هذه السورة مدنية، وآياتها تسع وثلاثون آية. وهي فيها من عظيم الأحكام والأخبار والواعظ ما فيه مزدجر وذكرى لأولى الطبائع السليمة. فضلا عن حلاوة النغم الذي يتجلى في حرف الميم من خواتيم الآيات في هذه السورة. لا جرم أن هذا الجرس الموحي ينشر في أطواء النفس ظلالا من نسائم شتى من البهجة والرهبة والإدّكار.
على أن السورة مبدوءة بالإشارة إلى حبوط الأعمال للكافرين، وإن صلحت أو كثرت فإنه ما من عمل من الصالحات يأتيه كافر إلا كان صائرا إلى البطلان والحبوط. بخلاف المؤمن فإنه يجزى بعمله خير الجزاء. وتتضمن السورة تحريضا للمؤمنين على قتال الكافرين في ساحات الجهاد ليثخنوا فيهم القتل وليشدوا فيهم وثاق الأسارى منهم. ولهم بعد ذلك الخيار في المن أو المفاداة أو القتل، تبعا لما يقتضيه مصلحة الإسلام والمسلمين.
وفي السورة وصف للجنة ونعيمها الدائم، فإن فيها من الخيرات والطيبات ومحاسن العيش الراغد ما تعجز عن تصوره أذهان البشر ويعز على القلم أن يصفها. وفي مقابلة ذلك عذاب جهنم وما فيها من شديد الويلات وعظائم الأمور. وتتضمن السورة كذلك كشفا لحقيقة المنافقين الذين فسدت فيهم الأرواح والطبائع وتبلدت فيهم الضمائر والقلوب فما يستمرئون بعد ذلك الخداع والغش والتحيّل. إلى غير ذلك من الحقائق والأفكار والأخبار والمواعظ والتحذير.
ﰡ
﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم١ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم ٢ ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ﴾.
يبين الله في ذلك أن الكافرين لا قيمة ولا وزن لأعمالهم وإن كانت في الخير، فإنهم مع كفرهم وتكذيبهم بدين الله وبعقيدة التوحيد، وإنكارهم لليوم الآخر لن يتقبل الله منهم عملا فما جزاؤهم عقب ذلك كله إلا النار. وهو قوله :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ﴾ والمراد بذلك عموم الكافرين الذين يصدون الناس عن دين الله وهو الإسلام، ويكرّهون إلى البشرية عقيدة التوحيد، ومنهج الحق ليجتنبوه اجتنابا، ولينحرفوا عنه أيما انحراف. أولئك الأشقياء المضلون عن سبيل الله وهو الإسلام ﴿ أضل أعمالهم ﴾ أي جعل الله أعمالهم ضلالا وضياعا فلا وزن لها ولا اعتبار. وهي بذلك هباء منثورا ليس لها في ميزان الله أيما قيمة ولو بمثقال قطمير، لأن شرط القبول معدوم من أعمالهم وهو الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق الكامل بمنهج الله وهو الإسلام. فما يعلمه المرء في كفره أو نفاقه من وجوه الأعمال النافعة كصلة الأرحام وإطعام الجياع والأضياف والمحاويج وبناء الدور لأهل الحاجة وغير ذلك من وجوه الخير والمعروف، كل ذلك ليس له عند الله أيما وزن أو اعتبار.
وقيل : أبطل الله كيد الكافرين الذين يمكرون بالإسلام والمسلمين، وجعل الدائرة عليهم.
قوله :﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ أي محا الله عنهم ما كانوا يفعلونه من السيئات ﴿ وأصلح بالهم ﴾ أي أصلح الله شأنهم وحالهم في الدنيا والآخرة. والبال، معناه القلب. يقال : ما يخطر فلان ببالي. والبال، رخاء النفس. يقال : فلان رخي البال. والبال، الحال. يقال : ما بالك ؟ ١.
قوله :﴿ كذلك يضرب الله للناس أمثالهم ﴾ الكاف، في موضع نصب صفة لمصدر محذوف، أي مثل ذلك الضرب أو التبيين يبين الله للناس أمثالهم. أي أمثال الكافرين وما فعلوه من الشرك والسيئات، وأمثال المؤمنين وما فعلوه من الصالحات والحسنات، وما فعله الله بكل من الفريقين١.
