تفسير سورة الأنعام

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الأنعام
مكية وهي مائة وخمسون وست وستون آية وعشرون ركوعا.

﴿ الحمد لله ﴾ تعليم للعباد بالتحميد في ضمن الإخبار بثبوت جميع المحامد له تعالى، و التعريض بأنه سبحانه مستغن عن تحميد العباد فله الحمد وإن لم يحمد ﴿ الذي خلق السماوات والأرض ﴾ يعني قدرهما وأوجدهما من غير مثال سبق، وفي التوصيف به تنبيه على ظهور ثبوت الحمد لله تعالى من غير احتياج إلى الاستدلال، خص الله سبحانه السماوات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العباد العبر والمنافع للناس ولأن خلق غيرهما وحدوثهما مما يراه الناس من الحوادث اليومية ظاهر، ومن ثم زعم بعض الجهلة قدمهما بالزمان، وذكر السماوات بلفظ الجمع دون الأرض وهي مثلهن إشعارا باختلاف ماهيات السماوات وأشكالها دون الأرضين وهي مثلهن إشعارا باختلاف ماهيات السماوات وأشكالها دون الأرضيين، قال : كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة وآخر آية في التوراة قل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا والآية، قال : ابن عباس فتح الله الخلق بالحمد فقال : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وختمهم بالحمد فقال :﴿ وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ﴾١ ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ في القاموس الجعل بمعنى الخلق، وقال البيضاوي : الفرق بينهما أن الخلق بمعنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي جعل الشيء في ضمن الشيء أي تحصيل منه أو تصير إياه أو ينقل منه إليه بالجملة فيه اعتبار الشيئين وارتباط بينهما، ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية، قلت : ولأجل عدم قيامهما بأنفسهما، أسند الجعل إلى الظلمة مع كونها عدمية و العدم لا يتعلق به الجعل نظرا إلى كونها منتزعا من محل مخلوق، وجمع الظلمات لكثرة أجرام حاملة لها بالنسبة إلى الأجرام النورانية، فالنور بالنسبة إلى الظلمة كالواحد بالنسبة إلى المتعدد، وقال : الحسن جعل الظلمات والنور يعني الكفر والإيمان فعلى هذا أورد الظلمات بلفظ الجمع دون النور لتعدد طرق الكفر واتحاد طريقة الإيمان، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال :( هذا سبيل الله ) ثم خطا خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال :( هذا سبل على سبيل منها شيطان يدعوا إليه ) ثم قرأ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾٢رواه أحمد و النسائي والدارمي. وقدم الظلمات في الذكر لتقدمها في الوجود، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله خلق الخلق في ظلمة فألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول : جف القلم على علم الله )٣ رواه أحمد الترمذي ﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ عطف على قوله الحمد لله يعني أنه تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته، أو على قوله خلق يعني أنه خلق مالا يقدر عليه أحد غيره ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء أصلا، ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد هذا البيان، والباء في بربهم متعلق بكفروا وصلة يعدلون محذوف ليقع الإنكار على الفعل يعني يعدلون عنه وعلى الثاني متعلق بيعدلون يعني أن الكفار يعدلون أي يسوون بربهم الأوثان، وقال : النضر بن شميل الباء بمعنى عن أي عن ربهم يعدلون أي يميلون وينحرفون إلى غيره من العدول
١ سورة الزمر، الآية: ٧٥..
٢ رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعيف. انظر مجمع الزوائد في كتاب: التفسير، باب: سورة الأنعام(١١٠٠٥)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة(٢٧١٢) وقال: حديث حسن..
﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ يعني ابتدأ خلقكم منه حيث خلق منه أصلكم آدم عليه السلام أو المعنى خلق أباكم أدم بحذف المضاف قال : السدي بعث الله تعالى جبرائيل إلى الأرض ليأتيه طائفة منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقض مني فرجع ولم يأخذ وقال : يا رب إنها عاذت بك فبعث مكيائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه بالله فقال : وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان بني آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر كذلك ولذا اختلف أخلاقهم فقال : الله تعالى رحم جبرائيل ومكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم أجعل أرواح من أخلق من الطين بيدك، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه ( خلق الله آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حمأ مسنونا ثم خلقه وصوره وتركه حتى صار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه روحه كذا قال : البغوي، وعن أبي موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض و الأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب )١ رواه أحمد والترمذي وأبو داود، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( خلق الله آدم من تراب الجابية وعجنه بماء الجنة ) رواه الحكيم وابن عدي بسند حسن﴿ ثم قضي أجلا ﴾ والمراد به والله أعلم أنه يكتب الملك أجله بإذن ربه بعد تمام خلقه كما يدل عليه كلمة ثم والجملة الفعلية، عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق :( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله )٢متفق عليه ﴿ أجلا مسمى عنده ﴾ أي أجل مثبت معين عند الله في علمه القديم لا يقبل التغير ولا مدخل فيه لغيره تعالى ولذا عبر عنه بالجملة الاسمية أغنى عن تقديم الخبر، وقال : الحسن وقتادة و الضحاك الأجل الأول من الولادة إلى الموت والأجل الثاني من الموت إلى البعث وهو البرزخ روي ذلك عن ابن عباس، وقال : لكل واحد أجلان أجل من الولادة إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث فإن كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر وإن كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث، وقال : مجاهد وسعيد بن جبير الأجل الأول أجل الدنيا وأجل الثاني أجل الآخرة، وقال : عطية عن ابن عباس ثم قضى أجلا يعني النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع عند اليقظة وأجل مسمى عنده أجل الموت﴿ ثم أنتم تمترون ﴾ أي تشكون من المرية أو تجادلون من المرء في قضاءه وقدره تعالى أو في البعث بعد الموت، وكلمة ثم لاستبعاد المرية والمراء بعد ظهور أنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم فمن كان هذا شأنه لا يخرج من قضائه وعلمه شيء ويقدر هو على إعادتهم كما خلق أول مرة. عن عائشة قالت : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ستة لعنتهم ولعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله ويدل من أعزاه الله والمستحل لحرمة الله والمستحل من عرتي ما حرم الله والتارك لسنتي ) رواه البيهقي في المدخل ورزين في كتابه، قلت : الزائد في كتاب الله الروافض يزيدون في كتاب الله عشرة أجزاء فوق ثلاثين جزء ويزعمون أن عثمان أسقطها من القرآن ويزعمون أن سورة الأحزاب مثل سورة البقرة، والمستحل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج، والمكذب بقدر الله المعتزلة وهو المشار إليهم بهذا الآية والمستحل لحرمة الله المرجئة القائلين بالجبر، والمتسلط بالجبروت السلاطين الظلمة، والتارك للسنة جميع أهل الأهواء والفساق
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة (٢٩٥٥) وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر(٤٦٨١)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (٣٢٠٨) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآدب، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه(٢٦٧٣)..
﴿ وهو الله ﴾ الضمير راجع إلى الله الموصوف بما ذكر والله خبره أو بدل منه، وجاز أن يكون الضمير للشأن والله مبتدأ نظيره قوله تعالى ﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾ ﴿ في السماوات وفي الأرض ﴾ متعلق باسم الله على تقدير كونه مشتقا بمعنى المعبود يعني هو المعبود على الاستحقاق فيهما لا غيره نظيره قوله تعالى﴿ وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ﴾١ وعلى تأويل المشتق يعني هو المعرف بذلك الاسم أو المذكور به فيهما أو ظرف مستقر وقع خبرا على التجوز فإن الخلائق كلها مظاهر صفاته ومجالي كمالاته، وقال : البيضاوي إنه تعالى لكمال علمه بما فيهما كان فيهما وقوله تعالى ﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾ الجملة خبر ثان أو هي الخبر والظرف متعلق به، ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيها يقال رميت الصيد في المفازة من العمران، والمعنى يعلم ما تكتمون في أنفسكم وما تبدون منها ﴿ ويعلم ما تكسبون ﴾ بالجوارح من خير أو شر فيجازيكم عليها، وجاز أن يكون المعنى يعلم ما أسررتم من أفعال القلوب والجوارح وما أعلنتم منها وما تكسبونها في الاستقبال ولم تعملوا بعد فإنه من خصائص معلومات الله تعالى
١ سورة الزخرف، الآية: ٨٤...
﴿ وما تأتيهم ﴾ يعني أهل مكة ﴿ من آية ﴾ من زيادة للاستغراق ﴿ من آيات ربهم ﴾ مثلا انشقاق القمر ونطق الحصيات وغير ذلك، وقال : عطاء من آيات القرآن ومن للتبعيض ﴿ إلا كانوا عنها معرضين ﴾ تاركين النظر فيه
﴿ فقد كذبوا بالحق ﴾ بالقرآن وقيل : بمحمد عليه السلام ﴿ لما جاءهم ﴾ الفاء للتفريع على ما سبق فإنهم لما أعرضوا عن الآيات كلها كذبوا بالحق الذي جاءهم فإنه من الآيات أو للسببية، يعني أنهم لما كذبوا بالقرآن الذي هو أعظم المعجزات باهر الأعجاز لفظا ومعنى في كل حين وزمان وكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم مع ظهور إعجاز وجوده الشريف، حيث كان مولودا فيهم أميا لم يقرأ ولم يكتب في زمان الجاهلية وفترة العلم والحكمة وقد تفجر منه ينابيع العلم والحكمة والآداب على ما تساعده الكتب القيمة المتقدمة وقرأ بنبوته القسيسين والأحبار والرهبان فكيف لا يعرضون عن أفراد المعجزات﴿ فسوف يأتيهم ﴾ يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره﴿ أنباء ما كانوا به يستهزؤون ﴾يعني يظهر لهم قبحه عند نزول العذاب بهم في الآخرة أو في الدنيا
﴿ ألم يروا ﴾ في أسفارهم إلى الشام﴿ كم ﴾ خبرية بمعنى كثيرا ﴿ أهلكنا من قبلهم ﴾ من زائدة وكذا في قوله تعالى ﴿ من قرن ﴾ القرن القوم المقترنون في زمان واحد وجمعه قرون ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :( خير القرون قرني )١ يعني من اقترن معي أو طائفة من الزمان يقترن فيها الناس فقيل هو أربعون سنة أو عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائة أو مائة وعشرون، الأصح أنه صلى الله عليه وسلم قال : لعبد الله بن بسر المازني ( إنك تعيش قرنا )٢ فعاش مائة سنة كذا ذكر البغوي، وفي نهاية الجزري أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأس غلام وقال :( عش قرنا ) فعاش مائة سنة، وعلى تقدير كونه للزمان معناه أهل قرن﴿ مكناهم في الأرض ﴾ يعني قررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والأسباب والعدد ما تمكنوا بها على ما أرادوا، والجملة في موضع الجر صفة لقرن، وجمع نظرا للمعنى ﴿ ما لم نمكن لكم ﴾ ما لم نعطكم من القوى والمال والأسباب والعدد ما موصوفة بمعنى شيئا منصوب إما على أنه مفعول ثان لمكناهم بتضمين أعطيناهم أو على المصدرية يعني مكناهم شيئا من التمكين لم نمكن لكم مثلهم، قال : ابن عباس : أمهلناهم في العمر ما لم نعمركم مثلا قوم نوح وعاد وثمود فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وقال البصريون : أخبر عن أهل مكة بلفظ الغيبة فقال : ألم يروا لما كان فيهم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أورد بلفظ الخطاب ﴿ وأرسلنا ﴾ عطف على مكنا ﴿ السماء ﴾ يعني المطر﴿ عليهم مدرارا ﴾ مفعال من الدر والدر اللبن في اللبن خير كثير للعرب حال من السماء يعني حال كونه كثير النفع في أوقات حاجاتهم، وقال : ابن عباس يعني متتابعا﴿ وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم ﴾ أي من تحت مساكنهم فعاشوا مترفهين بين الثمار والأنهار ﴿ فأهلكناهم ﴾ إذا جاءتهم الرسل وكذبوهم ﴿ بذنوبهم ﴾بسبب عصيانهم الرسل ولم يغن مكنتهم في الدنيا ورفاهيتهم فيها عنهم شيئا، فكيف يغني هؤلاء الكفار أسبابهم في الدنيا إذا كابوا محمدا صلى الله عليه وسلم القرآن ﴿ أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ﴾ فكما أهلكنا من قبلهم وأنشأنا مكانهم آخرين نفعل بكم يا أهل مكة إن لم تؤمنوا،
١ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (٢٠٣٣)..
٢ واه الطبراني والبزار، ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الخضرمي وهو ثقة. أنظر مجمع الزوائد في كتاب: المناقب، باب: ما جاء في عبد الله بن بسر رضي الله عنه(١٢١١٩)...
قال : الكلبي ومقاتل : إن النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله فأنزل الله تعالى﴿ ولو نزلنا عليك كتابا ﴾ مكتوبا ﴿ في قرطاس فلمسوه ﴾أي مسوا ذلك القرطاس ﴿ بأيديهم ﴾ بحيث لا يحتمل التزوير بوجه فإن السحر لا يجري في الملموس فلا يمكنهم أن يقولوا سكرت أبصارنا ﴿ لقال الذين كفروا ﴾ تعنتا وعنادا ﴿ إن هذا ﴾المكتوب ﴿ إلا سحر مبين ﴾ لأنه سبق علمه تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه ﴾ يعني على محمد أي معه﴿ ملك ﴾ يكلمنا أنه نبي كما في قوله تعالى :﴿ لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ﴾١ ﴿ ولو أنزلنا ﴾ إليه ﴿ ملكا ﴾ كما اقترحوا ﴿ لقضي الأمر ﴾ بإهلاكهم يجريان سنة الله تعالى : بإهلاك الأمم عند نزول الآيات اقتراحهم﴿ ثم لا ينظرون ﴾ أي لا يهملون بعد نزوله طرفة عين، وقال : مجاهد لقضي الأمر أي لقامت القيامة، وقال : الضحاك : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا من هوله وكلمة ثم لبعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الأنظار فإن عدم الإنظار بمعنى فجأه العذاب أشد من نفس العذاب
١ سورة الفرقان، الآية: ٧..
﴿ ولو جعلناه ﴾ الضمير للمطلوب أو للرسول ﴿ ملكا ﴾ يعني لو جعلنا قريبا لك ملكا يعاينوه أو جعلنا الرسول ملكا فإنهم تارة يقولون لولا أنزل معه ملكا فيكون معه نذيرا وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة ﴿ لجعلناه رجلا ﴾يعني لمثلناه رجلا كما كان جبرائيل يتمثل للنبي صلى الله عليه وسلم غالبا في صورة دحية، لأن القوة البشرية لا يقوى على رؤية الملك في صورته وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء أحيانا لقوتهم القدسية، ولأن الرسول برزخ بين الخالق والخلق، ولا بد في البرزخ من المناسبتين مناسبة بالخالق كي يتلقى الفيوض من جنابه المقدس ومناسبة بالخلق كي يفيض عليهم ما استفاض من الجناب المقدس، فإن الإفادة و الإستفادة لا يتصور من غير مناسبة فالرسول له مناسبة باطنية بالخالق فإن مبدأ تعينه صفة من صفات الله تعالى بخلاف سائر الخلائق سوى الأنبياء والملائكة، فإن مبادي تعيناتهم ظلال الصفات فلا بد أن يكون للرسول مناسبة صورية بالناس المرسل إليهم ولأن بناء التكليف على الإيمان بالغيب فلا بد من التلبيس و التخليط لبقاء التكليف ومن ثم قال : الله تعالى ﴿ وللبسنا عليهم ﴾ أي لخلطنا وأشكلنا عليهم فلا يدرون أنه ملك بل يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ﴿ ما يلبسون ﴾ على أنفسهم من أمر الرسول بعد ظهور رسالته بالآيات،
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله ﴿ لقد استهزئ برسل من قبلك ﴾ كما استهزئ بك يا محمد فلا تهتم ﴿ فحاق ﴾ قال : الضحاك أحاط وكذا في القاموس، وقال : الربيع بن أنس نزل، وقال عطاء : حل ﴿ بالذين سخروا منهم ما كانوا يستهزؤون ﴾ فكذا يحيق بهؤلاء ما يستهزؤون بك، وما موصولة أو مصدرية والمضاف على التقديرين محذوف يعني أحاط بهم وبال الذي كانوا يستهزؤون به أو وبال كونهم مستهزئين
﴿ قل ﴾ يا محمد﴿ سيروا في الأرض ﴾ بالأقدام أو بالعقول والقوى الفكرية معتبرين﴿ ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ أي جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر و التكذيب الهلاك والخسران فإن قيل : جاء في موضع آخر قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين بكلمة الفاء وهاهنا بكلمة ثم الفاء للتعقيب بلا مهلة، وثم للتراخي فكيف التوفيق ؟ قلنا : السير ممتد والنظر على مساكن المكذبين من الأمم السابقة يقع متراخيا بالنسبة إلى ابتداء السير غالبا ويترتب على بعض أجزاء السير بلا مهلة فإيراد الفاء نظرا إلى بعض أجزاء السير وإيراد ثم نظرا إلى بداية السير، قال : البيضاوي والفرق بين قوله تعالى﴿ سيروا في الأرض فانظروا ﴾١إن السير ثمه لأجل النظر ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل : معنى هذه الآية إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين، وكذا قال : صاحب المدارك، وزاد أنه تعالى نبه على إيجاب النظر في آثار الهالكين بثم للتباعد بين الواجب والمباح، قلت : بناء قول الشيخين على أن الفاء للسببية دون ثم ومقتضى السببية كون السير سببا للنظر في الواقع سواء كان السير لأجل النظر قصدا أو لا، فمفاد الآيتين أن المطلوب شيئان السير مطلقا والنظر في الآثار الهالكين غير أن هذه الآية بكلمة، ثم لا يفيد سببية أحدهما للآخر وتلك الآية تفيدها، وسياق كلتا الآيتين يقتضي أن المأمور به قصدا إنما هو النظر والسير وإنما أمر به لكونه وسيلة إلى النظر وكأن في كلمة ثم إشارة إلى التباعد بين ما هو المطلوب قصدا وبالذات وما هو المطلوب ليكون وسيلة إلى غيره، وعلى هذا التحقيق لا حاجة في التوفيق بين الآيتين الواردتين إحداهما بالفاء والأخرى بثم إلى ملاحظة بداية السير ونهايته
١ سورة آل عمران، الآية: ١٣٧..
﴿ قل ﴾ يا محمد تبكيت للخصم ﴿ لمن ﴾ من استفهامية والظرف خبر والمبتدأ ﴿ ما ﴾ يعني الأشياء التي هي كائنة ﴿ في السماوات والأرض ﴾يعم العقلاء وغيرهم ولذلك أورد بكلمة ما ﴿ قل لله ﴾ تقرير لهم أي هو الله لا خلاف بيننا وبينكم فيه وتنبيه على أنه لا يمكن لأحد أن يجيب بغيره ﴿ كتب على نفسه ﴾ يعني التزم ووعد وعدا مؤكدا لا يمكن خلفه ﴿ الرحمة ﴾ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لما قضى الله الخلق كتب كتابا هو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي } ١ في رواية بلفظ ( إن رحمتي سبقت غضبي ) رواه البغوي : من حديث أبي هريرة، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن لله مئة رحمة أنزل منها رحمة واحدة من الجن والإنس والبهائم الهوام فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يتعاطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة )٢ رواه مسلم، قلت : لعل المراد بعدد المائة تمثيل التكثير دون تعيين العدد فإن ما عندكم ينفذ وما عند الله باق، كيف وصفات الممكنات متناهية وصفاته تعالى غير متناهية وما أنزل الله من الرحمة، في خلقه وخلقا في قلوبهم إنما هي ظل من ظلال رحمة الله تعالى، وعن عمر بن الخطاب قال : قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسع إذا وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال : النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترون هذه الطارحة ولدها في النار ؟ قلنا لا وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال :( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ٣ } واعلم أن رحمة الله تعالى منها ما يترتب عليها نعماء الدنيا ومنها ما يترتب عليها نعماء الآخرة لإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الأدلة الدالة على التوحيد والموت والبعث بعدها المفضي إلى نعيم الجنان ولقاء الرحمن، والعمدة في الباب والمقصود بالذكر إنما هي التي تعلقت بالآخرة كما بدل عليه ما ذكرنا من الأحاديث ويدل عليه قوله تعالى ﴿ ليجمعنكم ﴾ يعني ليجمعن أجزاءكم مبعوثين ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ الظاهر أن إلى هاهنا بمعنى في أو المعنى ليجمعنكم في القبور ميتين إلى يوم القيامة ويفهم منه التزاما أنه ثم يبعثكم فتصدرون أشتاتا لتروا أعمالكم، والجملة جواب قسم محذوف وهو بدل من الرحمة بدل البعض، وبهذا يظهر أن المقصود إنما هي الرحمة الأخروية ولما كان الكفار مبالغين في إنكار البعث أكده سبحانه بالقسم بعد الإنذار على تكذيب المبلغ الصادق وبيان قدرته عليه بقوله ﴿ لمن ما في السماوات والأرض ﴾ وبيان الحكمة في البعث بقوله ﴿ كتب على نفسه الرحمة ﴾ ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي في الجمع أو في اليوم، ولما كان مقتضى الآية عموم رحمة الله تعالى موهما شمولها للكفار، قال : الله تعالى لدفع ذلك التوهم وبيان أن حرمانهم من رحمة الله تعالى بسوء اختيارهم وخسرانهم ﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ بالإشراك حيث ضيعوا رأس مالهم وهو الفطرة السليمة والعقل السليم وفوتوا حظهم من الرحمة واشتروا به العذاب والنقمة الموصول مبتدأ وخبره ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ الفاء للدلالة على أن خسرانهم في علم الله تعالى سبب لعدم إيمانهم، وكان القياس العطف على لا ريب فيه، ووجه الفصل تقدير السؤال كأنه قيل : فلم يرتاب الكافرون فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان، وجاز أن يكون الموصول منصوبا على الذم وكما يدل هذه الآية على شمول رحمة الله تعالى وحرمان الكفار بسوء اختيارهم وخسرانهم، يدل عليه حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شرد البعير على أهله( ٤ رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.
١ أخرجه البخاري في كتابه: بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: ﴿فهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه﴾ (٣١٩٤) وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (٢٧٥١)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (٢٧٥٢)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (٥٩٩٩) وأخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبققت غضبه (٢٧٥٤)..
٤ رواه الطبراني في الأوسط ورواه في الكبير موقوفا على أبي أمامة وإسنادهما حسن. أنظر مجمع الزوائد في كتاب: المناقب، باب فضل الأمة (١٦٧٢٩)..
﴿ وله ما سكن في الليل والنهار ﴾ من السكنى وتعديته إلى المكان بفي كما في قوله تعالى ﴿ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ﴾١ وعدي ههنا إلى الزمان اتساعا والمراد كل ما يمر عليه الليل والنهار، أو من السكون، والمعنى كل ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر كما في قوله تعالى :﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾٢ يعني الحر والبرد ﴿ وهو السميع ﴾ لأصواتهم ﴿ العليم ﴾ بأحوالهم، وعيد للمشركين على أقوالهم وأفعالهم
١ سورة إبراهيم، الآية: ٤٥..
٢ سورة النحل، الآية: ٨١..
