بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلةاثنتان وعشرون آية وهي مدنية
قال القرطبي في قول الجميع. إلا رواية عن عطاء أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي. وقال الكلبي : نزلت جميعها بالمدينة غير قوله :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ نزلت بمكة، وقال ابن عباس : نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله والمجادلة بكسر الدال كما ذكره السعد في حواشي الكشاف وفي الشهاب بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف كما في الكشاف وهذه السورة أول النصف الثاني من القرآن، باعتبار عدد السور، فهي الثامنة والخمسون منها، وهي أول العشر الأخير من القرآن باعتبار عدد أجزائه، وليس فيها آية إلا وفيها ذكر الجلالة مرة أو مرتين أو ثلاثا وجملة ما فيها من الجلالات خمس وثلاثون.
ﰡ
(وتشتكي إلى الله)، أي تظهر ما بها من المكروه والفاقة والوحدة، والمجادلة هذه الكائنة منها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه كان كلما قال لها قد حرمت عليه، قالت والله ما ذكر طلاقاً، ثم تقول: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، وأن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك، فهذا معنى قوله: (وتشتكي إلى الله) قال الواحدي: قال المفسرون: نزلت هذه الآية في خولة بنت ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، وكان به لمم فاشتد به لممه ذات يوم فظاهر منها، ثم ندم على ذلك، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية، وقيل: هي خولة بنت حكيم، وقيل: اسمها جميلة، والأول أصح. وقيل: هي بنت خويلد قال الماوردي: إنها نسبت تارة إلى
روي أن عمر بن الخطاب مر بها في زمن خلافته وهو على حمار والناس حوله فاستوقفته ووعظته، فقيل له: أتقف لهذه العجوز هذا الموقف؟ فقال أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟
(والله يسمع تحاوركما) مستأنفة جارية مجرى التعليل لما قبلها، أي والله يعلم تراجعكما في الكلام من حاور إذا راجع، أو حور إذا رجع، أو جملة حالية وهو بعيد. وقد أخرج ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
" عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفي علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) وهو أوس بن الصامت ".
(إن الله سميع بصير) يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر، ومن جملة ذلك ما جادلتك به هذه المرأة، أخرج أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني والبيهقي.
" من طريق يوسف بن عبد الله قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه، فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليّ كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل
ثم بين سبحانه شأن الظهار في نفسه وذكر حكمه بطريق الاستئناف فقال:
وأصل الظهار مشتق من الظهر وهو لغة العلو وليس هو من ظهر الإنسان واختلفوا إذا قال لامرأته: أنت عليّ كرأس أمي أو يدها أو رجلها أو نحو ذلك، هل يكون ظهاراً أم لا؟ وهكذا إذا قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر
(منكم) أي حال كونهم منكم أيها العرب، وهذا توبيخ لهم، وتهجين لعادتهم، لأن الظهار كان خاصاً بالعرب ومن أيمان جاهليتهم دون سائر الأمم (من نسائهم) يعني يحرمون زوجاتهم كتحريم الله عليهم ظهور أمهاتهم، يقولون لهن: أنتن كظهور أمهاتنا (ما هن أمهاتهم) أي ما نساؤهم بأمهاتهم فذلك كذب بحت منهم، وإنه منكر وزور، وفي هذا توبيخ للمظاهرين وتبكيت لهم قرأ الجمهور أمهاتهم بالنصب على اللغة الحجازية في إعمال (ما) عمل ليس، وقرىء بالرفع على عدم الإعمال، وهي لغة نجد وبني أسد. ثم بيّن لهم سبحانه أمهاتهم على الحقيقة فقال:
(إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) أي ما أمهاتهم إلا النساء اللاتي ولدنهم، يريد أن الأمهات على الحقيقة الوالدات، والمرضعات ملحقات بالوالدات بواسطة الرضاع، وكذا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، لزيادة حرمتهن وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة فلذا زاد سبحانه في توبيخهم وتقريعهم فقال:
(وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً) أي وإن المظاهرين ليقولون بقولهم هذا فظيعاً من القول، ينكره الشرع، والزور: الكذب الباطل، المنحرف عن الحق (وإن الله لعفو غفور) أي بليغ العفو والمغفرة إذ جعل الكفارة عليهم، مخلصة لهم عن هذا القول المنكر ولما ذكر سبحانه الظهار إجمالاً، ووبخ فاعليه، شرع في تفصيل أحكامه فقال:
واختلف أهل العلم في تفسير العود المذكور على أقوال، الأول أنه العزم على الوطء، وبه قال العراقيون أبو حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك: وقيل هو الوطء نفسه، وبه قال الحسن، وروي أيضاًً عن مالك، وقيل: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق، وبه قال الشافعي، وقيل: هو الكفارة، والمعنى أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن أبي حنيفة، وقيل: هو تكرير الظهار بلفظه وبه قال أهل الظاهر وروي عن بكير بن الأشج وأبي العالية والفراء والمعنى ثم يعودون إلى قول ما قالوا وقيل: المعنى يعودون إليه بالنقض والرفع والإزالة وإلى هذا الاحتمال ذهب أكثر المجتهدين وقيل: معنى العود السكوت عن الطلاق بعد الظهار وقيل: العود الندم أي يندمون فيرجعون إلى الألفة.
قال ابن عباس في الآية: هو الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي فإذا قال ذلك فليس يحل له أن يقربها بنكاح ولا غيره، حتى يكفر بعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والمس النكاح فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً وإن هو قال لها أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا فليس يقع في ذلك ظهار حتى يحنث فإن حنث فلا يقربها حتى يكفر: ولا يقع في الظهار طلاق.
(فتحرير رقبة) أي فالواجب عليهم إعتاق رقبة يقال: حررته أي
(من قبل أن يتماسا) المراد بالتماس هنا الجماع وبه قال الجمهور فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر، وقيل: إن المراد به الاستمتاع بالجماع أو اللمس أو النظر إلى الفرج بشهوة، وبه قال مالك، وهو أحد قولي الشافعي (ذلكم) أي الحكم المذكور (توعظون به) أي تؤمرون أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات وفيه بيان ما هو المقصود من شرع الكفارة، قال الزجاج: معنى الآية ذلكم التغليظ في الكفارة توعظون به أي إن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار، لأن الحكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحكم، حتى لا تعودوا إلى الظهار وتخافوا عقاب الله عليه.
(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم عليها.
" قال ابن عباس: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: إني ظاهرت من امرأتي فرأيت بياض خلخالها في ضوء القمر فوقعت عليها قبل أن أكفِّر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألم يقل الله (من قبل أن يتماسا) قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: أمسك عنها حتى تكفر " (١)، وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي.
" عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إِني ظاهرت من امرأتي
_________
(١) رواه الحاكم.
(فمن لم يستطع) صيام شهرين متتابعين (فإطعام ستين مسكيناً) أي فعليه أن يطعم ستين مسكيناً لكل مسكين مدان، وهما نصف صاع، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وقال الشافعي وغيره لكل مسكين مد واحد من غالب قوت البلد، والظاهر من الآية أن يطعمهم حتى يشبعوا مرة واحدة أو يدفع إليهم ما يشبعهم ولا يلزمه أن يجمعهم مرة واحدة بل يجوز له أن يطعم بعض الستين في يوم، وبعضهم في يوم آخر عن أبي هريرة ثلاث فيه مد، كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الصيام.
