زيارة الكعبة ومنعهم أهل مكة وانتهى الأمر بعقد الصلح وتأجيل الزيارة للسنة القابلة، وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة.
ويلحظ أن في الآية أحكاماً عديدة ومطلقة في صدد مناسك الحج. وقد جاء بعدها آيات أخرى في أحكام الحج وسبقها آيات فيها إشارة إلى بعض تقاليد الحج السابقة وإلغاء لها. فهذا يسوغ التوقف في صحة الرواية كمناسبة لنزول الآية وترجيح نزولها قبل عام الحديبية بزمن طويل ولأجل بيان أحكام مناسك الحج والعمرة المتنوعة وصلتها بالآيات السابقة والآيات اللاحقة بحيث يمكن القول : إن الآيات [ ١٨٩-٢٠٣ ] سلسلة واحدة نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.
وإذا صح هذا – والقرائن تؤيد صحته إن شاء الله – فتكون مناسك الحج والعمرة قد فرضت على المسلمين وبينت لهم قبل عام الحديبية ويكون بعض المسلمين كانوا يتمكنون من الوصول إلى مكة وأداء مناسك الحج والعمرة منفردين قبل فتح مكة. وفي آية الطواف بين الصفا والمروة التي مرّ تفسيرها ما يمكن أن يكون قرينة من قرائن صحة هذا الاحتمال. وفي الآية الثانية من سورة المائدة التي نزلت على الأرجح قبل فتح مكة قرينة أقوى أو دليل على ذلك وهي :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ المائدة [ ٢ ] ولقد أراد بعض المسلمين أن يحج بعد منع المشركين النبي والمسلمين من زيارة الكعبة عام الحديبية فحاول بعض آخر منعهم من ذلك انتقاماً لمنع المشركين لهم. وهذا ما انطوى في جملة ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ... ﴾ المائدة :[ ٢ ] الخ.
أما جملة ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ فإنها في هذه الحال تشير إلى احتمال منع من أراد الحج والعمرة من المسلمين بسبب مرض شديد أو بسبب ما كان قائماً من حالة العداء والحرب بين المسلمين من جانب وأهل مكة من جانب آخر.
ولقد روى ١ أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما منعه أهل مكة مع المسلمين من أداء العمرة عام الحديبية على ما ذكرناه آنفاً نحر هديه في الحديبية وتحلل من الإحرام أي حلق رأٍسه ولبس ثيابه العادية وأمر المسلمين بذلك. وعلى ضوء هذه الرواية التي يؤيدها حديث رواه البخاري عن ابن عمر ٢ يتبادر لنا أن الكلام من جملة ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ﴾ إلى آخر الآية مستأنف وليس تتمة لأول الآية. فالمنع إذا كان بخاصة خوفاً من عدو أو خطر قتل وقتال وأسر يحول دون بلوغ الهدي محله في حين أن جملة ﴿ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ تنهى عن التحلل من الإحرام بحلق الرأس قبل بلوغ الهدي إلى المكان الذي ينبغي أن يذبح فيه وهو منطقة الكعبة. وإذا صح هذا فيكون أول الآية قد احتوى حكماً في حالة المنع وهو تقريب القرابين في المحل الذي وقف فيه المسلم ثم احتوت بقيتها أحكاماً متنوعة في حالة الأمن وعدم المنع القهري.
وعدم حلق الرأس أثناء الإحرام وما يدخل في مداه مما نهت عنه السنّة من لبس الثياب المخيطة والتطيب والجماع الخ... وكذلك تقريب القرابين إلى الله في موسم الحج وزيارة العمرة كل ذلك من المناسك التي كانت متبعة قبل الإسلام على ما تلهمه روح الآيات والروايات المروية فثبتت في الإسلام مع بعض الرخص والتيسير اتساقاً مع المبدأ القرآني الذي يقرر أن الله إنما يريد بالمسلمين اليسر لا العسر ولا يكلّفهم إلا وسعهم.
وروح الآية التي نحن في صددها تسوغ القول : إن الأصل في مناسك الحج هو القران بين العمرة والحج أي بقاء الحاج محرما بدون تحلل بعد زيارة الكعبة ( العمرة ) إلي يوم الوقوف في عرفة، وإن الرخصة بالتمتع بين وقتيهما هي تعديل أو تيسير إسلامي. وقد يكون إيجاب الكفارة على المتمتعين قرينة أو دليلاً، وإيجاب الكفارة على الذين يتمتعون بهذه الرخصة من غير سكان منطقة المسجد الحرام ناشئ على ما علله المفسرون من أن الذي يجب عليه الدخول إلى منطقة الحرم محرما هو غير هؤلاء السكان. وهم الذين تجب عليهم الكفارة إذا تمتعوا في الفترة بين العمرة والحج. أما سكان هذه المنطقة فلا إحرام عليهم إلا حينما يحل وقت الوقوف في عرفة حيث يحرمون ويؤدون ركن العمرة، ثم يقفون في عرفة ثم يعودون منها فيطوفون ويسعون ويتحللون. أما قبل ذلك فإن لهم أن يظلوا غير محرمين ولا كفارة عليهم.
وجملة ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ تتضمن إتمام عملين هما الحج والعمرة.
والعمرة هي زيارة الكعبة على ما هو مشهور يقيني. أما كلمة ﴿ الْحَجَّ ﴾ فقد جاءت هنا مطلقة. وجاءت كذلك في سورة الحج وفي آيات أخرى في هذه السورة. وجاءت مع ﴿ البَيْتَ ﴾ في الآية [ ١٥٨ ] من هذه السورة وسبق تفسيرها وفي آية سورة آل عمران هذه :﴿ وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [ ٩٧ ] وهذه الجملة تتضمن فرضية العمرة في موسم الحج.
وما دامت العمرة هي زيارة الكعبة فتكون كلمة ﴿ الْحَجَّ ﴾ المطلقة التي جاءت مع كلمة العمرة قد عنت شيئا آخر، وهو ما فسّر في الأحاديث بأنه الوقوف في عرفة. الذي عرف يقيناً أنه يجب أن يكون في التاسع من شهر ذي الحجة. والراجح أن كلمة ﴿ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ ﴾ في آية سورة التوبة الثالثة :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { ٣ ﴾ } قد عنته. وقد روى أصحاب السنن حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«الحجّ الحجّ يوم عرفة » وعلى ضوء هذا يمكن القول إن جملة :﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ﴾ تعني أن فريضة الحج الإسلامية ركنان هما العمرة أي الطواف والسعي في أشهر الحج والوقوف في عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. وقد ذكرت فرضية حج البيت في القرآن ولم تذكر فرضية الوقوف في عرفة بصراحة قطعية فيه فاقتضت حكمة ا
٢ انظر التاج ٢/١٥١ وابن هشام ٣/٣٥٥-٣٦٩.
[ ٢ ] رفث : قيل إنها كناية عن الجماع ودواعيه وذيوله. وقيل إنها بمعنى كل فحش من قول أو عمل وهذا هو الأوجه فيما يتبادر لنا. ومن القرائن على وجاهته أن الجماع لا يحرم على الحاج في حالة الحل والتمتع بين العمرة إلى الحج على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
[ ٣ ] فسوق : عصيان وإثم.
[ ٤ ] جدال : هنا بمعنى النزاع والمهاترة.
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [ ١ ] فَلاَ رَفَثَ [ ٢ ] وَلاَ فُسُوقَ [ ٣ ] وَلاَ جِدَالَ [ ٤ ] فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴿ ١٩٧ ﴾ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم [ ٥ ] مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [ ٦ ] وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴿ ١٩٨ ﴾ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٩ ﴾ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴿ ٢٠٠ ﴾ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿ ٢٠١ ﴾ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿ ٢٠٢ ﴾ ﴾
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
[ ٦ ] المشعر الحرام : المشعر هو المكان المعين الذي يؤدى عنده نسك من المناسك الدينية إطلاقاً. وهنا تعني مكاناً معيناً بين عرفات ومنى يعرف بالمزدلفة.
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [ ١ ] فَلاَ رَفَثَ [ ٢ ] وَلاَ فُسُوقَ [ ٣ ] وَلاَ جِدَالَ [ ٤ ] فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴿ ١٩٧ ﴾ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم [ ٥ ] مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [ ٦ ] وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ ﴿ ١٩٨ ﴾ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١٩٩ ﴾ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴿ ٢٠٠ ﴾ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿ ٢٠١ ﴾ أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿ ٢٠٢ ﴾ ﴾
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
في الآيات تقريرات تشريعية في مناسك الحج وموسمه :
فأولاً : قررت أن للحج أشهراً معينة، وأوجبت على من اعتزم القيام بفريضة الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فيه. ونبهت على أن الله يعلم كل خير يفعله الناس وأمرتهم أن يتقوه ؛ لأن تقواه هي خير زاد يتزودون به. وقد وجهت الخطاب في آخر الآية الأولى لذوي الألباب والعقول الراجحة كأنما تريد أن تقرر أن هؤلاء هم الذين يدركون مدى وصايا الله وتقواه.
وثانيا : نبهت المسلمين إلى أنه ليس من حرج عليهم في ابتغاء فضل الله بالتكسب أثناء موسم الحج وأشهره. وأمرتهم أن يذكروا الله ويشكروه عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات على هداه بعد أن كانوا قبل ذلك في ضلال شديد. وأن يفيضوا من المشعر الحرام مع سائر الناس وأن يستغفروا الله الغفور الرحيم. وأن يذكروه كذلك بعد إتمام مناسك الحج كما يذكرون آباءهم وأكثر. ونبهت إلى أن من الناس في هذا الموقف من يدعو الله بأن يحقق له رغائبه في الدنيا وحسب. ومثل هؤلاء لن يكون لهم نصيب من رحمة الله في الآخرة. ومنهم من يدعوه بأن ييسر لهم ما فيه الحسنى والخير في الدنيا والآخرة ويقيهم عذاب النار، وهؤلاء هم الذين ينتفعون بما يفعلون من الأعمال الصالحة في الدنيا ويستوفون أجرهم من الله الذي هو سريع الحساب، يعطي كل امرئ حقه وجزاءه وبدون تأخير.
وثالثا : أمرت المسلمين بأن يذكروا الله في أيام معدودة معينة أيضا. ورفعت الحرج عن من يستعجل في إنهاء هذه الأيام فيجعلها يومين وعن من يتأنى فيجعلها أكثر إذا لم يكن له مأرب خاص مغاير لتقوى الله ورضائه. وأمرتهم بتقوى الله على كل حال، ونبهتهم إلى أنهم سيحشرون إليه في النهاية حتى يظلوا من ذلك على علم واستعداد.
تعليقات على الآية
﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ... ﴾
والآيات الست التالية لها
الآيات تتمة لفصل مناسك الحج كما هو المتبادر. وفي كتب التفسير والحديث أحاديث وروايات وأقوال عديدة في صددها فيها توضيح وتركيز نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- في صدد ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ﴾ روى البخاري عن ابن عمر أنه قال :«أشهر الحجّ شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة» ١. وروى الطبراني عن أبي أمامة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة» ٢. ومن رواة هذا الحديث ابن مخارق وقد ضعفه الدارقطني. والمعلوم اليقيني أنه كان قبل الإسلام ثلاثة أشهر حرم متوالية هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وقد حرمت لتكون هدنة مقدسة يستطيع الناس في ظلها أن يذهبوا للحج، ويعودوا منه بأمان على ما شرحناه في سياق تعليقاتنا على الآيات [ ١٩٠-١٩٥ ] من هذه السورة. وقد أوردنا حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة هذه الأشهر الثلاثة المتوالية، والذي يتبادر لنا أن تكون الجملة قد قصدت هذه الأشهر والتنبيه فيها يتناسب مع مدى الهدنة المقدسة وهو منع سفك الدم والقتال. وفي آية في سورة المائدة ذكر عدد الأشهر الحرم ونبه على وجوب عدم ظلم المسلمين أنفسهم فيها مما فيه تدعيم لذلك. وحديث ابن عمر الذي يرويه البخاري لم يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حين أن أسماء الأشهر الثلاثة وردت في حديث للبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق الآية [ ١٩٧ ] وهذا ما يجعلنا نرى الأرجح أن تكون أشهر الحج المعلومات هي الأشهر الحرم الثلاثة المتوالية المذكورة. ويلحظ أن حديث ابن عمر يخرج بقية ذي الحجة وكل شهر المحرم، وحديث أبي أمامة يخرج كل شهر المحرم في حين يكون الحجاج ما يزالون في منطقة الحرم وفي طريق عودتهم منها إلى منازلهم. وهذا لا يستقيم في ما نعتقد مع هدف حرمة الأشهر الحرم والمسألة مسألة تحديد الأشهر وليس ما يمنع أن تبدأ رحلة الحج في شوال وقبل شوال أيضا ولكن يظل شوال غير محرم، والله تعالى أعلم.
ولقد شرحنا مدى الأشهر الحرم وحكمتها وخطورتها أيضاً في تعليقاتنا على الآية [ ١٩٠-١٩٥ ] وشرحنا مدى الحج وخطورته وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق الآية السابقة للآيات التي نحن في صددها وفي سياق الآيات [ ٢٥-٣٢ ] من سورة الحج فنكتفي بهذا التنبيه. وإن كان من شيء يصحّ أن يضاف إلى ذلك فهو التنويه بما نبهت عليه الآية الأولى من وجوب اجتناب الرفث والفسوق والجدال في الحج الذي يقوم به المسلم لله تعالى وفي الأشهر الحرم وفي الأمكنة المحرمة حيث يتناسب هذا التنبيه مع كل ذلك.
٢- ولقد ذكرنا قبل أن العرب كانوا يحرمون سفك الدماء والقتال والصيد في الأشهر الحرم التي رجحنا أنها أشهر الحج. ونرجح أن النهي القرآني عن الرفث والفسق والجدل فيها هو تشريع إسلامي جديد. متساوق مع ما جاءت به الرسالة الإسلامية من الدعوة إلى مكارم الأخلاق والنهي عن رذائلها، وقد تبادر لنا حكمة أخرى في هذا التشريع الرائع، فقد علم الله تعالى أنه قد يقوم سلطان يستطيع منع سفك الدم ومعاقبة مقترفه في حين أن الرفث والفسوق والجدال قد تكون أعمالاً شخصية لا تطالها يد السلطان وعينه. فشاءت حكمة الله التنبيه على وجوب الامتناع عن ذلك ديناً وإيماناً. ونعيد إثبات الحد الذي رواه الشيخان والنسائي والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حجّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه».
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن النهي عن الرفث والفسق والجدال في أشهر الحج بالإضافة عن النهي عن القتال العدواني وسفك الدم بغير فسق لا يعني إباحة ذلك في غيرها. وإنما هو من قبيل تعظيم فظاعة ذلك وأولوية الامتناع عنه في هذه الأشهر بالإضافة إلى وجوب الامتناع عنه في كل ظرف.
٣- لقد صرف معظم المفسرين كلمة ﴿ الرَّفَثُ ﴾ إلى الجماع ودواعيه والتعريض به ومن جملة ذلك خطبة النكاح واستدلوا على ذلك بآية وردت في هذه السورة وهي :﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ﴾ وهناك من قال : إن النهي مقيد بحالة الإحرام وإن الحاج الذي يتمتع بالعمرة يرتفع الحظر أثناء حالة حلّه بين العمرة وعرفات. ويتبادر لنا أن التحذير من الرفث مع الفسوق والجدل جملة وإطلاقا وطيلة أشهر الحج يجعل صرف الرفث عن كل فاحشة منكرة وهو الأكثر وجاهة والله تعالى أعلم.
٤- لقد روى البخاري في صدد جملة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ حديثاً عن ابن عباس قال :«كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون نحن المتوكّلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فأنزل الله الآية» ٣. ويلحظ أن الجملة جزء من آية فيها تنبيه على ما يجب أن يكون عليه الحاج من حسن أخلاق وبعد عن كل فحش وفسق. ومع احتمال صحة ما روي عن أهل اليمن فإننا نتوقف في كون الجملة نزلت في شأن عدم اعتيادهم على حمل الزاد. ويتبادر من روح الآية أن كلمة ﴿ وَتَزَوَّدُواْ ﴾ في مقامها هي بسبيل الحض على الإكثار من عمل الخير والتشديد على تقوى الله واجتناب المعاصي في الأشهر الحرم. وكلمة ( الخير ) التي سبقت كلمة ( وتزودوا ) وتكررت بعدها من القرائن على ذلك فيما نرى ونرجو أن يكون الصواب.
٥- روى البخاري ومسلم عن ابن عباس في صدد جملة :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ قال :«إن الناس في أول الحجّ كانوا يتابعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحجّ فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله الآية» ٤. وروى أبو داود حديثاً جاء فيه :«سأل رجل رسول الله عن ذلك، فسكت عنه حتى نزلت الآية، فأرسل إليها وقرأها عليه وقال : لك حجٌّ» ٥. ومثل هذا مروي عن ابن عمر حيث سأله رجل كان يكري فقال له لك حجّ ٦. ويلحظ أن الجملة هنا أيضا جزء من آية وفيها وفيما جاء بعدها تعاليم ربانية عديدة للحجاج. ومع احتمال صحة المروي فإننا نتوقف هنا أيضا في كون الجملة نزلت في شأن ذلك خاصة ولحدتها والآية [ ١٩٦ ] أمرت المسلمين بإتمام الحج والعمرة لله، فيسوغ القول : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون الجملة قد جاءت من قبيل الاستدراك والتبشير، ولقد جاءت بعد التنبيه على وجوب تجنّب الرفث والفسوق والجدال في الحجّ ؛ حيث يمكن أن يقال أيضا : إنما جاءت لاستثناء ابتغاء فضل الله فيه بالاتجار والتكسب. ولا سيما إن ذلك مظنته الجدل والله تعالى أعلم.
وظاهر ما في هذه الرخصة من مراعاة مصلحة المسلمين واتساع أفق الشريعة الإسلامية لمثل هذا الأمر في مواسم العبادة على اعتبار أن البشر لا ينبغي أن يعطلوا مصالحهم وحاجاتهم المتصلة بحياتهم ومعايشهم فيها. ولا سيما إن موسم الحج كان فرصة عظيمة لقضاء الناس فيها مصالحهم وحاجاتهم بأمن وطمأنينة وفي هذا ما فيه من تلقين مستمر المدى.
٦- والإفاضة من عرفات التي ذكرت في الآية الثانية تكون بعد انتهاء نهار التاسع من ذي الحجة الذي يكون وجود الحاج فيه في عرفات ركناً لا يتم الحج إلا به على ما شرحناه في سياق الآية السابقة.
و( عرفات ) تطلق على مكان منبسط فسيح محاط ببعض التلال والصخور، ومما قيل في التسمية : إنها جمع ( عرفة ) وهذا المفرد ورد في حديث نبوي أوردناه قبل وفيه «عرفة كلّها موقف» حيث قد يفيد هذا أن جمعها بسبب اتساعها وكون الناس يتخذون فيها منازل متعددة. كذلك مما قيل إن التسمية متصلة بعهد إبراهيم ( عليه السلام ) وإن الله لما أمره بذبح ابنه وصف له جبريل مكان عرفات ليذبحه فيه، فلما وصل المكان قال : عرفته من الوصف وليس شيء من هذا وارداً في حديث صحيح. والكلمة عربية وإبراهيم لم يكن عربي اللسان. وقد قال رشيد رضا : إن أحسن ما يمكن تعليل التسمية به هو أنها أطلقت على المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل صوب ليتعارفوا. والتعليل وجيه وقد كان اجتماع الناس فيه يوم التاسع من ذي الحجة تقليداً سابقاً للبعثة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أوردناه قبل :«الحجّ الحجّ يوم عرفة» ٧.
وجملة :{ وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ ا
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ ١ ] ﴿ ٢٠٤ ﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [ ٢ ] وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿ ٢٠٥ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [ ٣ ] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿ ٢٠٦ ﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ [ ٤ ] ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿ ٢٠٧ ﴾ ﴾
في هذه الآيات : وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافاً لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكباراً من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلاً لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض المفسرين ١ هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم : إن جملة :﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون ٢ أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار يقسم له أنه محبّ له، وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية ٣ أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم ٤. ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :«أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرمَاكم رجلا، وأيمُ الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» ٥. وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا ٦.
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق ؛ حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضرراً أو فساداً في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتاً في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ» ٧. وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهداً في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضرراً من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة. منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه :«إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» ٨ فيما هو المتبادر، والله أعلم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ ١ ] ﴿ ٢٠٤ ﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [ ٢ ] وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿ ٢٠٥ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [ ٣ ] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿ ٢٠٦ ﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ [ ٤ ] ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿ ٢٠٧ ﴾ ﴾
في هذه الآيات : وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافاً لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكباراً من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلاً لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض المفسرين ١ هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم : إن جملة :﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون ٢ أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار يقسم له أنه محبّ له، وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية ٣ أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم ٤. ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :«أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرمَاكم رجلا، وأيمُ الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» ٥. وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا ٦.
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق ؛ حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضرراً أو فساداً في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتاً في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ» ٧. وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهداً في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضرراً من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة. منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه :«إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» ٨ فيما هو المتبادر، والله أعلم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ ١ ] ﴿ ٢٠٤ ﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [ ٢ ] وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿ ٢٠٥ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [ ٣ ] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿ ٢٠٦ ﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ [ ٤ ] ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿ ٢٠٧ ﴾ ﴾
في هذه الآيات : وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافاً لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكباراً من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلاً لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض المفسرين ١ هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم : إن جملة :﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون ٢ أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار يقسم له أنه محبّ له، وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية ٣ أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم ٤. ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :«أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرمَاكم رجلا، وأيمُ الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» ٥. وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا ٦.
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق ؛ حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضرراً أو فساداً في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتاً في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ» ٧. وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهداً في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضرراً من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة. منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه :«إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» ٨ فيما هو المتبادر، والله أعلم.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [ ١ ] ﴿ ٢٠٤ ﴾ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [ ٢ ] وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴿ ٢٠٥ ﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [ ٣ ] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿ ٢٠٦ ﴾ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ [ ٤ ] ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿ ٢٠٧ ﴾ ﴾
في هذه الآيات : وصف لفريقين من الناس أحدهما يظهر غير ما يبطن ويتظاهر بالإخلاص ويقسم على ذلك الأيمان حتى يجعل سامعه يعجب به ويكاد يصدقه في حين أنه شديد العداء والخصومة، وحين تمكنه الفرصة يشتد في الظلم والفساد خلافاً لما يحب الله من الصلاح ويكرهه من الفساد. وحينما يوعظ وينبه إلى ما في عمله من شرّ وإثم ويطلب منه الكفّ عنه وتقوى الله يسخط ويزداد في الإثم والبغي شفاء لنفسه واستكباراً من أن يوعظ ويدعى إلى التقوى. فهذا الفريق مصيره جهنم وبئست هي من مأوى ومضجع. وثانيهما هو الذي يتحمل الأذى في سبيل الله ولو أدى إلى التضحية بنفسه تحصيلاً لرضاء الله.
وانتهت الآيات بالتنبيه إلى أن الله رؤوف بعباده، وقد صرف بعض المفسرين ١ هذا التنبيه إلى الفريق الثاني بقصد بيان ما استحقه عند الله من رأفة ورحمة وحسن جزاء ولا يخلو هذا من وجاهة. ولقد قال بعضهم : إن جملة :﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ تعني في شؤون الحياة الدنيا ولا يخلو هذا من وجاهة.
تعليق على الآية
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
والآيات الأربع التالية لها
والآيات كما يبدو فصل جديد، ولعلّها متصلة بالآيات التالية لها على ما سوف نشرحه بعد.
وقد روى المفسرون ٢ أن القسم الأول من الآيات نزل في الأخنس بن شريق أحد زعماء المشركين الذي قدم إلى المدينة فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصار يقسم له أنه محبّ له، وأنه يريد أن يسلم ثم حنث في يمينه وبيت أحد خصومه فأحرق زرعه وأهلك مواشيه وعقر دوابه. وهناك رواية ٣ أخرى تفيد أنها نزلت في جماعة من المنافقين شمتوا لمصاب المسلمين في سرية أحاط بها المشركون تقاتلوا حتى استشهد معظمهم ٤. ورووا أن القسم الثاني أي الآية الأخيرة نزلت في صهيب الرومي الذي فدى نفسه بماله ونجا بدينه من مكة. وقد روى القاسمي حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه :«أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرمَاكم رجلا، وأيمُ الله لا تصلون إليّ حتى أرمي كلّ سهم في كنانتي، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم. وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخلّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ربح البيع ربح البيع. ونزلت الآية» ٥. وهنا من يروي أنها نزلت في المهاجرين الذين تخلوا عن موطنهم وأموالهم في سبيل الله مطلقا ٦.
والروايات لم ترد في الصحاح وعلى كل حال فالآيات بسبيل المقارنة بين منافق ومخلص وموقف كل منهما. ومن المحتمل أن يكون حدث حادثان متناقضان من منافق ومخلص من نوع ما ورد في الروايات قبل نزول الآيات فنزلت لتشير إليهما منددة بالأول منوهة بالثاني.
وأسلوب الآيات مطلق ؛ حيث ينطوي فيها تلقين مستمر المدى بشأن كل من النموذجين اللذين لا ينعدمان في كل ظرف ومكان.
ووصف المنافق قوي نافذ، وفيه جملة لاذعة، فأمثال هذا الشخص يكون عادة أشدّ الناس ضرراً أو فساداً في المجتمع الذي يكون فيه سواء أمن ناحية السلوك العام أم السلوك الخاص.
ولقد ذكر رشيد رضا أن بعضهم أوّل جملة ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى ﴾ بمعنى الولاية والحكم. وحتى لو لم يكن هذا التأويل هو المقصود فإن الآيات بإطلاقها تتحمل أن تكون الصورة التي وصفتها في فئات مختلفة من الناس من حكام وزعماء وعلماء وأفراد على اختلافهم ومشاغلهم. ويكون التنديد والإنذار الشديدين فيها والتلقين باجتناب الصفات التي وصف بها متفاوتاً في الشدة حسب تفاوت المتصفين بالصفات والقدرة على الكيد والضرر والفساد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً عن عائشة ورد في التاج برواية الشيخين والترمذي جاء فيه :«قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ» ٧. وفي الحديث تنديد سيق بصفة اللدد والخصومة وإن كان مدى الجملة في الآية أوسع وأشد نكاية من حيث إن الموصوف بها يتظاهر بحسن النية والصلاح والرغبة في الخير والإصلاح ويجتهد في توكيد ذلك بتزويقه الكلام وزلاقة اللسان والحلف بالله في حين يكون فاسد الطوية شرير القصد لا يألو جهداً في الكيد والفساد والمكر إذا ما واتته الفرصة. والصورة في الآيات أشد نكاية وضرراً من صورة المنافق العادي الذي وصف في أحاديث نبوية عديدة. منها حديث رواه الأربعة عن ابن عمر جاء فيه :«إذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر» ٨ فيما هو المتبادر، والله أعلم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ [ ١ ] كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿ ٢٠٨ ﴾ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿ ٢٠٩ ﴾ ﴾
في الآيتين :
١- دعوة للمؤمنين للاستمرار على الإسلام الذي دخلوا فيه وإسلام النفس لله إسلاماً تاماً والطاعة لجميع أوامره.
٢- وتحذير لهم من اتباع الشيطان والسير في ما يزينه وتنبيه إلى أنه عدو شديد العداء لهم لا يمكن أن يوسوس إلا بما فيه إثمهم وضررهم.
٣- وإنذار لهم في حالة انحرافهم عن طريق الحق بعدما جاءتهم آيات الله وبيناته واضحة جليّة. فإن الله عزيز قادر على التنكيل بالمنحرفين حكيم لا يأمر ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾
والآية التالية لها
وقد تعددت الروايات في نزولهما ١. منها أنهما نزلتا في مؤمني اليهود الذين آمنوا بالنبي من جهة وظلوا متمسكين بأحكام التوراة وتلاوته من جهة. ومنها أنهما أنزلتا في المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة ومنها أنهما نزلتا في بعض المسلمين المتهاونين في أحكام الإسلام وواجباته.
وليس شيء من هذه الروايات وراداً في كتب الأحاديث المعتبرة، وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أنهما في صدد شيء من قبيل ما جاء في الرواية الثالثة.
ولعل هذا متصل بما احتوته الآيات السابقة من وصف موقف المنافق والمخلص. وقد أُريد بهما توكيد وجوب الإخلاص لله وحده. وعدم اتباع وساوس الشيطان التي لا يتبعها إلا المنافقون المفسدون.
وإذا صحّ هذا كما نرجو فتكون الآيتان معقبتين على الآيات السابقة ليكون فيهما هتاف للمسلمين المتهاونين، ونرجح أنهما لم تنزلا لحدتهما وأنهما استمرار للسياق وجزء منه والله أعلم.
ومهما يكن من ظرف نزول الآيتين، فإنهما انطوتا على تلقين جليل مستمر المدى ودعوة قوية دائمة للمسلمين بوجوب إسلام النفس لله في جميع أمورهم والإخلاص له وعدم الانحراف عن هذه الجادة المستقيمة وعدم الاندماج في المكائد والدسائس الباعثة على القلق والاضطراب والتفكك بين المسلمين جماعة وأفراداً وفي كل ظرف ومكان، وكون ذلك وحده هو الطريق القويم المؤدي إلى النجاة.
في الآيتين :
١- دعوة للمؤمنين للاستمرار على الإسلام الذي دخلوا فيه وإسلام النفس لله إسلاماً تاماً والطاعة لجميع أوامره.
٢- وتحذير لهم من اتباع الشيطان والسير في ما يزينه وتنبيه إلى أنه عدو شديد العداء لهم لا يمكن أن يوسوس إلا بما فيه إثمهم وضررهم.
٣- وإنذار لهم في حالة انحرافهم عن طريق الحق بعدما جاءتهم آيات الله وبيناته واضحة جليّة. فإن الله عزيز قادر على التنكيل بالمنحرفين حكيم لا يأمر ولا يفعل إلا ما فيه الحكمة والصواب.
تعليق على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً ﴾
والآية التالية لها
وقد تعددت الروايات في نزولهما ١. منها أنهما نزلتا في مؤمني اليهود الذين آمنوا بالنبي من جهة وظلوا متمسكين بأحكام التوراة وتلاوته من جهة. ومنها أنهما أنزلتا في المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وقلوبهم غير مؤمنة ومنها أنهما نزلتا في بعض المسلمين المتهاونين في أحكام الإسلام وواجباته.
وليس شيء من هذه الروايات وراداً في كتب الأحاديث المعتبرة، وروح الآيتين وفحواهما يلهمان أنهما في صدد شيء من قبيل ما جاء في الرواية الثالثة.
ولعل هذا متصل بما احتوته الآيات السابقة من وصف موقف المنافق والمخلص. وقد أُريد بهما توكيد وجوب الإخلاص لله وحده. وعدم اتباع وساوس الشيطان التي لا يتبعها إلا المنافقون المفسدون.
وإذا صحّ هذا كما نرجو فتكون الآيتان معقبتين على الآيات السابقة ليكون فيهما هتاف للمسلمين المتهاونين، ونرجح أنهما لم تنزلا لحدتهما وأنهما استمرار للسياق وجزء منه والله أعلم.
ومهما يكن من ظرف نزول الآيتين، فإنهما انطوتا على تلقين جليل مستمر المدى ودعوة قوية دائمة للمسلمين بوجوب إسلام النفس لله في جميع أمورهم والإخلاص له وعدم الانحراف عن هذه الجادة المستقيمة وعدم الاندماج في المكائد والدسائس الباعثة على القلق والاضطراب والتفكك بين المسلمين جماعة وأفراداً وفي كل ظرف ومكان، وكون ذلك وحده هو الطريق القويم المؤدي إلى النجاة.
[ ٢ ] الغمام : السحاب الأبيض الخفيف.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ [ ١ ] مِّنَ الْغَمَامِ [ ٢ ] وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴿ ٢١٠ ﴾ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ [ ٣ ] مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿ ٢١١ ﴾ ﴾
في الآيتين :
١- تساؤل استنكاري وتقريعي عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام ينتظرون نزول الله والملائكة في قطع من الغمام ليخاطبوهم مباشرة.
٢- وإنذار لهم بأن وقوع ذلك إيذان بقضاء الله وعذابه عليهم على ما جرت عادة الله الذي ترجع إليه الأمور أولا وآخراً.
٣- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال بني إسرائيل في معرض الاستشهاد عما أتاهم الله من آيات ودلائل واضحة كثيرة.
٤- وإنذار لمن يبدل نعمة الله المتمثلة في آياته وبياناته ومقاصدها بعدما جاءته واضحة، فإن الله شديد العقاب ينتقم بمن يقدم على هذا الإثم العظيم.
ولم نطلع على رواية في نزول هاتين الآيتين، والذي يتبادر لنا أن الضمير في ﴿ يَنظُرُونَ ﴾ راجع إلى الذين يترددون وينحرفون ويزلون عن الإسلام لله والطاعة التامة له والذين وجهت الآيتان السابقتان إليهم الإنذار. وعلى هذا فيمكن أن يقال : إن الآيتين جاءتا معقبتين أيضا على الآيتين السابقتين واستمراراً لهما. ولما كنا خمنا صلة الآيتين السابقتين بما قبلهما أيضا فتكون هاتان الآيتان جزءا من السلسلة أو الفصل الجديد الذي بدأ بالآية [ ٢٠٤ ].
ومع أن أٍسلوب السؤال هو تقريعي أكثر منه تقريرياً لطلب واقع نزول الله والملائكة فإن طلباً مثل هذا قد وقع على سبيل التعجيز من كفار قريش على ما حكته آية سورة الفرقان هذه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً ﴿ ٢١ ﴾ ﴾ كما أن طلب استنزال الملائكة ليؤيدوا النبي قد تكرر من أولئك الكفار على ما حكته آيات كثيرة مرت في سور عديدة ١. ولعل استشهاد بني إسرائيل في هذا الموقف متصل بقصد التذكير بحادث جرى لآبائهم وحكته آية البقرة [ ٥٥ ] حيث قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. ولعل هذا الاستشهاد ينطوي كذلك على التذكير بما كان من بني إسرائيل من تحريف وتبديل لآيات الله وتنكيل الله بهم على ذلك مما حكته آيات عديدة في سورة البقرة وغيرها. وليس من المستبعد أن يكون لليهود يد في موقف التردد وعدم التصديق بجميع ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدا من بعض المؤمنين أو المتظاهرين بالإيمان أو عدم الإخلاص التام لله. ويد كذلك في وسوسة طلب المعجزات من النبي صلى الله عليه وسلم من مثل نزول الله والملائكة في الغمام بقصد التشكيك والتعطيل ؛ فاقتضت حكمة التنزيل طلب الاستشهاد بهم بأسلوب ينطوي فيه التذكير بما وقع لآبائهم من قبل وربما الإنذار لهم أيضا.
ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية وموضوعية فإن فيهما تلقيناً مستمر المدى بتقبيح مواقف المكابرة والتمحل والتعجيز والانحراف عن جادة الحق الواضحة التي بينتها وهدت إليها آيات الله.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآيات في صدد يوم القيامة ومشاهدها وليست الروايات وثيقة. وفحوى الآيات وصلتها بأسبقها أسلوباً وموضوعاً يحمل على التوقف فيها ويجعل ما شرحناه هو الأكثر وجاهة ووروداً والله أعلم.
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ [ ١ ] مِّنَ الْغَمَامِ [ ٢ ] وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴿ ٢١٠ ﴾ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ [ ٣ ] مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿ ٢١١ ﴾ ﴾
في الآيتين :
١- تساؤل استنكاري وتقريعي عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام ينتظرون نزول الله والملائكة في قطع من الغمام ليخاطبوهم مباشرة.
٢- وإنذار لهم بأن وقوع ذلك إيذان بقضاء الله وعذابه عليهم على ما جرت عادة الله الذي ترجع إليه الأمور أولا وآخراً.
٣- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال بني إسرائيل في معرض الاستشهاد عما أتاهم الله من آيات ودلائل واضحة كثيرة.
٤- وإنذار لمن يبدل نعمة الله المتمثلة في آياته وبياناته ومقاصدها بعدما جاءته واضحة، فإن الله شديد العقاب ينتقم بمن يقدم على هذا الإثم العظيم.
ولم نطلع على رواية في نزول هاتين الآيتين، والذي يتبادر لنا أن الضمير في ﴿ يَنظُرُونَ ﴾ راجع إلى الذين يترددون وينحرفون ويزلون عن الإسلام لله والطاعة التامة له والذين وجهت الآيتان السابقتان إليهم الإنذار. وعلى هذا فيمكن أن يقال : إن الآيتين جاءتا معقبتين أيضا على الآيتين السابقتين واستمراراً لهما. ولما كنا خمنا صلة الآيتين السابقتين بما قبلهما أيضا فتكون هاتان الآيتان جزءا من السلسلة أو الفصل الجديد الذي بدأ بالآية [ ٢٠٤ ].
ومع أن أٍسلوب السؤال هو تقريعي أكثر منه تقريرياً لطلب واقع نزول الله والملائكة فإن طلباً مثل هذا قد وقع على سبيل التعجيز من كفار قريش على ما حكته آية سورة الفرقان هذه :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً ﴿ ٢١ ﴾ ﴾ كما أن طلب استنزال الملائكة ليؤيدوا النبي قد تكرر من أولئك الكفار على ما حكته آيات كثيرة مرت في سور عديدة ١. ولعل استشهاد بني إسرائيل في هذا الموقف متصل بقصد التذكير بحادث جرى لآبائهم وحكته آية البقرة [ ٥٥ ] حيث قال لموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة. ولعل هذا الاستشهاد ينطوي كذلك على التذكير بما كان من بني إسرائيل من تحريف وتبديل لآيات الله وتنكيل الله بهم على ذلك مما حكته آيات عديدة في سورة البقرة وغيرها. وليس من المستبعد أن يكون لليهود يد في موقف التردد وعدم التصديق بجميع ما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم الذي بدا من بعض المؤمنين أو المتظاهرين بالإيمان أو عدم الإخلاص التام لله. ويد كذلك في وسوسة طلب المعجزات من النبي صلى الله عليه وسلم من مثل نزول الله والملائكة في الغمام بقصد التشكيك والتعطيل ؛ فاقتضت حكمة التنزيل طلب الاستشهاد بهم بأسلوب ينطوي فيه التذكير بما وقع لآبائهم من قبل وربما الإنذار لهم أيضا.
ومع ما يمكن أن يكون للآيتين من خصوصية زمنية وموضوعية فإن فيهما تلقيناً مستمر المدى بتقبيح مواقف المكابرة والتمحل والتعجيز والانحراف عن جادة الحق الواضحة التي بينتها وهدت إليها آيات الله.
ولقد روى الطبري عن بعض أهل التأويل أن الآيات في صدد يوم القيامة ومشاهدها وليست الروايات وثيقة. وفحوى الآيات وصلتها بأسبقها أسلوباً وموضوعاً يحمل على التوقف فيها ويجعل ما شرحناه هو الأكثر وجاهة ووروداً والله أعلم.
تشير الآية إلى استغراق الكفار في الحياة الدنيا واغترارهم بما تيسر لهم من أٍسباب اليسر والنعيم فيها وما ساقهم هذا إليه من السخرية بالمؤمنين وتنقصهم لهم. ثم تقرر أن المتقين من المؤمنين سوف يكونون فوقهم يوم القيامة مكرمين عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية نزلت في بعض رؤساء قريش الذين بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون : لو كان هؤلاء من رجال الله لبسط لهم الرزق. كما رووا أنها نزلت في بعض رؤساء المنافقين أو رؤساء اليهود في المقصد نفسه، وليس شيء من ذلك وارداً في كتب الأحاديث المعتبرة. والذي يتبادر لنا أن الآية هي أيضا استمرار للآيات السابقة ولم تنزل كآية مستقلة. فالكفار والمنافقون والمنحرفون عن أوامر الله والمبدلون لآياته ونعمته إنما يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وتزيينه من جهة واغتراراً بما تيسر لهم من وسائل القوة والاستمتاع بالدنيا من جهة أخرى. وليس من مانع أن تكون قصدت زعماء كفار قريش أو زعماء كفار اليهود أو زعماء المنافقين الكافرين بقلوبهم ؛ لأن صدور ذلك من كل منهم محتمل.
وتعبير ﴿ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ قوي الدلالة في مقامه، ولا سيما أن الآيات السابقة تنعى على بعض الذين آمنوا أو تظاهروا بالإسلام ترددهم وعدم إسلامهم النفس لله إسلاما صادقا فليس كل من يقول آمنا يستحقون الحظوة عند الله وإنما الذين اتقوا منهم أي الذين أخلصوا كل الإخلاص وسلّموا أمرهم وأنفسهم لله كل التسليم، ولم يترددوا ولم يكابروا في اتباع جميع ما أمر الله ونهى، وفي هذا تلقين جليل مستمر المدى.
ولقد قلنا في الشرح : إن الكفار يفعلون ما ذكرته الآية بوساوس الشيطان وهذا مستلهم من النهي الوارد في الآيات السابقة عن اتباع خطوات الشيطان.
وقد يصح أن يكون في العبارة القرآنية بسبب بنائها على المجهول تقرير بكون الكفر مما يزين لصاحبه الحياة الدنيا أيضا والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
وهذه الجملة تأتي لأول مرة، وقد تكررت في سور أخرى بعد هذه السورة والمتبادر من مقامها وروحها أنها بسبيل الردّ على تبجح الكفار بما تيسر لهم من سعة الرزق. وتقرير كون ذلك ليس هو مظهر حظوة لهم عند الله، وإنما هو مظهر من مظاهر النواميس التي أقام الله المجتمع الإنساني عليها. ولقد تكرر تبجح الكفار بذلك في صور ومناسبات متنوعة فحكته عنهم آيات عديدة في سور سابقة وردته عليهم بأساليب متنوعة على ما مرّ شرحه ٢.
٢ انظر آيات سورة الفجر [١٥-٣٠] وطه [١٣١] وسبأ [٣٥-٣٧] والمؤمنون [٥٥-٦١] وتفسيرها في أجزاء سابقة.
[ ١ ] أمة واحدة : نوعاً واحداً في الدين أو سائرون على طريق واحد فيه أو مفطورون على فطرة واحدة.
تعليق على آية
﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً... ﴾
روى المفسرون [ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي ] عن أهل التأويل أن في الفقرة الأولى من الآية محذوفا مقدراً، وأن تقدير الجملة هكذا :«كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين... » وهذا وجيه وفي الجملة جملة ﴿ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ حيث تكون الجملة قرينة على صواب التقدير. وفي سورة يونس آية فيها تدعيم لذلك أيضا وهي :﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ { ١٩ ﴾ }.
وقد رووا عن بعض أهل التأويل أن جملة ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ أنها بمعنى كان الناس كفاراً أو على ضلال. فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. كما رووا عن بعض آخر أنها بمعنى كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين. وروح الآية مع ملاحظة مقام جملة :﴿ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾ فيها تجعل القول الثاني أكثر وجاهة. وقد يدعم ذلك آية سورة الروم هذه :﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { ٣٠ ﴾ }.
وعلى ضوء هذه الأقوال الوجيهة فإن الآية في صدد تقرير أن الناس كانوا قبل بعثة النبيين أمة واحدة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به وحده ثم اختلفوا وتناقضوا فبعث الله النبيين إليهم داعين إلى الحق والهدى، وأنزل عليهم الكتب التي احتوت بيان الطريق الحق الواضح الذي فيه حل لما طرأ بينهم من خلاف ونزاع على ذلك، وأنه كان من الذين جاءتهم كتب الله وبيّناته من اختلفوا في تأويل ما جاءهم بغياً وعدواناً وانحرافاً عن طريق الحق والصواب وانسياقاً وراء المآرب والشهوات. وأن الله قد هدى الذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وأسلموا إليه وآمنوا بما جاءهم منه من دون عناد ولا بغي إلى الحق الذي اختلف فيه أولئك المنحرفون الباغون. وذلك نعمة ورحمة من الله الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم.
ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآية، ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة واستمرار لها وتعقيب عليها. وأنها في صدد التذكير بما كان من أمر اختلاف الأمم غير الأمة الإسلامية فيما جاءها من كتب الله والتنويه بما كان من هداية الله للذين آمنوا بالرسالة المحمدية إلى الحق الذي اختلفوا فيه، وتحذير لهؤلاء في الوقت نفسه من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة المختلفة في مناسبة ذكر ما كان من تردي بعضهم وانحرافه وعدم إسلامه وإخلاصه التامين مما انطوت حكايته أو الإشارة إليه في الآيات السابقة بأسلوب التنديد والإنذار.
ومع أن أسلوب الآية تقريري عام لبيان طبيعة البشر، وما كان من اختلافهم على الحق ونزاعهم فيه منذ الأزمنة القديمة اندفاعاً وراء المآرب والأهواء فالمتبادر أنها في صدد ما وقع فيه اليهود والنصارى بخاصة من نزاع وشقاق وتأويلات خرجوا بها عن دائرة الحق والهدى وكتب الله ؛ وما احتوته الرسالة المحمدية والقرآن من البيان الواضح للحق والهدى الذي يمكن به تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال وإرجاع كل شيء إلى نصابه الحق، والتنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بهما واتبعوا الحق والهدى اللذين انطويا فيهما فصاروا بذلك أمة وسطا عدولاً.
والآية قوية رصينة، فيها تقرير قوي لوحدة الحقّ وعدم تحمله للخلاف والنزاع حينما تحسن النبات وتتحقق الرغبات الصالحة. وحملة على الذين يختلفون فيه – وبخاصة ممن يكونون قد أوتوا علما ومعرفة – اندفاعاً وراء الأهواء والمآرب واستكباراً عن الاستجابة إلى الحق واتباعه. وفيها كذلك تنويه بحسني النية صالحي السريرة الذين يرون الحق فيتبعونه ويتمسكون به، وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل المستمر المدى. وفيها كذلك إيذان رباني ذو مغزى خطير في صدد الرسالة المحمدية يتضمن كون الله تعالى قد هدى الذين آمنوا بهذه الرسالة والقرآن إلى الحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من قبلهم تتجه للمآرب الباغية التي كانت تغريهم. وبعبارة أخرى فيها تقرير بأن الرسالة المحمدية والقرآن قد جاءا ليقررا الحق والصواب فيما اختلفوا فيه وضابطين لهما. وفيهما حل للمشكلات والتعقيدات والخلافات التي ارتكسوا فيها والتي لم تكن في أصل دين الله وهداه.
وأسلوب الآية يوحي بكل طمأنينة ووثوق بما تضمنته من هذه التقريرات. ويوحي للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه وللمؤمنين الذين آمنوا به بأنهم على هدى الله وصراطه المستقيم.
ولقد جاء مصداق ذلك في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه :﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً { ٢٨ ﴾ } وما شرحناه في سياق تفسير آيتي يونس [ ١٩ ] والروم [ ٣٠ ] المشار إليهما آنفا من ناحية ما له صلة بهذه الآية. ولم نر حاجة إلى إعادته هنا، ويحسن بالقارئ أن يرجع إليه لتتم إحاطته بالموضوع.
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا برواية البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يدعو الله إذا قام في الليل يصلي فيقول :«اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختفون اهدِني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ». وفي الحديث صورة لشدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع الحق والتماسه من الله تعالى بأن يهديه إليه ويثبته عليه. وللمؤمنين أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث آخر يورده ابن كثير وقد ورد في التاج برواية الشيخين والنسائي عن أبي هريرة في صدد يوم الجمعة جاء فيه :«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا، وهذا – أي الجمعة – يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبعٌ اليهود غدا والنصارى بعد غد » ١. والحديث وإن كان كما قلنا في صدد يوم الجمعة فالمتبادر أنه ليس مما يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر أن الحق الذي اختلفوا فيه وهدى الله المؤمنين إليه هو يوم الجمعة فقط كما يوهم الحديث. وكل ما في الأمر أن هذا من جملة ذلك والله أعلم.
جمهور المفسرين على أن حرف ( أم ) هو في مقام السؤال، وروح الآية يلهم صحة ذلك، ليكون والحالة هذه في الآية سؤال استنكاري موجّه للمؤمنين عما إذا كانوا يظنون أنهم قد استحقوا الجنة بمجرد إسلامهم دون أن يثبتوا على ما سوف يصابون بمثل ما أصاب المؤمنين من قبلهم من المكاره والشدائد والأخطار التي هزتهم هزاً قوياً وآذتهم أذى كبيراً وجعلتهم يلجأون إلى الله هم ورسلهم متسائلين متى يأتيهم نصره. وتنبيه تطميني بأن نصر الله قريب.
ومن المفسرين من جعل التنبيه جواباً ربانياً للذين تساءلوا عن نصر الله من الأمم السابقة. ومن المفسرين من جعله تطميناً للمؤمنين الذين وجه إليهم السؤال. ومن المفسرين من جعله جواباً وتطميناً ربانياً مطلقاً في صدد الحالة التي احتوت الآية وصفها، وكل ذلك محتمل ووجيه.