﴿ قل أغير الله أتخذ وليا ﴾ ناصرا أو معبودا، استفهام لإنكار اتخاذ غير الله وليا لا لاتخاذ الولي ولذلك قدم المفعول الأول لاتخذ عليه وذكره متصلا بالهمزة ﴿ فاطر السماوات والأرض ﴾ أي خالقهما ومبدعهما والإضافة معنوية لأن فاطر بمعنى فطر ولذلك قرأ فطر فهو مجرور صفة لله ﴿ وهو يطعم ولا يطعم ﴾ أي يرزق المرزوقين ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة احتياج الناس إليه، والجملة حال من الله والآية نزلت حين دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين آبائه ﴿ قل إني ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ أمرت أن أكون أول من أسلم ﴾لأن النبي صلى الله عليه وسلم سبق أمته في الدين ﴿ ولا تكونن من المشركين ﴾ معطوف على قل أو على أمرت بتقدير وقيل : لي لا تكونن من المشركين
﴿ قل إني ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان ﴿ أخاف إن عصيت ربي ﴾بأن عبدت غيره﴿ عذاب يوم العظيم ﴾ مبالغة في قطع أطعامهم وتعريض بهم بإستيجابهم العذاب بالكفر والعصيان، اعترض الشرط بين الفعل والمفعول به وحذف جزاء الشرط بدلالة الجملة عليه يعني أني أخاف عذاب يوم العظيم أي يوم القيامة إن عصيت ربي عذبني يومئذ
﴿ من يصرف عنه يومئذ ﴾ قرأ حمزة والكسائي أبو بكر عن عاصم ويعقوب يصرف بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل، والضمير عائد إلى ربي والمفعول به محذوف أو يومئذ بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه يعني من يصرف ربي العذاب يومئذ أو عذاب يومئذ يعني يوم القيامة، والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول والضمير عائد إلى العذاب يعني من يصرف عنه العذاب يومئذ أو يكون مسندا إلى يومئذ بحذف المضاف أي العذاب يومئذ وحينئذ ويومئذ على الفتح﴿ فقد رحمه ﴾ الله حيث نجاه من العذاب وأدخله الجنة رحمة منه لا لأداء حق عليه ﴿ وذلك ﴾ الصرف ﴿ الفوز المبين ﴾ في القاموس الفوز النجاة والظفر بالخير والهلاك، فالمراد هاهنا الظرف بالخير لأن الهلاك ليس بمراد البتة لدلالة السياق، وكذا النجاة غير مراد إذ المراد باسم الإشارة هو الصرف وهو عين النجاة فيكون الحمل غير مفيد، وبهذا يظهر أن دخول الجنة لازم لصرف العذاب عنه فيمكن بهذه الآية الاستدلال على نفي المنزلة بين المنزلتين كما قال : بها المعتزلة
﴿ وإن يمسسك الله بضر ﴾ بشدة كفقر أو مرض أو عذاب ﴿ فلا كاشف له ﴾ يعني لا قادر على كشفه أحد ﴿ إلا هو ﴾ وألا يلزم عجزه تعالى وهو محال مناف للألوهية ووجوب الوجود ﴿ وإن يمسسك بخير ﴾بعافية ونعمة من صحة وغنى وغيرهما﴿ فهو على كل شيء قدير ﴾ فكان قادرا على إدامته وحفظه وكذا على إزالته ولا يستطيع أحد غيره إزالته، روى البغوي : بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا ثم التفت إلي فقال : يا غلام، قلت : لبيك يا رسول الله، قال :( احفظ الله يحفظ، احفظ الله تجده أمامك، تعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة، فإذا سألت فأسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله تبارك وتعالى لك لم يقدروا عليه، ولو جهدوا أن يضروك بما لمن يكتبه الله سبحانه وتعالى عليك ما قدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم تستطيع فاصبر فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن مع الكرب الفرج وأن مع العسر يسرا )١روى أحمد والترمذي نحوه، وقال : الترمذي حديث صحيح وليس في روايتهما من قوله( فإن استطعت أن تعمل بالصبر ) الخ
١ رواه الطبراني وفيه علي بن أبي علي القرشي وهو ضعيف. أنظر مجمع الزوائد في كتاب: القدر، باب: جف القلم بما هو كائن (١١٧٨٥)..
﴿ وهو القاهر ﴾ مبتدأ وخبر، والقهر الغلبة والتذليل معا وفيه زيادة معنى على القدرة وهي منع غيره عن بلوغ المراد من غير إرادته ﴿ فوق عباده ﴾ خبر بعد خبر تصوير لقهره وعلوه﴿ وهو الحكيم ﴾ في أمره ﴿ الخبير ﴾ بكل شيء لا يخفى عليه شيء،
قال : الكلبي : أتى أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أرنا من يشهد أنك رسول الله فإنا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأنزل الله تعالى ﴿ قل أي شيء ﴾ الشيء يقع على كل موجود وقد مر الكلام فيه في سورة البقرة والمعنى أي شاهد ﴿ أكبر ﴾ أي أعظم ﴿ شهادة ﴾ أي شيء مبتدأ وأكبر خبره وشهادة تميز عن النسبة يعني شهادة أي شاهد أكبر فإن أجابوك وإلا ﴿ قل ﴾ أنت﴿ الله ﴾ أكبر شهادة حذف الخبر لقرينة السؤال وتم الكلام وقوله ﴿ شهيد بيني وبينكم ﴾ خبر مبتدأ محذوف يعني هو شهيد بيني وبينكم، وجاز أن يكون الله شهيد هو الجواب لأنه تعالى إذا كان شهيدا كان أكبر شيء شهادة، وجاز أن يكون تأويل الآية أنه أي مشهود أكبر شهادة يعني مشهودية رسالتي أو عدمها والجواب الله شهيد على رسالتي ومعلوم أنه ما كان الله عليه شهيدا فهو أكبر شهادة وحينئذ لا حاجة إلى تكلف، وشهادة الله تعالى على الرسالة إظهار المعجزات الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم، ولما كان أعظم المعجزات القرآن بين الشهادة بقوله﴿ وأوحي إلى هذا القرآن ﴾ المعجزات المخبر بإخبار المبدأ والمعاد على ما نطق به الكتب السابقة﴿ لأنذركم ﴾ أخوفكم من عذاب الله إن لم تؤمنوا ﴿ به ﴾ أي بالقرآن، اكتفى بالإنذار عن ذكر البشارة لدلالة الحال والمقال ولمزيد الاهتمام بالإنذار فإن دفع المضرة أولى من جلب المنفعة ﴿ ومن بلغ ﴾ منصوب بالعطف على ضمير المخاطبين يعني لأنذركم يا أهل مكة ومن بلغه القرآن من الموجودين في ذلك الزمان وبعد ذلك الزمان إلى يوم القيامة من الجن والإنس، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )١متفق عليه، والمراد ببني إسرائيل في هذا الحديث المؤمنين الصادقين منهم إذ لا وثوق برواية الكفرة الكذابين بدليل حديث سمرة بن جندب والمغيرة ابن شعبة قالا : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )٢ رواه مسلم، وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن ( قلب مسلم إخلاص العمل لله تعالى ونصيحة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحيط من ورائهم )٣رواه الشافعي والبيهقي في المدخل، ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي عن زيد بن ثابت إلا أن الترمذي وأبا داود لم يذكر ( ثلاث لا يغل ) الخ، قال : محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكأمنا رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه﴿ أئنكم لتشهدون ﴾ يا أهل مكة ﴿ أن مع الله آلهة أخرى ﴾ تقرير لهم مع إنكار واستبعاد وتعجب حيث يشهدون على أمر ظاهر بطلانه بالأدلة القطعية النقلية والعقلية على التوحيد، هذه الآية تدل على أن أهل مكة طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم شاهدا على التوحيد، ومعنى الآية أن الله يشهد على التوحيد بنصب الأدلة عليه وإنزال القرآن المعجز وهو أكبر شهادة أأنتم تشهدون على خلافه، قلت : لعلهم طلبوا شاهدا على التوحيد والرسالة جميعا، واقتصر الكلبي : في ذكر شأن النزول على طلب الشهادة على الرسالة فإن الشهادة على الرسالة يستلزم الشهادة على التوحيد من غير عكس﴿ قل لا أشهد ﴾ بما تشهدون ﴿ قل إنما هو ﴾ أي الله﴿ إله واحد ﴾ متوحد في استحقاق العبودية ووجوب الوجود والتخليق والترزيق وغير ذلك من صفات الكمال لا شريك في شيء منها منزه عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزمه أحدهما من الجسمية والتحيز والمشاركة لشيء من الأشياء في صفة من صفات الكمال، فلا يرد ما يقال أن الحمل غير مفيد فإن الله جزئي حقيقي والجزئي الحقيقي لا يحتمل التعدد هذا على تقدير كون ما كافة وضمير هو راجعا إلى الله تعالى وجاز أن يكون ما موصولة مبتدأ وضمير هو راجعا إلى الموصولة، وجملة هو إله صلة، وواحد خبر للموصول مع الصلة فلا إشكال، يعني ما هو إله مستحق للعبادة لأجل كونه واجبا وجوده وصفات كماله مقتضيا لوجود من عداه وتوابعه واحد لا شريك له والمعنى لا أشهد ما تشهدون بل على التوحيد﴿ وإنني برئ مما تشركون ﴾ بالله تعالى إياه في استحقاق العبادة من الأصنام أومن إشراككم
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل (٣٤٦١) وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم،/باب: ما جاء في حديث عن بني إسرائيل(٢٧٣٨)..
٢ أخرجه مسلم في المقدمة، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: العلم، باب: فضل نشر العلم(٣٦٥٦)وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: الحث على تبليغ السماع(٢٦٥٨)..
﴿ الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه ﴾ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم موصوفا بالرسالة من الله تعالى لتطابق حليته وأخلاقه وأوصافه بما نعت في التوراة والإنجيل ﴿ كما يعرفون ﴾ أي معرفة كمعرفة﴿ أبنائهم ﴾ من بين الصبيان بحلاهم﴿ الذين خسروا أنفسهم ﴾ من أهل الكتاب بكتمان نعته صلى الله عليه وسلم حيث قدر الله تعالى عليهم بالخسران في علمه القديم﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويجحدون بنبوته بعدما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وتعنتا وعنادا، هذه الآية جواب لقولهم لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر يعني أنهم كذبوا وخسروا أنفسهم حيث بدلوا منازلهم من الجنة أن آمنوا بمنازلهم من النار، أخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون ) ١قال : البغوي : إذا كان يوم القيامة جعل الله للمؤمنين منازل أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنة في النار وذلك الخسران، قلت : كان مقتضى سياق الكلام الذين لا يؤمنون خسروا أنفسهم قلب الحمل مبالغة
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: صفة الجنة (٤٣٤١) في الزوائد: هذا إسناد صحيح عل شرط الشيخين..
﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ يعني ادعى الرسالة كاذبا وقال : أوحى إلي ولم يوح إليه شيء﴿ كذبا أو كذب بآياته ﴾ المنزلة في القرآن والمعجزات الدالة على التوحيد وصدق الرسول يعني لا أحد أظلم منه فهذه الآية بهذا التأويل لتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الكذب وتنبيه الكافرين على كونهم أظلم الناس، وجاز أن يكون المعنى من أظلم ممن افترى على الله كذبا وقال : فيه ما لا يليق به من نسبة الولد أو الشريك وقال : للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله أو كذب بآياته، وكان المناسب على هذا التأويل العطف بالواو مكان أو لأنهم قد جمعوا بين الأمرين لكن ذكر كلمة أو تنبيها على أن كل واحد من الأمرين بالغ غاية الإفراط في الظلم فكيف إذا اجتمعا وجاز أن يكون في كلمة أو إشعارا بكون الأمرين متناقضين مع كونهما قبيحا ومع ذلك جمع الكفار بين الأمرين المتناقضين لفرط حماقتهم، وجه التناقض أن الافتراء على الله ودعوى أنه تعالى حرم كذا وأحل كذا أو اتخذ صاحبة وولدا يقبل شفاعة الأصنام مثل دعوى الرسالة يزعمون وجوب قبوله بلا دليل، وتكذيبهم الآيات والمعجزات وقولهم الرسول لا يكون بشرا بل لا بد أن يكون ملكا يشعر وجوب عدم قبول دعوى الرسالة مع قيام الأدلة القاطعة﴿ إنه ﴾ أي الشأن ﴿ لا يفلح الظالمون ﴾ فضلا عمن هو أظلم الناس لا أحد أظلم منه.
﴿ ويوم نحشرهم ﴾ يعني الكفار وما عبدوه﴿ جميعا ﴾ يعني يوم القيامة، قرأ يعقوب بالياء على الغيبة والضمير عائد إلى الله تعالى ووافقه حفص في سبأ، والباقون بالنون على التكليم في الموضعين، والظرف معمول بفعل محذوف وحذف الفعل لينتقل الذهن إلى أحوال كثيرة وأهوال متعددة تلحق الناس في ذلك اليوم، كأنه قال : يدهشون دهشة لا يحيط به العبارة وتدنو الشمس منهم ويلجمهم العرق ويذهب عرقهم في الأرض سبعين باعا كما ورد في الصحاح من الأحاديث ويفعل بهم كيت كيت يوم يحشرهم، وجاز أن يكون مفعولا به لا ذكر ﴿ ثم نقول ﴾ معطوف على نحشر وفي كلمة ثم إشارة إلى انتظارهم بعد الحشر إلى السؤال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم ) رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمرو قال :( تمكثون ألف عام في الظلمة يوم القيامة لا تكلمون ) رواه البيهقي عن ابن عمر﴿ للذين أشركوا أين شركاؤكم ﴾ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء الله في العبادة ﴿ الذين كنتم تزعمون ﴾ أي تزعمونها شركاء في استحقاق العبادة أو تزعمونها شفعاء عند الله حذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ
﴿ ثم لم تكن ﴾ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالياء على التذكير و﴿ فتنتهم ﴾ بالنصب على أنه خبر كان واسمها ﴿ إلا أن قالوا ﴾ وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر لم تكن بالتاء على التأنيث لتأنيث الخبر وفتنتهم بالنصب وابن كثير وابن عامر وحفص لم تكن بالتاء على التأنيث وفتنتهم بالرفع على أنه اسم كان والمستثنى خبره وكلمة ثم تدل على طول التأمل في الجواب، والمراد بالفتنة الكفر يعني يكون عاقبة كفرهم هذا القول بعد طول التأمل والندامة، وقال : ابن عباس وقتادة : معذرتهم وإنما سمى المعذرة فتنة لأنهم يتوهمون بها خلاص أنفسهم من فتنت الذهب إذا أخلصته، وقيل معنى فتنتهم جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذبا ولأنهم قصدوا بها الخلاص، وقيل : معناه التجربة، ولما كان سؤالهم تجربة لإظهار ما في قلوبهم سمى الجواب فتنة، قال : الزجاج في قوله تعالى﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتن بمحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنة إلا هذا كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام، قلت : بل بتقليد الآباء ثم لما رأوا العذاب تبرأوا منها ﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ مقولة قالوا، قرأ حمزة ربنا بالنصب على النداء أو المدح والباقون بالجر على أنه نعت لله.
روى البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله تعالى﴿ ولا يكتمون الله حديثا ﴾ وقوله تعالى﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ أنه قال : إن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر الشرك جحدوا رجاء أن يغفر لهم فقالوا : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا. فقال : الله تعالى ﴿ أنظر ﴾ أيها المخاطب ﴿ كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم كانوا يفترون ﴾ أي زال وذهب افترائهم بأن الله حرم هذا وهؤلاء شفعاؤنا عند الله عطف على كذبوا، وكيف حال من فاعل كذبوا قدم لاقتضاء الاستفهام الصدارة، ومضمون الجملة مفعول انظر كذبهم على أنفسهم متكيفين بأي كيفية حيث لا يفيدهم،
قال : الكلبي : اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشبية ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف والحرث بن عام يستمعون القرآن فقالوا : للنضر : يا أبا قتيلة ما يقول محمد، قال : ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون وأخبارها، فقال : أبو سفيان إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال : أبو جهل كلا لا تقر بشيء من هذا وفي رواية أهون علينا من هذا فأنزل الله تعالى﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾حين تتلوا القرآن﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة ﴾ جمع كنان وهو ما يستر الشيء ﴿ أن يفقهوه ﴾ أي لئلا يفقهوه وكراهة أن يفقهوه ﴿ وفي أذانهم وقرا ﴾ صمما وثقلا يمنع أسماعهم ﴿ وإن يروا كل آية ﴾ من المعجزات ﴿ لا يؤمنوا بها ﴾ لأنه تعالى جعل على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم أكنة، وتلك الأكنة موجبة لفرط عنادهم بالنبي صلى الله عليه وسلم واستحكام تقليدهم بالآباء حيث لا يرون الحسن حسنا ولا القبيح قبيحا ﴿ حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا ﴾ حتى عاطفة تدخل على الجمل عطف على لا يؤمنون وإذا ظرف تضمن معنى الشرط جوابه يجادلونك ويقول تفسير له، أو يقال يجادلونك منصوب المحل على أنه حال من فاعل جاؤا وجواب الشرط يقول والمعنى بلغ عدم إيمانهم وتكذيبهم إلى مرتبة المجادلة وجعل أصدق الحديث خرافات الأولين والمجيء لأجل المجادلة، وهذا غاية التكذيب، وجاز أن يكون حتى جارة وإذا في محل الجر متعلقا بقوله تعالى لا يؤمنون على مذهب سيبويه حيث يقول بجواز وقوع إذا غير ظرف خلافا لجمهور النحاة، وعلى هذا التأويل يجادلونك حال ويقول تفسير له، وفي يقول الذين كفروا وضع المظهر موضع المضمر ﴿ إن هذا ﴾ يعني ما هذا القرآن﴿ إلا أساطير الأولين ﴾ مقولة يقول، في القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر والخط، والجمع أسطر وسطرو أسطار وجمع الجمع أساطير والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها، وقال : البيضاوي الأساطير الأباطيل : قلت : هذا لازم معناه الحقيقي فإن المكتوب في كتب قصصا لأولين غالبا يكون أباطيل لعدم الإطلاع على ما سبق وعدم الاحتياط في الرواية ويكون قصص الأولين غالبا لا نظام لها لأجل اختلاف الروايات، ثم استعمل لفظ أساطير الأولين في الأحاديث الباطلة الكاذبة حتى صار معناه الحقيقي المنقول إليه
﴿ وهم ينهون عنه وينؤن عنه ﴾ قال : ابن عباس نزلت الآية في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به فلا يؤمن به كذا أخرج الحاكم وغيره عنه، وعلى هذا ضمير الجمع راجع إلي أبي طالب ومن يساعده، وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال حيث قال : نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر، فمعنى الآية ينهون الناس عن إيذائه صلى الله عليه وسلم وينئون أي يتباعدون عن إتباعه، قال : البغوي : إنه روي أنه اجتمع رءوس المشركين إلى أبي طالب وقالوا خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم فقال : أبو طالب ما أنصفتموني أدفع إليكم ولدي لتقتلوه وأربي ولدكم، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الإسلام فقال : لولا أن يعيرني قريش لأقررت به عينك ولكن أذب عنك حييت وقال : فيه أبياتا شعر.
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** *** وأبشر وقر بذاك عنك عيونا
دعوتني وعرفت أنك ناصح *** *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد علمت بأنه *** *** من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة *** *** لوجدتني سمحا بذلك مبينا
وقال محمد بن الحنيفة والضحاك وقتادة نزلت في كفار مكة ومعناه ينهون الناس عن إتباع محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن ويتباعدون عنه ﴿ وإن ﴾ أي ما﴿ يهلكون ﴾ بذلك ﴿ إلا أنفسهم وما يشعرون ﴾ أن ضرره يعود إليهم ولا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء
﴿ ولو ترى ﴾ الكفار﴿ إذ وقفوا على النار ﴾ يعني حين يوقفون على النار حتى يعاينوها ويطلعوا عليها أو يدخلوها فيعرفوا عذابها، وجواب لو محذوف يعني لرأيت أمر عجيبا فزيعا ﴿ فقالوا ﴾ عطف على وقفوا﴿ يا ليتنا نرد ﴾ إلى الدنيا دار العمل ﴿ ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ﴾ قرأ حفص وحمزة الفعلين منصوبين على جواب التمني بإضمار أن بعد الواو، وقرأ ابن عامر برفع الأول عطفا على نرد أو حالا من الضمير فيه ونصب الثاني على الجواب، والباقون بالرفع فيهما عطفا على نرد أو حالا من فاعله أو استئنافا، وقال : المحقق التفتازاني هو عطف الخبر على الإنشاء وهو جائز إذا اقتضاه المقام.
﴿ بل ﴾ إعجاب عن إرادة الإيمان والعزم عليه المفهوم من التمني، يعني إنما قالوا ذلك ضجرا على كفرهم لا عزما على الإيمان ﴿ بدا لهم ﴾ أي ظهر لهم﴿ ما كانوا يخفون من قبل ﴾ في الدنيا من النفاق أو ما كان أهل الكتاب يخفون نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، أو ما كانوا يخفون في الآخرة من الشرك، حين قالوا والله ربنا ما كنا مشركين، قال : النضر بن شميل : معناه بدا عنهم، وقال : المبرد بدالهم جزاء ما كانوا يخفون ﴿ ولو ردوا ﴾ إلى الدنيا فرضا بعد ما عاينوا نار جهنم ﴿ لعادوا لما نهو عنه ﴾ من الكفر والمعاصي لأن مبادي تعيناتهم ظلال اسم الله المضل لا يحتمل صدور الإيمان منهم وإن كانوا على يقين من حقية الإيمان وبطلان الكفر كما أن اليهود كانوا ينكرون ويبغضون محمدا عليه السلام، وهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويجحدون بما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا ﴿ وإنهم لكاذبون ﴾ فيما وعدوه بعدم التكذيب والإيمان على قراءة الرفع أو فيما يفهم من الوعد من التمني، أو المعنى أنهم معتادون بالكذب لا يتكلمون بمقتضى الآيات من التوحيد وغير ذلك عوض العايضين. أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ليعذرن الله إلى آدم يوم القيامة ثلاثة معاذير يقول يا آدم لولا أني لعنت الكاذبين وأبغضت الكذب والخلف وواعدت عليه لرحمتك اليوم ولدك أجمعين ولكن حق القول مني لئن كذبت رسلي وعصى أمري لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ويقول الله يا آدم إني لا أدخل النار أحدا ولا أعذب منهم إلا من علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا لعاد إلى شر ما كان فيه لم يرجع ولم يعقب، ويقول الله يا آدم قد جعلتك حكما بيني وبين ذريتك قم عند الميزان إذا يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم أني لا أدخل النار إلا ظالما )
﴿ وقالوا ﴾ عطف على لعادوا يعني لو ردوا قالوا أو على أنهم لكاذبون يعني وهم الذين قالوا ذلك في الدنيا أو على نهوا يعني لو ردوا لعادوا لما نهوا ولما قالوا أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا ﴿ إن هي ﴾ الضمير للحياة ﴿ إلا حياتنا الدنيا ﴾أي القربى مؤنث أدنى من الدنو ﴿ وما نحن بمبعوثين ﴾
﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد ﴿ إذا وقفوا على ربهم ﴾ مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ، وقيل : معناه على قضاء ربهم أو جزائه أو عرفوه حق التعريف، وجوب لو محذوف مثل ما تقدم ﴿ قال ﴾ الله أو خزنة النار بإذن الله كأنه جواب قائل قال : ماذا قال : ربهم حينئذ ﴿ أليس هذا بالحق ﴾ المشار إليه البعث وما ترتب عليه من الثواب والعقاب، استفهام والتعبير على التكذيب ﴿ قالوا بلى وربنا ﴾ أقروا مؤكدا باليمين لظهور الأمر كل الظهور وللتبري عن الشرك والتكذيب، وقال ابن عباس : هذا في موقف وللقيامة مواقف ففي موقف يقرون وفي موقف ينكرون﴿ قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ﴾ أي بسبب كفركم أو يبدله
﴿ قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ﴾ أي بالبعث بعد الموت المفضي إلي رؤية الله خسر الكافرون حيث أنكروا البعث والجنة والنار ففاتهم النعيم المقيم استبدلوا بها العذاب الأليم، وخسر المعتزلة حيث أنكروا رؤية الله تعالى فيحرمون عنها وأنكروا الشفاعة والمغفرة فيحرمون عنهما قال : الله تعالى :" ( أنا عند ظن عبدي بي )١ متفق عليه عن أبي هريرة مرفوعا، وعند الطبراني والحاكم بسند صحيح عن واثلة وأخرج اللا لكائي عن إبراهيم الصائغ قال : ما يسرني أن لي نصف الجنة بالرؤية ثم تلى﴿ كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم بقال هذا الذي كنتم به تكذبون ﴾٢ قال : بالرؤية﴿ حتى إذا جاءتهم الساعة ﴾ قال : البيضاوي غاية لكذبوا لا لخسروا فإن خسرانهم لا غاية له، فإن قيل : تكذيبهم منته إلى الموت لا إلى قيام الساعة ؟ قلنا : لعل المراد بالساعة ساعة الموت فإنه من مات فقد قامت قيامته، في الصحيحين عن عائشة قالت : كان رجال من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول :( إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم )٣ وإن كان المراد بها القيامة فالموت مقدمة للساعة فكأنها هي الساعة أو جعل الساعة زمان الموت لسرعة مجيء الساعة بعدها، وحينئذ يمكن أن يقال أنه غاية للخسران لأن الخسران فوات رأس المال، وحين الموت لم يبق رأس المال وهي الحياة فانتهى زمان خسرانهم وبعده زمان الإفلاس ﴿ بغتة ﴾ يعني فجأة منصوب على الحال أو المصدر فإنها نوع من المجيء ﴿ قالوا يا حسرتنا ﴾جواب إذا ذكر على وجه النداء يعني تعال هذا أوانك ﴿ على ما فرطنا فيها ﴾ أي في الحياة الدنيا من عمل الخير، فهو إضمار بلا ذكر المرجع للعلم أو الضمير راجع إلى الساعة يعني قصرنا في شأن الساعة والإيمان بها ﴿ وهم يحملون أوزارهم ﴾ يعني أعمالهم القبيحة﴿ على ظهورهم ﴾ إذا خرجوا من القبور عمله في أحسن صورة وأطيب ريح فيقول : هل تعرفني ؟ فقال : لا ألا إن الله قد أطيب ريحك وأحسن صورتك، فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طال ما ركبتك في الدنيا إركبني اليوم وتلا﴿ يوم نحشر المتقين إلى الرحمان وفدا ﴾٤ وكان الكافر يستقبله عمله في أقبح صورة وأنتنه ريحا فيقول أو لا تعرفني ؟ قال : لا ألا إن الله قبح صورتك ونتن ريحك، فيقول كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيئ طال ما ركبتني في الدنيا وأنا أركبك اليوم وتلى ﴿ فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ﴾٥ وعن أبي هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم الغلول وأمره ثم قال :( لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني، فأقول لا أملك من الله شيئا قد أبلغتك ) الحديث ذكر فيه على رقبته فرس له حمحمة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته صامت ) ٦متفق عليه، وروى أبو يعلى والبزار عن عمر بن الخطاب نحوه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا( من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف أن يحمل على عاتقه ) وفي الصحيحين عن عائشة مرفوعا ( من ظلم قيد شبر من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين ) ٧وفي الباب عند الطبراني عن الحكم بن حارث وأنس، وعنده وعند أحمد عن يعلى بن مرة وأبي مالك الأشعري ﴿ ألا ساء ما يزرون ﴾أي بئس شيئا يزرونه وزرهم
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: ﴿ويحذركم الله نفسه﴾ (٧٤٠٥) وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: الحض على التوبة والفرح بها(٢٦٧٥)..