(ذلك) أي ما تقدم من البيان وتعليم الأحكام والتنبيه عليها واقع أو فعلنا ذلك (لتؤمنوا بالله ورسوله) وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وتصدقوا أن الله أمر بها، أو لتطيعوا الله ورسوله في الأوامر والنواهي، وتقفوا عند حدود الشرع ولا تتعدوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه غيرهم " عن سلمة بن صخر الأنصاري فقال:
(وتلك) أي الأحكام المذكورة في الظهار والكفارة (حدود الله) فلا تجاوزوا حدوده التي حدها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة (وللكافرين) الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يعلمون بما حده الله لعباده، وسماه كفراً تغليظاً وتشديداً (عذاب أليم) وهو عذاب جهنم يوم القيامة، ولما ذكر سبحانه المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين فقال:
(كبتوا) أي يكبتوا ويذلوا ويتفرق جمعهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي، تنبيهاً على تحقيق وقوعه، وقيل: المعنى على الماضي وذلك ما وقع للمشركين يوم بدر، فإن الله كبتهم بالقتل والأسر والقهر (كما كبت الذين من قبلهم) أي أذلوا وأخزوا، يقال: كبت الله فلاناً إذا أذله، والمردود بالذل يقال له: مكبوت، قال المقاتلان: أخزوا كما أخزي الذين من قبلهم من أهل الشرك، وكذا قال قتادة وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا، وقال ابن زيد: عذبوا، وقال السدي: لعنوا وقال الفراء: أغيظوا يوم الخندق، والمراد بمن قبلهم كفار الأمم الماضية المعادين لرسل الله.
(وقد أنزلنا آيات بينات) أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسله من الأمم المتقدمة وقيل المراد الفرائض التي أنزلها الله سبحانه
(أحصاه الله) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ينبئهم بذلك مع كثرته واختلاف أنواعه؟ فقيل: أحصاه الله جميعاً، ولم يفته منه شيء (و) الحال أنهم قد (نسوه) ولم يحفظوه (والله على كل شيء شهيد) تذييل مقرر لإحصائه تعالى، أي لا يخفى عليه شيء من الأشياء، بل هو مطلع وناظر، ثم أكد سبحانه بيان كونه عالماً بكل شيء فقال:
(إلا هو رابعهم) أي بالعلم يعني يعلم نجواهم: كأنه حاضر معهم ومشاهدهم، كما تكون نجواهم معلومة عند الرابع الذي يكون معهم كذا في
(ولا) نجوى (خمسة إلا هو سادسهم) أي جاعلهم ستة من حيث إنه يشاركهم في الاطلاع على تلك النجوى وتخصيص العددين بالذكر لأن أغلب عادات المتناجين أن يكونوا ثلاثة أو خمسة أو كانت الواقعة التي هي سبب النزول في متناجين كانوا ثلاثة في موضع وخمسة في موضع. أو لأن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر يحب الموتر فخصهما بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور. قال الفراء: والعدد غير مقصود لأنه سبحانه مع كل عدد قل أو كثر، يعلم السر والجهر لا تخفى عليه خافية.
(ولا أدنى من ذلك) أي ولا أقل من العدد المذكور كالواحد والاثنين (ولا أكثر) منه كالستة والسبعة (إلا هو معهم) أي مصاحب لهم بعلمه، يعلم ما يتناجون به، لا يخفى عليه شيء منه، قرأ الجمهور أكثر بالثاء وبالجر بالفتحة عطفاً على لفظ نجوى، وقرىء بالياء الموحدة وبالرفع عطفاً على محل نجوى، قال الواحدي: قال المفسرون: إن المنافقين واليهود كانوا يتناجون فيما بينهم، ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله هذه الآيات:
(أين كانوا) معناه إحاطة علمه بكل تناج يكون معهم في أي مكان من الأمكنة، ولو كانوا تحت الأرض، فإن علمه بالأشياء ليس لقرب مكان حتى يتفاوت بقرب الأمكنة وبعدها، (ثم ينبئهم) أي يخبرهم (بما عملوا يوم القيامة) توبيخاً لهم وتبكيتاً وإلزاماً للحجة (إن الله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.
(ويتناجون بالإِثم والعدوان) قرأ الجمهور يتناجون بوزن يتفاعلون لقوله فيما بعد (إذا تناجيتم فلا تتناجوا)، وقرىء ينتجيون بوزن يفتعلون، وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا وتقاتلوا واقتتلوا، ومعنى الإثم ما هو إثم في نفسه، كالكذب والظلم، والعدوان ما فيه عدوان على المؤمنين.
(وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي مخالفته، وقرىء معصيات بالجمع، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهاهم عن النجوى فعصوه وعادوا إليها،
(وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله) قال القرطبي: إن المراد بها اليهود، كانوا يأتون النبي ﷺ فيقولون: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهراً. وهم يعنون الموت باطناً، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: عليكم، وفي رواية وعليكم قال ابن عمر في الآية: يريدون بذلك شتمه فنزلت هذه الآية أخرج أحمد والبخاري والترمذي وصححه.
" عن أنس أن يهودياً أتى النبي ﷺ وأصحابه فقال: السام عليكم فرد عليه القوم، فقال: هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله أعلم، سلم يا نبي الله، قال: لا ولكنه قال: كذا وكذا، ردوه علي فردوه، قال: قلت السام عليكم؟ قال: نعم قال النبي ﷺ عند ذلك: إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك، قال عليك ما قلت "، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما:
" عن عائشة قالت: دخل على رسول الله ﷺ يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال: يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا المفحش، قلت: ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما سمعتني أقول: وعليكم، فأنزل الله هذه الآية " (١) وعن ابن عباس قال: كان المنافقون
_________
(١) رواه مسلم.
(ويقولون في أنفسهم) أي فيما بينهم إذا خرجوا من عنده (لولا يعذبنا الله بما نقول) أي هلا يعذبنا بذلك؟ ولو كان محمد نبياً لعذبنا بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به. وقيل: المعنى لو كان نبياً لاستجيب له فينا، حيث يقول: وعليكم، ووقع علينا الموت عند ذلك (حسبهم جهنم) عذاباً (يصلونها) يدخلونها (فبئس المصير) أي المرجع وهو جهنم.
" عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه " (١)، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه:
_________
(١) رواه البخاري ومسلم.
(وتناجوا بالبر والتقوى) أي بالطاعة وترك المعصية، ثم خوفهم سبحانه فقال (واتقوا الله الذي إليه تحشرون) فيجزيكم بأعمالكم ثم بين سبحانه أن ما يفعله اليهود والمنافقون من التناجي، هو من جهة الشيطان فقال:
(ليحزن الذين آمنوا) أي لأجل أن يوقعهم في الحزن، بما يحصل لهم من التوهم أنها في مكيدة يكادون بها قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزانه والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن يقال حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس: وأحزنه جعله حزيناً، والقراءة الأولى أشد في المعنى (وليس بضارهم شيئاًً) أي وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان أو الحزن بضار المؤمنين شيئاًً من الضرر (إلا بإذن الله) أي بمشيئته وقيل: بعلمه.
(وعلى الله فليتوكل المتوكلون) أي يكلون أمرهم إليه ويفوضونه في جميع شئونهم ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
وقال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو يوم جمعة وأن
ويؤيد هذا حديث " ابن عمر عند مسلم والبخاري وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ".
(فافسحوا يفسح الله لكم) أي فوسعوا يوسع الله لكم في الجنة أو في كل ما تريدون التفسيح فيه من المكان والرزق وغيرهما.
" عن مقاتل بن حيان قال أنزلت هذه الآية يوم جمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي ﷺ عليهم، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم. فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فعرف النبي ﷺ ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم فشق ذلك عليه، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر قم أنت يا فلان وأنت فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، فنزلت هذه الآية.
(وإذا قيل انشزوا فانشزوا) قرأ الجمهور بكسر الشين فيهما، وقرىء بضمها فيهما، وهما لغتان بمعنى واحد، وقراءتان سبعيتان، يقال: نشز أي ارتفع ينشز وينشز كعكف يعكف ويعكف قال جمهور المفسرين: أي انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، وبه قال ابن عباس، وقال عكرمة ومجاهد والضحاك: كان رجال يتثاقلون عن الصلاة فقيل لهم إذا نودي للصلاة فانهضوا وقال الحسن: انهضوا إلى الحرب، وقال ابن زيد: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى
وقد قدمنا أن معنى نشز ينشز ارتفع، وهكذا نشز ينشز إذا تنحى عن موضعه، ومنه امرأة ناشزة أي متنحية عن زوجها، وأصله مأخوذ من النشز وهو ما ارتفع من الأرض وتنحى، ذكر معناه النحاس.