تعليق على الآية
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ... ﴾
وقد روى المفسرون في نزول الآية روايات ١، منها أنها نزلت في مناسبة ظروف زحف قريش وأحزابهم على المدينة مما عرف في تاريخ السيرة بوقعة الخندق حيث اشتد كرب المسلمين وزلزلوا زلزالاً شديداً على ما ذكرته آيات ؛ سورة الأحزاب هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً { ٩ ﴾ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴿ ١٠ ﴾ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴿ ١١ ﴾ }. ومنها أنها نزلت في مناسبة المصاب الذي أصيب به المسلمون في وقعة أحد مما احتوى تفصيله سورة آل عمران. ومنها أنها نزلت بمناسبة ما نال المهاجرين من شدة وحرمان. والروايتان الأوليان بعيدتان عن ظروف نزول هذه الآية وترتيبها في سورة البقرة ولا سيما أن قصة وقعتي أحد والخندق قد وردت في سورتي آل عمران والأحزاب، والرواية الثالثة مناسبة لظروف نزول الآية أكثر وننبه على أنه ليس شيء من هذه الروايات وراداً في كتب الأحاديث المعتبرة.
ولقد ورد لبالنا احتمالات أخرى في ظرف وسبب نزول الآية مستلهمة من السياق. منها احتمال أن تكون متصلة بسلسلة الآيات السابقة فتكون بمثابة تعقيب وتنبيه وحثّ للمؤمنين على الثبات والتمسك بما جاءهم والدفاع عنه مهما أوذوا في سبيله وإعلامهم بأن رضاء الله لن ينال إلا بالجهد والجد والصبر والإسلام التام له. ومنها احتمال صلتها بما صار يقع من المهاجرين من شهداء في السرايا التي كان يسيرها النبي صلى الله عليه وسلم والغزوات التي كان يقودها في السنة الأولى والثانية من الهجرة وقبل وقعة بدر. وقد أشرنا إلى ذلك في سياق تفسير الآيات [ ١٥٢-١٥٦ ] من هذه السورة التي نبّه فيها المسلمون إلى أنهم سيبتلون بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، وحثّوا فيها على الصبر. وبعد قليل تأتي آيات فيها إشارة إلى قتال وقع بين المهاجرين والمشركين مما قد يدعم ذلك. وفي حال صحة الاحتمالين أو صحة الرواية الثالثة تكون الآية فصلاً جديداً فيه تمهيد لما يأتي بعده. ويكون وضعها في مقامها لمناسبة ما احتوته الآيات السابقة من خطاب للمسلمين، أو لأنها نزلت بعدها.
ومهما يكن من أمر ففي الآية إعلان للمؤمنين بما سوف يقع عليهم من الشدة. ودعوة لهم إلى توطين النفس على الصبر والتحمل. وتنبيه على أن هذا كان من شأن من قبلهم من المؤمنين وأنبيائهم. وبشرى بنصر الله في النهاية. وتقرير بأن هذا النصر لن ينال إلا بالصبر والتضحية. وفي كل هذا تلقينات وعظات نفسية جليلة مستمرة المدى، ومنبع لا ينضب يمد النفس المؤمنة بالقوة المعنوية. وقد تكرر هذا في مقامات عديدة، ومنه ما مرّ في سور سابقة منها آيات سورة العنكبوت [ ١-٣ ].
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثاً ورد في التاج برواية البخاري وأبي داود عن خبّاب قال :«أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بُردة في ظل الكعبة فشكونا إليه وقلنا ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فجلس مُحْمَرّاََ وجهُهُ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه. والله ليتِمّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تعجلون » ٢. والحديث مكي كما يستفاد من مطلعه. وفيه مظهر رائع من قوة إيمان الرسول بما هو عليه من الحق وبنصر الله إياه في عهد مكة برغم ما كان يحدق به وبأصحابه من أخطار ويقاسونه من شدة. وينطوي فيه ما ينطوي في الآية من تنبيه وتطمين ومعالجة روحية، وفيه بشرى قد تحققت بنصر الله وتمام أمر الله فكان ذلك معجزة نبوية أو مصداقاً لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم الصادقة. والآية التي نحن في صددها مدنية، والمتبادر أنها نزلت في ظرف مماثل للشعور بالشدة الذي كان المؤمنون يشعرون به في مكة ؛ حيث اقتضت ذلك حكمة التنزيل للتطمين والبشرى.
٢ التاج ٤/٥٤.
في الآية حكاية لسؤال أورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن الوجوه التي يحسن الإنفاق فيها وأمر له بالإجابة بأن ما يمكنهم أن ينفقوه على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وتنبيه إلى أن الله يعلم كل خير يفعلونه.
وقد روى بعض المفسرين ١ أن الآية نزلت في رجل طاعن في السن اسمه عمر بن الجموح كان ذا مال كثير سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بماذا يتصدق وعلى من ؟ والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة.
والآية على كل حال فصد جديد يحتوي سؤالاً وجواباً تعليميين مما هو كثير في سورة البقرة بخاصة والسور المدنية بعامة. وسمة التشريع بارزة عليها، ومن المحتمل أن تكون وضعت في ترتيبها لأنها نزلت بعد سابقتها أو للمماثلة الخطابية والتشريعية بينها وبين سلسلة الآيات السابقة.
ولقد روى المفسرون ٢ عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم في مدى الآيات بعض الروايات. منها أن الآية في صدد النفقات التطوعية، ومنها أنها نزلت قبل فرض الزكاة ثم نسخت بالزكاة. وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الأحاديث المعتبرة ولقد كانت الزكاة ممارسة كفرض ملازم للصلاة في العهد المكي على ما استلهمناه وذكرناه في تعليقنا على الزكاة في تفسير سورة المزمل ؛ حيث يجعل هذا القول الثاني محل توقف ويجعل القول الأول هو الأوجه. وفي السور المكية آيات كثيرة حثّت على التصدق على المساكين وأبناء السبيل واليتامى إلى جانب الآيات التي تنوّه بإيتاء الزكاة وتحثّ عليها وهذا يدعم القول الأول أيضا.
ولقد مرّ في هذه السورة آيات فيها أمر رباني بالوصية للوالدين والأقربين وفي هذه الآية حثّ على الإنفاق عليهم في حياتهم أيضاً. حيث يسوغ القول : إن بعض المسلمين كانوا يقصرون في واجبهم نحو آبائهم والمحتاجين من أقاربهم وغيرهم فاقتضت الحكمة إيجاب الإنفاق عليهم في معرض الجواب على السؤال، توكيداً للحثّ الرباني المتكرر.
وإيجاب الإنفاق على الوالدين والأقربين يأتي لأول مرة، والأسلوب التعليمي يجعل ذلك مستمر المدى شاملاً لكل وقت بطبيعة الحال. والمتبادر أن كلمة ﴿ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ أوسع من الزوجات والأولاد. بحيث يقال : إن الآية حثت على الإنفاق على كل قريب يكون في حاجة من غير الذين تجب على المرء نفقته. ومع أن المتبادر أن الوالدين مما يجب على المرء النفقة عليهم فإن ذكرهما متصل على ما نرجح بمواقف عقوقية كان يقفها بعضهم من والديهم.
وهناك أحاديث عديدة منها ما هو صحيح يحسن أن تساق في هذا المقام، منها حديث رواه أبو داود جاء فيه :«قيل يا رسول الله من أَبَرُّ ؟ قال : أمَّك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك، حقّ واجب ورحم موصولة » ٣. وحديث رواه الترمذي وأحمد والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامَكم، فإنّ صلة الرحم محبّة في الأهل مثراةٌ في المال منسأة في الأثر » [ نفسه ].
٢ نفسه.
٣ التاج ٥/٨ و١٠ ومثراة في المال بمعنى مكثرة له أو مباركة فيه منسأة في الأثر بمعنى مطولة في العمر أو مباركة فيه.
تعليق على آية
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ... ﴾ الخ
عبارة الآية واضحة، ولم نطلع على رواية في سبب نزولها وهي كما يبدو فصل تشريعي جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآية السابقة فوضعت في ترتيبها أو أنها وضعت في هذا الترتيب للمماثلة الخطابية والتشريعية والآيتان التاليتان لهذه الآية نزلتا على ما يفيده فحواهما وتدعمه الروايات في مناسبة قتال بين بعض المسلمين والمشركين اشتبه أن يكون في الشهر الحرام، وقد رجح الشيخ محمد عبده على ما رواه صاحب تفسير المنار رشيد رضا أن تكون هذه الآية والآيات التالية لها نزلت معاً، وهو ترجيح وجيه.
ونص الآية صريح في فرض الجهاد على المسلمين، وإذا كانت جاءت بدون حدود وشروط فإن هذا لا يعني أن على المسلمين القتال بدون حدود وشروط. فإن هناك آيات عديدة احتوت ذلك، منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.
وجمهور العلماء على أن الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض كفى، وهذا وجيه ومنسجم مع آيات عديدة أخرى منها آية سورة النساء هذه :﴿ لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً { ٩٥ ﴾ } وآية سورة التوبة هذه :﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ { ١٢٢ ﴾ }
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن قيام البعض الذي يكفي يجب أن يكون كافياً لحصول المراد من الجهاد، وهو دفع العدوان وإرغام العدو وقهره. فإن لم يكن كذلك فلا يجوز لأحد من المسلمين القادرين على القتال أن يتخلّف بحجة أن هناك من يقاتل، ويقع على المتخلّفين في هذه الحالة إثم التقصير في فرض من فروض الإسلام الرئيسية.
وأسلوب الآية ينطوي على علاج نفساني قوي وتلقينات جليلة في صدد فرض القتال : فالقتال مما تستثقله النفوس عادة، ولكنه ضرورة لا مناص منها في مثل حدوده وشروطه الإسلامية. وفيه الخير العميم من مختلف النواحي. وورود الآية في عهد مبكر من الهجرة – ونرجح أنها نزلت في السنة الهجرية الأولى استلهاماً من الآيات التالية لها – تبرز حكمة هذا العلاج ؛ حيث كان المسلمون ما يزالون قلّة كما يظهر لنا على ما اقتضته حكمة التنزيل من إيجاب قتال أعدائهم حتى يوقعوا هيبتهم في قلوبهم ويشعروهم بعزمهم على مقابلة عدوانهم عليهم بالمثل.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى تنظيم القتال وانتداب الناس إليه. وكان هذا شأن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم ؛ حيث يصح القول : إن أمر تنظيم القتال وتوقيته واستنفار الناس إليه منوط بولي أمر المسلمين وسلطانهم.
ولقد روى الطبري عن عطاء أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وهو قول عجيب، والجمهور على أنها للمسلمين عامة. وروى عن ابن عباس أنها نسخت حينما قال المسلمون ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ وهو ما حكي عن لسانهم في آخر هذه السورة. وقد فنّد الطبري هذا القول، ونرجح أنه منحول لابن عباس فهو أفقه من أن يقول ذلك.
ويروي رشيد رضا عن بعض المفسرين دون ذكر اسم ومصدر : أن جملة :﴿ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ تعني جميع التكاليف التي أمر الله بها، وجملة :﴿ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ﴾ تعني جميع ما نهى المسلمون عنه. وقد فنّد هذا القول قائلا : إنه ليس من مسلم صادق يكره تنفيذ ما أمر الله ويحب عمل ما نهى عنه. والتفنيد في محلّه. والجملتان بسبيل معالجة نفسية على ما شرحناه آنفا والله أعلم.
ولقد ورد بعد هذه الآية آيات، ثم ورد في سور مدنية أخرى آيات أخرى قوية في الحثّ على القتال في سبيل الله وبيان ما للمجاهدين من ثواب ومنزلة وبشارات ربانية لهم في الدنيا بالإضافة إلى الآخرة ثم في التنديد بمن يتباطأ ويتقاعس ويبطئ عن القتال أو يفرّ منه. وفي تقرير كون الجهاد في سبيل الله مقياساً لإيمان المؤمن المخلص مما سوف تأتي نصوصه وشرحه ومداه في مناسباته في هذه السورة وغيرها ومما ينطوي فيه ما أسبغته حكمة التنزيل على هذا الركن الإسلامي العظيم من عناية وخطورة.
ولقد رويت أحاديث نبوية منها الصحيحة فيها مثل ذلك أيضا منها حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة جاء فيه :«تضمّن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيله وإيماناً به أن يدخله الجنة أو يرجعَه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ وغنيمةٍ. والذي نفس محمد بيده ما من كَلْمٍ يكلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلِمَ لونُه لونُ دمٍ وريحُه ريحُ مسكٍ. والذي نفس محمد بيده لولا أن يشُقّ على المسلمين ما قعدت خلافَ سريّةٍ تغزو في سبيل الله أبداً. ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشقّ عليهم أن يتخلّفوا عنّي. والذي نفس محمد بيده لوددت أنّي أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل » ولفظ البخاري لوددت أني أقتل في سبيل الله فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل فأحيا ثم أقتل » ١. وحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي جاء فيه :«من مات ولم يغز ولم تحدّثه به نفسه مات على شُعبةٍ من نفاق » ٢.
وهناك حديث رائع متصل بمدى الآية رواه أبو داود عن ثوبان :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل : ومن قلّةٍ نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنّ الله من صدور عدوّكم المهابة منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوهنَ. قال قائل : يا رسول الله وما الوهْنُ ؟ قال : حبّ الدنيا وكراهية الموت » ٣. وفي كل هذا تساوق بين التلقين القرآني والتلقين النبوي كما هو ظاهر.
هذا، وهناك أمر آخر يحسن أن نذكره في صدد فرض القتال على المؤمنين حيث روى الطبراني عن أنس بن مالك قال :«قالت أمُّ سليمٍ يا رسول الله آخرجُ معك إلى الغزو ؟ قال : يا أمّ سليم، إنّه لم يكتب على النساء الجهادُ. قالت : أداوي الجرحى وأعالج العينَ وأسقي الماءَ، قال : نعم إذاً ». والحديث ليس من الصحاح ولقد ورد في كتب الأحاديث الصحيحة أحاديث عديدة كما روت روايات السيرة والتاريخ روايات عديدة تذكر أن النساء المسلمات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده كن يذهبن مع الرجال فيحملن للمقاتلين الماء والزاد ويداوين الجرحى والمرضى ويحملن أحياناً السلاح ويقاتلن. فإذا صح حديث الطبراني فيكون في صدد فرضية القتال واختصاص ذلك بالرجال دون النساء فرضاً وتكليفاً، وليس فيه ما يمنع تطوع المرأة المسلمة في مختلف الأساليب الجهادية، وقد كان ذلك فعلاً في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده والله أعلم.
٢ المصدر نفسه، ص: ٢٩٥.
٣ التاج ٥/٢٩٥، وفي كتب الحديث أحاديث عديدة أخرى فاكتفينا بما أوردنا.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ [ ١ ] قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢١٧ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢١٨ ﴾ ﴾.
في الآية الأولى :
١- حكاية لسؤال أورد على النبي صلى عما إذا كان يجوز القتال في الشهر الحرام، وأمر بالإجابة بأن القتال فيه خطير وكبير عند الله غير أن الصدّ عن سبيل الله ودعوته والكفر به والصدّ عن المسجد الحرام وإلجاء أهله إلى الخروج منه بالأذى والإعنات هما أكبر عند الله من القتال فيه. كما أن الفتنة أي إجبار المسلمين على ترك دينهم بالقوة والأذى هي أكبر عند الله من القتال فيه وكل هذا كان يقع من الكفار في الشهر الحرام.
٢- وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين بأن الكفار لن يتوانوا عن قتالهم وإيقاع الأذى عليهم بكل وسيلة وفي كل وقت حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
٣- وإنذار لمن يتأثر بهم فيرتدّ عن دينه ويموت كافراً، فأولئك يبطل الله جميع ما عملوه من خير، ويكون مصيره الخلود في النار.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فهؤلاء إنما كانوا يرجون بما فعلوا رحمة الله، وإن الله لمحقق رجاءهم وغافر لما يمكن أن يكون بدر منهم من خطأ لأنه غفور رحيم.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ... ﴾ الخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الأولى نزلت جواباً على دعاية تشويشية قام بها كفار مكة بمناسبة قتال وقع بين سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة عبد الله بن جحش لرصد قافلة قرشية فقتلت بعض رجالها وأسرت بعضهم واستولت على العير. وادعى كفار قريش أن الحادث وقع في أول رجب حيث كان القتال محرماً في الأشهر الحرم التي كان رجب منها وعظيم الخطورة عند العرب فاستغل أولئك الكفار ذلك وصاروا يتساءلون تساءل المستنكر العائب عن الأمر ويقولون : إن محمدا وأصحابه يستحلون الشهر الحرام حتى لقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم رجال سريته وقال لهم : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاضطربوا وخافوا فأنزل الله الآية التي فيها الحكم والفرج.
والرواية ذكرت في أقدم كتب السيرة ٢ وفي جميع كتب التفسير والتاريخ القديمة وهي متسقة مع فحوى الآية وروحها.
ولقد روى الطبري وغيره أنه لما نزلت الآية الأولى طمع المهاجرون في الأجر فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله الآية الثانية. وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولسنا نراها متسقة مع فحوى الآية ومقامها. ويتبادر لنا أنها نزلت مع الأولى كتعقيب عليها من جهة ودفاع عن رجال السرية من جهة أخرى. فهم إنما أقدموا على ما أقدموا عيله جهاداً في سبيل الله ورجاء رحمته ورضوانه. فهم بالثناء والتنويه أحقّ من الملامة والتثريب.
ويظهر أن بعض المسلمين قد تأثروا بدعاية الكفار فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآية الأولى ما تضمنته من تنبيه وإنذار بالإضافة إلى ما تضمنته الآية الثانية من ثناء على رجال السرية وتنويه بهم، واتصال الآيتين موضوعياً بالآية السابقة ظاهر. وهو ما جعل الشيخ محمد عبده يرجح نزول الآيات الثلاث معاً على ما ذكرناه قبل قليل.
ولقد انطوى في الجواب الذي احتوته الآية الثانية حملة شديدة على كفار قريش وردع لاذع محكم على ما أثاروه من دعاية. فهم أقل الناس حقا في اللوم والانتقاد. وتصرفاتهم الأثيمة مع المسلمين حينما كانوا في منطقة المسجد الحرام وفي أثناء الأشهر الحرم من أذى وكفر وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وفتنة المسلمين أشدّ وأكبر من القتال في الشهر الحرام الذي يثيرون بسببه الدعاية ويوجهون العيب والانتقاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والآية الثانية تلهم أن هذه السرية مؤلفة من المهاجرين فقط، وهو متسق مع ما ورد من روايات عديدة عن جميع السرايا التي سيرها النبي صلى الله عليه وسلم والغزوات التي قادها قبل وقعة بدر. وهذه السرية كانت آخرها قبل هذه الوقعة ٣. فالأنصار اشتركوا لأول مرة في القتال في وقعة بدر وبعد فرض القتال على المسلمين كافة بأسلوب مطلق صريح. أما قبل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفهم على اعتبار أن الاتفاق بينه وينهم هو على الدفاع عنه في بلدهم، وأن العداء المبرر للقتال إنما كان بين المهاجرين وقومهم القرشيين.
هذا، وفي الآيتين عظات وتلقينات أخلاقية واجتماعية مستمرة المدى مع ما لهما من خصوصية زمنية :
١- فالدفاع عن حرية الدعوة وردّ البغي والعدوان وقتال البغاة المعتدين في كل ظرف وزمن واجب ومبرر، وبخاصة إذا كان هؤلاء شديدي الأذى والخصومة.
٢- ومن الناس من يتناسى تصرفاته الآثمة الشديدة الأذى والضرر ويندفع في التهويش على الآخرين لأخطاء أخف من جرائمهم فلا ينبغي أن يؤخذ الناس بذلك ويتغافلوا عن سيئات المجرمين وآثامهم.
٣- ومن الناس من يتمسك بالأشكال ويحاول تغليبها على اللباب والجوهر مع أن الواجب الاهتمام بهذه دون تلك.
٤- والمعول هو على مقاصد الناس ونياتهم، فإذا بدا من أناس عمل خالفوا فيه العرف والعادات عن حسن نية ورغبة في الخير وأداء والواجب فينبغي أن لا يلاموا على تلك المخالفة بل لهم حق الثناء والتسامح.
ويضاف إلى هذه العظات والتلقينات ما في الآية الثانية من تنويه مطلق بالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله رجاء رحمته ؛ حيث ينطوي في ذلك أيضا تلقين مستمر المدى لجميع المسلمين في كل مكان وزمان بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الذين آمنوا وهجروا وطنهم وتخلّوا عن أموالهم ومساكنهم وعشائرهم وذوي أرحامهم في سبيل الله ودينه رجاء رحمته دون أن يكون لهم من وراء ذلك مأرب خاص إلا نصرة الله وإعلاء كلمته.
حكم المرتد عن دينه من المسلمين
وبمناسبة ما جاء في الآية الأولى من الآيتين من إنذار للذين يرتدون عن دينهم من المؤمنين ويموتون كفاراً نقول : إن عقوبة هؤلاء لم تبق في الشرع الإسلامي أخروية وحسب، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تشريع دنيوي واجب الإتباع لأنه مما سكت عنه القرآن من ذلك حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» ٤. وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من بدّل دينه فاقتلوه» ٥.
والجمهور على وجوب استتابة المرتدّ، وأنه لا يقتل إلا إذا أبى التوبة وأصرّ على الارتداد وهذا هو الحق والصواب والمتسق مع تلقينات القرآن في صدد التوبة على ما شرحناه في تعليقنا عليها في سورة البروج.
ولقد ذهب الإمام مالك إلى أن الزنادقة لا يستتابون ؛ لأنهم إذا تابوا كانوا كاذبين في توبتهم ٦. ونحن نرى الاستتابة واجبة بالنسبة للجميع فالله تعالى هو وحده عالم ما في القلوب ولا يجوز إزهاق النفس بالتخمين مهما كان محتملاً. وليس من سبيل على من يقول : إني مسلم وإني تائب بقطع النظر عمّا في قلبه على ما جاء في آية سورة النساء [ ٩٤ ] التي سوف يأتي شرحها بعد.
ولقد روى الإمام مالك عن عبد القاري أنه قال :«قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر ؟ قال : نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه. قال عمر : هلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، ثم استتوبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ ثم قال : اللهم إني لم أحضر، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» ٧.
في الآية الأولى :
١- حكاية لسؤال أورد على النبي صلى عما إذا كان يجوز القتال في الشهر الحرام، وأمر بالإجابة بأن القتال فيه خطير وكبير عند الله غير أن الصدّ عن سبيل الله ودعوته والكفر به والصدّ عن المسجد الحرام وإلجاء أهله إلى الخروج منه بالأذى والإعنات هما أكبر عند الله من القتال فيه. كما أن الفتنة أي إجبار المسلمين على ترك دينهم بالقوة والأذى هي أكبر عند الله من القتال فيه وكل هذا كان يقع من الكفار في الشهر الحرام.
٢- وتنبيه وجه الخطاب فيه إلى المؤمنين بأن الكفار لن يتوانوا عن قتالهم وإيقاع الأذى عليهم بكل وسيلة وفي كل وقت حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا.
٣- وإنذار لمن يتأثر بهم فيرتدّ عن دينه ويموت كافراً، فأولئك يبطل الله جميع ما عملوه من خير، ويكون مصيره الخلود في النار.
وفي الآية الثانية إشارة تنويهية إلى الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، فهؤلاء إنما كانوا يرجون بما فعلوا رحمة الله، وإن الله لمحقق رجاءهم وغافر لما يمكن أن يكون بدر منهم من خطأ لأنه غفور رحيم.
تعليق على الآية
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ... ﴾ الخ
والآية التالية لها
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الأولى نزلت جواباً على دعاية تشويشية قام بها كفار مكة بمناسبة قتال وقع بين سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة عبد الله بن جحش لرصد قافلة قرشية فقتلت بعض رجالها وأسرت بعضهم واستولت على العير. وادعى كفار قريش أن الحادث وقع في أول رجب حيث كان القتال محرماً في الأشهر الحرم التي كان رجب منها وعظيم الخطورة عند العرب فاستغل أولئك الكفار ذلك وصاروا يتساءلون تساءل المستنكر العائب عن الأمر ويقولون : إن محمدا وأصحابه يستحلون الشهر الحرام حتى لقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم رجال سريته وقال لهم : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاضطربوا وخافوا فأنزل الله الآية التي فيها الحكم والفرج.
والرواية ذكرت في أقدم كتب السيرة ٢ وفي جميع كتب التفسير والتاريخ القديمة وهي متسقة مع فحوى الآية وروحها.
ولقد روى الطبري وغيره أنه لما نزلت الآية الأولى طمع المهاجرون في الأجر فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله الآية الثانية. وهذه الرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة. ولسنا نراها متسقة مع فحوى الآية ومقامها. ويتبادر لنا أنها نزلت مع الأولى كتعقيب عليها من جهة ودفاع عن رجال السرية من جهة أخرى. فهم إنما أقدموا على ما أقدموا عيله جهاداً في سبيل الله ورجاء رحمته ورضوانه. فهم بالثناء والتنويه أحقّ من الملامة والتثريب.
ويظهر أن بعض المسلمين قد تأثروا بدعاية الكفار فاقتضت حكمة التنزيل أن تتضمن الآية الأولى ما تضمنته من تنبيه وإنذار بالإضافة إلى ما تضمنته الآية الثانية من ثناء على رجال السرية وتنويه بهم، واتصال الآيتين موضوعياً بالآية السابقة ظاهر. وهو ما جعل الشيخ محمد عبده يرجح نزول الآيات الثلاث معاً على ما ذكرناه قبل قليل.
ولقد انطوى في الجواب الذي احتوته الآية الثانية حملة شديدة على كفار قريش وردع لاذع محكم على ما أثاروه من دعاية. فهم أقل الناس حقا في اللوم والانتقاد. وتصرفاتهم الأثيمة مع المسلمين حينما كانوا في منطقة المسجد الحرام وفي أثناء الأشهر الحرم من أذى وكفر وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وفتنة المسلمين أشدّ وأكبر من القتال في الشهر الحرام الذي يثيرون بسببه الدعاية ويوجهون العيب والانتقاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
والآية الثانية تلهم أن هذه السرية مؤلفة من المهاجرين فقط، وهو متسق مع ما ورد من روايات عديدة عن جميع السرايا التي سيرها النبي صلى الله عليه وسلم والغزوات التي قادها قبل وقعة بدر. وهذه السرية كانت آخرها قبل هذه الوقعة ٣. فالأنصار اشتركوا لأول مرة في القتال في وقعة بدر وبعد فرض القتال على المسلمين كافة بأسلوب مطلق صريح. أما قبل ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلفهم على اعتبار أن الاتفاق بينه وينهم هو على الدفاع عنه في بلدهم، وأن العداء المبرر للقتال إنما كان بين المهاجرين وقومهم القرشيين.
هذا، وفي الآيتين عظات وتلقينات أخلاقية واجتماعية مستمرة المدى مع ما لهما من خصوصية زمنية :
١- فالدفاع عن حرية الدعوة وردّ البغي والعدوان وقتال البغاة المعتدين في كل ظرف وزمن واجب ومبرر، وبخاصة إذا كان هؤلاء شديدي الأذى والخصومة.
٢- ومن الناس من يتناسى تصرفاته الآثمة الشديدة الأذى والضرر ويندفع في التهويش على الآخرين لأخطاء أخف من جرائمهم فلا ينبغي أن يؤخذ الناس بذلك ويتغافلوا عن سيئات المجرمين وآثامهم.
٣- ومن الناس من يتمسك بالأشكال ويحاول تغليبها على اللباب والجوهر مع أن الواجب الاهتمام بهذه دون تلك.
٤- والمعول هو على مقاصد الناس ونياتهم، فإذا بدا من أناس عمل خالفوا فيه العرف والعادات عن حسن نية ورغبة في الخير وأداء والواجب فينبغي أن لا يلاموا على تلك المخالفة بل لهم حق الثناء والتسامح.
ويضاف إلى هذه العظات والتلقينات ما في الآية الثانية من تنويه مطلق بالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله رجاء رحمته ؛ حيث ينطوي في ذلك أيضا تلقين مستمر المدى لجميع المسلمين في كل مكان وزمان بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الذين آمنوا وهجروا وطنهم وتخلّوا عن أموالهم ومساكنهم وعشائرهم وذوي أرحامهم في سبيل الله ودينه رجاء رحمته دون أن يكون لهم من وراء ذلك مأرب خاص إلا نصرة الله وإعلاء كلمته.
حكم المرتد عن دينه من المسلمين
وبمناسبة ما جاء في الآية الأولى من الآيتين من إنذار للذين يرتدون عن دينهم من المؤمنين ويموتون كفاراً نقول : إن عقوبة هؤلاء لم تبق في الشرع الإسلامي أخروية وحسب، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تشريع دنيوي واجب الإتباع لأنه مما سكت عنه القرآن من ذلك حديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» ٤. وحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من بدّل دينه فاقتلوه» ٥.
والجمهور على وجوب استتابة المرتدّ، وأنه لا يقتل إلا إذا أبى التوبة وأصرّ على الارتداد وهذا هو الحق والصواب والمتسق مع تلقينات القرآن في صدد التوبة على ما شرحناه في تعليقنا عليها في سورة البروج.
ولقد ذهب الإمام مالك إلى أن الزنادقة لا يستتابون ؛ لأنهم إذا تابوا كانوا كاذبين في توبتهم ٦. ونحن نرى الاستتابة واجبة بالنسبة للجميع فالله تعالى هو وحده عالم ما في القلوب ولا يجوز إزهاق النفس بالتخمين مهما كان محتملاً. وليس من سبيل على من يقول : إني مسلم وإني تائب بقطع النظر عمّا في قلبه على ما جاء في آية سورة النساء [ ٩٤ ] التي سوف يأتي شرحها بعد.
ولقد روى الإمام مالك عن عبد القاري أنه قال :«قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال له عمر : هل كان فيكم من مغربة خبر ؟ قال : نعم، رجل كفر بعد إسلامه. قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه. قال عمر : هلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، ثم استتوبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ؟ ثم قال : اللهم إني لم أحضر، ولم آمر ولم أرض إذ بلغني» ٧.
[ ٢ ] الميسر : هو القمار، وقيل إنه من ( اليسر ) لأنه أخذ مال الآخر بيسر وسهولة كما قيل إنه من ( اليسار ) أي صار موسراً. وقيل إنه فعل خاص أي يسر بمعنى قمر. والياسر هو الذي كان يجزئ لحم الجزر التي كانت تذبح للقمار والمراهنة. والجمهور على أن الميسر كناية عن كل أنواع القمار وأنه يدخل فيه المراهنات.
[ ٣ ] العفو : أوجه الأقوال أن الكلمة هنا بمعنى الفضل الزائد عن الحاجة، وهو ما عليه الجمهور.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ [ ١ ] وَالْمَيْسِرِ [ ٢ ] قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [ ٣ ] كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢١٩ ﴾ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ [ ٤ ] إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿ ٢٢٠ ﴾ ﴾.
في الآيتين : حكاية لأسئلة ثلاث أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم وأجوبة عليها :
١- فقد سئل عن حكم الخمر والميسر فأمر بالإجابة بأن فيهما إثماً كبيراً وفيهما كذلك منافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.
٢- وسئل عما يتصدق به المتصدقون فأمر بالإجابة بأن عليهم التصدق مما يكون فاضلاً زائداً عن حاجتهم.
٣- وسئل عما ينبغي أن يسلك مع اليتامى فأمر بالإجابة بأن الواجب هو عمل ما هو صالح ومصلح لهم، وأن ليس من بأس في مخالطتهم فهم إخوان للسائلين.
ولقد انتهت الآية الأولى بالتنبيه إلى أن الله إنما يبين آياته للمسلمين على أمل أن يتفكروا فيما ينجيهم ويسعدهم ويهديهم في الدنيا والآخرة. وانتهت الآية الثانية بالتنبيه إلى أن الله يعلم نيات الناس وسرائرهم ويعلم المفسد من المصلح منهم. وأنه توخّى التيسير عليهم، ولو شاء لأوجب عليهم ما فيه إعنات وإرهاق لهم، فهو العزيز القادر والحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
ومن المحتمل أن يكون التنبيه الذي احتوته الآية الأولى في صدد ما جاء فيها والذي احتوته الآية الثانية في صدد ما جاء يفها كما أن من المحتمل أن يكون التنبيهان في صدد ما جاء في الآيتين من أجوبة.
تعليقات على الآية
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... ﴾
والآية التالية لها وتلقيناتها في صدد اليتامى والصدقات
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضعتا بعد الآيات السابقة إما لأنهما نزلتا بعدها أو للمماثلة التشريعية على ما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون ١ أن السؤال الأول كان من عمر بن الخطاب ؛ حيث سأل الله أن ينزل في الخمر بياناً شافياً كما روي أن بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له : أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل سالبة للمال. وأن السؤال الثاني كان من معاذ بن جبل ورفيق له أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : إن لنا أرقاء وأهلين فعلى من ننفق ؟ وأن السؤال الثالث كان من جماعة كانوا أوصياء على بعض اليتامى فلما نزل ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] في سورتي الإسراء والأنعام انطلق كل من عنده يتيم فعزل ماله عن ماله، ثم شق عليهم الأمر فسألوا رسول الله فأنزل الله الآيات. وفي رواية أن هذا كان حينما نزلت آيات سورة النساء [ ٢-١١ ] التى تنهى عن أكل أموال اليتامى وتبديل طيبها بالخبيث وتنذر من يفعل ذلك وتأمر بحفظها ودفعها لهم.
والرواية التي تذكر سؤال عمر فقط هي الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة دون غيرها. ويلحظ أنها في صدد الخمر مع أن في الآيات مسائل أخرى. وآيات النساء نزلت بعد هذه الآيات، والموضوع ليس محصوراً في أموال اليتامى.
وعلى كل حال فالمتبادر أن المسائل المذكورة في الآيات مما كان يسأل عنها المسلمون في العهد النبوي فأنزل الله الآيات لتوضيح الأمور وحدة متكاملة.
هذا، ولقد قال المفسرون في صدد ما ذكرته الآية الأولى من نفع الخمر والميسر أن نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة وما كان يعود على صانعيه وأصحاب الثمار التي يصنع منها. وأن نفع الميسر هو ما كان يعود على الرابح من ربح... وعلى كل حال فإن أسلوب جواب السؤال الأول يدل على ما كان للخمر والميسر من رسوخ وانتشار في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصادياً واجتماعياً وأن المتبادر أن الإشارة إلى ما لهما من منافع إنما أتت من ذلك أي أنها تقرير للواقع، وليست بقصد الإقرار والتبرير.
والسؤال والجواب عن الخمر والميسر هما خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى في التشديد ثم في التحريم في آيات في سورتي النساء والمائدة على ما سوف نشرحه في مناسبتهما.
ولقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما ؛ حيث ذكر إثمهما أولا ووصف بأنه أكبر ثانياً. وشدد في وصفه فذكر أنه أكبر من نفعهما. وهذا مؤيد لما قلناه آنفاً من أن ذكر منافعهما هو إقرار للواقع وليس للتبرير. والمتبادر أن اقتصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى إنما كان بسبب ذلك الواقع ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في التشديد والتحريم حينما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك. وهناك أحاديث عديدة في صدد الخمر والميسر فيها توضيح وأحكام أجّلنا إيرادها والتعليق عليها إلى تفسير آيات سورة المائدة [ ٩١-٩٢ ] لأنها أكثر ملاءمة معها.
وننتقل الآن إلى السؤال الثاني وجوابه فنقول : إن هناك أقوالاً عديدة يرويها المفسرون عن أهل التأويل في صدده. منها أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يعطيه المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم من صدقاتهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها كجواب على سؤالهم بأن يأخذ منهم الفضل الزائد، أو ما يستطيعون أن يعطوه قليلاً كان أو كثيراً. وفي آية في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها جملة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو. ومن الأقوال المروية مع ذلك أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يتصدق به المسلمون بصورة عامة فأمروا بأن يعطوا ما فضل عن حاجتهم في قول، وما لا يكون فيه إجهاد لأموالهم وأنفسهم في قول. واليسير في قول وأطيب ما عندهم وأفضله في قول. وجميع هذه الأقوال واردة والجملة القرآنية تتحملها. وقد صوب الطبري أنها في صدد الأمر الثاني، وأن العفو ما كان زائداً عن الحاجة. والتصويب في محله ومتساوق مع السؤال فيما يتبادر لنا. ويكون في الجواب والحالة هذه توجيه ومغزى عظيمان بعيدا المدى إذ يؤمر المسلم بأن يتصدق بما يكون زائداً عن حاجته لمن هم في حاجة من المسلمين أقارب كانوا أم أباعد. وليس بعد هذا شيء أسمى ولا أقوى في إيجاب التكافل بين المسلمين. وهناك أحاديث عديدة في صدد ذلك منها حديث رواه مسلم عن عبد الله بن جرير في موقف جاء النبي جماعة في حالة سيئة من العوز فدعا المسلمين إلى التصدق قائلا :«ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه، من صاع تمره، حتى ولو بشقّ تمرة». وحديث رواه الخمسة جاء فيه :«ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك»، وحديث آخر رواه الشيخان عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يا ابن آدم إنك إن تبذلِ الفضلَ خيرٌ لك وإنْ تمسكه شر لك ولا تلام على كفافٍ وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى» ٢.
هذا، ومن المؤولين من أول الجملة بالزكاة المفروضة، ومنهم من أولها بالصدقة التطوعية، وقد صوب الطبري القول الثاني إلى جانب الزكاة المفروضة وهو تصويب سديد.
وجواب السؤال الثالث جدير بالتنويه من حيث إنه ينطوي على رفع الحرج عن المسلمين في أمر شاق عليهم مع التشديد والإنذار. ففي عدم المخالطة بين اليتامى وأوصيائهم بمعناها الدقيق حرج ومشقة، والله لا يريد ذلك للناس والمطلوب الجوهري هو عمل ما فيه الصلاح والمصلحة لليتامى، وعليهم أن يعلموا أن الله تعالى عليم بنيّاتهم وبمن يريد الإصلاح والفساد منهم، وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى في شأن اليتامى بخاصة، وفي كل شأن آخر بعامة مما تكرر تقريره في آيات كثيرة بأساليب متنوعة.
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ [ ١ ] وَالْمَيْسِرِ [ ٢ ] قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [ ٣ ] كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢١٩ ﴾ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ [ ٤ ] إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿ ٢٢٠ ﴾ ﴾.
في الآيتين : حكاية لأسئلة ثلاث أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم وأجوبة عليها :
١- فقد سئل عن حكم الخمر والميسر فأمر بالإجابة بأن فيهما إثماً كبيراً وفيهما كذلك منافع للناس ولكن إثمهما أكبر من نفعهما.
٢- وسئل عما يتصدق به المتصدقون فأمر بالإجابة بأن عليهم التصدق مما يكون فاضلاً زائداً عن حاجتهم.
٣- وسئل عما ينبغي أن يسلك مع اليتامى فأمر بالإجابة بأن الواجب هو عمل ما هو صالح ومصلح لهم، وأن ليس من بأس في مخالطتهم فهم إخوان للسائلين.
ولقد انتهت الآية الأولى بالتنبيه إلى أن الله إنما يبين آياته للمسلمين على أمل أن يتفكروا فيما ينجيهم ويسعدهم ويهديهم في الدنيا والآخرة. وانتهت الآية الثانية بالتنبيه إلى أن الله يعلم نيات الناس وسرائرهم ويعلم المفسد من المصلح منهم. وأنه توخّى التيسير عليهم، ولو شاء لأوجب عليهم ما فيه إعنات وإرهاق لهم، فهو العزيز القادر والحكيم الذي يأمر بما فيه الصواب والحكمة.
ومن المحتمل أن يكون التنبيه الذي احتوته الآية الأولى في صدد ما جاء فيها والذي احتوته الآية الثانية في صدد ما جاء يفها كما أن من المحتمل أن يكون التنبيهان في صدد ما جاء في الآيتين من أجوبة.
تعليقات على الآية
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... ﴾
والآية التالية لها وتلقيناتها في صدد اليتامى والصدقات
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضعتا بعد الآيات السابقة إما لأنهما نزلتا بعدها أو للمماثلة التشريعية على ما هو المتبادر.
وقد روى المفسرون ١ أن السؤال الأول كان من عمر بن الخطاب ؛ حيث سأل الله أن ينزل في الخمر بياناً شافياً كما روي أن بعض المسلمين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له : أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل سالبة للمال. وأن السؤال الثاني كان من معاذ بن جبل ورفيق له أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : إن لنا أرقاء وأهلين فعلى من ننفق ؟ وأن السؤال الثالث كان من جماعة كانوا أوصياء على بعض اليتامى فلما نزل ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] في سورتي الإسراء والأنعام انطلق كل من عنده يتيم فعزل ماله عن ماله، ثم شق عليهم الأمر فسألوا رسول الله فأنزل الله الآيات. وفي رواية أن هذا كان حينما نزلت آيات سورة النساء [ ٢-١١ ] التى تنهى عن أكل أموال اليتامى وتبديل طيبها بالخبيث وتنذر من يفعل ذلك وتأمر بحفظها ودفعها لهم.
والرواية التي تذكر سؤال عمر فقط هي الواردة في كتب الأحاديث المعتبرة دون غيرها. ويلحظ أنها في صدد الخمر مع أن في الآيات مسائل أخرى. وآيات النساء نزلت بعد هذه الآيات، والموضوع ليس محصوراً في أموال اليتامى.
وعلى كل حال فالمتبادر أن المسائل المذكورة في الآيات مما كان يسأل عنها المسلمون في العهد النبوي فأنزل الله الآيات لتوضيح الأمور وحدة متكاملة.
هذا، ولقد قال المفسرون في صدد ما ذكرته الآية الأولى من نفع الخمر والميسر أن نفع الخمر هو ما كان يحدثه من نشوة وما كان يعود على صانعيه وأصحاب الثمار التي يصنع منها. وأن نفع الميسر هو ما كان يعود على الرابح من ربح... وعلى كل حال فإن أسلوب جواب السؤال الأول يدل على ما كان للخمر والميسر من رسوخ وانتشار في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وما كان لذلك من تأثير في حياة هذه البيئة اقتصادياً واجتماعياً وأن المتبادر أن الإشارة إلى ما لهما من منافع إنما أتت من ذلك أي أنها تقرير للواقع، وليست بقصد الإقرار والتبرير.
والسؤال والجواب عن الخمر والميسر هما خطوة أولى تبعتها خطوات أخرى في التشديد ثم في التحريم في آيات في سورتي النساء والمائدة على ما سوف نشرحه في مناسبتهما.
ولقد انطوى الجواب هنا على استكراه تعاطيهما ؛ حيث ذكر إثمهما أولا ووصف بأنه أكبر ثانياً. وشدد في وصفه فذكر أنه أكبر من نفعهما. وهذا مؤيد لما قلناه آنفاً من أن ذكر منافعهما هو إقرار للواقع وليس للتبرير. والمتبادر أن اقتصار الجواب على ذلك في الخطوة الأولى إنما كان بسبب ذلك الواقع ؛ حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في التشديد والتحريم حينما صارت حالة الإسلام والمسلمين تتحمل ذلك. وهناك أحاديث عديدة في صدد الخمر والميسر فيها توضيح وأحكام أجّلنا إيرادها والتعليق عليها إلى تفسير آيات سورة المائدة [ ٩١-٩٢ ] لأنها أكثر ملاءمة معها.
وننتقل الآن إلى السؤال الثاني وجوابه فنقول : إن هناك أقوالاً عديدة يرويها المفسرون عن أهل التأويل في صدده. منها أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يعطيه المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم من صدقاتهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فيها كجواب على سؤالهم بأن يأخذ منهم الفضل الزائد، أو ما يستطيعون أن يعطوه قليلاً كان أو كثيراً. وفي آية في سورة الأعراف التي سبق تفسيرها جملة تأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو. ومن الأقوال المروية مع ذلك أن السؤال هو في صدد ما يحسن أن يتصدق به المسلمون بصورة عامة فأمروا بأن يعطوا ما فضل عن حاجتهم في قول، وما لا يكون فيه إجهاد لأموالهم وأنفسهم في قول. واليسير في قول وأطيب ما عندهم وأفضله في قول. وجميع هذه الأقوال واردة والجملة القرآنية تتحملها. وقد صوب الطبري أنها في صدد الأمر الثاني، وأن العفو ما كان زائداً عن الحاجة. والتصويب في محله ومتساوق مع السؤال فيما يتبادر لنا. ويكون في الجواب والحالة هذه توجيه ومغزى عظيمان بعيدا المدى إذ يؤمر المسلم بأن يتصدق بما يكون زائداً عن حاجته لمن هم في حاجة من المسلمين أقارب كانوا أم أباعد. وليس بعد هذا شيء أسمى ولا أقوى في إيجاب التكافل بين المسلمين. وهناك أحاديث عديدة في صدد ذلك منها حديث رواه مسلم عن عبد الله بن جرير في موقف جاء النبي جماعة في حالة سيئة من العوز فدعا المسلمين إلى التصدق قائلا :«ليتصدق امرؤ من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع برّه، من صاع تمره، حتى ولو بشقّ تمرة». وحديث رواه الخمسة جاء فيه :«ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء فلذي قرابتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك»، وحديث آخر رواه الشيخان عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يا ابن آدم إنك إن تبذلِ الفضلَ خيرٌ لك وإنْ تمسكه شر لك ولا تلام على كفافٍ وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى» ٢.
هذا، ومن المؤولين من أول الجملة بالزكاة المفروضة، ومنهم من أولها بالصدقة التطوعية، وقد صوب الطبري القول الثاني إلى جانب الزكاة المفروضة وهو تصويب سديد.
وجواب السؤال الثالث جدير بالتنويه من حيث إنه ينطوي على رفع الحرج عن المسلمين في أمر شاق عليهم مع التشديد والإنذار. ففي عدم المخالطة بين اليتامى وأوصيائهم بمعناها الدقيق حرج ومشقة، والله لا يريد ذلك للناس والمطلوب الجوهري هو عمل ما فيه الصلاح والمصلحة لليتامى، وعليهم أن يعلموا أن الله تعالى عليم بنيّاتهم وبمن يريد الإصلاح والفساد منهم، وفي كل هذا تلقينات جليلة مستمرة المدى في شأن اليتامى بخاصة، وفي كل شأن آخر بعامة مما تكرر تقريره في آيات كثيرة بأساليب متنوعة.
[ ] لا تنكحوا : لا تتزوجوا
[ ] لا تُنكحوا : لا تزوجوا وكلمة النكاح ومشتقاتها في القرآن بمعنى الزواج وليست بمعنى الجماع.
في الآية :
١- نهي موجّه للمسلمين عن التزوج بالمشركات وعن تزويج المشركين بناتهم.
٢- وتنبيه بأسلوب المقارنة إلى أن الأمة المؤمنة خير وأصلح للمسلم من حرة مشركة مهما كان لها من المزايا والصفات مما يعجبه، وأن العبد المؤمن خير وأصلح من حرّ مشرك مهما كان له من المزايا والصفات مما يعجبها.
٣- وتعليل لهذا التفضيل بأن المشركين بأفعالهم وتصرفاتهم إنما هم دعاة للنار فلا يصح الاتصال بهم والتناكح معهم، والله فيما يأمر به وينهى عنه إنما يدعو إلى الجنة والمغفرة ويبين آياته للناس لعلّهم يذكرون ما يجب عليهم اتباعه واجتنابه.
تعليق على الآية
﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ... ﴾
الآية فصل تشريعي جديد، وضع بعد الفصول السابقة للمماثلة التشريعية أو لتوالي النزول على ما هو المتبادر. وقد روى المفسرون في نزولها رواية تذكر أن واحدا من المسلمين أعجبته مشركة فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بالتزوج منها، وأخرى تذكر أن عبد الله بن رواحة لطم عبدة سوداء له ثم فزع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فسأله عنها فقال له : إنها تصلي وتصوم وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال له : هذه مؤمنة فأقسم ليعتقنّها وليتزوجها ففعل فعابه بعضهم فأنزل الله الآية تحبيذاً لما فعل.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، وقد يكون ما ورد فيها قد وقع فكان مناسبة لنزول الآية بأسلوبها المطلق لتكون تشريعاً عاماً. ولقد كان بين مسلمي العرب ومشركيهم أرحام واشجة ومصاهرات قائمة قبل الإسلام وامتد ذلك إلى ما بعده. حتى لقد بقي إلى ما بعد صلح الحديبية مما انطوى في بعض الآيات إشارات إليه مثل آية سورة الممتحنة [ ١٠ ] وسورة التوبة [ ٢٣ ] ١. وآية الممتحنة صريحة بأنه كان للمهاجرين زوجات كافرات إلى حين نزولها فأمروا بعدم الإمساك بعواصمهن. ولقد روي أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيت في مكة ردحاً من الزمن بعد الهجرة في عصمة زوجها أبي العاص الذي لم يكن آمن. وكان من أسرى المشركين في وقعة بدر فأرسلت قلادتها لافتدائه ٢. حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت وضع حد لذلك بهذه الآية. وإذا كانت هذه الآية نزلت قبل آية الممتحنة وهو ما نرجحه والله أعلم. فتكون قد هدفت إلى منع إنشاء زواجات جديدة بين المسلمين والمشركين إلى أن نزلت سورة الممتحنة بعد صلح الحديبية فقررت الآية التي نحن في صددها عدم حلّ المسلمات للمشركين والمشركات للمسلمين وأمرت بفصم عصمة الزواجات القائمة بينهم.