٢ سورة المطففين، الآية: ١٥-١٧.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: سكرات الموت (٦٥١١) وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة(٢٩٥٢)..
٤ سورة مريم، الآية: ٨٥..
٥ سورة النحل، الآية: ٣١..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الغلو (٣٠٧٣) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: غلظ تحريم الغلول(١٨٣١)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: المظالم، باب: إثم من ظلم من الأرض (٢٤٥٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: تحريم وغضب الأرض وغيرها(١٦١٠).
.

﴿ وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو ﴾ جواب لقولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا، واللعب فعل لا يكون له غرض صحيح ولا يترتب عليه منفعة، واللهو ما يشغله عما ينفعه ما الأعمال التي يقصد بها معشية الدنيا ولذتها من غير أن يبتغي بها وجه الله تعالى إلا باطلا لا ينفع منفعة معتدة بها لسرعة زوالها فكأنها لا منفعة فيها أصلا وهي شاغلة عما يفيده في الحياة الأبدية ﴿ للدار الآخرة ﴾ قرأ ابن عامر ولدار الآخرة بالإضافة بتأويل ولدار الساعة الآخرة كصلاة الوسطى ومسجد الجامع، والباقون بالتوصيف ﴿ خير للذين يتقون ﴾ عن الشرك والمعاصي لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وتخصيص الخيرية بالمتقين لأنها شر للمشركين حيث يعذبون فيها، وفيه إشارة إلى أنه ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو فإن أعمال المتقين في مقابلة أعمال الدنيا﴿ أفلا تعقلون ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء على الغيبة يعني أفلا يعقلون أي الأمرين من الأعمال الدنيا والآخرة خير فإن خير ما يكون منفعته قوية خالصة أبدية على ما هي ضعيفة مشوبة بالمضرات على رف الزوال بديهية،
روى الترمذي والحاكم عن علي أن أبا جهل قال : للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فأنل الله تعالى :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الّذي يقولون ﴾ ١الآية، قال : البيضاوي : قد لزيادة الفعل وكثرته كما في قوله لكنه قد يهلك المال نائلة وضمير إنه للشأن، قال : السدي : التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل ابن هشام فقال : الأخنس لأبي جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد الله أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيره ؟ فقال : أبو الجهل والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش، فأنزل الله عز وجل ﴿ فإنهم لا يكذبونك ﴾قرأ نافع والكسائي بالتخفيف من الأفعال من أكذبه إذا وجده كاذبا، والباقون بالتشديد من التفعيل بمعنى نسبته إلى الكذب﴿ ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾ قال : ناجية بن كعب : قال : أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب التي جئت به، وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا لجحودهم أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب يعني أن تكذيبهم إياك راجع إلى الله تعالى فإنهم إنما يكذبونك من حيث الرسالة وتكذيب الرسول من حيث أنه رسول تكذيب للمرسل
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنعام (٣٠٦٤)..
﴿ ولقد كذبت رسل من قبلك ﴾ تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني كذبهم قومهم كما كذبك قومك، وفيه دليل على أن قوله لا يكذبونك ليس على حقيقة بل المراد منه أن تكذيبه صلى الله عليه وسلم راجع إلى تكذيب الله سبحانه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من آذاني فقد آذى الله ) ﴿ فصبروا على ما كذبوا وأوذوا ﴾ يعني على تكذيبهم وإيذائهم﴿ حتى أتتهم نصرنا ﴾ جعل غاية الصبر النصر فاصبر أنت أيضا كما صبروا حتى يأتيك النصر ففيه وعد بالنصر﴿ ولا مبدلا لكلمات الله ﴾ أي لمواعيده بالنصر لأنبيائه قال : الله تعالى ﴿ لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ )وإن جندنا لهم الغالبون ﴾١ وقال :﴿ إنا لننصر رسلنا ﴾ ٢وقال :﴿ كتب الله لأغلبنا أنا ورسلي ﴾٣ وجاز أن يكون المعنى لا مبدل لقضائه كلماته التكوينية يعني متى لم يأت وقت النصر لا فائدة للاضطراب بل لا بد من النصر وإذا جاء وقت النصر لا مرد له ﴿ ولقد جاءك نبأ المرسلين ﴾ من زائدة عند الأخفش وتبعيضية عند سيبويه حيث لا يجوز زيادة من في الكلام يعني جاءك الموجب يعني جاءك ما يكفيك للتسلية من نبأ المرسلين،
١ سورة الصافات، الآية: ١٧١-١٨٣..
٢ سورة غافر، الآية: ٥١..
٣ سورة المجادلة، الآية: ٢١..
ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا أشد الحرص على إيمان قومه، وكان يشق عليه إعراضهم من الإيمان وكان إذا سئلوا الآية أحب أن يريهم الله تعالى طمعا في إيمانهم أنزل الله تعالى﴿ وإن كان كبر ﴾ أي شق﴿ عليك إعراضهم ﴾ عن الإيمان بما جئت به﴿ فإن استطعت أن تبتغي ﴾تطلب ﴿ نفقا ﴾ سربا ﴿ في الأرض ﴾ صفة لنفقا يعني تطلب منفذا تنفد إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية ﴿ أو سلما ﴾ يعني مصعدا﴿ في السماء ﴾ صفة سلما يعني تطلب مصعدا جانب العلو تصعد منه إلى السماء﴿ فتأتيهم بآية ﴾ فتنزل منها آية وجواب الشرط الثاني محذوف يعني فافعل والجملة جواب للشرط الأول، والحاصل أنك لا تقدر على إتيان آية فلا تتعب وإن كبر عليك إعراضهم بل تصبر ﴿ ولو شاء الله ﴾ هدايتهم أجمعين ﴿ لجمعهم على الهدى ﴾فإن مشيئة العباد مخلوقة لله تعالى تابع للمشيئة لكنه لم يشأ لحكمة لا يعلمها إلا الله، ولا تتمالك أنت فلا تتعب واصبر﴿ فلا تكونن من الجاهلين ﴾ فإن إتعاب النفس فيما لا يفيد والجزع في مواضع الصبر من دأب الجاهلية أو المعنى لا تكونن من الجاهلين لأن هدايتهم بمشيئة الله تعالى لا بمشيئتك.
﴿ إنما يستجيب ﴾ دعوتك من أمتك ﴿ الذين يسمعون ﴾ يعني : الذين يخلق الله تعالى في قلوبهم علما بحقية المسموع، أطلق السمع وأريد به العلم الحاصل بعد ذلك جريا على عادة الله تعالى﴿ والموتى ﴾ يعني : الكافر عبر الله تعالى الكافر بالموتى لأن الله تعالى لما طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا يخلق في قلوبهم العلم بحقية ما هو حق وبطلان ما هو باطل فلا ينتفعون بالأسماع والأبصار كانوا كالموتى ﴿ يبعثهم الله ﴾ يوم القيامة ﴿ ثم إليه يرجعون ﴾ فيجازيهم على كفرهم ولا يسمعون الحق ولا يبصرونه قبل ذلك، أو المعنى : والموتى من المؤمن والكافر يبعثهم الله ثم إليه يرجعون بعد البعث فيجازيهم على حسب أعمالهم
﴿ وقالوا ﴾ يعني رؤساء قريش﴿ لولا نزل عليه آية من ربه ﴾ يعني آية مما اقترحوه أو آية أخرى سوى ما أنزل عليه من الآيات المتكثرة لعدم اعتدادهم بها عناداً ﴿ قل إن الله قادر على أن ينزل آية ﴾ مما اقترحوه أو آية يضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوا بعدها هلكوا ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ إن الله قادر على إنزالها أو ما عليهم في إنزالها من الاستئصال بعد تكذيب آية تنزل باقتراحهم كما هو عادة الله تعالى.
﴿ وما من دابة في الأرض ﴾تدب عليها﴿ ولا طير يطير بجناحيه ﴾ في الهواء وضعه به تأكيدا أو قطعا لاحتمال مجاز السرعة ونحوها﴿ إلا أمم أمثالكم ﴾ في الخلق والموت والبعث وفي الغداء وابتغاء الرزق والعافية وإصابة البلاء لا مزية لكم عليها إلا بمعرفة الله تعالى﴿ ما فرطنا في الكتاب ﴾ يعني في اللوح المحفوظ ﴿ من شيء ﴾ من زائد وشيء في موضع المصدر أي شيئا من التفريط، وليس بمفعول به فإن فرط لا يتعدى بنفسه، يعني علم الله تعالى شامل لكل شيء خفي وجلي ولم يهمل في اللوح المحفوظ أمر حيوان ولا جماد، أو المراد بالكتاب القرآن فإنه قددون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا﴿ ثم إلى ربهم يحشرون ﴾ يعني الأمم كلها المشبه والمشبه به فصح الجمع بالواو، قال : ابن عباس والضحاك : حشرها موتها، وروى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي هريرة قال :( يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فبلغ من عدل الله تبارك وتعالى أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا، فذلك حين يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ) وروى البغوي : عنه أنه قال : عليه الصلاة والسلام :( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء )١ وروى الطبراني في الأوسط عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أول خصم يقضى فيه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن ) ونحوه عن أبي ذر عند أحمد والبزار والطبراني، وروى الحاكم عن ابن عمر ونحوه،
١ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم(٢٥٨٢)..
ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما يدل على عظمنه وشمول علمه وقدرته على البعث والجزاء قال :﴿ والذين كذبوا بآياتنا صم ﴾ لا يسمعون مثل هذه الآيات المنبهة، خبر للموصول ﴿ بكم ﴾ لا ينطقون بالحق معطوف على صم ﴿ في الظلمات ﴾ خبر بعد خبر و المراد بالظلمات ظلمة الكفر والجهل والعناد وتقليد الآباء، وجاز أن يكون حالا من المستكن في الخبر، ثم قال : إيذانا بأن الاهتداء بالآيات وعدمه يتوقف على مشيئة الله تعالى وأنه تعالى يفعل ما يريد﴿ من يشأ الله ﴾ ضلاله ﴿ يضلله ومن يشأ ﴾ هدايته ﴿ يجعله على صراط مستقيم ﴾ موصل إلى ما هو حق في نفس الأمر
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ أرأيتكم ﴾ قرأ نافع أرايتكم وأرأيتم وأفرأيت وشبهه إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة والتي بعد الراء، والكسائي يسقطها أصلا، وحمزة يوافق نافعا في الوقف فقط، والباقون يحققونها في الحالين. استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير المرفوع المفرد بناءا على شمول الجمع المفرد ولا محل له من الإعراب ومفعولاه محذوفان تقديره أرأيتكم تنفعكم إذ تدعونها يدل عليهما ما بعده، أو الفعل في المعنى متعلق بغير الله تدعون لكنه معلق لأن الرؤية تعلق قبل الاستفهام، وكما عرف في موضعه، قال : البيضاوي : الاستفهام للتعجيب فإنهم لما عاملوا معاملة من يعلم أنه يدعو غير الله في الابتلاء الشديد نزلهم منزلتهم وتعجيب عن هذا العلم، وقال : الفراء يقولون أرأيتك وهم يريدون أخبرنا، قال : المحقق التفتازاني إنما وضع الاستفهام عن العلم أو عن رؤية البصر عن الاستخبار لأن الرؤية بالبصر سبب للعلم والعلم سبب للإخبار فوضع السبب موضع المسبب﴿ إن أتاكم عذاب الله ﴾ في الدنيا كما أتى الأمم الماضية﴿ أو أتتكم الساعة ﴾ بأهوالها﴿ أغير الله تدعون ﴾ لصرف العذاب عنكم استفهام إنكار فيه تبكيت لهم ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أن الأصنام آلهة فادعوها وليس الأمر كذلك
﴿ بل إياه ﴾ يعني الله تعالى ﴿ تدعون ﴾ قدم المفعول للحصر، يعني لا تدعون في الشدائد إلا الله سبحانه لا غير﴿ فكشف ما تدعون إليه ﴾ أي ما تدعون إلى كشفه ﴿ إن شاء ﴾كشفه ذلك في الدنيا دون الآخرة﴿ وتنسون ما تشتكون ﴾ يعني تتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما تقرر في العقول أن القادر على كشف الضر هو الله تعالى لا غير
﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك ﴾ من زائدة فكذبوهم﴿ فأخذناهم بالبأساء ﴾ بالشدة والفقر ﴿ والضراء ﴾ المرض والآفات﴿ لعلهم يتضرعون ﴾ أي يتوبون بالتضرع والخشوع عن ذنوبهم، التضرع السؤال بالتذلل
﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ﴾ يعني فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا، وإنما عدل عن نفي التضرع إلى صيغة التنديم ليفيد أن ترك التضرع منهم لم تكن من عذر بل كان مع قيام ما يدعوهم إليه﴿ ولكن قست قلوبهم ﴾ فلم ينتبهوا بما ابتلوا به ﴿ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ فاستحسنوا سيئات أعمالهم، استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم و بأعمالهم بتزيين الشيطان
﴿ فلما نسوا ﴾ تركوا ﴿ ما ذكروا به ﴾ ما وعظوا وأمروا به ولم ينتبهوا بالبأساء والضراء ولم يتضرعوا ﴿ فتحنا ﴾ قرأ ابن عامر هاهنا وفي الأعراف والقمر وفتحت في الأنبياء بتشديد، والباقون بالتخفيف من التفعيل للتكثير وقرأ أبو جعفر في كل القرآن بالتشديد، والباقون بالتخفيف في الكل ﴿ عليهم أبواب كل شيء ﴾ من أنواع النعم استدراجا ومكرا بهم، عن عقبة بن عامر مرفوعا ( إذا رأيت يعطى العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ فلما نسوا ما ذكروا به ﴾ الآية والتي بعدها )١﴿ حتى إذا فرحوا بما أتوا ﴾ فرح بطر، أي بطروا ولم يتوجهوا إلى المنعم شكرا كما لم يتضرعوا إليه في الضراء وقام عليهم حجة بامتحانهم بالسراء والضراء ولم يبق بهم معذرة ﴿ أخذناهم بغتة ﴾ أخذا فجأة أعجب ما كانت الدنيا لهم﴿ فإذا هم مبلسون ﴾ آيسون من كل خير
١ رواه أحمد والطبراني. أنظر مجمع الزوائد في كتاب: التفسير، باب: سورة الأنعام(١٠٩٩٦)..
﴿ فقطع دابر القوم الذين ظلموا ﴾ في القاموس الدابر التابع وآخر كل شيء والأصل، والمعنى أنهم أهلكوا كلهم ولم يبق منهم أحد حتى يتوالد فقطع نسلهم، فقطع الدابر إما باعتبار هلاك الأصول أو باعتبار قطع الأتباع والفروع وضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن هلاكهم كان لأجل ظلمهم﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ على إهلاكهم، حمد نفسه عند هلاك الظلمة لأنه نعمة جليلة من حيث دفع شرهم عن المؤمنين وتطهير الأرض عن العقائد والأعمال الفاسدة الموجبة لنزول العذاب، ووصف نفسه برب العالمين لأن مقتضى ربوبية العالم إهلاك الظلمة، وفيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك من لم يحمد لله ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ أريتم ﴾ أيها المشركون ﴿ إن أخذ الله سمعهم وأبصاركم ﴾ بأن أصمكم وأعماكم ﴿ وختم على قلوبكم ﴾ بأن يغشيها بما يزول به عقولهم وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله﴿ من إله غير الله يأتيكم به ﴾ يعني لا يأتكم به أحد، والجملة الشرطية في موضع المفعولين لرأيتم، والاستفهام للتقرير يعني قد علمتم أنه لا يأتيكم أحد بشيء مما ذكره إن أخذه الله﴿ أنظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف نصرف الآيات ﴾ في القاموس صرف الآيات تبيينها كذا قال : البغوي : يعني نبين العلامات الدالة على التوحيد، وقال : البيضاوي معناه نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من حيث الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ﴿ ثم هم يصدفون ﴾ أي يعرضون عنها، وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها
﴿ قل ﴾يا محمد ﴿ أرأيتم ﴾أيها المشركين﴿ إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ﴾منصوبان على المصدرية أو على الحالية يعني إتيانا بغتة فجأة من غير تقدم إمارة وإتيانه أو إتيانا جهرة، أي ظاهرة قبل إتيانه بتقدم أماراته، أو المعنى أتاكم عذابه حال كونه مباغتا أي مفاجئا أو مجاهرا، وقال : ابن عباس والحسن معناه ليلا أو نهارا ﴿ هل يهلك ﴾ استفهام إنكار ومعناه النفي ومن ثم جاز الاستثناء المفرغ فالتقدير ما يهلك ﴿ إلا القوم الظالمون ﴾ على أنفسهم بالكفر
﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ المؤمنين بالجنة﴿ منذرين ﴾ الكافرين بالنار يعني ما نرسلهم قادرين على إتيان الآيات المقترحة وهداية من لم يشأ الله هدايته ولا على شيء آخر من الأحوال التي يتوقعها الكفار إلا حال كونهم مبشرين منذرين ﴿ فمن أمن ﴾بما جاءوا به﴿ وأصلح ﴾ عمله طمعا فيما بشروا به وخوفا مما حذروه من النار ﴿ فلا خوف عليهم ﴾ من العذاب ﴿ ولا هم يحزنون ﴾ بفوات الثواب
﴿ والذين كذبوا بآياتنا ﴾ المبشرة والمنذرة ﴿ يمسهم العذاب ﴾ جعل العذاب ما سألهم كأنه حي يفعل يهم ما يريد﴿ بما كانوا يفسقون ﴾أي بسبب خروجهم عن الإيمان والطاعة
﴿ قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ أي مقدوراته أو خزائن رزقه ﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ عطف على عندي خزائن الله زائدة يعني لا أقول لكم أعلم الغيب ما لم يوح إلي ﴿ ولا أقول لكم إني ملك ﴾ من الملائكة حتى ينافي دعوى الأكل والشراب والنكاح، يعني لا أقول لكم شيئا يجب إنكاره عقلا أو يستدعي اقتراح الآيات ﴿ إن أتبع ﴾ في تعليم العلوم وتبليغ الأحكام شيئا ﴿ إلا ما يوحى إلى ﴾ يعني إنما أدعي النبوة وأتصدى بما يتصدى له الأنبياء ولا استحالة فيه بل هو جائز عقلا واقع تواتر به الأخبار عن الأنبياء الماضين، فيه رد على استبعادهم دعواه جزمهم على فساد مدعاه، وقال : البغوي : هذه الآية نزلت حين اقترحوا الآيات يعني قل لهم لا أقول لكم عندي خزائن الله حتى أجعل لكم الصفا ذهبا وأعطيتكم ما تريدون ولا أعلم الغيب حتى أخبركم بما مضى وما سيكون من غير وحي من الله ولا أقول لكم أني ملك حتى لا أحتاج إلى الأكل والشرب والنكاح إن أتبع إلا ما يوحى إلي﴿ قل ﴾يا حمد﴿ هل يستوي الأعمى ﴾ يعني الذي لا يمتاز بين الحق والباطل فينكر ما لا يجوز إنكاره ويصدق ما لا يجوز تصديقه ﴿ والبصير ﴾ الذي يمتاز بينهما فيصدق من يدعي النبوة بعد شهادة الآيات والمعجزات وتكذيب من يدعي أن مع الله آلهة أخرى ويقول للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند الله وأن الملائكة بنات الله ويقول بتحريم السوائب مثلا بلا دليل ﴿ أفلا تتفكرون ﴾ فتهتدوا للامتياز بين الحق والباطل وما يجب تصديقه وما لا يجوز القول به
﴿ وأنذر به ﴾ أي خوف بما يوحى﴿ الذين يخافون أن يحشروا ﴾ أي يجمعوا أو يبعثوا ﴿ إلى ربهم ﴾ قال : البيضاوي : أراد بالموصول المؤمنون المفرطون في العمل أو المجوزون الحشر مؤمنا كان أو كافرا مقرا به من أهل الكتاب أو مترددا فيه فإن الإنذار ينجع فيهمدون الفارغين الجازمين باستحالته، والباعث له على هذا القول كون الخوف صلة له وهذا ليس بشيء لأن الأمر بالإنذار لم يكن مختصا بمن ذكر بل أمره الله تعالى بأن يقول أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، وأيضا لا وجه لتخصيص الإنذار بالمفرطين فإن المجتهدين في العمل أيضا ينفعهم الإنذار كيلا يخرجوا من اجتهادهم، كيف ولم يكن من المؤمنين في خير القرون مفرط بل كلهم كانوا مجتهدين فالأولى أن يقال المراد بالموصول من كان شأنه أن يخاف فيعم الناس أجمعين فإن العبد المقهور حقيق أن يخاف الخالق القهار، أو يقال : خص الخائفون بالذكر لأنهم هم المنتفعون بالإنذار﴿ ليس لهم من دونه ﴾ أي من دون الله ﴿ ولي ولا شفيع ﴾ الجملة في موضع الحال من الضمير في يحشرون فإن المخوف هو الحشر في هذا الحال، يعني يحشرون غير منصورين ولا مشفوعا لهم، قلت : وجاز أن يكون مضمون هذه الجملة بدلا من الضمير المجرور في أنذر به يعني أنذر بأن ليس لهم من دون الله من ولي ولا شفيع فلا يعبدوا ولا يدعوا إلا إياه. فإن قيل : هذه الآية ينفي الولاية والشفاعة لغير الله تعالى من الأولياء والأنبياء ؟ قلنا : لا بل ولاية الأولياء وشفاعتهم إنما هي بإذن الله تعالى فهي ولاية تعالى وشفاعته لا غير﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي : لكي يتقوا،
روى أحمد الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء أهؤلاء من الله عليهم من بيننا لو طردت هؤلاء لاتبعناك، فأنزل فيهم القرآن﴿ وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ﴾ إلى قوله﴿ سبيل المجرمين ﴾ وروى ابن حبان والحاكم عن سعد ابن أبي وقاص قال : لقد نزلت هذه الآية في ستة أنا وعبد الله بن مسعود وأربعة قالوا يعني كفار قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم اطردهم فإنا نستحيي أن نكون تبعا لك كهؤلاء فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله فأنزل الله تعالى، وروى مسلم بلفظ ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال : المشركون اطردهم لا يجترؤوا علينا، قال : كنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه )١فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾ أي يعبدونه ويذكرونه فإن عبادة الكريم وذكره داع إلى إنعامه، وقيل : المراد منه حقيقة الدعاء﴿ بالغداوة ﴾ قرأ ابن عامر هاهنا سورة الكهف بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة، والباقون بفتح الغين والدال والألف﴿ والعشي ﴾ قال ابن عباس : يعني صلاة الصبح والعصر، ويروى عنه أن المراد منه الصلوات الخمس، وذلك أن ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ناس من الأشراف إذا صلينا فأخروا هؤلاء ليصلوا خلفنا فنزلت الآية ﴿ يريدون وجهه ﴾ حال من فاعل يدعون يعني يدعون مخلصين فإن الإخلاص ملاك الأمر رتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي طردهم ﴿ ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء ﴾ من زائدة وشيء اسم والظرف خبره ومن حسابك وكذا من حسابهم حال من الظرف يعني أن الطرد وترك المجالسة إنما يجوز بل يجب إذا أضر مجالسة أحدهما صاحبه وليس فلا يجوز، أو المعنى لا يضرك حسابهم بل ينفعك فإنهم يأتون بالحسنات وثواب حسنات الأمة راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يضرهم حسابك بل ينفعهم فإنك قد بلغتهم وأرشدتهم وهديتهم، والجملة المنفية في موضع الحال من الموصول في تطرد الذين ويمكن أن يكون ضمير حسابهم وعليهم راجع إلى المشركين والمعنى لا تؤاخذ بحساب المشركين ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه ﴿ فتطردهم ﴾ منصوب على جواب النفي يعني ما ثبوت حسابهم عليك فتطردهم منك ﴿ فتكون من الظالمين ﴾ منصوب على جواب النهي يعني لا يكن منك طردهم فكونك من الظالمين
١ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل سعد بن أبي قاص رضي الله عنه (٢٤١٣)..