(يرفع الله الذين آمنوا منكم) بطاعتهم لله ولرسوله وامتثال أوامره في قيامهم من مجالسهم وتوسعتهم لإخوانهم في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما (والذين أوتوا العلم) أي ويرفع العالمين منهم خاصة (درجات) عالية في الكرامة في الدنيا والثواب في الآخرة، ومعنى الآية أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات ثم رفعه بعلمه درجات، وقيل: المراد بالذين آمنوا من الصحابة وكذلك بالذين أوتوا العلم، وقيل: المراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن، والأولى حمل الآية على العموم في كل مؤمن، وكل صاحب علم من علوم الدين من جميع أهل هذه الملة، ولا دليل يدل على تخصيص الآية بالبعض دون البعض.
وقال ابن عباس في الآية: يرفع الله الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤمنوا، درجات وقال ابن مسعود: على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات وعنه قال: ما خص الله العلماء في شيء من القرآن كما خصهم
(والله بما تعملون خبير) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم من خير وشر فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً.
وقال زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته، وكان ذلك يشق على المؤمنين، لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله الآية الأولى فلم ينتهوا، فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل، لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشق ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله عنهم بالآية التي بعد هذه.
وقال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى شقوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه
" وعن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى ديناراً؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة قال إنك لزهيد، قال: فنزلت (أأشفقتم) الآية في خفف الله عن هذه الأمة " والمراد بالشعيرة هنا وزن شعيرة من ذهب، وليس المراد الواحدة من حب الشعير، أخرجه الترمذي وحسنه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.
وعنه رضي الله تعالى عنه قال ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت، وما كانت إلا ساعة يعنى آية النجوى، وعنه رضي الله عنه قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدى، آية النجوى كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت كلما ناجيت رسول الله ﷺ قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت (أأشفقتم) الآية، وعن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت آية النجوى فقدمت شعيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك لزهيد، فنزلت الآية الأخرى (أأشفقتم) الآية.
(ذلك) أي ما تقدم من تقديم الصدقة بين يدي النجوى (خير لكم) لما فيه من طاعة الله، وتقييد الأمر بكون امتثاله خيراً لهم من عدم الامتثال (وأطهر) لنفوسهم، يدل على أنه أمر ندب لا أمر وجوب قوله: (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) يعني من كان منكم لا يجد تلك الصدقة المأمور بها بين يدي النجوى، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة.
وقيل: المعنى أبخلتم، وجمع الصدقات هنا باعتبار المخاطبين، قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة وقيل إنه لم يبق إلا يوماً واحداً وقال قتادة: ما كان إلا ساعة من نهار.
(فإذا لم تفعلوا) ما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ولم يفعل، وأما من لم يجد فقد تقدم الترخيص له بقوله: (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم) وإذ على بابها في الدلالة على المضي وقيل: هي بمعنى إذا وقيل: بمعنى إن (وتاب الله عليكم) رجع بكم عنها بأن رخص لكم في الترك (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله) المعنى إذا وقع منكم التثاقل عن امتثال الأمر بتقديم الصدقة بين يدي النجوى فاثبتوا على إقامة الصلاة المفروضة وإيتاء الزكاة الواجبة وطاعة الله ورسوله فيما تؤمرون به وتنهون عنه.
(والله خبير بما تعملون) لا يخفى عليه من ذلك شيء، فهو مجازيكم وليس في الآية ما يدل على تقصير المؤمنين في الامتثال أما الفقراء منهم فالأمر واضح، وأما من عداهم من المؤمنين فإنهم لم يكلموا بالمناجاة حتى تجب عليهم الصدقة، بل أمروا بالصدقة إذا أرادوا المناجاة، فمن ترك المناجاة فلا يكون مقصراً في امتثال الأمر بالصدقة على أن الآية ما يدل على أن الأمر للندب كما قدمنا، وقد استدل بهذه الآية من قال بأنه يجوز النسخ قبل إمكان الفعل وليس هذا الاستدلال بصحيح، فإن النسخ لم يقع إلا بعد إمكان الفعل، وأيضاًً قد فعل ذلك البعض فتصدق بين يدي نجواه كما تقدم.