ذلك تحريض من الله للمؤمنين على قتال الكافرين الذين يحادون الله ورسوله ويستنكفون عن طاعة ربهم واتباع منهجه القويم. أولئك الذين يصدون عن دين الله ويريدون للبشرية أن تضل السبيل وتزيغ عن منهج الله الحق فتمضي في طريق الشر والباطل، طريق الشيطان. على أن قتال الكافرين يكون عقب دعوتهم إلى دين الله بالتي هي أحسن وعقب الكشف لهم عن جمال الإسلام وما بني عليه عليه من قواعد الحق والعدل والرحمة، ترغيبا لهم فيه. وإنما يكون ذلك بالحكمة واللين والبرهان، فإن آمنوا واهتدوا فهم إخوة في العقيدة والملة، وإن أبوا واستكبروا وجنحوا للشر والعدوان والتخريب والإفساد في الأرض فلا مناص حينئذ من دفع شرورهم ومكائدهم ومفاسدهم عن البشرية ولا يتحقق ذلك بغير العنف والشدة. وهو قوله :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ﴾ ( ضرب ) منصوب على أنه مصدر. وتقديره فاضربوا ضرب الرقاب١. واختلفوا في المراد بالذين كفروا الذين أمر بضرب رقابهم، فقيل : المراد بهم المشركون عبدة الأوثان، أولئك التائهون، الموغلون في العماية والحماقة وتبلد الأذهان. وقيل : المراد بهم كل من خالف دين الله وهو الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد أو ذمة، فهو كل مشرك غير معاهد ولا ذمي. والمعنى : إذا لقيتم المشركين من غير أولي العهد أو الذمة فاضربوا رقابهم. وخص الرقاب بالذكر على سبيل الغلظة والشدة. قوله :﴿ حتى إذا أثخنتموهم ﴾ من الإثخان وهو المبالغة في الجراحة. وأثخنتموهم أي غلبتموهم وأكثرتم فيهم الجراح٢ والمعنى المقصود : إذ أكثرتم في المشركين القتل ﴿ فشدوا الوثاق ﴾ ﴿ الوثاق ﴾ بالفتح والكسر : ما يشد به، أوثقه ووثقه توثيقا، يعني أحكمه بما يوثق به كالرباط ٣ أي إذا أسرتم من لم يقتل منهم فأحكموا رباطه كيلا يهرب.
قوله :﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ ﴿ منا ﴾ و ﴿ فداء ﴾ منصوبان على المصدر. يعني : إما أن تمنوا على هؤلاء الأسارى بإطلاقهم من غير فدية، وإما أن تفادوهم فداء، أي إطلاقهم في مقابل مال يؤدونه إلى دولة الإسلام. على أن الآية محكمة. وهو قول أكثر المفسرين والعلماء. وهو مروي عن ابن عباس. وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وغيرهم. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الإمام مخير بين المن على الأسارى، ومفاداتهم فقط. وليس له أن يقتلهم استنادا إلى ظاهر الآية. وقال آخرون : بل له أن يقتل الأسير إن وجد في ذلك مصلحة للمسلمين، بإضعاف المشركين وتبديد شوكتهم، أو كان الأسير واحدا من الأشقياء الموغلين في الإجرام والإفساد وإيذاء المسلمين، فقد قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر.
وذهب الإمام الشافعي إلى أن الإمام مخير بين قتل الأسير أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه.
قوله :﴿ حتى تضع الحرب أوزارها ﴾ اختلفوا في تأويل ذلك. فقد قيل : حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقيل : حتى يضع المشركون المحاربون أوزارهم. والمراد بالأوزار ههنا السلاح والكراع وأسباب القتال، أي يضعوا سلاحهم على سبيل الهزيمة أو الموادعة.