﴿ وكذلك ﴾ الكاف زائدة كما في قوله تعالى﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ١ والمشار إليه ضلال رؤساء قريش واسم الإشارة منصوب المصدرية بقوله تعالى ﴿ فتنا ﴾ يعني أضللنا ذلك الضلال ﴿ بعضهم ﴾أي بعض الناس يعني كفار قريش ﴿ ببعض ﴾ أي ببعضهم يعني فقراء المؤمنين حيث امتنعوا من الإسلام بسببهم، قال : التفتازاني شاع هذا التركيب في معنى فتنا بعضهم ببعض ذلك الفتن ولا يراد به مثل ذلك الفتن، ويقال معناه مثل ذلك الفتنة التي فتنا رؤساء قريش فتنا بعض الناس ببعض في الأمم السابقة حيث قال : قوم نوح﴿ ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ﴾٢وقال : نوح :﴿ وما أنا بطارد الذين آمنوا ﴾٣ وقال البيضاوي : معناه مثل ذلك الفتن وهو اختلاف الناس في أمور الدنيا بالفقر والغناء فتنا يعني ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان﴿ ليقولوا ﴾ أي الأغنياء واللام للعاقبة﴿ أهؤلاء ﴾ الفقراء﴿ من ﴾ أي أنعم﴿ الله عليهم ﴾ بالهداية والتوفيق لما يسعدهم ﴿ من بيننا ﴾دوننا إنكار لتخصيص الفقراء بإصابة الحق والسبق إلى الخير وحاصله لو كان خيرا ما سبقونا إليه﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ يعني بالذين هم مستعدون للشكر فيوفقهم له وبمن ليس في استعداده قبول الإيمان والشكر فيخذله، وهذه الآية تدل عل أن الاستعداد يسبق الوجود كما قال : المجدد رضي الله عنه أن تعينات المؤمنين ظلال اسم الله تعالى الهادي تعينات الكفار ظلال اسم الله تعالى المضل فلا يمكن لأحد من الفريقين أن يصدر منه إلا ما خلق منه وخلق لأجله، وجاز أن يكون معنى قول الكفار هؤلاء الفقراء الأراذل من الله عليهم بتخصيص صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم دوننا فقال : الله تعالى﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ فإن الشاكرين هم الأحقاء بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم دون الأغنياء، قال : البغوي : قال : سلمان وخباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع ابن حابس التيميمي وعيينة بن حصين الفزاري وغيرهم من المؤلفة فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوا وقالوا يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم :( ما أنا بطارد المؤمنين ) فقالوا : فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال : نعم، قالوا اكتب لنا عليك بذلك كتابا قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب، قال : ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى ﴿ ولا تطرد الذين ﴾ إلى قوله﴿ بالشاكرين ﴾ فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله عز وجل ﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي يريدون وجهه ﴾فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد وندنوا منه حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيه قمنا وتركنا حتى يقوم وقال : لنا( الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر مع قوم من أمتي معكم المحيى والممات ) وقال : الكلبي :" قالوا له : اجعل لنا يوما ولهم يوما قال : لا أفعل قالوا : فاجعل المجلس واحدا فأقبل علينا وول ظهرك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروى ما ذكر البغوي : عن سلمان وخباب وابن جرير وابن حاتم وغيرهما عن خباب وزاد وإثم ذكر الله تعالى الأقرع وصاحبه فقال : وكذلك فتنا بعضهم ببعض الآية، قال : ابن كثير هذا غريب فإن الآية مكية والأقرع وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر، وروى البغوي : بسنده عن أبي سعيد الخدري جلست في نفر من المهاجرين وإن بعضهم ليستتر ببعض من العري وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام علينا فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن القارئ فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارئ يقرأ علينا فكنا نسمع إلى كتاب الله تعالى فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الحمد لله الذي جعل أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ) ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال : بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف منهم أحد غيري فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أبشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك مقدار خمسمائة سنة )
١ سورة الشورى، الآية: ١١..
٢ سورة هود، الآية: ٢٧..
٣ سورة هود، الآية: ٢٩..
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء إلا عبد كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأولى لاتباعنا إياه، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنتظر ما الذي يريدون فأنزل الله ﴿ وأنذر به الذين يخافون ﴾ إلى قوله ﴿ أليس الله بأعلم بالشاكرين ﴾ وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصهيبا مولى أسيد وابن مسعود المقداد بن عبد الله وواقد ابن عبد الله الحنظلي وأشباههم فأقبل عمر فاعتذر من مقالته فنزل ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ﴾، قال : عكرمة نزلت في الذين نهى الله عز وجل نبيه عن طردهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال : عطاء نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسالم وأبي عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأرقم بن الأرقم وأبي سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهم أجمعين، وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ماهان قال : جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليهم شيئا فأنزل الله تعالى ﴿ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ﴾ ﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾ أمر الله تعالى نبيه بيدأهم بالتسليم أو يبلغ سلام الله إليهم ويبشرهم بوجوب الرحمة من الله لهم بوعده الموكد تفضلا بعد بشارتهم بالسلامة مما يكره المستفاد من السلام ﴿ أنه ﴾ الضمير للشأن قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على أنه بدل من الرحمة أو بتقدير الباء، والباقون بالكسر على الاستئناف على أنه تفسير للرحمة﴿ من عمل منكم سوءا بجهالة ﴾ في موضع الحال، أي من عمل سوءا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضار والمفاسد أو متجاهلا بارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل الجهل وذلك التجاهل إنما هو لغلبة شهوة النفس، فمفعول الجهالة على التقدير الأول محذوف وعلى التقدير الثاني لا يقتضي المفعول ﴿ ثم تاب من بعده ﴾ أي بعد السوء يعني رجع عن ذنبه بأن ندم على ما فعل وعزم على أن لا يفعل أبدا ﴿ وأصلح ﴾ عمله ﴿ فأنه غفور رحيم ﴾ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب أنه الهمزة على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، يعني فأمره أنه تعالى غفور رحيم أو فعله أنه تعالى غفور، والباقون بالكسر والفاء تدل على أن التوبة سبب للغفران
﴿ وكذلك ﴾ يعني كما فصلنا لك في هذه السورة ﴿ نفضل الآيات ﴾آيات القرآن أو دلائلنا في كل حق ينكره الكافرون ﴿ ولتستبين ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة وتذكير الفاعل، وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بالتاء على تأنيث الفاعل الغائب ورفع كلهم ﴿ سبيل المجرمين ﴾ على الفاعلية والسبيل يذكر ويؤنث وقرأ نافع لتستبين بالتاء على الخطاب، أي لتستوضح يا محمد وسبيل وسبيل منصوبا على المفعولية والعطف على مقدر تقديره ليظهر الصراط المستقيم ولتستبين سبيل المجرمين
﴿ قل إني نهيت ﴾ أي صرفت وزجرت بالآيات والأدلة العقلية والآيات القرآنية السمعية﴿ أن أعبد الذين تدعون من دون الله ﴾ يعني ما تدعونها وتسمونها آلهة وتعبدونها من دون الله ﴿ قل لا أتبع أهوائكم ﴾ تأكيد لقطع أطماعهم وبيان لأن ما هم عليه إنما هو أمر لا دليل عليه سمعا ولا عقلا بل بتبعية الهوى، وتعليل لتركه موفقتهم وتنبيه لمن طلب الحق أن يتبع الحجة ولا يقلد ﴿ قد ضللت إذا ﴾ يعني إذا اتبعت أهواءكم فقد ضللت ﴿ وما أنا من المهتدين ﴾ حينئذ وفيه تعريض بأنهم ليسوا بمهتدين
﴿ قل إني على بينة ﴾ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد بيان ما لا يجوز اتباعه يعني إني على برهان وبصيرة ( من ربي ) صفة لبينة أو صلة له، يعني بينة كائنة من ربي أو بينة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه ( وكذبتم به ) الضمير راجع إلى البينة باعتبار المعنى يعني كذبتم بالبرهان أو راجع إلى ربي والمعنى كذبتم ربي حيث أشركتم به ( ما عندي ما تستعجلون به ) من العذاب، حيث يقولون إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، والمراد ما تستعجلون به من القيامة، قال الله تعالى ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) ( إن الحكم ) في تعجيل العذاب تأخيره وإتيان القيامة لأحد ( إلا لله يقص ) قرأ نافع وابن كثير وعاصم بالصاد المهملة المشددة يعني يقول ويبين ( الحق ) ويفصله أو يتبع الحق والحكم من قص أثره، والباقون بالضاد المعجمة بالمكسورة بحذف الياء من يقضي لاجتماع الساكنين وصلا، وكذا وقفا اتباعا للخط يعني يحكم بالحق ( وهو خير الفاصلين ) الحاكمين والمظهرين.
( قل ) يا محمد ( لو ) ثبت ( أن عندي ) أي في قدرتي ( ما تستعجلون به ) من العذاب أو إتيان القيامة ( لقضي الأمر بيني وبينكم ) أي فرغ من العذاب وأهلكتم والنقطع ما بيني وبينكم من المنازعة أو المعنى لقضي بإحقاق الحق وإبطال الباطل، اليوم بقيام الساعة ما يقضي بيني وبينكم آجلا يوم القيامة قال الله تعالى :( ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ) ولما كان قوله ( لقضي الأمر بيني وبينكم ) مجملا لم يتعين فيه مورد العذاب يبينه بقوله ( والله أعلم بالظالمين ) فيهلكهم على مقتضى حكمته.
﴿ وعنده ﴾ تعالى دون عند غيره، يستفاد الحصر من تقديم الظرف ﴿ مفاتح الغيب ﴾ مفاتح جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن أو جمعت مفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح وهو ما يتوصل به إلى شيء مغلق، والمراد بمفتاح الغيب علمه فإن بالعلم يدرك المعلوم كأنه وصلة، والمراد بالغيب ما لم يوجد بعد كأخبار المعاد ومن هذا القبيل أن المطر هل ينزل أو لا ومتى ينزل ومنه ما تكسب نفس غدا وأنه أي أرض تموت أو وجد ولم يظهر الله تعالى على أحد، ومنه ما في الأرحام، ومعنى عنده خزائن الغيب إحاطة علمه بها كأنه موجود عنده تعالى روى البغوي : بسنده عن ابن عمر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ولا يعلم ما يغيض الأرحام أحد إلا الله، ولا يعلم ما في الغد أحد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله، ) ١ وكذا روى أحمد والبخاري، وفي الصحيحين في حديث أبي هريرة في قصة سؤال جبرئيل أنه عليه السلام قال :( في خمس يعني الساعة لا يعلمهن إلا الله ) ثم قرأ ﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ﴾ ٢ الآية، قلت : وليست خزائن الغيب منحصرة في الخمس المذكورة بل كل ما لم يوجد أو لم يظهر بعد، وقال : الضحاك مفاتح الغيب خزائن الأرض وعلم نزول العذاب، وقال : عطاء ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وقيل : انقضاء الآجال، وقيل : أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أحوالهم ولا تعارض بين هذه الأقوال بناء على ما قلت ﴿ لا يعلمها إلا هو ﴾ تنصيص بما أشير إليه من حصر علم الغيب به تعالى يعني لا يعلم شيئا من المغيبات إلا الله تعالى ولا يعلم غيره منها إلا بتوفيقه وهو سبحانه يعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكمة، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل : وجودها ﴿ ويعلم ما في البر ﴾ من النبات والدواب وغيرها ﴿ والبحر ﴾ من الحيوانات والجواهر وغيرها هذه الجملة لأخبار عن تعلق علمه بالموجودات المشاهدات عطف على الأخبار عن علمه تعالى بالمغيبات ﴿ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ﴾ مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات بعد ما علم ذلك فيما سبق، فإن ما للنفي ومن للاستغراق أي يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده ﴿ ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ﴾ قال ابن عباس : الرطب الماء واليابس البادية، وقال عطاء ما ينبت وما لا ينبت، ينبت وما ينبت، وقيل : الحي والميت، والصحيح أنه عبارة عن كل شيء، قوله ولا حبة مع ما عطف عليه معطوف على ورقة والعطف يشاركهما في الصفة أعني لا يعلمها فكان قال : ولا رطب ولا يابس إلا يعلمها، فقوله تعالى :﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ بدل من الاستثناء الأول من بدل الكل على أن الكتاب المبين علم الله تعالى، أو بدل اشتمال إن أريد به اللوح المحفوظ، أو يقال حبة معطوف على ورقة وإلا في كتاب مبين معطوف على لا يعلمها عطف المعمولين على المعمولين بفعل واحد
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض الأرحام﴾ (٤٦٩٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: سؤال جبري النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان –٥٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الإيمان والإسلام والإحسان (٩)..
﴿ وهو الذي يتوفكم ﴾ أي ينيمكم فإن النوم أحد أقسام التوفي وأصله قبض الشيء بتمامه أو هو مستعار من الموت﴿ بالليل ويعلم ما جرحتم ﴾، أي كسبتم بالجوارح ﴿ بالنهار ﴾ خص النوم بالليل والكسب بالنهار نظرا إلى الغالب المعتاد، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه﴿ ثم يبعثكم فيه ﴾ أي في النهار، فيه تقديم وتأخير تقديره يتوفاكم بالليل ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم به، ووجه التقديم الاهتمام بذكر الكسب ﴿ ليقضى ﴾ أي ليؤخر﴿ أجل مسمى ﴾ للموت سمى ذلك الأجل حين كان جنينا في بطن أمه بل في الأزل﴿ ثم إليه ﴾ أي إلى حكمه تعالى بجزاء ما كسبتم ﴿ مرجعكم ﴾ بعد الموت ﴿ ثم ينبئكم ﴾يوم القيامة﴿ بما كنتم تعملون ﴾ عند الحساب، فيجازيكم عليه في الآية السابقة تنبيه على شمول علمه تعالى وفي هذه الآية على كمال قدرته، وإيماء بالاستدلال بما نشاهد من قدرته على الإحياء بعد النوم التي هي أخت الموت على البعث بعد الموت
﴿ وهو القاهر ﴾الغالب الذي لا يتصور من أحد مقاومة في إنفاذ المراد﴿ فوق عباده ﴾ تصوير للغالبة والاستعلاء ﴿ ويرسل عليكم حفظة ﴾ يحفظون أعمالكم ويكتبونها في الصحف وينشر تلك الصحف يوم القيامة ليظهر المطيع من العاصي على رؤوس الأشهاد﴿ حتى إذا جاء أحدكم الموت ﴾ غاية لإرسال الحفظة أو غاية للغلبة يعني بلغت غلبته إلى أنهم لا يقدرون على مخالفته في قبض أرواحهم ﴿ توفته ﴾جواب إذا قرأ حمزة توفاه بالألف المحال على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث ﴿ رسلنا ﴾أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن ابن عباس أن المراد بهم أعوان ملك الموت من الملائكة، وكذا أخرج أبو الشيخ عن النخعي، وذكر السيوطي عن وهب بن منبه قال : إن الملائكة الذين يقربون بالناس هم الذين يتوفونهم ويكتبون آجالهم فإذا توفى الأنفس آجالهم دفعوها إلى ملك الموت وهو كالعاقب أي العشار الذي يؤدي إليه من تحته، وأخرج ابن حبان وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه سئل عن ملك الموت هل هو وحده الذي يقبض الأرواح ؟قال : هو الذي يلي أمر الأرواح وله أعوان على ذلك غير أن ملك الموت هو الرئيس كل خطوة منه من المشرق إلى المغرب، قلت : أين تكون أرواح المؤمنين قال : عند سدرة المنتهى، قال : القرطبي لا منافاة بين قوله تعالى﴿ توفنه رسلنا ﴾١وقوله تعالى :﴿ يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ﴾٢وقوله تعالى :﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾٣ لأن إضافة التوفي إلى ملك الموت لأنه المباشر للقبض وإلى الملائكة الذين هم أعوانه لأنهم يأخذون في جذبها فهو قابض وهم معالجون وإلى الله تعالى لأنه هو الفاعل على الحقيقة يعني أفعال العباد مخلوقة له تعالى، وقال : القرطبي إنه في الخبر أنه ينزل عليه أي على الميت أربعة من الملائكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى ومالك يجذبها من يده اليسرى ذكره أبو حامد، وقال : الكلبي : يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، وأخرج جويبر في تفسيره عن ابن عباس قال ملك الموت هو الذي يتوفى الأنفس كلها وقد سلط على ما في الأرض كما سلط على ما في راحته ومعه ملائكة من ملائكة الرحمة العذاب فإذا توفى نفسا طبية دفعها إلى ملائكة الرحمة وإذا توفى نفسا خبيثة دفعها إلى ملائكة العذاب، وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن ابن المثنى الحمصي نحوه. ويدل على هذه ما روى أحمد وأبو داود والحاكم وابن شيبة والبيهقي وغيرهم من طرق صحيحة في حديث طويل عن البراء بن عازب وفيه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها يعني ملك الموت فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ) الحديث، وذكر في الكافر ﴿ أنه ينزل ملائكة سود الوجوه معهم المسموح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه- فذكر الحديث نحوه أنه يقبض- فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين الحديث ) ٤وأخرج ابن حاتم زهير بن محمد قال : قيل : يا رسول الله ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك ؟ فقال : إنه حوى الدنيا لملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدي أحدكم فهل يفوته منها شيء ) وأخرج ابن أبي الدنيا وأبا الشيخ عن أشعت بن أسلم قال : سأل إبراهيم عليه السلام ملك الموت واسمه عزرائيل وله عينان في وجهه وعينان في قفاه فقال : يا ملك الموت ما تصنع ؟إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان كيف تصنع ؟ قال أدعوا الأرواح بإذن الله فيكون بين أصبعي هاتين، قال : ودحيت له الأرض فتركت كالطست يتناول منها حيث يشاء، وأخرج أن ملك الموت قال : ليعقوب حين سأله إن الله سخر لي الدنيا كالطست يوضع قدام أحدكم فيتناول من أي أطراف شاء كذلك الدنيا عندي، وأخرج في الزهد وأبو الشيخ وأبو نعيم مجاهد قال : جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء وجعل له أعوانا يتوفى الأنفس ثم يقبضها منهم قلت : وتحقيق المسألة بالنظر إلى الأحاديث والآثار أن الله سبحانه جعل ملك الموت بحيث نسبته إلى جميع الأرض والأقطار على السواء كالشمس في المشاهدات وجعل نفسه بحيث لا يغنيه شأن عن شأن وكذلك يجعل لنفوس بعض أوليائه فإنهم يظهرون إن شاء الله تعالى في آن واحد في أمكنة شتى بأجسادهم المكتسبة، وجعل لملك الموت أعوانا في جذب النفوس هم كالجوارح له وتنزل عند كل ميت مؤمن أو كافر جمع من الملائكة بأكفان من الجنة أو النار فيأخذون روحه من ملك الموت ويرتقون به إلى السماء، فالمراد برسلنا في هذه الآية إما أعوان ملك الموت وإما الملائكة الذين يرتقون بالأرواح ويأخذونها من ملك الموت وقيل : أراد بالرسل ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الواحد بلفظ الجمع{ وهم لا يفرطون ﴾ أي لا يقصرون بالتواني والتأخير ولا يقدرون على قبض الأرواح إلا بعد إذنه تعالى، أخرج الطبراني وابن منذة وأبو نعيم عن الحارث بن الخزرج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال :( يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال : ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم أني لكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد إني لأقبض روح ابن آدم فإذا صرخ صارخ من أهله قمت في الدار ومعي روحه فقلت يا هذا الصارخ والله ما ظلمناه ولا سبقنا أجله ولا استعجلنا قدره، وما لنا قبضة من ذنب فإن ترضوا بما صنع الله تؤجروا وإن تسخطوا تأثموا وتأزروا وإن لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر، وما من أهل بيت شعر ولا مدر بر ولا فاجر سهل ولا جبل إلا وأنا أتصفحهم في يوم وليلة حتى لأنا أعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو يأذن بقبضها ) وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن الحسن نحوه، قال : جعفر بن محمد بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا نظر عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلوات الخمس دنا منه ملك الموت وطرد عنه الشياطين ويلقنه لا إله إلا الله محمد رسول الله في ذلك الحال العظيم
١ سورة الأنعام، الآية: ٦١..
٢ سورة السجدة، الآية: ١١..
٣ ورة الزمر، الآية: ٤٢..
٤ خرجه أحمد في المسند ٣/٢٨٦ ورجاله رجال الصحيح..
﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم ﴾ أي مالكهم ﴿ الحق ﴾ المراد بهذه الآية إما ردهم إلى الله تعالى عرضهم على الحساب يوم القيامة كما تدل عليه كلمة ثم، وأما بعد الموت يرتفون بهم ملائكة الرحمة والعذاب كما ورد في ذلك الحديث الطويل عن البراء بن عازب قال :( فيصعدون بها- يعني المؤمن- فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الطيب، فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ) الحديث، وقال : في الكافر ) فيصعدون بها فلان يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي يسمى به في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ لا تفتح لهم أبواب السماء ﴾ الآية فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق ﴾ الحديث ١ ﴿ ألا له الحكم ﴾ لا لغيره﴿ وهو أسرع الحاسبين ﴾ لا يشغله حساب عن حساب، وفي الحديث( يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا )
١ رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن عبد الله بن خالد وهو ثقة. أنظر ممع الزوائد في كتاب: البعث، باب: خفة يوم القيامة على المؤمنين(١٨٣٤٨)..
﴿ قل من ينجيكم ﴾ قرأ يعقوب بالتخفيف من الأفعال، والباقون بالتشديد من التفعيل﴿ من ظلمات البر والبحر ﴾ يعني من شدائدهما ومهالكهما، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول كانوا إذا سافروا في البر والبحر فضلوا الطريق وأحيطوا بالصواعق أو الأمواج أو غيرها من البليات والمصاعب دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أن الأوثان حجارة لا تضر ولا تنفع ﴿ تدعونه تضرعا ﴾ مصدر بمعنى الفاعل الحال من ضمير الفاعل في يدعونه، والجملة حال من ضمير المفعول في ينجيكم، والتضرع التذلل والمبالغة في السؤال ﴿ وخفية ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم هنا وفي الأعراض بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان يعني مسرين فإن الإسرار سنة الدعاء والذكر، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا )١ والمعنى تدعون الله بالتضرع الله والإخلاص فإن الإسرار بالدعاء أبعد من الرياء وأدل على الإخلاص ﴿ لئن أنجينا من هذه ﴾ الظلمة والشدة بتقدير القول بيان لتدعونه يعني تقولون لئن أنجيتنا قرأ الكوفيون أنجانا على صيغة الغائب والباقون بصيغة الخطاب لله تعالى ﴿ لنكونن من الشاكرين ﴾ لله تعالى والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها يعني صرفها في رضاء المنعم
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: ما يكره من رفع الصوت في التكبير(٢٩٩٢) وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: استحباب خفض الصوت بالذكر(٢٧٠٤)..
﴿ قل الله ينجيكم ﴾ قرأ الكوفيون وهشام مشددا من التفعيل على طبق السؤال، والباقون بالتخفيف من الأفعال﴿ منها ﴾ أي من تلك الشدة﴿ ومن كل كرب ﴾ غاية الغم ﴿ ثم أنتم تشركون ﴾ تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد وتعلمون أن الله هو الذي ينجيكم وتشركون معه الأصنام التي قد علمتم أنها لا تضر ولا تنفع، وفي وضع تشركون موضع لا تشكرون كمال توبيخ وتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله فكأنه لم يعبد الله رأسا وكلمة ثم ليس للتراخي في زمان بل الكمال البعد بين الإحسان والإشراك
﴿ قل هو ﴾ أي الله هو ﴿ القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ كما فعل بقوم نوح وعاد وقوم لوط وأصحاب الفيل ﴿ أو من تحت أرجلكم ﴾ كما فعل بقوم نوح من نبع الأرض وإغراق فرعون وخسف قارون، عن ابن عباس ومجاهد من فوقكم السلاطين الظلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السوء، وقال : الضحاك من فوقكم أي من قبل كباركم ومن تحت أرجلكم من قبل صغاركم، وقيل : حبس المطر والنبات﴿ أو يلبسكم ﴾ أي يخلطكم ﴿ شيعا ﴾ فرقا متفرقين على أهواء شتى ويكون القتال بينكم﴿ ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ البأس العذاب والشدة في الحرب كذا في القاموس يعني يقتل بعضكم بعضا، عن جابر بن عبد الله، قال :( لما نزلت هذه الآية ﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك الكريم﴿ أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ﴾ قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم( هذا أهون وهذا أيسر )١رواه البخاري وغيره
فائدة : ظهر تأويل هذه الآية بعد خمس وثلاثين سنة من الهجرة حين قاتل المسلمون في وقعة جمل وصفين وغير ذلك.
وعن سعد بن أبي وقاص : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى ربه طويلا قم قال :( سألت ربي ثلاثة سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ) رواه البغوي، وعن عبد الله بن عبد الرحمان الأنصاري أن عبد الله عمر جاءهم ثم قال :( إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في مسجد فسأل ثلاثا فأعطاه اثنين ومنعه واحدة سأله أن يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فأعطاه ذلك وسألهم أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاه ذلك وسأله أن لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك )٢رواه البخاري، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت ﴿ قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ﴾الآية قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف، قالوا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال : بعض الناس لا يكون هذا أبدا يعني أن يقتل بعضكم بعضا ونحن مسلمون فنزلت﴿ أنظر كيف نصرف الآيات ﴾ بالوعيد{ لعلهم يفقهون )
١ خرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب:﴿قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ومن تحت أرجلكم﴾(٤٦٢٨)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض(٢٨٩٠)..
