تفسير سورة الذاريات

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ربّ يسّر وتمّم بالخير.
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً مصدر يعنى الرياح تذر والتراب وغيره او النساء والمولود فانهن يذرين أولاد او الأسباب التي تذرى الخلائق من الملائكة وغيرها قرأ ابو عمرو بإدغام التاء فى الذال.
فَالْحامِلاتِ وِقْراً اى ثقلا مفعول به يعنى الرياح الحاملات للسحاب او النساء الحاملات النطف والاجنة او السحب الحاملة للمطرا واسباب ذلك.
فَالْجارِياتِ يُسْراً صفة مصدر محذوف يعنى جريا سهلا وهى الرياح الجارية فى مهابها والنساء الجاريات فى خدمته الأزواج يسرا لكونهن حاملات او السفن الجارية فى البحر سهلا او الكواكب التي تجرى فى منازلها.
فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً مفعول به يعنى الرياح التي تقسم الأمطار بتصرف السحاب او الملائكة التي تقسم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرها او ما يعمها من اسباب القسمة فان حملت على ذوات مختلفة فالفاء لترتيب الاقسام بها باعتبار ما بينها من التفاوت فى الدلالة على كمال القدرة والا فالفاء للترتيب افعال وجواب القسم.
إِنَّما تُوعَدُونَ من البعث ما موصولة والعائد محذوف او مصدرية- لَصادِقٌ يعنى وعد صادق كعيشة راضية اى ذات رضاء.
وَإِنَّ الدِّينَ اى الجزاء من الثواب والعقاب لَواقِعٌ لكائن لا محالة من الله سبحانه كانه استدلال بما اقسم به من الأشياء
العجيبة الدالة على كمال قدرة الصانع المختار على الاقتدار على البعث الذي أوقعه جوابا للقسم ثم عطف على الجملة القسمية الاخرى فقال.
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ جمع حبيكة كطريقة وطرق او حباك كمثال ومثل فى القاموس الحبك الشداد الاحكام وتحسين اثر الصنعة فى الثواب وحبك الرمل بضمتين حروفه الواحدة حباك ككتاب ومن الماء والشعير الجعد المنكسر منها ومن السماء طريق النجوم قال البغوي قال ابن عباس وقتادة وعكرمة ذات الخلق الحسن المستوي يقال للنساج إذا نسج الثوب فاجاد ما احسن حبكه وقال سعيد ابن جبير ذات الزينة قال الحسن حبكت بالنجوم قال مجاهد هى المتقن البنيان وقال مقاتل والكلبي والضحاك ذات الطريق كحبك الماء إذا ضربته الريح وحبك الرمل والشعر الجعد ولكنها لا يرى لبعدها من الناس قال البيضاوي معناه ذات الطرائق والمراد اما الطرائق المحسوسة التي هى مسير الكواكب او المعقولة التي يسلكها النظار ويتوسل بها الى المعارف او النجوم فان لها طرايق او انها تزينها كما يزين المواشي طرايق الوشي وجواب القسم.
إِنَّكُمْ يا كفار مكة لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ فى الرسول يعنى قولهم تارة انه شاعر وتارة انه ساحر وتارة انه مجنون او فى القران انه سحرا وكهانة او أساطير الأولين او شعر قاله من تلقاء نفسه او فى القيامة فبعضهم شك فيه وبعضهم استحالة وأنكره قال البيضاوي لعل النكتة فى هذا القسم تشبيه أقوالهم فى اختلافها وتنافى أغراضها بالطريق للسموات فى تباعدها واختلاف غاياتها وجاز ان يكون خطابا لاهل مكة يعم المؤمنين والكفار يعنى منكم مصدق ومنكم مكذب.
يُؤْفَكُ عَنْهُ اى يصرف عن الرسول والقران مَنْ أُفِكَ اى صرف فى علم الله تعالى يعنى من حرمه الله تعالى عن الايمان بمحمد - ﷺ - والقران وجاز ان يكون ضمير عنه راجعا الى القول المختلف ويكون عن بمعنى من يعنى يصدر افك من افك عن القول المختلف سببه ذلك ان كفار مكة إذا أراد رجل الايمان يتلقونه ويقولون انه ساحر كاذب كاهن مجنون فيصرفونه عن الايمان وهذا معنى قول مجاهد وهذه الجملة معترضة لبيان خيبة من لم يؤمن.
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ اى الكذابون وهم اصحاب القول المختلف من الكفار والخرص الظن والتخمين من غير دليل موجب لليقين وكلمان مبنيا على دليل صحيح لا يتصور فيه الاختلاف وذكرهم بعنوان الخراصين والجملة فى الأصل دعاء بالقتل اجرى مجرى اللعن.
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ اى جهل وغفلة يغمرهم ساهُونَ غافلون عما أمروا به.