(فصدوا عن سبيل الله) أي منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، وقيل المعنى فصدوا المسلمين عن قتالهم بسبب إظهارهم الإسلام (فلهم عذاب مهين) أي يهينهم ويخزيهم، قيل هو تكرير لقوله (أعد الله لهم عذاباً شديداً) للتأكيد، وقيل الأول عذاب القبر، وهذا عذاب الآخرة، ولا وجه للقول بالتكرير فإن العذاب الموصوف بالشدة غير العذاب الموصوف بالإهانة.
" عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالساً في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين فقال: إنه سيأتيكم إنسان فينظر
(ويحسبون) في الآخرة (أنهم) بتلك الأيمان الكاذبة (على شيء) مما يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، كما كانوا يحسبون ذلك في الدنيا (ألا إنهم هم الكاذبون) أي الكاملون في الكذب المتهالكون عليه، البالغون إلى حد لم يبلغ إليه غيرهم بإقدامهم عليه وعلى الأيمان الفاجرة، في موقف القيامة بين يدى الرحمن.
(ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) أي الكاملون في الخسران، حتى كأن خسران غيرهم بالنسبة إلى خسرانهم ليس بخسران، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلال وكذبوا على الله وعلى نبيه وحلفوا الأيمان الفاجرة في الدنيا والآخرة، وفوتوا على أنفسهم النعيم المؤبد، وعرضوها للعذاب المخلد.
(وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي ولو كان المحادون لله ورسوله آباء الموادين الخ، فإن الإيمان يزجر عن ذلك ويمنع منه ورعايته أقوى من رعاية الأبوة والنبوة والأخوة والعشيرة، وقدم أولاً الآباء لأنهم يجب طاعتهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلب، ثم ثلث بالإخوان لأنهم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع، ثم ربع بالعشيرة لأن بها يستغاث وعليها يعتمد أفاده السمين، روي عن ابن مسعود في هذه الآية قال: ولو كانوا
(أُولَئِكَ) يعني الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله (كَتَبَ) أي خلق، وقيل: أثبت وقيل: جعل، وقيل: حكم والمعاني متقاربة (في قلوبهم الإيمان) وإنما ذكر القلوب لأنها موضعه (وأيدهم بروح منه) أي قواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمى نصره لهم روحاً لأن به يحيي أمرهم، وقيل: هو نور القلب، وقال الربيع بن أنس: بالقرآن والحجة، وقيل: بجبريل، وقيل: بالإيمان، وقيل: برحمة، وقيل: بكتاب أنزله فيه حياة لهم، وقيل: بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب، وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان، وعن عبد العزيز بن رواد أنه لقيه المنصور فلما عرفه هرب منه وتلاها، وقيل: هي في أهل البدع والأهواء.
(ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) على الأبد (رضي الله عنهم) أي قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة (ورضوا عنه) أي فرحوا بما أعطاهم عاجلاً وآجلاً (أولئك حزب الله) أي جنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، وفي إضافتهم إلى الله سبحانه تشريف لهم وتعظيم، وتكريم فخيم (ألا إن حزب الله هم المفلحون) أي الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة، الكاملون في الفلاح الذين صار فلاحهم هو الفرد الكامل حتى كأن فلاح غيرهم بالنسبة إلى فلاحهم كلا فلاح.
أربع وعشرون آية
وهي مدنية، قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بالمدينة وعن ابن الزبير مثله، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما.
عن سعد بن جبير قال قلت لابن عباس: سورة الحشر قال: سورة النضير، يعني أنها نزلت في بني النضير، كما صرح بذلك في بعض الروايات.
بسم الله الرحمن الرحيم
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (٢) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤)