تفسير سورة الزمر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة الزمر وآياتها خمس وسبعون.
هذه السورة مكية بإجماع، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهي :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ الآيات، وقالت فرقة : بل إلى آخر السورة هو مدني، وقيل : فيها مدني سبع آيات.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الزّمر
وهذه السورة مكية بإجماع، غير ثلاث آيات نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة بن عبد المطلب، وهي: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] الآيات. وقالت فرقة: بل إلى آخر السورة هو مدني وقيل فيها: مدني سبع آيات.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)
تَنْزِيلُ رفع بالابتداء، والخبر قوله: مِنَ اللَّهِ. وقالت فرقة: تَنْزِيلُ خبر ابتداء تقديره: هذا تنزيل، والإشارة إلى القرآن.
وقرأ ابن أبي عبلة: «تنزيل» بنصب اللام.
و: الْكِتابِ في قوله: تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال المفسرون: هو القرآن، ويظهر إلى أنه اسم عام لجميع ما تنزل من عند الله من الكتب، فإنه أخبر إخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة إنما تنزيلها من الله، وجعل هذا الإخبار تقدمة وتوطئة لقوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ.
و: الْعَزِيزِ في قدرته. الْحَكِيمِ في ابتداعه. و: الْكِتابَ الثاني: هو القرآن لا يحتمل غير ذلك.
وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين، أحدهما: أن يكون معناه متضمنا الحق، أي بالحق فيه وفي أحكامه وأخباره. والثاني: أن يكون بِالْحَقِّ بمعنى بالاستحقاق والوجوب وشمول المنفعة للعالم في هدايتهم ودعوتهم إلى الله.
وقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ يحتمل أن تكون الفاء عاطفة جملة من القول على جملة واصلة، ويحتمل أن يكون كالجواب، لأن قوله: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ جملة كأنه ابتداء وخبر، كما لو
قال: الكتاب منزل، وفي الجمل التي هي ابتداء وخبر إبهام ما تشبه به الجزاء، فجاءت الفاء كالجواب، كما تقول: زيد قائم فأكرمه، ونحو هذا:
وقائلة خولان فانكح فتاتهم التقدير: هذه خولان. و: مُخْلِصاً حال. و: الدِّينَ نصب به. ومعنى الآية الأمر بتحقيق النية لله في كل عمل، والدِّينَ هنا يعم المعتقدات وأعمال الجوارح.
وقوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ بمعنى من حقه ومن واجباته لا يقبل غير هذا، وهذا كقوله:
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية: ٣٦]، أي واجبا ومستحقا. قال قتادة: الدِّينُ الْخالِصُ، لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا رفع بالابتداء، وخبره في المحذوف المقدر، تقديره: يقولون ما نعبدهم، وفي مصحف ابن مسعود: «قالوا ما نعبدهم»، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير.
و: أَوْلِياءَ يريد بذلك معبودين، وهذه مقالة شائعة في العرب، يقول كثير منهم في الجاهلية: الملائكة بنات الله ونحن نعبدهم ليقربونا، وطائفة منهم قالت ذلك في أصنامهم وأوثانهم. وقال مجاهد: قد قال ذلك قوم من اليهود في عزير، وقوم من النصارى في عيسى ابن مريم. وفي مصحف أبي بن كعب: «ما نعبدكم» بالكاف «إلا لتقربونا» بالتاء. وزُلْفى بمعنى قربى وتوصلة، كأنه قال: لتقربونا إلى الله تقريبا، وكأن هذه الطوائف كلها كانت ترى نفوسها أقل من أن تتصل هي بالله، فكانت ترى أن تتصل بمخلوقاته.
وزُلْفى عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كأنه ينزل منزلة متزلفين، والعامل فيه لِيُقَرِّبُونا هذا مذهب سيبويه وفيه خلاف، وباقي الآية وعيد في الدنيا والآخرة قوله عز وجل:
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ هذه الآية إما أن يكون معناها أن الله لا يهدي الكاذب الكفار في حال كذبه وكفره، وإما أن يكون لفظها العموم ومعناها الخصوص فيمن ختم الله عليه بالكفر وقضى في الأزل أنه لا يؤمن أبدا، وإلا فقد وجد الكاذب الكفار قد هدى كثيرا.
وقرأ أنس بن مالك والجحدري: «كذب كفار» بالمبالغة فيهما، ورويت عن الحسن والأعرج ويحيى بن يعمر، وهذه المبالغة إشارة إلى المتوغل في الكفر، القاسي فيه الذي يظن به أنه مختوم عليه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤ الى ٥]
لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
قوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ. معناه: اتخاذ التشريف والتبني، وعلى هذا يستقيم. قوله تعالى: لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ.
وأما الاتخاذ المعهود في الشاهد فمستحيل أن يتوهم في جهة الله تعالى، ولا يستقيم عليه معنى قوله: لَاصْطَفى وقوله: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً [مريم: ٩٢] لفظ يعم اتخاذ النسل واتخاذ الأصفياء، فأما الأول فمعقول، وأما الثاني فمعروف لخبر الشرع، ومما يدل على أن معنى قوله: أن يتخذ الاصطفاء والتبني قوله: مِمَّا يَخْلُقُ أي من موجوداته ومحدثاته. ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا عن جميع ما لا يكون مدحة، واتصافه تعالى ب الْقَهَّارُ اتصاف على الإطلاق، لأن أحدا من البشر إن اتصف بالقهر فمقيد في أشياء قليلة، وهي في حين قهره لغيره مقهور لله تعالى عن أشياء كثيرة.
وقوله: بِالْحَقِّ معناه بالواجب الواقع موقعه الجامع للمصالح.
وقوله: يُكَوِّرُ معناه يعيد من هذا على هذا، ومنه كور العمامة التي يلتوي بعضها على بعض، فكأن الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره، وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول فيستتر فيه، فيجيء يُكَوِّرُ على هذا معادلا لقوله: يُولِجُ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩، فاطر: ١٣، الحديد: ٦] ضدا له. وقال أبو عبيدة: هما بمعنى، وهذا من قوله تقرير لا تحرير، و «تسخير الشمس» دوامها على الجري واتساق أمرها على ما شاء الله تعالى، و «الأجل المسمى» يحتمل أن يكون يوم القيامة حين تنفسد البنية ويزول جري هذه الكواكب، ويحتمل أن يريد وقت مغيبها كل يوم وليلة، ويحتمل أن يريد أوقات رجوعها إلى قوانينها كل شهر في القمر وسنة في الشمس.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
«النفس الواحدة» المرادة في الآية هي نفس آدم عليه السلام، قاله قتادة وغيره. ويحتمل أن يكون اسم الجنس.
وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ ظاهر اللفظ يقتضي أن جعل الزوجة من النفس هو بعد أن خلق الخلق منها، وليس الأمر كذلك.
واختلف الناس في تأويل هذا الظاهر، فقالت فرقة قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو أخذ الذرية من ظهر آدم وذلك شيء كان قبل خلق حواء، وقالت فرقة: إنما هي لترتيب الأخبار لا لترتيب المعاني.
كأنه قال: ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، وفي نحو هذا المعنى ينشد هذا البيت [أبو النواس] :[الخفيف]
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّه
وقالت فرقة قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ عبارة عن سبق ذلك في علم الله تعالى، فلما كان
ذلك أمرا حتما واقعا ولا بد، حسن أن يخبر عن تلك الحال التي كانت وثيقة، ثم عطف عليها حالة جعل الزوجة منها، فجاءت معان مترتبة وإن كان خروج خلق العالم من آدم إلى الوجود إنما يجيء بعد ذلك، وزوج آدم حواء عليهما السلام، وخلقت من ضلعه القصيري فيما روي، ويؤيد هذا الحديث الذي فيه أن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمه كسرته. وقالت فرقة: خلقت حواء من بقية طين آدم والأول أصح، وقد تقدم شرح ذلك. وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ قيل معناه: أن المخلوق الأول من هذه الأنعام خلق في السماء وأهبط إلى الأرض، وقالت فرقة: بل لما نزل الأمر بخلقه وإيجاده من عند الله، وكانت العادة في نعم الله ورحمته وأمطاره وغير ذلك أن يقال فيها إنها من السماء عبر عن هذه ب أَنْزَلَ، وقالت فرقة: لما كانت الأمطار تنزل وكانت الأعشاب والنبات عن المطر، وكانت هذه الأنعام عن النبات في سمنها ومعاشها، قال في هذه أَنْزَلَ فهو على التدريج كما قال الراجز:
أسنمة الآبال في ربابه.
وكما قال الشاعر [عمرو بن حبان] :[الطويل] تعالى الندى في متنه وتحدرا وجعلها ثَمانِيَةَ، لأن كل واحد فيه زوج للذكر من فرعه، وهي الضأن والمعز والبقر والإبل.
وقوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قال ابن زيد، معناه: يخلقكم في البطون خلقا من بعد خلق آخر في ظهر آدم وظهور الآباء. وقال مجاهد وعكرمة والسدي: يخلقكم في البطون رتبا خلقا من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك.
وقرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف: يَخْلُقُكُمْ بإدغام القاف في الكاف في جميع القرآن.
وقرأ الجمهور: أُمَّهاتِكُمْ بضم الهمزة. وقرأ يحيى بن وثاب: بكسرها وهي لغتان.
وقوله: فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قالت فرقة: الأولى هي ظهر الأب، ثم رحم الأم، ثم المشيمة في البطن. وقال مجاهد وقتادة وابن زيد: هي المشيمة والرحم والبطن، وهذه الآيات كلها هي معتبر وتنبيه لهم على الخالق الصانع الذي لا يستحق العبادة غيره، وهذا كله في رد أمر الأصنام والإفساد لها. ثم قال تعالى لهم: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ وقد قامت على ذلك البراهين واتسقت الأدلة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أي من أي جهة تضلون وبأي سبب؟
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قال ابن عباس: هذه الآية مخاطبة للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم. و «عباده» : هم المؤمنون.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون مخاطبة لجميع الناس، لأن الله تعالى غني عن جميع الناس وهم فقراء إليه، وبين بعد البشر عن رضى الله إن كفروا بقوله: إِنْ تَكْفُرُوا.
واختلف المتأولون من أهل السنة في تأويل قوله: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فقالت فرقة: الرضى بمعنى الإرادة والكلام ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن قضى الله له بالإيمان وحتمه له، و «عباده» على هذا ملائكته ومؤمنو البشر والجن، وهذا يتركب على قول ابن عباس. وقالت فرقة: الكلام عموم صحيح، والكفر يقع ممن يقع بإرادة الله، إلا أنه بعد وقوعه لا يرضاه دينا لهم، فهذا يتركب على الاحتمال الذي تقدمك آنفا. ومعنى: لا يرضاه لا يشكره لهم ولا يثيبهم به خيرا، فالرضى على هذا هو صفة فعل لمعنى القبول ونحوه. وتأمل الإرادة فإنها حقيقة، إنما هي فيما لم يقع بعد، والرضى، فإنما حقيقة فيما قد وقع، واعتبر هذا في آيات القرآن تجده، وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ عموم، والشكر الحقيقي في ضمنه الإيمان.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «يرضه» بضمة على الهاء مشبعة. وقرأ ابن عامر وعاصم «يرضه» بضمة على الهاء غير مشبعة، واختلف عن نافع وأبي عمرو. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر:
«يرضه» بسكون الهاء، قال أبو حاتم: وهو غلط لا يجوز، قال تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا يحمل أحد ذنب أحد، وأنث «الوازرة» و «الأخرى» لأنه أراد الأنفس. والوزر الثقل، وهذا خبر مضمنه الحض على أن ينظر كل أحد في خاصة أمره وما ينوبه في ذاته.
ثم أخبرهم تعالى بأن مرجعهم في الآخرة إلى ربهم، أي إلى ثوابه أو عقابه، فيوقف كل أحد على أعماله، لأنه المطلع على نيات الصدور وسائر الأفئدة. و «ذات الصدور» : ما فيه من خبيئة، ومنه قولهم:
الذيب مغبوط بذي بطنه.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
الْإِنْسانَ في هذه الآية يراد به الكافر بدلالة ما وصفه به آخرا من اتخاذ الأنداد لله تعالى، وقوله:
تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وهذه آية بين تعالى بها على الكفار أنهم على كل حال يلجؤون في حال الضرورات إليه وإن كان ذلك عن غير يقين منهم ولا إيمان فلذلك ليس بمعتد به. ومُنِيباً معناه مقاربا مراجعا بصيرته.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً يحتمل أن يريد النعمة في كشف الضر المذكور، ويحتمل أن يريد نعمة أي نعمة كانت، واللفظ يعم الوجهين. وخَوَّلَهُ معناه ملكه وحكمه فيها ابتداء لا مجازاة، ولا يقال في الجزاء خول، ومنه الخول، ومنه قول زهير:
هنالك أن يستخولوا المال يخولوا هذه الرواية الواحدة، ويروى يستخبلوا.
وقوله تعالى: نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ قالت فرقة: ما مصدرية، والمعنى نسي دعاءه إليه في حال الضرر ورجع إلى كفره. وقالت فرقة: بمعنى الذي، والمراد بها الله تعالى، وهذا كنحو قوله:
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: ٣- ٥] وقد تقع «ما» مكان «من» فيما لا يحصى كثرة من كلامهم، ويحتمل أن تكون ما نافية، ويكون قوله: نَسِيَ كلاما تاما، ثم نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله ومقصودا به من قبل النعمة، أي في حال الضرر، ويحتمل أن تكون ما نافية ويكون قوله: مِنْ قَبْلُ يريد به: من قبل الضرر، فكأنه يقول: ولم يكن هذا الكافر يدعو في سائر زمنه قبل الضرر، بل ألجأه ضرره إلى الدعاء. والأنداد: الأضداد التي تضاد وتزاحم وتعارض بعضها بعضا. قال مجاهد: المراد من الرجال يطيعونهم في معصية الله تعالى. وقال غيره: المراد الأوثان.
وقرأ الجمهور: «ليضل» بضم الياء، وقرأها الباقون: أبو عمرو وعيسى وابن كثير وشبل (بفتحها) ثم أمر تعالى نبيه أن يقول لهم على جهة التهديد قولا يخاطب به واحدا منهم: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ أي تلذذ به واصنع ما شئت، والقليل: هو عمر هذا المخاطب، ثم أخبره أنه مِنْ أَصْحابِ النَّارِ، أي من سكانها والمخلدين فيها.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة: «أمن» بتخفيف الميم، وهي قراءة أهل مكة والأعمش وعيسى وشيبة بن نصاح، ورويت عن الحسن، وضعفها الأخفش وأبو حاتم. وقرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر والكسائي والحسن والأعرج وقتادة وأبو جعفر: «أمن» بتشديد الميم، فأما القراءة الأولى فلها وجهان، أحدهما: وهو الأظهر أن الألف تقرير واستفهام، وكأنه يقول: أهذا القانت خير أم هذا المذكور الذي يتمتع بكفره قليلا وهو من أصحاب النار؟ وفي الكلام حذف يدل عليه سياق الآيات مع قوله آخرا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، ونظيره قول الشاعر [امرئ القيس] :[الطويل]
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
ويوقف على هذا التأويل على قوله: رَحْمَةَ رَبِّهِ. والوجه الثاني: أن يكون الألف نداء، والخطاب لأهل هذه الأوصاف، كأنه يقول: أصاحب هذه الصفات قُلْ هَلْ يَسْتَوِي فهذا السؤال ب هَلْ هو
522
للقانت، ولا يوقف على التأويل على قوله: رَحْمَةَ رَبِّهِ، وهذا معنى صحيح، إلا أنه أجنبي من معنى الآيات قبله وبعده، وضعفه أبو علي الفارسي. وقال مكي: إنه لا يجوز عند سيبويه، لأن حرف النداء لا يسقط مع المبهم وليس كما قال مكي، أما مذهب سيبويه في أن حرف النداء لا يسقط مع الميم، فنعم، لأنه يقع الإلباس الكثير بذلك، وأما أن هذا الموضع سقط فيه حرف النداء فلا، والألف ثابتة فيه ظاهرة، وأما القراءة بتشديد الميم فإنها: «أم» دخلت على: «من» والكلام على هذه القراءة لا يحتمل إلا المعادلة بين صنفين، فيحتمل أن يكون ما يعادل «أم» متقدما في التقدير، كأنه يقول: أهذا الكافر خير أم من، ويحتمل أن تكون «أم» قد ابتدأ بها بعد إضراب مقدر ويكون المعادل في آخر الكلام، والأول أبين.
والقانت: المطيع، وبهذا فسر ابن عباس رضي الله عنه، والقنوت في كلام العرب: يقع على القراءة وعلى طول القيام في الصلاة، وبهذا فسرها ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة، فليره الله في سواد الليل ساجدا أو قائما، ويقع القنوت على الدعاء وعلى الصمت عبادة. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ أن القنوت: الطاعة.
وقال جابر بن عبد الله: سئل رسول الله ﷺ أي الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت».
والآناء: الساعات، واحدها: أني كمعى ومنه قولهم: لن يعدو شيء أناه، ومنه قوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: ٥٣] على بعض التأويلات في ذلك ويقال في واحدها أيضا: أنى على وزن قفى، ويقال فيه أيضا: إني بكسر الهمزة وسكون النون، ومنه قول الهذلي: [البسيط]
حلو ومر كعطف القدح مرته في كل إني حداه الليل ينتعل
وقرأ الضحاك: «ساجد وقائم» بالرفع فيهما.
وقوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ معناه يحذر حالها وهولها. وقرأ سعيد بن جبير: «يحذر عذاب الآخرة» وأُولُوا معناه أصحاب الألباب، واحدهم: ذو.
وقرأ جمهور القراء: «قل يا عبادي» بفتح الياء. وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش: «يا عبادي» بياء ساكنة. وقرأ أبو عمرو أيضا وعاصم والأعمش وابن كثير: «يا عباد» بغير ياء في الوصل.
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة. ووعد تعالى بقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ويحتمل أن يكون قوله:
فِي هذِهِ الدُّنْيا، متعلقا ب أَحْسَنُوا، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم، قاله مقاتل، ويحتمل أن يريد: أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية الله تعالى، قاله السدي. وكان قياس قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخرا ويجوز تقديمه، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة. وَأَرْضُ اللَّهِ يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في الكلام فيها، وهذا حض على الهجرة، ولذلك وصف الله الأرض بالسعة. وقال قوم: أراد ب «الأرض» هنا الجنة، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه.
ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات: بأن
523
الأجر يوفى بِغَيْرِ حِسابٍ، وهذا يحتمل معنيين، أحدهما: أن الصابر يوفى أجره ثم لا يحاسب عن نعيم ولا يتابع بذنوب، فيقع الصَّابِرُونَ في هذه الآية على الجماعة التي ذكرها النبي عليه السلام أنها تدخل الجنة دون حساب في قوله: «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون وجوههم على صورة القمر ليلة البدر» الحديث على اختلاف ترتيباته. والمعنى الثاني: أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا عد، بل جزافا، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى، ومنه قول الشاعر [طويس المغني] :[الكامل]
ما تمنعي يقضى فقد تعطينه في النوم غير مسرد محسوب
وإلى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة: ليس ثم والله مكيال ولا ميزان، وفي بعض الحديث أنه لما نزلت: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٦١] قال النبي عليه السلام: اللهم زد أمتي فنزلت بعد ذلك: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: ٢٤٥]، فقال:
اللهم زد أمتي حتى أنزلت: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال: رضيت يا رب.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٥]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
أمر الله تعالى نبيه في هذه الآية بأن يصدع للكفار فيما أمر به من عبادة ربه.
وقوله: أُمِرْتُ لأن معناه: وأمرت بهذا الذي ذكرت لكي أكون أول من أسلم من أهل عصري وزمني، فهذه نعمة من الله عليه وتنبيه منه.
وقوله: أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ فعل معلق بشرط وهو العصيان، وقد علم أنه عليه السلام معصوم منه، ولكنه خطاب للأمة يعمهم حكمه ويحفهم وعيده.
وقوله تعالى قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ تأكيد للمعنى الأول وإعلام بامتثاله كله للأمر، وهذا كله نزل قبل القتال لأنها موادعات.
وقوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ صيغة أمر على جهة التهديد كنحو قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقوله: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ [الزمر: ٨]، وهذا كثير. والَّذِينَ في قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ في موضع رفع خبر، لأن قوله: وَأَهْلِيهِمْ قيل معناه أنهم خسروا الأهل الذي كان يكون لهم لو كانوا من أهل الجنة، فهذا كما لو قال: خسروا أنفسهم ونعيمهم، أي الذي كان يكون بهم، وقيل أراد الأنفس والأهلين الذين كانوا في الدنيا، لأنهم صاروا في عذاب النار، ليس لهم نفوس مستقرة ولا بدل من
أهل الدنيا، ومن له في الجنة قد صار له إما أهله وإما غيرهم على الاختلاف فيما يؤثر في ذلك فهو على كل حال لا خسران معه بتة.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
هذه صفة حال أهل جهنم. والظلة: ما غشي وغم كالسحابة وسقف البيت ونحوه، فأما ما فوقهم فكونه ظلة بين، وأما ما تحتهم فقالت فرقة: سمي ظلة لأنه يتلهب، ويصعد مما تحتهم شيء كثير ولهب حتى يكون ظلة، فإن لم يكن فوقهم شيء لكفى فرع الذي تحتهم في أن يكون ظلة، وقالت فرقة: جعل ما تحتهم ظلة، لأنه فوق آخرين، وهكذا هي حالهم إلا الطبقة الأخيرة التي في القعر.
وقوله: عِبادَهُ يريد جميع العالم خوفهم الله النار وحذرهم منها، فمن هدي وآمن نجا، ومن كفر حصل فيما خوف منه. واختلفت القراءة في قوله: «عباد» وقد تقدم نظيره.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ الآية، قال ابن زيد: إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، والإشارة إليهم. وقال ابن إسحاق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه، فقالوا أسلمت؟ قال نعم، وذكرهم بالله فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها. والطَّاغُوتَ: كل ما يعبد من دون الله.
والطَّاغُوتَ أيضا: الشيطان، وبه فسر هنا مجاهد والسدي وابن زيد، وأوقعه هنا على جماعة الشياطين، ولذلك أنث الضمير بعد.
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ كلام عام في جميع الأقوال، وإنما القصد الثناء على هؤلاء ببصائر هي لهم وقوام في نظرهم حتى أنهم إذا سمعوا قولا ميزوه واتبعوا أحسنه.
واختلف المفسرون في العبارة عن هذا، فقالت فرقة: أحسن القول كتاب الله، أي إذا سمعوا الأقاويل وسمعوا القرآن اتبعوا القرآن. وقالت فرقة: القول هو القرآن وأَحْسَنَهُ ما فيه من عفو وصفح واحتمال على صبر ونحو ذلك. وقال قتادة: أحسن القول طاعة الله، وهذه أمثلة وما قلناه أولا يعمها.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٩ الى ٢١]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
525
أسقط العلامة التي في الفعل المسند إلى الكلمة لوجهين: أحدهما الحائل الذي بين الفعل والفاعل، ولو كان متصلا به لم يحسن ذلك، والثاني أن الكلمة غير مؤنث حقيقي، وهذا أخف وأجوز من قولهم: حضر القاضي يوما امرأة، لأن التأنيث هنا حقيقي. وقالت فرقة: في هذا الكلام محذوف أختصره لدلالة الظاهر عليه تقديرا: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ تتأسف أنت عليه أو نحو هذا من التقدير، ثم استأنف توقيف النبي ﷺ على أنه يريد أن ينقذ من في النار، أي ليس هذا إليك. وقالت فرقة: الألف في قوله: أَفَأَنْتَ إنما هي مؤكدة زادها لطول، وإنما معنى الآية:
«أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟» لكنه زاد الألف الثانية توكيدا للأمر، وأظهر الضمير العائد تشهيرا لهؤلاء القوم وإظهارا لخسة منازلهم، وهذا كقول الشاعر [عدي بن زيد العبادي] :[الخفيف] لا أرى الموت يسبق الموت شيء فإنما أظهر الضمير تنبيها على عظم الموت، وهذا كثير، ثم استفتح إخبارا آخر ب لكِنِ وهذه معادلة وتخصيص على التقوى لمن فكر وازدجر.
وقوله تعالى: مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت الغرف، وعادلت غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ما تقدم من الظلل فوقهم وتحتهم. والغرف: ما كان من المساكن مرتفعا عن الأرض، في الحديث: «إن أهل الجنة ليتراءون الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الذي في الأفق». و: وَعْدَ اللَّهِ نصب على المصدر، ونصبه إما بفعل مضمر من لفظه، وإما بما تضمن الكلام قبل من معنى الوعد على الاختلاف الذي للنحاة في ذلك. ثم وقف نبيه ﷺ على معتبر من مخلوقاته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وكل بشر داخل معه في معناه. وقال الطبري وغيره: أشار إلى ماء المطر، وقالوا: العيون منه، ودليل ذلك أنها تنماع عند وجوده وتيبس عند فقده. وقال الحسن بن مسلم بن يناق، والإشارة إلى العيون وليست العيون من المطر، ولكن ماؤها نازل من السماء. قال الشعبي: وكل ماء عذب في الأرض فمن السماء نزل.
قال القاضي أبو محمد: والقولان متقاربان: و: «سلكه» معناه: أجراه وأدخله، ومنه قول الشاعر [البسيط]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك من نسل جوابة الآفاق مهداج
ومنه قول امرئ القيس: [السريع]
526
وواحد الينابيع وهو العين بني لها بناء مبالغة من النبع. والزرع هنا واقع على كل ما يزرع. وقالت فرقة: أَلْوانُهُ أعراضه من الحمرة والصفرة وغير ذلك. وقالت فرقة: أَلْوانُهُ أنواعه من القمح والأرز والذرة وغير ذلك. و: يَهِيجُ ييبس، هاج النبات والزرع إذا يبس، ومنه قول علي رضي الله عنه في الحديث الذي في غريب ابن قتيبة: ذمتي رهينة وأنا به زعيم. أي لا يهيج عن التقوى زرع قوم، ولا ييبس على التقوى سنخ أصل، والحديث. والحطام: اليابس المتفتت. ومعنى قوله: لَذِكْرى أي للبعث من القبور وإحياء الموتى على ما يوجبه هذا المثال المذكور.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
روي أن هذه الآية: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ آية نزلت في علي وحمزة، وأبي لهب وابنه هما اللذان كانا من القاسية قلوبهم، وفي الكلام محذوف يدل الظاهر عليه، تقديره: أفمن شرح الله صدره كالقاسي القلب المعرض عن أمر الله. وشرح الصدر: استعارة لتحصيله للنظر الجيد والإيمان بالله.
و «النور» هداية الله تعالى، وهي أشبه شيء بالضوء. قال ابن مسعود: قلنا يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح»، قالوا وما علامة ذلك؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل الموت». و «القسوة» : شدة القلب، وهي مأخوذة من قسوة الحجر، شبه قلب الكافر به في ضلالته وقلة انفعاله للوعظ. وقال مالك بن دينار: ما ضرب العبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، ويدل قوله: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ على المحذوف المقدر.
وقوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ يريد به القرآن، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوما من أصحاب النبي ﷺ قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر، فنزلت الآية في ذلك.
وقوله: مُتَشابِهاً معناه: مستويا لا تناقض فيه ولا تدافع، بل يشبه بعضه بعضا في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه.
وقوله: مَثانِيَ معناه: موضع تثنية للقصص والأقضية، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد. قال ابن عباس: ثنى فيه الأمر مرارا. ولا ينصرف مَثانِيَ لأنه جمع لا نظير له في الواحد.
وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عبارة عن قفّ شعر الإنسان عند ما يداخله خوف ولين قلب عند سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي ﷺ فرقت القلوب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة. وقال العباس بن عبد المطلب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها». وقالت أسماء بنت أبي بكر: كان أصحاب الرسول ﷺ تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها: إن أقواما اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وقال ابن عمر: وقد رئي ساقطا عند سماع القرآن فقال: إنا لنخشى الله وما نسقط، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق.
وقوله: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يحتمل أن يشير إلى القرآن، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود، أي ذلك أمارة هدى الله، ومن جعل تَقْشَعِرُّ في موضع الصفة لم يقف على مَثانِيَ، ومن جعله مستأنفا وإخبارا منقطعا وقف على مَثانِيَ وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٨]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
هذا تقرير بمعنى التعجيب، والمعنى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كالمنعمين في الجنة.
واختلف المتأولون في قوله: يَتَّقِي بِوَجْهِهِ فقال مجاهد: يخر على وجهه في النار. وقالت فرقة:
ذلك لما روي أن الكافر يلقى في النار مكتوفا مربوطة يداه إلى رجليه مع عنقه ويكب على وجهه، فليس له شيء يتقي به إلا الوجه. وقالت فرقة: المعنى صفة كثرة ما ينالهم من العذاب، وذلك أنه يتقيه بجميع جوارجه ولا يزال العذاب يتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارجه وفيه حواسه، فإذا بلغ به العذاب إلى هذه الغاية ظهر أنه لا متجاوز بعدها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا المعنى عندي أبين بلاغة، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر:
[الكامل]
لأنه إنما أراد عظيم جرأته عليها فهو يلقاها بكل محن وبكل شيء منه حتى بوجهه وبنحره.
وقوله تعالى: ذُوقُوا عبارة عن باشروا، وهنا محذوف تقديره: جزاء ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، ثم مثل لقريش بالأمم السالفة، ثم أخبر بما نال تلك الأمم من كونها في الدنيا أحاديث ملعنة، ولا خزي أعظم من هذا مع ما نال نفوسهم من الألم والذل والكرب، ثم أخبر أن ما أعد لهم من عذاب الآخرة أكبر من هذا كله الذي كان في الدنيا.
وقوله: قُرْآناً قالت فرقة: هو نصب على الحال، وقالت فرقة: هو نصب على المصدر.
و: عَرَبِيًّا حال، وقالت فرقة: نصب على التوطئة للحال، والحال قوله: عَرَبِيًّا ونفى عنه العوج لأنه لا اختلاف فيه ولا تناقض ولا مغمز بوجه.
واختلفت عبارة المفسرين، فقال عثمان بن عفان: المعنى غير متضاد، قال ابن عباس: غير مختلف.
وقرأ مجاهد: غير ذي لبس. وقال السدي: غير مخلوق. وقال بكر المزني: غير ذي لحن. والعوج بكسر العين في الأمر والمعنى وبفتحها في الأشخاص.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
لما ذكر عز وجل أنه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل مجملا جاء بعد ذلك بمثل في أهم الأمور وأعظمها خطرا وهو التوحيد، فمثل تعالى الكافر والعابد للأوثان والشياطين لرجال عدة في أخلاقهم شكاسة ونقص وعدم مسامحة، فهم لذلك يعذبون ذلك العبد بأنهم يتضايقون في أوقاتهم ويضايقون العبد في كثرة العمل، فهو أبدا ناصب، فكذلك عابد الأوثان الذي يعتقد أن ضره ونفعه عندها هو معذب الفكر بها وبحراسة حاله منها، ومتى أرضى صنما منها بالذبح له في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبدا تعب في ضلال، وكذلك هو المصانع للناس الممتحن بخدمة الملوك، ومثل تعالى المؤمن بالله وحده بعبد لرجل واحد يكلفه شغله فهو يعمله على تؤدته وقد ساس مولاه، فالمولى يغفر زلته ويشكره على إعادة عمله.
وقوله: ضَرَبَ مأخوذ من الضريب الذي هو الشبيه، ومنه قولهم: هذا ضرب هذا، أي شبهه.
و: مَثَلًا مفعول ب ضَرَبَ، و: رَجُلًا نصب على البدل. قال الكسائي: وإن شئت على إسقاط الخافض، أي مثلا لرجل أو في رجل، وفي هذا نظر، و: مُتَشاكِسُونَ معناه: لا سمح في أخلاقهم بل فيها لجاج ومتابعة ومحاذقة، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
529
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر
خلقت شكسا للأعادي مشكسا أكوي السريين وأحسم النسا
من شاء من حر الجحيم استقبسا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سالما»، على اسم الفاعل بمعنى سلم من الشركة فيه. قال أبو عمرو معناه: خالصا، وهذه بالألف قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والجحدري والزهري والحسن بخلاف عنه. وقرأ الباقون: «سلما» بفتح السين واللام، وهي قراءة الأعرج وأبي جعفر وشيبة وأبي رجاء وطلحة والحسن بخلاف. وقرأ سعيد بن جبير: «سلما»، بكسر السين وسكون اللام، وهما مصدران وصف بهما الرجل بمعنى خالصة وأمر قد سلم له.
ثم وقف الكفار بقوله: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ونصب مَثَلًا على التمييز، وهذا توقيف لا يجيب عنه أحد إلا بأنهما لا يستويان، فلذلك عاملتهم العبارة الوجيزة على أنهم قد جاوبوا، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ظهور الحجة عليكم من أقوالكم. ثم قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فأضرب عن مقدر محذوف يقتضيه المعنى، تقديره: الحمد لله على ظهور الحجة، وأن الأمر ليس كما يقولون بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. و «أكثر» في هذه الآية على بابها، لأنا وجدنا الأقل علم أمر التوحيد وتكلم به ورفض الأصنام كورقة وزيد وقس. ثم ابتدأ القول معهم غرضا آخر من الوعيد يوم القيامة والخصوم ومن التحذير من حال الكذبة على الله المكذبين بالصدق، فقدم تعالى لذلك توطئة مضمنها وعظ النفوس وتهيئتها لقبول الكلام وحذف التوعد، وهذا كما تريد أن تنهى إنسانا عن معاصيه أو تأمره بخير فتفتتح كلامك بأن تقول: كلنا يفنى ولا بد للجميع من الموت، أو كل من عليها فان، ونحو هذا مما توقن به نفس الذي تحاور، ثم بعد هذا تورد قولك، فأخبر تعالى أن الجميع «ميت». وهذه قراءة الجمهور، وقرأها «مائت» و «مايتون» بألف ابن الزبير وابن محيصن وابن أبي إسحاق واليماني وعيسى بن عمر وابن أبي عبلة. والضمير في إِنَّهُمْ لجميع العالم، دخل رجل على صلة بن أشيم فنعى إليه أخاه، وبين يدي صلة طعام فقال صلة للرجل:
ادن فكل، فإن أخي قد نعي إليّ منذ زمان، قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ والضمير في إِنَّكُمْ قيل هو عام فيختصم يوم القيامة المؤمنون والكافرون فيما كان من ظلم الكافرين لهم في كل موطن ظلموا فيه، ومن هذا قول علي بن أبي طالب: أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الرحمن، فيختصم علي وحمزة وعبيدة بن الحارث مع عتبة وشيبة والوليد، ويختصم أيضا المؤمنون بعضهم مع بعض في ظلاماتهم، قاله أبو العالية وغيره. وقال الزبير بن العوام للنبي عليه السلام: أيكتب علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال نعم، حتى يؤدى إلى ذي كل حق حقه. وقد قال عبد الله بن عمر لما نزلت هذه الآية: كيف نختصم ونحن أخوان؟ فلما قتل عثمان وضرب بعضنا وجوه بعض بالسيوف، قلنا هذا الخصام الذي وعدنا ربنا. ويختصم أيضا على ما روي: الروح مع الجسد، في أن يذنب كل واحد منهما صاحبه ويجعل المعصية في حيزه، فيحكم الله تعالى بشركتهما في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله تعالى توعدهم بأنهم سيخاصمون يوم القيامة في معنى ردهم في معنى الشريعة وتكذيبهم لرسول الله ﷺ إليهم.
530
ثم وقفهم توقيفا معناه نفي الموقف عليه بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، والإشارة بهذا الكذب بقولهم: إن لله صاحبة وولدا وقولهم: إن كذا حرام، وإن كذا حلال افتراء على الله، وكذبوا أيضا بالصدق، وذلك تكذيبهم أقوال محمد عليه السلام عن الله تعالى ما كان من ذلك معجزا أو غير معجز. ثم توعدهم تعالى تواعدا فيه احتقارهم بقوله على وجه التوقيف: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ، والمثوى موضع الإقامة.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٧]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ معادل لقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ [الزمر: ٣٢] فَمَنْ [الزمر: ٣٢] هنالك للجميع والعموم، فكذلك هاهنا هي للجنس أيضا، كأنه قال: والفريق الذي جاء بعضه بالصدق وصدق بعضه، ويستقيم المعنى واللفظ على هذا الترتيب. وفي قراءة ابن مسعود: والذي جاؤوا بالصدق وصدقوا به. و «الصدق» هنا: القرآن وأنباؤه والشرع بجملته. وقالت فرقة: الَّذِي يراد به الذين، وحذفت النون لطول الكلام، وهذا غير جيد، وتركيب جاء عليه يرد ذلك، وليس هذا كقول الفرزدق:
إن عميّ اللذا قتلا الملوك ونظير الآية قول الشاعر [أشهب بن رميلة] :[الطويل]
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقال ابن عباس: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو محمد ﷺ وهو الذي صدق به، وقالت فرقة من المفسرين: «الذي جاء» هو جبريل، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقال علي بن أبي طالب وأبو العالية والكلبي وجماعة: «الذي جاء» هو محمد عليه السلام، والذي صدق هو أبو بكر. وقال أبو الأسود وجماعة منهم مجاهد: الذي صدق هو علي بن أبي طالب وقال قتادة وابن زيد:
«الذي جاء» هو محمد عليه السلام، والذي صدق به هم المؤمنون. قال مجاهد هم أهل القرآن. وقالت فرقة: بالعموم الذي ذكرناه أولا، وهو أصوب الأقوال.
وقرأ أبو صالح ومحمد بن جحادة وعكرمة بن سليمان: «وصدق به» بتخفيف الدال، بمعنى استحق به اسم الصدق، فعلى هذه القراءة يكون إسناد الأفعال كلها إلى محمد عليه السلام، وكأن أمته في
ضمن القول، وهو الذي يحسن أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قال ابن عباس: اتقوا الشرك.
واللام في قوله: لِيُكَفِّرَ يحتمل أن تتعلق بقوله: الْمُحْسِنِينَ، أي الذين أحسنوا لكي يكفر، وقاله ابن زيد. ويحتمل أن تتعلق بفعل مضمر مقطوع مما قبله، كأنك قلت: يسرهم الله لذلك ليكفر، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير، واستدلوا على أن عَمِلُوا هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام.
وقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ تقوية لنفس النبي عليه السلام، لأن كفار قريش كانت خوفته من الأصنام، وقالوا يا محمد أنت تسبها ونخاف أن تصيبك بجنون أو علة، فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ حمزة والكسائي: «عباده» يريد الأنبياء المختصين به، وأنت أحدهم، فيدخل في ذلك المطيعون من المؤمنين والمتوكلون على الله، وهذه قراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش.
وقرأ الباقون: «عبده» وهو اسم جنس، وهي قراءة الحسن وشيبة وأهل المدينة ويقوي أن الإشارة إلى محمد عليه السلام قوله: وَيُخَوِّفُونَكَ.
وقوله: مِنْ دُونِهِ يريد بالذين يعبدون من دونه، وروي أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد إلى كسر العزى، فقال سادنها: يا خالد، إني أخاف عليك منها، فلها قوة لا يقوم لها شيء، فأخذ خالد الفأس فهشم به وجهها وانصرف. ثم قرر تعالى الهداية والإضلال من عنده بالخلق والاختراع، وأن ما أراد من ذلك لا راد له. ثم توعدهم بعزته وانتقامه، فكان ذلك، وانتقم منهم يوم بدر وما بعده.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
هذا ابتداء احتجاج عليهم بحجة أخرى، وجملتها أن وقفوا على الخالق المخترع، فإذا قالوا إنه الله لم يبق لهم في الأصنام غرض إلا أن يقولوا إنها تنفع وتضر، فلما تقعد من قولهم إن الله هو الخالق، قيل لهم أَفَرَأَيْتُمْ هؤلاء إذا أراد الله أمرا بهم قدرتم على نقضه؟ وحذف الجواب عن هذا، لأنه من البين أنه لا يجيب أحد إلا بأنه لا قدرة بالأصنام على شيء من ذلك.
وقرأ: «إن أرادني» بياء مفتوحة جمهور القراء والناس. وقرأ الأعمش: أَرادَنِيَ اللَّهُ بحذف الياء في الوصل، وروى خارجة «إن أراد» بغير ياء.
وقرأ جمهور القراء والأعرج وأبو جعفر والأعمش وعيسى وابن وثاب: «كاشفات ضرّه» بالإضافة.
وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم: «كاشفات ضرّه» بالتنوين والنصب في الراء، وهي قراءة شيبة والحسن وعيسي بخلاف عنه وعمرو بن عبيد، وهذا هو الوجه فيما لم يقع بعد، وكذلك الخلاف في: مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.
ثم أمره تعالى بأن يصدع بالاتكال على الله، وأنه حسبه من كل شيء ومن كل ناصر، ثم أمره بتوعدهم في قوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ ما رأيتموه متمكنا لكم وعلى حالتكم التي استقر رأيكم عليها.
وقرأ الجمهور: «مكانتكم» بالإفراد. وقرأ «مكاناتكم» بالجمع: الحسن وعاصم.
وقوله: اعْمَلُوا لفظ بمعنى الوعيد. و «العذاب المخزي» : هو عذاب الدنيا يوم بدر وغيره.
و «العذاب المقيم» : هو عذاب الآخرة، أعاذنا الله تعالى منه برحمته.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
هذا إعلام بعلو مكانة محمد عليه السلام واصطفاء ربه له. والْكِتابَ القرآن.
وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل معنيين، أحدهما: أن يريد مضمنا الحق في أخباره وأحكامه، والآخر: أن يريد أنه أنزله بالواجب من إنزاله وبالاستحقاق لذلك لما فيه من مصلحة العالم وهداية الناس، وكأن هذا الذي فعل الله تعالى من إنزال كتاب إلى عبيده هو إقامة حجة عليهم، وبقي تكسبهم بعد إليهم، فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ عمل وسعى، وَمَنْ ضَلَّ «فعليها» جنى، والهدى والضلال إنما لله تعالى فيهما خلق واختراع، وللعبد تكسب، عليه يقع الثواب أو العقاب. وأخبر نبيه أنه ليس بوكيل عليهم ولا مسيطر، والوكيل: القائم على الأمر حتى يكمله، ثم نبه تعالى على آية من آياته الكبر تدل الناظر على الوحدانية وأن ذلك لا شرك فيه لصنم وهي حالة التوفي، وذلك أن الله تعالى ما توفاه على الكمال فهو الذي يموت، وما توفاه متوفيا غير مكمل فهو الذي يكون في النوم، قال ابن زيد: النوم وفاة، والموت وفاة. وكثرت فرقة في هذه الآية وهذا المعنى. ففرقت بين النفس والروح، وفرق قوم أيضا بين نفس التمييز ونفس التخيل، إلى غير ذلك من الأقوال التي هي غلبة ظن. وحقيقة الأمر في هذا هي مما استأثر الله به وغيبه عن عباده في قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: ٨٥] ويكفيك أن في هذه الآية يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ، وفي الحديث الصحيح: «إن الله قبض أرواحنا حين شاء وردها علينا حين شاء» في حديث بلال في الوادي، فقد نطقت الشريعة بقبض الروح والنفس في النوم وقد قال الله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
[الإسراء: ٨٥] فظاهر أن التفصيل والخوض في هذا كله عناء وإن كان قد تعرض القول في هذا ونحوه أئمة، ذكره الثعلبي وغيره عن ابن عباس أنه قال: في ابن آدم نفس بها العقل والتمييز، وفيه روح به النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه. والأجل المسمى في هذه الآية: هو عمر كل إنسان.
وقرأ جمهور القراء: «قضى عليها» بفتح القاف على بناء الفعل للفاعل. وقرأ حمزة والكسائي «قضي» بضم القاف على بنائه للمفعول، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى. ثم أحال أهل الفكرة على النظر في هذا ونحوه فإنه من البين أن هذه القدرة لا يملكها ويصرفها إلا الواحد الصمد، لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
أَمِ هنا مقطوعة مما قبلها، وهي مقدرة بالألف وبل، وهذا تقرير وتوبيخ، فأمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على الأمر وعلى أنهم يرضون بهذا مع كون الأصنام بصورة كذا وكذا من عدم الملك والعقل.
والواو في قوله: أَوَلَوْ واو عطف دخلت عليها ألف الاستفهام، ومتى دخلت ألف الاستفهام على واو العطف أو فائه أحدثت معنى التقرير.
ثم أمره بأن يخبر بأن جميع الشفاعة إنما هو لله تعالى. و: جَمِيعاً نصب على الحال، والمعنى أن الله تعالى يشفع ثم لا يشفع أحد قبل شفاعته إلا بإذنه، فمن حيث شفاعة غيره موقوفة على إذنه بالشفاعة كلها له ومن عنده.
وقوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ الآية، قال مجاهد وغيره: نزلت في قراءة النبي عليه السلام سورة النجم عند الكعبة بمحضر من الكفار، وعند ذلك ألقى الشيطان في أمنيته، فقال: «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، إنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى» [النجم: ١٩] فاستبشر الكفار بذلك وسروا، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان، أنفوا واستكبروا واشْمَأَزَّتْ نفوسهم، ومعناه تقبضت كبرا أو أنفة وكراهية ونفورا، ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
إذا عض الثقاف بها اشمأزت... وولته عشوزنة زبونا
و: الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يريد الذين يعبدون من دونه، وجاءت العبارة في هذه الآيات عن الأصنام كما يجيء عمن يعقل من حيث صارت في حيز من يعقل، ونسب إليها الضر والنفع والألوهية، ونفي ذلك عنها فعوملت معاملة من يعقل. و: وَحْدَهُ منصوب عند سيبويه على المصدر، وعند الفراء على الحال.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
أمر الله تعالى نبيه بالدعاء ورد الحكم إلى عدله، ومعنى هذا الأمر تضمن الإجابة، واللَّهُمَّ عند سيبويه منادى، وكذلك عند الكوفيين، إلا أنه خالفهم في هذه الميم المشددة، فقال سيبويه: هي عوض من حرف النداء المحذوف إيجازا، وهي دلالة على أن ثم ما حذف. وقال الكوفيون: بل هو فعل اتصل بالمكتوبة وهو: أم، ثم حذفت الهمزة تخفيفا، فكأن معنى اللَّهُمَّ: بالله أم بفضلك ورحمتك.
و: فاطِرَ منادى مضاف، أي فاطِرَ السَّماواتِ. والْغَيْبِ: ما غاب عن البشر.
والشَّهادَةِ: ما شاهدوه. ثم أخبر تعالى عن سوء حال الكفرة يوم القيامة، وأن ما ينزل بهم لو قدروا على الافتداء منه بضعف الدنيا بأسرها لفعلوا.
وقوله: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة متنوعة حسب ضلالتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه، فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة وقصرت به حالاتهم ظهر لكل واحد ما كان يظن. وقال سفيان الثوري: ويل لأهل الرياء من هذه الآية. وقال عكرمة بن عمار جزع ابن المنكدر عند الموت فقيل له ما هذا؟ فقال أخاف هذه الآية وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَحاقَ معناه: نزل وثبت ولزم.
وقوله: ما كانُوا هو على حذف مضاف تقديره: وَحاقَ بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
هذه حجة تلزم عباد الأوثان التناقض في أعمالهم، وذلك أنهم يعبدون الأوثان ويعتقدون تعظيمها، فإذا أزفت آزفة ونالت شدة نبذوها ونسوها ودعوا الخالق المخترع رب السماوات والأرض. و: الْإِنْسانَ
في هذه الآية للجنس. و: خَوَّلْناهُ معناه: ملكناه. قال الزجاج وغيره: التخويل: العطاء عن غير مجازاة.
والنعمة هنا: عامة في جميع ما يسديه الله إلى العبد، فمن ذلك إزالة الضر المذكور، ومن ذلك الصحة والأمن والمال، وتقوى الإشارة إليه في الآية بقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ وبقوله آخرا يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، وبذكر الكسب، وكذلك الضمير في: أُوتِيتُهُ وذلك يحتمل وجوها، منها: أن يريد بالنعمة المال كما قدمناه، ومنها أن يعيد الضمير على المذكور، إذ اسم النعمة يعم ما هو مذكر وما هو مؤنث، ومنها: أن يكون «ما» في قوله: إِنَّما بمعنى الذي، وعلى الوجهين الأولين كافة.
وقوله: عَلى عِلْمٍ في موضع نصب على الحال مع أن تكون «ما» كافة، وأما إذا كانت بمعنى الذي، ف عَلى عِلْمٍ في موضع خبر «إن» ودال على الخبر المحذوف، كأنه قال: هو على علم، يحتمل أن يريد على علم مني بوجه المكاسب والتجارات وغير ذلك، قاله قتادة. ففي هذا التأويل إعجاب بالنفس وتعاط مفرط ونحو هذا، ويحتمل أن يريد على علم من الله في، وشيء سبق لي، واستحقاق حزته عند الله لا يضرني معه شيء، ففي هذا التأويل اغترار بالله تعالى وعجز وتمن على الله. ثم قال تعالى: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي ليس الأمر كما قال، بل هذه الفعلة به فتنة له وابتلاء. ثم أخبر تعالى عمن سلف من الكفرة أنهم قالوا هذه المقالة كقارون وغيره، وأنهم ما أغنى عنهم كسبهم واحتجانهم للأموال، فكذلك لا يغني عن هؤلاء.
ثم ذكر تعالى على جهة التوعد لهؤلاء في نفس المثال أن أولئك أصابهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وأن الذين ظلموا بالكفر من هؤلاء المعاصرين لك سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (وأن الذين ظلموا بالكفر ما أصاب المتقدمين) وهذا خبر من الله تعالى أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره. و: «معجزين» معناه مفلتين وناجين بأنفسهم. ثم قرر على الحقيقة في أمر الكسب وسعة النعم فقال: أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هو الذي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لقوم ويضيقه على قوم بمشيئته وسابق علمه، وليس ذلك لكيس أحد ولا لعجزه. وَيَقْدِرُ معناه: يضيق كما قال: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: ٧].
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥)
هذه الآية عامة في جميع الناس إلى يوم القيامة في كافر ومؤمن، أي إن توبة الكافر تمحو ذنوبه، وتوبة العاصي تمحو ذنبه. واختلف هل يكون في المشيئة أو هو مغفور له ولا بد؟ فقالت فرقة من أهل السنة: هو مغفور له ولا بد، وهذا مقتضى ظواهر القرآن. وقالت فرقة: التائب في المشيئة، لكن يغلب
الرجاء في ناحيته، والعاصي في المشيئة، لكن يغلب الخوف في ناحيته.
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال عطاء بن يسار: نزلت في وحشي قاتل حمزة.
وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم فنزلت الآية فيهم، منهم الوليد بن الوليد، وهشام بن العاصي، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث. وقالت فرقة: نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية، قالوا:
وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة فنزلت الآية فيهم. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن. وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: ما أحب أن لي الدنيا بما فيها بهذه الآية، يا عِبادِيَ و: أَسْرَفُوا معناه: أفرطوا وتعدوا الطور. والقنط:
أعظم اليأس.
وقرأ نافع وجمهور الناس: «تقنطوا» بفتح النون. قال أبو حاتم: يلزمهم أن يقرؤوا: مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى: ٢٨] بالكسر، ولم يقرأ به أحد. وقرأ الأشهب العقيلي بضم النون. وقرأ أبو عمرو وابن وثاب بكسرها، وهي لغات.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عموم بمعنى الخصوص، لأن الشرك ليس بداخل في الآية إجماعا، وهي أيضا في المعاصي مقيدة بالمشيئة. وجَمِيعاً نصب هلى الحال. وروي أن رسول الله ﷺ قرأ: «إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي». وقرأ ابن مسعود: «إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء». وَأَنِيبُوا معناه: ارجعوا وميلوا بنفوسكم، والإنابة: الرجوع بالنفس إلى الشيء.
وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ توعد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ معناه: أن القرآن العزيز تضمن عقائد نيرة وأوامر ونواهي منجية وعدات على الطاعات والبر وحدودا على المعاصي ووعيدا على بعضها، فالأحسن أن يسلك الإنسان طريق التفهم والتحصيل، وطريق الطاعة والانتهاء والعفو في الأمور ونحو ذلك، فهو أحسن من أن يسلك طريق الغفلة والمعصية فيجد أو يقع تحت الوعيد، فهذا المعنى هو المقصود ب أَحْسَنَ، وليس المعنى أن بعض القرآن أحسن من بعض من حيث هو قرآن، وإنما هو أحسن كله بالإضافة إلى أفعال الإنسان وما يلقى من عواقبها. قال السدي: الأحسن هو ما أمر الله تعالى به في كتابه. و: بَغْتَةً معناه: فجأة وعلى غير موعد. و: تَشْعُرُونَ مشتق من الشعار.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
537
أَنْ في هذه الآية مفعول من أجله أي أنيبوا وأسلموا من أجل أن تقول.
وقرأ جمهور الناس: «يا حسرتي» والأصل «يا حسرتي»، ومن العرب من يرد ياء الإضافة ألفا فيقول:
يا غلاما ويا جارا. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «يا حسرتاي» بفتح الياء، ورويت عنه بسكون الياء، قال أبو الفتح: جمع بين العوض والمعوض منه. وروى ابن جماز عن أبي جعفر: «يا حسرتي» بكسر التاء وسكون الياء. قال سيبويه: ومعنى نداء الحسرة والويل، أي هذا وقتك وزمانك فاحضري. و: فَرَّطْتُ معناه:
قصرت في اللازم.
وقوله تعالى: فِي جَنْبِ اللَّهِ معناه: في مقاصدي إلى الله وفي جهة طاعته، أي في تضييع شريعته والإيمان به. والجنب: يعبر به عن هذا ونحوه. ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أفي جنب بكر قطعتني ملامة لعمري لقد طالت ملامتها بيا
ومنه قول الآخر:
الناس جنب والأمير جنب وقال مجاهد: فِي جَنْبِ اللَّهِ أي في أمر الله. وقول الكافر: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ندامة على استهزائه بأمر الله تعالى. والسخر: الاستهزاء.
وقوله: أَوْ تَقُولَ في الموضعين عطف على قوله: أَنْ تَقُولَ الأول. و: كَرَّةً مصدر من كر يكر. وقوله: فَأَكُونَ نصب بأن مضمرة مقدرة، وهو عطف على قول: كَرَّةً والمراد: لو أن لي كرة فكونا، فلذلك احتيج إلى: ليكون مع الفعل بتأويل المصدر، ونحوه قول الشاعر أنشده الفراء: [الطويل]
فما لك منها غير ذكرى وحسبة وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وقد قرر بعض الناس الكلام: أنه لي أن أكر فأكون، ذكره الطبري، وهذا الكون في هذه الآية داخل في التمني.
وقوله: بَلى جواب لنفي مقدر في قوله: هذه النفس كأنها قالت: فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر، أو قالت: فإني لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا، وحق بَلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير، وقرأ جمهور الناس «جاءتك» بفتح الكاف، وبفتح التاء من قوله: «فكذبت» و «استكبرت وكنت» على مخاطبة الكافر ذي النفس. وقرأ ابن يعمر والجحدري بكسر الكاف والتاء في الثلاثة على خطاب النفس المذكورة. قال أبو حاتم: روتها أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقرأ الأعمش: «بلى قد جاءته» بالهاء.
538
ثم خاطب تعالى نبيه بخبر يراه يوم القيامة من حالة الكفار، في ضمن هذا الخبر وعيد بين لمعاصريه.
وقوله: تَرَى هو من رؤية العين، وكذبهم على الله: هو في أن جعلوا لله البنات والصاحبة، وشرعوا ما لم يأذن به إلى غير ذلك.
وقوله: وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جملة في موضع الحال، وظاهر الآية: أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالب همهم وظاهر كآبتهم. والمثوى: موضع الثواء والإقامة. والمتكبر: رافع نفسه إلى فوق حقه، وقال النبي عليه السلام:
الكبر سفه وغمط الناس أي احتقارهم.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥)
ذكر الله تعالى المتقين ونجاتهم ليعادل بذلك ما تقدم من ذكر الكفرة، وفي ذلك ترغيب في حالة المتقين، لأن الأشياء تتبين بأضدادها.
وقرأ جمهور القراء: «بمفازتهم» وذلك على اسم الجنس، وهو مصدر من الفوز. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «بمفازاتهم» على الجمع من حيث النجاة أنواع، الأسباب مختلفة وهي قراءة الحسن والأعرج وأبي عبد الرحمن والأعمش، وفي الكلام حذف مضاف تقديره: وينجي الله الذين اتقوا بأسباب أو بدواعي مفازاتهم. قال السدي: بِمَفازَتِهِمْ بفضائلهم. وقال ابن زيد بأعمالهم.
وقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كلام مستأنف دال على الوحدانية، وهو عموم معناه الخصوص.
والوكيل: القائم على الأمر، الزعيم بإكماله وتتميمه. والمقاليد: المفاتيح، وقاله ابن عباس، واحدها مقلاد، مثل مفتاح، وفي كتاب الزهراوي: واحد المقاليد: إقليد، وهذه استعارة كما تقول بيدك يا فلان مفتاح هذا الأمر، إذا كان قديرا على السعي فيه. وقال السدي: المقاليد الخزائن، وهذه عبارة غير جيدة، ويشبه أن يقول قائل: المقاليد إشارة إلى الخزائن أو دالة عليها فيسوغ هذا القول، كما أن الخزائن أيضا في جهة الله إنما تجيء استعارة، بمعنى اتساع قدرته، وأنه يبتدع ويخترع، ويشبه أن يقال فيما قد أوجد من المخلوقات كالريح والماء وغير ذلك إنها في خزائنه، وهذا كله بتجوز على جهة التقريب والتفهيم للسامعين، وقد ورد القرآن بذكر الخزائن، ووقعت في الحديث الصحيح في قوله عليه السلام:» وما فتح
الليلة من الخزائن» والحقيقة في هذا غير بعيدة، لكنه ليس باختزان حاجة ولا قلة قدرة كما هو اختزان البشر. وقال عثمان رضي الله عنه سألت رسول الله ﷺ عن مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال: «لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير».
وقوله: أَفَغَيْرَ منصوب ب أَعْبُدُ، كأنه قال: أفغير الله أعبد فيما تأمروني؟ ويجوز أن يكون نصبه ب تَأْمُرُونِّي على إسقاط أن، تقديره أفغير الله تأمروني أن أعبد.
وقرأت فرقة: «تأمرونني» بنونين، وهذا هو الأصل. وقرأ ابن كثير: «تأمرونّي» بنون مشددة مكسورة وياء مفتوحة. وقرأ ابن عامر: «تأمروني» بياء ساكنة ونون مكسورة خفيفة، وهذا على حذف النون الواحدة وهي الموطئة لياء المتكلم، ولا يجوز حذف النون الأولى وهو لحن لأنها علامة رفع الفعل، وفتح نافع الياء على الحذف فقرأ: «تأمروني» وقرأ الباقون بشد النون وبسكون الياء.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ الآية، قالت فرقة: في الآية تقديم وتأخير كأنه قال: «لقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك»، وقالت فرقة: الآية على وجهها، المعنى: «ولقد أوحي إلى كل نبي لئن أشركت ليحبطن عملك». وحبط: معناه: بطل وسقط، وبهذه الآية بطلت أعمال المرتد من صلاته وحجه وغير ذلك.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
المكتوبة: نصب بقوله: فَاعْبُدْ. وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ معناه: وما عظموا الله حق عظمته ولا وصفوه بصفاته، ولا نفوا عنه ما لا يليق به.
واختلف الناس في المعنى بالضمير في قوله: قَدَرُوا قال ابن عباس: نزل ذلك في كفار قريش الذين كانت هذه الآيات كلها محاورة لهم وردا عليهم. وقالت فرقة: نزلت الآية في قوم من اليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله، فألحدوا وجسموا وأتوا كل تخليط، فنزلت الآية فيهم، وفي الحديث الصحيح:
أنه جاء حبر إلى رسول الله ﷺ فجلس إليه، فقال له النبي عليه السلام حدثنا، فقال: إن الله عز وجل إذا كان يوم القيامة جعل السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع، والماء والشجر على أصبع، وجميع الخلائق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا له، ثم قرأ هذه الآية.
540
قال القاضي أبو محمد: فرسول الله ﷺ تمثل بالآية، وقد كانت نزلت. وقوله في الحديث: تصديقا له، أي في أنه لم يقل إلا ما رأى في كتب اليهود، ولكن النبي ﷺ أنكر المعنى، لأن التجسيم فيه ظاهر واليهود معروفون باعتقاده، ولا يحسنون حمله على تأويله من أن الأصبع عبارة عن القدرة، أو من أنها أصبع خلق يخلق لذلك، ويعضدها تنكير الأصبع.
وروى سعيد بن المسيب أن سبب نزول الآية أن طائفة من اليهود جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالوا يا محمد، هذا الله خلق الأشياء، فمن خلق الله؟ فغضب رسول الله ﷺ وساورهم، ونزلت الآية في ذلك.
وقرأ جمهور الناس: «قدره» بسكون الدال. وقرأ الأعمش: بفتح الدال. وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر وأبو نوفل: «وما قدّروا» بشد الدال «حق قدره» بفتح الدال.
وقوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ معناه: في قبضته. وقال ابن عمر ما معناه: أن الأرض في قبضة اليد الواحدة، وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ باليمين الأخرى، لأنه كلتا يديه يمين، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس: الأرض جميعا قبضته، والسماوات وكل ذلك بيمينه.
وقرأ عيسى بن عمر: «مطويات» بكسر التاء المنونة، والناس على رفعها.
وعلى كل وجه، ف «اليمين» هنا و «القبضة» وكل ما ورد: عبارة عن القدرة والقوة، وما اختلج في الصدور من غير ذلك باطل، وما ذهب إليه القاضي من أنها صفات زائدة على صفات الذات قول ضعيف، وبحسب ما يختلج في النفوس التي لم يحضنها العلم.
قال عز وجل: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. أي هو منزه عن جميع الشبه التي لا تليق به. ثم ذكر تعالى النفخ في الصور ليصعق الأحياء من أهل الدنيا والسماء، وفي بعض الأحاديث من طريق أبي هريرة عن النبي ﷺ أن قبل هذه الصعقة الفزع ولم تتضمنها هذه الآية. و: «صعق» في هذه الآية معناه: خر ميتا. و: الصُّورِ القرن، ولا يتصور هنا غير هذا، ومن يقول الصُّورِ جمع صورة، فإنما يتوجه قوله في نفخة البعث.
وقرأ قتادة: «في الصور» بفتح الواو، وهي جمع صورة.
وقوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال السدي: استثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، ثم أماتهم بعد هذه الحال، وروي ذلك عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ وقال: استثنى الأنبياء: وقال ابن جبير: استثنى الشهداء.
وقوله: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى هي نفخة البعث. وروي أن بين النفختين أربعين، لا يدري أبو هريرة سنة أو يوما أو شهرا أو ساعة. وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
541

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٢]

وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
أَشْرَقَتِ معناه: أضاءت وعظم نورها، يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت.
وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير: «أشرقت» بضم الهمزة وكسر الراء على بناء الفعل للمفعول، وهذا إنما يترتب من فعل يتعدى، فهذا على أن يقال: أشرق البيت، وأشرقه السراج، فيكون الفعل متجاوزا أو غير متجاوز بلفظ واحد كرجع ورجعته ووقف ووقفته، ومن المتعدي من ذلك يقال أشرقت الأرض:
و: الْأَرْضُ في هذه الآية: الأرض المبدلة من الأرض المعروفة.
وقوله: بِنُورِ رَبِّها إضافة خلق إلى خالق، أي بنور الله تعالى، و: الْكِتابُ كتاب حساب الخلائق، ووحده على اسم الجنس، لأن كل أحد له كتاب على حدة. وقالت فرقة: وضع اللوح المحفوظ، وهذا شاذ وليس فيه معنى التوعد وهو مقصد الآية.
وقوله: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ أي ليشهدوا على أممهم.
وقوله: وَالشُّهَداءِ قيل هو جمع شاهد، والمراد أمة محمد الذين جعلهم الله شهداء على الناس.
وقال السدي: الشُّهَداءِ جمع شهيد في سبيل الله، وهذا أيضا يزول عنه معنى التوعد، ويحتمل أن يريد بقوله: وَالشُّهَداءِ الأنبياء أنفسهم، عطف الصفة على الصفة بالواو، كما تقول: جاء زيد الكريم والعاقل. وقال زيد بن أسلم: الشُّهَداءِ: الحفظة. والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ عائد على العالم بأجمعه، إذ الآية تدل عليهم. و: لا يُظْلَمُونَ معناه: لا يوضع شيء من أمورهم غير موضعه. وَوُفِّيَتْ معناه:
جوزيت كملا، وفي هذا وعيد صرح عنه قوله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.
وقرأ الجمهور: وَسِيقَ وجيء بكسر أوله. وقرأها ونظائرها بإشمام الضم: الحسن وابن وثاب وعاصم والأعمش. و: زُمَراً معناه: جماعات متفرقة، واحدها زمرة.
وقوله: فُتِحَتْ جواب إِذا، والكلام هنا يقضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم، وهكذا هي حال السجون ومواضع الثقاف والعذاب بخلاف قوله: في أهل الجنة:
وَفُتِحَتْ [الزمر: ٧٣] بالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح.
وقرأ الجمهور: «فتّحت» بشد التاء في الموضعين، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيفها، وهي قراءة طلحة والأعمش. ثم ذكر تعالى توقيف الخزنة لهم على مجيء الرسل.
وقرأ الجمهور: «يأتكم» بالياء من تحت. وقرأ الأعرج: «تأتكم» بتاء من فوق.
وقوله: مِنْكُمْ أعظم في الحجة، أي رسل من جنسكم لا يصعب عليكم مراميهم ولا فهم أقوالهم. وقولهم: بَلى جواب على التقرير على نفي أمر، ولا يجوز هنا الجواب بنعم، لأنهم كانوا يقولون: نعم لم يأتنا، وهكذا كان يترتب المعنى، ثم لا يجدوا حجة إلا أن كلمة العذاب حقت عليهم، أي الكلمة المقتضية من الله تعالى تخليدهم في النار، وهي عبارة عن قضائه السابق لهم بذلك، وهي التي في قوله تعالى لإبليس لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥]. والمثوى: موضع الإقامة.
قوله عز وجل:
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
قوله: الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لفظ يعم كل من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتقوا الشرك، لأن الذين لم يتقوا المعاصي قد يساق منهم زمر وهم الذين سبق لهم أن يغفر الله لهم من أهل المشيئة، وأيضا فالذين يدخلون النار ثم يخرجون منها قد يساقون زمرا إلى الجنة بعد ذلك فيصيرون من أهل هذه الآية، والواو في قوله: وَفُتِحَتْ مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها، وقد قالت فرقة: هي زائدة. وجواب إِذا، فُتِحَتْ، وقال الزجاج عن المبرد: جواب إِذا محذوف، تقديره بعد قوله: خالِدِينَ فيها سعدوا. وقال الخليل: الجواب محذوف تقديره: حتى جاؤوها وفتحت أبوابها، وهذا كما قدر الخليل قول الله تعالى:
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات: ١٠٣] وكما قدر أيضا قول امرئ القيس: [الطويل] فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي أجزنا وانتحى. وقال قوم: أشار إليهم ابن الأنباري وضعف قولهم: هذه واو الثمانية مستوعبا في سورة الكهف، وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود فهي كالأولى. وسَلامٌ عَلَيْكُمْ تحية. ويحتمل أن يريد أنهم قالوا لهم سلام عليكم وأمنة لكم. و: طِبْتُمْ معناه: أعمالا ومعتقدا ومستقرا وجزاء.
وقوله تعالى حكاية عنهم: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريد أرض الجنة، قاله قتادة وابن زيد والسدي والوراثة هنا مستعارة، لأن حقيقة الميراث أن يكون تصيير شيء إلى إنسان بعد موت إنسان، وهؤلاء إنما ورثوا مواضع أهل النار أن لو كانوا مؤمنين. و: نَتَبَوَّأُ معناه: نتخذ أمكنة ومساكن.
ثم وصف حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به، وقال قوم: واحد حَافِّينَ حاف. وقالت فرقة:
543
لا واحد لقوله: حَافِّينَ لأن الواحد لا يكون حافا، إذ الحفوف الإحداق بالشيء، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف وهو الجانب، ومنه قول الشاعر [ابن هرمة] :[الطويل]
له لحظات عن حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
أي عن جانبيه. وقالت فرقة: مِنْ في قوله: مِنْ حَوْلِ زائدة، والصواب أنها لابتداء الغاية.
وقوله: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قالت فرقة: معناه: أن تسبيحهم يتأتى بحمد الله وفضله. وقالت فرقة: تسبيحهم هو بترديد حمد الله وتكراره. قال الثعلبي: متلذذين لا متعبدين ولا مكلفين.
وقوله: وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ختم للأمر، وقول جزم عند فصل القضاء، أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم. وقال قتادة: فتح الله أول الخلق بالحمد، فقال:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: ١] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وجعل الله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ١] فاتحة كتابه، فبه يبدأ كل أمر وبه يختم، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن كما قال الشاعر: [الطويل]
544
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وآخر شيء أنت في كل ضجعة وأول شيء أنت عند هبوبي