يَسْئَلُونَ محمدا صلى الله تعالى عليه واله وسلم استعجالا إنكارا او استهزاء أَيَّانَ اى متى يَوْمُ الدِّينِ يوم الجزاء جملة
يسالون فى محل النصب على الحالية من الخراصين وجاز ان يكون لبيان علة لعنهم.
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يحرقون بالنار كما يفتن الذهب بالنار وعلى بمعنى الباء والظرف اما بدل من يوم الدين والمعنى يسالون متى يوم تعذبنا بالتاء يا محمد فحينئذ محله الرفع على الابتداء وفتح للاضافة الى غير متمكن وجاز ان يكون جوابا من الله تعالى لسوالهم يوم حينئذ خبر لمبتداء محذوف اى هو يوم هم على النار يفتنون او منصوب على الظرفية بفعل محذوف يعنى يقع الدين يوم هم يفتنون فعلى تقدير كونه داخلا فى السؤال قوله تعالى ذوقوا فتنتكم مرتبط بقوله تعالى قتل الخراصون يعنى يقال لهم.
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ط اى عذابكم او جزاء كفركم وعلى التأويل الثاني حال من الضمير المرفوع فى يفتنون بتقدير مقولا لهم هذا القول هذَا بدل من فتنتكم موصوف لقوله الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ فى الدنيا تكذيبا وجاز ان يكون هذا مبتداء والموصول خبر يعنى هذا هو الذي كنتم تستعجلون والجملة تعليل لقوله ذوقوا ثم ذكر الله سبحانه حال المؤمنين المصدقين النبي - ﷺ - والقران.
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ اى انهار جارية.
آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الخير والكرامة حال من الضمير فى الظرف يعنى قابلين لما أعطاهم ربهم راضين به يعنى كل ما يأتيهم يكون حسنا مرضيا مقبولا- إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ اى قبل دخول الجنة فى الدنيا مُحْسِنِينَ عابدين لله تعالى بالحضور والإخلاص طالبين رضاه خالصة سبحانه يطلب رضاهم فهذه الجملة تعليل لما سبق ثم فسر إحسانهم وعللها بقوله.
كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ ما زائده ويهجعون خبر لكان والهجوع النوم ليلا وقليلا منصوب على الظرفية ومن الليل صفة له مبينة او على المصدرية ومن للتبعيض ومعناه كانوا ينامون زمانا قليلا كائنا من الليل او هجوعا قليلا فى بعض الليل وجاز ان يكون ما موصولة والعائد محذوف او مصدرية وعلى التقديرين قليلا اما منصوب على انه خبر كان وما يهجعون بدل اشتمال من الضمير المرفوع فى كانوا واما منصوب ظرف مستقر فى محل النصب على الخبر وما يهجعون فاعل للظرف والمعنى كان ما يهجعون فيه او هجوعهم قليلا كائنا من الليل او كانوا قليلا من الليل هجوعهم او ما يهجعون فيه ويصلون اكثر الليل وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس معناه كانوا اقل ليلة تمر بهم الا صلوا فيها شيئا اما من أولها اما من أوسطها او من آخرها يعنى كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا كذا قال مطرف بن عبد الله وقال الضحاك ومقاتل كانوا من الناس قليلا من الليل تهجعون يعنى لا ينامون
فعلى هذا قليلا خبر كان وجملة من الليل ما يهجعون مستانفة وما نافية قال البيضاوي وغيره هذا لا يجوز لان ما بعد ما لا تعمل فيما قبلها.
وَبِالْأَسْحارِ يعنى فى الاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ السحر السدس الاخر من الليل وفى القاموس قبيل الصبح وطرف كل شىء يعنى انهم مع قلة هجوعهم وكثرة صلوتهم بالليل إذا سحروا أخذوا فى الاستغفار هضما لانفسهم واستقصارا لعملهم كانهم اسلفوا فى ليلتهم الجرائم ووقع عنهم التقصير فى الطاعات وفى بناء الفعل على الضمير اشعار بانهم أحقاء بذلك لوفور علمهم بالله العظيم وخشيتهم من الله تعالى اللهم انى أسئلك خشية العالمين وعلم الخائفين منك ويقين المتوكلين عليك قال الحسن معناه لا ينامون من الليل إلا قلة وربما نشطوا فمدوا الى السحر ثم أخذوا فى الاستغفار عن ابى هريرة ان رسول الله - ﷺ - قال ينزل الله الى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من الذي يدعونى فاستجيب له من الذي يسالنى فاعطيه من الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه وفى رواية المسلم ثم يبسط يديه ويقول من يعترض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر وقد صح عن النبي - ﷺ - انه كان إذا قام من الليل يتهجد يستغفر يقول اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق وعدك الحق بقاؤك حق وقولك حق والنار