﴿ وكذب به ﴾ أي بالعذاب وبالقرآن﴿ قومك ﴾ أي كفار قريش﴿ وهو الحق ﴾ الواقع لا محالة أو الصدق﴿ قل لست عليكم بوكيل ﴾ أي مسلطا من الله عليكم وكل إلي أمركم ألزمكم الإسلام ولا محالة أو أجازيكم إن أبيتم
﴿ لكل نبأ ﴾خبر من أخبار القرآن من العذاب النازل بالكفار وغيره﴿ مستقر ﴾ وقت استقرار ووقوع لا يتقدم عليه ولا يتأخر﴿ وسوف تعلمون ﴾ عند وقوعه في الدنيا أو في الآخرة
﴿ وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا ﴾ بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها وكانت القريش تفعل ذلك في أنديتهم﴿ فأعرض عنهم ﴾ أي قم من عندهم ولا تجالسهم والمقصود التحذير عن دينهم ومجالسهم لا المنع عن قتالهم حتى يقال بالنسخ ﴿ حتى يخوضوا في حديث غيره ﴾، أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن ﴿ وإما ينسينك ﴾ قرأ عامر بفتح النون وتشديد السين من التفعيل والباقون بسكون النون وكسر السين من الافتعال، يعني أن ينسينك ما نهيت عنه﴿ الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى ﴾ يعني بعد أن تذكره﴿ مع القوم الظالمين ﴾ أي معهم وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام،
قال : البغوي : روى عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية، قال : المسلمون كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخضون أبدا، وفي رواية قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم فأنزل الله عز وجل ﴿ وما على الذين يتقون ﴾يعني محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿ من حسابهم ﴾ أي الكفار المستهزئين ومن للتبعيض ﴿ من شيء ﴾ من زائدة يعني مما يحاسب عليه الكفار من الآثام ليس شيء منها لازما للمتقين﴿ ولكن ﴾ عليهم ﴿ ذكرى ﴾ أي تذكيرهم ومنعهم عن الخوض ونحو ذلك من القبائح إن استطاعوا، فذكرى في محل الرفع ويحتمل النصب على المصدرية يعني ولكن ذكروهم ذكرى﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي الكفار بتذكير المؤمنين، وجاز أن يكون الضمير للذين يتقون يعني لكن يثبتوا على التقوى
﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهو ﴾ يعني تدبنوا بما لا ينفعهم عاجلا وآجلا كعبادة الأوثان وتحريم البحائر والسوائب، أو المعنى اتخذوا دينهم الذي كلفوا بإتيانه لهو ولعبا حيث يسخرون به، وقيل : معناه أن الله تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعني عيدهم لعبا ولهوا إلا المسلمين فإن في عيدهم الصلاة صلاة العيد والجمعة والتكبير والنحر لله تعالى وصدقة الفطر والخطبة والتذكير، والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم، ويجوز أن يكون معناه التهديد كقوله تعالى ﴿ ذرني ومن خلقت وحيدا( ١١ ) ﴾١ومن جعله منسوخا بآية السيفد حمله على ترك التعرض لهم والأمر بالكف عنهم﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ حتى أنكروا البعث﴿ وذكر به ﴾ أي بالقرآن ﴿ أن تبسل نفس بما كسبت ﴾ يعني لئلا تبسل أو كراهة أو تبسل أو كراهة أي تحبس بما كسبت من السيئات، والبسل الحبس كذا في القاموس﴿ ليس لها من دون الله ولي ﴾ ناصر يدفع عنها العذاب بالمقاومة ﴿ ولا شفيع ﴾ يدفع بالشفاعة﴿ وإن تعدل ﴾ تلك النفس﴿ كل عدل ﴾ العدل الفدية لأنها تعادل المفدى، أي أن تفد كل الفديدة وكل منصوب على المصدرية ﴿ لا يؤخذ منها ﴾ الفعل مسند إلى منها ولا ضمير فيه عائد إلى العدل لأنه هاهنا بمعنى المصدر دون المفعول فلا يسند إليه الأخذ بخلاف قوله تعالى﴿ ولا يؤخذ منها عدل ﴾٢ فإن هناك بمعنى المفدى ﴿ أولئك ﴾ المشار إليه﴿ الذين ﴾ اتخذوا دينهم لعبا الذين ﴿ أبسلوا ﴾ أي حبسوا وسلموا إلى العذاب ﴿ بما كسبوا ﴾ من السيئات ﴿ لهم شراب من حميم ﴾ ماء بالغ غاية الحرارة ﴿ وعذاب أليم ﴾ بالنار وغيرها﴿ بما كانوا يكفرون ﴾ أي بسبب كفرهم، جملة مستأنفة أو خبر بعد خبر لأولئك
١ سورة المدثر، الآية: ١١..
٢ سورة البقرة، الآية: ٤٨..
﴿ قل أندعوا ﴾ أنعبد ﴿ من دون الله ما لا ينفعنا ﴾ أي عبدناه﴿ ولا يضرنا ﴾ إن لم نعبده ونكفر به يعني لا يقدر على شيء من ذلك﴿ ونرد على أعقابنا ﴾ يعني نرجع إلى الشرك الذي كان الناس عليه في الجاهلية عطف على ندعوا﴿ بعد إذ هدانا الله ﴾ بالوحي فانقذنا من الشرك ورزقنا الإسلام﴿ كالذي استهوته الشياطين ﴾ استفعال من الهوى يهوى بمعنى ذهب قرأ حمزة استهواه بالألف مما لا على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، نظرا إلى جمعية الفاعل، والكاف في محل نصب على المصدرية أو على الحالية يعني ردا مثل رد الذي ذهب به الشياطين أو نرد مشبهين بالذي ذهب به الشياطين يعني مردة الجن ﴿ تفسدوا الأرض ﴾ أي في المفازة من الطريق إلى المهالك﴿ حيران ﴾ حال من مفعول استهوته أي ضالا متحيرا لا يدري أين يذهب وكيف يصنع﴿ له ﴾ أي بهذا المستهوي ﴿ أصحاب يدعونه إلى الهوى ﴾ أي إلى الطريق المستقيم سماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر ﴿ ائتنا ﴾ تفسير ليدعونه بتقدير القول، يعني يقولون له ائتنا والمستهوي لا يجيبهم ولا يأتيهم، وجملة له أصحاب في محل النصب على الحالية من المفعول استهوته، شبه الله سبحانه الضال عن طريق الإسلام والمسلمون يدعونه إلى الإسلام فلا يلتفت إليهم بالذي استهوته الغيلان فذهبوا به الطريق وأصحاب يدعونه إلى طريق، والاستفهام للإنكار وجملة التشبيه حال من ضمير نرد ﴿ قل إن هدى الله ﴾ أي الإسلام﴿ هو الهدى ﴾ وما عداه ضلال ﴿ وأمرنا ﴾ منصوب المحل عطفا على محل إن هدى الله هو الهدى يعني قل هذا القول وقل أمرنا﴿ لنسلم ﴾ اللام بمعنى الباء أو زائدة، والفعل بتأويل المصدر بأن مقدوة مفعول لأمرنا أن نسلم أو بأن نسلم أو هي للتعليل والمفعول محذوف يعني أمرنا بإتباع الرسول لنسلم ﴿ لرب العالمين ﴾ فإن الوصول إلى الله تعالى وتسليم أنفسهم له تعالى منحصر في إتباع الرسول
﴿ وأن أقيموا الصلاة واتقوه ﴾ عطف على أن نسلم مفعولا لأمرنا أو علة، يعني أمرنا بأن أقيموا أو لإقامة الصلاة والتقوى﴿ وهو الذي إليه تحشرون ﴾ يوم القيامة
﴿ وهو الذي خلق السماوات والأرض ﴾ قائما ﴿ بالحق ﴾ بالحكمة أو محقا أو المعنى متلبسا بالحق نظيره﴿ ما خلقت هذا باطلا ﴾ ١ والباء بمعنى اللام أي لإظهار الحق﴿ ويوم يقول ﴾للشيء﴿ كن فيكون ﴾ يعني يقول للخلق قوموا فيقومون فيكون مرفوعا على الخبر وليس بجواب، ويوم منصوب باذكر أو هو معطوف على الضمير المنصوب في واتقوه يعني اتقوا عذاب يوم يقول كن يعني يوم القيامة، أو على السماوات يعني خلق السماوات ويوم القيامة، أو منصوب بفعل محذوف دل عليه السياق يعني خلق السماوات والأرض وما بينهما ويعيدها يوم يقول للبعث كن فيكون وعلى هذه التأويلات ﴿ قوله الحق ﴾ مبتدأ وخبر كلام مستأنف يعني قوله هو الحق الصدق لا محالة، وجاز أن يكون الموصوف مع الصفة فاعلا ليقول يعني فيكون قوله الحق ولا يتخلف الخلائق عن قوله، أو المعنى حين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون، وقيل : قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدما عليه كما تقول يوم الجمعة قولك الصدق يعني قولك الصدق كائن يوم الجمعة قدم الخبر للاهتمام، والمعنى أنه الخالق للسماوات والأرض قوله الحق نافذ في الكائنات يوم يقول كن فيكون ﴿ وله الملك يوم ينفخ في الصور كقوله تعالى{ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ ٢ و( الصور قرن فيه )٣ كذا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في جواب الأعرابي حين سأله رواه أبو داود وحسنه والنسائي وابن حبان وصححه والبيهقي في البعث وابن المبارك في الزهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأخرج أبو الشيخ بن حبان في كتاب العظمة عن وهب بن منبه، قال : خلق الله الصور من لؤلؤ بيضاء في صفاء الزجاجة ثم قال : للعرش خذ الصور فتعلق به ثم قال : كن فكان إسرافيل فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقه ونفس منفوسة لا يخرج روحان من ثقب واحد وفي وسط الصور كوة كاستدارة السماء والأرض وإسرافيل اضع فمه في تلك الكوة، ثم، قال : له الرب تعالى قد وكلتك بالصور فأنت بالنفخة والصيحة فدخل إسرافيل في مقدم العرش وأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه الله ينتظر متى يؤمر به. وأخرج أحمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأحنى جبهته وأصفى بالسمع متى يِؤمر ) فسمع بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق عليهم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )٤ وكذا أخرج أحمد والحاكم في المستدرك والبيهقي في البعث والطبراني في الأوسط عن ابن عباس وفيه ( حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ) وكذا الترمذي والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو نعيم عن جابر، وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، / قال :( ما من صباح إلا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى لا يؤمران فينفخان ) ٥ وروى ابن ماجة والبزار مرفوعا بلفظ " إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران " وأخرج الحاكم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( النافخان في السماء الثانية ورأس أحدهما بالمشرق ورجلان بالمغرب ورأس أحدهما بالمغرب ورجلان بالمشرق ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخان ) فهذه الأحاديث تدل على أن نافخا الصور ملكان لهما قرنان، وأخرج الطبراني بسند حسن عن كعب الأحبار حديثا فيه( ملك الصور جاث على إحدى ركبته وقد نصب الأخرى فالتقم الصور فحني ظهره وقد أمر إذ رأى إسرافيل قد ضم جناحيه أن ينفخ في الصور، فقالت عائشة هكذا يعني مثل ما قال : كعب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. قال : ابن حجر هذا الحديث يدل على أن النافخ غير إسرافيل فيحمل على أنه ينفخ النفخة الأولى إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه ثم ينفخ إسرافيل نفخة البعث والله أعلم. وأخرج أبو الشيخ بن حبان في كتاب العظمة عن أبي بكر الهذلي قال : إن ملك الصور الذي وكل به أن إحدى قدميه لفي الأرض وهو جاث على ركبته شاخص ببصره إلى إسرافيل ما طرف منذ خلقه الله ينتظر متى يشير إليه فينفخ في الصور ﴿ عالم الغيب والشهادة ﴾ أي هو عالم الغيب يعني ما لم يوجد والشهادة يعني ما وجد فإن كل موجود مشهود لله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ﴿ وهو الحكيم ﴾ في الإيجاد والإفناء ﴿ الخبير ﴾ بالحساب والجزاء وبأحوال المخلوقات كلها.
١ ورة آل عمران، الآية: ١٩١..
٢ سورة غافر، الآية: ١٦..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: ذكر البعث والصور(٤٧٢٦)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: التفسير القرآن، باب: ومن سورة الزمر(٣٢٤٣)..
٥ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: ذكر البعث (٣٢٧٣) في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف حجاج بن أرطأة عطية العوفي..
﴿ قال إبراهيم لأبيه أزر ﴾ قرأ يعقوب آزر بالضم يعني يا آزر، والباقون بالفتح في محل الجر على أنه عطف بيان لأبيه وهو اسم أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمية، وقيل : هو اسم عربي مشتق من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الثقل لم ينصرف للعلمية وزن الفعل، وكان آزر على الصحيح عمالا لإبراهيم والعرب يطلقون الأب على العم كما في قوله تعالى :﴿ نعبد إلهك وإله أبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ﴾١ وكان اسمه ناخور اسمه وكان ناخور على دين آبائه الكرم كما ذكرنا في سورة البقرة ثم لما صار وزير النمرود اختار الكفر للحرص في الدنيا وترك دين آبائه. روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يلقى إبراهيم آزر يوم القيامة وعلى وجه أزر قترة وغبرة فيقول إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد، فيقول الله : إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال : يا إبراهيم ما تحت رجليك ؟ فينظر فإذا بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقي في النار )٢ والله أعلم قال : الرازي إنه كان عما لإبراهيم ولم يكن أبو وقد سبقه إلى هذا اتلقول جماعة من السلف، قال : الزرقاني في شرح المواهب إن دليل كون آزر عما لإبراهيم ما قد صرح به الشهاب الهيثمي بأن أهل الكتابين والتاريخ أجمعوا أن آزر عم إبراهيم كما قال : الرازي، وقال السيوطي : روينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جرير والسدي أنهم قالوا ليس آزر أبا لإبراهيم إنما هو إبراهيم بن تارخ، وقال السيوطي : وقفت على أثر في تفسير ابن المنذر صرح فيه بأنه عمه، وفي القاموس آزر اسم عم إبراهيم عليه السلام وأما أبوه فإنه تارخ بالخاء المهملة، وقيل : بالمعجمة أو هما واحد، ويؤيد القول بأنه لم يكن أبا له عليه السلام ما ذكرنا في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى﴿ ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ﴾٣ أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه )٤ رواه البخاري، وقد صنف السيوطي في إثبات إسلام آباء النبي صلى الله عليه وسلم إلى آدم عليه السلام رسائل والله أعلم. لكن قال : محمد بن إسحاق : والضحاك والكلبي : إن آزر اسم أبي إبراهيم واسمه تارخ أيضا مثل إسرائيل ويعقوب، وقال مقاتل ابن حبان : آزر لقب لأبي إبراهيم واسمه تارخ، قال : سليمان التيمي هو سب وعيب ومعناه في كلامهم المعوج، وقيل : معناه الشيخ الهرم بالفارسية وعلى هذا عدم انصرافه لأنه اسم أعجمي حمل على موزنة والأول أصح، وقال : سعد ابن المسيب ومجاهد : آزر اسم صنم لقب به لأنه كان يعبده أو أطلق عليه بحذف المضاف يعني عبد آزر وعلى تقدير كونه اسم صنم منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده أعني ﴿ أتتخذ ﴾ تقديره أتبعد آزر أتتخذه إلهها فوضع المظهر موضع المضمر لدلالة على عدم انحصار عبادته في آزر، فقال :﴿ أصناما آلهة ﴾ دون الله تعالى ﴿ إني ﴾ قرأ نافع ابن كثير وأبو عمرو الياء والباقون بالإسكان ﴿ أراك وقومك ﴾ يعني أهل دين﴿ في ضلال ﴾ عن الحق﴿ مبين ﴾ ظاهر الضلالة
١ سورة البقرة، الآية: ١٣٣..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى:﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾(٣٣٥٠)..
٣ ورة البقرة، الآية: ١١٩..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم(٣٥٥٧).
﴿ وكذلك ﴾ يعني كما أريناه الحق على خلاف قرنه﴿ نري ﴾ حكاية حال ماضية ﴿ إبراهيم ملكوت ﴾ كرهبوت وترقرت العز والسلطان كذا في القاموس مشتق من الملك زيدت الواو والتاء للمبالغة فهو أعظم الملك، قال : في الصحاح : الملكوت مختصة بملك الله تعالى ﴿ السماوات والأرض ﴾ إضافة الملكوت إلى السماوات والأرض من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول يعني سلطان الله السماوات، قال : مجاهد وسعيد بن جبير يعني آيات السماوات والأرض وذلك أنه أقيم على صخرة وكشف له عن السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضيين ونظرا إلى مكانه في الجنة وذلك قوله تعالى﴿ وأتيناه أجره في الدنيا ﴾١ يعني أريناه مكانه في الجنة، وروى عن سلمان ورفعه بعضهم عن علي رضي الله عنه لما أري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعوا عليه، فقال : الرب عز وجل يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعوا على عبادي فإنما أنا من عبادي على ثلاث خصال إما أن يتوب إلي فأتوب عليه وإما أن أخرج عنه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إلي فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاتبته، وفي رواية وإما أن يتولى فإن جهنم من ورائه، وقال : قتادة ملكوت السماوات والشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار ﴿ وليكون ﴾ معطوف على مقدر دل عليه السباق يعني يستدل وليكون ﴿ من الموقنين ﴾ أو متعلق بفعل محذوف معطوف على نرى، يعني وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين عيانا كما كان على بصيرة إلهاما من الله تعالى
١ سورة العنكبوت، الآية: ٢٧..
﴿ فلما جن ﴾ أي أظلم﴿ عليه الليل رأى ﴾ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن ذكوان هذا وشبهه من لفظه إذا لم يأت بعد الياء ساكن بإمالة فتحته الراء والهمزة جميعا﴿ كوكبا ﴾ أي الزهرة أو المشتري ﴿ قال ﴾ إلزاما للكفار فإنهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ويعظمونها ويرون أن الأمور كلها إليها، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال فقال :﴿ هذا ربي ﴾في زعمكم أو بحذف همزة الاستفهام يعني هذا ربي أو قال : على سبيل الفرض فإن المستدل على فساد قوله يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يرجع عليه بالإبطال، وأجرى بعضهم على ظاهره فقال : كان إبراهيم عليه السلام حينئذ مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه الله تعالى وآتاه رشده فلم يضره ذلك في حالة الاستدلال، قال : البغوي : وكان ذلك في حالة طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا، وقال : البيضاوي إنما قال : ذلك زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه، وفي شرح خلاصة السير لمولانا أبي بكر أن استدلاله بالكوكب والقمر كان وهو ابن خمسة عشر شهرا، والصحيح هو القول الأول إذا لا يجوز أن يكون لله رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وكيف يتوهم هذا على من عصمه الله وطهره آتاه رشده من قبل، قال : في الشفاء : قال الله تعالى﴿ ولقد آتيناه إبراهيم رشده من قبل ﴾١أي هديناه صغيرا قاله مجاهد وغيره، وقال : ابن عطاء : اصطفاه قبل بدء خلقه، وقال : بعضهم لما ولد إبراهيم عليه السلام بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال : قد فعلت ولم يقل افعل فذلك رشده، وفي هذه الآية عطف قوله تعالى﴿ إني أراك وقومك في ضلال مبين ﴾ وعلى تقدير كون هذا الكلام على طريقة الاستدلال الفاء للتفسير والتفصيل لقوله تعالى﴿ كذلك نري إبراهيم ﴾ وعلى هذا التقدير لا بد أن يكون هذا الكلام أول ليلة رأى الكوكب من زمان عقله وشعوره بحيث لم ير قبل ذلك قط وأساسا لهذا المفاد يذكرون قصة. وذلك أن إبراهيم عليه السلام ولد في زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعا الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون فقالوا : له إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه، ويقال إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء عليهم السلام، وقال : السدي رأى نمرود في منامه كأن كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع فزعا شديدا فدعا السحرة والكهنة فسألهم عن ذلك فقالوا : هو مولود يولد في ناحيتك هذه السنة فيكون هلاكك وأهل بيتك وزوال ملكك على يديه، قالوا فأمر بذبح كل غلام يولد في ناحيته تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء، وجعل على كل عشر رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينهما وبين زوجها لأنهم كانوا لا يجامعون في الحيض فإذا طهرت حال بينهما، فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال محمد بن إسحاق : بعث نمرود إلى كل امرأة حبلى بقرينه فحبسها عنده إلا ما كان من أم إبراهيم عليه السلام لأنها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل في بطنها، وقال : السدي : خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود أن يكون فمكث بذلك ما شاء الله ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه إلا آزر فبعث إليه ودعاه وقال : إن لي حاجة أحب أن أوصيك بها ولا أبعثك إلا لثقتي بك فأقسمت عليك أن لا تدنوا من أهلك، فقال : آزر أنا أشح على ديني من ذلك فأوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال : لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم إبراهيم عليه السلام لم يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم عليه السلام، وقال ابن عباس : لما حملت أم إبراهيم قال : الكهان لنمرود إن الغلام الذي قد أخبرناك به قد حملت أمه الليلة فأمر نمرود بقتل الغلمان فلما دنت ولادة أم إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته في حلفاء فرجعت فأخبرت زوجها بأنها ولدت وأن الولد في موضع كذا، فانطلقت أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت أمه تختلف إليه فترضعه. وقال : محمد بن إسحاق : لما وجدت أم إبراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها، فولدت فيها إبراهيم فأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظره ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه، قال : أبو روق قالت أم إبراهيم ذات يوم لأنظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من أصبع ماء ومن أصبع لبنا ومن أصبع عسلا ومن أصبع تمرا ومن أصبع سمنا وقال محمد ابن إسحاق : كان آزر قد سأل أم إبراهيم عن حملها ما فعل، فقالت : قد ولدت غلاما فمات فصدقها وسكت عنها وكان اليوم على إبراهيم في الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث إبراهيم في المغارة إلا خمسة عشر شهرا حتى قال لأمه : أخرجيني فأخرجته عشاء فنظر فتفكر في خلق السماوات والأرض، وقال : إن الذي خلقني وأطعمني وسقاني لربي الذي مالي إله غيره ثم نظر في السماء فرأى كوكبا قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال : لا أحب الآفلين، ثم رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ثم أتبعه بصره حتى غاب ثم طلع الشمس هكذا إلى آخره، ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرئ من دين قومه إلا أنه لم يبادهم بذلك فأخبره أنه ابنه وأخبرته أمه أنه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت في شأنه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا، وقيل : أنه كان في السرب سبع سنين وقيل : ثلاث عشرة سنة وقيل : سبع عشرة سنة. قلت : وهذه القصة إن صحت فإلى هنالك لا تدل على كفر أبوي إبراهيم إلا تسمية أبي إبراهيم بآزر ثابت بالكتاب والسنة، والظاهر أن تسمية أبي إبراهيم في هذه القصة بآزر وهم من بعض الرواة، لكن قال : بعضهم في القصة أنه لما شب إبراهيم عليه السلام وهو في السرب، قال : لأمه من ربي ؟ قالت : أنا، قال : فمن ربك ؟ قالت : أبوك، قال : فمن رب أبي ؟قالت : نمرود، قال : فمن ربه ؟ قالت : أسكت فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت : أرأيت الغلام الذي كنا نحدث أنه يغير دين أهل الأرض ؟ فإنه ابنك، ثم أخبرته بما قال : فأتاه أبوه فقال : له إبراهيم : يا أبتاه من ربي ؟ قال : أمك قال ؟ فمن رب أمي ؟ قال : أنا، قال : فمن ربك ؟ قال : نمرود، قال : فمن رب نمرود ؟ فلطمه لطمة وقال له : أسكت، فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فأبصر كوكبا قال : هذا ربي، ويقال إنه قال : لأبويه أخرجاني فأخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر إبراهيم على الإبل والخيل والغنم فسأل أباه ما هذا فقال : إبل وخيل وغنم قال : ما لهذه بد من أن يكون لهارب وخالق، ثم نظر فإذا المشتري قد طلع ويقال الزهرة فكان تلك الليلة من آخر الشهر فتأخر طلوع القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل﴿ فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ﴾ وهذه القصة تدل على كفر أبوي إبراهيم عليه السلام لكن لا يدل على موتها على الكفر وأيضا هذه القصة مع اختلافها واضطرابها وعدم ثبوتها بسند صحيح لا يقوى معارضة ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن آبائه كلهم من آدم عليه السلام إلى أبويه كانوا مؤمنين وأنه انتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ومن أرحام الطاهرات إلى أصلاب الطاهرين وعليه حمل قوله تعالى﴿ وتقلبك في الساجدين( ٢١٩ ) ﴾٢وإطلاق الأب على العم شائع لاسيما إذا رباه ولعل تارخ مات وترك إبراهيم في بطن أمه أو وليدا رضيعا ورباه عمه آزر والله أعلم﴿ فلما أفل ﴾ يعني غاب الكوكب ﴿ قال لا أحب الآفلين ﴾ أي لا أحب عبادة المتغيرين عن حال إلى حال لأن التغير أمارة الحدوث إذ القديم لا يكون محلا للحوادث والحدوث ينافي الألوهية
١ سورة الأنبياء، الآية: ٥١..