ويروي بعض المفسرين ٣ عن بعض أهل التأويل أن الآية كانت عند نزولها شاملة لجميع غير المسلمين بما فيهم الكتابيون ؛ لأن اعتقاد اليهود ببنوة العزير لله والنصارى ببنوة المسيح وألوهيته يجعلهم داخلين في عداد المشركين. كما يروي بعضهم عن بعض أهل التأويل : أن الآية هي في حق مشركي العرب. وأصحاب القول الأول قالوا إن الآية نسخت في حق أهل الكتاب جزئيا بآية سورة المائدة الخامسة التي أحلت للؤمنين التزوج بالحرائر من الكتابيات والآية تتحمل كل القولين.
ويلحظ أن الآية احتوت تعليلاً وحكمة تشريعية، وهذا من أساليب القرآن الهادفة إلى الإقناع والبيان. ومن مدى التعليل أن المشركين يدعون إلى ما يؤدي إلى النار من الكفر والفسوق ويسلكون سبيلهما والتزاوج مظنة الإلفة والمودة. وهذا يوجد التوافق في المطالب والمسيرة فصار من الواجب أن لا يتراوح المسلمون والمشركون حتى لا ينحرف المسلمون وذراريهم إلى سبل غير الله من وثنية وتقاليد وثنية خلقية واجتماعية، والله تعالى أعلم. وهذه المحاذير منتفية في ما اقتضته حكمة التنزيل من نسخ حكم هذه الآية بإحلال تزوج المسلمين من الكتابيات على ما سوف نزيده شرحاً في تفسير المائدة.
وروح الآية بل وفحواها يفيد أن النهي هو عن التزوج بالمشركات الحرائر وتزويج المشركين بالمسلمات. والمتبادر أن هذا لا يشمل استفراش ملك اليمين من الإماء المشركات ويدعم هذا حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد قال :«بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً يوم حنين إلى أوطاسٍ، فظهروا عليهم وأصابوا فيهم سبايا فتحرّج بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن غشيانهن من أجل أزواجهم المشركين فأنزل الله :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ] أي فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن » ٤. وحديث رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره. ولا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة » ٥.
وفي تفضيل الأمة المؤمنة على الحرّة المشركة والعبد المؤمن على الحر المشرك تلقين قرآني جليل بما ضمنه الإسلام للأرقاء المؤمنين من رفعة المركز والوجاهة. وهذا يضاف إلى عناية القرآن بتحرير العبيد بمختلف الأساليب والحثّ على الرفق بهم وما ورد من أحاديث نبوية في صدد ذلك مما شرحناه في تعليقنا على موضوع الرقيق في تفسير سورة البلد.
ومن الجدير بالتنبيه في هذه المناسبة أن القصد من العبد المؤمن والأمة المؤمنة اللذين دخلا الإسلام وهما في حالة الرقّ، والمؤمن والمؤمنة الحران لا يسترقان إنشاء في أي حال. والأسير الكافر إذا أسلم قبل أن يقرر ولي أمر المؤمنين مصيره يصبح حراً. هذا وهناك أحاديث في صدد الزوجين اللذين يسلم أحدهما أو يرتدّ أحدهما أجلنا إيرادها وشرحها إلى تفسير سورة الممتحنة ؛ لأنها أكثر ملائمة.
٢ انظر سيرة ابن هشام، ٢/٢٩٦-٣٠٤.
٣ انظر تفسير الآية في الطبري وابن كثير والطبرسي.
٤ التاج ٢/٢٨٤-٢٨٥.
٥ انظر المصدر نفسه.
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [ ١ ] فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴿ ٢٢٢ ﴾ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ [ ٢ ] فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿ ٢٢٣ ﴾ ﴾.
تعليقات على آية
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى... ﴾
والآية التالية لها
في الآية الأولى : حكاية لسؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حيض النساء، وأمر بالإجابة بأنه أذى وبوجوب اعتزال النساء في أثنائه وعدم قربهن حتى يطهرن. وحينئذ يحل لهم إتيانهن من حيث أمرهم الله وتنويه بالتوابين الذين يتقيدون بأوامر الله والمطهرين الذين يبتعدون عن النجاسات والأقذار ويحبهم.
وفي الآية الثانية تقرير موجه للمسلمين بأن نساءهم حرث لهم ولهم أن يأتوا حرثهم أنى شاءوا. ثم احتوت مواعظ لهم، فعليهم أن يراقبوا الله ويتقوه في جميع أعمالهم، وأن يذكروا دائماً أنهم ملاقوه وواقفون بين يديه، ثم أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين الصادقين المستجيبين لهذه المواعظ بحسب العواقب.
ولقد روى المفسرون أحاديث وأقوالاً في نزول الآيتين ومداهما. من ذلك حديث يرويه الترمذي عن أنس قال :«كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها ولم يجلسوا معها في بيت. فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ، وأن يكونوا معهنّ في البيت، وأن يفعلوا كلّ شيء إلا النكاح. فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء عبّاد بن بشرٍ وأسيدُ بن حُضَيرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك وقالا : يا رسول الله أفننكحهن في المحيض ؟ فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أنه غضب عليهما، فاستقبلتهما هدية من لبن، فأرسل لهما رسول الله فسقاهمان فعلما أنه لم يغضب» ١. وحديث ثان يرويه الترمذي والبخاري عن جابر قال :«كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فنزلت :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ٢. وحديث ثالث يرويه الترمذي عن ابن عباس قال :«جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يا رسول الله هلكت ! قال : وما أهلكك ؟ قال : حوّلت رحلي الليلة. فلم يرد عليه رسول الله، فنزلت :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة» ٣. وهناك روايات لم ترد في كتب الأحاديث. منها أن العرب كانوا لا يساكنون الحائض في بيت، ولا يأكلون معها في إناء، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات.
ومهما يكن من أمر فالنصّ ظاهر بأن أناساً سألوا رسول الله عن المحيض فنزلت الآيات بالإجابة مع بعض التفصيل. ويجوز أن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها للتماثل الظرفي والتشريعي، ويجوز أن تكون وضعت في ترتيبها للتماثل التشريعي ويجوز أن تكون بعض الآيات تليت في سؤال من أحد عن شيء ما مما يتعلق بإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن أو اعتزالهن فظنّ الرواة أنها نزلت على أثر السؤال والله تعالى أعلم.
هذا في صدد نزولها، أما في مداها :
فأولاً : إن المفسرين يروون عن أهل التأويل أن المنهي عنه هو الجماع، والآية قد تفيد ذلك، والحديث المروي عن أنس يفيد ذلك صراحة. وهناك حديث يرويه الطبري عن عائشة جواباً على سؤال عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضة :«كلّ شيء إلا الجماع، وفي رواية إلا الفرج» وهناك حديث يرويه الشيخان عن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض» ٤.
وثانيا : في جملة ﴿ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ فقد قرئت الطاء والهاء بالتشديد والفتح. وقرئت الطاء بالتسكين والهاء بالضم، واختلف الفقهاء بحسب ذلك. فمن رجح القراءة الأولى أوجب عدم الجماع حتى ينقطع الحيض وتغتسل الحائض. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع عند انقطاع الحيض بعد غسل الفرج فقط.
وثالثا : في جملة ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ فاختلف الفقهاء تبعاً لاختلافهم في قراءة الجملة السابقة. فمن رجح القراءة الأولى أوجب الاغتسال الشرعي قبل الجماع وبعد انقطاع الدم. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع دون اغتسال شرعي. والجملتان تتحملان المذهبين غير أن الذي يتبادر لنا أن المذهب الثاني أكثر اتساقاً مع فحوى الآية، فهي تقرر أن المحيض أذى وتأمر بعدم قرب النساء أثناءه فإذا انقطع الدم انقطع الأذى وزال المانع. ولا يتوقف هذا على الاغتسال الشرعي ويكفي غسل الفرج والله تعالى أعلم.
وننبه على أن هناك أحاديث توجب كفارة مالية على من يواقع زوجته وهي حائض منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال : يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفي رواية أبي داود :«إذا أصابها في أوّل الدّم فدينار وإذا أصابها في آخره فنصف دينار» ٥. وهناك من أخذ بهذه الأحاديث وهناك من أوجب الالتزام بالنهي القرآني وهو الاعتزال إلى أن يطهرن. والظاهر أن هؤلاء لم يثبت عندهم الأحاديث. وفي الأحاديث إذا صحت معالجة الحالة قد تكون اضطرارية، وقد تفيد أن النهي ليس من قبيل التحريم، وإنما من قبيل استهداف بيان ما في ذلك من أذى وقذارة، والله تعالى أعلم.
ورابعاً : في صدد جملة ﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾ وقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أقوالاً منها أنها بمعنى آتوهن من فروجهن. أو أنها بمعنى آتوهن بعد أن أمركم الله باعتزالهن. وقد يكون التأويل الأول هو الأوجه والله أعلم.
وخامساً : في صدد جملة ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ تداولها بعض المؤولين على ما يرويه الطبري وغيره أنها تبيح للرجل إتيان زوجته على أي كيفية وفي أي وقت في الليل والنهار، ومقبلة ومدبرة ومستلقية أو محبية أو على شق أو قاعدة أو قائمة على شرط أن يكون الإيلاج في الفرج وتجنب الدبر. وأولها بعض المؤولين بأنها تبيح للرجل إتيان امرأته من دبرها أو قبلها. وقد روى القول الثاني عن ابن عمر وروى عنه نقيضه أيضا. والجمهور على القول الأول، وحديث ابن عباس عن مراجعة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم صريح بإيجاب اتقاء الدبر. وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد». وحديث رواه أصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ملعون من أتى المرأة في دبرها». وهناك أحاديث أخرى وهذا ما يجعلنا نشك فيما روي عن ابن عمر بأنه أجاز إتيان المرأة في دبرها ونصدق ما روي عن إنكاره ذلك. وبالإضافة إلى هذه الأحاديث فإنه يتبادر لنا أن الآية لا تفيد غير ذلك فالحيض من القبل والنهي هو عن قرب النساء في الحيض، وقد شبهت النساء بالحرث أي الأرض التي تزرع لتخرج ثمراً، وهذا إنما يكون من القبل.
وليس في الأحاديث النبوية حدّ وعقوبة على من يأتي النساء من أدبارهن. وقد يصح أن يقاس هذا على اللواط وعقوبته على ما شرحنه وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق قصة لوط في سورة الأعراف شرحاً يغني عن التكرار.
وقد يرد قول : إن هذا قد لا يشمل الأزواج استناداً إلى مبدأ درء الحدود بالشبهات من حيث أن يكونوا أخذوا بتأويل من تأويلات جملة :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ومع أننا لا نرى ذلك فإن ما عليه من الأزواج يكونون على كل حال موضوع الإنذار النبوي الرهيب الذي وصمهم بالكفر ولعنهم. أما الأحاديث التي يستمد منها الفقهاء مبدأ درء الحدود بالشبهات فمنها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام لئن يخطئ بالعفو خير من أن يخطئ بالعقوبة» ٦. وحديث رواه ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً» ٧. وحديث رواه ابن مسعود مرفوعاً جاء فيه :«ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» ٨.
هذا، والسنّة المتواترة المجمع عليها أن الحائض تسقط عنها الصلاة وتفطر في رمضان على أن تقضي في غيره عدة الأيام التي أفطرتها. وهناك حديث رواه الخمسة عن معاذة قالت :«سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ٩. ويستتبع هذه السنّة سنّة أخرى مجمع عليها وهي : أن على الحائض عندما ينقطع الحيض عنها أن تغتسل قبل أن تصلي، أي لا يكفي الوضوء لصلاتها، وهناك حديث رواه الترمذي في صدد قراءة الحائض للقرآن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :«لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» ١٠.
وقد رأينا من المفيد أن نستطرد إلى عارضين ينزل فيهما الدم من قبل المرأة، الأول يسمى الاستحاضة وينزل في غير وقت الحيض وأحياناً يستمر نزوله. وفي حديث رواه الخمسة عن عائشة حكم لهذا العارض حيث رووا أن عائشة قالت :«إن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة ؟ فقال : لا، إن ذلك عرق وليس بالحيضة. ولكن دعي الصلاة بقدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلّي. وفي رواية إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلّي. وفي رواية الترمذي وتوضّئي لكل صلاة. وفي رواية أبي داود لتنظر عدّة الأيام والليالي التي كانت تحيض بهنّ من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي» ١١. وهناك حديثان آخران في ذلك. منهما حديث رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت :«يا رسول الله إني أُستحاض، فقال لها : إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنما هو عرق». وروى الثاني عن أصحاب السنن أن حمنة بن جحش قالت :«أتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله إني امرأة أُستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني من الصلاة والصوم ؟ قال : أنعت لك الكرسَف فإنه يذهب الدم. قالت : هو أكثر من ذلك ؟ قال : فاتخذي ثوباً. قالت : هو أكثر من ذلك، إنما أثجّ ثجاً. قال : سآمرك بأمرين أيّهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، فإن قَوِيتِ عليهما فأنت أعلم. إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذكره، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلّي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى [ ١ ] فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴿ ٢٢٢ ﴾ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ [ ٢ ] فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿ ٢٢٣ ﴾ ﴾.
تعليقات على آية
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى... ﴾
والآية التالية لها
في الآية الأولى : حكاية لسؤال ورد على النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حيض النساء، وأمر بالإجابة بأنه أذى وبوجوب اعتزال النساء في أثنائه وعدم قربهن حتى يطهرن. وحينئذ يحل لهم إتيانهن من حيث أمرهم الله وتنويه بالتوابين الذين يتقيدون بأوامر الله والمطهرين الذين يبتعدون عن النجاسات والأقذار ويحبهم.
وفي الآية الثانية تقرير موجه للمسلمين بأن نساءهم حرث لهم ولهم أن يأتوا حرثهم أنى شاءوا. ثم احتوت مواعظ لهم، فعليهم أن يراقبوا الله ويتقوه في جميع أعمالهم، وأن يذكروا دائماً أنهم ملاقوه وواقفون بين يديه، ثم أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بتبشير المؤمنين الصادقين المستجيبين لهذه المواعظ بحسب العواقب.
ولقد روى المفسرون أحاديث وأقوالاً في نزول الآيتين ومداهما. من ذلك حديث يرويه الترمذي عن أنس قال :«كانت اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها ولم يجلسوا معها في بيت. فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤاكلوهنّ ويشاربوهنّ، وأن يكونوا معهنّ في البيت، وأن يفعلوا كلّ شيء إلا النكاح. فقالت اليهود : ما يريد محمد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء عبّاد بن بشرٍ وأسيدُ بن حُضَيرٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك وقالا : يا رسول الله أفننكحهن في المحيض ؟ فتمعّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننّا أنه غضب عليهما، فاستقبلتهما هدية من لبن، فأرسل لهما رسول الله فسقاهمان فعلما أنه لم يغضب» ١. وحديث ثان يرويه الترمذي والبخاري عن جابر قال :«كانت اليهود تقول : من أتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فنزلت :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ٢. وحديث ثالث يرويه الترمذي عن ابن عباس قال :«جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يا رسول الله هلكت ! قال : وما أهلكك ؟ قال : حوّلت رحلي الليلة. فلم يرد عليه رسول الله، فنزلت :﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ أقبل وأدبر واتّق الدبر والحيضة» ٣. وهناك روايات لم ترد في كتب الأحاديث. منها أن العرب كانوا لا يساكنون الحائض في بيت، ولا يأكلون معها في إناء، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآيات.
ومهما يكن من أمر فالنصّ ظاهر بأن أناساً سألوا رسول الله عن المحيض فنزلت الآيات بالإجابة مع بعض التفصيل. ويجوز أن تكون الآيات نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها للتماثل الظرفي والتشريعي، ويجوز أن تكون وضعت في ترتيبها للتماثل التشريعي ويجوز أن تكون بعض الآيات تليت في سؤال من أحد عن شيء ما مما يتعلق بإتيان النساء في المحيض أو في أدبارهن أو اعتزالهن فظنّ الرواة أنها نزلت على أثر السؤال والله تعالى أعلم.
هذا في صدد نزولها، أما في مداها :
فأولاً : إن المفسرين يروون عن أهل التأويل أن المنهي عنه هو الجماع، والآية قد تفيد ذلك، والحديث المروي عن أنس يفيد ذلك صراحة. وهناك حديث يرويه الطبري عن عائشة جواباً على سؤال عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضة :«كلّ شيء إلا الجماع، وفي رواية إلا الفرج» وهناك حديث يرويه الشيخان عن ميمونة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر نساءه فوق الإزار وهنّ حيض» ٤.
وثانيا : في جملة ﴿ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ ﴾ فقد قرئت الطاء والهاء بالتشديد والفتح. وقرئت الطاء بالتسكين والهاء بالضم، واختلف الفقهاء بحسب ذلك. فمن رجح القراءة الأولى أوجب عدم الجماع حتى ينقطع الحيض وتغتسل الحائض. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع عند انقطاع الحيض بعد غسل الفرج فقط.
وثالثا : في جملة ﴿ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ ﴾ فاختلف الفقهاء تبعاً لاختلافهم في قراءة الجملة السابقة. فمن رجح القراءة الأولى أوجب الاغتسال الشرعي قبل الجماع وبعد انقطاع الدم. ومن رجح القراءة الثانية أجاز الجماع دون اغتسال شرعي. والجملتان تتحملان المذهبين غير أن الذي يتبادر لنا أن المذهب الثاني أكثر اتساقاً مع فحوى الآية، فهي تقرر أن المحيض أذى وتأمر بعدم قرب النساء أثناءه فإذا انقطع الدم انقطع الأذى وزال المانع. ولا يتوقف هذا على الاغتسال الشرعي ويكفي غسل الفرج والله تعالى أعلم.
وننبه على أن هناك أحاديث توجب كفارة مالية على من يواقع زوجته وهي حائض منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض فقال : يتصدق بدينار أو نصف دينار. وفي رواية أبي داود :«إذا أصابها في أوّل الدّم فدينار وإذا أصابها في آخره فنصف دينار» ٥. وهناك من أخذ بهذه الأحاديث وهناك من أوجب الالتزام بالنهي القرآني وهو الاعتزال إلى أن يطهرن. والظاهر أن هؤلاء لم يثبت عندهم الأحاديث. وفي الأحاديث إذا صحت معالجة الحالة قد تكون اضطرارية، وقد تفيد أن النهي ليس من قبيل التحريم، وإنما من قبيل استهداف بيان ما في ذلك من أذى وقذارة، والله تعالى أعلم.
ورابعاً : في صدد جملة ﴿ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ﴾ وقد روى الطبري وغيره عن أهل التأويل أقوالاً منها أنها بمعنى آتوهن من فروجهن. أو أنها بمعنى آتوهن بعد أن أمركم الله باعتزالهن. وقد يكون التأويل الأول هو الأوجه والله أعلم.
وخامساً : في صدد جملة ﴿ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ تداولها بعض المؤولين على ما يرويه الطبري وغيره أنها تبيح للرجل إتيان زوجته على أي كيفية وفي أي وقت في الليل والنهار، ومقبلة ومدبرة ومستلقية أو محبية أو على شق أو قاعدة أو قائمة على شرط أن يكون الإيلاج في الفرج وتجنب الدبر. وأولها بعض المؤولين بأنها تبيح للرجل إتيان امرأته من دبرها أو قبلها. وقد روى القول الثاني عن ابن عمر وروى عنه نقيضه أيضا. والجمهور على القول الأول، وحديث ابن عباس عن مراجعة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم صريح بإيجاب اتقاء الدبر. وهناك أحاديث أخرى منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من أتى حائضا أو امرأة من دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد». وحديث رواه أصحاب السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ملعون من أتى المرأة في دبرها». وهناك أحاديث أخرى وهذا ما يجعلنا نشك فيما روي عن ابن عمر بأنه أجاز إتيان المرأة في دبرها ونصدق ما روي عن إنكاره ذلك. وبالإضافة إلى هذه الأحاديث فإنه يتبادر لنا أن الآية لا تفيد غير ذلك فالحيض من القبل والنهي هو عن قرب النساء في الحيض، وقد شبهت النساء بالحرث أي الأرض التي تزرع لتخرج ثمراً، وهذا إنما يكون من القبل.
وليس في الأحاديث النبوية حدّ وعقوبة على من يأتي النساء من أدبارهن. وقد يصح أن يقاس هذا على اللواط وعقوبته على ما شرحنه وأوردنا ما ورد فيه من أحاديث في سياق قصة لوط في سورة الأعراف شرحاً يغني عن التكرار.
وقد يرد قول : إن هذا قد لا يشمل الأزواج استناداً إلى مبدأ درء الحدود بالشبهات من حيث أن يكونوا أخذوا بتأويل من تأويلات جملة :﴿ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ﴾ ومع أننا لا نرى ذلك فإن ما عليه من الأزواج يكونون على كل حال موضوع الإنذار النبوي الرهيب الذي وصمهم بالكفر ولعنهم. أما الأحاديث التي يستمد منها الفقهاء مبدأ درء الحدود بالشبهات فمنها حديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام لئن يخطئ بالعفو خير من أن يخطئ بالعقوبة» ٦. وحديث رواه ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً» ٧. وحديث رواه ابن مسعود مرفوعاً جاء فيه :«ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم» ٨.
هذا، والسنّة المتواترة المجمع عليها أن الحائض تسقط عنها الصلاة وتفطر في رمضان على أن تقضي في غيره عدة الأيام التي أفطرتها. وهناك حديث رواه الخمسة عن معاذة قالت :«سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ٩. ويستتبع هذه السنّة سنّة أخرى مجمع عليها وهي : أن على الحائض عندما ينقطع الحيض عنها أن تغتسل قبل أن تصلي، أي لا يكفي الوضوء لصلاتها، وهناك حديث رواه الترمذي في صدد قراءة الحائض للقرآن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم :«لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن» ١٠.
وقد رأينا من المفيد أن نستطرد إلى عارضين ينزل فيهما الدم من قبل المرأة، الأول يسمى الاستحاضة وينزل في غير وقت الحيض وأحياناً يستمر نزوله. وفي حديث رواه الخمسة عن عائشة حكم لهذا العارض حيث رووا أن عائشة قالت :«إن فاطمة بنت أبي حُبيش سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة ؟ فقال : لا، إن ذلك عرق وليس بالحيضة. ولكن دعي الصلاة بقدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلّي. وفي رواية إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي الدم وصلّي. وفي رواية الترمذي وتوضّئي لكل صلاة. وفي رواية أبي داود لتنظر عدّة الأيام والليالي التي كانت تحيض بهنّ من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي» ١١. وهناك حديثان آخران في ذلك. منهما حديث رواه أبو داود والنسائي عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها قالت :«يا رسول الله إني أُستحاض، فقال لها : إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلّي فإنما هو عرق». وروى الثاني عن أصحاب السنن أن حمنة بن جحش قالت :«أتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله إني امرأة أُستحاض حيضة كثيرة شديدة فما ترى فيها، قد منعتني من الصلاة والصوم ؟ قال : أنعت لك الكرسَف فإنه يذهب الدم. قالت : هو أكثر من ذلك ؟ قال : فاتخذي ثوباً. قالت : هو أكثر من ذلك، إنما أثجّ ثجاً. قال : سآمرك بأمرين أيّهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، فإن قَوِيتِ عليهما فأنت أعلم. إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيّضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله تعالى ذكره، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلّي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة
[ ٢ ] أن تبرّوا : قيل إنها بمعنى أن تفعلوا الخير والبرّ إطلاقا وقيل إنها بمعنى أن تبرّوا أرحامكم. والإطلاق يجعل المعنى الأول أكثر وجاهة.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً [ ١ ] لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ [ ٢ ] وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٢٤ ﴾ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ [ ٣ ] فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿ ٢٢٥ ﴾ ﴾.
في الآية الأولى : نهي موجّه للمسلمين عن عدم جعل أيمانهم بالله وسيلة لعدم البرّ والإصلاح بين الناس والانصراف عن عمل ما فيه تقوى الله. فالله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم. وفي الثانية : تقرير موجه إليهم أيضا بأن الله تعالى لا يؤاخذهم بما يصدر منهم من الأيمان التي لا يتعمدون فيها شيئا، ولا يقترفون بها ذنبا ولا تعقدها قلوبهم بمنع وإيجاب ونفي وإثبات. وإنما يؤاخذهم بما قصدت قلوبهم كسبه وفعله. وهو على كل حال غفور لمن تاب وأصلح، حليم لا يتسرع بالغضب والعقوبة ليكون في ذلك فرصة لمن حسنت نيته.
تعليق على الآية
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ... ﴾
والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضع بعدما سبقه للمماثلة التشريعية أو لنزوله بعده.
وقد روى بعض المفسرين ١ أن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه –زوج أخته- ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته. كما روى بعضهم ٢ أنها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا يساعد قريباً له اندمج في حديث الإفك في حقّ عائشة رضي الله عنها.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، والمتبادر أن الآية الثانية نزلت مع الأولى كتبرير للنهي الذي احتوته الآية الأولى أو فتوى لليمين التي يحلفها المسلم فيعتذر بها عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله.
وفحوى الآيتين قد يتسق مع إحدى الروايتين المرويتين، غير أن يمين أبي بكر المروية قد وقعت في أواسط العهد المدني، وأُشير إليها في آية سورة النور هذه :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٢ ﴾ ﴾ وهي من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة عن حديث الإفك على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
وفي الآية التالية لهاتين الآيتين إشارة إلى الذين يؤولون من نسائهم أي يحلفون بعدم القرب من نسائهم حيث يتبادر أن هناك صلة موضوعية بين هاتين الآيتين والآيات التالية لهما والله تعالى أعلم.
ولقد احتوت الآيتان على كل حال تعليمات قرآنية بشأن الأيمان إطلاقاً، وفيهما تلقينات رائعة جليلة في عدم جواز حلف الأيمان للامتناع عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله من أعمال سلبية وإيجابية، وفي عدم جواز احتجاج المرء بيمين صدر منه للامتناع عن ذلك أو لفعل ما فيه إثم وضرر للغير ؛ ثم في تقرير كون الله عز وجل إنما يحاسب الناس على ما يصدر منهم أو يتعمدون فعله من إثم في سياق الأيمان وكون ما ليس فيه ذلك يعده الله لغواً لا يؤاخذهم عليه. وينطوي في التلقين الأول تقرير عدم جواز التقيد بالأيمان للامتناع عن الخير أو فعل الإثم. وفي سورة المائدة آية احتوت بيان الكفارة على اليمين التي يحلفها المسلم ثم توجب عليه الظروف أو واجب فعل الخير والامتناع عن الأذى للنفس أو الغير الرجوع عنها وهي هذه :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٨٩ ﴾ ﴾ وهي متممة للتعليم القرآني الوارد في هاتين الآيتين كما هو المتبادر. وقد نزلت في صدد جماعة من المؤمنين حلفوا أن يتخلوا عن طيبات الحياة تورعاً وتقرباً إلى الله فنهتهم الآية السابقة لها عن تحريم ما أحلّه الله لهم وأمرتهم بالرجوع عن يمينهم والتكفير عنها.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد اليمين والرجوع عنه وكفارته واليمين الكاذبة رأينا من المفيد إثباتها في هذه المناسبة. من ذلك حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الحلف منفّقةٌ للسلعة ممحقة للبركة» ٣. وفي رواية مسلم :«إياكم والحلفَ في البيع فإنه ينفّق ثم يمحق» ٤. وحديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال :«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف ألا يحملنا ثم قال : والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها» ٥. وحديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفّر عن يمينه». وحديث رواه أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنثٍ ٦. وحديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم أو مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» ٧ وحديث رواه أبو داود عن عمرا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ مقعده من النار» ٨. وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب قال :«إنّ أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك. كفّر عن يمينك وكلّم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم إلا فيما لا تملك» ٩. وللنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم :«النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفّره ما يكفّر اليمين» ١٠. ويصح أن يقاس اليمين على هذا كما هو المتبادر.
وهناك أحاديث أخرى في حظر اليمين بغير الله يحسن أن تساق في هذا المقام أيضا، منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» ١١. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر : سمع رجلا يحلف بالكعبة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من حلف بغير الله فقد أشرك» ١٢.
هذا، ولقد كتبنا تعليقاً على ما أعاره القرآن من اهتمام للإصلاح بين الناس في تفسير سورة الشورى فنكتفي بهذا التنبيه في مناسبة ما ورد من ذلك في هذه الآية.
ولقد قيل ١٣ في تأويل كلمة ( عرضة ) قول آخر وهو أن الجملة بسبيل النهي عن التعريض باسم الله في مواقف الحنث واللغو والإكثار من اليمين باسمه لتغرير الناس والكذب عليهم والإكثار من اليمين ولو كانت بارّة صادقة. ومع ما في هذا القول من وجاهة وتلقين بليغ فإن النفس تطمئن بالمعنى الأولى كما أن روح الآية تلهمه أكثر وهو ما عليه الجمهور.
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً [ ١ ] لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ [ ٢ ] وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٢٤ ﴾ لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ [ ٣ ] فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿ ٢٢٥ ﴾ ﴾.
في الآية الأولى : نهي موجّه للمسلمين عن عدم جعل أيمانهم بالله وسيلة لعدم البرّ والإصلاح بين الناس والانصراف عن عمل ما فيه تقوى الله. فالله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم. وفي الثانية : تقرير موجه إليهم أيضا بأن الله تعالى لا يؤاخذهم بما يصدر منهم من الأيمان التي لا يتعمدون فيها شيئا، ولا يقترفون بها ذنبا ولا تعقدها قلوبهم بمنع وإيجاب ونفي وإثبات. وإنما يؤاخذهم بما قصدت قلوبهم كسبه وفعله. وهو على كل حال غفور لمن تاب وأصلح، حليم لا يتسرع بالغضب والعقوبة ليكون في ذلك فرصة لمن حسنت نيته.
تعليق على الآية
﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ... ﴾
والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وقد وضع بعدما سبقه للمماثلة التشريعية أو لنزوله بعده.
وقد روى بعض المفسرين ١ أن الآية الأولى نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه –زوج أخته- ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته. كما روى بعضهم ٢ أنها نزلت في أبي بكر حين حلف أن لا يساعد قريباً له اندمج في حديث الإفك في حقّ عائشة رضي الله عنها.
والروايات لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة، والمتبادر أن الآية الثانية نزلت مع الأولى كتبرير للنهي الذي احتوته الآية الأولى أو فتوى لليمين التي يحلفها المسلم فيعتذر بها عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله.
وفحوى الآيتين قد يتسق مع إحدى الروايتين المرويتين، غير أن يمين أبي بكر المروية قد وقعت في أواسط العهد المدني، وأُشير إليها في آية سورة النور هذه :﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٢ ﴾ ﴾ وهي من سلسلة الآيات الواردة في هذه السورة عن حديث الإفك على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
وفي الآية التالية لهاتين الآيتين إشارة إلى الذين يؤولون من نسائهم أي يحلفون بعدم القرب من نسائهم حيث يتبادر أن هناك صلة موضوعية بين هاتين الآيتين والآيات التالية لهما والله تعالى أعلم.
ولقد احتوت الآيتان على كل حال تعليمات قرآنية بشأن الأيمان إطلاقاً، وفيهما تلقينات رائعة جليلة في عدم جواز حلف الأيمان للامتناع عن فعل الخير والإصلاح وما تقتضيه تقوى الله من أعمال سلبية وإيجابية، وفي عدم جواز احتجاج المرء بيمين صدر منه للامتناع عن ذلك أو لفعل ما فيه إثم وضرر للغير ؛ ثم في تقرير كون الله عز وجل إنما يحاسب الناس على ما يصدر منهم أو يتعمدون فعله من إثم في سياق الأيمان وكون ما ليس فيه ذلك يعده الله لغواً لا يؤاخذهم عليه. وينطوي في التلقين الأول تقرير عدم جواز التقيد بالأيمان للامتناع عن الخير أو فعل الإثم. وفي سورة المائدة آية احتوت بيان الكفارة على اليمين التي يحلفها المسلم ثم توجب عليه الظروف أو واجب فعل الخير والامتناع عن الأذى للنفس أو الغير الرجوع عنها وهي هذه :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿ ٨٩ ﴾ ﴾ وهي متممة للتعليم القرآني الوارد في هاتين الآيتين كما هو المتبادر. وقد نزلت في صدد جماعة من المؤمنين حلفوا أن يتخلوا عن طيبات الحياة تورعاً وتقرباً إلى الله فنهتهم الآية السابقة لها عن تحريم ما أحلّه الله لهم وأمرتهم بالرجوع عن يمينهم والتكفير عنها.
ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد اليمين والرجوع عنه وكفارته واليمين الكاذبة رأينا من المفيد إثباتها في هذه المناسبة. من ذلك حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الحلف منفّقةٌ للسلعة ممحقة للبركة» ٣. وفي رواية مسلم :«إياكم والحلفَ في البيع فإنه ينفّق ثم يمحق» ٤. وحديث رواه الخمسة عن أبي موسى قال :«أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان فاستحملناه فحلف ألا يحملنا ثم قال : والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحلّلتها» ٥. وحديث رواه مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأتها وليكفّر عن يمينه». وحديث رواه أصحاب السنن عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك غير حنثٍ ٦. وحديث رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال رجل مسلم أو مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» ٧ وحديث رواه أبو داود عن عمرا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من حلف على يمين مصبورة كاذباً فليتبوأ مقعده من النار» ٨. وحديث رواه أبو داود والنسائي عن سعيد بن المسيب قال :«إنّ أخوين كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت سألتني عن القسمة فكلّ مالي في رتاج الكعبة. فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك. كفّر عن يمينك وكلّم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ ولا في قطيعة الرحم إلا فيما لا تملك» ٩. وللنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم :«النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان في معصية الله فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ويكفّره ما يكفّر اليمين» ١٠. ويصح أن يقاس اليمين على هذا كما هو المتبادر.
وهناك أحاديث أخرى في حظر اليمين بغير الله يحسن أن تساق في هذا المقام أيضا، منها حديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال :«إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله ألا إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» ١١. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر : سمع رجلا يحلف بالكعبة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من حلف بغير الله فقد أشرك» ١٢.
هذا، ولقد كتبنا تعليقاً على ما أعاره القرآن من اهتمام للإصلاح بين الناس في تفسير سورة الشورى فنكتفي بهذا التنبيه في مناسبة ما ورد من ذلك في هذه الآية.
ولقد قيل ١٣ في تأويل كلمة ( عرضة ) قول آخر وهو أن الجملة بسبيل النهي عن التعريض باسم الله في مواقف الحنث واللغو والإكثار من اليمين باسمه لتغرير الناس والكذب عليهم والإكثار من اليمين ولو كانت بارّة صادقة. ومع ما في هذا القول من وجاهة وتلقين بليغ فإن النفس تطمئن بالمعنى الأولى كما أن روح الآية تلهمه أكثر وهو ما عليه الجمهور.
[ ٢ ] تربص : انتظار.
[ ٣ ] فاءوا : رجعوا عن القسم.
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ [ ١ ] مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ [ ٢ ] أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا [ ٣ ] فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٢٦ ﴾ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ [ ٤ ] فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٢٧ ﴾ ﴾.
في الآيتين تعليمات أو تقريرات تشريعية في شأن الإيلاء : فالذين يحلفون بأن لا يجامعوا زوجاتهم لا يصح أن يستمروا على ما أقسموا عليه إلا أربعة أشهر، فإما أن يرجعوا عن يمينهم ويعودوا إلى نسائهم والله غفور رحيم يقبل التوبة ويعامل بالرحمة، وإما أن يعزموا الطلاق والله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم.
تعليق على الآية
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ... الخ ﴾
والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وهو بدء فصل طويل في الطلاق. وقد يكون وضعه في ترتيبه للمماثلة أو لنزوله بعد ما سبقه.
ولم نطلع على رواية في نزوله، والمتبادر أنه حدث حادث إيلاء فرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الحكم فيه. وقد قلنا : إن الآيتين السابقتين متصلتان بما بعدهما ؛ لأن في اليمين على عدم قرب الزوج لزوجته شيئا مما يخالف الإصلاح وتقوى الله، فإذا صح هذا فيكون بدء الفصل التشريعي الآيتين السابقتين وهو فصل طويل على ما سوف يأتي.
وإيلاء الزوج على زوجته عادة من عادات العرب قبل الإسلام، فقد كان الأزواج إما بسائق الغضب وإما بسائق الكراهية وإما لمآرب أخرى مثل ابتزاز أموالها ومنعها من التزوج من غيره والتصرف بنفسها أو لكثرة ولادتها البنات أو إبقائها في بيته لتكون خادمة ومربية لأولادها الخ... يحلفون بعدم الاتصال الجنسي بأزواجهم فتصبح محرّمة عليه لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقد وضعت الآيتان الأمر في نصابه الحق فليس للزوج أن يتحكم بزوجته تحكما كيفيا ليشفي به غلّ نفسه أو يضمن النفع على حساب ضررها. ولا يصح للمؤلي أن يحتج باليمين الصادرة منه للإضرار والحيف : فإما أن تكون يميناً صدرت عن فورة آنية وبغير قصد وتعمد وحينئذ لا يجوز أن يمتد أثرها لأكثر من أربعة أشهر في حال كحد أقصى، وإما أن تكون صدرت عن نية إضرار وأذى وحينئذ يجب أن ترد إلى الزوجة حريتها وأن تحمى من الأذى والضرر بالطلاق إذا لم يرعو الزوج ويعود إلى الحق والواجب وهذا الشرح المستلهم من روح الآيتين والآيتين السابقتين لهما معاً يؤيد ما قلناه من الصلة والانسجام بينهما، ويبرز المبدأ الجليل الذي تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة بحماية الزوجة ومنع الإضرار بها وظلمها واستغلالها.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة في تأويل الآيات ومدى تطبيق حكم الإيلاء. منها حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال :«آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه فأقام في مشربةٍ له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل، قالوا : يا رسول الله آليت شهراً فقال : الشهر تسع وعشرون» ١. وحديث رواه البخاري جاء فيه :«كان ابن عمر يقول في الإيلاء : لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق» ٢. وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» ٣. وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت :«آلى رسول الله من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفّارة» ٤.
وبالإضافة إلى الأحاديث التي اكتفينا منها بما تقدم ففي كتب التفسير روايات عن أهل التأويل في صدد تطبيق الآيات وحكمها نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- هناك من قال : إنه إذا مرت الأشهر الأربعة دون مراجعة صارت الزوجة مطلقة سواء نطق الزوج بالطلاق أم لم ينطق. وهناك من قال إنه لا بد من أن يطلق بالطلاق ؛ لأن فحوى الآية يجعله بين أمرين إما الرجوع قبل انتهاء المدة وإما الطلاق. وهناك من قال إن الزوج إذا لم يطلق أو يرجع خلال المدة طلق عليه الحاكم عند انتهائها وإن للزوجة مراجعة الحاكم لتخييره بين الرجوع والطلاق قبل انتهاء المدة فإن لم يرجع وانتهت المدة طلق الحاكم عليه. والمتبادر أن القول الأخير هو الأوجه ؛ لأن هدف الآية منع وقوف الحيف على الزوجة وعدم بقائها معلقة تحت رحمة الزوج.
٢- هناك من قال : إن الرجوع عن الإيلاء في المدة لا يكون صحيحاً إلا بالوقاع. وهناك من قال : إنه يصح بالإشهاد على الرجوع فقط. وهناك من توسط وفصل. فقال : إذا كان هناك مانع للوقاع من مرض أو حيض أو سفر أو سجن فيكون الإشهاد مجزياً. وقد يكون هذا هو الأوجه على شرط أن يواقع إذا زال العذر. ويكفّر عن يمينه كدلالة عملية على الرجوع عنها. أما إذا لم يكفر ولم يواقع إذا زال العذر فيظل الإشهاد كلاماً بدون دليل ويكون ضرر الإيلاء قد تحقق.
٣- هناك من قال : إن مرور الأشهر الأربعة بدون رجوع يكون بمثابة تطليقة بائنة. تملك بها الزوجة نفسها، فإذا أراد زوجها أن يعود إليها كان ذلك رهناً برضائها وبعقد ومهر جديدين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجاً غيره قبل ذلك إذا كانت هي المرة الأولى أو الثانية ولها الحق أن لا تقبل عودته إليها وأن تتزوج غيره بعد أن تنتهي عدتها وتكون هذه العدة حيضة واحدة ٥. وهناك من قال : إنها تطليقة عادية رجعية يحق للزوج المراجعة بدون عقد ومهر جديدين استناداً إلى حكم الطلاق المبين في الآيات التالية على ما سوف يأتي شرحه. وهذه الآيات تذكر حكم المطلقات إذا طلقهن أزواجهن مرة أو مرتين حيث يكون لهم مراجعتهن قبل انقضاء العدة مع شرط أن يكون قصدهم الإصلاح وليس الضرر. وورود الآيات بعد آية الإيلاء وبعد جملة ﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ قد يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
٤- هناك من قال : إن الزوج لو حلف أن لا يضرب امرأته أربعة أشهر ولم يواقعها بعد انتهاء المدة لا يكون مولياً ؛ لأن حكم الآية هو في الذين يولون بدون تحديد للمدة حيث حددت لهم أربعة أشهر يفيئون خلالها أو يطلقون أو يطلق عليهم. وهناك من قال : إنه يكون مولياً إذا تجاوز الأشهر الأربعة بدون وقاع، ونرى القول الثاني هو الأكثر وجاهة واتساقاً مع روح الآية وهدفها.
٥- هناك من قال : إن مدة الإيلاء وأحكامه واحدة في حقّ الحرّ والعبد ؛ لأن الأمر متصل بالطبيعة الجنسية. وهناك من قاس الأمر على حدّ الزنا على الإماء، وهو نصف حد الحرائر كما جاء في آية سورة النساء :﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٥ ﴾ ﴾ ولم نطلع على حديث نبوي خاص. وهناك حديث في صدد عدد تطليقات الأمة المتزوجة وعدتها ؛ حيث روى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان». في حين أن طلاق الحرة هو ثلاث وعدتها تلاث حيضات كما جاء في آيات سورة البقرة التالية لهذه الآيات. وقد يكون ذلك القياس استئناساً بذلك في محله فيكون مدة تربص الأمة التي يولي زوجها منها شهرين وليس أربعة والله أعلم.
٦- والجمهور على أن الإيلاء يمين، وإنه إذا حلف الزوج لمدة غير محدودة وفاء قبل أربعة أشهر يكفّر عن يمينه حيث يكون قد حلف على شيء ورأى خيراً منه فرجع عن يمينه كما جاء في الأحاديث النبوية. أما إذا حلف لمدة أربعة أشهر أو أقل وفاء قبل انقضائها فلا يدخل الأمر في شمول الآية ؛ لأنه لا يكون قد رجع عن اليمين وحقت عليه الكفارة. وهناك من أوجب الكفارة عليه ؛ لأن الزوج يعتبر راجعاً عن يمينه وقد يكون القول الأول أوجه والله أعلم.
وجملة ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قد تلهم أن الله تعالى لا يستحسن الإيلاء على كل حال مهما كانت المدة، ويعده هفوة قد يغفرها إذا تاب الزوج عنها وراجع زوجته في المدة أو قبلها. ويدعم هذا عتاب الله لرسوله حينما آلى من زوجاته على ما حكته آيات سورة التحريم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١ ﴾ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿ ٢ ﴾ ﴾ والأحاديث التي أوردناها في مطلع النبذة عند إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم قد تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه، وقد يفيد هذا آيات التحريم هذه أيضا. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم آلى بدون مدة ثم رجع فكفّر عن يمينه، والله تعالى أعلم.
حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته
هناك حالات عديدة من ذلك رأينا أن نستطرد إليها في مناسبة موضوع آيات الإيلاء. فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أحد علماء التابعين قوله :«أيما رجل تزوّج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر، فإن شاءت أقرّت، وإن شاءت فارقت» وقوله :«من تزوّج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسّها وإلا فرّق بينهما» وروى الإمام مالك :«أن ابن شهاب سئل متى يضرب الأجل فقال : من يوم الترافع إلى السلطان» وعقب الإمام مالك على هذه الأقوال فقال : أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ولا يفرّق بينهما» ٦. ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، والاجتهادات تفيد أن للزوجة أن ترفع أمرها للسلطان إذا لم ترض بما واجهته من حالات وإن للسلطان أن يضرب أمداً للزوج ثم يفرق بينهما إذا لم يتغير الموقف إيجابياً. وهي اجتهادات سديدة مع توقفنا في اجتهاد مالك الأخير وترجيحنا أن للزوجة إذا شاءت أن ترفع أمرها للسلطان في الحالة المذكورة أيضا إذا لم يكن سبب الامتناع مرضاً يمكن الشفاء منه. أي إذا كان الامتناع تعففاً أو من مرض لا يمكن الشفاء منه والله أعلم.
ونقطة أخرى نتوقف فيها، وهي القول : إن السلطان يضرب للزوج سنة فحكمة الله قدرت لمن يحلف أن لا يقرب زوجته مدة أربعة أشهر وخيرته بين الرجوع وبين الطلاق. ولذلك نرى الأوجه أن يكون الأجل الذي يضربه السلطان أربعة أشهر من يوم رفع الأمر إليه والله تعالى أعلم.
وحالة أخرى رواها مالك والشافعي عن عمر قال :«أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا وله الرجوع به على وليّها الذي أنكحه إيّاها». وعقب الإمام مالك على ذلك بما مفاده أن الولي إذا كان يعلم ذلك فالغرم عليه وإن لم يكن يعلم فليس عليه غرم وترد المرأة ما أخذت من صداقها ويترك لها قدر ما تستحل به ٧. وهذا يعني أن الزواج يفسخ بين الزوجين. ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، واجتهاد مالك سديد في ما نرى والله أعلم.
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ [ ١ ] مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ [ ٢ ] أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا [ ٣ ] فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٢٦ ﴾ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ [ ٤ ] فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٢٧ ﴾ ﴾.
في الآيتين تعليمات أو تقريرات تشريعية في شأن الإيلاء : فالذين يحلفون بأن لا يجامعوا زوجاتهم لا يصح أن يستمروا على ما أقسموا عليه إلا أربعة أشهر، فإما أن يرجعوا عن يمينهم ويعودوا إلى نسائهم والله غفور رحيم يقبل التوبة ويعامل بالرحمة، وإما أن يعزموا الطلاق والله سميع لأقوالهم عليم بنواياهم.
تعليق على الآية
﴿ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ... الخ ﴾
والآية التالية لها
والآيتان فصل تشريعي جديد، وهو بدء فصل طويل في الطلاق. وقد يكون وضعه في ترتيبه للمماثلة أو لنزوله بعد ما سبقه.
ولم نطلع على رواية في نزوله، والمتبادر أنه حدث حادث إيلاء فرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الحكم فيه. وقد قلنا : إن الآيتين السابقتين متصلتان بما بعدهما ؛ لأن في اليمين على عدم قرب الزوج لزوجته شيئا مما يخالف الإصلاح وتقوى الله، فإذا صح هذا فيكون بدء الفصل التشريعي الآيتين السابقتين وهو فصل طويل على ما سوف يأتي.
وإيلاء الزوج على زوجته عادة من عادات العرب قبل الإسلام، فقد كان الأزواج إما بسائق الغضب وإما بسائق الكراهية وإما لمآرب أخرى مثل ابتزاز أموالها ومنعها من التزوج من غيره والتصرف بنفسها أو لكثرة ولادتها البنات أو إبقائها في بيته لتكون خادمة ومربية لأولادها الخ... يحلفون بعدم الاتصال الجنسي بأزواجهم فتصبح محرّمة عليه لا هي زوجة ولا هي مطلقة. وقد وضعت الآيتان الأمر في نصابه الحق فليس للزوج أن يتحكم بزوجته تحكما كيفيا ليشفي به غلّ نفسه أو يضمن النفع على حساب ضررها. ولا يصح للمؤلي أن يحتج باليمين الصادرة منه للإضرار والحيف : فإما أن تكون يميناً صدرت عن فورة آنية وبغير قصد وتعمد وحينئذ لا يجوز أن يمتد أثرها لأكثر من أربعة أشهر في حال كحد أقصى، وإما أن تكون صدرت عن نية إضرار وأذى وحينئذ يجب أن ترد إلى الزوجة حريتها وأن تحمى من الأذى والضرر بالطلاق إذا لم يرعو الزوج ويعود إلى الحق والواجب وهذا الشرح المستلهم من روح الآيتين والآيتين السابقتين لهما معاً يؤيد ما قلناه من الصلة والانسجام بينهما، ويبرز المبدأ الجليل الذي تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة بحماية الزوجة ومنع الإضرار بها وظلمها واستغلالها.