حق والنبيون حق ومحمد حق والساعة حق اللهم لك أسلمت وبك امنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت أنت ربنا وإليك المصير فاغفر لى ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما اعلنت وما أنت اعلم به منى أنت المقدم وأنت المؤخر لا اله الا أنت ولا اله غيرك متفق عليه من حديث ابن عباس وعن عبادة بن صامت قال قال رسول الله - ﷺ - من تعار من الليل فقال لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وسبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم ثم قال رب اغفر لى او قال ثم دعا استجيب له فان توضأ وصلى قبلت صلوته رواه البخاري وعن عائشة قالت كان رسول الله - ﷺ - إذا استيقظ من الليل قال لا اله الا أنت سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك لذنبى واسألك رحمتك اللهم زدنى علما ولا تزغ قلبى بعد إذ هديتنى وهب لى من لدنك رحمة انك أنت الوهاب رواه ابو داود.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ يعنى يعطون من أموالهم السائلين الذين يسألون الناس والمحرومين يعنى المتعففين عن السؤال الذين يحسبهم
الجاهل بحالهم اغنياء من التعفف فالمحسنين يعطونهم إذا يعرفونهم بسيماهم بفقد أحوالهم كذا قال قتادة والزهري وغيرهما وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب المحروم الذي ليس له سهم من الغنيمة ولا يجرى عليه من الفيء شىء اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن الحسن بن محمد بن الحنيفة ان رسول الله - ﷺ - بعث سرية فاصابوا غنما فجاء قوم بعد ما فرغوا يعنى من القسمة فاعطاهم الغانمون منها فنزلت هذه الاية وقال زيد بن اسلم المحروم هو المصاب ثمره او زرعه او نسل ماشيته كذا قال محمد بن كعب القرظي وقرأ انا لمغرمون بل نحن محرومون.
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ قال اكثر المفسرين هذه الجملة وما عطف عليه متصل بقوله تعالى انكم لفى قول مختلف وما بينهما معترضات وعندى هى معطوفة على ما سبق فى تفسير المحسنين والثناء عليهم لكن فيه وضع المظهر موضع المضمر الراجع الى المحسنين إيذانا لتحصيل الإيقان بالاستدلال والتفكر فى الآيات تقديره وفى الأرض ايت لهم فانهم إذا ذكروا بايات ربهم لم يحبروا عليها صما وعميانا بل ينظرون بأبصارهم ويتفكرون فى خلق الأرض ودحوها كالبساط وارتفاع بعضها على الماء ليسكن عليها عباد الرحمن واختلاف اجزائها فى الكيفيات والمنافع وما خلق الله فيها من المعادن والنباتات والحيوانات والعيون والأنهار ويستدلون بها على وجود الصانع الواجب وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته وحكمته ثم ينظرون ببصائرهم ما يترشح عليها وعلى ما فيها من الله تعالى وبركات وجودها وبقائها ورحمته ويسال من فيها ما يحتاج اليه كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ....
وَفِي أَنْفُسِكُمْ عطف على فى الأرض يعنى وفى أنفسكم ايها الناس آيات لهم فان فى العلم الصغير اعنى نفس الإنسان كاين من الآيات كما فى العالم الكبير من بدو خلقه الى مماته حيث كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما ثم كسيت لحما فم نفخ فيه الروح ثم يسر الله سبيله الى الخروج ثم هدى الى سبيل معاشه رضيعا وفطاما واكتساب أقواته والتغذي بالأكل والشرب ودفع الفضول بالبول والغائط وسبيل ابقاء نوعه بالنكاح والى سبيل معاده بإرسال وإنزال الكتب واظهر فيه بدائع صنعه من اختلاف الالسنة والصور والألوان والطبائع والعقول والافهام واختلاف استعداداتهم فى قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد وصعود مدارج القرب ومعارج العرفان فينظر العارف بعض هذه الأمور بالأبصار ويقول تبارك الله احسن الخالقين وبعضها بالبصائر وينظر بالبصائر ما يتجلى على السرائر من التجليات الذاتية والصفاتية والظلالية ولا يتطرق
اليه مجال المقال وعبر عنه بالحديث القدسي لا يزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحببته فاذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث فيقول العارف الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا نهتدي لولا ان هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها الخراصون ما يبصره المحسنون الموقنون والفاء للعطف على محذوف تقديره أتنكرون قدرة الله على البعث فلا تبصرون وهذه الجملة معترضة.
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال ابن عباس ومقاتل يعنى المطر الذي سبب رزق وهذا مبنى على ما ورد فى الشرع ان المطر ينزل من السماء وقال البيضاوي قيل المراد بالسماء السحاب وبالرزق المطر وهذا مبنى على مذهب الفلاسفة وقال ايضا اسباب رزقكم او تقديره عندى ان رزقكم خطاب للمحسنين الموقنين على سبيل الالتفات من الغيبة الى الخطاب وفى السماء عطف على فى الأرض وفى أنفسكم عطف مفرد على مفرد ورزقكم بدل من الآيات وجاز ان يكون عطف جملة على جملة والمراد بالرزق اما الحظ والنصيب كما فى قوله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ المراد بالرزق هاهنا اما الآيات الدالة على الله سبحانه من الشمس والقمر والكواكب وحركاتها وما يترتب عليها من اختلاف الفصول والمنافع والمضار بدليل ذكر الآيات فى الأرض والا نفس فان الاستدلال بها والتفكر فيها حظ المحسنين الموقنين لا غير وكذا ما يترتب على الاستدلال بها والتفكر فيها من الرحمة والبركات وما ينزل على العارف من التجليات فان كل ذلك رزق المحسنين وحظ للموقنين دون من ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة وهم يعمهون قال العارف الرومي قدس سره
گر نخواهد بى بدن جان تو زيست فى السماء رزقكم روزى كيست
واما الرزق المأكول وحينئذ يراد بالآية التنبه والاشعار بان رزقكم بيد الله مكتوب فى السماء فينبغى ان لا تطلبوا الرزق من غير الله تعالى واعبدوا الله مخلصين له الدين من غير رياء وسمعة قائلين لا نسألكم عليه اجرا ان اجرى الا على الله لا تريد منكم جزاء ولا شكورا فعلى هذا التقدير ايضا فى الاية اشارة الى تفسير المحسنين والثناء عليهم يعنى هم يتفكرون فى خلق السموات والأرض ويخلصون الله الأعمال موقنين بان رزقهم فى السماء متوكلين على الله وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم قال البغوي قال عطاء وما توعدون من الثواب والعقاب وقال مجاهد من الخير والشر وقال الضحاك من الجنة والنار قلت تفاسير هؤلاء الكرام مبنى على ان الخطاب عام للمؤمنين والكافرين ولا يصح هذا التأويل الإبان يقال مكتوب فى السماء وما توعدون لان يقال كاين فى السماء وما توعدون قان الجنة فوق سبع سموات
دون النار فانها تحت الأرضين السبع كما نطقت به الأحاديث وعلى ما قلت من التأويل ان الخطاب مختص بالمحسنين يصح القول بان ما توعدون من الثواب والجنة كاين فى السماء وقيل وما توعدون كلام مستانف وما موصولة او مصدرية مبتداء خبره.
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ وعلى هذا فالضمير المنصوب لما وعلى الاول يحتمل له ولما ذكر سابقا من البعث والجزاء والرزق والوعد والوعيد مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ قرأ ابو بكر وحمزة والكسائي مثل بالرفع على انه صفة لحق والباقون بالنصب على انه حال من المستكن فى لحق او وصف لمصدر محذوف يعنى انه لحق حقا مثل نطقكم وقيل انه مبنى على الفتح لاضافة الى غير متمكن وهو ما ان كانت بمعنى شىء وان مع جملتها ان كانت ما زائدة ومحله الرفع شبه الله سبحانه الرزق وغيره مما وعد واخبر به ينطق الإنسان قال البغوي ما انكم تنطقون فتقولون لا اله الا الله يعنى المراد بالنطق المنطوق والخطاب ان كان للمحسنين فمنطوقه غالبا لا اله الا الله وان كان الخطاب عاما فشبه تحقق ما اخبر عنه يتحقق نطق الآدمي كما يقال انه لحق كما أنت هاهنا وانه لحق كما أنت تتكلم والمعنى انه فى صدقه ووجوده كالذى تعرفه ضرورة وقال بعض الحكماء يعنى ان كل انسان ينطق بلسان نفسه ولا يمكنه ان يأكل رزق غيره حكى فى المدارك عن الأصمعي انه قال أقبلت من جامع البصرة فطلع علىّ أعرابي فقال ممن الرجل قلت من بنى اصمع قال من اين أقبلت أقلت من موضع يتلى فيه كلام الله الرحمن قال اتل علىّ فتلوت والذّاريات فلما بلغت قوله فى السماء رزقكم قال حسبك فقام الى ناقة فنحرها ووزعها على من اقبل وأدبر وعمد الى قوسه وسيفه فكسرهما وولى فلما حججت مع امر الرشيد طفقت أطوف فاذا انا بمن يستهنف بصوت رفيق فالتفت فاذا انا بالأعرابي فسلّم علىّ واستقرأ السورة فلما بلغت الاية صاح قال قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال وهل غير هذا فقرأت فورب السماء والأرض انه لحق فصاح فقال سبحان الله من ذا الذي اغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى إلجاؤه الى اليمين قالها ثلثا وخرجت معها نفسه يعنى مقتضى البلاغة ان يؤكد الكلام على حسب انكار المخاطب فالله سبحانه أورد الكلام بكمال المبالغة فى التأكيد حيث اقسم عليه وأكد بكلمة ان ولام التأكيد والاخبار بانه حق والتشبيه بما هو اجلى البديهيات وليس هذه الاشارة الى ان الناس كانهم فى غاية الإنكار فى تقدير الرزق الموعود كاد حين فى اكتساب ما التزم الله سبحانه على نفسه بقوله وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غافلين عما كلفهم الله به وعلق به الثواب والعقاب الأيدي
لا حول ولا قوة الا بالله.
هَلْ أَتاكَ استفهام للتقرير يعنى قد أتاك والغرض منه تفخيم شان الحديث والتنبيه على انه اوحى اليه قبل ذلك حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ضيف فى الأصل مصدر ولذا يطلق على الواحد والمتعدد قال البغوي اختلفوا فى عددهم فقال ابن عباس وعطاء كانوا ثلثة جبرئيل وميكائيل واسرافيل وقال محمد بن كعب كان جبرئيل ومعه سبعة وقال الضحاك كانوا تسعة وقال مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا وقال السدى كانوا أحد عشر ملكا على سورة الغلمان الوضاء وجوههم الْمُكْرَمِينَ فيه اشارة الى ان ابراهيم عليه السلام أكرمهم قبل ان يعرفهم حيث خدمهم بنفسه واهله وعجل إليهم قرا هم وذلك سنة المرسلين وداب المهتدين قال رسول الله - ﷺ - من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليحسن الى جاره وفى رواية فلا يوذ جاره ومن كان يومن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا او ليسكت رواه احمد والشيخان فى الصحيحين والترمذي وابن ماجة من حديث ابى هريرة وفى الصحيحين من حديث ابى شريح الكعبي بلفظ من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليكرم ضيفه جايزته يوم وليلة والضيافة ثلثة ايام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له ان يثوى عنده حتى يحرجه وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو ان رجلا سال رسول الله - ﷺ - اى الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف وقيل سماهم مكرمين لانهم كانوا ملائكة كراما على الله تعالى قال الله تعالى بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ....
إِذْ دَخَلُوا الظرف متعلق بالحديث او الضيف او المكرمين والضمير راجع الى الضيف من حيث المعنى عَلَيْهِ اى على ابراهيم عليه السلام فَقالُوا سَلاماً اى نسلم عليك قالَ ابراهيم سَلامٌ ج اى عليكم سلام عدل الى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى تكون تحية احسن من تحيتهم قال الله تعالى وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً وجملة قال سلام استيناف كانه فى جواب ماذا قال ابراهيم حين سلموا عليه قرأ حمزة والكسائي سلم بكسر السين وسكون اللام بغير الف والباقون بفتح السين واللام والف بعدها المعنى واحد قَوْمٌ مُنْكَرُونَ اى أنتم قوم منكرون لا نعرفكم قال ابن عباس قال فى نفسه هؤلاء قوم منكرون لا نعرفهم قال ابو العالية أنكر سلامهم فى ذلك الزمان فى تلك الأرض لان السلام علم الإسلام.
فَراغَ اى ذهب ومال عطف على قال إِلى أَهْلِهِ مبادرة فى القرى فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ مشوى لانه كان عامة ماله البقر.
فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بان وضع بين أيديهم لياكلوا فلم يأكلوا قالَ ابراهيم أَلا تَأْكُلُونَ
الهمزة للانكار ان كان بعد ما راى انهم لا يأكلون وان كان فى أول الأمر فالهمزة للعرض والحث على الاكل على طريقة الأدب.
فَأَوْجَسَ يعنى أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً ط اى خوفا لما راى اعراضهم عن طعامه عن ابن عباس انه وقع فى نفسه انهم ملائكة أرسلوا للعذاب قالُوا لا تَخَفْ ط انا رسل الله وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ يعنى اسحق عليه السلام عَلِيمٍ يكمل علمه إذا بلغ.
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة فِي صَرَّةٍ اى صيحة قيل لم يكن ذلك إقبالا من مكان الى مكان وانما هو كقول القائل اقبل يشتمنى اى أخذت تصيح وعلى هذا التأويل قوله فى صرة فى محل النصب على المفعولية وان كان المراد الإقبال من مكان الى مكان فهى فى محل النصب على الحال فَصَكَّتْ وَجْهَها قال ابن عباس لطمت وجهها يعنى جمعت أصابعها فضربت وجهها كما هو عادة النساء عند التعجب إذا انكرن شيئا وقيل وجدت حرارة دم الحيض فلطمت وجهها من الحياء وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ يعنى أتلد عجوز عقيم وكانت سارة لم تلد قبل ذلك وكانت بنت تسعين سنة.
قالُوا اى الملائكة كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ ط يعنى قال ربك قولا مثل ذلك الذي قلنا وانما نخبرك من الله إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ فى صنعه الْعَلِيمُ بما كان وما يكون فيكون قوله حقا وفعله محكما ولما علم ابراهيم انهم ملائكة وانهم لا ينزلون مجتمعين الا لامر عظيم.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ اى ما شانكم وفيم أرسلتم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنى قوم لوط كانوا يعملون الخبائث التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر فارسل الله إليهم أخاهم لوطا فكفروا به وقالوا اتنا بعذاب الله ان كنت من الصادقين قال رب نجنى من القوم الظالمين وانصرني على القوم المفسدين فارسل الله إليهم الملائكة.
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ متحجر وهو السجيل-.
مُسَوَّمَةً معلمة على كل واحد منها اسم من يهلك به عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد فى الفجور قال ابن عباس يعنى للمشركين فان الشرك أسرف الذنوب وأعظمها.
فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها اى فى قرى قوم لوط واضمارها مع عدم سبق ذكرها لكونها معلوما بالسياق مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بلوط عليه السلام وذلك قوله تعالى قالوا يعنى الملائكة يا لوط انا رسل ربك لن يصلوا إليك فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد الا امرأتك انه مصيبها ما أصابهم-.
فَما وَجَدْنا فِيها اى فى قرى قوم لوط غَيْرَ اهل بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يعنى لوطا وبناته وصفهم الله تعالى بالايمان والإسلام جميعا لانه ما من مؤمن الا وهو مسلم.
وَتَرَكْنا فِيها آيَةً علامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعتبرين بها وهى تلك الحجارة الواقعة فى تلك القرى او صخر منضود فيها او ماء اسود منتن.
وَفِي مُوسى عطف على قوله وتركنا فيها على معنى وجعلنا فى إرسال موسى اية وهذا كقوله علفتها تبنا وماء باردا يعنى وسقيتها ماء باردا وهذا اقرب وانسب مما قيل انه معطوف على قوله وفى الأرض لبعده وعدم المناسبة فى القصة إِذْ أَرْسَلْناهُ هذا الظرف متعلق بما تعلق به فى موسى يعنى جعلنا فى موسى وقت ارسالنا إياه إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة ظاهرة يعنى معجزاته كالعصاء واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين وفلق البحر.
فَتَوَلَّى اى اعرض فرعون عن الايمان بِرُكْنِهِ اى بجمعه وجنوده الذين كان ينضوبهم وَقالَ فرعون هواى موسى ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ قال ابو عبيدة او بمعنى الواو والظاهر انها بمعناه فانه لما راى على يديه الخوارق قال ساحر ولما سمعه يقول ما لا يدركه عقله السقيم زعم انه مجنون وبين كلاميه منافاة وقال البيضاوي كانه جعل ما ظهر منه من الخوارق منسوبا الى الجن وتردونى انه هل حصل ذلك باختياره وسعيه او بغيرهما يعنى ان كان باختياره فهو ساحر والا فهو مجنون.
َخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ
فاغرقناهم فى اليم هُوَ مُلِيمٌ
اى ات بما يلام عليه من الكفر والعناد والتكبر والجملة حال من الضمير المنصوب فى أخذناه.
وَفِي عادٍ يعنى تركنا فى إهلاك عاد اية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وهى التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا وكانت دبورا لقوله عليه الصلاة والسلام نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور.
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ يعنى جعلت الأشياء كالرماد من الرم وهى البنى؟؟؟ والتفتت.
وَفِي ثَمُودَ يعنى وتركنا فى إهلاك ثمود اية إِذْ قِيلَ لَهُمْ قال لهم صالح لما عقروا لناقة تَمَتَّعُوا فى دياركم حَتَّى حِينٍ يعنى ثلثة ايام.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثاله واتباع صالح والايمان به- فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ قرأ الكسائي الصعقة بإسكان العين من غير الف والباقون بالألف بعد العين والصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب والصعق معركة شدة الصوت كذا فى القاموس اخذتهم بعد مضى الأيام الثلاثة وَهُمْ يَنْظُرُونَ اى يرون ذلك العذاب
عيانا فاصبحوا فى ديارهم جاثمين.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ للهرب بعد نزول العذاب قال قتادة لم ينهضوا من تلك الصرعة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ اى ممتنعين منه او منتقمين منا.
وَقَوْمَ نُوحٍ قرأ ابو عمر وحمزة والكسائي قوم بالجر عطفا على ثمود يعنى تركنا فى إهلاك قوم نوح اية والباقون بالنصب على انه مفعول بفعل محذوف دل عليه السياق تقديره وأهلكنا قوم نوح مِنْ قَبْلُ اى من قبل قوم لوط وفرعون وجنوده وعاد وثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الاستقامة بالكفر والمعاصي.
وَالسَّماءَ منصوب بفعل مضمر يفسره بَنَيْناها بِأَيْدٍ اى بقوة وقدرة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ قال ابن عباس اى قادرون ومطيقون من الوسع بمعنى الطاقة كما فى قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها والجملة حال من فاعل بنينا وجملة والسماء عطف على وفى موسى وقال الضحاك معناه به الأغنياء كما فى قوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وفى رواية عن ابن عباس انا لموسعون الرزق على خلقنا وقيل معناه لموسعون السماء او ما بنينها وبين الأرض.
وَالْأَرْضَ فَرَشْناها اى مهدناها ليستقروا عليها والتركيب نحو ما سبق فَنِعْمَ الْماهِدُونَ نحن.