قوله :﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ﴾ ﴿ ذلك ﴾ في موضع رفع، لأنه خبر لمبتدأ محذوف. وتقديره : الأمر كذلك٤ والمعنى : هذا الذي أمرتكم به هو حكم الله في المشركين من حيث إلزامكم قتالهم وأسرهم أو المن عليهم ومفاداتهم. ولو أراد الله لأهلكهم بغير قتال فكفاكم قتالهم ﴿ ولكن ليبلوا بعضكم ببعض ﴾ أي أمركم الله بقتال الكافرين وجهادهم ليمتحن بعضكم ببعض فيستبين المجاهدون والصابرون من القاعدين المتخاذلين، وليكون عقاب الكافرين في هذه العاجلة على أيديكم.
قوله :﴿ والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ﴾ أي أن الذين يقتلون في سبيل الله له يضيّع الله أجرهم بل إن جزاءهم يكبر ويضاعف طيلة لبثه في البرزخ.
٢ القاموس المحيط جـ ٤ ص ٢٠٨..
٣ القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٩٧..
٤ البيان لابن النباري جـ ٢ ص ٣٧٤..
٢ مختار الصحاح ص ٧٧..
يحذر الله الكافرين شديد بطشه وانتقامه وأن يحل بهم من العذاب ما حل بالظالمين من قبلهم. والمعنى : ألم يسر هؤلاء المشركون المكذبون في أرض الكافرين الغابرين الذين سبقوهم كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم لكي يتعظوا ويعتبروا ﴿ فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ أي فينظروا ما حل بالذين كفروا من قبلهم من العقاب، فإن آثار العقاب والتدمير في ديارهم باقية ومنظورة. ثم بين الله ما حل بأولئك فقال :﴿ دمر الله عليهم ﴾ أي أهلكهم الله ودمر عليهم منازلهم تدميرا واستأصلهم بقطع دابرهم ﴿ وللكافرين أمثالها ﴾ ذلك وعيد من الله لهؤلاء المشركين وهم كفار مكة. فقد توعدهم الله بمثل ما حل بالكافرين السابقين من البلاء إن لم يؤمنوا.
قوله :﴿ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ﴾ الكافرون لا همة لهم ولا بغية إلا اللذات والشهوات والاستمتاع بالطيبات وجمع الأموال والثروات بعضها فوق بعض، فهم لا يعبأون بغير الحياة الدنيا وزينتها وأثاثها ورياشها وإطالة المقام فيها، فهم بذلك لاهون تمام اللهو عما وراء ذلك من حساب يوم القيامة حيث الأهوال والأفزاع وعظائم الأمور. وشأن الكافرين في ذلك كله شأن الأنعام التي لا تعي ولا تعقل، فهي إنما يهمها الأكل والشرب والاعتلاف والنزو. وبقدر ما يتزود المؤمنون من زاد العقيدة والتقوى والإعداد ليوم الحساب، فإن الكافرين لا تنشغل قلوبهم وعقولهم إلا في لذة البطون والفروج والاستمتاع بكثرة الأموال المركومة، والمباني المنيفة، والمراكب الفارهة الفاخرة. فمثلهم في ذلك مثل الأنعام التي تأكل وتشرب وترتع حتى تساق إلى الذبح أو الهلاك. وكذا الكافرون يأكلون ويتمتعون حتى يصيرون إلى حطام القبور.
قوله :﴿ أهلكناهم فلا ناصر لهم ﴾ وذلك تهديد من الله يتوعد به المشركين الذين أخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بلده مكة، فلئن أهلك الله الأمم الظالمة السابقة بكفرهم وتكذيبهم رسلهم وقد كانوا أشد قوة من مشركي مكة هؤلاء، فما ظن المشركين من أهل مكة أن يفعل الله بهم في الدنيا من العذاب ؟ وإذا أتاهم بأس الله وانتقامه فليس لهم من دون الله حينئذ أيما نصير أو مجير١.
يميز الله في هذه الآيات بين أهل الحق وأهل الباطل، فالأولون ضالون، تائهون موغلون في الفسق والعصيان، والآخرون مهتدون ساربون على صراط الله المستقيم. فقال سبحانه ﴿ أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهوآءهم ﴾ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر. والبينة بمعنى البرهان والحجة. والمعنى : لايستوي من كان على بصيرة ويقين من أمر الله وأمر دينه القويم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن زين له سوء عمله وهي عبادة الأصنام وفعل المنكرات والمعاصي وهو أبو جهل، والذين هم على شاكلته من المشركين المكذبين، فإن الفريقين لا يستويان. لا يستوي أهل الحق والهدى، وأهل الباطل والضلال الذين لا يتبعون غير أهوائهم وضلالاتهم وشهواتهم.
قوله :﴿ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ﴾ لأنه من لبن الجنة بمذاقه الممتع وطعمه اللذيذ الذي لا يتغير ولا يأتي عليه فساد أو نتن، كلبن الدنيا. فما في الجنة من خيرات وثمرات وطعوم لهو أكمل وأطيب وأنفع.
قوله :﴿ وأنهار من خمر لذة للشاربين ﴾ ﴿ لذة ﴾ ولذيذه بمعنى٢، فقد وصف خمر الجنة بأنها لذيذة الطعم، طيبة الشرب، يلتذ بها الشاربون المنعمون في الجنة. وهي ليست كخمر الدنيا التي تستر العقول وتفسد الأعصاب، وتفضي إلى الأمراض والأسقام البدنية والنفسية الكثيرة.
قوله :﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ العسل، هو لعاب النحل. وهو شراب نافع وشهي وعظيم الفوائد، وفيه شفاء للناس. وهو في الجنة مصفى، أي نقي مما يخالطه من الشمع والقذى والكدر.
قوله تعالى :﴿ ولهم فيها من كل الثمرات ﴾ أي خولهم الله في الجنة كل ما يشتهون من الثمرات على اختلاف أنواعها وألوانها وأشكالها وطعومها ﴿ ومغفرة من ربهم ﴾ فوق ما أنعم الله به على عباده المتقين من عظيم الخيرات وألوان النعيم في الجنة، قد غفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم، إذ عفا عنهم وتجاوز لهم عن خطاياهم عقب توبتهم وإنابتهم إلى ربهم.
قوله :﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ يعني، أفمن هو في الجنة يتنعم في طيباتها وخيراتها ومباهجها، كمن هو صال النار خالدا في جحيمها ولظالها ﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ أي سقي هؤلاء المعذبون المخلدون في النار ماء حارا شديد الغليان فقطع أمعاءهم إذا شربوه من شدة حرارته٣.
٢ مختار الصحاح ص ٢٩٦..
٣ تفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٥٢- ٥٥ وتفسير القرطبي جـ١٦ ص ٢٣٦، ٢٣٧.
ذلك إخبار من الله، يبين فيه حقيقة المنافقين وما هم عليه من بلادة الضمير، وصقاقة الحس، وكزازة الطبع. أولئك صنف من البشر ماكر ومراوغ وبور، لا خير فيه، فلا يعطف قلبه وعظ أو تذكير ولا يثني سماعه للقرآن عن لجوجه في الجحود والتكذيب والخداع.
فقال سبحانه :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾ والمراد بهم المنافقون كعبد الله بن أبي ابن سلول وأمثاله، فقد ذكر أنهم كانوا يحضرون الخطبة يوم الجمعة فإذا سمعوا ذكر المنافقين فيها أعرضوا عنه، فإذا خرجوا سألوا عنه. وقيل : كانوا يحضرون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين فيستمعون منه ما يقول فيعيه المؤمن ولا يعيه الكافر.
قوله :﴿ ماذا قال آنفا ﴾ الآنف معناه، الماضي القريب. يقال : فعله آنفا أي قريبا. أو أول هذه الساعة. أو أول وقت كنا فيه١ يعني، قال المنافقون لأهل العلم من الصحابة كابن عباس وابن مسعود، لدى خروجهم من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا قال الآن ؟ وذلك على سبيل التهكم والاستهزاء.
قوله :﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ﴾ أي هؤلاء المنافقون بصفاتهم الخبيثة من فساد الطبائع وسوء الفطر، قد ختم الله على قلوبهم فلا يهتدون إلى الحق وإنما يتبعون ما تسوّله لهم أهواؤهم من الجحود والتكذيب.