ولقد روى المفسرون أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة في تأويل الآيات ومدى تطبيق حكم الإيلاء. منها حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال :«آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه فأقام في مشربةٍ له تسعا وعشرين ليلة ثم نزل، قالوا : يا رسول الله آليت شهراً فقال : الشهر تسع وعشرون» ١. وحديث رواه البخاري جاء فيه :«كان ابن عمر يقول في الإيلاء : لا يحلّ لأحد بعد الأجل إلا أن يمسك بالمعروف أو يعزم الطلاق» ٢. وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس قال :«إذا حرّم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفّرها، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة» ٣. وحديث رواه الترمذي عن عائشة قالت :«آلى رسول الله من نسائه وحرّم فجعل الحرام حلالاً وجعل في اليمين كفّارة» ٤.
وبالإضافة إلى الأحاديث التي اكتفينا منها بما تقدم ففي كتب التفسير روايات عن أهل التأويل في صدد تطبيق الآيات وحكمها نوجزها ونعلق عليها كما يلي :
١- هناك من قال : إنه إذا مرت الأشهر الأربعة دون مراجعة صارت الزوجة مطلقة سواء نطق الزوج بالطلاق أم لم ينطق. وهناك من قال إنه لا بد من أن يطلق بالطلاق ؛ لأن فحوى الآية يجعله بين أمرين إما الرجوع قبل انتهاء المدة وإما الطلاق. وهناك من قال إن الزوج إذا لم يطلق أو يرجع خلال المدة طلق عليه الحاكم عند انتهائها وإن للزوجة مراجعة الحاكم لتخييره بين الرجوع والطلاق قبل انتهاء المدة فإن لم يرجع وانتهت المدة طلق الحاكم عليه. والمتبادر أن القول الأخير هو الأوجه ؛ لأن هدف الآية منع وقوف الحيف على الزوجة وعدم بقائها معلقة تحت رحمة الزوج.
٢- هناك من قال : إن الرجوع عن الإيلاء في المدة لا يكون صحيحاً إلا بالوقاع. وهناك من قال : إنه يصح بالإشهاد على الرجوع فقط. وهناك من توسط وفصل. فقال : إذا كان هناك مانع للوقاع من مرض أو حيض أو سفر أو سجن فيكون الإشهاد مجزياً. وقد يكون هذا هو الأوجه على شرط أن يواقع إذا زال العذر. ويكفّر عن يمينه كدلالة عملية على الرجوع عنها. أما إذا لم يكفر ولم يواقع إذا زال العذر فيظل الإشهاد كلاماً بدون دليل ويكون ضرر الإيلاء قد تحقق.
٣- هناك من قال : إن مرور الأشهر الأربعة بدون رجوع يكون بمثابة تطليقة بائنة. تملك بها الزوجة نفسها، فإذا أراد زوجها أن يعود إليها كان ذلك رهناً برضائها وبعقد ومهر جديدين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجاً غيره قبل ذلك إذا كانت هي المرة الأولى أو الثانية ولها الحق أن لا تقبل عودته إليها وأن تتزوج غيره بعد أن تنتهي عدتها وتكون هذه العدة حيضة واحدة ٥. وهناك من قال : إنها تطليقة عادية رجعية يحق للزوج المراجعة بدون عقد ومهر جديدين استناداً إلى حكم الطلاق المبين في الآيات التالية على ما سوف يأتي شرحه. وهذه الآيات تذكر حكم المطلقات إذا طلقهن أزواجهن مرة أو مرتين حيث يكون لهم مراجعتهن قبل انقضاء العدة مع شرط أن يكون قصدهم الإصلاح وليس الضرر. وورود الآيات بعد آية الإيلاء وبعد جملة ﴿ وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ ﴾ قد يجعل القول الثاني هو الأوجه والله أعلم.
٤- هناك من قال : إن الزوج لو حلف أن لا يضرب امرأته أربعة أشهر ولم يواقعها بعد انتهاء المدة لا يكون مولياً ؛ لأن حكم الآية هو في الذين يولون بدون تحديد للمدة حيث حددت لهم أربعة أشهر يفيئون خلالها أو يطلقون أو يطلق عليهم. وهناك من قال : إنه يكون مولياً إذا تجاوز الأشهر الأربعة بدون وقاع، ونرى القول الثاني هو الأكثر وجاهة واتساقاً مع روح الآية وهدفها.
٥- هناك من قال : إن مدة الإيلاء وأحكامه واحدة في حقّ الحرّ والعبد ؛ لأن الأمر متصل بالطبيعة الجنسية. وهناك من قاس الأمر على حدّ الزنا على الإماء، وهو نصف حد الحرائر كما جاء في آية سورة النساء :﴿ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ٢٥ ﴾ ﴾ ولم نطلع على حديث نبوي خاص. وهناك حديث في صدد عدد تطليقات الأمة المتزوجة وعدتها ؛ حيث روى أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان». في حين أن طلاق الحرة هو ثلاث وعدتها تلاث حيضات كما جاء في آيات سورة البقرة التالية لهذه الآيات. وقد يكون ذلك القياس استئناساً بذلك في محله فيكون مدة تربص الأمة التي يولي زوجها منها شهرين وليس أربعة والله أعلم.
٦- والجمهور على أن الإيلاء يمين، وإنه إذا حلف الزوج لمدة غير محدودة وفاء قبل أربعة أشهر يكفّر عن يمينه حيث يكون قد حلف على شيء ورأى خيراً منه فرجع عن يمينه كما جاء في الأحاديث النبوية. أما إذا حلف لمدة أربعة أشهر أو أقل وفاء قبل انقضائها فلا يدخل الأمر في شمول الآية ؛ لأنه لا يكون قد رجع عن اليمين وحقت عليه الكفارة. وهناك من أوجب الكفارة عليه ؛ لأن الزوج يعتبر راجعاً عن يمينه وقد يكون القول الأول أوجه والله أعلم.
وجملة ﴿ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ قد تلهم أن الله تعالى لا يستحسن الإيلاء على كل حال مهما كانت المدة، ويعده هفوة قد يغفرها إذا تاب الزوج عنها وراجع زوجته في المدة أو قبلها. ويدعم هذا عتاب الله لرسوله حينما آلى من زوجاته على ما حكته آيات سورة التحريم :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿ ١ ﴾ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿ ٢ ﴾ ﴾ والأحاديث التي أوردناها في مطلع النبذة عند إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم قد تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كفر عن يمينه، وقد يفيد هذا آيات التحريم هذه أيضا. ولعل النبي صلى الله عليه وسلم آلى بدون مدة ثم رجع فكفّر عن يمينه، والله تعالى أعلم.
حالات متصلة بموضوع علاقة الزوج الجنسية بزوجته
هناك حالات عديدة من ذلك رأينا أن نستطرد إليها في مناسبة موضوع آيات الإيلاء. فقد روى الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أحد علماء التابعين قوله :«أيما رجل تزوّج بامرأة وبه جنون أو ضرر فإنها تخيّر، فإن شاءت أقرّت، وإن شاءت فارقت» وقوله :«من تزوّج امرأة فلم يستطع أن يمسّها فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسّها وإلا فرّق بينهما» وروى الإمام مالك :«أن ابن شهاب سئل متى يضرب الأجل فقال : من يوم الترافع إلى السلطان» وعقب الإمام مالك على هذه الأقوال فقال : أما الذي قد مسّ امرأته ثم اعترض عنها فلا يضرب له ولا يفرّق بينهما» ٦. ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، والاجتهادات تفيد أن للزوجة أن ترفع أمرها للسلطان إذا لم ترض بما واجهته من حالات وإن للسلطان أن يضرب أمداً للزوج ثم يفرق بينهما إذا لم يتغير الموقف إيجابياً. وهي اجتهادات سديدة مع توقفنا في اجتهاد مالك الأخير وترجيحنا أن للزوجة إذا شاءت أن ترفع أمرها للسلطان في الحالة المذكورة أيضا إذا لم يكن سبب الامتناع مرضاً يمكن الشفاء منه. أي إذا كان الامتناع تعففاً أو من مرض لا يمكن الشفاء منه والله أعلم.
ونقطة أخرى نتوقف فيها، وهي القول : إن السلطان يضرب للزوج سنة فحكمة الله قدرت لمن يحلف أن لا يقرب زوجته مدة أربعة أشهر وخيرته بين الرجوع وبين الطلاق. ولذلك نرى الأوجه أن يكون الأجل الذي يضربه السلطان أربعة أشهر من يوم رفع الأمر إليه والله تعالى أعلم.
وحالة أخرى رواها مالك والشافعي عن عمر قال :«أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا وله الرجوع به على وليّها الذي أنكحه إيّاها». وعقب الإمام مالك على ذلك بما مفاده أن الولي إذا كان يعلم ذلك فالغرم عليه وإن لم يكن يعلم فليس عليه غرم وترد المرأة ما أخذت من صداقها ويترك لها قدر ما تستحل به ٧. وهذا يعني أن الزواج يفسخ بين الزوجين. ولم نطلع على أثر نبوي في ذلك، واجتهاد مالك سديد في ما نرى والله أعلم.
[ ١ ] قروء : جمع قرء. وقيل إنه الحيضة كما قيل إنه الطهر من الحيضة.
تعليق على الآية
﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ﴾
لم نطلع على رواية نزول الآية، ويتبادر لنا أنها استطراد لبيان حكم من يطلقها زوجها تعقيباً على ما سبقها من تخيير المولي من زوجته بين الإفاءة والطلاق على ما شرحناه قبل قليل.
والآية في ذات الوقت مطلع فصل تشريعي في الطلاق، ولقد احتوت هي وبقية آيات الفصل كثيراً من المواعظ والتنبيهات في صدد حقوق الزوجة ورعايتها وعدم الجنف عليها وضررها مما فيه دلالة على ما أعارته حكمة التنزيل للحياة الزوجية ولحقوق الزوجة من عناية عظيمة. وما هدفت إليه من تركيز العلاقة الزوجية على أساس الحق والتراضي والوفاق والإصلاح. ولقد روى أبو داود والحاكم وصححه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أبغض الحلال عند الله الطلاق ». وهذا يفسر ما احتوته آيات الفصل من آيات وإلهام بكون إباحة الطلاق على كراهيته هي من قبيل اختيار أهون الشرّين. والشرّ الأكبر هو ما يصيب الحياة الزوجية من شقاء وعناء وبلاء وشقاق وكيد وتفكك في حالة تعذر حسن المعاشرة والوفاق والتقصير في الواجبات والحقوق بين الزوجين سواء أكان ذلك من الطرفين أم من طرف واحد.
ولقد أمرت الآية المطلقات بأن يتربصن بأنفسهن حتى تمضي عليهن ثلاثة قروء، وأن لا يكتمن خبر حملهن إن كن حاملات، فهذا مقتضى صدق إيمانهن بالله ورسوله، وقررت أن أزواجهن أحقّ بردهن أثناء ذلك إن كان قصدهم الإصلاح، وأن لزوجاتهم عليهم من الحقوق مثل ما لهم عليهن فيما هو مشروع وغير منكر مع تقرير أن لأزواجهن عليهن درجة. وفيما يلي شرح وتوضيح آخران لمدى الآية وأحكامها :
١- لقد عرّف المؤولون ( التربّص ) المذكور بالآية باسم ( العدة ) أيضا وقد سماه القرآن كذلك في إحدى آيات سورة الطلاق. فتكون عدة المطلقة التي يجب عليها أن تتربص بنفسها طيلتها هي ثلاثة قروء. وفي سورة الطلاق تتمة لذلك حيث جعلت العدة في إحدى آياتها لمن لا تحيض بسبب من الأسباب ثلاثة أشهر وهي تقدير لمدة القروء الثلاثة. وحيث جعلت العدة للحامل وضعها لحملها. وفي النقطة الأخيرة توضيح لمدى جملة :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ ﴾ الواردة في الآية التي نحن في صددها. فقد يكون الحمل جديداً وحينئذ تمتد عدة المطلقة الحامل أكثر من ثلاثة أشهر. وإذا لم يكن جديداً فالإخبار به أيضا يكون ضرورياً حتى لا يتأخر الزوج في ردّ مطلقته وتفوته الفرصة ؛ لأنها تكون قد انتهت عدتها بالوضع.
٢- ويطلق الفقهاء على الطلاق الذي يمكن أن يرد المطلق زوجته في عدته المذكورة طلاقاً رجعياً. وهم متفقون على أن الردّ يتم بدون عقد ومهر جديدين. فإذا انقضت العدة ولم يرد المطلق مطلقته يسمى الطلاق بائناً ويتوقف ردّ المطلقة على مهر وعقد جديدين. وهذا وذاك في التطليقة الأولى والتطليقة الثانية. فإذا طلقها مرة ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجاً آخر على ما جاء في آيات تالية.
٣- وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان ». فيكون في الحديث توضيح لحالة الأمة التي سكت عنها القرآن، وصار هذا تشريعاً نافذاً. ونعني بالأمة هي التي تكون متزوجة زواجاً شرعياً بغير مالكها وقد أجاز القرآن ذلك في إحدى آيات سورة النساء.
والمتبادر أن حالة الأمة الاجتماعية هي التي لوحظت في هذا التشريع. وقد جعل القرآن حدها على الزنا نصف حدّ الحرة على ما جاء في آية سورة النساء نفسها. وقد يكون هذا التشريع القرآني سند التشريع النبوي في تنزيل مدة الحيضات وعدد التطليقات بالنسبة للأمة. وإذا لوحظ أن التشريع القرآني والنبوي هدفا إلى إنهاء حالة الرقّ على ما شرحناه في سياق سورة البلد بدا أن التشريع القرآني والنبوي في حالتي الأمة المذكورتين آنفاً هو معالجة لأمر اجتماعي قائم لم تر حكمة التشريع بدّا من اعتباره. وينتهي حينما يتحقق ذلك الهدف.
٤- من أهل التأويل من قال : إن القرء هو الطهر. ومنهم من قال : إنه الحيض. والفرق بين القولين كما هو المستفاد من شروح المفسرين هو أن الزوج يستطيع أن يراجع زوجته قبل تطهرها من الحيضة الثالثة في حالة الأخذ بالقول الأول. أما في حالة الأخذ بالقول الثاني فإن طروء حيضتها الثالثة قبل المراجعة يجعل مراجعتها ممتنعة بدون عقد ومهر جديدين ؛ لأن الفرصة تكون قد ذهبت والطلاق صار بائناً. ويروي الطبري أن عمر بن الخطاب طلق امرأته فلما تهيأت للاغتسال من حيضتها الثالثة هتف بأنه راجعها فصحّت مراجعته ؛ حيث يكون قد أخذ بالقول الثاني. ويروي الطبري أن رجلاً استفتى زيد بن ثابت فأفتاه بأن امرأته إذا دخلت في حيضتها الثالثة بانت منه ؛ حيث يكون قد أخذ بالقول الأول. وليس هناك حديث نبوي وثيق صريح في ذلك. ولذلك ظل المذهبان ممارسين.
٥- لقد جعلت الآية الزوج أحقّ بردّ زوجته أثناء العدة. ولكن شاءت رحمة الله أن يكون حقّه مشروطاً بقصد الإصلاح ﴿ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً ﴾ بحيث يلهم النص القرآني حق الزوجة المطلقة بالاطمئنان لحسن نية مطلقها ورغبته في الإصلاح وحقها بالامتناع عن الموافقة على الرجوع إذا لم يحصل عندها ذلك الاطمئنان. ولقد نهت آية أخرى تأتي بعد قليل عن إمساك الزوج مطلقته في أثناء عدتها أي عن ردها إليه بقصد الضرر والعدوان. وعدت ذلك ظلما وهزؤاً بآيات الله. وهذا مما يدعم الاستلهام السابق. ولقد ذكر القاسمي في تفسيره أن المراجعة تكون محرمة إذا لم تكن بنية الإصلاح استدلالاً من النص القرآني. ولعل في جملة ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ ما يؤيد ذلك أيضا. فكما أن للرجل الحق والحرية في عدم المراجعة حتى يصل الأمر إلى البينونة بعد انقضاء العدة فإن للزوجة مثل هذا الحق إذا تيقنت أن زوجها لا يريد بمراجعتها وفاقاً ولا إصلاحاً.
وهذا الحق للزوجة لا ينتقص فيما نراه بجملة :﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ الواردة في الآية بعد الجملة السابقة ؛ حيث يتبادر لنا من روح الجملة أنها في صدد تقرير عام في الحياة الزوجية، وأن هذه الدرجة هي قوامة الزوج على زوجته وحقه في طاعتها له في هذه الحياة، وأن المهر الذي دفعه أولاً والنفقة التي يضطلع بها ثانياً من مبررات هذه الدرجة على ما تلهم آية سورة النساء هذه :﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً { ٣٤ ﴾ } ويعزى هذا القول إلى ابن عباس أيضاً. ولعل كون الرجل هو الذي يملك حق الطلاق ويملك حق التزوج بأكثر من زوجة من مظاهر هذه الدرجة. ومما قاله رشيد رضا في سياق تفسيره للآية :«إن الحياة الزوجية حياة اجتماعية، ولا بدّ لكل اجتماع من رئيس ؛ لأن المجتمعين لا بد من أن تختلف آراؤهم ورغباتهم في بعض الأمور ولا تقوم مصلحتهم إلا إذا كان لهم رئيس يرجع إليه في الخلاف لئلا يعمل كل فرد ضد الأمر فتنفصم عروة الوحدة الجامعة ويختل نظامهم، والرجل أحق بالرئاسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بقوته وماله فجعل الله له هذه الدرجة ». وفي هذا السداد وفيه توضيح لمعنى جملة :﴿ بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في آية النساء [ ٣٤ ].
ولقد كان النساء وما زلن ولسوف يظللن يشعرن في قرارة أنفسهن على الأقل في صلاحية الرجل لهذه الدرجة في هذا المعنى مهما بلغن من درجات في العقل والعلم والمال والقوة ؛ حيث يبدو في ذلك إعجاز التقرير القرآني. هذا مع التنبيه على أنه ليس في أسلوب الآية فضلاً عن فحواها ما يمكن أن يفيد أن هذه الدرجة التي جعلت للرجل على المرأة يصح أن تكون استعلاء وتحكماً وقهراً.
٦- ونستطرد فنقول : إن المتبادر أن جملة ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ أوسع شمولاً من حق الزوجة في عدم الموافقة على المراجعة إذا اعتقدت أن مطلقها لا يريد بذلك إصلاحاً. وأنه مما ينطوي فيها تقرير حقها في أن يكون لها على الرجل كل ما عليها له من طاعة وأمانة وعفة وإخلاص وحسن معاملة ومودة واحترام وثقة وتكريم وبرّ وترفيه ومراعاة مزاج ورعاية مصلحة وقضاء ما لا يستطيع قضاءه، من مصالح وحاجات. واعتباره إياها شريكة حياته في مختلف نواحيها ومعاملتها على هذا الاعتبار. وكل هذا حقّ الرجل على زوجته. وكلمة ﴿ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ في مقامها بليغة المدى ؛ لأن هذه الكلمة تعني كل حقّ متعارف عليه وليس فيه منكر، وبالمقدار المتعارف عليه وهذا لا يقاس بزمن بعينه بل يظل يتبدل ويتطور حسب تبدل ظروف الحياة الاجتماعية وتطورها والضابط العام فيه هو أن لا يحرّم حلالاً ولا يحلّ حراماً.
ولقد قال المفسر الخازن في هذا الصدد :«وذلك أن حقّ الزوجية لا يتم إلا إذا كان كل من الزوجين يراعي حق الآخر فيما له وما عليه. وأن على الزوج أن يقوم بجميع حق زوجته ومصالحها ». وقال الطبري :«وهذه الجملة من الكلمات العجيبة الجامعة للفوائد الجمة ». وقال رشيد رضا بالإضافة إلى ما نقلناه عنه :«إن هذه الجملة تعطي الرجل ميزاناً يزن معاملته به لزوجته في جميع الشؤون والأحوال، وتقرر أن الحقوق بينهما متبادلة، وأنهما أكفاء وأن ما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وعلى الرجل عمل يقابلها به إن لم يكن مثله في شخصه فهو مثله في جنسه. فهما متماثلان في الحقوق والأعمال كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل أي إن كلاً منهما بشر تام له عقل يفكر في مصالحه وقلب يحب ما يلائمه ويسرّ به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه. وليس من العدل أن يتحكم أحد الزوجين في الآخر ولا تكون الحياة الزوجية سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين للآخر والقيام بحقوقه ».
تعليق على الآية
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
في الآيتين تنبيه على أن الطلاق الذي يصح الرجعة فيه يجب أن لا يكون أكثر من مرتين. وإن من واجب الزوج إذا طلق أن يمسك زوجته بإحسان أو يسرّحها بإحسان. وإنها لا تحلّ له إذا طلقها مرة ثالثة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره ويطلقها الزوج الجديد ويظن الزوجان القديمان أنهما سيقيمان حدود الله. وأنه لا يجوز لزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطاه لزوجته إلا إذا هي أرادت أن تفدي منه نفسها.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في صدد نزولهما، ففي صدد :﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ روى الطبري عن ابن عباس أن رجلاً قال لامرأته : لا آويك ولا أدعك تحلّين. فقالت له : كيف تصنع ؟ فقال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فمتى تحلين. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية » ١. وحيث روى الطبري عن قتادة :«أن الرجل كان يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك فيراجع في العدة فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات ». وفي صدد :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ إلى آخر الآية. روى المفسرون أنها نزلت في شأن جميلة بنت أبيّ كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها رسول الله : يا جميلة ماذا كرهت من ثابت ؟ قالت : والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامتَه. فقال لها : أتردين الحديقة ؟ قالت : نعم، فردت الحديقة وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما » ٢.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت معاً جملة واحدة أو متتابعة لتوضيح الأحكام المتصلة بالزواج والطلاق. ولم ينزل كل منها لحدتها بناء على حوادث وقعت، وإن كان يصح القول إن حكمة الله اقتضت تنزيلها في هذا الفصل بسبب مثل الحوادث المذكورة في الروايات. ويلحظ أن الحديثين الصحيحين اللذين أوردناهما في الذيل لا يذكران أن الآيات نزلت لحدتها بناء على الحوادث والله أعلم.
ولقد روى الطبري حديثاً عن ابن زيد جاء فيه :«إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق مرتان فأين الثالثة ؟ فقال له : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ». وفي الجواب حكمة بالغة. وفيما يلي شرح وتعليق على مدى الآيات :
١- إن الجملة ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ ذات مغزى هام في صدد التطليق. ومما أثر من السنة النبوية والصحابة أن الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته كان يطلقها للمرة الأولى طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها. ثم إذا لم تزل أسباب الطلاق عنه أو عادت ثانية يطلقها للمرة الثانية طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انتهاء العدة، فإذا لم تزل أسباب الطلاق أو عادت طلقها للمرة الثالثة ويكون الطلاق بائنا لا تحل المطلقة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجا آخر. وينطوي في هذا كما هو واضح حكمة التنزيل الجليلة في إعطاء الفرصة للزوجين للتروي فإذا وقعت التطليقة الثالثة فيكون معنى ذلك تعذر التراضي والوفاق ويصبح الفراق أمراً ضرورياً لصالح الزوجين وتكون شريعة الطلاق بهذه الصورة في غاية الحكمة والصواب.
وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مُرْه فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء ». وهذا الحديث مع نصّ الآيات قد يلهم عدم نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث مرة واحدة، كما أن نص الآية قد يلهم أن هذا النوع من الطلاق ليس هو طلاقاً قرآنياً. ويدعم هذا القول بقوة آية سورة الطلاق الأولى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً { ١ ﴾ } والفقرة الأخيرة قوية المغزى في صدد احتمال تراجع الزوجين أثناء العدة، وحكمة الأمر بتطليق النساء لعدتهن وإحصاء العدة وعدم خروج النساء من بيوت مطلقيهم وعدم إخراجهم لتسهيل وقوع ذلك الاحتمال. ولقد روى النسائي بسند جيد عن محمود بن لبيد قال : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعاً، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله... » ولقد روى مسلم وأبو داود وأحمد حديثاً عن ابن عباس جاء فيه :«كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فقال عمر : إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم » ٣. وفي الحديثين تدعيم لما قلنا.
على أن هناك حديثاً رواه أبو داود والترمذي والشافعي عن ركانة بن عبد يزيد أنه :«أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني طلقت امرأتي البتة. فقال : ما أردت بها ؟ قال : واحدة. قال : والله قال : والله. قال : فهو ما أردت » ٤. واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم تطليقه البات تطليقة رجعية. وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت :«إن زوجها طلّقها ثلاثاً ولم يجعل لها نفقة، فشكت أمرها إلى رسول الله فقال لها : ليس لك عليه نفقة » ٥.
وهناك حديث يرويه الخمسة عن عائشة قالت :«إنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبثّ طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهُدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته » ٦. والشاهد في الحديث أن زوجاً طلق زوجته باتاً فاعتبرت نفسها أنها صارت حرة فتزوجت غيره، ولم يرو اعتراض لرسول الله على ذلك.
فقد يكون في هذه الأحاديث ما يلهم توضيحاً وتعديلاً نبويين لما لم يأت بصراحة قطعية في القرآن ؛ حيث يمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من الرجل ؛ لأن طلاقه كان اعتباطياً، وإنه لم يعترض على طلاق بنت قيس ؛ لأنه عرف أنه كان تصميماً، وأنه كان يمكن أن يجيز طلاق ركانة البات لو قال : إنه أراد طلاقا باتاً. ففي كل هذا ما يمكن أن يكون سنداً لنفاذ التطليق الثلاث أو البات مرة واحدة إذا كان هناك تصميم من الزوج على ذلك. ولعل عمر بن الخطاب حين أجاز ذلك أجازه بالاستناد إلى الآثار النبوية من جهة وبالنسبة لمن يكون مصمماً على الفراق البات من جهة ثانية ؛ لأن الحكمة من المراجعة هي إفساح المجال للوفاق والتراضي، وتصميم الزوج على الفراق البات تفسير بأن ذلك متعسر. وهنا يكون حكم الجملة القرآنية :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ بحيث يقال : إن نفاذ الطلاق الثلاث أو البات مرة واحدة منوط بنية الزوج فإن قال : إني أريد الفراق البات أجيز عليه وإن قال : إنه ليس في نيته الفراق البات اعتبر تطليقة رجعية واحدة والله أعلم.
ومع ذلك فإن الآيات وصراحتها ومداها هنا وفي سورة الطلاق مع بعض الأحاديث التي أوردنها أقوى من هذه الآثار التي تذكر أو تسند إجازة الطلاق الثلاث والطلاق البات. والتي ليس فيها صراحة قطعية شاملة والله تعالى أعلم.
٢- وجملة ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ التي وردت في الآية [ ٢٢٩ ] ثم تكررت في الآية [ ٢٣١ ] وفي آية سورة الطلاق الثانية قد جاءت حقا في صدد موقف الزوج الذي طلق زوجته طلاقاً رجعياً كما هو النص والسياق. غير أنها فيما نعتقد مطلقة المدى بطلاق وبدون طلاق. وأنها احتوت مبدأين عظيمي الروعة في الأساس الذي يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. فالله تعالى قد خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن كل من الزوجين للآخر على أساس المودة والرحمة وكل معاملة وسلوك تعورف على أنهما حق وواجب ومتسقان مع المودة والرحمة، فإذا تعذر تحقيق هذا المبدأ الإيجابي فهناك المبدأ السلبي وهو التسريح بإحسان أي الفراق بالحسنى من غير مضارة ولا أذى ولا تهجير ولا إرهاق ولا تشاتم ولا شقاق.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن مخالفة الزوج لهذين المبدأين اللذين انطويا في الجملة إثم ديني عظيم عند الله، وقد عبرت الآية [ ٢٣١ ] التي تأتي بعد قليل عن ذلك تعبيراً قوياً جداً. فعدم الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان سواء أفي حالة الزواج من حيث الأصل أم في حالة المراجعة في الطلاق الرجعي يعني أن الزوج يتلاعب بآيات الله ويحتال عليها ويتخذها هزواً والعياذ بالله. وقد يبرر هذا أن يقال : إن من حق المرأة التي تتعرض لذلك أن ترفع أمرها للقضاء ليضع الأمر مع الزوج في نصابه الحق بتحقيق أحد المبدأين وحماية الزوجة من الأذى والإعنات والضرر والعدوان. وتدعم هذا فيما يتبادر لنا آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { ٣٥ ﴾ } ٧، ثم آيات سورة النساء هذه :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً { ١٢٨ ﴾ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٢٩ ﴾ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ﴿ ١٣٠ ﴾ } ٨.
وهناك اصطلاح فقهي يعرف بب
٢ روى البخاري والنسائي هذا الحديث بدون ذكر أن الآية نزلت في هذا الشأن. انظر التاج ٢/٣١٥.
٣ التاج ٢/٣٣٢.
٤ المصدر نفسه ص: ٣١٢.
٥ المصدر نفسه ص: ٣٣١.
٦ التاج ٢/٣١٣.
٧ الآية الأولى نزلت في صدد قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديتها إذا نشزت، والآيات الأخرى نزلت في صدد الرجل الذي يريد أن يتزوج على امرأته ناشزا عنها. ولكن الآيات يصح أن تساق في المقام الذي سقناه فيها لتدعيم ما أردنا قوله ونؤجل شرح مدى الآيات إلى مناسباتها.
٨ المصدر السابق نفسه.
تعليق على الآية
﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
في الآيتين تنبيه على أن الطلاق الذي يصح الرجعة فيه يجب أن لا يكون أكثر من مرتين. وإن من واجب الزوج إذا طلق أن يمسك زوجته بإحسان أو يسرّحها بإحسان. وإنها لا تحلّ له إذا طلقها مرة ثالثة إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره ويطلقها الزوج الجديد ويظن الزوجان القديمان أنهما سيقيمان حدود الله. وأنه لا يجوز لزوج أن يأخذ شيئاً مما أعطاه لزوجته إلا إذا هي أرادت أن تفدي منه نفسها.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في صدد نزولهما، ففي صدد :﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ روى الطبري عن ابن عباس أن رجلاً قال لامرأته : لا آويك ولا أدعك تحلّين. فقالت له : كيف تصنع ؟ فقال : أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فمتى تحلين. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله الآية » ١. وحيث روى الطبري عن قتادة :«أن الرجل كان يطلق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك فيراجع في العدة فجعل الله حدّ الطلاق ثلاث تطليقات ». وفي صدد :﴿ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ﴾ إلى آخر الآية. روى المفسرون أنها نزلت في شأن جميلة بنت أبيّ كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها رسول الله : يا جميلة ماذا كرهت من ثابت ؟ قالت : والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامتَه. فقال لها : أتردين الحديقة ؟ قالت : نعم، فردت الحديقة وفرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما » ٢.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآيات وما قبلها وما بعدها نزلت معاً جملة واحدة أو متتابعة لتوضيح الأحكام المتصلة بالزواج والطلاق. ولم ينزل كل منها لحدتها بناء على حوادث وقعت، وإن كان يصح القول إن حكمة الله اقتضت تنزيلها في هذا الفصل بسبب مثل الحوادث المذكورة في الروايات. ويلحظ أن الحديثين الصحيحين اللذين أوردناهما في الذيل لا يذكران أن الآيات نزلت لحدتها بناء على الحوادث والله أعلم.
ولقد روى الطبري حديثاً عن ابن زيد جاء فيه :«إن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت قوله تعالى الطلاق مرتان فأين الثالثة ؟ فقال له : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ». وفي الجواب حكمة بالغة. وفيما يلي شرح وتعليق على مدى الآيات :
١- إن الجملة ﴿ الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ﴾ ذات مغزى هام في صدد التطليق. ومما أثر من السنة النبوية والصحابة أن الزوج الذي يريد أن يطلق زوجته كان يطلقها للمرة الأولى طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها. ثم إذا لم تزل أسباب الطلاق عنه أو عادت ثانية يطلقها للمرة الثانية طلقة رجعية ثم يراجعها قبل انتهاء العدة، فإذا لم تزل أسباب الطلاق أو عادت طلقها للمرة الثالثة ويكون الطلاق بائنا لا تحل المطلقة لمطلقها إلا بعد أن تنكح زوجا آخر. وينطوي في هذا كما هو واضح حكمة التنزيل الجليلة في إعطاء الفرصة للزوجين للتروي فإذا وقعت التطليقة الثالثة فيكون معنى ذلك تعذر التراضي والوفاق ويصبح الفراق أمراً ضرورياً لصالح الزوجين وتكون شريعة الطلاق بهذه الصورة في غاية الحكمة والصواب.
وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي وأبو داود عن ابن عمر أنه طلّق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مُرْه فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء ». وهذا الحديث مع نصّ الآيات قد يلهم عدم نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث مرة واحدة، كما أن نص الآية قد يلهم أن هذا النوع من الطلاق ليس هو طلاقاً قرآنياً. ويدعم هذا القول بقوة آية سورة الطلاق الأولى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ﴿ ١ ﴾ ﴾ والفقرة الأخيرة قوية المغزى في صدد احتمال تراجع الزوجين أثناء العدة، وحكمة الأمر بتطليق النساء لعدتهن وإحصاء العدة وعدم خروج النساء من بيوت مطلقيهم وعدم إخراجهم لتسهيل وقوع ذلك الاحتمال. ولقد روى النسائي بسند جيد عن محمود بن لبيد قال : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جمعاً، فقام غضبان ثم قال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم، حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله... » ولقد روى مسلم وأبو داود وأحمد حديثاً عن ابن عباس جاء فيه :«كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلقة واحدة فقال عمر : إنّ الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناةٌ فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم » ٣. وفي الحديثين تدعيم لما قلنا.
على أن هناك حديثاً رواه أبو داود والترمذي والشافعي عن ركانة بن عبد يزيد أنه :«أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إني طلقت امرأتي البتة. فقال : ما أردت بها ؟ قال : واحدة. قال : والله قال : والله. قال : فهو ما أردت » ٤. واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم تطليقه البات تطليقة رجعية. وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن فاطمة بنت قيس قالت :«إن زوجها طلّقها ثلاثاً ولم يجعل لها نفقة، فشكت أمرها إلى رسول الله فقال لها : ليس لك عليه نفقة » ٥.
وهناك حديث يرويه الخمسة عن عائشة قالت :«إنّ امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن رفاعة طلّقني فبثّ طلاقي وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهُدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته » ٦. والشاهد في الحديث أن زوجاً طلق زوجته باتاً فاعتبرت نفسها أنها صارت حرة فتزوجت غيره، ولم يرو اعتراض لرسول الله على ذلك.
فقد يكون في هذه الأحاديث ما يلهم توضيحاً وتعديلاً نبويين لما لم يأت بصراحة قطعية في القرآن ؛ حيث يمكن أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من الرجل ؛ لأن طلاقه كان اعتباطياً، وإنه لم يعترض على طلاق بنت قيس ؛ لأنه عرف أنه كان تصميماً، وأنه كان يمكن أن يجيز طلاق ركانة البات لو قال : إنه أراد طلاقا باتاً. ففي كل هذا ما يمكن أن يكون سنداً لنفاذ التطليق الثلاث أو البات مرة واحدة إذا كان هناك تصميم من الزوج على ذلك. ولعل عمر بن الخطاب حين أجاز ذلك أجازه بالاستناد إلى الآثار النبوية من جهة وبالنسبة لمن يكون مصمماً على الفراق البات من جهة ثانية ؛ لأن الحكمة من المراجعة هي إفساح المجال للوفاق والتراضي، وتصميم الزوج على الفراق البات تفسير بأن ذلك متعسر. وهنا يكون حكم الجملة القرآنية :﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ بحيث يقال : إن نفاذ الطلاق الثلاث أو البات مرة واحدة منوط بنية الزوج فإن قال : إني أريد الفراق البات أجيز عليه وإن قال : إنه ليس في نيته الفراق البات اعتبر تطليقة رجعية واحدة والله أعلم.
ومع ذلك فإن الآيات وصراحتها ومداها هنا وفي سورة الطلاق مع بعض الأحاديث التي أوردنها أقوى من هذه الآثار التي تذكر أو تسند إجازة الطلاق الثلاث والطلاق البات. والتي ليس فيها صراحة قطعية شاملة والله تعالى أعلم.
٢- وجملة ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ﴾ التي وردت في الآية [ ٢٢٩ ] ثم تكررت في الآية [ ٢٣١ ] وفي آية سورة الطلاق الثانية قد جاءت حقا في صدد موقف الزوج الذي طلق زوجته طلاقاً رجعياً كما هو النص والسياق. غير أنها فيما نعتقد مطلقة المدى بطلاق وبدون طلاق. وأنها احتوت مبدأين عظيمي الروعة في الأساس الذي يجب أن تكون عليه العلاقة الزوجية وهي الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. فالله تعالى قد خلق الإنسان من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن كل من الزوجين للآخر على أساس المودة والرحمة وكل معاملة وسلوك تعورف على أنهما حق وواجب ومتسقان مع المودة والرحمة، فإذا تعذر تحقيق هذا المبدأ الإيجابي فهناك المبدأ السلبي وهو التسريح بإحسان أي الفراق بالحسنى من غير مضارة ولا أذى ولا تهجير ولا إرهاق ولا تشاتم ولا شقاق.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن مخالفة الزوج لهذين المبدأين اللذين انطويا في الجملة إثم ديني عظيم عند الله، وقد عبرت الآية [ ٢٣١ ] التي تأتي بعد قليل عن ذلك تعبيراً قوياً جداً. فعدم الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان سواء أفي حالة الزواج من حيث الأصل أم في حالة المراجعة في الطلاق الرجعي يعني أن الزوج يتلاعب بآيات الله ويحتال عليها ويتخذها هزواً والعياذ بالله. وقد يبرر هذا أن يقال : إن من حق المرأة التي تتعرض لذلك أن ترفع أمرها للقضاء ليضع الأمر مع الزوج في نصابه الحق بتحقيق أحد المبدأين وحماية الزوجة من الأذى والإعنات والضرر والعدوان. وتدعم هذا فيما يتبادر لنا آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً ﴿ ٣٥ ﴾ ﴾ ٧، ثم آيات سورة النساء هذه :﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴿ ١٢٨ ﴾ وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً ﴿ ١٢٩ ﴾ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾ ٨.
وهناك اصطلاح فقهي يعرف بب
٢ روى البخاري والنسائي هذا الحديث بدون ذكر أن الآية نزلت في هذا الشأن. انظر التاج ٢/٣١٥.
٣ التاج ٢/٣٣٢.
٤ المصدر نفسه ص: ٣١٢.
٥ المصدر نفسه ص: ٣٣١.
٦ التاج ٢/٣١٣.
٧ الآية الأولى نزلت في صدد قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديتها إذا نشزت، والآيات الأخرى نزلت في صدد الرجل الذي يريد أن يتزوج على امرأته ناشزا عنها. ولكن الآيات يصح أن تساق في المقام الذي سقناه فيها لتدعيم ما أردنا قوله ونؤجل شرح مدى الآيات إلى مناسباتها.
٨ المصدر السابق نفسه.
[ ١ ] ضراراً : بقصد الإضرار.
تعليق على الآية ﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... ﴾
في الآية تنبيه وتحذير وإنذار لمن يحاول إرجاع مطلقته أثناء عدتها استفادة من الحق الذي أعطته له الآية [ ٢٢٩ ]. ولقد جاء في هذه الآية شرط بصيغة ( إن أرادوا إصلاحاً ) وقد شرحنا ذلك شرحاً وافياً فالظاهر أن رحمة الله وحكمته اقتضتا الإيحاء بالآية بأسلوبها القوي الصاعق لتوكيد هذا الشرط ولتفرض على الأزواج حسن النية والالتزام بمبدأ الإمساك بالمعروف أو التسريح بمعروف إذا ما طلقوا زوجاتهم وتنذر الذين يشذون عن ذلك بقصد الإضرار ونية العدوان. وننبه إلى ما في ذلك من استهزاء بكتاب الله وتحايل على أحكامه.
التلقين العام المنطوي في جملة
﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً... ﴾
وجملة ﴿ وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُواً وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ﴾
في الآية وإن كانت جاءت في صدد تحذير الأزواج من التحايل على زوجاتهن وإنذارهم فإن إطلاقها ينطوي على تلقين شامل لكل أمر بحيث تنطوي على نهي المؤمنين على التحايل على أوامر الله وآيات كتابه وتحميلها ما لا تحتمل والتلاعب فيها وصرفها عن أهدافها السامية بقصد جلب النفع للنفس وإيقاع الضرر للغير بغياً وعدواناً، والآية وتلقينها تسوغ أن يقال : إن الزوجة المطلقة تستطيع أن تمتنع من قبول مراجعة زوجها لها إذا أيقنت أنه لا يريد بذلك إصلاحاً، أو كانت له نية سوء في المراجعة، والله تعالى أعلم.
[ ١ ] لا تعضلوهن : معنى العضل لغويا الحبس والمنع والتضييق. ومعنى الجملة : لا تمنعوهن بالإكراه وتمسكوهن بالرغم عن رغبتهن عن الرجوع إلى أزواجهن.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ﴾
لقد روى المفسرون في صدد نزول هذه الآية حديثاً رواه البخاري والترمذي عن معقل بن يسار جاء فيه :«إنه زوّج أخته رجلا من المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم طلّقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدّة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطّاب فقال له : يا لكعُ أكرمتك بها وزوجتك فطلقتَها، والله لا ترجع إليك أبداً. فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إليه فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ﴾ الآية، فلما سمعها معقل قال سمعا وطاعة لربّي. ثم دعاه فقال : أزوجُكَ وأكرمُك » ٢.
والآية معطوفة على السياق واستمرار له. ويتبادر لنا والله أعلم أنها نزلت معاً. ولا يمنع هذا أن يكون قد حدث ما ورد في الحديث فالتزم الأخ أمر الله، وزوّج أخته بعد أن عضلها. وقد احتوت الآية تعليماً عاما للمسلمين بعدم ممانعة زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها إذا ما تراضى الزوجان في صدد ما رسم الله. وتنبيهاً على أن هذا هو الأزكى والأطهر في علم الله وحكمته. وجملة ﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ ﴾ تؤكد حق الزوجة المطلقة في الرضاء والموافقة على مراجعة زوجها إذا ما أراد أن يراجعها، ويكون ذلك منوطاً برضائها أيضا، والله أعلم.
وقد احتوت الآية تنبيها للمسلمين عن منع زوجة مطلقة من الرجوع إلى زوجها، وجملة :﴿ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ﴾ جديرة بالتنويه في صدد الأمر ؛ حيث ينطوي فيها ضرورة التأكد من رضاء كل من الزوجين بالرجوع إلى الآخر وتوافقهما على ذلك على ما فيه الخير والمصلحة مما فيه قيد احترازي لضمان صلاحية الرجعة وخيرها.
وفي هذا التعليم القرآني تبدو الحكمة البالغة التي تبدو في جميع حالات التشريع الأخرى.
تعقيب عام في صدد الطلاق وإناطته بالقضاء
وظاهر مما تقدم أنه ليس من الطلاق القرآني ما يجري على ألسنة الناس من يمين بالطلاق بسائق الغضب أو الإكراه والتهديد أو التعامل مع الناس أو الأيمان التي يحلفها الزوج بالطلاق للناس حتى بدون إكراه ولا تهديد ولا غضب على أنه يفعل كذا ولا يفعل كذا أو لم يفعل كذا أو الأيمان التي تصدر في حالة اللاوعي من سكر أو غيبوبة وإغماء وعته وجنون ومرض شديد يجعله في تلك الحالة ما دام ليس هناك نية للفراق وسبب مبرر له بين الزوجين من نزاع وخصام ونشوز واستحالة توفيق وإصلاح وامتزاج وتعايش ؛ لأن الآيات صريحة العبارة والتوجيه بأن الطلاق إنما أبيح على كونه أبغض الحلال إليه عند نية وقصد الفراق ولأسباب مبررة له. وعند استحالة التوفيق والإصلاح بين الزوجين. ولقد روى أبو داود والترمذي والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاث جدّهنّ جدٌّ وهزلهنّ جدٌّ النكاح والطلاق والرجعة » ٣. وإزاء النصوص القرآنية وتلقيناتها نميل إلى التوقف في هذا الحديث وما من بابه إلا أن يكون صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظرف خاص به من قبيل الزجر. وهو على كل حال غير ما ذكرناه مما يجري على الألسنة في الحالات التي ذكرناها. وكثير من العلماء، ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن القيم يعتبرون مثل هذه الأيمان أيماناً عادية إذا حنث فيها الحالف يكفرها بكفارة اليمين العادية ولا يرتبون عليها فراقاً وطلاقاً، ولابن القيم في أعلام الموقعين فصول قيمة في هذا الباب.
وينتقد بعض الأغيار إباحة الإسلام للطلاق وحينما يمعن المنصف من غير المسلمين بالأسلوب الرائع الحكيم الذي أبيح به إذا ما كان هو الحل الوحيد الذي لا مندوحة عنه بعد أن تكون قد بذلت كل الجهود للتوفيق ومنحت الفرص الكافية المتكررة للتروي والتوفيق لا يمكن إلا أن يسلم بما فيه من روعة وحكمة وصلاح. ولا يكابر في ذلك إلا مكابر مغرض حتى ليصح أن يقال : إن الطلاق نعمة من نعم الله في بعض الحالات التي تنقلب الحياة الزوجية فيها إلى جحيم وشقاء مقيم، وقد انطوى هذا المعنى السامي في آية النساء هذه التي جاءت بعد آيتين وصّتا ببذل الجهد في الإصلاح والتوفيق :﴿ وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعاً حَكِيماً { ١٣٠ ﴾ } حيث يكون الفراق عند استحالة التوفيق والإصلاح والصلح خيراً للطرفين من دون ريب.
والتقاليد النصرانية الدينية تحرّم الطلاق إلا في حالة جرم الزنا المشهود. وما تزال كنائسها تشدد في ذلك في حين نرى الدول النصرانية قد أباحته وأساغ ذلك الجمهور الأعظم من النصارى ومارسوه بمقياس واسع حتى صار مجوناً وميوعة أكثر منه بحثاً عن الراحة والخلاص من شقاء أكيد. حيث ينطوي في ذلك حاجة المجتمع الإنساني إلى ذلك العلاج الذي جاء في التشريع الإسلامي الذي رشحه الله ليكون دين البشرية جمعاء في كل زمان ومكان على أحسن وأقوى وأحكم الصور.
ولقد ذكرنا قبل قولاً للزمخشري أن آية :﴿ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ... ﴾ هي خطاب للحكام والأئمة أي إنهم هم الذين يجب أن يرفع إليهم هذا الأمر لتقديره. ولقد احتوى القرآن آيات فيها نفس المدى مثل آية سورة النساء هذه :﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً { ٣٥ ﴾ } وفي سورة الطلاق هذه الآية :﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ﴾ والاستشهاد وإقامة الشهادة إنما يكونان لأجل النظر في الأمر من جانب القاضي. فكل هذا وما ورد من أحاديث كثيرة مرّت طائفة منها تذكر مراجعات الأزواج والزوجات للنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه في شؤون الطلاق والإيلاء والظهار والنفقة والرضاع الخ الخ... وتدخلهم في حل المشاكل بينهم يسوغ القول إنه ليس من مانع شرعي من إناطة أمر الطلاق بالقضاء الشرعي، وإذا ما أخذ بهذا يكون في ذلك تمام الصورة الحكيمة حيث يتاح درس الأسباب والموقف من جانب القاضي الشرعي فيصدر حكمه أو توجيهاته نتيجة لها.
وما يقال : إن أسرار الناس لا يصح أن تفشى ولو للقضاء في غير محله. فالقضاء مؤتمن على أسرار الناس. وهناك حالات كثيرة فيها أسرار وتناط شرعاً وقانوناً بالقضاء. ويمكن أن يجاب على ما يقال من أن الله قد أباح للزوج أن يطلق زوجته ولا يصح حرمانه من هذا الحق مستقلا، وإذا ما استعمل حقه هذا ولم ينفذ عاشر زوجته حراماً. إن الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه كانوا يراجعونهم في ذلك ويسيرون وفق فتاواهم. وفي القرآن عبارات تجعل للقضاء موقفاً وكلمة في هذا الشأن. وإذا ما أقر ولي أمر المسلمين هذا استناداً إلى تلك التوجيهات القرآنية والآثار النبوية صار ذلك ملزماً. وصار تطليق الأزواج بدون واسطة القضاء لغواً شأن طلاقهم الذي لا ينفذ على ما ذكرناه في مطلع هذا التعقيب، والله أعلم.