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين قلت ليس المراد تعين تعدد التثنية بل المراد تعدد اصناف المخلوقات يعنى خلقنا من كل شىء اصناف ذات عدد فوق الواحد أدناه المثنى بل كل فرد منه ذو جهتين خير من وجه وشر من وجه معدوم بالذات واجب بالغير عاجز بالذات قادر بالغير لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لكى تذكروا وتعلموا ان التعدد من خواص الممكنات والواجب بالذات لا يقبل التعدد والانقسام واجب وجوده لا يصادم وجوده العدم قادر لا عجز له.
فَفِرُّوا من كل شىء إِلَى اللَّهِ ط بالتوجه والمحبة والاستغراق وامتثال الأوامر وكسب السعادات حتى تخلصوا من النقائص والشرور وتفوزوا بالخيرات وتصعدوا مصاعد القرب والكمال والفاء للسببية فان التذكر والتدبر فى شان الممكنات والواجب تعالى يوجب الفرار منها اليه تعالى وهذه الجملة بتقدير القول من كلام الرسول - ﷺ - ليرتبط بما بعده يعنى قل يا محمد ففروا الى الله إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ اى من عذابه المترتب على غضبه وهجرانه وبعده وعصيانه نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه نذيرا من الله تعالى بالمعجزات او مبين ما يجب ان يحذر عنه.
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ شريكا له فى وجوب الوجود او فى استحقاق العبودية او فى كونه مقصودا لكم ومجبوبا مستغلا به إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ للتاكيدا والاول لتحذير الخواص عن مطلق التوجه والمحبة بغيره تعالى والثاني
لتحذير العوام عن الشرك والمعاصي كما يدل عليه السياق يعنى ان لم تقدروا على الفرار من كل شىء حتى من أنفسكم الى الله تعالى فلا تجعلوا مع الله الها اخر فى العبادة وامتثال الأوامر.
كَذلِكَ خبر مبتدا محذوف اى شانك مع قولك كذلك الشان للرسل من قبلك مع أقوامهم ولما كان فى التشبيه إبهاما فسره بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الضمير عايد الى كفار مكة والمراد بالموصول كفار الأمم السابقة مفعول لاتى وفاعله مِنْ رَسُولٍ من زائدة فى النفي للاستغراق إِلَّا قالُوا استثناء مفرغ والمستثنى فى محل النصب على الحالية من فاعل اتى او مفعوله او كليهما يعنى ما أتاهم رسول فى حال الا حال قولهم ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدا محذوف والجملة مقولة- قالوا يعنى قالوا هذا ساحرا ومجنون كما يقول لك قومك وجاز ان يكون مشار اليه بذلك تكذيبهم الرسول وتسميتهم إياه ساحرا او مجنونا وجملة ما اتى علة للتشبيه.
أَتَواصَوْا اى الأولون والآخرون من الكفار بِهِ بهذا القول يعنى اوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوا جميعا والاستفهام للانكار والتوبيخ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن التواصي من جميعهم بهذا القول لتباعد ايامهم الى ان الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم فى الطغيان الحامل عليه وقوله كذلك الى قوله طاغون معترضات لتسلية النبي - ﷺ - وقوله فتول عنهم اى عن الكفار عطف على قل المقدرة يعنى قل ففروا إلخ.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى اعرض عن مجادلتهم بعد ما كررت عليهم الدعوة فابوا للاصرار والعناد فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الاعراض بعد ما بذلت جهدك فى البلاغ واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم وابن منيع وابن راهويه والهثيم بن كليب فى مسانيدهم من طريق مجاهد عن على رض عنه قال لما نزلت فتول عنهم فما أنت بملوم لم يبق منا أحد الا أيقن بالهلاكة إذا مر النبي - ﷺ - ان يتولى عنا فنزلت.
وَذَكِّرْ الاية فطابت أنفسنا واخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا انه لما نزلت فتول عنهم الاية اشتد على اصحاب رسول الله - ﷺ - وراوا ان الوحى قد انقطع وان العذاب قد حضر فانزل الله تعالى وذكر الاية كذا ذكر البغوي قول المفسرين وقوله تعالى ذكّر عطف على قوله تولّ يعنى لا تدع التذكير والموعظة فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ تعليل لقوله تعالى ذكر يعنى ان الذكر ينفع المؤمنين ويزداد لهم البصيرة وان لم ينتفع الكفار او المعنى تنفع من قدر الله إيمانه.