٢ سورة الشعراء، الآية: ٢١٩..
﴿ فلما رأى القمر ﴾ قرأ حمزة وأبو بكر هذا وشبهه إذا لقيت الياء ساكنا منفصلا بإمالة فتحة الراء فقط دون الهمزة، والباقون بفتحها هذا في حالة الوصل، وأما في حالة الوقف فالاختلاف كما مر في رأى كوكبا وعن أبي بكر وأبي شعيب في روايته عنهما بإمالة الراء والهمزة جميعا في الوصل أيضا، وعن أبي بكر وأبي شعيب في روايتها عنهما بإمالة الراء والهمزة جميعا في الوصلا أيضا، وعن البزي نحوه﴿ بازغا ﴾ في بداية الطلوع﴿ قال هذا ربي ﴾ هذا القول في القمر والشمس بعد تمام الاستدلال بالكوكب ليس إلا لإلزام الخصم وإلا فالعاقل يكفيه الإشارة وإبراهيم عليه السلام مع كمال قوته النظرية لا يتصور أن يحتاج إلى استدلال آخر بعد تمام الاستدلال ﴿ فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ﴾ قال : ذلك شكرا : لنعمة الهداية من الله تعالى كما قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا ) وفيه إشارة لقومه وتنبيه لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية وأن من اتخذه إلها فهو ضال وإنما احتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع أن كلا منهما انتقال من حال إلى حال لأن الاحتياج به أظهر لكونه انتقالا إلى أخس الحالين وأدونهما
﴿ فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ﴾ قيل : ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث، وقيل : أراد به هذا الطالع أورد إلى المعنى وهو الضياء والنور، وعندي أن تأنيث الشمس إنما هو سماعي لفظي في لغة العرب لأن تصغيره شميسة دون غيرها من اللغات، ولسان إبراهيم عليه السلام لم يكن عربيا فذكر إبراهيم اسم الإشارة بناء على لغته وحكاه الله سبحانه على ما قاله بلغة العرب﴿ هذا أكبر ﴾ من الكواكب كبره استدلالا وإظهارا لشبهة الخصم ﴿ فلما أفلت ﴾غربت﴿ قال يا قوم إني برئ مما تشركون ﴾ تبرأ من جميع الآلهة الباطلة فإن لما تبين أن الكوكب والقمر والشمس مع كونها أجراما علوية عظيمة منيرة غير صالحة للألوهية لكونها محلا لتغيرات محدثة محتاجة إلى محدث يحدثها ويخصصها بما يختص به فالأصنام وغيرها من الأجرام السفلية أولى أن لا تتخذ إلها، وهذا يعني مخاطبة القوم والتبري عما يعبدون بعد تمام الحجة دليل واضح على أن هذا الكلام من إبراهيم عليه السلام لم يكن إلا لإلزام الخصوم لا لطلب تحقيق لم يكن حاصلا له،
ولما تبرأ عن الآلهة الباطلة وأرشدهم إلى وجود الإله الحق الذي دلت عليه الممكنات بأسرها فقال :﴿ إني وجهت وجهي ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء، والباقون بالإسكان ﴿ للذي فطر السماوات ﴾ وما فيها﴿ والأرض ﴾ وما فيها يعني الذي دلت على وجوده ووجود به هذه الموجودات التي لا تقتضي ذواتها وجوداتها المحتاجة إلى من يخرجها من العدم إلى الوجود﴿ حنيفا ﴾ حال من فاعل وجهت يعني مائلا من الأديان كلها إلى الإسلام ﴿ وما أنا من المشركين ﴾ بالله شيئا من خلقه
﴿ وحاجه قومه ﴾ في توحيد الله ونفي الشركاء عنه، يعني قاموا بالمجادلة لما عجزوا وبتهوا في مقابلة الاستدلال الصحيح وقالوا : احذر آلهتنا أن تمسك بسوء واحذروا نمرود أن يقتلك أو يحرفك ﴿ قال ﴾ إبراهيم ﴿ أتحاجوني في الله ﴾ بعد تمام الاستدلال على وجوده وتوحيده﴿ وقد هداني ﴾ أثبت الياء في الوصل أبو عمرو وحذف الباقون، يعني هداني الله إلى الحق وإقامة الحجة مع كوني صغيرا أميا ﴿ ولا أخاف ما تشركون به ﴾ تعال من الممكنات سواء كان من الفلكيات كالشمس والقمر والكواكب أو من العنصريات من ذوي العقول كنمرود أو من الجمادات كالأصنام فإن كلها مثلي في عدم الاقتدار على النفع والضرر إلا باقتدار الله تعالى أو أعجز مني، روي أن إبراهيم لما خرج من السرب وصار بحال سقط عنه طمع الذباحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها إبراهيم ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بات عليه ذهب إلى نهر فصوب فيه رأسه وقال : اشربي استهزاء بقومه ﴿ إلا أن يشاء ربي شيئا ﴾ يعني لا يستطيع مما تشركون بالله إضراري في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء ربي شيئا من الأضرار ﴿ وسع ربي كل شيء علما ﴾ كأنه علة للاستثناء يعني لا يبعد أن يكون في علمه أن يصيبني مكروه من جهة بعض عباده بمشيئته وخلقه وإقداره على الكسب ﴿ أفلا تتذكرون ﴾ فتميزوا بين العجز على الإطلاق كالأصنام وبين العاجز في نفسه القادر بإقدار الله تعالى ومشيئته وبين القهار المقتدر على الإطلاق
﴿ وكيف أخاف ما أشركتم ﴾ به، ولا يقدر أحد منهم على الإضرار من غير مشيئة الله ﴿ ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ﴾ وهو حقيق أن يخاف منه كل الخوف فإنه هو القادر على الإطلاق الضار النافع ﴿ ما لم ينزل به ﴾ أي بإشراكه﴿ عليكم سلطانا ﴾ دليلا نقليا من الكتاب ولا عقليا ﴿ فأي الفريقين ﴾ من الموحدين بالله المعتقدين على ما اقتضاه العقل والنقل والمشركين به المعتقدين بما لا دليل عليه﴿ أحق بالأمن ﴾ من العذاب والمكاره في الدنيا والآخرة لم يقل أينا احتراز عن تزكية النفس وإيماء بأن استحقاق الأمن غير مختص به بل يشتمل كل موحد ففيه ترغيب لمه في التوحيد ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ من يحق أن يخاف منه لا تخافوا إلا الله تعالى كما أخاف دل على الجزاء ما سبق، أو المعنى إن كنتم ذا علم وبصيرة فأنصفوا في الجواب عن الاستفهام
﴿ الذين آمنوا ﴾ بالله﴿ ولم يلبسوا ﴾ أي لم يخلطوا﴿ إيمانهم ﴾ بالله تعالى﴿ بظلم ﴾ بشرك﴿ أولئك لهم الأمن ﴾ من العذاب ﴿ وهم مهتدون ﴾ إلى الحق وإلى الجنة، عن عبد الله بن مسعود قال : إنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا : يا رسول الله فأينا لا يظلم نفسه ؟ فقال :( ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى ما قال : لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك، بالله إن الشرك لظلم عظيم )١ متفق عليه، وهذه الآية استئناف من الله تعالى أو من إبراهيم بالجواب عما استفهم عنه حين لم يسمع منهم جوابا حقا، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن زحر عن بكر بن سوادة قال : حمل رجل من العدو على المسلمين فقتل رجلا ثم حمل فقتل آخر ثم حمل فقتل آخر، ثم قال : أينفعني الإسلام بعد هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم فدخل فيهم ثم حمل على أصحابه فقتل رجلا ثم آخر ثم قتل، قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيه ﴿ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ﴾الآية.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: دون ظلم (٣١)وأخرجه مسلم في كتاب، الإيمان، باب: صدق الإيمان وإخلاصه (١٧٨)..
﴿ وتلك ﴾ إشارة إلى ما مر من قوله تعالى ﴿ فلما جن عليه الليل ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ وهم مهتدون ﴾ وهذا أصرح دليلا على أن ما مر من مقال إبراهيم إنما كان احتجاجا على قومه لا تفكرا واستدلالا لنفسه كيف والنفوس القدسية لا يحتاجون إلى تجشم الاستدلال، وقيل : أراد الاحتجاج الذي حاج نمرود على ما سبق في سورة البقرة وهذا بعيد جدا ﴿ حجتنا ﴾ خبر لاسم الإشارة أو صفة له أو بدل منه ﴿ أتيناها إبراهيم ﴾ أرشدناه إليها، الجملة خبر أو خبر أو معترضة ﴿ على قومه ﴾ يعني على من بعث إليهم كنمرود وأتباعه، متعلق بحجتنا إن جعل خبر أو صفة وبمحذوف إن جعل بدلا يعني آتيناها إبراهيم حجته على قومه ﴿ نرفع درجات من نشاء ﴾ قرأ الكوفيون ها هنا وفي سورة يوسف درجات بالتنوين على أنه تميز من النسبة، أو مفعول مطلق يعني نرفع من نشاء درجات في العلم والحكمة، والباقون بالإضافة أي نرفع درجاتهم ﴿ إن ربك حكيم ﴾ في رفعه وخفضه ﴿ عليم ﴾ بحال من يرفعه واستعداده
﴿ ووهبنا له إسحاق ﴾ ابنا ﴿ ويعقوب ﴾ ابن ابن ﴿ كلا ﴾ أي كل واحد منهما ﴿ هدينا ﴾ انتصب كلا بهدينا ﴿ ونوحا هدينا من قبل ﴾ إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث أنه أبوه، وفيه دليل على أن شرف الوالد يتعدى إلى الولد وبالعكس قلت فمن المحال أن يكون بعض آباء النبي صلى الله عليه وسلم مع كونه محبوبا لله كافرا﴿ ومن ذريته ﴾ قيل : الضمير راجع إلى إبراهيم لأن الكلام فيه، وقيل : لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم، والثاني أظهر فلو كان لإبراهيم اختص البيان في المعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة معطوفون على نوحا ﴿ داود ﴾بن اليشا﴿ وهارون ﴾ بن داود﴿ وأيوب ﴾ بن أموص بن رازخ بن روم ابن عيص بن إسحاق : بن إبراهيم ﴿ ويوسف ﴾ بن يعقوب بن إسحاق :﴿ وموسى وهارون ﴾أخوه أكبر منه بسنة ابني عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب ﴿ وكذلك ﴾ منصوب على المصدرية بما بعده، أي جزاء مثل جزاء إبراهيم على إحسان يرفع درجاته ودرجات أبنائه ﴿ نجزي المحسنين ﴾ ( الإحسان أن تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )١ متفق عليه من حديث عمر مرفوعا في قصة سؤال جبرائيل
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: سؤال جبرائيل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة(٥٠)..
﴿ وزكريا ﴾ بن آذن ﴿ ويحيى ﴾ بن زكريا ﴿ وعيسى ﴾ بن مريم بنت عمران ﴿ وإلياس ﴾ بن متى ابن فخاص بن عيزار بن هارون عليه السلام، وقال : ابن مسعود هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل، وسياق الآية يأبى عنه فإن إدريس ليس من ذرة نوح بل هو جد أبي فإن نوحا ابن لا مك بن متوشلخ بن خنوع بن إدريس وهو أول بني آدم أعطي النبوة وخط بالقلم ﴿ كل ﴾ أي كل واحد منهما كائن ﴿ من الصالحين ﴾ أي المعصومين عن الصغائر والكبائر، فإن من أتى بما نهى الله عنه أو ترك ما أمر به فهو فاسد إن قل فساده بالنسبة إلى غيره، وإطلاق الصالح على غير المعصوم إضافي غير حقيقي، لكن إطلاقه على من أتى بمعصية ثم تاب عنه واستغفر صحيح بالحقيقة، لكن إطلاقه على من أتى بمعصية ثم تاب عنه واستغفر صحيح بالحقيقة فإن التائب من الذنب كمن ذنب له لكن الكامل في الصلاح هو المعصوم والله أعلم.
﴿ وإسماعيل ﴾ بن إبراهيم جد النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ واليسع ﴾ بن أخطوب بن العجحور، قرأ حمزة والكسائي واليسع هنا بلام مشددة وإسكان الياء والباقون بلام ساكنة ممخففة وفتح الياء وعلى القراءتين علم أعجمي، أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بإعياء الخلافة كاهله ﴿ ويونس ﴾ بن متى﴿ ولوطا ﴾ ابن هاران ابن أخي إبراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام﴿ وكلا ﴾ أي كل واحد منهم، منصوب بما بعده ﴿ فضلنا على العالمين ﴾ أي عالمي زمانهم، فيه دليل على فضلهم على من عداهم في ذلك الزمان من الملائكة وغيرهم من الخلائق
﴿ ومن آبائهم وذريتهم وإخوانهم ﴾ عطف على كلا، يعني فضلنا كلا منهم وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم او على نوحا يعني هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا ﴿ واجتبيناهم ﴾أي اختارناهم عطف على فضلنا أو هدينا ﴿ وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ تكرير لبيان ما هدوا إليه
﴿ ذلك ﴾ التوحيد الذي دانوا به﴿ ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ﴾دليل على أنه متفضل بالهداية ﴿ ولو أشركوا ﴾ يعني هؤلاء الأنبياء فرضا مع فضلهم وعلو شأنهم﴿ لحبط عنهم ما كانوا يعملون ﴾ فضلا عن غيرهم
﴿ أولئك الذين أتيناهم الكتاب ﴾، أي الجنس الكتب المنزلة والإتيان أعم من الإنزال عليه أو أمره بتبليغه ﴿ والحكم ﴾ أي الحكمة والفقه أو فصل الخصومات على مقتضى الحق أو كونهم حاكمين مطاعين ﴿ والنبوة فإن يكفر بها ﴾ أي بهذه الثلاثة ﴿ هؤلاء ﴾أي كفار مكة﴿ فقد وكلنا بها ﴾ يعني وفقنا بالإيمان بها وبمراعاة حقوقها ﴿ قوما ليسوا بها بكافرين ﴾ يعني الأنصار وأهل المدينة قال ابن عباس ومجاهد، والظاهر عمومه لجميع الصحابة ولمن تبعهم من أهل الفرس وغيرهم، وقال : أبو رجا العطاردي : أن يكفر بها الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملائكة
﴿ أولئك ﴾ المذكورون من الأنبياء مبتدأ خبره﴿ الذين هدى الله ﴾يعني هداهم الله إلى التوحيد وأصول الدين وإلى الإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه﴿ فبهداهم ﴾ أي بطريقتهم ﴿ اقتداه ﴾ الظرف للحصر يعني لا تقتد إلا بهداهم، فيه تعريض على المشركين في اقتدائهم بآبائهم الضالين، والمراد بالإقتداء بطريقتهم الأخذ بها لا تقليدهم فإن التقليد ليس من شأن أهل الاجتهاد من الأمة فكيف يليق بالأنبياء لاسيما بسيدهم يعني اسلك على طريق الهداية وإتباع الشرع المؤيد بالعقل كما سلكوا ففيه تنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق للدليل العقلي والسمعي، قال : البيضاوي المراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها فإنها ليست مضافة إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعا فليس فيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشرائع من قبلنا، قلت : كلهم كانوا مأمورين في الفروع بامثتال أمر نزل من الله تعالى ما لم ينزل نسخه فيحصل التأسي بجميعهم في الفروع أيضا بإتيان ما ثبت نزوله من الله تعالى بالوحي المتلو أو غير المتلو ولم يثبت نسخه فيجب التعبد بشرائع من قبلنا والله أعلم والهاء في اقتداء هاء سكت ولذا حذفه حمزة والكسائي ويعقوب وصلا وأثبتها الباقون في الحالين تبعا للخط وقرأ ابن عامر بكسر الهاء وابن ذكوان عنه بالإشباع وهشام عنه بالكسر بلا صلة تشبيها بهاء الضمير أو هي ضمير راجع إلى المصدر يعني اقتد الاقتداء ﴿ قل لا أسألكم عليه ﴾ أي على التبليغ أو القرآن ﴿ أجرا ﴾ من جهتهم كما لم يسأل من قبلي من النبيين وهذا مما أمر بالإقتداء بهم فيه، وفيه دليل على أن أخذ الأجر على تعليم القرآن والفقه ورواية الحديث لا يجوز ﴿ إن هو ﴾ أي التبليغ أو القرآن ﴿ إلا ذكرى ﴾ تذكير أو عظة ﴿ للعالمين ﴾للإنس والجن.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا قال : جاء رجل من اليهود يقال له مالك ابن يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : له النبي صلى الله عليه وسلم :( أنشد بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة أن الله يبعض الحبر السمين ؟ وكان سمينا فغضب فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال : له أصحابه : ويحك ولا على موسى ) فأنزل الله تعالى ﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ الآية، وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة، قال البغوي، لأجل هذه المقالة نزع يهود مالكا عن الجرية وجعلوا عن الجرية وجعلوا مكانة ابن الأشرف، قال السدي، نزلت هذه الآية في فخاص بن عازوراء وهو قائل هذه المقالة وتقدم الحديث في سورة النساء، وأخرج ابن جرير من طريق أبي طلحة عن ابن عباس قال : قالت اليهود يا محمد أنزل الله عليك كتابا، قال : نعم، قالوا : والله ما أنزل الله من السماء كتابا فأنزل الله تعالى.
﴿ وما قدروا الله حق قدرته ﴾أي ما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد﴿ إذ قالوا ما انزل الله على بشر شيء ﴾حين أنكروا بعثة الرسل وذلك أعظم رحمة، وحق قدره منصوب على المصدرية ﴿ قل ﴾يا محمد ﴿ من أنزل الكتاب ﴾التوراة﴿ الذي جاء به موسى ﴾حال من الكتاب أو من الضمير في به ﴿ وهدى للناس تجعلونه قراطيس ﴾تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة﴿ تبدونها ﴾ أي ما تحبون منها﴿ وتخفون كثيرا ﴾ كنعت محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام وآية الرجم وغير ذلك، وفيه توبيخهم وذمهم على ما فعلوا بالتوراة باتباع شهواتهم، قرأ ابن كثير وأبو عمرو يجعلونه يبدونها يخفون الثلاثة بالياء على الغيبة حملا على ما قدروا وقالوا، والباقون بالتاء على الخطاب لقوله تعالى ﴿ قل من أنزل ﴾ ﴿ وعلمتم ما لم تعلمون أنتم ولا آباؤكم ﴾ قال : الأكثرون : هذا الخطاب لليهود، يعني علمتم أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم زيادة على ما في التوراة أو بيانا لما أشكل عليكم وعلى آبائكم من عبادة التوراة نظيره قوله تعالى﴿ إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون( ٧٦ ) ﴾١قال الحسن : جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فضيعوه وقال : مجاهد هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما عملوا ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا أميين ﴿ قل الله ﴾ أي أنزله الله أو الله أنزله هذا متصل بقوله تعالى ﴿ قل من أنزل ﴾ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالجواب لما بهتوا عن الجواب إشعارا بأن الجواب إشعار متعين لا يمكن غيره ﴿ ثم ذرهم في خوضهم ﴾ أي في أباطيلهم ﴿ يلعبون ﴾حال من مفعول ذر، والظرف متعلق بذرهم أو يلعبون أو حال من فاعل يلعبون، وجاز أن يكون يلعبون حالا من ضمير في خوضهم والظرف متصل بالأول
١ سورة النمل، الآية: ٧٦..
﴿ وهذا ﴾ القرآن ﴿ كتاب أنزلناه مبارك ﴾ أي كثير الفائدة والنفع ﴿ مصدق الذي بين يديه ﴾ من التوراة وغيرها ﴿ ولتنذر ﴾ عطف على ما دل عليه مبارك يعني لتنتفع به ولتنذر، وقرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الكتاب ﴿ أم القرى ﴾ يعني مكة سميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها فهي كالأصل لجميع الأرض أو لأنها قبلة أهل القرى وموضع حجهم ومرجع لأهل جميع الأرض، والمضاف محذوف يعني لتنذر أهل أم القرى﴿ ومن حولها ﴾ إلى الشرق والغرب وأطراف الأرض ﴿ والذين يِؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون ﴾ فإن من آمن بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتفكير حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعات، وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين، وفي الآية تعريض على اليهود أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم لأجل أنهم لم يؤمنوا بالآخرة وبما جاء به موسى عليه السلام للتلازم بين الإيمان بالتوراة والقرآن والقيامة
﴿ ومن أظلم ممن افترى ﴾ أي اختلق، والفرية بالكسر الكذب﴿ على الله كذبا ﴾ منصوب على المصدرية، مثل مالك بن الضيف القائل بأنه ما أنزل الله على بشر من شيء ومثل عمرو بن لحي وأتباعه القائلين بأن الله حرم السوائب والحوامي بأن أنعاما حرمت ظهورها بأن ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجينا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴿ أو قال أوحى ولم يوح إليه شيء ﴾ قال : البغوي : قال قتادة : نزلت في مسيلمة الكذب وكان يسجع ويتكهن وادعى النبوة وزعم أنه أوحى إليه وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة وكان قد أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولين فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أتشهدان أن مسيلمة نبي ؟ قالا نعم، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم ( لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكم ) والبغوي بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( بينا أنا نائم إذا أتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضع في يدي سواران من ذهب فكبر علي فأهماني فأوحى إلى أن انفخهما فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذاب هما صاحب صنعاء وصاحب يمامة ) وأراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب يمامة مسيلمة الكذاب ﴿ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ﴾، قال البغوي : نزلت في عبد الله بن أبي سرح وكان قد أسلم وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان إذا أملى سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا قال : عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت ﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ( ١٢ ) أملاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أكتبها فهكذا أنزلت فشك عبد الله وقال : إن كان محمدا صادقا أوحي إلي كما أوحي إليه وإن كان كاذبا فقد قلت مثل ما قال : فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين، وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة والسدي قصة تبارك الآية، ذكر البغوي : رجع عبد الله إلى الإسلام قبل فتح مكة إذا نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمر الظهران، وقال : الحافظ فتح الدين ابن السيد الناس في سيرته تشفع ابن أبي سرح عثمان رضي الله عنه فقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلوم وحسن إسلامه بعد ذلك حتى لم ينقم عليه فيه شيئا ومات ساجدا، قال : ابن عباس قوله تعالى { سأنزل ما أنزل الله ﴾ يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم ﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾، قلت : يعني النضر بن الحارث كان يقول والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا كأنه يعرض قوله تعالى ﴿ والنازعات غرقا ( ١ ) ﴾ الآيات ﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد، والمفعول محدوف أي الظالمين يدل عليه ﴿ إذ الظالمون ﴾ مبتدأ واللام إما للعهد يعني الذين نزلت فيهم الآية من اليهود والمتنبية والمستهزئين أو للجنس ويدخل فيه هؤلاء، وجواب لو محذوف يعني فرأيت أمرا عظيما فزيعا ﴿ في غمرات الموت ﴾ خبر المبتدأ أي شدائده، في القاموس غمرة الشيء شدته وأصله التغطية، يقال غمره الماء واغتمره أي غطاه ثم وضعت في موضع الشدائد والمكاره، وفي الصحاح أصل الغمر إزالة أثر الشيء ومنه يقال للماء الكثير، وعلى هذا إضافة الغمرة إلى الموت بيانية سميت شدة الموت غمرة لإزالة أثر الحياة ﴿ والملائكة باسطوا أيديهم ﴾ الجملة حال من الضمير المستتر في الظرف والعائد محذوف يعني باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم كالمتقاضى الغلظ أو لتعذيبهم نظيره قوله تعالى :﴿ الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ ١ ﴿ أخرجوا أنفسكم خبر للملائكة بعد خبر يعني قائلون لهم يعني للظالمين تغليظا وتعنيفا أخرجوا أنفسكم إلينا من أجسادكم أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا { اليوم ﴾ المراد بن الزمان الممتد من وقت الأمانة إلى ما لا نهاية له ﴿ تجزون عذاب الهون ﴾ يعني عذابا متضمنا لشدة وإهانة وإضافته إلى الهون لتمكنه فيه ولمقابلة الهوان فيه ﴿ بما كنتم تقولون على الله ﴾ افتراء ﴿ غير الحق ﴾ كادعاء الولد والشريك وادعاء النبوة والوحي كاذبا منصوب من تقولون على المصدرية أو المفعولية ﴿ وكنتم عن آياته ﴾ المنزلة في القرآن أو دلائل التوحيد ﴿ تستكبرون ﴾ فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون،
١ سورة الأنفال، الآية: ٥٠..
أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال : قال النضر بن الحارث : سوف تشفع لنا إلى الله اللات والعزى فنزلت ﴿ ولقد جئتمونا ﴾ بعد الموت ويوم القيامة للحساب والجزاء ﴿ فرادى ﴾ حال من فاعل جئتمونا أي منفردين عن الأموال والأولاد والأعوان والأحباب وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو من الأوثان التي زعمتموها شفعاء لكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى هذا خبر من الله تعالى بقول للكفار على لسان الملائكة يوم موتهم أو يوم القيامة، والسياق يقتضي يوم الموت لعطفه على قوله اليوم تجزون ﴿ كما خلقتكم أول مرة ﴾ بدل من فرادى أي جئتمونا على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو حال مرادف لفرادى أو من الضمير في فرادى أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما، أو صفة مصدر أي جئتمونا مجيئا كخلقنا لكم ﴿ وتركتم ﴾ في الدنيا ﴿ ما خولناكم ﴾، ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم والحشم ﴿ خولناكم ظهوركم ﴾ ولم تحتملوا نقيرا، وجاز أن يكون المعنى جئتمونا خاسرين بلا كسب كمال كما خلقناكم أول مرة وضيعتم رأس مالكم أي أعماركم وتركتم في الدنيا ما أعطيناكم من الأموال وغيرها ما قدمتم منها شيئا للآخرة ﴿ وما نرى معكم شفعاءكم الذي زعمتم أنهم فيكم شركاء ﴾ الله سبحانه في ربوبيتكم وإستحقاق العبادة يعني الأوثان ﴿ لقد تقطع بينكم ﴾ قرأ نافع وحفص والكسائي بنصب بينكم على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه أو أقيم بينكم مقام موصوفه، وأصله لقد تقطع ما بينكم من الوصل، أو يقال فاعله ضمير راجع إلى المصدر أي تقطع التقطع بينكم، أو يقال : الفاعل بينكم مجازا في الإسناد وترك منصوبا للزوم ظرفيته، والباقون بالرفع على إسناد الفعل إلى الظرف مجازا والمعنى لقد تقطع التقطع بينكم، أو يقال : بينكم بمعنى وصلكم يعني تقطع وصلكم وتشتت جمعكم وبين مصدر من الأضداد يستعمل للوصل والفصل واسما وظرفا كذا في القاموس ﴿ وضل عنكم ﴾ أي ضاع وبطل ﴿ ما كنتم تزعمون ﴾ أنها شفعاءكم وأن لا بعث ولا جزاء.
﴿ إن الله فالق الحب والنوى ﴾قال : الحسن وقتادة والسدي معناه شق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها، وقال : الزجاج يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا أخضر، وقال : مجاهد المراد انشقاق الذي بين الحنطة والنواة، وقال : الضحاك فالق الحب والنوى يعني خالقها، والحب جمع الحبة وهي اسم لجميع البذور المأكولة من البر والشعير والذرة والأرز ونحوها والنوى جمع النواة وهي كل ما لا يؤكل من البذور كنواة التمر والمشمش والخوخ والرمان﴿ يخرج الحي من الميت ﴾ يعني ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو كالنطفة والحبة والنواة هذه الجملة وقع موقع البيان لما سبق ولذا لم يعطف ﴿ ومخرج الميت من الحي ﴾يعني ما لا ينمو أو يتفتت مما ينمو معطوف على فالق الحب ولذلك ذكره بلفظ اسم الفاعل ﴿ ذالكم ﴾المحيي والمميت﴿ الله ﴾يعني هو المستحق للعبادة دون من لا يقدر على شيء بل ينفعل ما يفعل به﴿ فأنى ﴾أين﴿ تؤفكون ﴾تصرفون عنه إلى غيره
﴿ فالق الإصباح ﴾هو مصدر أصبح إذا دخل في الصبح سمى به الصبح تسمية المحل باسم الحال، يعني شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه﴿ وجعل الليل ﴾كذا قرأ الكوفيون على صيغة الماضي ونصب الليل على المفعولية معطوف على معنى فالق فإن معناه فلق الإصباح، وقرأ الباقون جاعل على وزن فاعل مضافا إلى الليل﴿ سكنا ﴾يسكن فيه الإنسان وأكثر الحيوانات للاستراحة عن كد المعيشة إلى نوم الغفلة أو عن وحشة الخلق إلى الأنس بالحق منصوب بفعل دل عليه اسم الفاعل على قراءة غير أهل الكوفة لأن اسم الفاعل بمعنى الماضي كما يدل عليه قراءة جعل لا يعمل ﴿ والشمس والقمر ﴾على قراءة أهل الكوفة معطوفان على الليل وعلى قراءة غيرهم منصوبان بجعل مقدر يعني جعل الشمس والقمر﴿ حسبانا ﴾ مصدر حسب بالفتح بمعنى الحساب كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر وقيل : جمع حساب كشهاب وشهبان يعني جعلها علمين لحساب الأوقات يعلم بسيرهما ﴿ ذلك ﴾ أي جعلهما حسبانا ﴿ تقدير العزيز ﴾ الذي قهرهما وسخرهما ﴿ العليم ﴾ بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما
﴿ وهو الذي جعل ﴾ أي خلق﴿ لكم النجوم لتهتدوا بها ظلمات ﴾ الليل في ﴿ البر والبحر ﴾ وإضافتها إليهما للملابسة، أو المراد بالظلمات مشتبهات الطرق سميت ظلمات على الاستعارة ﴿ قد فصلنا ﴾ بينا﴿ الآيات ﴾ الدالة على توحيد الصانع المبدع الحكيم﴿ لقوم يعلمون ﴾ فإنهم هم المنتفعون به
﴿ وهو الذي أنشأكم ﴾أي ابتدأ خلقكم ﴿ من نفس واحدة ﴾ آدم عليه السلام ﴿ فمستقر ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على أنه اسم فاعل يعني فمنكم مستقر والباقون بالفتح على أنه اسم مفعول أو مصدر ميمي أو ظرف يعني فمنكم مستقر أو فلكم استقرار أو موضع استقرار ﴿ ومستودع ﴾ بفتح الدال بلا خلاف لجواز نسبة الاستقرار دون الاستيداع، يعني لكم استيداع أو موضع استيداع أو منكم مستودع، قال : ابن مسعود المستقر في الرحم إلى أن يولد قال : الله تعالى ﴿ ونقر في الأرحام ﴾١ والمستودع في القبر إلى أن يبعث، وقال : سعيد ابن جبير مستقر في الرحم ومستودع في صلب الأب، وعن أبي بعكس هذا، وقال : مجاهد مستقر في الأرض قال : الله تعالى﴿ ولكم في الأرض مستقر ﴾ ٢والمستودع في القبر، وقال : الحسن المستقر في القبر والمستودع في الدنيا وعندي المستقر الجنة أوالنار والمستودع ما عدا ذلك من الأصلاب والدنيا والقبر﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ﴾ذكر النجوم يعملون لأن أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بني آدم واستيداعهم واستقرارهم يفقهون لأن هذه الأمور دقيق يحتاج إلى تفقه وتدبر
١ سورة الحج، الآية: ٥..
٢ سورة البقرة، الآية: ٣٦..
﴿ وهو الذي أنزل من السماء ﴾ أي السحاب ومنه إلى الأرض، ﴿ ماءا فأخرجنا به ﴾ أي الماء﴿ نبات كل شيء ﴾ نبت كل صنف من الحبوب والنواة سبحان الله أنبت أنواعا مختلفة تسقى بماء واحد وفضل بعضها على بعض في الأكل ﴿ فأخرجنا منه ﴾أي من النبات أو الماء ﴿ خضرا ﴾ شيئا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من البذر﴿ نخرج منه ﴾ من الخضر ﴿ حبا متراكبا ﴾، وهي السنبلة المتراكب حباتها﴿ ومن النخل من طلعها ﴾ بدل للأول وهو خبر المبتدأ ﴿ قنوان ﴾ جمع قنو وهو العذق﴿ دانية ﴾قريبة من المتناول أو قريبة بعضها من بعض، اقتصر على ذكرها من مقابلها إما لدلالتها عليه كما في قوله تعالى﴿ سرابيل تقيكم الحر ﴾١يعني والبرد وإما لأن قربها من المتناول أو كثرتها وقرب بعضها ببعض أعظم نعمة وأوجب للشكر، وجاز أن يكون التقدير وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية﴿ وجنات من أعناب ﴾ عطف على نبات كل شيء يعني أخرجنا منه جنات، قرأ الأعمش عن الأعشى عن عاصم جنات بالرفع عطفا على قنوان﴿ والزيتون والرمان ﴾ عطف على نبات يعني أخرجنا منه شجر الزيتون والرمان أو نصب على الاختصاص لغير هذين الصنفين عندهم ﴿ مشتبها وغير متشابه ﴾ حال من الرمان أو من الجميع يعني حال كون بعضها مشتبها ببعض مشتبها ببعض آخر وبعضها غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم، ﴿ انظرو ﴾ أيها الناس بنظر الاعتبار ﴿ إلى ثمره ﴾ قرأ حمزة والكسائي في الموضعين هاهنا، وفي يس بضم الثاء والميم على أنه جمع ثمار أو ثمرة، والباقون بفتحتين على أنه اسم جنس كتمرة وتمر وكلمة وكلم﴿ إذا أثمر ﴾ إذا أخرج ثمره كيف يخرج لا يكاد ينتفع به﴿ وينعه ﴾ إلى ينعه حال نضجه كيف يعود ضخيما لذيذا فهو مصدر، وقيل : هو جمع يانع كتاجر وتجر ﴿ إن في ذلكم ﴾ المذكورات ﴿ لآيات ﴾ على توحيد قادر حكيم لا يكون له ضد يعانده ولا ند يعارضه﴿ لقوم يؤمنون ﴾ فإنهم هم المستدلون بها، وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين، فقال وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين، فقال وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين، فقال وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين، فقال﴿ و جعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون ﴾
١ سورة النحل، الآية: ٨١..
﴿ وجعلوا ﴾ ؛ يعني كفار مكة مع قيام أدلة التوحيد﴿ لله شركاء الجن ﴾يعني الملائكة عبدوهم وقالوا الملائكة بنات الله سماهم جنا لاجتنانهم وتحقيرهم عن درجة الربوبية أو المراد بالجن الشياطين لأنهم أطاعوهم وعبدوا غير الله من الأوثان وغيرهم بتسويلهم، أو لأجل الحلول الشياطين في الأوثان أحيانا أو لأجل قولهم الله خالق الخير والشيطان خالق الشر، ومفعولا جعلوا لله شركاء والجن بدل من شركاء أو شركاء والجن ولله متعلق بشركاء أو حال منه ﴿ وخلقهم ﴾ حال من الله تعالى بتقدير قد أو منه ومن الجن معا على أن يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الجن، يعني وقد علموا أن الله تعالى خلق الإنس والجن وكل شيء وأن الجن لا يخلق شيئا﴿ وخرقوا ﴾ قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير والمعنى اختلفوا وافتروا ﴿ له بنين ﴾قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله﴿ وبنات ﴾ قالت العرب الملائكة بنات الله﴿ بغير علم ﴾ من غير أن يعلموا صدق ما قالوا بدليل عقلي أو نقلي وهو في موضع الحال من فاعل خرقوا أو المصر أي خرقا بغير علم﴿ سبحانه وتعالى عما يصفون ﴾
﴿ بديع السماوات والأرض ﴾ إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعني بديع سماواته وأرضه ليس لها نظير، وقيل : معناه المبدع يعني خالقها بلا سبق مثال، خبر مبتدأ محذوف يعني هو أو مبتدأ خبره﴿ أنى ﴾ من أين أو كيف﴿ يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ﴾ يكون منها الولد ﴿ وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ﴾ في الآية استدلال على نفي الولد بوجوه : الأول أن من مبدعاته السماوات والأرض وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولد مستغن عنه لطول بقائها فالله سبحانه أولى به، الثاني أنه خالق الأجسام العظيمة وخالق الأجسام لا يكون جسما والولادة من خواص الأجسام، والثالث : أن الولد ينشأ من ذكر وأنثى متجانسين والله تعالى منزه عن المجانسة، الرابع : أن الولد كفو للوالد ونظيره وليس له كفوا أحد لأن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافيه شيء ولأنه عالم بكل شيء ولا كذلك غيره بالإجماع إلا بتعليمه.
﴿ ذلكم ﴾ أي الموصوف بما سبق من الصفات مبتدأ﴿ الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء ﴾أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض خبرا والبعض بدلا أو صفة ﴿ فاعبدوه ﴾ الفاء السببية يعني من استجمع تلك الصفات فهو الحقيق بالعبادة دون غيره من خلقه﴿ وهو على كل شيء وكيل ﴾بالحفظ له والتدبير فيه يعني هو متول لأموركم رقيب على أموالكم فكلوا إليه الأمور وتوسلوا إليه بالعبادة ينجح ما ربكم ويجازي على حسناتكم
﴿ لا تدركه الأبصار ﴾ أخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا ) استدل المعتزلة بهذه الآية على امتناع الرؤية، وأجمع أهل السنة على نفي الروية في الدنيا وإثباتها في الآخرة للمؤمنين في الجنة والاستدلال بها على الامتناع باطل بوجوه : أحدها أن صيغة المضارع إما للحال ويستعمل في الاستقبال مجازا وهي مشترك في المعنيين والحال مراد في الآية إجماعا إذ لا قائل برؤية الله تعالى في الدنيا فلا يجوز إرادة الاستقبال وإلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المشترك، ثانيها أن الأبصار بصيغة الجمع يدل على إرادة الأفراد دون الجنس فاللام إما للعهد يعني الأبصار الموجودة في الدنيا أو للاستغراق فإن كان للعهد فلا دليل على نفي الرؤية بالأبصار المخلوقة للمؤمنين في الجنة وإن كان للاستغراق فمدلول الآية نفي الاستغراق لا استغراق النفي فلا دليل فيه على نفي الرؤية بأبصار أهل الجنة، روى أبو نعيم في الحيلة عن ابن عباس قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ رب أرني أنظر إليك ﴾ قال : قال الله : يا موسى إني لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة لا يموت أعينهم ولا يبلى أجسامهم، ثالثها : أن الإدراك غير الرؤية هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به أو الوصول إلى الشيء بحيث لا يفوت منه شيء والرؤية المعاينة ولا تلازم بينهما قال : الله تعالى﴿ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( ٦١ ) قال كلا ﴾١ في هذه الآية نفي المدرك بعد إثبات الرؤية من الجانبين، رابعها : أن النفي لا يوجب الامتناع ﴿ هو يدرك الأبصار ﴾ يحيط بها علمه﴿ وهو اللطيف ﴾في القاموس هو البر بعباده المحسن إلى خلقه بإيصال المنافع إليهم برفق، ومن هاهنا قال : ابن عباس اللطيف بأوليائه، وفيه أيضا اللطيف العالم بخفايا الأمور وفي الصحاح قد يعبر باللطيف ما لا يدرك بالحاسة، وعلى هذا ففي الكلام لف ونشر مرتب يعني لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه ﴿ الخبير ﴾
١ سورة الشعراء، الآية: ٦٢ -٦٢..
﴿ قد جاءكم بصائر ﴾ يعني الحجج البينة التي يحصل بها البصيرة التي تبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل فالبصيرة للنفس كالبصر للبدن﴿ من ربكم فمن أبصر ﴾ يعني من استعمل الحجة وأبصر الحق وآمن به﴿ فلنفسه ﴾ أبصر يعود نفعه إليها ( ومن عمي ) عن الحق وأعرض عن الحجج وضل ﴿ فعليها ﴾ وباله﴿ وما أنا عليكم بحفيظ ﴾ يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها بل الحفيظ هو الله تعالى وإنما أنا البشير النذير، هذا كلام ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : قل قد جاءكم بصائر الآية
﴿ وكذلك نصرف الآيات ﴾ أي نفصلها ونبين وأصل الصرف النقل من حال إلى حال وفي التفصيل نقل معنى واحد من عبارة إلى عبارة حتى يفهم المخاطب، وفي القاموس صرف الحديث أن يزاد فيه ويحسن من الصرف في الدراهم وهو فصل بعضها على بعض في القيمة وكذلك صرف الكلام وله عليه صرف أي فضل لأنه إذا فضل صرف عن أشكاله وكذلك منصوب على المصدرية يعني نصرف الآيات تصريفا مثل تصريفنا في هذه السورة﴿ وليقولوا ﴾ عطف على مقدر تقديره ليتم التبليغ وليقولوا أي الكفار واللام لام العاقبة يعني عاقبة الأمر أن يقولوا ﴿ درست ﴾ قرأ نافع والكوفيون بفتح الدال والراء وسكون السين وفتح التاء على صيغة الخطاب من درست الكتاب بمعنى قرأت من غيرك، قال : ابن عباس ليقول أهل مكة حين تقرأ عليهم درست تعليمات من يسار وجبر كانا عبدين من سبي الروم ثم قرأت علينا تزعم أنه من عند الله. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست من المفاعلة يعني قارات وذاكرات أهل الكتاب، والمعنى واحد، وقرأ ابن عامر ويعقوب درست بفتح السين وسكون التاء على صيغة المؤنث الغائب أي قدمت هذه الأخبار التي تتلوها علينا والمحت من قولهم درس الأثر دروسا﴿ ولنبينه ﴾ أي القرآن وهو مذكور لذكر الآيات فيما سبق والآيات هي القرآن ﴿ لقوم يعلمون ﴾ فإنهم هم المنتفعون به فتصريف الآيات التبليغ وليشقى به من قال : درست وليسعد من تبين له الحق
﴿ اتبع ما أوحي إليك من ربك ﴾ يعني اعمل بالقرآن﴿ لا إله إلا هو ﴾ اعتراض لتأكيد إيجاب إتباع الوحي أو حال مؤكدة من ربك يعني منفردا في الألوهية ﴿ أعرض عن المشركين ﴾ فلا تجادلهم ولا تستمع بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم
﴿ ولو شاء الله ﴾ إيمانهم﴿ ما أشركوا ﴾ ولكن حق القول منه لأملان جهنم من الجنة والناس أجمعين فيه دليل على أن الكفر والإيمان كلا منهما بإرادة الله تعالى وأن مراده واجب الوقوع خلافا للمعتزلة ﴿ وما جعلناك عليهم حفيظا ﴾ لأعمالهم رقيبا عليهم مأخوذا بأجرامهم وقال : عطاء ما جعلناك عليهم حفيظا تمنعهم من عذاب الله إنما بعثت معلما﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ تقوم بأمرهم،
قال : ابن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله تعالى فأنزل الله﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ الآية، قال : البغوي : قال : ابن عباس لما نزلت ﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾١ قال : المشركون يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم وقال : السدي لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فيقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البختري إلى أبي طالب، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآلهتنا فتجب أن تدعوه وتنهاه عن ذلك وعن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فقال : هؤلاء قومك تريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم، فقال : النبي صلى الله عليه وسلم أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم ؟ قال : أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال : فما هي ؟ قال :( قولوا لا إله إلا الله ) فأبوا وتفرقوا فقال : أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي قال :( يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو آتوني بالشمس فوضعوها في يدي ) فقالوا : لتكفن عن سب آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فأنزل الله عز وجل ﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ﴾ يعني لا تذكروا الأوثان بما فيها من القبائح، ﴿ فيسبوا الله ﴾ منصوب على جواب النهي ﴿ عدوا ﴾ تجاوزا عن الحق إلى الباطل﴿ بغير علم ﴾ أي على جهالة بالله تعالى وبما يجب أن يذكر به وما هو منزه عنه، فظاهر الآية وإن كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقة النهي عن سب الله تعالى لأنه سبب لذلك وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها لأن ما يؤدي إلى الشر شر ﴿ كذلك ﴾ أي تزيينا مثل تزيين سب الله للكافرين﴿ زينا لكل أمة ﴾ مؤمنة وكافرة﴿ عملهم ﴾ من الخير والشر توفيقا وتخذيلا فإن الله يضل من يشاء فظهر أن الأصلح ليس بواجب عليه تعالى﴿ ثم إلى ربهم مرجعهم ﴾ مصيرهم﴿ فينبئهم ﴾ بالمحاسبة والمجازاة ﴿ بما كانوا يعملون ﴾ من الخير والشر،
١ سورة الأنبياء، الآية: ٩٨..
أخرج ابن جرير عن محمد تخبرنا أن موسى كان ذكر البغوي عنه وعن الكلبي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنا عشر عينا وإن عيسى كان يحيي الموتى وإن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟ قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وزاد البغوي : عنهما أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أو باطل أو أرنا الملائكة يشهدون لك، فذكر ابن جرير والبغوي أنه قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا أن يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرئيل فقال : له إن شئت أصبح ذهبا ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بل يتوب تائبهم ) فأنزل الله تعالى﴿ وأقسموا ﴾يعني الكفار﴿ بالله جهد أيمانهم ﴾ منصوب على المصدرية أو مصدر في موقع الحال يعني مجتهدين في إتيان أوكد ما قدروا عليه من الإيمان، والداعي لهم على القسم وتوكيده التحكم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها ﴿ لئن جاءتهم آية ﴾ من مقترحاتهم﴿ ليؤمنون بها قل إنما الآيات عند الله ﴾في قدرته تعالى واختياره يظهر منها ما يشاء وليس شيء وليس شيء منها في قدرتي واختياري﴿ وما يشعركم ﴾ ما استفهامية للإنكار، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب، أو ما نافية، والمعنى على التقديرين أنه لا تشعرون خطاب للمشركين الذين أقسموا للمؤمنين﴿ أنها ﴾ أي الآيات قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بخلاف عنه بكسر الهمزة على الابتداء فعلى هذه القراءة مفعول ما يشعركم محذوف أي ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجيء الآيات الإيمان أو الكفر ثم أخبرهم فقال : أنها﴿ إذا جاءت لا يؤمنون ﴾ هكذا علم الله تعالى فيهم فإن مبادئ تعيناتهم ظلال الاسم المضل لا يمكن منهم الاهتداء، وقرأ الباقون بفتح الهمزة على أنه مفعول يشعركم لكن قرأ ابن عامر وحمزة لا تؤمنون بالتاء بصيغة الخطاب على أنها خطاب للمشركين، والباقون بالياء على الغيبة على أنها خطاب للمؤمنين يعني أنكم لا تشعرون أيها المؤمنون أو أيها المشركون أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو لا تؤمنون، وقيل : لا زائد كما في قوله تعالى﴿ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون( ٩٥ ) ﴾١ ومعناه ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، وقيل : إنها بمعنى لعلها يعني ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجيء الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون، وقيل : فيه حذف وتقديره وما يشعركم أيها المؤمنون أو المشركون أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو تؤمنون بالياء والتاء
١ سورة الأنبياء، الآية: ٩٥..
﴿ ونقلب ﴾ عطف على لا يؤمنون إلا على تقدير كون لا زائدة فحينئذ عطف على ما يشعركم﴿ أفئدتهم ﴾ عن الحق فلا يفقهونه ﴿ وأبصارهم ﴾ فلا يبصرونه نظر اعتبار فلا يؤمنون بها﴿ كما لم يؤمنوا به ﴾ أي بما أنزل من الآيات كانشقاق القمر وغيرها ﴿ أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ﴾ أي نذرهم متحيرين في طغيانهم ولا نهديهم.
﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى ﴾ مصدقا لنبوتك بإحيائنا﴿ وحشرنا ﴾جمعنا﴿ عليهم كل شيء قبلا ﴾قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف والباء على أنه مصدر والباقون بضمهما على أنه جمع قبيل بمعنى كفيل أي كفلا بما بشروا وأنذروا أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات أو مصدر بمعنى مقابلة وعلى الوجوه كلها حال من كل شيء﴿ ما كانوا ليؤمنوا ﴾ لما سبق عليهم القضاء بالكفر ولكون مبادي تعيناتهم ظلال الاسم المضل﴿ إلا أن يشاء الله ﴾يعني في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمان من سبق عليه القضاء بالإيمان﴿ ولكن أكثرهم يجهلون ﴾ أنهم لو أتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو لكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم قريش أعداء لك يؤذونك ويخالفون أمرك
﴿ وكذلك جعلناه لكل نبي ﴾ سبقك﴿ عدوا ﴾ وهو دليل على أن عداوة الكفار للأنبياء بفعل الله تعالى وخلقه ﴿ شياطين الإنس والجن ﴾ بدل من عدوا أو أول مفعولي جعلنا وعدوا مفعوله الثاني ولكل متعلق بجعلنا أو حال والمراد بالشياطين المتمردون من الفريقين قال قتادة ومجاهد والحسن : إن من الإنس شياطين والشيطان العاتي المتمرد من كل شيء، قلت : ويؤيده حديث جابر أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال :( عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان ) ١ رواه مسلم، وقالوا إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز عن إغوائه ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه، ويدل عليه ما روي عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ؟ قلت يا رسول الله هل للإنس من شياطين ؟ قال :( نعم هم شر من شياطين الجن )٢ قال : مالك بن دينار إن شياطين الإنس إن شياطين الإنس أشد من شياطين الجن وذلك أني إذا تعودت بالله ذهب عني شياطين الجن وشياطين الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا، وقال : عكرمة والضحاك والسدي والكلبي معنى شياطين الإنس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن وليسمن الإنس شياطين وذلك أن إبليس قسم جنده فريقين فبعث وفريقا منهم إلى الإنس وفريقا منهم إلى الجن وكلا الفريقين أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأوليائه وهم يلتقون في كل حين فيقول شياطين الإنس لشياطين الجن أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله ويقول شياطين الجن لشياطين الإنس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض والأول أرجح وأشد موافقة للسياق ﴿ يوحي بعضهم إلى بعض ﴾أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض﴿ زخرف القول ﴾الأباطيل المموهة﴿ غرورا ﴾منصوب على العلية أو المصدرية أو مصدر في موقع الحال يعني لزينوا الأعمال القبيحة لبني آدم أو يغرهم غرورا غارين﴿ ولو شاء ربك ﴾أن لا يفعلوا ﴿ ما فعلوه ﴾يعني معاداة الأنبياء وإيحاء الزخارف أو الغرور وهذا أيضا دليل على المعتزلة﴿ فذرهم وما يفترون ﴾ عليك وعلى الله فإن الله يجزيهم وينصرك ويخزيهم
١ أخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية ونحو ذلك (١٥٧٢)..