قوله :﴿ فقد جاء أشراطها ﴾ أي أمارتها وعلاماتها، أو أدلتها ومقدماتها. وقد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، لأنه خاتم النبيين والمرسلين، أكمل الله به الملة وأقام به الحجة على العباد أجمعين، فقد روى البخاري عن سهل بن سعد ( رضي الله عنه ) قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها " بعثت أنا والساعة كهاتين ".
قوله :﴿ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم ﴾ ﴿ فأنى لهم ﴾ خبر مقدم. و ﴿ ذكراهم ﴾ مبتدأ مؤخر. يعني أنى لهؤلاء الجاحدين المكذبين أن يتذكروا ما فرطوا فيه من طاعة الله إذا دهمتهم الساعة فجأة وحينئذ لا تجديهم ذكرى ولا تنفعهم توبة أو ندامة.
قوله :﴿ واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ والذنب بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يراد به ترك الأفضل. على أن الاستغفار في ذاته عبادة عظمى يتقرب بها المؤمن من ربه. لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب المقربين إلى الله بعظيم تقواه و بالغ طاعته و استغفاره. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ". وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة : " اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت " وفي الصحيح أنه قال :" يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة ".
وروى أبو يعلى بإسناده عن أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالإغواء فهم يحسبون أنهم مهتدون ".
قوله :﴿ والله يعلم متقلبكم ومثواكم ﴾ أي يعلم تصرفكم في النهار ومستقركم في الليل. وقيل : متقلبكم في الدنيا ومثواكم في الآخرة١.
يبين الله جل جلاله ههنا حال المؤمنين الصادقين الذين يتمنون نزول آية من عند الله تأمرهم بالجهاد طلبا لرضى الله وثوابه ورغبة في دفع الظلم والظالمين. وذلك بخلاف المرتابين والخائرين المنافقين فإنهم إذا أنزلت آية في القتال غشيهم من الرعب والجزع ما غشيهم. وذلك لفرط جبنهم وخورهم وفساد قلوبهم. وهو قوله سبحانه ﴿ ويقول الذين آمنوا نزلت سورة ﴾ أي يقول المؤمنون المخلصون : هلا نزّلت من عند الله سورة تأمر بقتال الكافرين، وذلك بسبب عشقهم نزول القرآن ولعظيم حبهم للجهاد في سبيل الله. وذلك كله يكشف عن حقيقة الإخلاص في نفوس هؤلاء المؤمنين الصادقين المخبتين إلى ربهم.
قوله :﴿ فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ﴾ إذا أنزل الله سورة محكمة لا نسخ فيها، أو مبيّنة غير متشابهة وقد فرض فيها الجهاد وقتال المشركين ﴿ رأيت الذين في قلوبهم مرض ﴾ أي رأيت المرتابين من الناس الذين ران على قلوبهم الشك والنفاق ﴿ ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ﴾ يعني تشخص أبصارهم من فرط الهلع والجزع، فهم ينظرون إليك نظر من يشخص بصره عند الموت ﴿ فأولى لهم ﴾ وذلك تهديد لهؤلاء الجبناء الخائرين الذين في قلوبهم مرض، أو الذين يعبدون الله على حرف. و المعنى : فويل لهم.
وقد وردت نصوص من السنة كثيرة توجب صلة الأرحام ورعاية أولى القربى، وتحذر من قطع الرحم أشد تحذير، فقد روى الإمام أحمد عن أبي بكرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :" ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " وروى أحمد أيضا عن ثوبان ( رضي الله عنه ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سرّه النسأ١ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه " ٢.
٢ تفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٣٦ والكشاف جـ ٣ ص ٥٣٥، ٥٣٦..
يأمر الله عباده أن يتدبروا القرآن فيفهموا ما فيه من الآيات والأحكام والدلائل، محذرا عاقبة الإعراض عن هذا الكتاب الحكيم، فإنه لا يعرض عن تدبر آيات الله إلا من ران على قلبه الضلال والغشاوة والعمى، وسول له الشيطان الجحود والعصيان. فقال سبحانه :﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ الاستفهام للإنكار. والمعنى : أفلا يتفهمون القرآن فيعلموا ما فيه من المواعظ والأدلة والبراهين، فيستيقنوا أنه الحق من ربهم. ﴿ أم على قلوب أقفالها ﴾ الأقفال، جمع قفل، بالضم ثم السكون. أقفل الباب وقفّل الأبواب تقفيلا. مثل أغلق وغلّق١. والمعنى : بل على قلوبهم أقفالها فهم لا يفهمون ولا يتدبرون ما أنزل الله في كتابه من الآيات والعبر، فهم بذلك لا يفضي الإيمان إلى قلوبهم بما عليها من الختم والإقفال.
وذلكم هو حكم الله في كثير من الناس المرتكسين المرتدين على أدبارهم. أولئك الذين سمعوا آيات الكتاب الحكيم وما تضمنته من عجائب الإعجاز المميز وكمال المعاني والأخبار والأحكام والأفكار مما ليس له في الكتب والديانات والمذاهب نظير. إن ذلكم هو القرآن بجماله الباهر وكماله المذهل وعجائبه المثيرة، لا يستنكف عن تدبره والانتفاع به والاتعاظ بروائعه إلا كل جحود منغلق القلب.
قوله :﴿ الشيطان سول لهم وأملى لهم ﴾ ﴿ سول ﴾ أي زين١. و ﴿ أملى لهم ﴾، أي أمهلهم وطول لهم. أملى له في غيه، أي أطال له فيه٢. والمعنى : أن الشيطان بكيده وخداعه سهل لهؤلاء المرتكسين المرتدين على أدبارهم ركوب المعاصي، وزين لهم الفسق عن أمر الله، واتخاذ الأولياء والأنداد من دونه ﴿ وأملى لهم ﴾ أي مد لهم في الآمال والأماني مدا.
٢ مختار الصحاح ص ٦٣٤..
قوله :﴿ فأحبط أعمالهم ﴾ يعني أبطلها فلم تنفعهم ولم تغنهم من سوء مصيرهم، شيئا لأهنم لم يبتغوا بها رضوان الله بل كانوا يبتغون بها الرياء والشهرة والمفاخرة١.
يبين الله للناس أن المنافقين لا يخفون على ربهم، فهو سبحانه مطلع على أسرارهم وخفاياهم، عالم بأستارهم وما تكنه صدورهم من الغل والضغينة للإسلام ولرسوله وللمسلمين. فقال سبحانه ﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ يعني أحسب هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم نفاق وشك فيكيدون للإسلام ولرسوله وللمسلمين كيدا ويسرون في قلوبهم الكراهية والحسد والغل والباطل ﴿ أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ أضغان جمع ضغن، وهو الحقد، أي أحسبوا أننا لن نكشف ما تنطوي عليه قلوبهم من الكراهية والحقد والحسد للإسلام والمسلمين.
قوله :﴿ والله يعلم أعمالكم ﴾ الله خبير بما يعلمه الناس من خير أو شر فلا يخفى عليه من ذلك شيء.
ذلك تنديد من الله بأعداء الإسلام والمسلمين من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب الذين يحادون الله ورسوله ويكيدون للإسلام والمسلمين كيدا. وهو قوله :﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى ﴾ المراد بذلك الظالمون الخاسرون على اختلاف مللهم ومذاهبهم وأهوائهم، وأساليبهم في الكيد والكفر، فإنهم جميعا يصدون الناس عن دين الله، إذ يمنعونهم من الإقبال على الإسلام أو فهمه وإدراكه والتعرف عليه كيلا يدخلوا فيه، وكذلك فإنهم يشاقون الرسول بمعاداته ومخالفته والتصدي له بالكيد والمكر والعدوان ﴿ من بعد ما تبين لهم الهدى ﴾ لقد تبين لهؤلاء أن رسول الله صادق أمين وأنه لا يقول على الله إلا الحق، ويعلمون كذلك أن الإسلام حق وأنه يتضمن كل معاني الخير والعدل والمساواة والرحمة، فهم لا يصدهم عن قبول الإسلام والدخول فيه إلا حقدهم واضطغانهم على الإسلام والمسلمين وفرط كراهيتهم لهذا الدين المبارك الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن طبائعهم كزة وبور قد ران عليها التبلد والكفر والجحود.