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ اى الا لامرهم بعبادتي وادعوهم اليه يعنى للتكليف يؤيده قوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً
كذا ذكر البغوي قول على رض قال مجاهد الا ليعرفوا والكفار ايضا يعرفون وجوده تعالى حيث قال الله تعالى ولئن سالتهم من خلقهم ليقولن الله وقيل معناه الا ليكونوا عباد الى او ليخضعوا لى ويتذللوا ومعنى العبادة فى اللغة التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والانس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل لمشيته لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له وقيل الا ليوحدون اما المؤمنون فيوحدون فى الشدة والرخاء اما الكافرون فيوحدونه فى الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء قال الله تعالى وإذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين قال صاحب المدارك الكفار كلهم يوحدون الله فى الاخرة قال الله تعالى ثم لم تكن فتنتهم الا ان قالوا والله ربنا ما كنا مشركين واشراكهم فى الدنيا وهى بعض أحيان وجودهم لا ينافى كونهم مخلوقين للتوحيد قلت والقول ما قال على رض ما سواه اقوال ضعيفة واهية والذي حملهم على ما قالوا ان ظاهر الاية يقتضى انهم خلقوا مرادا منهم الطاعة وتخلف مراد الله تعالى محال وقد قال رسول الله - ﷺ - كل ميسّر لما خلق له وقال الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وقال الكلبي والضحاك والسفيان هذا خاص لاهل الطاعة من الفريقين يدل عليه قراءة ابن عباس ما خلقت الجن والانس من المؤمنين الا ليعبدون وعندى تاويل الاية ما خلقت الجن والانس الا مستعدين العبادة صالحين لها نظيره قوله - ﷺ - ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه وينصرانه ويمجسانه كما تنتهج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول فطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله متفق عليه من حديث ابى هريرة وهذا التأويل يناسب تاويل على رض ومقتضى هذه الاية ذم الكفار لاجل اضاعتهم الفطرة السليمة هى اصل الخلقة.
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ المراد ان شانه تعالى مع عباده ليس شان السادة مع عبيدهم فانهم انما يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل رزقهم وكسب طعامهم والله تعالى منزه عن ذلك وقيل معناه ما أريد منهم ان يرزقوا أحدا من خلقى ولا ان يرزقوا أنفسهم وان يطعموا أحدا من خلقى وينافى هذا التأويل اسناد الطعام الى نفسه وأجيب بان الخلق عيال الله ومن اطعم عيال أحد فقد أطعمه كما جاء فى الحديث يقول الله يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال اما علمت انه استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه انك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى رواه مسلم من حديث ابى هريرة فى حديث ذكر فيه مرضت فلم تعدنى واستسقيتك فلم تسقنى قلت هذا قول بالتجوز ومع ذلك
يرد عليه ان الله تعالى أراد من المؤمنين وامر الناس أجمعين بأداء زكوة أموالهم رزقا للفقراء وان يطعموا أنفسهم وأهليهم ومن وجب عليهم نفقاتهم فكيف يقال ما أريد منهم ان يرزقوا اللهم الا ان يقال المقص من إيجاب الزكوة امتثال الأمر وفعل الأداء دون الترزيق ومن هاهنا قال ابو حنيفة لا يجب الزكوة على الصبى والمجنون ولكن هذا الجواب لا يستقيم فى العشر والخراج ونفقة الآباء والأولاد والزوجات فان المقصود إيصال الرزق الى العباد ولذا تجرى فيها النيابة ويتادى بأداء ولى الصبى.
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ لجميع خلقه مستغن عنه ذُو الْقُوَّةِ على الترزيق وعلى كل ما أراد الْمَتِينُ شديدة المبالغ فى القدرة قيل فى تاويل الاية ان قوله تعالى ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ إلخ من كلام رسول الله - ﷺ - مقدر بقل يعنى قل يا محمد ما أريد منهم اى من الناس من رزق نظيره لا أسألكم عليه اجرا قال بعض المحققين قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ بتقدير قل عطف على ذَكِّرْ والى قوله تعالى ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ داخل فى مقولة قل لا يقال كيف يصح ما خَلَقْتُ الْجِنَّ إلخ كلاما للرسول لانا نقول هو على طريقة قول الملك للسفير قل ان أمركم بكذا فيقول السفير بقول الملك انى أمركم بكذا وان الأمير يأمركم بكذا ومثل هذا متعارف.
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالشرك والمعاصي واضاعة الفطرة السليمة ووضع الكفران موضع العبادة التي كلفوا بها وخلقوا مستعدين لها ذَنُوباً اى نصيبا من العذاب وهو فى الأصل الدلو العظيم الذي له ذنب واستعير للنصيب أخذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلاء وقال الزجاج الذنوب فى اللغة النصيب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ اى مثل نصيب نظرائهم من الأمم السابقة كعاد وثمود وفرعون وقوم نوح وقوم لوط والفاء للسببية تعليل لقوله فتول عنهم- فَلا يَسْتَعْجِلُونِ الفاء ايضا للسببية يعنى إذا سمعت وعيدي لكفار فهو يكفيك للتسلية فلا تستعجلون فى تعذيبهم وجاز ان يكون هذا خطابا بالكفار جوابا لقولهم متى هذا الوعد ان كنتم صادقين.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ يعنى يوم القيامه وقيل يوم بدر الفاء للسببية مسبب لتحقق الوعيد والله تعالى اعلم.
Icon