ولقد أقرّ هذا وطبق بقانون في الجمهورية التونسية التي تدين غالبيتها بالإسلام. والمتبادر أن أولي الحل والعقد والشورى وافقوا على ذلك استناداً إلى دراسات واستنباطات شرعية لعلها ما ذكرناه أو لعل منها ما ذكرناه.
٢ التاج ٤/٥٦.
٣ التاج ٢/٣٠٩، وروى الطبري هذا الحديث بهذه الصيغة: «من طلّق أو أعتق أو نكح جادا ولاعبا جاز عليه». وهناك حديث يرويه عن الحسن قال: «كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلّق الرجل أو يعتق فيقال ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعباً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلّق لاعباً أو أعتق لاعباً جاز عليه. وفي ذلك نزلت: ﴿ولا تتخذوا آيات الله هزؤاً﴾ وفي تفسير ابن كثير صيغ عديدة من هذا الباب. والصيغة الواردة في الكتب المعتبرة هي التي أوردناها في المتن.
[ ١ ] حولين : عامين وأصل الكلمة م ( حال ) بمعنى التنقل من شيء إلى شيء.
[ ٢ ] فصالاً : فطاماً. وأصل الكلمة بمعنى المفارقة بعد الوصال والاتصال.
[ ٣ ] أن تسترضعوا أولادكم : أن تعطوهم لمرضعات غير أمهم لإرضاعهم.
[ ٤ ] إذا سلمتم ما آتيتم : المقصود بالتعبير إذا أديتم ما ضمنتم أو ما اتفقتم عليه، أو ما استحق عليكم من الأجر على ما ذهب إليه الجمهور. وبعض المفسرين قال : إن ذلك بالنسبة للمرضعة، وبعضهم قال : إنه بالنسبة لأم الولد، وهذا هو الأوجه الذي يتسق مع روح الآية، وهو قول الطبري.
لم نطلع على رواية في نزول الآية وهي معطوفة على ما سبقها والمتبادر أنها استمرار لها في تشريع مسائل أخرى في حالات الطلاق والسياق يقتضي أن يكون المقصود من ( الوالدات ) الوالدات المطلقات وهو ما يؤيده فحوى الآية أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ... ﴾ إلخ
والآية تضمنت تعليمات وتشريعات في صدد الأمهات المطلقات وأولادهن : فهي :
١- تقرر أن على الأم المطلقة أن ترضع ولدها حولين كاملين إذا أراد الوالدان أن يكون الرضاع تاماً لأن ذلك هو مدة الرضاع التام.
٢- تحمل الوالد نفقة الأم طيلة مدة الرضاع بما فيه الكفاية حسب العرف والأمثال مع تنبيهها إلى عدم جواز تكليف أحد بأكثر من وسعه وطاقته.
٣- تنهى عن تعمد المضارة والمكايدة بسبب الولد من قبل الأب للأم أو من قبل الأم للأب.
٤- توجب نفقة الرضاع وعدم المضارة على ورثة الأب في حالة وفاته أثناء مدة الرضاع.
٥- تسوغ الفطام قبل تمام الحولين بشرط أن يكون ذلك بالتشاور والتراضي بين الأب والأم.
٦- تسوغ كذلك استرضاع الولد من مرضعة غير الأم إذا أراد الوالد والأم على أن يؤدي الوالد أجرة إرضاع الأم لابنها عن المدة التي أرضعته وأجرة المرضعة الجديدة حسب العرف والأمثال.
وقد انتهت الآية معقبة على ذلك بأمر وجهته للمخاطبين ويشمل الأزواج والزوجات معاً بتقوى الله والتزام حدوده وبالتنبيه إلى أنه مطلع على كل ما يعملونه عليم ببواعثه ومقاصده، وفي التعليمات أو التشريعات من الحق والعد والحكمة ما هو ظاهر.
وفي كتب التفسير أقوال معزوة إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم واستنباطات فقهية في أحكام ومدى الآية نوجزها ونعلق عليها بما يلي مع التنبيه على أنها تلهم أن المقصود بكلمة ( الوالدات ) هو الوالدات المطلقات، وهذا ما يقتضيه السياق :
١- هناك من قال : إن من واجب الوالدين بصورة عامة أن يستمرا في إرضاع طفلهما حولين كاملين، وإن إنقاص ذلك بدون عذر شرعي حرام. وفحوى الآية لا يتحمل ذلك وإنما هو من قبيل الحث، وتقرير كونه الأفضل.
٢- وهناك من قال : إن الفصال في مدة أقل من سنتين منوط باتفاق الوالدين بحيث لا يجوز الفصال برغبة أحدهما دون موافقة الآخر. وهذا ما تفيده العبارة القرآنية. وهناك من قال : إن جملة ﴿ وَتَشَاوُرٍ ﴾ تعني مشاورة أهل الخبرة في أمر الفطام قبل تمام الحولين. ولا يخلو هذا من وجاهة، ولا يعني هذا نفي إيجاب التشاور والتوافق بين الوالدين بطبيعة الحال.
٣- هناك من استنبط من الآية : أن الوالدة غير مجبورة على إرضاع ولدها إلا في حالة الضرورة. وجملة ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ تنطوي على إيجاب ذلك على الوالدة فيما يتبادر لنا. ورفع الحرج عن الاسترضاع من غير الأم إذا أراده الوالدان كما ذكرت الآية قد تؤيد ذلك أيضا. غير أنه ورد آية في سورة الطلاق في صدد الوالدات المطلقات قد تفيد صواب ذلك القول وهي :﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى { ٦ ﴾ } فلعل حادثاً أو سؤالا وقع فاقتضت حكمة التنزيل توضيح الأمر، مع التنبيه على أن الحالة هي في صدد الوالدات المطلقات.
٥- هناك من قال : إن جملة ﴿ وَعَلَى الوَارِثِ ﴾ تعني وارث الولد، ومن قال : إنها تعني وارث الوالد في حال موته أثناء رضاع ابنه. والقول الثاني هو الأكثر وروداً ؛ لأن الولد لم يكن قد صار موروثاً.
٦- وهناك من قال : إن هذه الجملة تشمل جميع الوارثين بما فيهم الولد. وهذا في محله وتكون نفقة الرضاع والحالة هذه على التركة.
٧- هناك من قال : إنه إذا لم يكن للوالد المتوفى مال وجبت نفقة الرضاع على عصبته. فإن لم يكن لهم مال صارت الأم مجبرة على إرضاع ولدها بدون أجر، ويلوح لنا أن نفقة إرضاع اليتيم الفقير، ثم نفقة معيشته إذا لم يترك أبوه مالاً تقع على عاتق بيت المال الذي جعل الله فيما يدخله من صدقات وغنائم وفيء نصيباً للفقراء واليتامى على ما ذكر في آيات سور الأنفال والتوبة والحشر.
٨- ومما ذكره المؤولون على سبيل المثال من مضارة الوالد بولده أن ترفض الأم إرضاع ولدها وتقذفه لوالده ولو كان فقيراً. وأن تطالبه بما لا يستطيع من نفقة وتهدده بالولد للحصول على ما تريد منه، ومن مضارة الوالدة بولدها أن ينزع الوالد ولدها منها لإثارة حزنها وأن يقدم لها الزهيد من النفقة مع قدرته على الأفضل.
٩- وهناك من قال : إن ما في الآية من أحكام بشأن الرضاع ومدة الاسترضاع والتشاور في الفصال وواجبات الأم والأب في ظروف ذلك ثم واجبات ورثة الأب بعد موته تشمل الوالدات إطلاقاً سواء أكن مطلقات أم غير مطلقات. والآية هي كما قلنا في صدد المطلقات، ومع ذلك فلا يخلو القول من وجاهة بصورة عامة والله تعالى أعلم.
وفي سورة الطلاق آيات فيها إيجاب بقاء المطلقة في بيت زوجها طيلة عدتها، ونهي عن إخراجها وخروجها وتقرير نفقة سكنها على الزوج واستمرار ذلك بالنسبة للمطلقة الحامل مع تقرير نفقة معيشتها إلى أن تضع حملها وأدائها أجرة رضاع طفلها على ما سوف نشرحه، ونورد ما فيه من أحاديث في مناسبتها فجاء ذلك متمماً للتشريع الذي انطوى في الآية التي نحن في صددها.
[ ٢ ] أزواجاً : بمعنى زوجات.
[ ٣ ] يتربصن بأنفسهن : ينتظرن.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ [ ١ ] أَزْوَاجاً [ ٢ ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [ ٣ ] أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٣٤ ﴾ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم [ ٤ ] بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [ ٥ ] عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً [ ٦ ] إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿ ٢٣٥ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ... ﴾
والآية التالية لها
في الآيتين أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها :
١- فعليها أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها :
٢- وليس على أولياء الزوجة ولا على الزوجة نفسها من بأس فيما تفعله في نفسها بعد انقضاء هذه المدة مما هو متفق على العرف والأخلاق الكريمة، فالله خبير بنوايا الناس وأعمالهم.
٣- وليس على من يريد أن يتزوج بالأرملة حرج في التلميح لها في أثناء هذه المدة برغبته في التزوج منها ولا في نيته على ذلك في سريرته. فالله يعلم أن هذا شيء طبيعي ومعقول على شرط أن يلتزم الرجل الحشمة والمعروف في الكلام بصدده، وأن لا يستعمل أساليب الإغراء المستهجنة المغايرة للوقار والحياء ولو مساررة بينه وبينها، وأن لا يعقد النكاح فعلا إلا بعد انتهاء العدة. فالله يعلم ما يفعله الناس وما يبيتونه في أنفسهم وعليهم أن يحذروه ويراقبوه. وهو إلى هذا غفور حليم يغفر لمن حسنت نيته ولم يتعمد الخروج على حدوده ولا يأمر بما فيه الحرج والإعنات.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيتين، وهما وإن كانتا ليستا من أحكام الطلاق كالآيات السابقة فإنهما احتوتا أحكاماً تدخل في نطاق الموضوع بصورة عامة. فإما أن تكونا نزلتا بعدما سبقهما، وإما أن تكونا وضعتا في مكانهما للمماثلة التشريعية والموضوعية.
وفي كتب الحديث والتفسير أحاديث وتأويلات في صدد هاتين الآيتين نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- هناك من قال : إن الآية الأولى قد نسخت الآية [ ٢٤٠ ] من هذه السورة التي جاء فيها :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ ولو أنها جاءت في موضع متقدم. ويساق في صدد ذلك حديث رواه الخمسة عن زينب بنت أم سلمة قالت :«سمعت أمي تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينُها أَفَنَكْحُلُها ؟ قال : لا. ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر. وكانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحَول ؟ قالت : كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حِفْشاً ولبست شرَّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بجلد دابة حمار أو شاة أو طير فتفتضُّ به ثم تخرج، فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره» ١. وقد عدّ بعضهم الآية على ضوء هذا الحديث ناسخة للآية [ ٢٤٠ ] لأنها جعلت المدة أربعة أشهر وعشراً بدلا من حول كامل. وهناك حديث رواه أبو داود عن ابن عباس يذكر أن الآية [ ٢٤٠ ] نسخت بهذه الآية ٢. غير أن هناك من قال : إن حكم الآية [ ٢٤٠ ] ظل محكماً لأنها في حق الأرملة التي تريد أن تبقى في بيتها سنة كما كان الأمر قبل الإسلام. وهناك حديث يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال :«قلت لعثمان : والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج قد نسختها الآية التي سبقتها فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال يا ابن أخي : لا أغيّر شيئا منه عن مكانه» ٣. وليس في جواب عثمان تأييد للنسخ وكل ما يفيده وهذا مهم : أن ترتيب الآيتين كان منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره.
ومهما يكن من أمر فإن حديث زينب يفيد صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بشرط أن يعدل فيقال : إن في الآية تعديلاً للمدة من سنة إلى أربعة أشهر وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [ ٢٤٠ ].
ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلى الله عليه وسلم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أوسع صدراً وأفقاً من منع ذلك إذا كان بسبب مرض. وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح باباً للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم.
٢- هناك من قال : إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد ؛ لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ وهناك من سماها مدة إحداد استناداًَ إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت :«كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً معصفراً، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كُسْتِ أظفار» ٤. والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث، ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياساً على عدة المختلعة والمطلقة بتاتاً أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقاً بائناً على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة.
٣- وهناك من قال : إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلا عدم التزوج، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التحول إلى أهلها ؛ لأنها بعيدة عنهم، ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالاً. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال : امكثي في بيتك الذي أتاك نعي زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله». وهناك من أوجب استناداً إلى الحديث عدم خروجها، وهناك من لم ير في الحديث إيجاباً عليها، ونحن نرى هذا هو الأوجه، ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها، والله أعلم.
٤- قال المؤولون : إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه :﴿ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ فإن تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثاً رواه الخمسة عن أبي هريرة قال :«اجتمع أبو سلمة وابن عباس، وهما يذكران أن المرأة تنفس ( أي تلد ) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس : عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة : قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت : نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج» ٥. وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها، والله تعالى أعلم.
٥- وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.
ويلفت النظر إلى جملة :﴿ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سراً أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به، والله تعالى أعلم.
٦- هناك من قال : إن الضمير في جملة ﴿ وََلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة، وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال : إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معاً بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة ووروداً، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن، والله تعالى أعلم.
٧- والأكثر على أن جملة :﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ تعني الزواج بعدة انتهاء المدة. وهناك من قال : إن فيها دليلاً على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه ؛ لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسماً. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه :«الثّيبُ أحقُّ بنفسها من وليّها» ٦.
٨- هناك من قال : إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة، وهناك من قال : إنها نفس المدة، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه ؛ لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياساً على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل.
٩- هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها. وقال : إن ذلك دين على التركة قياساً على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة الطلاق هذه :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴿ ٦ ﴾ ﴾. وهناك من لم يوجب لها ؛ لأنها صارت صاحبة حق إرثي في تركة زوجها. وهو الربع إن لم يكن ولد والثمن إن كان ولد على ما جاء في آية سورة النساء السابعة. وقد تطمئن النفس بالقول الثاني أكثر ؛ لأن هناك فرقاً واضحاً بين حالة المطلقة التي لا ترث وحالة الأرملة الوارثة والله أع
[ ٥ ] أكننتم في أنفسكم : نويتم في قلوبكم.
[ ٦ ] لا تواعدوهن سرا : معنى الجملة اللغوي : النهي عن ضرب موعد سرّي لاجتماع الخاطب بالأرملة. وقيل إن الجملة بمعنى لا تغروهن بالجماع ولا تهيجوهن بذلك حتى يرضين بالزواج منكم. وقيل لا تصارحوهن بالزواج ولا تشددوا عليهن حتى يعدنكم بأن لا يتزوجن غيركم. والجملة التي بعدها تسوغ القول أنها تنهى عن التحدث لهن بما يخدش الحياء، وكل هذا منهي عنه في المواعدة السرية.
[ ٧ ] ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله : أي لا تعقدوا النكاح رسميا إلا بعد انقضاء المدة المذكورة.
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ [ ١ ] أَزْوَاجاً [ ٢ ] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ [ ٣ ] أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٣٤ ﴾ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم [ ٤ ] بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ [ ٥ ] عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً [ ٦ ] إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿ ٢٣٥ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ... ﴾
والآية التالية لها
في الآيتين أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها :
١- فعليها أحكام بشأن الزوجة المتوفى عنها زوجها :
٢- وليس على أولياء الزوجة ولا على الزوجة نفسها من بأس فيما تفعله في نفسها بعد انقضاء هذه المدة مما هو متفق على العرف والأخلاق الكريمة، فالله خبير بنوايا الناس وأعمالهم.
٣- وليس على من يريد أن يتزوج بالأرملة حرج في التلميح لها في أثناء هذه المدة برغبته في التزوج منها ولا في نيته على ذلك في سريرته. فالله يعلم أن هذا شيء طبيعي ومعقول على شرط أن يلتزم الرجل الحشمة والمعروف في الكلام بصدده، وأن لا يستعمل أساليب الإغراء المستهجنة المغايرة للوقار والحياء ولو مساررة بينه وبينها، وأن لا يعقد النكاح فعلا إلا بعد انتهاء العدة. فالله يعلم ما يفعله الناس وما يبيتونه في أنفسهم وعليهم أن يحذروه ويراقبوه. وهو إلى هذا غفور حليم يغفر لمن حسنت نيته ولم يتعمد الخروج على حدوده ولا يأمر بما فيه الحرج والإعنات.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيتين، وهما وإن كانتا ليستا من أحكام الطلاق كالآيات السابقة فإنهما احتوتا أحكاماً تدخل في نطاق الموضوع بصورة عامة. فإما أن تكونا نزلتا بعدما سبقهما، وإما أن تكونا وضعتا في مكانهما للمماثلة التشريعية والموضوعية.
وفي كتب الحديث والتفسير أحاديث وتأويلات في صدد هاتين الآيتين نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- هناك من قال : إن الآية الأولى قد نسخت الآية [ ٢٤٠ ] من هذه السورة التي جاء فيها :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ﴾ ولو أنها جاءت في موضع متقدم. ويساق في صدد ذلك حديث رواه الخمسة عن زينب بنت أم سلمة قالت :«سمعت أمي تقول : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينُها أَفَنَكْحُلُها ؟ قال : لا. ثم قال : إنما هي أربعة أشهر وعشر. وكانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحَول ؟ قالت : كانت المرأة إذا توفّي عنها زوجها دخلت حِفْشاً ولبست شرَّ ثيابها ولم تمسّ طيبا ولا شيئا حتى تمرّ بها سنة ثم تؤتى بجلد دابة حمار أو شاة أو طير فتفتضُّ به ثم تخرج، فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب وغيره» ١. وقد عدّ بعضهم الآية على ضوء هذا الحديث ناسخة للآية [ ٢٤٠ ] لأنها جعلت المدة أربعة أشهر وعشراً بدلا من حول كامل. وهناك حديث رواه أبو داود عن ابن عباس يذكر أن الآية [ ٢٤٠ ] نسخت بهذه الآية ٢. غير أن هناك من قال : إن حكم الآية [ ٢٤٠ ] ظل محكماً لأنها في حق الأرملة التي تريد أن تبقى في بيتها سنة كما كان الأمر قبل الإسلام. وهناك حديث يرويه البخاري عن عبد الله بن الزبير قال :«قلت لعثمان : والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج قد نسختها الآية التي سبقتها فلم تكتبها أو تدعها ؟ قال يا ابن أخي : لا أغيّر شيئا منه عن مكانه» ٣. وليس في جواب عثمان تأييد للنسخ وكل ما يفيده وهذا مهم : أن ترتيب الآيتين كان منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره.
ومهما يكن من أمر فإن حديث زينب يفيد صحة ما ذهب إليه أصحاب القول الأول بشرط أن يعدل فيقال : إن في الآية تعديلاً للمدة من سنة إلى أربعة أشهر وعشر ليال. وهذا هو المستفاد من حديث ابن عباس أيضا. وهذا لا يمنع أن يكون في القول الثاني وجاهة على ما سوف نشرحه في تفسير الآية [ ٢٤٠ ].
ونرى من واجبنا أن نقول كلمة في صدد نهي النبي صلى الله عليه وسلم للأرملة أن تكتحل إذا شكت عينها. فالنبي صلى الله عليه وسلم أوسع صدراً وأفقاً من منع ذلك إذا كان بسبب مرض. وكل ما يمكن أن يقال إنه ظن أن الكحل للزينة أو أراد أن لا يفتح باباً للتأويل في صدد إحداد الزوجة على زوجها والله تعالى أعلم.
٢- هناك من قال : إن مدة الأشهر الأربعة والعشر هي مدة انتظار ولا يسميها مدة إحداد ؛ لأن الآية لا تسميها كذلك وتستعمل كلمة ﴿ يَتَرَبَّصْنَ ﴾ وهناك من سماها مدة إحداد استناداًَ إلى بعض أحاديث نبوية منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت :«كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً. ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً معصفراً، وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضها في نبذة من كُسْتِ أظفار» ٤. والقول الثاني هو الأوجه على ضوء الأحاديث، ولا سيما إن المدة لا يمكن أن تكون لاستبراء الرحم الذي يكفي له حيضة واحدة قياساً على عدة المختلعة والمطلقة بتاتاً أو ثلاث مرات أو المطلقة طلاقاً بائناً على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة.
٣- وهناك من قال : إنه ليس في الآية ما يمنع الأرملة من أن تفعل ما تشاء أثناء عدة الإحداد إلا عدم التزوج، غير أن الأحاديث المروية عن أم عطية وغيرها صريحة بأن الأربعة منهية عن التطيب والتزين والتكحل ولبس الثياب المفرحة والمعصفرة. وهناك حديث يرويه الإمام أحمد يرويه القاسمي يذكر أن امرأة قتل زوجها، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في التحول إلى أهلها ؛ لأنها بعيدة عنهم، ولأنه لم يترك لها نفقة ولا مالاً. فأذن لها أولا ثم دعاها فقال : امكثي في بيتك الذي أتاك نعي زوجك فيه حتى يبلغ الكتاب أجله». وهناك من أوجب استناداً إلى الحديث عدم خروجها، وهناك من لم ير في الحديث إيجاباً عليها، ونحن نرى هذا هو الأوجه، ونفسر الحديث بأنه قصد بذلك أن تظل في بيت زوجها مدة الإحداد وحسب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن للمرأة حاجات ومصلحة لا بدّ من خروجها إليها، والله أعلم.
٤- قال المؤولون : إن الأرملة الحامل تتبع في مدة تربصها أو حدادها حكم آية سورة الطلاق هذه :﴿ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ﴾ فإن تأخر وضعها عن المدة المعينة في الآية استمر تربصها وإن تقدم انتهى أجلها. ومع أن آية سورة الطلاق قد جاءت في صدد عدة المطلقات فإن هناك حديثاً رواه الخمسة عن أبي هريرة قال :«اجتمع أبو سلمة وابن عباس، وهما يذكران أن المرأة تنفس ( أي تلد ) بعد وفاة زوجها بليال فقال ابن عباس : عدتها آخر الأجلين وقال أبو سلمة : قد حلت بالوضع فأرسلوا فسألوا أم سلمة فقالت : نفست سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج» ٥. وقد أخذ بهذا معظم المذاهب ولا سيما إن الجملة في آية سورة الطلاق مطلقة. وقصد التيسير والتخفيف من الحكمة الملموحة في الحديث النبوي الذي كان لبيان حالة سكتت عنها الآية التي نحن في صددها، وقد يتأخر وضع الحامل إلى أكثر من أربعة أشهر وعشر فتكون مجبرة على التربص بنفسها إلى أن تلد. وقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم في تشريعه لاحظ ذلك فشاءت حكمته أن يخفف عنها إذا ولدت قبل انتهاء المدة مقابل ما هو شاق حينما تطول مدة وضعها، والله تعالى أعلم.
٥- وفي صدد التعريض بخطبة الأرامل أثناء العدة روي عن أهل التأويل صيغ عديدة بما يحسن أن يقوله الخاطب للأرملة مثل إنك لأهل للزواج وإنك إلى خير. وإني عليك لحريص، وإني لفي حاجة إلى النساء وأجازوا إرسال هدية للأرملة تكون بمثابة تعريض بالخطبة وكل هذا وجيه.
ويلفت النظر إلى جملة :﴿ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ ففيها نهي عن مواعدة الأرملة سراً أو مساررتها إلا في نطاق الوقار والحشمة والمشروع من القول، وهذا تأديب قرآني واجب الالتزام به، والله تعالى أعلم.
٦- هناك من قال : إن الضمير في جملة ﴿ وََلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ عائد إلى الحكام وأولياء الأرملة، وإنها تتضمن تقرير حقهم في منعها من الإخلال بأحكام الحداد المذكورة في الآية والأحاديث قبل انتهاء المدة. وهناك من قال : إنه عائد إلى الأولياء والأرامل معاً بسبيل التنبيه على أنه لا حرج على الجميع بأن تفعل الأرملة بنفسها ما تشاء من أمور مشروعة. ويلحظ أن رفع الجناح هو عما يفعلن من أمور مشروعة حين بلوغ الأجل، ولا علاقة له بما قبل ذلك. وهذا يجعل القول الثاني هو الأكثر وجاهة ووروداً، ومع ذلك فإن القول الثاني لا يخلو من وجاهة وبخاصة في حق الحاكم في منع زواج في وقت نهى عنه القرآن، والله تعالى أعلم.
٧- والأكثر على أن جملة :﴿ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ تعني الزواج بعدة انتهاء المدة. وهناك من قال : إن فيها دليلاً على حرية الأرملة في تزويج نفسها بدون ولي وإذن منه. وهناك من استند إلى جملة ﴿ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ﴾ السابقة لهذه الجملة فأوجب الولي وإذنه على كل حال. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه ؛ لأن النص القرآني أكثر صراحة وحسماً. وهناك حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه :«الثّيبُ أحقُّ بنفسها من وليّها» ٦.
٨- هناك من قال : إن مدة حداد الأمة المتوفّى عنها زوجها أو سيدها إذا كانت مستفرشة له هي نصف مدة الحرة، وهناك من قال : إنها نفس المدة، وقد يكون القول الثاني هو الأوجه ؛ لأن الآية مطلقة ومع ذلك فالقول الأول لا يخلو من وجاهة قياساً على عدد تطليقاتها وعدة طلاقها على ما ذكرناه قبل.
٩- هناك من أوجب للمرأة المتوفى عنها زوجها نفقة طيلة مدة حدادها. وقال : إن ذلك دين على التركة قياساً على المطلقة التي جعل لها ذلك في آية سورة الطلاق هذه :﴿ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴿ ٦ ﴾ ﴾. وهناك من لم يوجب لها ؛ لأنها صارت صاحبة حق إرثي في تركة زوجها. وهو الربع إن لم يكن ولد والثمن إن كان ولد على ما جاء في آية سورة النساء السابعة. وقد تطمئن النفس بالقول الثاني أكثر ؛ لأن هناك فرقاً واضحاً بين حالة المطلقة التي لا ترث وحالة الأرملة الوارثة والله أع
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [ ١ ] عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴿ ٢٣٦ ﴾ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٣٧ ﴾ ﴾
في هاتين الآيتين أحكام في الطلاق قبل الدخول : فليس من بأس على الأزواج إذا طلقوا زوجاتهم قبل الدخول بهن. فإذا كان وقع ذلك قبل أن يسمي لهن مهراً يستحققن تعويضاً يكون متناسبا مع قدرة الرجل المالية ومع ما هو معروف معتاد بالنسبة للأمثال. وهذا حق على المحسنين أي الذين يتوخون في أعمالهم المقاصد الحسنة. وإذا كان وقع بعد تسمية المهر يستحققن نصف المهر ما لم يعفون عنه أي لم يتنازلن عنه أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح. والتنازل أقرب لتقوى الله ورضائه. ويجب على الناس أن لا ينسيهم الموقف ما بينهم من علاقات الفضل والمودة وما يجب عليهم تجاه بعضهم من حسن تعامل وتسامح ورغبة في كسب الفضل. والله بصير بما يعملونه فعليهم أن لا يعملوا إلا ما فيه رضاؤه وتقواه.
تعليقات على الآية
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ... ﴾
والآية التالية لها
الآيتان متصلتان بالسياق، وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً ثم طلقها قبل أن يمسها. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ولا مانع مع ذلك من صحتها. وحينئذ تكون الآية الثانية نزلت معها لبيان حكم من يسمي مهرها أيضا، وقد وضعت الآيتان في ترتيبها للتناسب الموضوعي أو لنزولهما بعد الآيات السابقة.
ويلفت النظر إلى ما احتوته الآيتان من حثّ على التقوى والإحسان والتسامح والعفو وعدم نسيان الفضل بين الذين يكون لهم صلة بالموقف مما هو متساوق مع ما احتوته الآيات السابقة وهادف مثلها إلى تنبيه المسلم إلى واجباته في ذلك في هذا الموقف الذي يكون عادة من المواقف النفسانية الحرجة.
ويتبادر لنا أن عدم اشتراط سبب للتطليق قبل الدخول لا يعني أنه لا بأس على الرجل أن يطلق بغير باعث صحيح وعادل واستجابة للنزوة والفورة والهوى الشخصي على ما تلهمه روح الآيات عامة التي يجب على المسلم أن يجعلها هي الضابط له في مثل هذه الحالة أيضا أي أن يكون غير متعمد للأذى والمضارة والمكايدة وغير شاذ عن مقتضى الحق والعدل. وأن يكون ذاكراً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
وفي كتب التفسير أحاديث وأقوال وتأويلات في صدد الآيتين ومداهما وأحكامهما نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- إن بعضهم قرأ ﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ بضم التاء مع ألف بعدها ( تُماسوهن ) وقالوا : إن هذه الكلمة بمعنى : تشارك بدني الزوجين في التماس. وعلى كل حال فالجمهور على أن الجملة القرآنية بمعنى الجماع.
٢- لقد عزي إلى أبي حنيفة أن الزوج إذا خلا بزوجته ولم يكن هناك مانع من الجماع من حيض أو عاهة رحم، فإن خلوته معها تعد دخولا وتستحق كامل مهرها إذا طلقها. ويتبادر لنا أن هذا غير متسق مع النص القرآني الذي يجعل المسيس شرطاً لاستحقاق المهر الكامل بعد الطلاق والله أعلم.
٣- الجمهور على أن الـ ﴿ فَرِيضَة ﴾ بمعنى المهر.
٤- الجمهور على أن المطلقة المسمى مهرها لا تستحق متعة. غير أن هناك آية أخرى تأتي بعد قليل في إيجاب المتعة للمطلقات. وقد جعل هذا بعض المجتهدين يقولون بحقها بالمتعة والله أعلم.
٥- تعددت صفات المتعة، فهناك من قال أعلاها خادم ثم بعض الفضة ثم الكسوة. وأوسطها ثياب المرأة في بيتها. وهناك من عين خماراً ودرعاً وجلباباً وملحفة وإزاراً. وروى بعضهم عن الحسن أنه متع مطلقة له بعشرة آلاف درهم. وهناك حديث لم يرد في الكتب المعتبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما دخلت عليه وبسط إليها يده كأنما كرهت فأمر بتجهيزها وكسوتها بثوبين. وحديث لم يرد كذلك في الكتب المعتبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه الذي طلق زوجته قبل الدخول أن يمتعها ولو بقلنسوة.
ومهما يكون من أمر فإن جملة ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾ تسوغ القول إن المقدار متموج حسب حالة الزوج الاجتماعية والمالية، وأن القادر على الأحسن لا يصح أن يعطي الزهيد البخس.
٦- هناك من قال مع ذلك : إن متعة من لم يسم مهرها يجب أن تعدل نصف مهر مثلها استنباطاً من إيجاب نصف المهر إذا كان مسمى، وهذا وجيه مع ملاحظة تلقين العبارة القرآنية السابقة ومداها بالنسبة لحالة الزوج والزوجة الاجتماعية والمالية.
٧- هناك من قال إن جملة :﴿ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ تعني ولي الزوجة ومن قال إنه الزوج، والجمهور على الثاني وهو الأوجه. بل مؤيد بروح الآية وفحواها. فولي الزوجة لا يملك عقدة النكاح ملكاً تاماً في جميع الحالات وموافقة البكر البالغة شرط والثّيب أحق بنفسها من وليها ١ على ما جاء في الأحاديث. والزوجة هي التي تقبض مهرها وتتصرف به على ما قررته آيات عديدة في سورة النساء. وفي جملة ﴿ يَعْفُونَ ﴾ دليل. فالجملة تعني الزوجة المطلقة، وهذا يعني أن القرآن قرر حقها المستقل في ذلك، وليس من حكمة لشرط عقد وليّها وهي موجودة والمهر حق واجب للزوجة ولا يملك الولي التنازل عنه في أي حال.
٨- وجملة ﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ على ضوء ما تقدم تعني التنازل من جانب الزوج عن النصف الثاني من المهر المسمى ومنحه للزوجة كاملاً. والتنازل من جانب الزوجة عن النصف المستحق لها ؛ لأنها لا تستحق جميع المهر حتى تتنازل عنه.
٩- هناك من صرف جملة ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ إلى الزوج بسبيل حثه على منح كامل المهر لمطلقته. فهو المنفق والدافع للمهر وقد فضله الله درجة فصار عليه أن يؤدي حق هذا التفضيل. ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان هذا لا يتنافى مع احتمال كون الجملة موجهة للزوجين معاً بسبيل حثّ كل منهما على التسامح والمفارقة بالحسنى.
١٠- لقد استنبط بعضهم من الآية الأولى جواز عقد النكاح قبل تعيين المهر. فإذا تم الدخول ولم يسم مهر وجب للزوجة مهر أمثالها ولها نصف مهر أمثالها إذا لم يتم الدخول وهذا وجيه سديد.
١١- هناك من قال : إن المفوضة بطلاق نفسها إذا طلقت نفسها قبل الدخول لا تستحق الذمة، ولم نطلع على أثر نبوي وراشدي في ذلك. ومع أن المتبادر أن مصدر الطلاق لم يتغير وهو الزوج بتفويضه زوجته بطلاق نفسها، وأن حقه في التطليق قائم، وأن صفة المطلقة لا ترتفع عن التي تطلق نفسها بموجب التفويض فإن ذلك القول وجيه من حيث إنه ليس من محل للتعزية والترضية في هذا الحال وهما من أهداف المتعة. ومع ذلك نقول : إن إطلاق النص القرآني في الآية [ ٢٤٢ ] التي تأتي بعد قليل بخاصة يسوغ القول : إنها تستحق المتعة والله أعلم.
١٢- في صدد صفة الطلاق قبل الدخول عزا الإمام مالك إلى أبي هريرة وابن عباس رأياً مفاده أنه إذا كان طلاقاً مطلقا بدون عدد يعد الطلاق بائناً، عدته حيضة ويجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته بعقد ومهر جديدين إذا شاءا أو تراضيا. وإذا كان طلاقا باتاً ثلاثاً أو لثالث مرة فتكون بينونة كبرى ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ٢. ولم نطلع على أثر نبوي والرأي سديد وجيه فيما هو المتبادر.
١٣- هناك من قال : إن متعة المطلقة التي لم يسمى مهرها هي على سبيل الندب لا الإيجاب، وهناك من قال : إنها واجبة، واستلهم أصحاب القول الأول صيغة الآية، واستلهم أصحاب القول الثاني الآية [ ٢٤٢ ] التي فيها كلمة ( حقا ) والتي تأتي بعد قليل. ونحن نرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وفي سورة الأحزاب هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴿ ٤٩ ﴾ ﴾ والنص مطلق مثل إطلاقه في الآية [ ٢٤٢ ] وفي هذا تدعيم لوجاهة القول والله تعالى أعلم. ولقد قال أصحاب هذا القول : إن من حق المطلقة التي لم يسم مهرها أن ترفع أمرها إلى الحاكم وأن على هذا أن يحكم لها بالمتعة وأن الزوج يحبس بها حتى يؤديها. وأنه إذا مات قبل أدائها تكون دينا على تركته وهذا وجيه تبعاً لوجاهة القول ؛ لأنه نتيجة له، والله تعالى أعلم.
وفي آية الأحزاب التي أوردناها تتمة للتشريع الذي احتوته الآيتان حيث يظهر أن بعضهم سألوا فنزلت الآية لترفع العدة عن المطلقة قبل المسّ. لأن العدة في الأصل لاستبراء الرحم وفسح المجال للمراجعة ولا محل لهذا وذاك في هذه الحالة ويكون للمطلقة أن تتزوج حالاً.
في هاتين الآيتين أحكام في الطلاق قبل الدخول : فليس من بأس على الأزواج إذا طلقوا زوجاتهم قبل الدخول بهن. فإذا كان وقع ذلك قبل أن يسمي لهن مهراً يستحققن تعويضاً يكون متناسبا مع قدرة الرجل المالية ومع ما هو معروف معتاد بالنسبة للأمثال. وهذا حق على المحسنين أي الذين يتوخون في أعمالهم المقاصد الحسنة. وإذا كان وقع بعد تسمية المهر يستحققن نصف المهر ما لم يعفون عنه أي لم يتنازلن عنه أو يتنازل الذي بيده عقدة النكاح. والتنازل أقرب لتقوى الله ورضائه. ويجب على الناس أن لا ينسيهم الموقف ما بينهم من علاقات الفضل والمودة وما يجب عليهم تجاه بعضهم من حسن تعامل وتسامح ورغبة في كسب الفضل. والله بصير بما يعملونه فعليهم أن لا يعملوا إلا ما فيه رضاؤه وتقواه.
تعليقات على الآية
﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ... ﴾
والآية التالية لها
الآيتان متصلتان بالسياق، وقد روى الخازن أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسمّ لها صداقاً ثم طلقها قبل أن يمسها. والرواية لم ترد في كتب الأحاديث المعتبرة ولا مانع مع ذلك من صحتها. وحينئذ تكون الآية الثانية نزلت معها لبيان حكم من يسمي مهرها أيضا، وقد وضعت الآيتان في ترتيبها للتناسب الموضوعي أو لنزولهما بعد الآيات السابقة.
ويلفت النظر إلى ما احتوته الآيتان من حثّ على التقوى والإحسان والتسامح والعفو وعدم نسيان الفضل بين الذين يكون لهم صلة بالموقف مما هو متساوق مع ما احتوته الآيات السابقة وهادف مثلها إلى تنبيه المسلم إلى واجباته في ذلك في هذا الموقف الذي يكون عادة من المواقف النفسانية الحرجة.
ويتبادر لنا أن عدم اشتراط سبب للتطليق قبل الدخول لا يعني أنه لا بأس على الرجل أن يطلق بغير باعث صحيح وعادل واستجابة للنزوة والفورة والهوى الشخصي على ما تلهمه روح الآيات عامة التي يجب على المسلم أن يجعلها هي الضابط له في مثل هذه الحالة أيضا أي أن يكون غير متعمد للأذى والمضارة والمكايدة وغير شاذ عن مقتضى الحق والعدل. وأن يكون ذاكراً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
وفي كتب التفسير أحاديث وأقوال وتأويلات في صدد الآيتين ومداهما وأحكامهما نوجزها ونعلق عليها بما يلي :
١- إن بعضهم قرأ ﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ بضم التاء مع ألف بعدها ( تُماسوهن ) وقالوا : إن هذه الكلمة بمعنى : تشارك بدني الزوجين في التماس. وعلى كل حال فالجمهور على أن الجملة القرآنية بمعنى الجماع.
٢- لقد عزي إلى أبي حنيفة أن الزوج إذا خلا بزوجته ولم يكن هناك مانع من الجماع من حيض أو عاهة رحم، فإن خلوته معها تعد دخولا وتستحق كامل مهرها إذا طلقها. ويتبادر لنا أن هذا غير متسق مع النص القرآني الذي يجعل المسيس شرطاً لاستحقاق المهر الكامل بعد الطلاق والله أعلم.
٣- الجمهور على أن الـ ﴿ فَرِيضَة ﴾ بمعنى المهر.
٤- الجمهور على أن المطلقة المسمى مهرها لا تستحق متعة. غير أن هناك آية أخرى تأتي بعد قليل في إيجاب المتعة للمطلقات. وقد جعل هذا بعض المجتهدين يقولون بحقها بالمتعة والله أعلم.
٥- تعددت صفات المتعة، فهناك من قال أعلاها خادم ثم بعض الفضة ثم الكسوة. وأوسطها ثياب المرأة في بيتها. وهناك من عين خماراً ودرعاً وجلباباً وملحفة وإزاراً. وروى بعضهم عن الحسن أنه متع مطلقة له بعشرة آلاف درهم. وهناك حديث لم يرد في الكتب المعتبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شرحبيل فلما دخلت عليه وبسط إليها يده كأنما كرهت فأمر بتجهيزها وكسوتها بثوبين. وحديث لم يرد كذلك في الكتب المعتبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه الذي طلق زوجته قبل الدخول أن يمتعها ولو بقلنسوة.
ومهما يكون من أمر فإن جملة ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ ﴾ تسوغ القول إن المقدار متموج حسب حالة الزوج الاجتماعية والمالية، وأن القادر على الأحسن لا يصح أن يعطي الزهيد البخس.
٦- هناك من قال مع ذلك : إن متعة من لم يسم مهرها يجب أن تعدل نصف مهر مثلها استنباطاً من إيجاب نصف المهر إذا كان مسمى، وهذا وجيه مع ملاحظة تلقين العبارة القرآنية السابقة ومداها بالنسبة لحالة الزوج والزوجة الاجتماعية والمالية.
٧- هناك من قال إن جملة :﴿ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ تعني ولي الزوجة ومن قال إنه الزوج، والجمهور على الثاني وهو الأوجه. بل مؤيد بروح الآية وفحواها. فولي الزوجة لا يملك عقدة النكاح ملكاً تاماً في جميع الحالات وموافقة البكر البالغة شرط والثّيب أحق بنفسها من وليها ١ على ما جاء في الأحاديث. والزوجة هي التي تقبض مهرها وتتصرف به على ما قررته آيات عديدة في سورة النساء. وفي جملة ﴿ يَعْفُونَ ﴾ دليل. فالجملة تعني الزوجة المطلقة، وهذا يعني أن القرآن قرر حقها المستقل في ذلك، وليس من حكمة لشرط عقد وليّها وهي موجودة والمهر حق واجب للزوجة ولا يملك الولي التنازل عنه في أي حال.
٨- وجملة ﴿ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ على ضوء ما تقدم تعني التنازل من جانب الزوج عن النصف الثاني من المهر المسمى ومنحه للزوجة كاملاً. والتنازل من جانب الزوجة عن النصف المستحق لها ؛ لأنها لا تستحق جميع المهر حتى تتنازل عنه.
٩- هناك من صرف جملة ﴿ وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ إلى الزوج بسبيل حثه على منح كامل المهر لمطلقته. فهو المنفق والدافع للمهر وقد فضله الله درجة فصار عليه أن يؤدي حق هذا التفضيل. ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كان هذا لا يتنافى مع احتمال كون الجملة موجهة للزوجين معاً بسبيل حثّ كل منهما على التسامح والمفارقة بالحسنى.
١٠- لقد استنبط بعضهم من الآية الأولى جواز عقد النكاح قبل تعيين المهر. فإذا تم الدخول ولم يسم مهر وجب للزوجة مهر أمثالها ولها نصف مهر أمثالها إذا لم يتم الدخول وهذا وجيه سديد.
١١- هناك من قال : إن المفوضة بطلاق نفسها إذا طلقت نفسها قبل الدخول لا تستحق الذمة، ولم نطلع على أثر نبوي وراشدي في ذلك. ومع أن المتبادر أن مصدر الطلاق لم يتغير وهو الزوج بتفويضه زوجته بطلاق نفسها، وأن حقه في التطليق قائم، وأن صفة المطلقة لا ترتفع عن التي تطلق نفسها بموجب التفويض فإن ذلك القول وجيه من حيث إنه ليس من محل للتعزية والترضية في هذا الحال وهما من أهداف المتعة. ومع ذلك نقول : إن إطلاق النص القرآني في الآية [ ٢٤٢ ] التي تأتي بعد قليل بخاصة يسوغ القول : إنها تستحق المتعة والله أعلم.
١٢- في صدد صفة الطلاق قبل الدخول عزا الإمام مالك إلى أبي هريرة وابن عباس رأياً مفاده أنه إذا كان طلاقاً مطلقا بدون عدد يعد الطلاق بائناً، عدته حيضة ويجوز للزوج أن يرجع إلى زوجته بعقد ومهر جديدين إذا شاءا أو تراضيا. وإذا كان طلاقا باتاً ثلاثاً أو لثالث مرة فتكون بينونة كبرى ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ٢. ولم نطلع على أثر نبوي والرأي سديد وجيه فيما هو المتبادر.
١٣- هناك من قال : إن متعة المطلقة التي لم يسمى مهرها هي على سبيل الندب لا الإيجاب، وهناك من قال : إنها واجبة، واستلهم أصحاب القول الأول صيغة الآية، واستلهم أصحاب القول الثاني الآية [ ٢٤٢ ] التي فيها كلمة ( حقا ) والتي تأتي بعد قليل. ونحن نرى هذا هو الأوجه والله أعلم. وفي سورة الأحزاب هذه الآية :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴿ ٤٩ ﴾ ﴾ والنص مطلق مثل إطلاقه في الآية [ ٢٤٢ ] وفي هذا تدعيم لوجاهة القول والله تعالى أعلم. ولقد قال أصحاب هذا القول : إن من حق المطلقة التي لم يسم مهرها أن ترفع أمرها إلى الحاكم وأن على هذا أن يحكم لها بالمتعة وأن الزوج يحبس بها حتى يؤديها. وأنه إذا مات قبل أدائها تكون دينا على تركته وهذا وجيه تبعاً لوجاهة القول ؛ لأنه نتيجة له، والله تعالى أعلم.
وفي آية الأحزاب التي أوردناها تتمة للتشريع الذي احتوته الآيتان حيث يظهر أن بعضهم سألوا فنزلت الآية لترفع العدة عن المطلقة قبل المسّ. لأن العدة في الأصل لاستبراء الرحم وفسح المجال للمراجعة ولا محل لهذا وذاك في هذه الحالة ويكون للمطلقة أن تتزوج حالاً.
في الآيتين : أمر موجه إلى المسلمين بالمحافظة على الصلوات وبخاصة الصلاة الوسطى وأدائها في أوقاتها. وقيامهم فيها خاشعين خاضعين لله وحده وتنبيه على أنه لا ينبغي أن يمنعهم من ذلك مانع حتى في حالة الخوف والخطر. فعليهم في هذه الحالة أن يؤدوا الصلاة أثناء ركوبهم إذا كانوا راكبين أو مشيهم إذا كانوا مترجلين. فواجب ذكر الله وأداء حقه في العبادة مترتب عليهم يجب أن يؤدوه في حالتي الأمن والخوف فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمونه وعليهم شكره وذكره.
تعليق على الآية
﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى... ﴾ الخ
والآية التي بعدها
والآيتان فصل مستقل لا صلة به بالسياق السابق ولا باللاحق، وقد أورد ابن كثير حديثاً رواه الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلاّ الصف أو الصفان فقال : لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة فنزلتا لتحثا على وجوب إقامة الصلاة في أوقاتها في أي حال، ومن المحتمل أن تكون الآيتان قد نزلتا بعد الآيات السابقة لها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في مقامها ولو لم يكن بينها وبين السياق مناسبة، وفي هذا صورة من صور التأليف القرآني.
ولقد تعددت الأقوال في الصلاة الوسطى، فمنها أنها صلاة الظهر لأن وقتها وسط النهار، وقد يتفق هذا مع الحديث المروي عن زيد، ومنها أنها صلاة الفجر ؛ لأنها متوسطة بين صلاتي النهار الظهر والعصر وصلاتي الليل المغرب والعشاء. وهي أشق من غيرها، ومنها أنها صلاة العصر. وقد روى المفسرون مع كل قول أقوالا وأحاديث معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد عزي القول بأنها صلاة الفجر إلى ابن عباس في روايات عديدة، وعزي القول بأنها صلاة الظهر إلى زيد بن ثابت. غير أن القول بأنها صلاة العصر مؤيد بأحاديث أقوى، فقد روى أصحاب الخمسة حديثا عن علي رضي الله عنه جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً ثم صلاّها بين العشاءين » ١. وقد روى الترمذي حديثاً عن عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«صلاة الوسطى صلاة العصر » ٢. وقد روى الترمذي حديثاً عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها جاء فيه :«أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فقالت : إذا بلغت هذه الآية :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى ﴾ فآذنّي فلما بلغتها أعلمتها، فأملت عليّ ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) وقالت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ٣.
وهكذا يكون تأويل الصلاة الوسطى بصلاة العصر هو الأوجه المؤيد بأحاديث صحيحة، وهو ما عليه الجمهور ولقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عديدة منها ما هو صحيح فيها تنويه بصلاة العصر وإنذار لمن تفوته مما فيه تساوق مع التلقين القرآني، من ذلك حديث رواه البخاري والنسائي عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله » ٤. وحديث رواه الشيخان عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من فاتته صلاة العصر فكأنما وَتَر أهله وماله ».
ولقد روى الزمخشري في سياق الآية رواية تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إلى أصحابه بعد صلاة العصر فيتحلقون حوله ويستمعون إلى عظاته وأحاديثه ويتذاكرون فيما بينهم من أمور وما يكون من شؤون. وهذه الرواية لم ترد في كتب الصحاح ولا يمنع هذا من صحتها ؛ حيث ينطوي فيها توضيح ما لاهتمام كتاب الله ورسوله بهذه الصلاة والله أعلم.
وما تقدم هو في صدد الفقرة الأولى من الآية الأولى وفي صدد الفقرة الثانية منها أي :﴿ وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾ روى البخاري والترمذي حديثاً عن زيد بن أرقم قال :«كنا نتكلم في الصلاة يكلّم أحدنا أخاه في حاجته حتى نزلت فأمرنا بالسكوت ». حيث ينطوي في الحديث ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعملوا به من تلقين الآية. وهناك أحاديث أخرى أوردها ابن كثير تفيد أن الأمر بذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم أيضا. منها حديث أخرجه مسلم جاء فيه :«إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلّم في الصلاة : إن هذه الصلاة لا يصحّ فيها شيء من كلامِ الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله ». وحديث آخر وصف بالصحيح عن ابن مسعود قال :«كنا نسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن نهاجر إلى الحبشة وهو في الصلاة فيردّ علينا فلما قدمنا سلمنا عليه فلم يردّ عليّ فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلّم قال إني لم أردّ عليك ؛ لأني كنت في الصلاة وإن الله يحدث ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة ».
وحديث آخر يرويه الحافظ أبو يعلى :«إذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلّموا ».
والتلقين المنطوي في الجملة القرآنية على ضوء الأحاديث هو تنبيه المؤمنين إلى وجوب استحضار الله عز وجل وحده في أذهانهم حينما يكونون في الصلاة وعدم إشغالها بأي شيء آخر عن ذلك ؛ لأنه من المقاصد المهمة في الصلاة.
وفي صدد ﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ﴾ نقول إنها في صدد إيجاب الصلاة في كل حال في أوقاتها. وإساغة لإقامتها في الخوف في حالة السير مشيا وفي حالة الركوب. وفي سورة النساء آيات أخرى في صدد ذلك سوف نزيد هذا الموضوع شرحاً، ونورد ما ورد فيه من أحاديث في مناسبتها.
٢ نفسه.
٣ التاج ٤/٥٧.
٤ التاج ١/١٢٣.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرةمقدمة للسورة :
في هذه السورة مواضيع عديدة وفصول ومواقف ومشاهد متنوعة، منها الحجاجية ومنها التنديدية ومنها التشريعية ومنها التعليمية ومنها التذكيرية ومنها الإيمانية ومنها الكونية. وفيها قصة خلق آدم وسجود الملائكة وكفر إبليس. وسلسلة طويلة في بني إسرائيل ومواقفهم من الدعوة المحمدية وأخلاقهم وربط ذلك بتاريخهم القديم. وبعض صور من تاريخهم بعد موسى وإشارة إلى المنافقين وتآمر اليهود معهم ضد الدعوة. وفيها تشريعات في القبلة والوصية والصيام والقتال في سبيل الله والحج والحيض والأنكحة والطلاق وعدة الزوجة المتوفى عنها زوجها والربا وتسجيل الأعمال التجارية والديون والحث على الإنفاق في سبيل الله. وقد تخللتها عظات وتلقينات وتعليمات إيمانية وأخلاقية واجتماعية، وانطوى فيها صور عديدة من العهد المدني وظروف المسلمين فيه.
وهي أطول سور القرآن عدد آيات وسعة حيز، وطابع العهد المدني بارز على فصولها وأسلوبها، وبعض فصولها منسجمة مع بعض بحيث يصح أن يقال : إنها نزلت معا أو متتابعة. وبعض فصولها غير منسجمة ظرفا ولكنها منسجمة موضوعا مع بعض بحيث يصح أن يقال : إنها نزلت في ظروف متباعدة. ولا يستبعد أن يكون بعضها نزل متأخرا وبعد نزول سور أو مجموعات قرآنية من سور أخرى ثم وضع بعضها وراء بعض بسبب التساوق الموضوعي. ولا يستبعد أن يكون بعضها أخر في الترتيب مع تبكيره في النزول وبعضها قدم في الترتيب مع تأخره في النزول، حتى إن منه ما نزل قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مما تلهمه المضامين وتسوغه المقارنات.
وكل هذا يسوغ القول : إن فصول هذه السورة نزلت في فترات متفاوتة، وإنها ألفت على الوجه الذي رتبت آياتها أو فصولها عليه تأليفا بعد أن نزلت جميع فصولها، بل وربما بعد أن نزل كثير من السور والفصول المدنية الأخرى.
ولقد أثر حديث عن زيد بن ثابت ( رضي الله عنه ) أخرجه الحاكم ووصف بأنه بسند صحيح على شرط الشيخين – وزيد هو الذي تولى عمل تدوين المصحف بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان من كتاب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم – جاء فيه «كنا نؤلف القرآن من الرقاع » وقد علق البيهقي على ذلك بقوله :«يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم ١. مما فيه توضيح لما قلناه في صدد تأليف فصول هذه السورة بعد أن تكامل نزولها في ظروف متباعدة. وهذا يصدق على كل السور المدنية الطويلة على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها ؛ حيث يبدو أن ظروف العهد المدني كانت تقتضي أن تدون فصول القرآن النازلة فيه متفرقة ؛ لأنها مواضيع متنوعة نزلت في مناسبات مختلفة ثم تؤلف السور منها.
وطابع البدء والختام على مطلع سورة البقرة وخاتمتها بارز حتى ليسوغ القول : إنهما وضعا ليكونا كالإطار للسورة. ولعل الفصل الأول من السورة كان أول فصول السورة نزولا في المدينة وأول فصول القرآن المدني نزولا، مما قد يلهمه مضمونه فاعتبرت السورة من أجل ذلك في ترتيب النزول كأولى السور المدنية نزولا مثل سورة العلق التي اعتبرت في ترتيب النزول كأولى سور القرآن المكي نزولا ؛ لأن آياتها الخمس الأولى دون بقيتها هي أول القرآن نزولا.
ولقد أثر حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ) ٢ وحديث آخر جاء فيه :( إن ملكاً نزل من السماء فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة. لن تقرأ منهما حرفا إلا أوتيته ) ٣ حيث يدل هذا دلالة قوية، بل قاطعة على أن هذه السورة قد تمّ تأليفها على الوجه الذي ورد في المصحف في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما نعتقده بالنسبة لسائر السور الطويلة المدنية التي فيها فصول مختلفة المواضيع نزلت في ظروف مختلفة ومتباعدة.
ولقد روى المفسرون بعض الأحاديث في فضل سورة البقرة منها حديث جاء فيه :«لكل شيء سنامٌ وإنّ سنامَ القرآن سورة البقرة » ٤. وهذا الحديث إذ يذكر سورة البقرة يدل أيضا على أنها كانت مؤلفة تامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
والمجمع عليه أن تفوقها على غيرها في عدد الآيات والحيز من أسباب وضعها في أول المصحف بعد سورة الفاتحة التي وصفت بأنها مفتتح القرآن وبراعته الاستهلالية على ما شرحناه في سياق تفسيرها. وليس من شأن هذا أن ينقض ما وضحناه : من أن جعلها أولى سورة مدنية هو بسبب احتمال كون فصلها الأول هو أول فصول القرآن نزولاً في المدينة، والله تعالى أعلم.
تعليق على ترتيب السور في المصحف
وننبه بهذه المناسبة على أن علماء القرآن قالوا : إن ترتيب سور القرآن في المصحف قد جاء حسب أطوالها. حيث قدمت السور المسماة بالطوال ثم ما عرف بالمئين – أي التي عدد آياتها في حدود المئة تزيد قليلا أو تنقص قليلا – ثم ما عرف بالمثاني، ثم ما عرف بالقصار ثم ما عرف بالمفصل أي القصار جدا ٥.
وروى المفسرون ٦ حديثاً عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضّلني ربي بالمفصل » ٧ وهذا الحديث لم يرد في الصحاح، وصيغته لا تبعث الطمأنينة بصدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والملاحظ أن القول : إن سور القرآن رتبت على النحو المذكور آنفا أي الطوال فالمئين فالمثاني فالمفصل ليس دقيقا كل الدقة إلا بالنسبة لسورة البقرة فقط. فثانية السور في عدد الآيات هي سورة الشعراء مثلا، غير أنها وضعت في عداد المثاني، وبعد عدد كبير من السور التي منها ما هو أقل منها حيزا أي أقصر طولا فضلا عن كونه أقل في عدد الآيات مثل سورة الرعد وإبراهيم والحجر والفرقان والنور والمؤمنون والأنبياء والحج. وسورة الرعد وإبراهيم والحجر قد قدمت في الترتيب مع أن بعدها سورا كثيرة أكثر منها عدد آيات وأطول حيزا. ومثل هذا يلاحظ في سور عديدة أخرى في الطوال والمئين والمثاني والقصار والمفصل. ولما كنا نعتقد أن ترتيب السور في المصحف قد تم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبإرشاده وهو بمصطلح علماء القرآن توفيقي ٨ فنحن نعتقد أنه لا بد من أن يكون لهذا الترتيب حكمة وإن كانت قد خفيت علينا وعلى غيرنا.
هذا، والذي نرجحه أن تأليف السور على الصورة التي شرحناها إنما هو بالنسبة للسور المدنية فقط وبخاصة للطوال والمئين والمثاني منها دون السور المكية. ففي السور المكية وحدة مواضيع وتشابه قوي في الفصول. وهي قاصرة على الدعوة ومبادئها وتدعيماتها المتنوعة والحجاج حول ذلك، مما لا يقتضي أن ينزل فصل من سورة ثم يعقبه فصل من سورة أخرى قبل أن تتم فصول السورة التي قبلها. وهذا بالنسبة للسور الطويلة منها حتى التي فيها فصول تبدو غير مترابطة ؛ حيث إنها لا تخرج عما قلناه مما نبهنا عليه وأوردنا قرائنه في سياق تفسيرها. وهذا القول يكون أقوى بالنسبة للسور الطويلة المسجعة منها التي تكون وحدة السبك والنظم فيها من دلائل هذه القوة. ويمكن أن يكون أقوى وأكثر بالنسبة للسور القصيرة والقصيرة جدا كما هو المتبادر باستثناء سورة العلق على التأكيد وسور القلم والمزمل والمدثر على الاحتمال، على ما شرحناه في سياق تفسيرها. يضاف إلى هذا أن السور المكية كانت قد تمت نزولا في آخر العهد المكي ٩.
ولا يتعارض هذا مع ما هو محقق من إضافة بعض الآيات المدنية إلى بعض السور المكية ؛ إذ أن هذه الآيات قد أضيفت إلى مناسباتها على ما شرحناه في سياقها في سور المزمل والأعراف والشعراء، والله سبحانه وتعالى أعلم ١٠.
أما ما روي عن تدوين القرآن أو جمعه في زمن أبي بكر وعثمان ( رضي الله عنهما ) فليس ذلك جمعا وتدويناً وترتيباً جديداً. فالقرآن كان مدونا ومرتبا وكان لكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصاحف. غير أن القرآن كان مفتوح الصحف لاحتمال نزول الوحي بقرآن جديد. فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد هناك احتمال لذلك رأى أبو بكر وعمر وكبار الصحابة أن يكون هناك مصحف إمام ليكون المرجع لما قد يكون من خلاف في المصاحف المتداولة، فكتب هذا المصحف الذي بذلت الجهود العظيمة في كتابته وقورن وقوبل كل ما كان متداولا مخطوطا ومحفوظا من القرآن بسبيل ذلك ١١.
غير أن هذا على ما يظهر لم يحل المشكلة ؛ لأن المسلمين كثروا وتفرقوا في البلاد وكانوا يكتبون مصاحفهم بخطوطهم. وكان يقع تباين في الكتابة وصار الناس في زمن عثمان رضي الله عنه يقرؤون قراءات متباينة نتيجة لذلك فرأى بعض كبار أصحاب رسول الله صلى الله تلافياً لذلك أن يكتب المصحف من جديد بإملاء واحد وخط واحد فتم ذلك ونسخ من هذا المصحف الجديد نسخ عديدة أرسلت إلى العواصم الإسلامية، وأمر الناس بنسخ المصاحف عنها وإحراق ما هو متداول بين الأيدي من المصاحف المتباينة في الخطوط، فكان هذا مما حفظ القرآن سليماً على مدى القرون وتحققت به المعجزة القرآنية المنطوية في آية سورة الحجر هذه :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾﴿ ٩ ﴾ ١٢. ولقد أوردنا ما يورد على ذلك وشرحنا الأمر شرحا يضعه في نصابه الحق إن شاء الله في سياق تفسير الآية المذكورة.
٢ انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج، ٤/١٣-١٤.
٣ انظر تفسير ابن كثير للآيات الأخيرة من سورة البقرة، وهذا الحديث ورد في التاج برواية مسلم عن ابن عباس أيضا. انظر التاج، ٤/١٣-١٤.
٤ انظر تفسير السورة في تفسير ابن كثير وغيره.
٥ انظر أيضا الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ١/٦٠-٦٨. والمفصل هي السور القصيرة. وسمّيت كذلك لكثرة الفصل بينها. وهناك أقوال مختلفة في تعيين كل مجموعة من المجموعات الأربع، منها أن السبع الطوال هي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف وقد ذكر الراوي أنه نسي السابعة. وهناك ما يذكر الأنفال والتوبة معاً كسابعة، وهناك ما يذكر سورة يونس كسابعة. والمئين بعد يونس إلى الكهف وبعدها المثاني. والمفصل يبدأ في رواية بالحجرات وفي رواية بسور (ق) وفي رواية بسورة الضحى.
٦ انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
٧ انظر تفسير الآية [٨٧] من سورة الحجر في تفسير البغوي.
٨ انظر المصدر السابق.
٩ انظر كتابنا القرآن المجيد، ص: ٥٢-١١٢ ففي هذه الصفحات بحث مسهب واستعراض للروايات والأحاديث واستدلالات من القرآن على صحة ما قررناه إن شاء الله.
١٠ نفسه.
١١ نفسه.
١٢ اقرأ كتابنا المجيد ص: ٥٢ وما بعدها. ونستطرد إلى القول: إنه لا يعرف على وجه اليقين أن في الدنيا اليوم مصحفا من المصاحف التي نسخت عن المصحف الذي كتب بأمر عثمان وأرسلت إلى الأمصار الإسلامية. ولقد جاء في الجزء الأول من الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى خبر عن النسخة التي أرسلت إلى دمشق من هذه النسخ حيث روى المؤلف أن أبا القاسم التجيبي السبتي قال: إنه رآها وعاينها في سنة ٦٥٧ هجرية في مقصورة جامع بني أمية في دمشق المعروفة بقبة الشراب. ولقد نقل مؤلف الاستقصاء أيضا قولا للخطيب ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن جاء فيه: إني اختبرت الذي في المدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطهما واحداً وقد كتب على ظهر المدني: هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وغيرهم ممن أشرف على تدوين هذا المصحف، وقد روى المؤلف أن عبد المؤمن نقل المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش سنة ٥٥٢ هجرية وصنع له كسوة من السندس المزركش بالذهب والفضة المرصعة بأنواع الحجارة الكريمة واتخذ للحمل كرسيا على شاكلته ثم اتخذ للجميع تابوتا يصان فيه (الجزء الأول من الاستقصاء، ص: ٥٠) وليس من الممكن أن يجزم أن نسخة قرطبة كانت أصلية؛ لأنها لم تكن من عواصم الإسلام التي أرسل إليها النسخ في زمن عثمان (رضي الله عنه).
[ ١ ] وصية : قرئت بالفتح على تقدير ( فليوصوا وصية ) وقرئت بالرفع على اعتبار الإيجاب والحكم.
وتبعاً لاختلاف قراءة ( وصية ) يكون في الآية أمر للأزواج بأن يوصوا حين تحضرهم الوفاة بأن ينفق على زوجاتهم من بعدهم حولاً كاملاً، وبأن لا يُخرجن من مسكنهن طيلة هذه المدة أو يكون فيها أمر رباني بإيجاب تنفيذ ذلك. وبالإضافة إلى هذا فإن فيها تسويغاً لخروجهن قبل نهاية المدة إذا شئن، ورفعاً للحرج عن ذي العلاقة والولاية فيما يفعلنه في أنفسهن من التصرفات المشروعة وتنبيهاً على أن الله تعالى عزيز تجب طاعته حكيم لا يأمر إلا بما فيه الخير والمصلحة.
وروح الآية وفحواها يلهمان أن ما تقرره للزوجة هو واجب على ورثة زوجها وتركتها سواء أوصى هو بذلك أم لم يوصِ. وأن معنى ﴿ مَّتَاعاً ﴾ هنا هو نفقة معيشتها.
تعليق على الآية
﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ... ﴾
والآية فصل تشريعي من باب الفصول التي سبقت ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد السياق السابق فوضعت في ترتيبها أو وضعت في ترتيبها للمماثلة التشريعية. ولقد روى الخازن أنها نزلت في امرأة رجل من الطائف هاجر إلى المدينة مع أبويه وزوجته فمات فلم تعط زوجته شيئا من ميراثه وكان ذلك قبل نزول آيات المواريث في سورة النساء، فرفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقوها في بيتها سنة وينفقوا عليها.
والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ويلحظ أنها لا تتسق تماماً مع فحوى الآية، ويتبادر لنا أنها في شأن أرملة أراد أهل زوجها إخراجها وامتنعوا عن النفقة عليها. ولا يمنع هذا أن تكون طبقت على الجملة التي رواها الخازن.
ويروي الطبري عن ابن عباس وآخرين أن حكم هذه الآية كان جارياً قبل نزول الآية [ ٢٣٤ ] من هذه السورة وقبل نزول آيات المواقيت في سورة النساء. وأنها نسخت فأنقصت المدة إلى أربعة أشهر وعشر في الآية [ ٢٣٤ ] وحملت الأرملة نفقة نفسها ؛ لأنها صارت ترث من زوجها. ويروي الطبري عن مجاهد وآخرين أيضا أن حكم الآية ظل محكماً لمن تشاء من الزوجات البقاء في بيت زوجها المتوفى سنة مع إيجاب نفقتها، ويبقى حكم الآية [ ٢٣٤ ] وما ورد في صددها من أحاديث أوردناها قبل محكما بالنسبة لهذه الزوجة. وقد صوب الطبري القول الأول غير أن الذي يتبادر لنا استلهاماً من مجيء هذه الآية بعد الآية [ ٢٣٤ ] أن القول الثاني هو الأوجه، وليس هناك حديث وثيق بالنسخ. أما مسألة نفقتها طول السنة فالذي يتبادر لنا أن نسخها بآية المواريث هو وجيه وآية المواريث نزلت بعدها والله أعلم.
وعلى صحة استنتاج بقاء الآية محكمة في حق الزوجة في البقاء في بيت زوجها المتوفى عنها سنة كاملة وعدم الحرج مع ذلك من خروجها أثناء هذه المدة، فالذي يتبادر لنا مع الآية ومقاصدها أنها لو خرجت لحاجتها ثم أرادت أن تعود إلى بيت زوجها لإتمام مدة السنة فلها ذلك، والله تعالى أعلم.
في الآيتين توكيد لحق المتعة والتعويض للمطلقات في نطاق العرف والعادة والأمثال. وتقرير كون هذا واجب الأداء على المتقين لغضب الله والراغبين في رضائه. وبيان بأن الله ينزل آياته ليعرف المؤمنون منها ما يجب عليهم فيعقلوه ويسيروا وفقه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيتين نزلتا بسبب فهم بعض المسلمين من جملة ﴿ حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ ﴾ الواردة في الآية [ ٢٣٦ ] أنهم غير ملزمين بالمتعة، فإن أحبوا متعوا وإلاّ فلا واجب عليهم، والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ولكنها محتملة الصحة. وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب والتقارب الموضوعي وربما نزلتا بعد سابقتهما. وقد صارتا خاتمة للفصول التشريعية المتعلقة بالطلاق والترمل وأسلوبهما متسق مع أسلوب الآيات السابقة المتعلقة بالموضوعين مستهدف ما استهدفته من حماية المرأة وتوكيد حقها.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون في المطلقات اللاتي عنتهن الآيتان. فهناك قول بأنهن المطلقات قبل المسيس اللاتي لم يسم لهن مهر تثبيتاً لحقهن الذي ذكر في الآية [ ٢٣٦ ] والذي اختلف في استحبابه ووجوبه. وهناك قول بأنهن المطلقات عامة بما فيهن المدخول بهن. وقد أورد أصحاب القول الثاني آية سورة الأحزاب هذه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً { ٢٨ ﴾ } كدليل على قولهم. وإطلاق العبارة في الآية وعلى ضوء آية سورة الأحزاب قد يجعل القول الثاني هو الأوجه. ويمكن أن يقال على ضوء هذا : إن حكمة التنزيل قد شاءت أن يكون في إمتاع المطلقة المدخول بها والتي يمضها الطلاق ويحزن نفسها على كل حال تعزية وترضية وفي هذا تمام البرّ والرحمة، وهو ما يلحظ في التشريعات السابقة بصورة عامة.
في الآيتين توكيد لحق المتعة والتعويض للمطلقات في نطاق العرف والعادة والأمثال. وتقرير كون هذا واجب الأداء على المتقين لغضب الله والراغبين في رضائه. وبيان بأن الله ينزل آياته ليعرف المؤمنون منها ما يجب عليهم فيعقلوه ويسيروا وفقه.
وقد روى المفسرون ١ أن الآيتين نزلتا بسبب فهم بعض المسلمين من جملة ﴿ حَقّاً عَلَى المُحْسِنِينَ ﴾ الواردة في الآية [ ٢٣٦ ] أنهم غير ملزمين بالمتعة، فإن أحبوا متعوا وإلاّ فلا واجب عليهم، والرواية لم ترد في كتب الصحاح، ولكنها محتملة الصحة. وقد وضعت الآيتان في ترتيبهما للتناسب والتقارب الموضوعي وربما نزلتا بعد سابقتهما. وقد صارتا خاتمة للفصول التشريعية المتعلقة بالطلاق والترمل وأسلوبهما متسق مع أسلوب الآيات السابقة المتعلقة بالموضوعين مستهدف ما استهدفته من حماية المرأة وتوكيد حقها.
ولقد اختلفت الأقوال التي يرويها المفسرون في المطلقات اللاتي عنتهن الآيتان. فهناك قول بأنهن المطلقات قبل المسيس اللاتي لم يسم لهن مهر تثبيتاً لحقهن الذي ذكر في الآية [ ٢٣٦ ] والذي اختلف في استحبابه ووجوبه. وهناك قول بأنهن المطلقات عامة بما فيهن المدخول بهن. وقد أورد أصحاب القول الثاني آية سورة الأحزاب هذه :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴿ ٢٨ ﴾ ﴾ كدليل على قولهم. وإطلاق العبارة في الآية وعلى ضوء آية سورة الأحزاب قد يجعل القول الثاني هو الأوجه. ويمكن أن يقال على ضوء هذا : إن حكمة التنزيل قد شاءت أن يكون في إمتاع المطلقة المدخول بها والتي يمضها الطلاق ويحزن نفسها على كل حال تعزية وترضية وفي هذا تمام البرّ والرحمة، وهو ما يلحظ في التشريعات السابقة بصورة عامة.
في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفاً من الموت، فلم يفدهم فرارهم شيئا ؛ حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.
وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضاً حسناً مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافاً مضاعفة، وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله، وأن مرجع الناس جميعاً إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.. ﴾ الخ
وعلى الآيتين التاليتين لها
الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد، وهذا ما جعلنا نعرضها معاً.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه : من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة ؟ قال : نعم. قال : وأم الدحداح والصبية معي ؟ قال : نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية. ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساوق المدى، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه، والثانية احتوت أمراً للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة، ولكن الأكثر احتمالاً واتساقاً مع نص الآية أن تكون وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق.
ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله، فمر عليم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعت بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بين إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفاً حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى.
ولقد ورد في الإصحاح ٣٧ من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة ؛ حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [ ٢١٨، ٢٦٢، ٢٧٢ ] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطراداً لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيماً للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.
استطراد إلى الفرار من الوباء
لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه : أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرْغٍ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس : ادعُ لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريشٍ من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس : إني مصبّحٌ على ظهرٍ فقال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّباً في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف » ٢. وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به.
٢ التاج ٣/١٧٢-١٧٣.
في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفاً من الموت، فلم يفدهم فرارهم شيئا ؛ حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.
وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضاً حسناً مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافاً مضاعفة، وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله، وأن مرجع الناس جميعاً إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.. ﴾ الخ
وعلى الآيتين التاليتين لها
الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد، وهذا ما جعلنا نعرضها معاً.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه : من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة ؟ قال : نعم. قال : وأم الدحداح والصبية معي ؟ قال : نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية. ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساوق المدى، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه، والثانية احتوت أمراً للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة، ولكن الأكثر احتمالاً واتساقاً مع نص الآية أن تكون وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق.
ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله، فمر عليم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعت بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بين إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفاً حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى.
ولقد ورد في الإصحاح ٣٧ من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة ؛ حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [ ٢١٨، ٢٦٢، ٢٧٢ ] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطراداً لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيماً للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.
استطراد إلى الفرار من الوباء
لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه : أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرْغٍ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس : ادعُ لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريشٍ من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس : إني مصبّحٌ على ظهرٍ فقال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّباً في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف » ٢. وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به.
٢ التاج ٣/١٧٢-١٧٣.
في الآيات تذكير بقصة جماعة من ألوف فروا من ديارهم خوفاً من الموت، فلم يفدهم فرارهم شيئا ؛ حيث أماتهم الله دفعة واحدة ثم أحياهم ليعرفوا قدرته وفضله. فالله هو صاحب الأفضال على الناس ولو كان أكثرهم لا يشكرونه.
وأعقب القصة أمر موجه إلى المسلمين بالقتال في سبيل الله، وتنبيه لهم على أن الله سميع لكل ما يقولونه عليم به. وحثّ لهم على إقراض الله قرضاً حسناً مما ينطوي فيه حثّ لهم على إنفاق المال في سبيل الله وتنويه بمن يفعل ذلك وبشرى بأن الله يرده إليه أضعافاً مضاعفة، وتنبيه على أن بسط الرزق وقبضه بيد الله، وأن مرجع الناس جميعاً إليه مما ينطوي فيه توكيد في الحثّ على الإنفاق في سبيل الله أيضا.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ.. ﴾ الخ
وعلى الآيتين التاليتين لها
الآيات فصل جديد ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها فوضعت في ترتيبها، الصلة ملموحة بين الآية الأولى والآيتين التاليتين لها على ما سوف نشرحه بعد، وهذا ما جعلنا نعرضها معاً.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية الأخيرة نزلت في مناسبة قول النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس من مجالسه : من تصدّق فله مثلاه في الجنّة. فقال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله لي حديقتان إن تصدقت بإحداهما فإن لي مثليها في الجنة ؟ قال : نعم. قال : وأم الدحداح والصبية معي ؟ قال : نعم. فتصدق بأفضل حديقتيه فنزلت الآية. ولم نطلع على سبب نزول الآيتين اللتين قبلها، والذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل واحد منسجم ومتساوق المدى، وقد احتوت الآية الأولى منها قصة بسبيل بيان أن الفرار من الموت لا يقي منه، والثانية احتوت أمراً للمسلمين بالقتال مما ينطوي فيه تنبيه على عدم التهيب من ذلك خوفا من الموت. والثالثة احتوت حثا على الإنفاق في سبيل الله الذي هو من لوازم الجهاد وضروراته. ولا يمنع هذا أن تكون قصة أبي الدحداح صحيحة، ولكن الأكثر احتمالاً واتساقاً مع نص الآية أن تكون وقعت بعد نزول الآيات حيث استجاب إلى ما فيها من حثّ وتشويق.
ولقد روى الطبري وغيره روايات متنوعة عن القصة المذكورة في الآية الأولى مختلفة الصيغ متفقة المدى. منها رواية عن ابن عباس أنها في صدد أربعة آلاف أو ثلاثين ألفا فروا من قريتهم من الوباء أو من الجهاد خوفا من الموت فأماتهم الله، فمر عليم نبيّ فدعا الله أن يحييهم فأحياهم ليثبت لهم أن موتهم وحياتهم في يد الله وأمره. ومنها رواية عن أشعت بن أسلم البصري في سياق طويل لا يخلو من إغراب مفادها أن يهوديين أخبرا عمر بن الخطاب أن هذه قصة جماعة من بين إسرائيل خرجوا من مدينتهم ألوفاً حذر الموت من الوباء فأماتهم الله حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل النبي لينادي عليهم ففعل فأحياهم الله تعالى.
ولقد ورد في الإصحاح ٣٧ من سفر نبوءة حزقيل أحد أسفار العهد القديم المتداولة اليوم خبر فيه بعض المشابهة لهذه القصة ؛ حيث يبدو أن مما كان يتداوله اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من قصصهم القديمة. والراجح أن سامعي القرآن من المسلمين أو بعضهم كان يعرفها من اليهود فاقتضت حكمة التنزيل تذكيرهم بها على سبيل تخفيف استشعارهم بالخوف من الموت وحضهم على القتال والإنفاق في سبيل الله مما ورد في الآيات في ظرف كان بعضهم يتهيب من ذلك أو يتلكأ فيه. ولقد احتوت الآيات [ ٢١٨، ٢٦٢، ٢٧٢ ] من سورة البقرة التي سبق تفسيرها إشارة ما إلى ذلك. والمتبادر أن بعضهم ظل مع ذلك يتهيب ويتكرر فاقتضت الحكمة معالجة الأمر مجددا في الآيات، ولقد جاء بعد هذه الآيات فصل فيه قصة طلب بني إسرائيل تعيين ملك عليهم ليقاتلوا تحت لوائه أعداءهم ونكث أكثرهم عن ما قطعوه على أنفسهم من عهد القتال مما نرجح أنه سيق استطراداً لتدعيم أمر القتال والإنفاق الذي احتوته الآيات الثانية والثالثة كما هو شأن الآية الأولى. وبعبارة أخرى إنه جاء تدعيماً للمعالجة التي اقتضتها حكمة الله.
استطراد إلى الفرار من الوباء
لقد استطرد ابن كثير في سياق تفسير الآية الأولى إلى موضوع الفرار من الوباء وأورد حادثا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الشيخان عن ابن عباس جاء فيه : أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرْغٍ لقيه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام، فقال عمر لابن عباس : ادعُ لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم فاختلفوا، فقال بعضهم : قد خرجت لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي الأنصار. فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين في الاختلاف فقال : ارتفعوا عني. ثم قال : ادع لي من كان هنا من مشيخة قريشٍ من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس : إني مصبّحٌ على ظهرٍ فقال أبو عبيدة : أفراراً من قدر الله ؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان عمر يكره خلافه. نعم نفرّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا لها عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله. وجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيّباً في بعض حاجته فقال : إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمر بن الخطاب ثم انصرف » ٢. وفي الحديث تعليم صحيح نبوي بليغ يجب الالتزام به.
٢ التاج ٣/١٧٢-١٧٣.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
[ ٢ ] بسطة في العلم والجسم : إشارة إلى ما كان عليه طالوت من جسامة ؛ حيث روى سفر صموئيل أنه كان أطول الناس قامة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤٦:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿ ٢٤٦ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ [ ١ ] مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ ٢ ] وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٤٧ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [ ٣ ] فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [ ٤ ] وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٤٨ ﴾ فَلَمَّا فَصَلَ [ ٥ ] طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ [ ٦ ] فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ [ ٧ ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿ ٢٤٩ ﴾ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٥٠ ﴾ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٢٥١ ﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿ ٢٥٢ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
[ ٤ ] سكينة من ربكم : طمأنينة تطمئن بها نفوسكم يبعثها إليكم ربكم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤٦:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿ ٢٤٦ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ [ ١ ] مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ ٢ ] وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٤٧ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [ ٣ ] فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [ ٤ ] وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٤٨ ﴾ فَلَمَّا فَصَلَ [ ٥ ] طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ [ ٦ ] فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ [ ٧ ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿ ٢٤٩ ﴾ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٥٠ ﴾ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٢٥١ ﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿ ٢٥٢ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
[ ٦ ] من لم يطعمه : من لم يذقه ويشرب منه.
[ ٧ ] الذين يظنون أنهم ملاقوا الله : الذين يتيقنون من لقاء ربهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٤٦:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿ ٢٤٦ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ [ ١ ] مَلِكاً قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ [ ٢ ] وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٤٧ ﴾ وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ [ ٣ ] فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ [ ٤ ] وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٤٨ ﴾ فَلَمَّا فَصَلَ [ ٥ ] طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ [ ٦ ] فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ [ ٧ ] كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿ ٢٤٩ ﴾ وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٥٠ ﴾ فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿ ٢٥١ ﴾ تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴿ ٢٥٢ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى.. ﴾ الخ
والآيات التالية لها من [ ٢٤٦-٢٥٢ ]
الآيات فصل جديد، وفيها قصة من تاريخ بني إسرائيل القديم من بعد موسى عليه السلام، وعبارتها واضحة، والآيتان الأخيرتان منها جاءتا بمثابة تعقيب على القصة احتوت أولاهما تسويغاً للحروب الدفاعية وتقريراً لضرورتها، فلو لم يلهم الله المعتدى عليهم بالوقوف موقف الدفاع فيدفع بذلك بعض الناس ببعض لعمّ الفساد وساد الأشرار البغاة. وهذا من فضل الله على خلقه ومن آثار حكمته في توجيه الناس والفطرة التي فطرهم عليها، واحتوت الثانية توكيداً وجه الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه من رسل الله وبأن الله قد أنزل آياته عليه بالحق حسب ما رآه من مقتضيات الحكمة والمصلحة.
ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيات، والمتبادر منها أنها جاءت كما قلنا قبل للتدعيم استطراداً للأمر الموجه إلى المسلمين بالقتال والإنفاق في سبيل الله الذي احتوته الآيات السابقة لها ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث. وإلا فتكون نزلت بعدها فوراً وبدء المجموعتين بجملة ﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ مما يؤيد ذلك. ويؤيد في الوقت نفسه أن المسلمين أو بعضهم كانوا يعرفون ما فيهما من قصص والله أعلم. وقد انطوت على تلقينات جليلة ومعالجة روحية قوية في صدد الجهاد في سبيل الله والثبات فيه. وفي النعي على المترددين والمتمردين والجبناء، وفي التنويه بالمخلصين الصابرين وتأييد الله لهم، وفي صدد بيان كون المهم في مثل هذه المواقف هو الإخلاص والصبر واليقين بالله ونصره ولقائه لا الكثرة، فالصابرون المخلصون الموقنون منتصرون بإذن الله مهما كان عددهم قليلاً.
وفي الآيات نقاط بارزة نعتقد أنها من الجوهري في التذكير والعظة والتدعيم والتلقين الذي انطوى فيها، مثل إبداء الإسرائيليين الرغبة في القتال بسبب ما حل فيهم من عدوان الغير عليهم، ومثل ما كان من شك نبيهم في صدق رغبتهم. ومثل ما وقع من تمردهم على اختيار الله وعلى أوامر الملك ومطالبتهم بالآيات للتدليل على صدق الاختيار. ومثل تهيبهم العدو وارتدادهم عن لقائه وما ظهر منهم من الانحراف والمخالفة في الامتحان الذي امتحنهم الله به ؛ حيث منعهم من الشرب من ماء النهر عبّاً، ومثل ثياب المخلصين المؤمنين وصبرهم وانتصارهم أخيراً.
وهذه النقاط تقوي التوجيه الذي وجهناه في سياق الآيات السابقة من تهيب بعض المسلمين وترددهم في الاستجابة إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في موقف جهادي، وما قلناه من أن هذا الفصل قد سبق بسبيل التذكير والتمثيل والعظة والتنويه والتنديد معاً.
ومما يزيد في قوة العظة والتدعيم ما بين محتويات الفصل وبين ظروف المسلمين وبخاصة المهاجرين الذين كان الانتداب إلى القتال قبل وقعة بدر قاصراً عليهم على ما ذكرناه في مناسبة سابقة حين نزوله من تماثل أو تقارب. فاليهود نالهم الأذى والعدوان بعد موسى فدفعهم هذا إلى طلب القتال ثم نكص أكثرهم، والمهاجرون نالهم مثل ذلك فحري بهم أن يعتبروا ويتعظوا ولا يكونوا مثل أكثر اليهود.
والآيتان الأخيرتان التعقيبيتان متصلتان بهذا المعنى اتصالاً وثيقاً، فالجهاد الذي دعى إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفرضه القرآن ضرورة لا بد منها ؛ لأن البغي والعدوان إذا لم يدفعا استشرى الشر والفساد. وهذا مما لا يرضاه الله تعالى لعباده المؤمنين ولذلك سوغ الجهاد في سبيل دفع البغي والظلم. وفي هذا ما فيه من حكمة اجتماعية بليغة وتلقين جليل مستمر المدى.
وفي المحاورة بين بني إسرائيل ونبيهم التي شاءت حكمة التنزيل أن تحكيها عظة بالغة ؛ حيث تضمنت تقرير كون بسطة العلم والجسم تؤهل صاحبها للملك والقيادة أكثر من بسطة المال.
وظاهر مما تقدم أن القصة لم تكن مرادة لذاتها ولذلك اقتصرت حكمة التنزيل على الخلاصة التي احتوتها الآيات والتي استهدف بها العبرة والعظة والتمثيل.
ولقد فصلت القصة في أسفار القضاة وصموئيل الأول وصموئيل الثاني من أسفار العهد القديم المتداولة اليوم. والخلاصة القرآنية متفقة بعض الاتفاق مع ما جاء في هذه الأسفار ومتغايرة بعض التغاير أيضا. والذي نرجحه أن ما كان يتداوله اليهود ويعرفه العرب عن طريقهم هو المتسق مع الخلاصة القرآنية. وفي الأسفار التاريخية العائدة لما بعد موسى، والمتداولة اليوم أخبار متناقضة كما يظهر من مقارنة أسفار أخبار الأيام وأسفار الملوك. فليس من مانع من أن يكون هناك أسفار ضاعت فيها ما هو المتفق مع الخلاصة القرآنية وهو ما نعتقده ونبهنا عليه في مناسبات سابقة.
وخلاصة ما ورد في الأسفار المتداولة اليوم المذكورة آنفا عن القصة أن بني إسرائيل تعرضوا بعد موسى ويوشع لعدوان من الفلسطينيين في جنوب فلسطين، ومن الكنعانيين في شمالها، ومن الآشوريين في العراق، والآراميين في الشام، والمصريين ومن دول شرق الأردن وتناحروا معهم ردحاً، وتداولت الأيام بينهم. ثم كان للفلسطينين عليهم غلبة شديدة حتى لقد احتلوا كثيراً من بلادهم ومدنهم وأخذوا تابوتهم الذي فيه الألواح والمدونات التشريعية الربانية التي كتبها موسى على ما شرحناه في سورة الأعراف. وكانوا من قبل يقاتلون بقيادة قواد يظهرون من آن لآخر باسم قضاة فطلبوا من نبيهم صموئيل أن يقيم عليهم ملكاً فأقام عليهم طالوت الذي كان أطولهم قامة ومسحة بالزيت فصار ذلك سنّة متبعة وصار ملكهم يسمى مسيح الربّ. وأخذوا يتقاتلون مع الفلسطينيين وتداولت الأيام بينهم، وأصاب الفلسطينيين بعض البلاء الرباني الذي أجبرهم على إعادة التابوت إليهم تجرّه الثيران بدون سواقين، ثم كان تصافٍ بينهم وبرز قائدهم جالوت وطلب المبارزة فهابوه، ولكن داود وكان فتى تقدم إليه ورشقه بحجر من مقلاعه فقتله وكسب الإسرائيليون المعركة نتيجة لذلك، وقد خشي طالوت على نفسه وملكه من داود فصار يطارده إلى أن مات وبايع بنو إسرائيل داود بالملك من بعده.
وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى علماء الأخبار بأسماء وبدون أسماء فيها تفصيلات كثيرة ١. وفيها مفارقات تدل على أن الرواة والمفسرين لم يطلعوا على الأسفار ودونوا ما سمعوه من غثّ وسمين وصحيح وخيال وإن كانت الروايات والتفصيلات تدل في الوقت نفسه على أن قصص بني إسرائيل المشار إليها اقتضاباً في الخلاصة القرآنية كانت متداولة في البيئة العربية والإسلامية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك تستحكم العظة والعبرة القرآنية.
تعليق على الآية
﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ.. ﴾ إلخ
عبارة الآية واضحة ولم نطلع على رواية في نزولها، والمتبادر أنها جاءت استطرادية وتعقيبية وتعليلية معاً لما احتوته الآيات السابقة. ومتصلة بموضوعها، ويتبادر لنا أنها تضمنت تقرير ما يلي : إن الله قد أرسل رسله بآياته وبيناته، فكان يقتضي أن يؤمن الناس جميعا ولا يختلفوا، ولا يكون بينهم نزاع وقتال وفساد في الأرض وأحقاد. ولكن مشيئة الله في خلقه اقتضت أن يكون الناس ذوي قابليات اختيارية ومتفارقة فكان منهم نتيجة لذلك الكافر والمؤمن، والخبيث والطيب، ومن الطبيعي أن يكون بينهم خلاف وقتال ومن الطبيعي أن يدعى المعتدى عليه إلى القتال لدفع شر المعتدي وأذاه، وليكون التوازن بدفع الناس بعضهم ببعض. والله قادر على أن لا يكون الناس أنواعاً متفاوتين مختلفين، ولكن حكمته اقتضت أن يكونوا مختارين غير مجبرين فكان هذا التنوع والتفاوت والخلاف والقتال.
والآية بهذا البيان المستلهم من روحها ومن روح التقريرات القرآنية عامة تنطوي على جليل التلقين وحكيم التعليل.
ولعل اختصاص موسى بالذكر تلميحاً –في جملة ﴿ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ ﴾ وعيسى تصريحاً هو بسبب ما احتوته الخلاصة القرآنية عن بني إسرائيل في معرض العبرة والتذكير أولا وبسبب ما كان يقع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وقبله من اختلافات ومنازعات وفتن وقتال بين اليهود فيما بينهم وبين النصارى فيما بينهم ثم بين اليهود والنصارى أيضا مما ذكرته روايات التاريخ القديم ١ وقد أشير إلى ما بينهم من خلاف ونزاع وبغضاء وعداء في آيات كثيرة مكية ومدنية منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي.
وقد قال المفسرون ٢ في صدد تعبير ﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾ : إن المقصود به التنويه بفضل النبي صلى الله عليه وسلم ورفعة درجته على سائر الأنبياء.
ولقد قال الخازن في صدد ذلك : إنه لم يؤت نبي من الأنبياء آية أو معجزة إلا وأوتي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ثم أخذ يشير إلى ما روي من معجزاته التي أعظمها وأظهرها القرآن والكلام للمفسر نفسه. ثم أورد حديثاً عن أبي هريرة رواه الشيخان أيضا جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من نبيّ من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيتُه وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ». وحديثا ثانياً عن جابر رواه الشيخان كذلك جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت خمسا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ». وحديثا آخر عن أبي هريرة رواه أصحاب السنن جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فضلت على الأنبياء بستّ : أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً، وأرسلت إلى الخلائق كافة، وختم بي النبيّون ». ولقد تساءل ابن كثير عما يمكن أن يورد من نقض بين ما ورد من أحاديث في تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة من حديث جاء فيه :«استبّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه : لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي وقال : أيّ خبيث، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم. فجاء اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاشتكى على المسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور فلا تفضلوني على الأنبياء، وفي رواية : لا تفضلوا بين الأنبياء ». ثم قال ابن كثير : والجواب على ذلك من وجوه : أحدها أن يكون ذلك قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر، والثاني أنه قال ذلك من باب التواضع، والثالث أنه نهى عن التفضيل في مثل الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاجر، والرابع أنه أراد بذلك النهي عن التفضيل بسائق العصبية.
ومع إيماننا التام العميق بعظم فضائل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ورفعة شأنه ودرجاته عند الله وما ميزه الله عن غيره من الأنبياء من الميزات العظيمة التي ذكرت في القرآن بأساليب متنوعة في السور المكية والمدنية معاً وذكرت في هذه الأحاديث وأحاديث أخرى سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة، فإننا نلحظ أن التعبير هنا مطلق عام ومن قبيل ما جاء في آية سورة الإسراء هذه :﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً { ٥٥ ﴾ } وليس هناك آثار وثيقة متصلة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تفيد أن هذا التعبير هنا هو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا، ولقد ورد في سورة البقرة وفي سلسلة بني إسرائيل آية فيها نفس الجملة التنويهية التي وردت في هذه الآيات في حق عيسى عليه السلام وعلقنا عليها تعليقاً يغني عن التكرار.
انظر الجزء الثاني والرابع والخامس من كتابنا «تاريخ الجنس العربي» وانظر كتابنا «تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم» والمجلد الثاني والثالث والرابع من «تاريخ سورية» للمطران الدبس.
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.
[ ١ ] خلّة : مودة وصداقة.
عبارة الآية مفهومة ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها، والمتبادر أنها ليست منقطعة عن السياق بل فيها عود على بدء وربط بين الدعوة إلى القتال والإنفاق في سبيل الله التي تضمنتها الآيتان اللتان سبقت فصل بني إسرائيل. والحث فيها قوي، وبعض المفسرين ١ قالوا : إنها في صدد الزكاة ونرجح أنها عامة الحثّ حيث يدخل فيها الزكاة الواجبة والصدقات التطوعية في مختلف الوجوه وجملة ﴿ مِمَّا رَزَقْنَاكُم ﴾ هي في صدد التنبيه إلى أن ما في أيدي القادرين على الإنفاق من مال هو من رزق الله وفضله، فمن واجبهم أن يأتمروا بأمر الله وينفقوا مما رزقهم وفي هذا مغزى جليل. وقد تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية.
وتعبير ﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ يحتمل أن يكون في صدد المصير الأخروي، وبيان كون الكفار بكفرهم هم الذين يظلمون أنفسهم ويعرضونها لنكال الله في الآخرة. وهذا تكرر بأساليب أخرى في سور عديدة مكية ومدنية. ويحتمل أن يكون تعبير ﴿ وَالْكَافِرُونَ ﴾ في معنى الجاحدين بنعمة الله الذين يبخلون في الإنفاق من المال الذي رزقهم الله إياه، فهم في ذلك ظالمون لأنفسهم منحرفون عن جادة الحق والإيمان. ويحتمل أن يكون بسبيل تقرير كون الكافرين هم الذين لا ينفقون مما رزقهم الله فيظلمون أنفسهم بالمصير الرهيب الذي سوف يصيرون إليه في الآخرة ؛ حيث لا ينفع المرء إلا عمله دون ما شفاعة أحد أو خلّة مع أحد والله أعلم.
[ ١ ] القيوم : القائم الدائم بالأمر والمراقبة.
[ ٢ ] سنة : الحالة بين اليقظة والنوم، وهي أول النوم.
[ ٣ ] يؤوده : يعجزه أو يشق عليه أو يثقل عليه.
تعليق على آية الكرسي
الآية من جوامع الآيات القرآنية وروائعها في صدد تقرير وحدة الله وكمال صفاته وإحاطته وقدرته. فهو الإله الذي لا إله غيره. الحي الدائم الحياة، والقيم الدائم القيام بأمر خلقه، الذي تنزه عن أي نوع من أنواع الغفلة عن ذلك بما يحدثه النوم أو النعاس، الذي له ما في السموات والأرض، والذي لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ورضائه، والذي يعلم ما بين أيدي كل خلقه وما خلفهم دون أن يكون لأحد إحاطة ما بشيء من علم إلا ما شاء هو، والذي وسع كرسيه السموات والأرض ولا يشق عليه حفظهما، والعلي العظيم الذي لا يداني علوّه وعظمته شيء.
ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآية، ويحتمل أن تكون متصلة بما سبقها. فالله الذي يفعل ما يريد وهو ما قررته الآية السابقة لها هو المنفرد في الألوهية المتصف بجميع صفات الكمال، ويحتمل أن تكون متصلة بما بعدها فالله الذي يجب الإيمان به والكفر بسواه وهذا ما جاء في الآيات التي بعدها هو ذلك المتصف بهذه الصفات وليس ما يمنع أن تكون متصلة بما قبلها وبما بعدها معاً. فالسياق متصل ببعض سواء أكانت الآيات نزلت دفعة واحدة أم متتابعة. أم كان ترتيبها ترتيبا موضوعيا، وهذه الاحتمالات مما تلهم صيغة الآية وموضوعها والآيات السابقة واللاحقة معاً. ولقد عرفت هذه الآية بآية الكرسي، وأثرت أحاديث عديدة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، منها حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكلّ شيء سنامٌ، وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيّدة آي القرآن هي آية الكرسي » ١. وحديث رواه مسلم وأبو داود عن أبي بن كعب قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا المنذر أيّ آية معك من كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم، فضرب على صدري وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر » ٢. وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذرّ جاء فيه :«قلتُ : يا رسول الله أيّ ما أنزل عليك أعظم ؟ قال : آية الكرسي الله لا إله إلا هو الحي القيوم » ٣.
وهذه هي المرة الأولى والوحيدة التي وردت فيها كلمة ( الكرسي ) منسوبة إلى الله تعالى. وقد وردت في سورة ( ص ) منسوبة إلى سليمان عليه السلام، وأصل الكلمة المقعد أو السرير الذي يجلس عليه المرء.
ولقد تعددت الأحاديث والأقوال التي يرويها المفسرون في صفة كرسي الله عز وجل هو كما هو شأنه في صدد العرش والقلم واللوح على ما شرحناه في تفسير سورة القلم والتكوير والبروج. وليس فيما يوردونه عن كرسي الله حديث صحيح، وفيما يوردونه ما لا يخلو من غرابة ولا ينسجم مع صفات الله وتنزهه. فمن ذلك مثلا ما يرويه الطبري عن السدي قال :«السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش، ويجلس الله على العرش والكرسي موضع قدميه ». وحديث يروى عن ابن زيد لم يرد في كتب الصحاح عن النبي قال :«والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا حلقة ملقاة بأرض فلاة ». وحديث يرويه الطبري عن عبد الله بن خليفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن كرسيّه وسع السموات والأرض وإنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع، وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الحديد إذا ركب ».
وإلى جانب هذه الأحاديث وأمثالها يورد المفسرون عن أهل التأويل ما يفيد أن الكلمة مستعملة على سبيل المجاز، وأن المقصود منها بيان عظمة ملك الله وسلطانه. وهذا هو الأظهر المنسجم مع صفات الله وتنزهه كما هو المتبادر. وفي اللغة ( كرس الرجل ) بمعنى كثر علمه. وقد رأى بعضهم بين هذا وبين مقام حكمة كرسيه صلة ما فقال : إن الجملة قد تعني إحاطة علم الله بما في السموات وما في الأرض. ومهما بدا في هذا من تكلف فإنه لا يخلو من وجاهة والله تعالى أعلم.
٢ التاج ٤/١٥.
٣ انظر تفسير ابن كثير وفي هذا التفسير وغيره أحاديث أخرى في آية الكرسي فاكتفينا بما أوردناه.
تعليق على الآية
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
في الآيتين : هتاف بالناس أن لا إكراه في الدين ولا قسر عليه، وأن قد تبين الرشد من الغي والهدي من الضلال بما أنزل الله من آيات بينات فالذي يختار الإيمان ويسلك طريق الرشد ويكفر بالطاغوت فيكون قد نجى نفسه واستمسك بعروة متينة لا تنفصم والله سميع لكل ما يقوله الناس، عليم بنواياهم وأعمالهم. وتقرير تعقيبي : فالله هو ولي الذين يؤمنون به ينصرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والطاغوت هو ولي الذين كفروا بالله يقودهم إلى الظلمات ويبعدهم عن النور وهؤلاء هم أصحاب النار الذين استحقوا الخلود فيها.
وقد روي أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود وكان يريد إكراهه على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وهناك روايات وأقوال أخرى، منها أن نساء الأنصار كن ينذرن إن ولدن ذكرا أن يجعلنه في اليهود أو النصارى ابتغاء طول عمره، فنشأت منهم ناشئة على ذلك، فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومنها أنه كان لأنصاري ابنان تنصّرا على يد تجار من الشام وهاجرا إليها، فأراد أبوهما اللحاق بهما لردهما إلى الإسلام فنزلت ١. وليس شيء من ذلك وارداً في كتب الأحاديث المعتبرة. والانسجام تام بين الآيتين وفحواهما تقريري عام، ويتبادر لنا أنهما غير منقطعتين عن السياق وبخاصة عن آية الكرسي بحيث يرد أن تكون حكمة التنزيل شاءت تنزيلهما مع تلك الآية أو بعدها ؛ لبيان ما في الآية من الدلائل الباهرة على عظمة الله وكمال صفاته ووحدانيته ووجوب عبادته وحده واتباع رسوله الذي أرسله مبشرا بدينه، وأن هذا لا يحتاج إلا رغبة صادقة بدون إكراه بعد أن ظهر الرشد من الغي والهدي من الضلال بهذه القوة والنصاعة. وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحداث التي روتها الروايات قد كانت ترفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلا الآية الأولى كحكم فصل في الموقف فالتبس الأمر على الرواة، والله أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون ويقولونها في مدى الآية الأولى. من ذلك أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب وبغير العرب فلا يجوز إكراههم على الإسلام إذا قبلوا الجزية، وأنها منسوخة بالنسبة لمشركي العرب فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. ومن ذلك أن الآية نزلت قبل الإذن بالقتال، وإن الإذن نسخها بالنسبة للجميع فصار لا يقبل من أحد إلا الإسلام ويكرهون عليه، ثم أذن القرآن بأخذ الجزية من أهل الكتاب وحسب.
وليس شيء من هذه الأقوال وارداً في كتب الصحاح، ولقد عالجنا هذا الموضوع في تعليق مسهب عقدناه في تفسير سورة ( الكافرون ) في صدد حرية التدين في الإسلام لكل ذي نحلة، وانتهينا إلى أن هذا المبدأ المنطوي في سورة ( الكافرون ) ثم في الآية التي نحن الآن في صددها أمر محكم غير منسوخ. وأن قتال المسلمين لغيرهم هو بالنسبة للأعداء المعتدين، وأن على المسلمين أن يكفوا عن قتال عدوهم إذا انتهوا عن موقفهم العدائي والعدواني بالإسلام أو بالصلح كجزية أو بدون جزية حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين دون تفريق بين كتابي وعربي وغير عربي ومشرك، وأيدنا ذلك بالآيات والأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه.
والآيتان في حد ذاتهما جملة تامة، وورود المبدأ القرآني الجليل فيهما وبعد سياق أمر المؤمنين فيه بالقتال والإنفاق في سبيل الله ذو معنى خاص حتى تؤكد محكمية هذا المبدأ كما هو المتبادر.
وفي عبارة ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ ﴾ بعد عبارة ﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ ينطوي تقرير كون الناس لهم عقول وإرادة اختيارية يستطيعون أن يميزوا بها بين الرشد والغي والهدى والضلال وكون اختيار الإيمان أو الكفر بعد ذلك هو من مكتسبات أصحابهما وهم الذين يتحملون تبعاتها.
وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة التي مرت أمثلة عديدة منها كما أنه يدعم المبدأ القرآني الذي ينطوي في الآيات.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥٦:﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٥٦ ﴾ اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢٥٧ ﴾ ﴾.
تعليق على الآية
﴿ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ... ﴾ إلخ
والآية التالية لها
في الآيتين : هتاف بالناس أن لا إكراه في الدين ولا قسر عليه، وأن قد تبين الرشد من الغي والهدي من الضلال بما أنزل الله من آيات بينات فالذي يختار الإيمان ويسلك طريق الرشد ويكفر بالطاغوت فيكون قد نجى نفسه واستمسك بعروة متينة لا تنفصم والله سميع لكل ما يقوله الناس، عليم بنواياهم وأعمالهم. وتقرير تعقيبي : فالله هو ولي الذين يؤمنون به ينصرهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، والطاغوت هو ولي الذين كفروا بالله يقودهم إلى الظلمات ويبعدهم عن النور وهؤلاء هم أصحاب النار الذين استحقوا الخلود فيها.
وقد روي أن الآية الأولى نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود وكان يريد إكراهه على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. وهناك روايات وأقوال أخرى، منها أن نساء الأنصار كن ينذرن إن ولدن ذكرا أن يجعلنه في اليهود أو النصارى ابتغاء طول عمره، فنشأت منهم ناشئة على ذلك، فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام فرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. ومنها أنه كان لأنصاري ابنان تنصّرا على يد تجار من الشام وهاجرا إليها، فأراد أبوهما اللحاق بهما لردهما إلى الإسلام فنزلت ١. وليس شيء من ذلك وارداً في كتب الأحاديث المعتبرة. والانسجام تام بين الآيتين وفحواهما تقريري عام، ويتبادر لنا أنهما غير منقطعتين عن السياق وبخاصة عن آية الكرسي بحيث يرد أن تكون حكمة التنزيل شاءت تنزيلهما مع تلك الآية أو بعدها ؛ لبيان ما في الآية من الدلائل الباهرة على عظمة الله وكمال صفاته ووحدانيته ووجوب عبادته وحده واتباع رسوله الذي أرسله مبشرا بدينه، وأن هذا لا يحتاج إلا رغبة صادقة بدون إكراه بعد أن ظهر الرشد من الغي والهدي من الضلال بهذه القوة والنصاعة. وهذا لا ينفي أن تكون بعض الأحداث التي روتها الروايات قد كانت ترفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتلا الآية الأولى كحكم فصل في الموقف فالتبس الأمر على الرواة، والله أعلم.
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون ويقولونها في مدى الآية الأولى. من ذلك أن حكم الآية خاص بأهل الكتاب وبغير العرب فلا يجوز إكراههم على الإسلام إذا قبلوا الجزية، وأنها منسوخة بالنسبة لمشركي العرب فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل. ومن ذلك أن الآية نزلت قبل الإذن بالقتال، وإن الإذن نسخها بالنسبة للجميع فصار لا يقبل من أحد إلا الإسلام ويكرهون عليه، ثم أذن القرآن بأخذ الجزية من أهل الكتاب وحسب.
وليس شيء من هذه الأقوال وارداً في كتب الصحاح، ولقد عالجنا هذا الموضوع في تعليق مسهب عقدناه في تفسير سورة ( الكافرون ) في صدد حرية التدين في الإسلام لكل ذي نحلة، وانتهينا إلى أن هذا المبدأ المنطوي في سورة ( الكافرون ) ثم في الآية التي نحن الآن في صددها أمر محكم غير منسوخ. وأن قتال المسلمين لغيرهم هو بالنسبة للأعداء المعتدين، وأن على المسلمين أن يكفوا عن قتال عدوهم إذا انتهوا عن موقفهم العدائي والعدواني بالإسلام أو بالصلح كجزية أو بدون جزية حسب ما تقتضيه مصلحة المسلمين دون تفريق بين كتابي وعربي وغير عربي ومشرك، وأيدنا ذلك بالآيات والأحاديث فنكتفي بهذا التنبيه.
والآيتان في حد ذاتهما جملة تامة، وورود المبدأ القرآني الجليل فيهما وبعد سياق أمر المؤمنين فيه بالقتال والإنفاق في سبيل الله ذو معنى خاص حتى تؤكد محكمية هذا المبدأ كما هو المتبادر.
وفي عبارة ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ ﴾ بعد عبارة ﴿ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ ينطوي تقرير كون الناس لهم عقول وإرادة اختيارية يستطيعون أن يميزوا بها بين الرشد والغي والهدى والضلال وكون اختيار الإيمان أو الكفر بعد ذلك هو من مكتسبات أصحابهما وهم الذين يتحملون تبعاتها.
وهذا متسق مع التقريرات القرآنية الكثيرة التي مرت أمثلة عديدة منها كما أنه يدعم المبدأ القرآني الذي ينطوي في الآيات.
[ ١ ] حاجّ : حاجج وجادل.
تعليق على الآية
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ... ﴾ إلخ
في الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة الملك الذي جادل إبراهيم في الله اغتراراً بما كان له من ملك وسلطان، وقد قال له إبراهيم : إن ربي يحيي ويميت، فرد الملك قائلا مغالطاً : أنا أيضا أفعل مثله، فأقتل من أشاء فيموت وأعفو عمن أشاء فيحيا. فعمد إبراهيم إلى حجة لا تتسع للمغالطة فقال له : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب. فبهت الملك الكافر أمام التحدي وعجز، وانتهت الآية بتقرير أن الله لا يهدي القوم الظالمين أي الذين غلبت عليهم صفة الظلم والانحراف.
وجمهور المفسرين ١ على أن هذه المحاججة وقعت بين إبراهيم وبين نمرود ملك بابل في سياق تمرد إبراهيم على الوثنية وإعلانه إيمانه بالله وحده وإسلامه النفس إليه ؛ وقد عزوا ذلك إلى علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم، وهذه القصة ككثير غيرها مما يتصل بإبراهيم غير واردة في سفر التكوين مثل جميع القصص التي وردت في القرآن في صدد مواقف إبراهيم مع أبيه وقومه ومواقفهم معه على ما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها. ولا يمنع هذا أن تكون وردت في أسفار كانت متداولة بين اليهود، بل هذا ما نعتقده على ما شرحناه في المناسبات المماثلة السابقة وتكون القصة والحالة هذه مما يعرفه العرب السامعون.
وورود القصة بعد تقرير صفات الله وعظمته ووضوح الرشد من الغي يلهم أنها قد استهدفت التذكير والعظة وهذا هو شأن القصص القرآنية. كأنما أريد أن يقال : إنه إذا كان أناس يقفون من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله وحده موقف المكابرة والعناد ويعمون عن الرشد مهما أفحمتهم البينات فقد كان ممن سبقهم من يقف مثل هذا الموقف. والفقرة الأخيرة من الآية توثق هذا التوجيه بما فيها من نعي على الظالمين وتنديد بهم نعياً وتنديداً ينطويان على تقرير كون عدم إسعاد الظالمين المنحرفين عن جادة الحق وهدايتهم هو بسبب ما غلب عليهم من خبث وارتكسوا فيه من ظلم وانحراف ؛ حيث يمنعهم ذلك من الاهتداء بهدي الله ونوره. وقد تكون الفقرة منطوية في ذات الوقت على قصد التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا تجاه مواقف العناد والمكابرة التي كان يقفها الظالمون البغاة، وهم أكثر العرب وزعماؤهم في الظرف الذي نزلت فيه الآية، والذي يرجح أنه أوائل العهد المدني.
وفي كتب التفسير بيانات على هامش هذه القصة مروية عن علماء الأخبار من التابعين وتابعيهم مشوبة بالإغراب والخيال. وجاء فيها ما جاء أن اسم هذا الملك هو نمرود بن كنعان، وأنه أول من تجبر وادعى الربوبية. وأنه أحضر سجينين محكومين بالإعدام فعفى عن أحدهما وأعدم الآخر، وكان هذا تصديقا لما قاله إنه هو أيضا يحيي ويميت وأن هذا الملك هو الذي أمر بإلقاء إبراهيم في النار، وأن الله سلط على جيشه بعوضاً ستر السماء فأكل لحومهم وشرب دماءهم، ثم سلط عليه بعوضة دخلة في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ثم هلك. وأنه بنى صرحاً إلى السماء فدمره الله وأن هذا هو ما أشير إليه في آية النحل :﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ﴾ [ ٢٦ ].
وعلى كل حال فإن هذه البيانات قد تؤيد ما قلناه من أن هذه القصص كقصص إبراهيم عليه السلام الأخرى التي لم ترد في سفر التكوين ووردت في القرآن مما كان متداولاً في البيئة العربية عن طريق اليهود على الأرجح، فاقتضت حكمة التنزيل التذكير بها بالأسلوب الذي جاءت به تعقيباً على الآيات السابقة وللمقاصد التي نبهنا عليها والله تعالى أعلم.
[ ١ ] لم يتسنه : لم يتغير من مرّ السنين.
[ ٢ ] ننشزها : نرفعها. وقرئت بالراء بمعنى نحييها أو نطهرها.
تعليق على الآية
﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا... ﴾ إلخ
وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية بقصة ثانية، وهي قصة شخص مرّ على مدينة مدمرة خاوية فتساءل تساؤل المستبعد اليائس كيف يمكن أن يحيي الله هذه المدينة ؟ فأماته الله مئة عام ثم أحياه وسأله كم لبثت ؟ فقال : يوما أو بعض يوم ظنا منه أنه كان نائما. فقال الله تعالى له : بل مئة عام كاملة. وإنك لترى طعامك وشرابك لم يتغيرا طيلة هذه المدة في حين أن حمارك قد مات ولم يبق منه إلا عظام نخرة. وها أنا آمر فتجتمع عظامه ثم تكتسي لحماً، ثم تدب فيها الروح فيكون ذلك آية لك وللناس على قدرة الله على ما تستبعده وتتساءل عنه، وحينئذ اقتنع الرجل بقدرة الله على كل شيء وأعلن اعترافه بها.
وروح الآية وفحواها يلهمان أن الرجل كان مؤمنا وأهلا لوحي الله وخطابه، وأنه قال ما قال في حالة نفسية بائسة.
ويروي المفسرون عن علماء الأخبار أن القصة من قصص بني إسرائيل، وقد رووا عنهم تفصيلات مسهبة لها فيها شيء مما ورد في بعض أسفار العهد القديم المتداولة اليوم مع شيء غير وارد فيها. وفي هذا وذاك إغراب وخيال وخلاصة ذلك أن الذي مرّ بالقرية هو أحد أنبياء بني إسرائيل مع اختلاف في اسمه بين العزير وأرميا بن حلقيا الذي قال بعضهم : إنه الخضر. مع التركيز على رجحان كونه أرميا وكون القرية هي بيت المقدس. وأن قوله كان بعد تدمير بختنصر ملك بابل لهذه المدينة وسبيه أهلها ؛ حيث وقف على أطلالها باكيا نادباً يائساً من عمرانها ثانية. فأماته الله مائة عام مع حفظ جسده من البلى وكان حماره هلك بعده وكان معه زوادة من تين وعنب وماء ثم بعثه الله من موته وأنشر عظام حماره وبعث فيه الروح وهو يعاين ذلك ليثبت له أنه مات مائة عام ؛ حيث ظن أنه نام طول النهار فقط وأيد ظنه عدم تغير زوادته وليثبت له كذلك أن الله قادر على إحياء المدينة كما أحيا الحمار بعد هلاكه وتفتت أعضائه وعظامه. وأن الله لم يلبث أن أمر ملكا عظيما من ملوك الفرس ليرسل قومه ويعمروا بيت المقدس ففعل، وأن ذلك قد تم أثناء موت أرميا فلما أحياه الله، ورأى معجزة الحمار والزوادة ثم شاهد ما كان من تجدد عمران المدينة. وننبه على أن هذه القصة لم ترد في الأسفار، وإنما الذي ورد في الأسفار بكاء أرميا ومراثيه على خراب القدس ثم سماح ملك الفرس الذي قوض مملكة بابل لمن شاء من المسبيين من الإسرائيليين بالعودة إلى القدس وتجديدها ففعلوا ١.
وعلى كل حال فرواية علماء الأخبار من الصدر الأول لهذه القصة بإسهاب استغرق في تفسير الطبري ثلاث عشرة صفحة تدل على أنها مما كان متداولا في أوساط اليهود ثم في البيئة العربية عن طريقهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. ونعتقد أن ذلك مما كان وارداً في بعض القراطيس اليهودية التي لم تصل إلينا.
وفي صدد القصة نرى من واجب المسلم أن يقف عندما اقتضت حكمة التنزيل إيراده وأن يؤمن أنه لا بد لإيرادها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة يمكن أن يكون منها قصد التمثيل على تنوع مواقف الناس من الله تعالى. فالملك الكافر أنكر الله وقدرته واغتر حتى ظن نفسه ندّاً لله وهذا الرجل سارع إلى الاعتراف بقدرة الله حينما رأى الدليل ؛ لأنه حسن النية راغب في الحق. وهكذا تتصل الآية بسابقتها وتتصل الآيتان بالسياق جميعه اتصال تذكير وتمثيل وموعظة وتسرية، وتستحكم الحجة القرآنية على السامعين ؛ لأن ما فيها متسق مع حوادث يعرفونها.
ولقد أُريد صرف هذه القصة إلى مفهوم معنوي ورمزي، ونحن لا نطمئن إلى مثل هذا الأسلوب ولا نرى فيه طائلاً، فالقصة لم تكون مجهولة كما تلهم روح الآية والروايات التي وردت في سياقها معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فأوردت على سبيل التذكير والتمثيل والعظة، والله أعلم.
[ ١ ] فصرهن إليك : اضممهن إليك. ومما قيل في معنى ( صرهن ) قطعهن. من التصرية بمعنى القطع. أو إنها بمعنى إمالة وجوههن إليه لذبحهن ؛ لأن الذبح يكون كذلك.
تعليق على الآية
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى... ﴾ إلخ
وفي هذه الآية إشارة تنبيهية أو تذكيرية إلى قصة ثالثة، حيث سأل إبراهيم ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى بعدما يموتون فسأله عما إذا كان غير مؤمن بقدرته حتى يسأل ذلك فأكد إيمانه ؛ ولكنه أبدى رغبته في الاطمئنان العياني فأمره حينئذ أن يمسك أربعة من الطيور ويذبحها ويقطع أجزاءها ويوزعها على جبال مختلفة ثم يدعوها إليه فتأتي إليه حية مسرعة. وانتهت الآية بخطاب موجه إليه ليعلم أن الله عزيز لا يعجزه شيء، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الصواب والسداد.
ومع أن الآية لم تذكر نتيجة التجربة فإنها منطوية في أسلوبها كما هو المتبادر والمقدر على أن إبراهيم فعل ما أمره الله، وأن الأجزاء تجمعت وعادت إليها الحياة بقدرة الله وسعت إلى إبراهيم ( عليه السلام ).
ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الأخبار روايات وبيانات في صدد محتوى الآية. منها رواية في صيغ عديدة متقاربة تفيد أن إبراهيم عليه السلام رأى جيفة قد بليت وتقسمتها الرياح والسباع والجوارح فقال : سبحان الله كيف يحيي الله هذه. أو قال : ربّ قد علمت أنك قادر على ذلك فأرني كيف يكون. ومنها أنه لما انتهى من محاججة الملك الكافر وقع في نفسه أن يسأل الله كيف يحيي الموتى. ومما روي في صدد تنفيذ الأمر أن الله أمره أن يأخذ ديكاً وطاووساً وغراباً وحمامة ويقطعها ويخلط لحومها بريشها ودمائها ويجعل على كل جبل جزءاً من هذا الخليط ثم يناديها ففعل فأخذت أجزاء كل طير تتجمع حتى تم التجمع ثم دبت فيها الحياة وجاءت إليه ساعية.
وليس شيء مما رواه المفسرون وارداً في كتب الصحاح، ولكن هذه الينات المروية من صدر الإسلام تفيد أن القصة مما كان متداولاً في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره. وفي الإصحاح الخامس عشر من سفر التكوين المتداول اليوم قصة فيها شيء من التشابه مع هذه القصة خلاصتها أن الله لما بشر إبراهيم بأن نسله سيكون كثيراً لا يحصى، قال له : وكيف أعرف ذلك وأنا عقيم، وليس لي وريث من صلبي ؟ فقال له : خذ عجلة ثنية وعنزة ثنية وكبشا ثنياً ويمامة وشطرها أنصافا، ثم اجعل كل شطر قبالة صاحبه وتقف القصة في السفر عند هذا الحد.
ومهما يكن من أمر فيمكن أن يقال : إن القصة انطوت على موقف نبي من أنبياء الله المعروفين أبدى رغبة في الاطمئنان العياني لقدرة الله فحقق الله رغبته. ومن الجائز ونحن نرجح ذلك أن تكون القصة التي وردت في سفر التكوين شيئا مشابهاً لها كانت مما يتداوله اليهود في أسفار أخرى وأن سامعي القرآن كانوا يعرفونها عن طريقهم.
وفي صدد القصة ذاتها نقول هنا كما قلنا قبل : إن من واجب المسلم أن يقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيراده بالأسلوب الذي وردت به وأن يؤمن بأن في ذلك حكمة قد تكون أو قد يكون منها التذكير بموقف آخر من مواقف المؤمنين بالله وقدرته السامعين يعرفونه لأحد عظام أنبياء الله الذين كان ملء سمعهم، وكانوا ينتسبون إليه ليكون فيه العظة والعبرة لهم ثم لسامعي القرآن وقارئيه عامة، والله تعالى أعلم.
ونرجح أن القصص الثلاث نزلت متتابعة ووضعت في ترتيبها بسبب ذلك، بل لا نستبعد أن تكون نزلت دفعة واحدة لتكون بمثابة تعقيب على الآيتين [ ٢٥٦ و٢٥٧ ] وبينهما لبيان مواقف متنوعة لكافر ومؤمنين، والله تعالى أعلم.
وهذه القصة والتي قبلها تنطويان على تبرير الرغبة في الطمأنينة والاستزادة من معرفة آلاء الله ومشاهد عظمته وبراهين قدرته إذا لم تكن منبعثة عن خبث ومكر وجحود ومكابرة. فليس ما يمنع المؤمن من ذلك وليس في هذا ما يمكن أن يكون دليلاً أو مظهراً على شك المؤمن في إيمانه بالله وقدرته. فالشك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا وكل ما هناك أنه يصح أن يود المؤمن رؤية ما يجعل يقينه الغيبي يقيناً عيانياً. ولقد روى البخاري ومسلم حديثاً نبوياً جاء فيه :«نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ».
وروى المفسرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حينما رأى ناساً يظنون أن إبراهيم شكّ في قدرة ربّه وإيمانه به، وأوّلوا الحديث على ضوء هذه الرواية بقصد نفي الشك عن إبراهيم وكأنما أراد أن يقول نحن لا نشك فأولى بإبراهيم أن لا يشك ١.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
[ ٢ ] الأذى : هنا بمعنى أي عمل أو قول أو إشارة فيها جرح نفس المتصدق عليه وأذيتها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
[ ٤ ] وابل : المطر الكثير المنهمر.
[ ٥ ] صلداً : أجرد أو أملس.
[ ٦ ] لا يقدرون على شيء مما كسبوا : لا يحصلون على شيء مما زرعوه ولا ينتفعون به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
[ ٨ ] طل : الرذاذ أو المطر الخفيف أو الندى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
[ ١١ ] ولا تيمموا : ولا تقصدوا.
[ ١٢ ] الخبيث : هنا بمعنى الشيء الرديء من الثمر.
[ ١٣ ] إلا أن تغمضوا فيه : إلا أن تأخذوه على كره وغضاضة إذا أهدي أو أعطي لكم أو تبخسون ثمنه عن ثمن الجيد حينما تتقاضون مالكم على أصحابها من دين وحقوق.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
على الجهاد. وقيل إنها بمعنى الذين حصروا أو حوصروا من العدو في أرضه.
[ ١٦ ] ضرباً في الأرض : بمعنى سعياً في سبيل الرزق.
[ ١٧ ] التعفف : عدم الطلب والسؤال.
[ ١٨ ] إلحافاً : تشديداً بالسؤال والطلب.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦١:﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦١ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً [ ١ ] وَلاَ أَذًى [ ٢ ] لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٦٢ ﴾ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ﴿ ٢٦٣ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [ ٣ ] عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ [ ٤ ] فَتَرَكَهُ صَلْداً [ ٥ ] لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ [ ٦ ] وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٦٤ ﴾ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [ ٧ ] أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [ ٨ ] وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿ ٢٦٥ ﴾ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ [ ٩ ] فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿ ٢٦٦ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ [ ١٠ ] مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ [ ١١ ] الْخَبِيثَ [ ١٢ ] مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [ ١٣ ] وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿ ٢٦٧ ﴾ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴿ ٢٦٨ ﴾ يُؤتِي الْحِكْمَةَ [ ١٤ ] مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ﴿ ٢٦٩ ﴾ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ﴿ ٢٧٠ ﴾ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿ ٢٧١ ﴾ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٢ ﴾ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ [ ١٥ ] لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ [ ١٦ ] يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ [ ١٧ ] تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً [ ١٨ ] وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿ ٢٧٣ ﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٤ ﴾ ﴾.
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
تعليقات على الآية
﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ... ﴾ إلخ
وما بعدها من [ ٢٦١-٢٧٤ ]
في هذه الآيات :
١- تمثيل لأجر الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهم كمن زرع زرعاً الحبة منه تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وتعقيب على ذلك بسبيل الحثّ، فالله يضاعف أجر الأعمال الصالحة ما يشاء من فضله وهو واسع الفضل عليم بأعمال الناس ونواياهم.
٢- تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من دون منّ ولا أذى. سواء أكان بالإشارة أم بالكلام أم بالعمل، فهؤلاء لهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يلقوا لديه ما يخيفهم أو يحزنهم.
٣- ونهي عن المنّ والأذى وتنبيه على أن الكلمة الطيبة وإظهار الرأفة والعاطفة للمحتاج إلى الصدقة خير من الصدقة إذا أعطيت مع المنّ والأذى، وأن الله غني عن مثل هذه الصدقات حليم لا يتعجل بالغضب على مستحقه الذي يمنّ ويؤذي في سياق ما يعطيه من صدقات.
٤- وتشديد ثان في النهي عن ذلك فهو مبطل لأجر الصدقة، وحري بالمؤمنين أن لا يصدر ذلك منهم. ومثل الذي يحدث منه كمثل من ينفق ماله رياء، ولا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر، وتمثيل صدقات هؤلاء وأولئك بالتراب القليل الذي تحته صخر فمهما نزل عليه من وابل المطر لا يصلح للنبات والنماء ولا يلبث الوابل أن يجرفه وتظهر من تحته الصخرة صلداء ملساء، ولا يمكن أن ينتفعوا بأي شيء مما أنفقوه ؛ لأنه ليس صادراً منهم عن حبّ التقرب إلى الله وابتغاء الخير لذاته وهؤلاء هم جاحدون ساءت نياتهم وخبثت سرائرهم فليس لهم إلى هدى الله ورضائه من سبيل.
٥- وتمثيل للذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ورضائه وإيقاناً ورغبة صادقة في فعل الخير فهم كأرض بستان سمينة جيدة تنبت نباتها حسنا وتؤتي أكلها مضاعفاً سواء أكان المطر الذي ينزل عليها وابلاً أو طلاً.
٦- وتساؤل على سبيل التمثيل عما إذا كان أحد يودّ لنفسه أن تكون له جنة من نخيل وأعناب جيدة النماء والثمر وفيها المياه الكافية فتهب عليها ريح سموم فتحرقها في وقت يكون فيه في آخر عمره غير مستطيع إصلاح ما فسد منها وله ذرية ضعفاء ليس لهم طاقة على هذا الإصلاح، كأنما أريد بذلك تشبيه الإنفاق رياءً ومع المنّ والأذى كالنار المحرقة التي تعصف بأجره حين يكون في موقفه الحرج أمام الله في ظرف لا يكون إمكان لتلافي الأمر فيه.
٧- وأمر موجه إلى المسلمين بوجوب التصدق من أحسن ما يكون عندهم من مال وغلّة. ونهي عن قصد اختيار الرديء الفاسد الذي لا يقبلون هم أنفسهم أن يأخذوه إلا بثمن بخس ومع الغضاضة والاستكراه. وتنبيه على أن الله غني عن مثل هذه الصدقات في حين أنه يحمد لمستحق الحمد عمله الطيب. وإشارة تذكيرية إلى أن ما في أيديهم هو مما رزقهم إياه الله فيجب عليهم الإنفاق مما يسر لهم من الكسب ومن ثمرات الأرض الطيبة.
٨- وتنبيه على أن الإمساك أو الإنفاق من الخبيث الرديء دون الطيب إنما يكون استجابة لوسوسة الشيطان الذي يخوف المرء من الفقر حتى يمنعه عن الإنفاق والذي لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء والمعاصي. في حين أن الله إذ يأمر بالإنفاق من طيب المال وبدون أذى ولا رياء ويحثّ عليه إنما يدعوهم إلى ما فيه خيرهم واعداً إياهم بالرحمة والغفران وزيادة الفضل، وأنه واسع الفضل عليم بنوايا الناس وأعمالهم.
٩- وتنويه بالذين يفهمون الأمور حق الفهم فذلك هو الحكمة التي يهبها الله لمن يشاء، ومن رزقها فقد رزق الخير الكثير ولا يرزقها وينتفع بها إلا ذوو العقول النيرة والقلوب السليمة.
١٠- وتقرير بأن الله يعلم بكل نفقة ينفقها الناس وبكل نذر يقيدون به أنفسهم في سبيل الخير والبرّ والقربى. ولن يكون للظالمين المجرمين والأشرار نصير عند الله كأنما تحت الجملة القرآنية على حسن النية في الإنفاق والنذور ووفاء الصدقات والنذور التي يقطع المرء على نفسه عهداً بإعطائها دون بخس ولا تقصير.
١١- وإشارة إلى أن الصدقات هي فضيلة وخير وقربى في كل حال، سواء أظهرها أصحابها أم أخفوها وهم يعطونها للمحتاجين. واستدراك بأن عطاءها خفية أفضل، وتنبيه على أن الله خبير بأعمال الناس ونواياهم ويكفر عن الصادقين المخلصين ذنوبهم وهفواتهم.
١٢- وخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى السامع إطلاقا بأنه ليس عليه أن يهدي الناس جميعاً فالهدى هدى الله. والتفات في الخطاب إلى المسلمين : فمما ينفقونه إنما هو لخيرهم إما ما كان ابتغاء وجه الله، وأن أجرهم عليه يوفّى دون بخس أو نقص.
١٣- وتنبيه على وجوب الاهتمام لأمر فقراء المسلمين الذين حبسوا على سبيل الله ولم يعد في إمكانهم التكسب والارتزاق من جهة وهم متعففون لا يتشددون في السؤال من جهة أخرى. فواجب إعطاء هؤلاء أعظم وألزم والله عليم بما ينفقه الناس على أمثالهم وموفيهم عليه أجورهم.
١٤- وتنويه أخير بالذين ينفقون أموالهم في كل حال بالليل وبالنهار وبالسر وبالعلن فلهم أجرهم العظيم عند الله، ولن يكون لهم ما يخيفهم أو يحزنهم.
وننبه على أن الآيات وإن كانت بدأت بآية فيها تنويه بالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وحثّ على ذلك، فإن فيها ما يفيد أن التنويه والحثّ شاملان للذين يتصدقون على الفقراء مطلقاً بحيث يصح أن يقال : إن القرآن اعتبر هذا أيضا إنفاقاً في سبيل الله.
وبذلك تكون الآيات فصلاً رائعاً في الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء وفضائل ذلك ومستحباته ومكروهاته وآدابه وشروطه. مع التنبيه على أن المتبادر من روح الآيات وفحواها أنها ليست في صدد الزكاة الواجب أداؤها، بل هي في صدد الإنفاق بصورة مطلقة بحيث تشمل الواجب والتطوع معاً.
ولقد روى المفسرون روايات في مناسبة نزول بعض هذه الآيات فروى الخازن أن الآية [ ٢٦١ ] نزلت في مناسبة ما بذله عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما من مال طائل في تجهيز غزوة تبوك. وروى الطبري وغيره أن قوماً من الأنصار كانوا يأتون بالخشف من التمر فيجعلونه فيما يعطونه من زكاة أو يعلقون أقناء فيها خشف في حبل بين اسطوانتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأكل منها الفقراء فنزلت الآية [ ٢٦٧ ] لتنهى عن ذلك. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا يتصدقون من ربا دخل عليهم في الجاهلية. وروى الطبري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمنع الصدقات عن المحتاجين من المشركين ليحملهم على الإسلام أو بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالنسبة لأقاربهم وأنسبائهم فأنزل الله الآية [ ٢٧٢ ] في صدد إجازة إعطاء الصدقات للمحتاجين ولو كانوا غير مسلمين. وروى ابن كثير أن الآية [ ٢٧١ ] نزلت في التنويه بأبي بكر وعمر لتسابقهما إلى إعطاء الصدقات وفعل الخير. وروى الطبري وغيره أن الآية [ ٢٧٣ ] نزلت في أهل الصفة، وهم جماعة من فقراء المسلمين الغرباء كانوا يبقون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيشون مما يعطيهم إياه المسلمون، ويتقدمون للخروج في كل سرية أو غزوة جهادية ويتعففون عن السؤال ولا يستطيعون السعي في سبيل الرزق. وهناك رواية أخرى تذكر أنها نزلت في جماعة من المسلمين حال عداء الكفار الذين هم خارج المسلمين دون سعيهم وخروجهم للكسب. وروى الطبري أن الآية [ ٢٧٦ ] عنت أصحاب الخيل المربوطة في سبيل الله ؛ لأنهم ينفقون على دوابهم. وروى الطبرسي أن هذه الآية نزلت تنوي
[ ٢ ] الذي يتخبطه الشيطان من المس : تشبيه بحالة المصروع ؛ حيث كان الناس من القديم يعتقدون أن الصرع هو مسّ جني فخوطبوا بالتعبير المألوف عندهم.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [ ١ ] لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ ٢ ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢٧٥ ﴾ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [ ٣ ] وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿ ٢٧٦ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٧ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٧٨ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [ ٤ ] وَإِن تُبْتُمْ [ ٥ ] فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٩ ﴾ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [ ٦ ] إِلَى مَيْسَرَةٍ [ ٧ ] وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٢٨٠ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿ ٢٨١ ﴾ ﴾.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
تعليق على جملة
﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ... ﴾
لقد كانت هذه الجملة موضوع جدل كلامي بين أهل السنة والمعتزلة ؛ حيث أثبت الأولون حقيقتها وأنكرها الآخرون. ومما قاله الزمخشري : إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية وتابعه في ذلك الطبري والبيضاوي. ولقد أورد المثبتون أحاديث نبوية منها ما ورد في الصحاح ولكنا لم نلمح منها ما في الجملة من مدى ومعنى. مثل حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسُّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها واقرأوا إن شئتم ﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [ التاج ٤/٦٥ ] [ آل عمران : ٣٦ ]. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب » ١٤.
ولقد قلنا إننا لم نلمح في الأحاديث أنها متساوقة مع مدى الجملة ؛ حيث نرى أن الجملة عنت الصرعة التي يرتمي بها المصاب على الأرض وتجعله يتخبط، والمتداول بين الناس أن هذا من مسّ الشيطان. ولقد عقد القاسمي في تفسيره فصلا طويلا بذلك استشهد بأقوال الإمامين ابن تيمية وابن الجوزي وبفصل للبقاعي بسبيل إثبات مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية، وأورد حديثاً طويلاً أورده البقاعي في ذلك من إخراج الدارمي لم يرد في كتب الصحاح، ونرى التوقف فيه أولى ؛ لأن فيه إغراباً شديداً. ومما ساقه البقاعي بسبل إثبات حقيقة ذلك ما ورد في الأناجيل المتداولة اليوم من حوادث عديدة نذكر ما كان من إخراج عيسى عليه السلام الجنّ والشياطين من المرضى المصابين بالصرع والجنون، والأناجيل المتداولة تورد روايات فيها غثّ وسمين وحقيقة وخيال وذكريات، ولا يصح سوقها بسبيل إثبات ذلك.
ولقد تصدى رشيد رضا لهذه المسألة وأشار إلى الخلاف فيها بين أهل السنة والمعتزلة فقال : إن الآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه، وإنه ثبت عند أطباء العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الجديدة، وقد تعالج بالإيهام. وإننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل عليه في العلم لأجل تصحيح الروايات الأحادية، وإن القرآن أرفع من أن يعارض العلم.
وهذا كلام سديد من دون ريب، وقد يصح أن يضاف إليه أولاً : إن الآية في مقامها لا تتحمل هذا الجدل. وإن كلام الزمخشري ومن تابعه في الأصل متسق مع ما تكرر كثيراً في القرآن من كون حكمة التنزيل جرت على مخاطبة سامعيه للمرة الأولى بما هو معروف ومسموع ومعتقد به عندهم، وعند الأمم الأخرى التي يتصلون بها أو يعرفون أخبارها.
وثانيا : إنا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة من أن الإيمان بما أخبره القرآن والأحاديث الصحيحة من أمور الجن والشياطين واجب على المسلم شأن سائر الأخبار الغيبية التي تذكر في القرآن والأحاديث مع إيكال ما لا يدركه العقل الإنساني من ذلك إلى الله سبحانه والقول ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ [ آل عمران : ٧ ] ومع الإيمان بأنه لا بد لذكر ما ذكر بالأسلوب الذي ذكر به في القرآن والأحاديث الصحيحة من حكمة، ولعلّ من ذلك هنا قصد التنديد والإنذار، وليس هذا الأمر يعد من الأمور المحكمة التي لا يسع المسلم جهلها، وليس له ولا عليه أن يتكلف فيها على ما نبهنا في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
وإنه لمن واجب علماء المسلمين ودعاة الإصلاح وأولياء الأمر الصالحين أن يتداعوا لإيجاد مخرج للمسلمين من هذا البلاء العام الذي يرتكسون فيه ويعيشون خلاله في حالة حرب مع الله ورسوله وفي لعنة الله ورسوله والعياذ بالله.
وبعض المؤولين قالوا : إن جملة ﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ﴾ [ ٢٨٠ ] هي في صدد الربا موضوع الكلام وإنها بسبيل الأمر بالتأجيل بدون زيادة وليست في صدد الدين بصورة عامة الذي ينشأ عن العقود المشروعة من بيع وشراء وإجارة الخ. وبعضهم قالوا : إنها تشمل الدين مطلقاً والجملة مطلقة بحيث يجعل ذلك الرجحان للقول الثاني فيما يتبادر لنا. ولا سيما إن المفسرين يوردون أحاديث نبوية في ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن أسعد بن زرارة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سرّه أن يظلله الله يوم لا ظل إلا ظلّه فلييسّر على معسر أو ليضع عنه ». وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن بريدة قال :«سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من أنظر معسراً فله بكلّ يوم مثله صدقة وفي رواية في كلّ يوم مثلاه صدقة ». وحديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعلّ الله أن يتجاوز عن فتجاوز الله عنه ». وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرّج عن معسر ». وحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن حذيفة قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت لي في الدنيا ؟ قال : ما عملت لك يا ربّ مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها. قالها ثلاث مرات ثم قال عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر فيقول الله عز وجل أنا أحقّ من ييسّر ادخل الجنة ». وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان بن عفان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أظلّ الله عبداً في ظلّه يوم لا ظل إلا ظلّه من أنظر معسراً أو ترك لغارم » ١٥ وحديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من أنظر معسراً أو وضع عنه وقاه الله من قيح جهنم » ١٦.
وبعض هذه الأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة، ولكن هذا لا يمنع صحتها. وهي متسقة مع النص القرآني، وفيها من الحثّ على التسامح والبرّ والتنويه بفضيلة إنظار المعسرين والتساهل معهم ما يتساوق مع التلقين القرآني.
ولقد أورد ابن كثير حديثاً رواه الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب وحديثا رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في صيغتين متقاربتين عن عمر بن الخطاب أنه خطب المسلمين يوما فقال :«إني لعلّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم »، وجاء في الصيغة الثانية :«إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسّرها لنا فدعوا الربا والريبة ». والحديث بصيغته لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة، ونحن نتوقف في هذا الحديث. فالله سبحانه قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ النحل :[ ٤٤ ] ومن واجب المسلم أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قام بهذه المهمة. والأحاديث الصحيحة العديدة في الربا ومداه تصح أن تورد كدليل على ذلك. ولا يبدو في الآيات غموض ولا إشكال والله تعالى أعلم.
ولقد كانت جملة ﴿ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ موضوع جدل مذهبي كلامي ؛ حيث أنكر الزمخشري وفقاً لمذهب المعتزلة حقيقة الأمر وقال : إن الآية تعبير عما كان يزعم العرب في الجاهلية، وغمز الذين يعتقدون حقيقة ذلك وقال : إن إنكار ذلك عندهم كإنكار المشاهدات. وقد تابعه البيضاوي والطبرسي في قوله، وحيث ردّ أهل السنة على هذا القول وأوردوا بعض الأحاديث التي منها ما ورد في الكتب الصحيحة من ذلك حديث رواه الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخاً من مسّ الشيطان إيّاه إلا مريم وابنها. واقرأوا إن شئتم ﴿ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ ١٧ [ آل عمران : ٣ ]. وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب » [ نفسه ]. ومما لم يرد في تلك الكتب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«التقطوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشّياطين » ١٨. وقد قابل القاضي ابن المنير غمز الزمخشري بالشتيمة فقال : هذا خبطهم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد عقد القاسمي فصلاً طويلاً في تفسيره للآية على هذه المسألة واقتبس من كتاب زاد المعاد لابن القيم نبذة طويلة فيها استشهاد ببعض أقوال وأفعال الإمام ابن تيمية بسبيل إثبات صحة وقائع مسّ الشيطان للجسم الإنساني وحدوث الصرع والجنون نتيجة لذلك وإخراج الشيطان منه بالرقى والآيات القرآنية. واقتبس القاسمي كذلك نبذة من مؤلف للعلامة البقاعي بسبيل تأييد ذلك فيها أولا بعض أحاديث نبوية أخرجها الدارمي ولم ترد في الكتب الصحيحة منها حديث مروي عن ابن عباس جاء فيه :«إن امرأة جاءت بابن لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابني به جنون وإنه يأخذه عند غدائنا وعشائنا فيخبث علينا. فمسح رسول الله صدره ودعا فثعّ ثعّة وخرج من صدره مثل الجرو الأسود فسعى ». وحديث عن جابر قال :«خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فركبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله بيننا كأنما على رؤوسنا الطير تظلّنا فعرضت له امرأة معها صبي لها فقالت : يا رسول الله، إن ابني هذا يأخذه الشيطان كلّ يوم ثلاث مرات، فتناول الصبي فجعله بينه وبين مقدم الرحل ثم قال : اخسأ يا عدوّ الله أنا رسول الله ثلاثا، ثم دفعه إليها ». وذكر البقاعي في نبذته أن هذا الحديث أخرجه الطبراني من وجه آخر وبين أن السفر غزوة ذات الرقاع، وأن ذلك كان في حرة واقم، ومما جاء في صيغة الطبراني عن جابر :«فلما قضينا سفرنا مررنا بذلك المكان فعرضت لنا المرأة ومعها صبيّها ومعها كبشان تسوقهما فقالت : يا رسول الله اقبل مني هديتي، فوالذي بعثك بالحق ما عاد إليه بعدُ. فقال : خذوا منها واحداً وردّوا عليها الآخر ». وقال البقاعي في نبذته : إن هذا الحديث رواه أيضا البغوي في شرح السنة عن يعلي بن مرة رضي الله عنه. وذكر القاسمي أن البقاعي ساق بعد ذلك ما جاء في الإنجيل قال : وذلك كثير جدا. يعني ما وقع للمسيح عليه السلام من إخراج ا
١٥ النصوص السابقة من تفسير ابن كثير.
١٦ من تفسير القاسمي.
١٧ التاج ٤/٦٥.
١٨ حاشية ابن المنير على تفسير الزمخشري الجزء ١، الطبعة الأولى، المكتبة التجارية.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [ ١ ] لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ ٢ ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢٧٥ ﴾ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [ ٣ ] وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿ ٢٧٦ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٧ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٧٨ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [ ٤ ] وَإِن تُبْتُمْ [ ٥ ] فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٩ ﴾ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [ ٦ ] إِلَى مَيْسَرَةٍ [ ٧ ] وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٢٨٠ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿ ٢٨١ ﴾ ﴾.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
[ ٥ ] وإن تبتم : فإن كففتم عن تعاطي الربا.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [ ١ ] لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ ٢ ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢٧٥ ﴾ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [ ٣ ] وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿ ٢٧٦ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٧ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٧٨ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [ ٤ ] وَإِن تُبْتُمْ [ ٥ ] فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٩ ﴾ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [ ٦ ] إِلَى مَيْسَرَةٍ [ ٧ ] وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٢٨٠ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿ ٢٨١ ﴾ ﴾.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
[ ٧ ] ميسرة : حالة اليسر.
﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا [ ١ ] لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [ ٢ ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿ ٢٧٥ ﴾ يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [ ٣ ] وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴿ ٢٧٦ ﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿ ٢٧٧ ﴾ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿ ٢٧٨ ﴾ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [ ٤ ] وَإِن تُبْتُمْ [ ٥ ] فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ ﴿ ٢٧٩ ﴾ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ [ ٦ ] إِلَى مَيْسَرَةٍ [ ٧ ] وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿ ٢٨٠ ﴾ وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴿ ٢٨١ ﴾ ﴾.
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
تعليق على آيات الربا
في هذه الآيات :
١- تمثيل فيه تشنيع وإنذار للذين يأخذون ويأكلون الربا. فهؤلاء حينما يقومون من قبورهم ليوم القيامة يقومون يتخبطون كما يتخبط المصروع من مسّ الشيطان. وتعليل لهذا بأنهم استحلوا الربا وقالوا : إنه كالبيع في حين أن الله أحلّ البيع وحرّم الربا.
٢- وإنذار للذين كانوا يتعاطون الربا قبل نزول الآيات : فالذين يتعظون بأمر الله وينتهون عن الربا بعد سماع النهي، فما أخذوه سابقاً يبقى لهم وأمرهم موكول إلى الله، ومن لم ينتهوا ويتوبوا فإنهم يستحقون الخلود في النار.
٣- وتقرير رباني في صدد الربا والصدقات : فالله تعالى يمحق الربا ولا يبارك فيه في حين أنه ينمي المال الذي يتصدق منه ويضاعف أجر المتصدقين. والله لا يحب الكافرين الآثمين الذين يستحلون الحرام ويرتكبون الآثام.
٤- وتنويه بالمؤمنين الصالحين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ولا يستحلون الحرام ولا يرتكبون الآثام، ومعنى الجملتين مندمج في جملة :﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾ فهؤلاء لهم أجرهم عند ربهم ولن يكون لهم ما يخيفهم ويحزنهم.
٥- وخطاب موجه إلى المؤمنين يؤمرون فيه بتقوى الله والوقوف عند أوامره ونواهيه والتنازل عما لهم في ذمم الناس من ربا إذا كانوا مؤمنين حقا. والاكتفاء باستيفاء رؤوس أموالهم فقط وإنذار لهم إذا لم يتوبوا ويكفوا عن تعاطي الربا بأنهم يكونون كمن أعلن الحرب على الله ورسوله، أو كمن أعلن عليه الله ورسوله حرباً.
٦- وأمر آخر موجه إليهم أيضا : فعليهم أن يمهلوا المدين المعسر إلى أن يوسر وأن لا يرهقوه. وإذا تصدقوا وتنازلوا عن دينهم في حالة العسر فهو خير لهم.
٧- وأمر آخر لهم باتقاء ويلات وبلاء اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله وتوفّى فيه كل نفس ما كسبت دون نقص ولا بخس. ويندمج في الآية معنى أن هذا الاتقاء إنما يكون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
٨- وجملة ﴿ وَإِن تُبْتُمْ ﴾ تفتح باب التوبة لمن يستيقظ ضميره فيتقي الله وينتهي عن أكل الربا وتعاطيه. وقد يقال على ضوء ذلك : إن الخلود في النار الذي ذكر في الآية [ ٢٧٥ ] هو للمصرّ على فعل ما حرّم الله حيث يكون بذلك قد استحلّ الحرام فاستحقّ الخلود في النار.
والآيات فصل تام في الربا وتحريمه، ويلمح مع ذلك شيء من الصلة بينها وبين الآيات السابقة من ناحية الحثّ على التصدق على المعسرين ومن ناحية تقرير كون الله يمحق الربا ويتلفه بينما يزيد مال المتصدقين وينميه. وقد تكون نزلت لحدتها ووضعت في ترتيبها، إما بسبب نزولها بعد الفصل السابق أو للتناسب الملموح بينها وبين ما قبلها.
ومن الجدير بالتنبيه أن في سورة الروم آية ذكر فيها الربا والزكاة على سبيل المقارنة واحتوت الكراهية للأول والتنويه بالثانية وهي :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴾ الروم :[ ٣٩ ] حيث يظهر تساوق الأسلوب القرآني بين ما جاء هنا وما جاء هناك، وتبدو من خلال ذلك الصلة بين هذا الفصل وما قبله.
وقد روى المفسرون ١ أن الآية [ ٢٧٨ ] نزلت في مناسبة مطالبة العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد أو رجل من بني المغيرة لدين لهما بالربا عند بعض الثقفيين قبل إسلامهما فرفع الأمر إلى النبي فنزلت. وأن الآية [ ٢٨١ ] آخر آية نزلت من القرآن. وقالوا : كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل دين من بيع إلى أجل فإذا حلّ الأجل ولم يكن عنده قضاء طلب المدين من الدائن تأخير الأجل مقابل زيادة في الدين وهذا هو الربا.
والذي نلحظه أن الآيات فصل تام منسجم سبكاً وموضوعاً، ونرجح أنه نزل دفعة واحدة ولا ينفي هذا أن يكون تشدد أصحاب الأموال المرابين من المسلمين في طلب أموالهم من مدينين معسرين من الأسباب المباشرة لنزول الآيات.
ويتبادر لنا أن الآية الأخيرة منسجمة مع سابقاتها انسجاماً وثيقاً، ولذلك نتوقف في رواية كونها لحدتها آخر القرآن نزولاً، ونرجح أنها نزلت مع هذه الآيات. فإذا كان لرواية نزولها كآخر آيات القرآن أصل فالمتبادر أن ذلك يشمل الفصل جميعه. وقد روى البخاري ٢ حديثاً في هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه :«آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا» حيث يمكن أن يكون قصد بذلك آيات الفصل كلها ؛ لأنها تدور على الربا وحيث يمكن أن يقال إن الفصل إلى آخر الآية [ ٢٨١ ] نزل دفعة واحدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد روي أن النبي قال في حجة وداعه فيما قال ٣ :«إن كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كلّه» وهذا مما يستأنس به كذلك لأن العباس آمن قبل الفتح المكي ثم هاجر عقبه إلى المدينة فلو كانت الآيات نزلت قبل حجة الوداع لما كان للعباس ربا يطالب به ؛ لأنه لا يمكن إلا أن يتقيد بأمر الله المشدد. ومع هذا فإننا ننبه على أن هناك روايات تذكر غير هذه الآية كآخر ما نزل من القرآن على ما سوف ننبه إليه في مناسبته.
والآيات شديدة وحاسمة في تحريم الربا كما هو ظاهر في صيغتها، ومع ما قال المفسرون في تعريف ربا الجاهلية فقد أوردوا ٤ أحاديث وروايات وأقوالاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بعضها ورد في كتب الأحاديث الصحيحة تتضمن تعريفاً بالربا في الإسلام، وهو أخذ زيادة في مال متجانس كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة كيلاً أو وزناً أو نوعاً بدون مقابل. وسواء أكانت المعاملة فورية أو مؤجلة فإذا أعطى امرؤ أمرا آخر ذهباً أو فضة أو برّاً أو تمراً، وأخذ بدل الذهب ذهباً وبدل الفضة فضة وبدل البرّ برًّا وبدل التمر بزيادة ما في نوع أو وزن فالزيادة هي الربا الذي تحرمه الآيات ولو كان الأداء ديناً مؤجلاً. ولا مانع من أخذ الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبرّ بالبرّ إذا روعي في ذلك المساواة التامة جنساً ووزناً وكيلاً. أما إذا أعطى امرؤ ذهبا فتقاضى بدله فضة أو شعيراً أو تمراً أو أعطى شعيراً فتقاضى بدله برّا أو نقداً من ذهب أو فضة بزيادة ما فالزيادة في الوزن والكيل والنوع هي ربح حلال ؛ لأن العملية تكون عملية بيع سواء أكانت فورية أو مؤجلة. ويطلق الفقهاء على الربا الذي يكون في العملية الفورية ( ربا التفاضل ) وفي العملية المؤجلة ( ربا النسيئة ). ومن هذه الأحاديث حديث رواه الخمسة عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الذهب بالذهب والفضة بالفضة وبالبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وزاد في رواية فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء» ٥. وحديث آخر رواه الخمسة كذلك عن مالك بن أوس قال : التمستُ صرفاً بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال : حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع فقال : لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه : الذهب بالذهب رباً إلا هاءَ وهاءَ والبرُّ بالبرّ رباً إلا هاءَ وهاءَ والشعير بالشعير رباً إلا هاءَ وهاءَ والتمرُ بالتمر رباً إلا هاءَ وهاءَ» ٦.
ويفهم من روح الآيات أن الناس كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يرون الزيادة ربحاً سواء أكان هناك مماثلة في الجنس والوزن أم لا ويعتبرون العملية بيعاً وشراء، فنبهت الآيات على الفرق بين العملين ؛ لأن الزيادة في البيع والشراء في السلع المختلفة هي مقابل جهد ووقت ومال وتفرغ، في حين أن الزيادة في السلع والأجناس والمقادير المتماثلة هي بدون عوض ما.
كذلك يفهم من روح الآيات أنه كان للحاجة والإعسار أثر في تعاطي الربا ولم يكن تقاضيه معاملة بيع وشراء وتجارة، أي أن المرء كان يحتاج إلى مال ينفقه في شؤونه الخاصة أو سلعة يحتاج إليها في معيشته فيستدينها على أن يردها من جنسها بعد مدة بزيادة في المقدار وقد روت الروايات أن الربا كان يتضاعف بسبب الإعسار إلى أن يبلغ أضعافاً مضاعفة، ويستغرق جميع مال المدين وما في حيازته. وإلى هذا أشارت آية سورة آل عمران هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿ ١٣٠ ﴾ ﴾.
وإذا صح أن هذه الآيات كان من آخر ما نزل من القرآن والحديث الذي أوردناه يؤيد ذلك، فتكون آية آل عمران هذه قد نزلت قبلها فنهت عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة كخطوة أولى، ثم جاءت هذه الآيات لتحرّمه تحريماً حاسماً. وهذا من أساليب التشريع القرآني حيث اقتضت حكمة التنزيل التدرج في إلغاء العادات التي كانت راسخة وذات تأثير شديد في المجتمع. وقد سار القرآن على هذا الأسلوب في تحريم الخمر والميسر على ما ذكرناه في مناسبة سابقة في هذه السورة ؛ لأنهما كان لهما تأثير شديد ورسوخ في المجتمع.
على أن من الحق أن يقال : إن آية آل عمران المذكورة هي الخطوة التشريعية الأولى. أما نواة كراهية الربا والتنفير منه فقد جاءت في القرآن المكي في آية سورة الروم هذه :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ﴿ ٣٩ ﴾ ﴾. وهكذا يتساوق التلقين القرآني المكي مع التلقين القرآني المدني في هذه المسألة كما يتساوق في سا
[ ٢ ] الإملال : مرادف للإملاء وهنا بمعنى الإقرار والاعتراف أو التقرير.
[ ٣ ] يبخس : ينقص أو يكتم.
[ ٤ ] سفيهاً : ناقص العقل والتمييز إما بسبب مرض أو بسبب شيخوخة أو بسبب الطفولة.
[ ٥ ] ضعيفاً : مريضا أو عاجزا جسمانياً أو لعي في لسانه الخ.
[ ٦ ] أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى : بمعنى أن تنسى إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
[ ٧ ] لا يأب الشهداء : لا يمتنعوا عن الاستجابة والشهادة.
[ ٨ ] أدنى ألاّ ترتابوا : أكثر ضماناً لعدم الارتياب والشك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [ ١ ] وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ [ ٢ ] الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ [ ٣ ] مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً [ ٤ ] أَوْ ضَعِيفاً [ ٥ ] أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [ ٦ ] وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء [ ٧ ] إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ [ ٨ ] إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿ ٢٨٢ ﴾ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿ ٢٨٣ ﴾ ﴾
تعليقات على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى... ﴾
والآية التالية لها
في الآيتين تعليمات للمسلمين بما يفعلونه في ظروف الدين والبيع :
١- فعليهم إذا تداينوا بدين إلى أجل معين أن يكتبوا بالدين وثيقة.
٢- وعلى الكاتب أن يكتب الوثيقة بالحق، ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابتها على هذا الوجه ؛ لأن الله الذي يأمره بذلك هو الذي علمه.
٣- وعلى الذي عليه الدين أن يقرر للكاتب ما عليه ليكتبه وأن يتقي الله فيما يقرره ولا ينقص منه شيئا. وإذا كان ناقص التمييز أو عاجزا عن التقرير أو مريضا فعلى وليّه أن يقرر الحق الذي عليه ليكتبه الكاتب.
٤- وعلى المسلمين أن يستشهدوا على وثيقة الدين رجلين منهم أو رجلا وامرأتين ممن يرضون وتطمئن إليهم نفوسهم. وجعل امرأتين مع الرجل في حالة عدم وجود رجلين هو لتذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت.
٥- ولا يجوز للشهود أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها.
٦- وعلى المسلمين أن لا يتهاونوا في كتابة وثائق الدين سواء أكان قليلا أو كثيرا، فإن ذلك هو الأفضل والأعدل عند الله والأضمن لعدم الارتياب والشك فيما بينهم.
٧- ولا مانع من عدم تدوين المعاملة التجارية إذا كانت فورية لا دين فيها، أحدهم يسلم السلعة والآخر يدفع الثمن.
٨- وعلى أن يستشهدوا شهودا على ما يقع بينهم من بيوع.
٩- ولا يجوز في أي حال مضارة كاتب أو شهيد أو أذيتهما بالقول والفعل، فذلك إثم وعصيان لأوامر الله.
١٠- وإذا كان الطرفان أو كلاهما على أهبة سفر ولم يجدا كاتباً يكتب وثيقة الدين فيحسن أن يقوم مقام الوثيقة رهن يسلمه المدين إلى الدائن.
١١- وإذا ائتمن الواحد آخر في حالة عدم إمكان كتابة سند الدين فيكون بدل ذلك رهن من المستدين إلى حين الأداء. وعلى المؤتمن أن يحقق ظن صاحبه في أمانته فيؤدي إليه ما ائتمنه عليه بحق وعدل.
١٢- ولا يجوز لأحد كتمان شهادته في أي أمر، ومن يكتمها فإنه آثم القلب.
١٣- وعلى المؤمنين على كل حال أن يتقوا الله ويراقبوه فيما يقوم بينهم من معاملات. فهو الذي يعلمهم ما يحسن لهم ويساعد على توثيق مصالحهم، وهو العليم بكل شيء الخبير بما يعملونه.
والآية الأولى أطول آية في القرآن. وقد روى ابن كثير رواية معزوة إلى شعيب بن المسيب أنه بلغه أن هذه الآية أحدث القرآن عهداً بالعرش أي آخر ما نزل من القرآن. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالاً استطرادياً. فقد ذكر في الآيات السابقة الدين والبيع فأوحى بالآيتين للتشريع والتسليم في صدد ذلك. والراجح أنهما نزلتا بعد تلك الآيات مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الموضوعي والزمني.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس : أن الآية الأولى نزلت في السلَم إلى أجل معلوم ( وهو شراء غلة معينة في موسم آت بثمن معجل ) وأنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأنه روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» غير أن الإطلاق في جملة ﴿ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يلهم أنه جاء كذلك ليكون شاملاً لكل نوع من الدين.
وروعة التعليم والتشريع في الآيتين ظاهرة قوية لا تحتاج إلى إطناب. وقد روعي فيها تعليم المسلمين توثيق أمورهم التجارية، وتوطيد الحق والعدل فيما بينهم فيها، وعدم تركها فوضى بسبب ما ينتج عنها من مشاكل وخلافات وشحناء. وبالتالي تلقينهم تنظيم أمورهم الدنيوية على الوجه الذي يكفل لهم الحق والعدل والطمأنينة والثقة وعدم النزاع. وجملة ﴿ أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ تلهم أن كتابة المعاملات التجارية الفورية أفضل، وأن الاستثناء هو للتيسير والتخفيف.
وفي كتب التفسير أقوال وروايات عن أهل التأويل في مدى أحكام هذه الآيات نوجزها ونعلق عليها كما يلي. وهناك نقاط لم نطلع على قول فيها رأينا كذلك أن نوردها ونذكر ما يتبادر لنا فيها :
١- لقد روى المفسرون قولين في مدى الأمر بكتابة الدين والاستشهاد عليه. أحدهما أنه من باب الاستحباب والتشويق، وثانيهما أنه على سبيل الإيجاب. ويتبادر لنا من روح الآية وفحواها وتوكيدها المتكرر ورفع الحرج عن عدم كتابة التجارة الحاضرة والمعاملة الفورية مع تفضيل الكتابة أن القول الثاني هو الأوجه.
٢- ورووا كذلك قولين في مدى واجب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. فأحدهما أنه على سبيل التخيير والندب وثانيهما على سبيل الإيجاب. وقد يكون القول الأول هو الأوجه ؛ لأن الكاتب والشاهد شخصان حران لا يصح إرغامهما على ما لا يريدانه من كتابة أو شهادة. أما حين يقبل الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد على الواقعة بناء على طلب صاحب المصلحة فالجمهور متفقون على أن يكون حينئذ من الواجب على الكاتب أن يكتب بالعدل وعلى الشاهد أن يلبي الدعوة ويشهد بالحق. ولا يكون هذا على سبيل الاستحباب والتخيير، وهذا سديد وواضح من العبارة القرآنية أيضا.
٣- والمتبادر من العبارة القرآنية أن الشهود المعنيين هم الذين طلب منهم أن يحضروا ويشهدوا على الواقعة، وقد تقع معاملات بين طرفين ويكون أناس حاضرين الواقعة صدفة ولم يحضر الطرفان شهودا خصيصين. ولم نطلع على قول في مثل هذه الحالة. والمتبادر أن من واجب هؤلاء أداء الشهادة إذا ما دعوا إليها ولا يصح لهم أن يمتنعوا ويكتموا ؛ لأن في ذلك إضاعة لحقّ قد لا يثبت بدون شهادتهم.
٤- والمفسرون يروون أقوالاً عديدة في مدى جملة ﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ منها أن المعني بهذا الأمر الكاتب والشاهد. وأن الجملة توجب عليهما عدم مضارة صاحب المصلحة والحق. وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل والشاهد أن يشهد بالحق. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة. فلا يجوز لهم إرغام الكاتب على الكتابة ولا شخصا ما على المجيء والشهادة على العملية، ويسبب لهما بذلك ضرراً في إضاعة وقت وخسران عمل. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة من جانب آخر وهو أنه لا يجوز لهم أن يضاروا ويؤذوا الكاتب على كتابته بالعدل والشاهد على شهادته بالحق. وروح الآية تلهم أن القول الأخير هو الأكثر وروداً ووجاهة.
٥- والمتبادر أن الإشارة إلى واجب الإملاء والتقرير على ولي السفيه والعاجز والمريض تنطوي على كون أقوال هؤلاء واعترافاتهم في حق أنفسهم غير نافذة. وقد تفيد العبارة القرآنية أن المقصود من ( الولي ) الذي يجب أن ينوب عن هذه الفئات في الإملاء والتقرير هو الذي له حق الولاية على هذه الفئات بسبب درجة قرابته لهم. غير أن الجمهور على أن القضاء الشرعي مخول في إقامة الأولياء أيضا على أمثال هذه الفئات ليكونوا مسؤولين عن رعاية حقوق هذه الفئات ومصالحها. وهذا حقّ وصواب. وحتى بالنسبة للذين تخولهم قرابتهم الولاية ؛ حيث يكون الأولى أن تكون ممارستهم للولاية بعلم وإقرار القضاء حتى يكونوا مسؤولين أمامه، والله أعلم.
٦- وقد روى المفسرون في صدد جملة ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ أنها في صدد حفظ الأمانات وردها إلى أصحابها وعدم المماراة فيها وتبديدها إطلاقاً. ومنها أنها في صدد الرهن الذي يعطيه المدين للدائن عوضا عن سند الدين حينما تتعسر كتابته على ما جاء في الآية :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ حيث توجب الجملة على الدائن فقط الرهن سليماً بدون تبديد على اعتبار أنه أمانة في يده ورده إلى المدين كما هو حينما يرد هذا ما عليه من دين. ومنها أن ذلك في حالة تعسر الكتابة وتعسر الرهن واعتماد الدائن على أمانة المدين وحسب ؛ حيث توجب الجملة على المدين قيامه بحق من ائتمنه على ماله ورده إليه. وفحوى العبارة ومقامها متسقان أكثر مع المعنى الثاني وقد يتسقان مع المعنى الثالث أيضا. والمعنى الأول وارد الوجوب دائما وفي كل حال. وليس بينه وبين المعنيين تعارض، وقد أوجبت آية سورة النساء [ ٥٨ ] ردّ الأمانات إلى أهلها. ونوهت آيات مكية عديدة بمن يرعى أمانته وعهده كما جاء في آيات المؤمنون [ ٨ ] والمعارج [ ٢٩ ].
٧- وجمهور المفسرين على أنه ينطوي في جملة ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ﴾ شرط تحقق العدالة في الشهود. أو أن ذلك هو المقصود من الجملة أي يجب أن يكونوا من المعروفين بالاستقامة غير المتهمين في ذممهم. ومع ما في هذا من وجاهة فإنه يتبادر لنا أن الجملة أوسع مدى بحيث تنيط استشهاد الشهود بثقة المستشهدين ورضائهم النفسي والقلبي.
٨- وكلمة ﴿ مِنْ رِّجَالِكُمْ ﴾ في صفة الشهود تفيد وجوب اختيارهم من المسلمين مع توفر العدالة وطمأنينة صاحب المصلحة. ولقد روى المفسرون أقوالا في شمول العبارة للأرقاء المسلمين ؛ حيث قال بعضهم بالشمول، وبعضهم حصر الشهادة في أحرار المسلمين. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه فقد خاطب القرآن المؤمنين بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا بدون تمييز بين الأرقاء والأحرار. واعتبرهم جميعاً بعضهم من بعض وبعضهم أولياء بعض في آيات عديدة مثل آية سور
تعليقات على الآية
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى... ﴾
والآية التالية لها
في الآيتين تعليمات للمسلمين بما يفعلونه في ظروف الدين والبيع :
١- فعليهم إذا تداينوا بدين إلى أجل معين أن يكتبوا بالدين وثيقة.
٢- وعلى الكاتب أن يكتب الوثيقة بالحق، ولا يجوز له أن يمتنع عن كتابتها على هذا الوجه ؛ لأن الله الذي يأمره بذلك هو الذي علمه.
٣- وعلى الذي عليه الدين أن يقرر للكاتب ما عليه ليكتبه وأن يتقي الله فيما يقرره ولا ينقص منه شيئا. وإذا كان ناقص التمييز أو عاجزا عن التقرير أو مريضا فعلى وليّه أن يقرر الحق الذي عليه ليكتبه الكاتب.
٤- وعلى المسلمين أن يستشهدوا على وثيقة الدين رجلين منهم أو رجلا وامرأتين ممن يرضون وتطمئن إليهم نفوسهم. وجعل امرأتين مع الرجل في حالة عدم وجود رجلين هو لتذكر إحداهما الأخرى إذا نسيت.
٥- ولا يجوز للشهود أن يمتنعوا عن الشهادة إذا دعوا إليها.
٦- وعلى المسلمين أن لا يتهاونوا في كتابة وثائق الدين سواء أكان قليلا أو كثيرا، فإن ذلك هو الأفضل والأعدل عند الله والأضمن لعدم الارتياب والشك فيما بينهم.
٧- ولا مانع من عدم تدوين المعاملة التجارية إذا كانت فورية لا دين فيها، أحدهم يسلم السلعة والآخر يدفع الثمن.
٨- وعلى أن يستشهدوا شهودا على ما يقع بينهم من بيوع.
٩- ولا يجوز في أي حال مضارة كاتب أو شهيد أو أذيتهما بالقول والفعل، فذلك إثم وعصيان لأوامر الله.
١٠- وإذا كان الطرفان أو كلاهما على أهبة سفر ولم يجدا كاتباً يكتب وثيقة الدين فيحسن أن يقوم مقام الوثيقة رهن يسلمه المدين إلى الدائن.
١١- وإذا ائتمن الواحد آخر في حالة عدم إمكان كتابة سند الدين فيكون بدل ذلك رهن من المستدين إلى حين الأداء. وعلى المؤتمن أن يحقق ظن صاحبه في أمانته فيؤدي إليه ما ائتمنه عليه بحق وعدل.
١٢- ولا يجوز لأحد كتمان شهادته في أي أمر، ومن يكتمها فإنه آثم القلب.
١٣- وعلى المؤمنين على كل حال أن يتقوا الله ويراقبوه فيما يقوم بينهم من معاملات. فهو الذي يعلمهم ما يحسن لهم ويساعد على توثيق مصالحهم، وهو العليم بكل شيء الخبير بما يعملونه.
والآية الأولى أطول آية في القرآن. وقد روى ابن كثير رواية معزوة إلى شعيب بن المسيب أنه بلغه أن هذه الآية أحدث القرآن عهداً بالعرش أي آخر ما نزل من القرآن. ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآيتين. والمتبادر أنهما متصلتان بسابقاتهما اتصالاً استطرادياً. فقد ذكر في الآيات السابقة الدين والبيع فأوحى بالآيتين للتشريع والتسليم في صدد ذلك. والراجح أنهما نزلتا بعد تلك الآيات مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الموضوعي والزمني.
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس : أن الآية الأولى نزلت في السلَم إلى أجل معلوم ( وهو شراء غلة معينة في موسم آت بثمن معجل ) وأنه قال : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأنه روى حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :«من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» غير أن الإطلاق في جملة ﴿ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يلهم أنه جاء كذلك ليكون شاملاً لكل نوع من الدين.
وروعة التعليم والتشريع في الآيتين ظاهرة قوية لا تحتاج إلى إطناب. وقد روعي فيها تعليم المسلمين توثيق أمورهم التجارية، وتوطيد الحق والعدل فيما بينهم فيها، وعدم تركها فوضى بسبب ما ينتج عنها من مشاكل وخلافات وشحناء. وبالتالي تلقينهم تنظيم أمورهم الدنيوية على الوجه الذي يكفل لهم الحق والعدل والطمأنينة والثقة وعدم النزاع. وجملة ﴿ أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا ﴾ تلهم أن كتابة المعاملات التجارية الفورية أفضل، وأن الاستثناء هو للتيسير والتخفيف.
وفي كتب التفسير أقوال وروايات عن أهل التأويل في مدى أحكام هذه الآيات نوجزها ونعلق عليها كما يلي. وهناك نقاط لم نطلع على قول فيها رأينا كذلك أن نوردها ونذكر ما يتبادر لنا فيها :
١- لقد روى المفسرون قولين في مدى الأمر بكتابة الدين والاستشهاد عليه. أحدهما أنه من باب الاستحباب والتشويق، وثانيهما أنه على سبيل الإيجاب. ويتبادر لنا من روح الآية وفحواها وتوكيدها المتكرر ورفع الحرج عن عدم كتابة التجارة الحاضرة والمعاملة الفورية مع تفضيل الكتابة أن القول الثاني هو الأوجه.
٢- ورووا كذلك قولين في مدى واجب الكتابة على الكاتب والشهادة على الشاهد. فأحدهما أنه على سبيل التخيير والندب وثانيهما على سبيل الإيجاب. وقد يكون القول الأول هو الأوجه ؛ لأن الكاتب والشاهد شخصان حران لا يصح إرغامهما على ما لا يريدانه من كتابة أو شهادة. أما حين يقبل الكاتب أن يكتب والشاهد أن يشهد على الواقعة بناء على طلب صاحب المصلحة فالجمهور متفقون على أن يكون حينئذ من الواجب على الكاتب أن يكتب بالعدل وعلى الشاهد أن يلبي الدعوة ويشهد بالحق. ولا يكون هذا على سبيل الاستحباب والتخيير، وهذا سديد وواضح من العبارة القرآنية أيضا.
٣- والمتبادر من العبارة القرآنية أن الشهود المعنيين هم الذين طلب منهم أن يحضروا ويشهدوا على الواقعة، وقد تقع معاملات بين طرفين ويكون أناس حاضرين الواقعة صدفة ولم يحضر الطرفان شهودا خصيصين. ولم نطلع على قول في مثل هذه الحالة. والمتبادر أن من واجب هؤلاء أداء الشهادة إذا ما دعوا إليها ولا يصح لهم أن يمتنعوا ويكتموا ؛ لأن في ذلك إضاعة لحقّ قد لا يثبت بدون شهادتهم.
٤- والمفسرون يروون أقوالاً عديدة في مدى جملة ﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ ﴾ منها أن المعني بهذا الأمر الكاتب والشاهد. وأن الجملة توجب عليهما عدم مضارة صاحب المصلحة والحق. وعلى الكاتب أن يكتب بالعدل والشاهد أن يشهد بالحق. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة. فلا يجوز لهم إرغام الكاتب على الكتابة ولا شخصا ما على المجيء والشهادة على العملية، ويسبب لهما بذلك ضرراً في إضاعة وقت وخسران عمل. ومنها أن المعني بهذا الأمر أصحاب المصلحة من جانب آخر وهو أنه لا يجوز لهم أن يضاروا ويؤذوا الكاتب على كتابته بالعدل والشاهد على شهادته بالحق. وروح الآية تلهم أن القول الأخير هو الأكثر وروداً ووجاهة.
٥- والمتبادر أن الإشارة إلى واجب الإملاء والتقرير على ولي السفيه والعاجز والمريض تنطوي على كون أقوال هؤلاء واعترافاتهم في حق أنفسهم غير نافذة. وقد تفيد العبارة القرآنية أن المقصود من ( الولي ) الذي يجب أن ينوب عن هذه الفئات في الإملاء والتقرير هو الذي له حق الولاية على هذه الفئات بسبب درجة قرابته لهم. غير أن الجمهور على أن القضاء الشرعي مخول في إقامة الأولياء أيضا على أمثال هذه الفئات ليكونوا مسؤولين عن رعاية حقوق هذه الفئات ومصالحها. وهذا حقّ وصواب. وحتى بالنسبة للذين تخولهم قرابتهم الولاية ؛ حيث يكون الأولى أن تكون ممارستهم للولاية بعلم وإقرار القضاء حتى يكونوا مسؤولين أمامه، والله أعلم.
٦- وقد روى المفسرون في صدد جملة ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ ﴾ أنها في صدد حفظ الأمانات وردها إلى أصحابها وعدم المماراة فيها وتبديدها إطلاقاً. ومنها أنها في صدد الرهن الذي يعطيه المدين للدائن عوضا عن سند الدين حينما تتعسر كتابته على ما جاء في الآية :﴿ وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ ﴾ حيث توجب الجملة على الدائن فقط الرهن سليماً بدون تبديد على اعتبار أنه أمانة في يده ورده إلى المدين كما هو حينما يرد هذا ما عليه من دين. ومنها أن ذلك في حالة تعسر الكتابة وتعسر الرهن واعتماد الدائن على أمانة المدين وحسب ؛ حيث توجب الجملة على المدين قيامه بحق من ائتمنه على ماله ورده إليه. وفحوى العبارة ومقامها متسقان أكثر مع المعنى الثاني وقد يتسقان مع المعنى الثالث أيضا. والمعنى الأول وارد الوجوب دائما وفي كل حال. وليس بينه وبين المعنيين تعارض، وقد أوجبت آية سورة النساء [ ٥٨ ] ردّ الأمانات إلى أهلها. ونوهت آيات مكية عديدة بمن يرعى أمانته وعهده كما جاء في آيات المؤمنون [ ٨ ] والمعارج [ ٢٩ ].
٧- وجمهور المفسرين على أنه ينطوي في جملة ﴿ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء ﴾ شرط تحقق العدالة في الشهود. أو أن ذلك هو المقصود من الجملة أي يجب أن يكونوا من المعروفين بالاستقامة غير المتهمين في ذممهم. ومع ما في هذا من وجاهة فإنه يتبادر لنا أن الجملة أوسع مدى بحيث تنيط استشهاد الشهود بثقة المستشهدين ورضائهم النفسي والقلبي.
٨- وكلمة ﴿ مِنْ رِّجَالِكُمْ ﴾ في صفة الشهود تفيد وجوب اختيارهم من المسلمين مع توفر العدالة وطمأنينة صاحب المصلحة. ولقد روى المفسرون أقوالا في شمول العبارة للأرقاء المسلمين ؛ حيث قال بعضهم بالشمول، وبعضهم حصر الشهادة في أحرار المسلمين. ويتبادر لنا أن القول الأول هو الأوجه فقد خاطب القرآن المؤمنين بكل ما يتصل بشؤون الدين والدنيا بدون تمييز بين الأرقاء والأحرار. واعتبرهم جميعاً بعضهم من بعض وبعضهم أولياء بعض في آيات عديدة مثل آية سور
في الآية : تقرير بمطلق ملكية الله تعالى وتصرفه بما في السموات والأرض.
وتنبيه موجه للسامعين بأنه محيط بكل ما يبدونه ويخفونه ومحصيه عليهم ومحاسبهم به ثم معاملهم بما تشاء حكمته فيغفر ويتجاوز عمن يشاء ويؤاخذ ويعذب من يشاء، وهو القادر على كل شيء في جميع الأحوال.
تعليق على الآية
﴿ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ... ﴾
وقد روى الطبري أقوالاً عديدة معزة إلى ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم تفيد أن هذه الآية متصلة بالشهادة وأدائها وكتمها. وهو الموضوع الذي احتوته الآيات السابقة. وقال الطبرسي : إن الآية استمرار للآيات السابقة فيما احتوته من تنبيه وتذكير وإنذار. وهذا لا يخرج عما رواه الطبري.
وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح. ومع ذلك فقد تكون وجيهة، ويكون فيها بالتبعية توكيد الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية. وإن كان إطلاق العبارة فيها يثير شيئا من التردد. فإذا صحت الأقوال فتكون حكمة التنزيل قد اقتضت أن تأتي العبارة مطلقة الشمول لتكون عامة. والله تعالى أعلم.
تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآية
١- في صدد ما جاء في الآية من أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء نقول : إن الذي ينسجم مع حكمة الله وتقريرات القرآن الكثيرة وأهدافه أن الغفران الإلهي إنما يكون للمؤمنين المتقين ذوي النوايا الحسنة. وإن العذاب الإلهي إنما يكون للمنحرفين عن الحق والهدى من كفار ومنافقين وطغاة وظالمين.
ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثاً ورد أيضا في التاج برواية الشيخين، وهذا نص التاج الذي ليس فيه فرق جوهري مع نص الطبري :«قيل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول يدنو أحدكم من ربّه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا. فيقول : نعم. ويقول : أعملت كذا وكذا فيقول : نعم فيقرّره ثم يقول : إني سترت عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذَبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين » ١.
ومع استغرابنا لسوق هذا الحديث في سياق الآية التي يروي الطبري عن أهل التأويل أنها في صدد الشهادة المذكورة في الآيات السابقة ؛ لأنه لا يبدو صلة ما بينه وبين الشهادة إلا من بعيد جدا، فإن فيه شيئا من التوضيح لما ورد في الآية من كون محاسبة الله لعباده هي على ما يبدونه مما في أنفسهم أو يخفونه من عزمات الشر وسيء النيات كما أن فيه دعماً لما قلناه من أن الله تعالى إنما يغفر للمؤمنين المخلصين ويعذب الكافرين الظالمين. ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشاهد أخروية فإن من الحكمة الملموحة في الحديث تبشير المؤمنين المخلصين وإنذار الكفار الظالمين.
٢- ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية هلعوا من احتمال مؤاخذة الله لهم وتعذيبهم على خطرات النفس ووساوسها. وهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين : هلكنا إذا كان الله مؤاخذنا على ما نحدث به نفوسنا. وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإذعان لله وتفويض الأمر إليه، ففعلوا، فلم تلبث أن نزلت الآيتان اللتان بعدها فنسخناها.
ولقد روى المفسرون ذلك بصيغ عديدة، ومنها صيغة رواها البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال :«لما نزلت ﴿ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... ﴾ إلخ اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا. بل قولوا : سمعا وطاعة غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين. فلما قالها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله الآية التالية لها فكرروها، فلما فعلوا ذلك نسخ الله تلك الآية وأنزل الآية الثانية :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... ﴾ إلخ وقرأوها فلما قالوا ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، قال : نعم، ولما قالوا :﴿ وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ﴾ قال نعم، ولما قالوا :﴿ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾. قال : نعم. ولما قالوا :﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾. قال : نعم » ٢.
وقد يلحظ أن قول أبي هريرة : إن الآيتين الثانيتين نسختا الآية التي نحن في صددها يتحمّل التوقف ؛ لأن الآية الثانية من الآيتين ثبتت كون الإنسان يحاسب على ما كسب من قول وفعل، وهذا يدخل في معنى ﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ ﴾ في الآية التي نحن في صددها. ولقد روى الطبري حديثاً عن ابن عباس جاء فيه : إن الآية الثانية من الآيتين نسخت الوسوسة، وثبتت القولَ والفعلَ مما فيه دعم لما قلناه.
ولقد روى الطبري في الوقت نفسه عن ابن عباس حديثاً جاء فيه :«إن الآية لم تنسخ وإن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم، وأما أهل الشك والريبة والنفاق والكفار فيخبرهم ويعذّبهم ». وهناك روايات أخرى يرويها الطبري أيضا عن مجاهد والربيع وغيرهما تفيد أن الآية لم تنسخ.
وتعليقاً على هذه الروايات دون الأولى نقول :
أولاً : إن الآية موجهة للمؤمنين دون الكفار الذين ماتوا وهم كفار ؛ لأنهم خارجون عن نطاق الغفران ومخلدون في النار بنصوص قرآنية قطعية ومتكررة.
وثانيا : إن جملة ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ تؤيد بقوة قول النسخ الجزئي الذي جاء في قول ابن عباس الأول بحيث يصحّ التوقف في ما جاء في الأقوال الأخرى.
وهناك حديث صحيح يرويه الخمسة بهذه الصيغة «تجاوز لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ». وحديث آخر صحيح أيضا يرويه الخمسة عن ابن عباس جاء فيه :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربّه :«قال الله : إن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبتها له حسنة، وإن همّ بسيئة فعملها كتبتها له سيئة واحدة ». وهذا يدعم قول النسخ الجزئي، ومن الحكمة الملموحة فيه تبشير المؤمنين وتطمينهم وتحذير من السيئات على كل حال.
٢ التاج ٤/٦٢-٦٤.
تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة
عبارة الآيتين واضحة، لا تحتاج إلى أداء آخر.
ويلحظ أن في الأولى تقريراً عن لسان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بإيمانهم وقولهم سمعنا وأطعنا. وإن في أول الآية الثانية تقريراً عن الله عز وجل بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ثم دعاء بلسان المؤمنين.
ومثل هذه الصورة القرآنية تكرر بأساليب متنوعة في سور سابقة وعلقنا عليها بأن الإيمان بأن جميع ما في القرآن من صور كلامية هو من وحي الله عقيدة واجبة على المؤمنين. وهذا ما يقال بالنسبة لهاتين الآيتين اللتين اقتضت حكمة التنزيل إيحاءهما بالأسلوب الذي أوحينا به. وبعبارة أخرى : إن الآيتين قد أوحيتا صيغة قرآنية فيها تعليم رباني للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما يقولونه ويدعون به، وفيها تقرير رباني خفّف به وقع الآية السابقة للآيتين التي هلع لها المؤمنون أو عدلت أو نسخت به، والله تعالى أعلم.
ولقد أوردنا آنفا حديثا رواه الأربعة عن أبي هريرة ذكرت فيه المناسبة التي نزلت فيها هاتان الآيتان، وليس هناك ما ينقض ذلك أو ما فيه مباينة لذلك فيحسن الوقوف عنده.
ولقد جاءت الآيتان في ذات الوقت خاتمة قوية لسورة البقرة التي احتوت أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها وكثيراً من التشريعات والتلقينات والمبادئ التعبدية والاجتماعية والأخلاقية، وإعلاناً قويا لإيمان النبي والمؤمنين بكل ما أنزل إليهم. وإذعانهم لكل ما أمروا به ونهو عنه. وطابع الختام على الآيتين بارز كشأن كثير من خواتيم السور الأخرى، ولقد احتوى مطلع السورة تنويهاً بالمتقين الذين يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبشيراً لهم بالفلاح. وهكذا يرتبط أول السورة بآخرها، وتبدو صورة من صور الحكمة الربانية النبوية في تأليف السورة.
ولقد أثرت في التنويه بهذه الخاتمة أحاديث نبوية. منها حديث أورده ابن كثير في سياق تفسيرها معزوا إلى مسلم عن ابن عباس قال :«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ قال : فنزل منه ملك فأتى النبي فقال له : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منها إلا أوتيته » ١. ومنها حديث رواه الأربعة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه » ٢. ومنها حديث أورده ابن كثير من إخراج الإمام أحمد وابن مردويه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أعطيتُ خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش ». ولقد جاء في الحديث الذي أوردناه في سياق الآية السابقة عن أبي هريرة أن الله تعالى كان يقول نعم بعد كل مقطع من الدعاء الذي حكته الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. ولقد أخرج الطبري وأورد أحاديث أخرى عن ابن عباس مثل هذا الحديث بفروق يسيرة.
ولو لم يكن أحاديث نبوية فإنه يصح أن يقال : إن الله تعالى حين شاءت حكمته أن يعلم الؤمنين الدعاء الوارد في الآية، وأن يحكيه عن لسانهم في كتابه الكريم تكون حكمته قد شاءت أن يستجيب الله إلى هذا الدعاء إذا ما صدر من أعماق قلوب عباده، والله تعالى أعلم.
والآيتان جملة تامة احتوتا مبادئ قرآنية محكمة تكرر تقريرها في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها : العقيدة الإسلامية وهي الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله بدون تفريق والسمع والطاعة وإسلام النفس إطلاقا لله. ومنها : أن الله عز وجل قد جعل الإنسان أهلا وذا قابلية لاكتساب أعماله ورتب عليه نتائج ذلك. فما اكتسبه من أعمال سيئة فجريرتها عليه، وما اكتسبه من أعمال سنية فله أجره عليها. ومنها : أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها : أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها : أن الله تعالى جعل الشريعة الإسلامية خالية من التكاليف الشديدة التي فرضت على الملل السابقة. ومنها : أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها ما لا طاقة لها به. ومنها : أن الله مولى المؤمنين ووليهم وأنهم منصورون على الكافرين ومعفوّ عنهم ومغفور لهم ومشمولون برحمته إذا ما آمنوا واتقوا وأخلصوا حقّ الإيمان والتقوى والإخلاص.
وقد تكون صيغة الآية الثانية لا تنطوي على تقرير هذه المبادئ تقريراً مباشراً. غير أن الله وقد شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين أن يدعوه بما دعوه تكون قد شاءت أن يستجيب لهم وتغدو مبادئ قرآنية. وهذا مدعوم بالحديث الصحيح الذي أوردناه وفيه سبب نزول الآية، فضلا عن أن هذه المبادئ مما تكرر تقريرها في القرآن تقريراً ربانياً مباشراً مما مرّ منه أمثلة كثيرة وعلقنا عليها وأوردنا أحاديث نبوية متساوقة معها. ومبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعها مقرر لأول مرة في آية سورة الأعراف [ ٤٢ ] ومبدأ كون الله أرسل رسوله ليضع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم مقرر في الآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف أيضا. ومبدأ عدم مؤاخذة الله للمسلمين على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان متسق مع مبدأ عدم تكليف الله نفساً غير وسعها وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به.
ومثل هذا يقال بالنسبة لمبدأ عدم مؤاخذة الله الناس بما نسوه أو فعلوه خطأ. فإن ذلك متسق مع هذا المبدأ أيضا. وهناك حديث رواه ابن ماجة في سننه وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ٣.
ونختم كلامنا عن هذه السورة بترديد الدعاء :«ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ». ونسأل الله أن يكون دعاؤنا خالصاً وأن يستجيب لنا والحمد لله ربّ العالمين.
٢ نفسه.
٣ أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية، وقد أورده مؤلف التاج أيضا، انظر ١/٢٩.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨٥:﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴿ ٢٨٥ ﴾ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿ ٢٨٦ ﴾ ﴾
تعليق على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة
عبارة الآيتين واضحة، لا تحتاج إلى أداء آخر.
ويلحظ أن في الأولى تقريراً عن لسان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بإيمانهم وقولهم سمعنا وأطعنا. وإن في أول الآية الثانية تقريراً عن الله عز وجل بأنه لا يكلف نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ثم دعاء بلسان المؤمنين.
ومثل هذه الصورة القرآنية تكرر بأساليب متنوعة في سور سابقة وعلقنا عليها بأن الإيمان بأن جميع ما في القرآن من صور كلامية هو من وحي الله عقيدة واجبة على المؤمنين. وهذا ما يقال بالنسبة لهاتين الآيتين اللتين اقتضت حكمة التنزيل إيحاءهما بالأسلوب الذي أوحينا به. وبعبارة أخرى : إن الآيتين قد أوحيتا صيغة قرآنية فيها تعليم رباني للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما يقولونه ويدعون به، وفيها تقرير رباني خفّف به وقع الآية السابقة للآيتين التي هلع لها المؤمنون أو عدلت أو نسخت به، والله تعالى أعلم.
ولقد أوردنا آنفا حديثا رواه الأربعة عن أبي هريرة ذكرت فيه المناسبة التي نزلت فيها هاتان الآيتان، وليس هناك ما ينقض ذلك أو ما فيه مباينة لذلك فيحسن الوقوف عنده.
ولقد جاءت الآيتان في ذات الوقت خاتمة قوية لسورة البقرة التي احتوت أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها وكثيراً من التشريعات والتلقينات والمبادئ التعبدية والاجتماعية والأخلاقية، وإعلاناً قويا لإيمان النبي والمؤمنين بكل ما أنزل إليهم. وإذعانهم لكل ما أمروا به ونهو عنه. وطابع الختام على الآيتين بارز كشأن كثير من خواتيم السور الأخرى، ولقد احتوى مطلع السورة تنويهاً بالمتقين الذين يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتبشيراً لهم بالفلاح. وهكذا يرتبط أول السورة بآخرها، وتبدو صورة من صور الحكمة الربانية النبوية في تأليف السورة.
ولقد أثرت في التنويه بهذه الخاتمة أحاديث نبوية. منها حديث أورده ابن كثير في سياق تفسيرها معزوا إلى مسلم عن ابن عباس قال :«بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قطّ قال : فنزل منه ملك فأتى النبي فقال له : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منها إلا أوتيته » ١. ومنها حديث رواه الأربعة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه » ٢. ومنها حديث أورده ابن كثير من إخراج الإمام أحمد وابن مردويه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«أعطيتُ خواتيم سورة البقرة من كنزٍ تحت العرش ». ولقد جاء في الحديث الذي أوردناه في سياق الآية السابقة عن أبي هريرة أن الله تعالى كان يقول نعم بعد كل مقطع من الدعاء الذي حكته الآية الثانية من الآيتين اللتين نحن في صددهما. ولقد أخرج الطبري وأورد أحاديث أخرى عن ابن عباس مثل هذا الحديث بفروق يسيرة.
ولو لم يكن أحاديث نبوية فإنه يصح أن يقال : إن الله تعالى حين شاءت حكمته أن يعلم الؤمنين الدعاء الوارد في الآية، وأن يحكيه عن لسانهم في كتابه الكريم تكون حكمته قد شاءت أن يستجيب الله إلى هذا الدعاء إذا ما صدر من أعماق قلوب عباده، والله تعالى أعلم.
والآيتان جملة تامة احتوتا مبادئ قرآنية محكمة تكرر تقريرها في القرآن المكي والمدني بأساليب متنوعة. منها : العقيدة الإسلامية وهي الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله بدون تفريق والسمع والطاعة وإسلام النفس إطلاقا لله. ومنها : أن الله عز وجل قد جعل الإنسان أهلا وذا قابلية لاكتساب أعماله ورتب عليه نتائج ذلك. فما اكتسبه من أعمال سيئة فجريرتها عليه، وما اكتسبه من أعمال سنية فله أجره عليها. ومنها : أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها : أن الله تعالى لا يؤاخذ عباده على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان. ومنها : أن الله تعالى جعل الشريعة الإسلامية خالية من التكاليف الشديدة التي فرضت على الملل السابقة. ومنها : أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها ما لا طاقة لها به. ومنها : أن الله مولى المؤمنين ووليهم وأنهم منصورون على الكافرين ومعفوّ عنهم ومغفور لهم ومشمولون برحمته إذا ما آمنوا واتقوا وأخلصوا حقّ الإيمان والتقوى والإخلاص.
وقد تكون صيغة الآية الثانية لا تنطوي على تقرير هذه المبادئ تقريراً مباشراً. غير أن الله وقد شاءت حكمته أن يعلم المؤمنين أن يدعوه بما دعوه تكون قد شاءت أن يستجيب لهم وتغدو مبادئ قرآنية. وهذا مدعوم بالحديث الصحيح الذي أوردناه وفيه سبب نزول الآية، فضلا عن أن هذه المبادئ مما تكرر تقريرها في القرآن تقريراً ربانياً مباشراً مما مرّ منه أمثلة كثيرة وعلقنا عليها وأوردنا أحاديث نبوية متساوقة معها. ومبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعها مقرر لأول مرة في آية سورة الأعراف [ ٤٢ ] ومبدأ كون الله أرسل رسوله ليضع عن الناس الإصر والأغلال التي كانت عليهم مقرر في الآية [ ١٥٧ ] من سورة الأعراف أيضا. ومبدأ عدم مؤاخذة الله للمسلمين على ما يصدر منهم بسائق الخطأ والنسيان متسق مع مبدأ عدم تكليف الله نفساً غير وسعها وعدم تحميلها ما لا طاقة لها به.
ومثل هذا يقال بالنسبة لمبدأ عدم مؤاخذة الله الناس بما نسوه أو فعلوه خطأ. فإن ذلك متسق مع هذا المبدأ أيضا. وهناك حديث رواه ابن ماجة في سننه وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ٣.
ونختم كلامنا عن هذه السورة بترديد الدعاء :«ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ». ونسأل الله أن يكون دعاؤنا خالصاً وأن يستجيب لنا والحمد لله ربّ العالمين.
٢ نفسه.
٣ أورد هذا الحديث ابن كثير في سياق الآية، وقد أورده مؤلف التاج أيضا، انظر ١/٢٩.
[ تمّ بتوفيق الله تعالى الجزء السادس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله تفسير سورة الأنفال ]