قوله :﴿ لن يضروا الله شيئا ﴾ لا يعبأ الله بكفر من كفر ولا بجحد من جحد. وإنما ضرر الكفر والجحود والصد عن دين الله عائد على الكافرين أنفسهم، فهم قد خسروا أنفسهم لما حجبوا عنه شمس الإسلام الساطع المنير فباءوا بالخسران في هذه الدنيا حيث الظلم والفساد والحيرة والفوضى. وفي الآخرة حيث النار.
قوله :﴿ وسيحبط أعمالهم ﴾ لا قيمة لأعمال الكافرين والمنافقين الذين يصدون عن دين الله ويكرهون البشرية في الإسلام. إنه لا وزن ولا قيمة لأعمالهم وإن كانت في صورتها خيّرة نافعة، فهي جميعها صائرة إلى البطلان، كالهباء المتناثر ذارت في الفضاء.
قوله :﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ أي لا تجعلوا أعمالكم باطلة بما يبطلها من الردة أو الرياء أو المن أو الصد عن دين الله.
قوله :﴿ والله معكم ﴾ الله مع عباده المؤمنين المجاهدين الصابرين، فهو ناصرهم مؤيدهم وخاذل أعدائهم.
قوله :﴿ ولن يتركم أعمالكم ﴾ ﴿ يتركم ﴾ ينقصكم. يقال : وتره حقه يتره وترا بكسر التاء، أي نقصه٢ والمعنى : لن ينقصكم الله أجور أعمالكم٣.
٢ مختار الصحاح ص ٧٠٧..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ١٨١ وتفسير الطبري جـ ٢٦ ص ٤٠ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٧٣..
يبين الله لعباده هوان الدنيا ليحذرهم الاغترار بها أو التلهي بمتاعها الفاني، فإن الدنيا بما فيها من زينة وأموال ومباهج، كل ذلك صائر إلى زوال وحطام. وهو قوله :﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ﴾ ليست الدنيا بزينتها وزخرفها وخيراتها غير لهو يتلهى به الناس وهم ساهون تائهون، وغير لعب يتفنن في التلبس به الغافلون السادرون في الضلالة والعماية والهوى.
قوله :﴿ وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتيكم أجوركم ﴾ يعني إن تؤمنوا بالله ورسله واليوم الآخر وتجتنبوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك خيرا وثوابا.
قوله :﴿ ولا يسألكم أموالكم ﴾ الله غني عن أموالكم فلا يطلبها منكم أجرا على تبليغ الرسالة. وقيل : لا يأمركم بإخراج أموالكم كلها. بل يأمركم بإخراج القليل منها وهي الزكاة. والمعنى الأول أظهر.
قوله :﴿ تبخلوا ويخرج أضغانكم ﴾ أي لو سألكم أن تخرجوا أموالكم كلها تبخلوا ويخرج البخل أضغانكم. أو يخرج بمسألته أضغانكم، أي تظهر بذلك أحقادكم.
قوله :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء ﴾ لا حاجة لله في أموالكم، فهو سبحانه مالك الملك وهو الغني عن العالمين. وهو الذي يمن عليكم أن رزقكم الخير من فضله وملكه، فأنتم المحتاجون لعطاء الله، الفقراء إليه.
قوله :﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ﴾ يعني : وإن تعرضوا عن دين الإسلام، وهو دين الحق والعدل والرحمة والتوحيد فتنقلبوا مرتكسين خاسرين فإن الله يذهب بكم ويأت بآخرين بدلا منكم وهم خير منكم. وهو قوله :﴿ ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ أي لا يشبهونكم في الإعراض عن دين الله. أو في البخل بالنفقة وبذلك المال في سبيل الله.