٢ أخرجه النسائي بدون العبارة الأخيرة هم شر من شياطين الجن. في كتاب: الاستعاذة، باب: الاستعاذة من شر شياطين الإنس(٥٥٠٥)...
﴿ ولتصغى ﴾عطف على غرور إن كان علة أو متعلق بمحذوف يعني وفعلنا ذلك لتصغي أي قيل :﴿ إليه ﴾ أي زخرف القول﴿ أفئدة ﴾ أي قلوب﴿ الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه ﴾ لأنفسهم ﴿ وليقترفوا ﴾أي ليكسبوا﴿ ما هو مقترفون ﴾من المعاصي
ولما كانت القريش يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل بيننا حكما فأنزل الله تعالى في جوابهم ﴿ أفغير الله ﴾ على إرادة القول يعني قل لهم يا محمد والفاء للعطف على محذوف يعني أجيب ما تطلبون مني فغير الله﴿ أبتغي ﴾ أي أطلب﴿ حكما ﴾ قاضيا بيني وبينكم يفصل المحق منا من المبطل وغير مفعول أبتغي حكما حال منه، ويحتمل أن يكون عكسه وحكما أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العدل﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ﴾ القرآن المعجز المخبر بالمغيبات مطابقا للكتب والجملة حال من الله تعالى وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات ﴿ وهو الذي أنزل إليكم الكتاب ﴾ يعني اليهود﴿ يعلمون أنه ﴾أي القرآن ﴿ منزل ﴾ قرأ ابن عامر وحفص بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الأفعال﴿ من ربك بالحق ﴾ تأكيد لدلالة الإعجاز لأن أهل الكتاب يعلمون بالقرآن كونه محقا لأجل مطابقة كتبهم مع كون النبي صلى الله عليه وسلم أميا لم يدارس كتبهم ولم يجالس علماءهم، وإنما أسند العلم إلى جميعهم لأن بعضهم يعلمون وبقيتهم متمكنون منه بأدنى تأمل أو بالرجوع إلى علمائهم ﴿ فلا تكونن ﴾ أيها السامع ﴿ من الممترين ﴾ الشاكين في أنه عند الله تعالى
﴿ وتمت كلمة ربك ﴾ قرأ الكوفيون ويعقوب كلمة بالتوحيد على الجنس، والباقون كلمات على الجمع وأراد به إخباره ووعده ووعيده وأمره ونهيه الواردة في القرآن يعني بلغت الغاية﴿ صدقا ﴾ في الأخبار والوعد والوعيد﴿ وعدلا ﴾ في الأحكام وكذا قال : قتادة ومقاتل منصوبان على التميز أو الحال﴿ لا مبدل لكلماته ﴾ يعني لا أحد يبدل شيئا منها، قال : ابن عباس لا راد لقضائه ولا مغير لحكمه أو المعنى لا نبي ولا كتاب بعد القرآن ينسخها ويبدل أحكامها ﴿ وهو سميع ﴾ لما يقولون ﴿ العليم ﴾ بما يضمرون فلا يمهلهم
﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض ﴾يعني الكفار فإنهم كانوا أكثر من المؤمنين﴿ ويضلوك عن سبيل الله ﴾ عن الطريق الموصل إليه تعالى يعني الدين الإسلام ﴿ إن يتبعون ﴾ أي أكثر أهل الأرض ﴿ إلا الظن ﴾ يعني جهالاتهم وآرائهم في تحليل الميتة وتحريم البحائر ونحوها مما يقولون ﴿ وإن هم إلا يخرصون ﴾ أي يقولون بالظن والتخمين بلا علم حاصل بدليل صحيح
﴿ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ﴾ يعني يعلم بالفريقين فيجازي كلا بما يستحقه، ومن موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا بأفعل التفضيل فإنه لا يعمل في الظاهر أو منصوب بنزع الخافض متعلق بأعلم بمن يضل أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقيد.
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله فأنزل الله تعالى ﴿ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾١، الفاء السببية فإنه تعالى لما نهى عن اتباع الكفار المضلين فرع عليه قوله فكلوا يعني لا تتبعوا في تحريم الحرام آراء الكفار القائلين بتحليل الميتة وتحريم الذبائح ﴿ إن كنتم بآياته مؤمنين ﴾ فإن الإيمان به تعالى يقتضي استباحة ما أحل الله واجتناب ما حرمه
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن الكريم، باب: ومن سورة الأنعام(٣٠٦٩)..
﴿ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه ﴾ما استفهامية في موضع الرفع بالابتداء ولكم خبره يعني والحال أنه﴿ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ﴾قرأ نافع وحفص ويعقوب فصل وحرم بالفتح فيهما على البناء للفاعل يعني بين الله لكم ما حرم الله عليكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على البناء للمفعول فيهما وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي فصل على البناء للفاعل وحرم على البناء للمفعول، والمراد بتفضيل المحرمات قوله تعال﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما ﴾الآية﴿ إلا ما اضطررتم إليه ﴾استثناء من ضمير حرم وما مصدرية بمعنى المدة يعني فصل لكم ما حرم عليكم في جميع الأوقات إلا وقت الاضطرار إليه. فإن قيل : ما الفائدة في الاستثناء وقد أغنى عنه قوله فصل لكم ما حرم عليكم فإن التفصيل شامل للاستثناء ؟ قلنا : فائدة المبالغة في النهي عن الامتناع عن أكل ما لم يحرم فإن ما حرم يصير عند الاضطرار مباحا بخلاف ما أحل فإنه لا يحرم قط﴿ وإن كثيرا ﴾ من الناس﴿ ليضلون ﴾ بتحليل الحرام وتحريم الحلال. قرأ الكوفيون هاهنا وفي سورة يونس ليضلون بضم الياء على أنه من الإضلال والباقون بالفتح﴿ بأهوائهم بغير علم ﴾ من دليل عقلي لا نقلي﴿ إن ربك هو أعلم بالمعتدين ﴾ المتجاوزين من الحق إلى الباطل ومن الحلال إلى الحرام
﴿ وذروا ظاهر الإثم وباطنه ﴾ يعني الذنوب كلها ظاهرها من أعمال الجوارح باطنها من أعمال القلب وصفات النفس، قال : الكلبي : وأكثر المفسرين الإعلان بالزنا والإسرار به، وقال : سعيد بن جبير ظاهر نكاح المحارم وباطنه الزنا، وقال : ابن زيد ظاهره التجرد من الثياب والطواف عريانا وباطنه الزنا، وروى عن الكلبي : ظاهره طواف الرجال عريانا بالنهار وباطنه طواف النساء عريانا بالليل، ﴿ إن الذين يكسبون الإثم سيجزون ﴾ في الآخرة﴿ بما كانوا يقترفون ﴾ يكسبون في الدنيا
﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه ﴾ هذه الآية بعمومها حجة لأحمد حيث يقول متروك التسمية عامدا أو ناسيا لا يجوز أكله وبه قال : داود وأبو ثور والشعبي ومحمود بن سيرين، وقال : مالك خص متروك التسمية ناسيا من عموم هذه الآية بحديث أبي هريرة قال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله :( أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله ؟قال :( اسم الله في فم كل مسلم ) رواه الدارقطني، وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم : قال ( المسلم إن نسي أن يسمي حين يذبح فليسم ثم ليأكل ) رواه الدارقطني، والحديثان ضعيفان فإن في حديث أبي هريرة مروان بن سالم قال : أحمد ليس بثقة وقال : النسائي والدارقطني متروك وفي حديث ابن عباس معقل مجهول، وقال : أبو حنيفة أيضا بجواز كل متروك التسمية ناسيا لكن القول بتخصيص الآحاد لا يصح على أصل أبي حنيفة فقال صاحب الهداية لكنا نقول في اعتبار ذلك يعني في تعميم الآية للناسي أيضا من الحرج ما لا يخفى لأن الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره إذ لو أريد به العموم لجرت الحاجة فظهرت الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول ولا يخفى ضعف هذا القول، وقال : الشافعي المراد به بما لم يذكر اسم الله عليه الميتات وما ذبح على غير اسم الله تعالى بدليل قوله تعالى ﴿ وإنه لفسق ﴾ والفسق في ذكر اسم غير الله تعالى كما في آخر سورة ﴿ قل لا أجد في ما أوحي ﴾ إلى قوله ﴿ أو فسقا أهل لغير الله ﴾ واحتج الشافعي على حل متروكة التسمية عامدا بحديث عائشة قالت : إن قوما قالوا : يا رسول الله إن هاهنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندري يذكرون اسم الله عليها أولا ؟ قال :( أذكر أنتم اسم الله وكلوا )١ رواه البخاري، قال : البغوي : لو كانت التسمية شرطا للإباحة لكان الشك في وجوده مانعا من أكلها كالشك في أصل الذبح وبحديث الصلت مرسلا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر ) رواه أبو داود في المراسيل، قالت الحنيفة حديث الصلت محمول على حالة النسيان وحديث عائشة حجة لنا لا علينا لأنهم سألوا عن الأكل عند وقوع الشك بالتسمية بعد علمهم بأن الذابح مسلم فذلك دليل على أنه كان معروفا عندهم اشتراط التسمية للحل وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على ظاهر أن المسلم لا يترك التسمية عمدا كمن اشترى لحما من سوق المسلمين يباح له الأكل بناء على الظاهر وإن كان يحتمل أنه ذبيحة مجوسي، وما قال : الشافعي أن الآية في الميتات وما ذبح على غير اسم الله فمدفوع بأن العبرة لعموم اللفظ، ونصوص الكتاب والسنة لم يرد شيء منها في الذبح والصيد إلا مقيدا بذكر اسم الله تعالى وقد مر هذه المسألة وغيرها من مسائل الذبح في تفسير سورة المائدة، قال : في شرح المقدمة المالكية : يجزئه يعني الذبح لو ترك التسمية عمدا في مذهب مالك عند أبي القاسم وفي مذهب المدونة لا يجزئه ومذهب المدونة هو المشهور لأنها واجبة مع الذكر وكل هذا في غير المتهاون وأما المتهاون فلا خلاف أنها لا يؤكل ذبيحته تحريما، قال ابن الحارث وابن البشير والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا والله أعلم، أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال : لما نزلت﴿ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ﴾ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا فقالوا ما تذبح أنت بسكين فهو حلالا وما ذبح الله بشمشار من ذهب يعني الميتة فهو حرام، وكذا أخرج أبو داود والحاكم وغيرهما قول كفار مكة من غير فارس فنزلت ﴿ وإن الشياطين ﴾ يعني شياطين الإنس من الفارس أو شياطين الجن، ﴿ ليوحون ﴾ يعني ليلقون أو ليوسوسون﴿ إلى أوليائهم ﴾ يعني كفار قريش أو مطلق الكفار﴿ ليجادلونكم وإن أطعتموهم ﴾ في استحلال ما حرم ﴿ إنكم لمشركون ﴾ فإن من ترك طاعة الله أو أطاع غيره واتبعه في دينه فقد أشرك، حذف الفاء من الجزاء لكون الشرط بلفظ الماضي، قال : الزجاج فيه دليل على أن من أحل شيئا مما حرم الله أو حرم ما أحل الله فهو مشرك، قلت : إذا ثبت ذلك بدليل قطعي
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها(٧٣٩٨)..
﴿ أو من كان ميتا ﴾ يعني كافرا غافلا قلبه عن الحق، قرأ نافع ويعقوب هاهنا وفي يس الأرض الميتة وفي الحجرات لحم أخيه ميتا بتشديد الياء في الثلاثة والباقون بإسكانها استعارة تمثيلية، وكذا في قوله﴿ كمن مثله في الظلمات ﴾ فإن الكافر لا يمتاز بين ما ينفعه وما يضره كالميت﴿ فأحيينه ﴾يعني أحيينا قلبه بنور الإيمان ﴿ وجعلنا له نورا ﴾يعني فراسة المؤمن يمتاز به الحق من الباطل﴿ يمشي به في الناس ﴾ يعني يمشي بذلك النور على طريق يقتضيه العقل السليم والطبع المستقيم والشرع المنزل من الله تعالى﴿ كمن مثله ﴾ أي صفته مبتدأ كونه﴿ في الظلمات ﴾ خبر لمثله، وجاز أن يكون الظرف خبر مبتدأ محذوف أي هو والجملة خبر لمثله والجملة الكبرى صلة وقوله ﴿ ليس بخارج منها ﴾ حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل، والمعنى أو من كان مؤمنا كمن هو كافر لم يؤمن والاستفهام للإنكار يعني هما لا يتماثلان أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله، وقال : ابن عباس يريد بهما حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك أن أبا الجهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر حمزة بما فعل أبو الجهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فأقبل غضبان حتى أتى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع ويقول يا أبا يعلى أما ترى ما جاء محمد به ؟ سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا فقال حمزة ومن أسفه منكم ؟ تعبدون الحجارة من دون الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال : عكرمة والكلبي نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل فاتفقت الروايات أن المراد عن مثله في الظلمات أبو جهل ومقابله أحد الثلاثة والظاهر أن هؤلاء الثلاثة آمنوا متقاربين في الزمان وحينئذ نزلت الآية ولفظها عام فيمكن حمله على كلهم، وفي هذه الآية رد لما زعم أبو جهل أنه أفضل من المؤمنين الذين خالفوا آبائهم وسبوا آلهتهم فكان مقتضى السياق نفي أفضلية الكفار فذكر الله سبحانه نفي المساواة ليكون أبلغ في الدلالة على نفي أفضليتهم، وكيلا يتطرق الوهم على المساواة واستدل على نفي المساواة بما يقتضي أفضلية المؤمنين بل اختصاصهم بالجمال والكمال ونفي ذلك عن الكفار بالكلية، فاختصاص المؤمنين بالكمال ونفي مساواتهم بالكفار إشارة النص بالمطابقة ونفي أفضلية الكفار عبارة النص بالالتزام﴿ كذلك ﴾ أي كما زين لأبي جهل أعماله حيث زعم نفسه أفضل من المؤمنين﴿ زين للكافرين ﴾ أجمعين سيئات﴿ ما كانوا يعملون ﴾
﴿ وكذلك ﴾أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها﴿ جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها ﴾ إن كان جعلنا بمعنى صيرنا فمعولاه إما في كل قرية وأكابر مجرميها بدل من أكابر وإما أكابرومجرميها على تقديم المفعول الثاني على الأول، وجاز أن يكون أكابر مضافا إلى مجرميها أحد مفعوليه والثاني في كل قرية وإن كان جعلنا بمعنى مكنا فالظرف متعلق بمكنا وأكابر مضافا إلى مجرميها مفعوله وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة وخصص الأكابر لأنهم أقوى في استتباع الناس والمكر بهم وذلك سنة الله تعالى حيث يجعل اتباع الرسل في بدو الأمر ضعفائهم والمكر الخديعة كذا في القاموس، وفي الصحاح المكر صرف الغير عما يقصد بحيلة وكأن مكر قريش أنهم أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة نفر ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فإنه كاهن ساحر كذاب ﴿ وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾ حيث يعود إليهم وباله ﴿ وما تشعرون ﴾ ذلك،
قال : البغوي : قال : قتادة قال : أبو جهل زحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما بأتيه، وقيل : إن الوليد بن المغيرة قال : لو كنت النبوة حقا لكنت أولى به منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا فأنزل الله تعالى﴿ وإذا جاءتهم آية قالوا ﴾ يعني كفار قريش ﴿ لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ﴾ ثم قال : الله تعالى ﴿ الله أعلم حيث يجعل رسالته ﴾قرأ ابن كثير وحفص على الإفراد وفتح التاء والباقون رسالاته بالجمع وكسر التاء استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال والسن وإنما هي فضل من الله تعالى بمن يعلم أنه أحق به، قال : المجد للألف الثاني رضي الله عنه مبادي تعينات الأنبياء صفات الله تعالى من غير شائبة الظلية ومبادي تعينات غيرهم من الناس ظلال الأسماء والصفات وصفات الله تعالى وإن كانت واجبة لكن وجوبها بالغير فهي باعتبار احتياجها إلى الذات صارت مبادي تعينات الأنبياء والملائكة ومن ثم خصت العصمة بهذين الصنفين، غير أن الصفات من حيث بطونها وقيامها بالله تعالى مباد لتعينات الملائكة ومن حيث ظهورها وكونها مصادر للعالم وحجبا مبادي لتعينات الأنبياء فولاية الملائكة أرفع وأقرب إلى الله تعالى من ولاية الأنبياء وفضلهم على الملائكة إنما هو من حيث النبوة المختصة بالبشر وذلك بالتجليات الذاتية البحتة فاستحقاق النبوة والرسالة ناشيء من كون مبادى تعيناتهم صفات الله تعالى لا من حيث النسب والسن والمال كما زعمه الأعمهون﴿ سيصيب الذين أجرموا ﴾ يعني أكابر الكفار ﴿ صغار ﴾ ذل وهوان﴿ عند الله ﴾ يوم القيامة وقيل : تقديره من عند الله يعني في الدنيا والآخرة﴿ وعذاب شديد ﴾ بالقتل والأسر في الدنيا كما أصاب كفار قريش يوم بدر وبالنار في الآخرة﴿ بما كانوا يمكرون ﴾ الباء السببية أو المقابلة أي بسبب مكرهم في الدنيا أو جزاء على مكرهم.
﴿ فمن يرد الله أن يهديه ﴾ إلى معرفة طريق الحق ﴿ يشرح صدره للإسلام ﴾ لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرح الصدر ؟قال( نور يقذفه الله في قلب المؤمن فيشرح له وينفسح ) قلت يعني يتسع لمعرفة الحق ويؤمن، قالوافهل لذلك أمارة ؟ قال :( نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور واستعداد الموت قبل نزول الموت ) أخرجه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود، وأخرج الفريابي وابن جرير وعبد بن حميد حديث أبي جعفر مرسلا، قالت الصوفية العلية شرح الصدر لا يكون إلا بعد فناء النفس بزوال عينها وأثرها وذلك بتجليات صفات الله تعالى الحسنى في الولاية الكبرى ولاية الأنبياء وحينئذ يحصل الإيمان الحقيقي ﴿ ومن يرد ﴾ الله سبحانه ﴿ أن يضله ﴾ عن طريق الحق﴿ يجعل صدره ضيقا حرجا ﴾ قرأ ابن كثير ضيفا بالتخفيف بإسكان الياء ها هنا وفي الفرقان والباقون بالتشديد وهما لغتان مثل هين وهين ولين ولين وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم حرجا بكسر الراء والباقون بفتحها، قال : سيبويه بالفتح المصدر كالطلب بمعنى الصفة بالكسر الصفة وهي أشد الضيق، وقيل : هما لغتان بمعنى الصفة يعني يجعل صدره بحيث لا يدخله الإيمان ويشق عليه قبول الحق ويزعمه مستحيلا قال : الكلبي : يعني ليس للخير فيه منفذ، وقال : ابن عباس إذا سمع ذكر الله اشمأز قلبه وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح إلى ذلك. قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فسأل أعربيا من كنانة ما الحرجة ؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر ذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ﴿ حرجا يصعد ﴾قرأ ابن كثير بالتخفيف وسكون الصاد من المجرد وأبو بكر يصاعد بالألف تشديد الصاد أي يتصاعد والباقون بتشديد الصاد والعين أي يتصعد﴿ في السماء ﴾ شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة فيه إشعار الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود عادة، وقيل : كأنما يتصاعد إلى السماء يعني يتباعد عنه في الهرب عنه﴿ كذلك ﴾ أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الإيمان ﴿ يجعل الله الرجس ﴾ يعني العذاب كذا قال : عطاء، وقال : الزجاج الرجس اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، وقال : الكلبي : هو المأثم، وقال : مجاهد الرجس ما لا خير فيه، وقال : ابن عباس هو الشيطان يعني يسلط عليه الشيطان﴿ على الذين لا يؤمنون ﴾ أي عليهم وضع المظهر موضع المضمر للتعليل والآية حجة على المعتزلة في إرادة المعصية
﴿ وهذا ﴾ الذي بينا من شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيفا لمن أراد إضلاله﴿ صراط ربك ﴾طريقة الذي اقتضته الحكمة وسنته التي جرت في عباده، وقيل : معناه هذا الذي أنت عليه يا محمد وجاء به القرآن من الإسلام صراط ربك الموصل إليه ﴿ مستقيما ﴾ معناه على التقدير الأول عادلا مطردا وعلى التقدير الثاني لا عوج فيه حال من الصراط والعامل فيها معنى الإشارة﴿ قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون ﴾من أهل السنة والجماعة فإنهم هم المنتفعون بها العالمون بأن القادر هو الله تعالى لا غير وأن كل ما يحدث من خير وشر بقضائه وخلقه وأنه عليم بأحوال العباد حكيم عادل لا مجال لأحد بالاعتراض عليه
﴿ لهم ﴾أي لقوم يتذكرون بالنصوص ولا يتعبون الأهواء﴿ دار السلام ﴾يعني الجنة سميت بها لأنها دار السلام من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام، أو المعنى دار الله أضاف إلى نفسه تعظيما﴿ عند ربهم ﴾ أي في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره ﴿ وهو ﴾ أي الله تعالى﴿ وليهم ﴾ أي متولى أمورهم في الدنيا بالتوفيق وفي القبول بالتثبيت في جواب المنكر والنكير، وفي الآخرة بجزيل الجزاء ويرفعهم في درجات القرب﴿ بما كانوا يعملون ﴾أي بسبب أعمالهم
ونقول أو يقول الله ﴿ ويوم يحشرهم ﴾ يعني الجن والإنس، قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم ﴿ جميعا يا معشر الجن ﴾ يعني الشياطين﴿ قد استكثرتم من الإنس ﴾ بأن جعلتم كثيرا منهم إتباعكم في الضلالة أو استكثرتم من إغوائهم ﴿ وقال أوليائهم من الإنس ﴾ الذين أطاعوهم ﴿ ربنا استمتع بعضنا ببعض ﴾ أي انتفع الإنس من الجن بما يتلقون منهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزيينهم لهم الأمور التي يشتهونها وإطاعة الجن لهم في تحصيل مراداتهم وإيصالهم إلى شهواتهم، ويبيت الإنس في جوار الجن حين يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه وانتفع الجن من الإنس باستعبادهم واستتباعهم في الضلالات والمعاصي ﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ﴾ يعني يوم القيامة أجلت للبعث اعتراف بذنبهم وتحسر على أنفسهم ﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ النار مثواكم ﴾ منزلكم أو ذات مقامكم﴿ خالدين فيها ﴾حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدر أو معنى الإضافة إن جعل مكانه﴿ إلا ما شاء الله ﴾ قيل : معناه إلا مدة سبقت على وقت دخولهم في النار كأنه قيل : النار مثواكم إلا ما أمهلتكم وقيل : المستثنى الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل : معنى إلا سوى والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء الله من أنواع العذاب، وقال : ابن عباس الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله أنهم يسلمون فيخرجون من النار وما بمعنى من على هذا التأويل ﴿ إن ربك حكيم ﴾فيما يفعل بأوليائه وأعدائه﴿ عليم ﴾ بما في قلوبهم من الإيمان والنفاق بأعمال الثقلين وأحوالهم
﴿ وكذلك ﴾أي كما خذلنا عصاه الجن والإنس حتى استمتع بعضهم ببعض ﴿ نولي بعض الظالمين بعضا ﴾ أي بعضهم، قال : قتادة يعني يجعل بعضهم أولياء بعض المؤمن ولى المؤمن يعنيه على الخير والكافر ولي الكافر يبعثه إلى الشر وروى معمر عن قتادة معناه نتبع بعضهم بعضا في النار من الموالاة، وقيل : معناه نولي ظلمة الإنس ظلمة الجن وظلمة الجن ظلمة الإنس أي نكل بعضهم إلى بعض، وروى الكلبي : عن أبي صالح عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أن الله إذا أراد بقوم خيرا ولى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم، فمعنى نولي بعض الظالمين بعضا أي نسلط بعضهم على بعض فنأخذ من الظالم بالظالم كما جاء من أعان ظالما سلطه الله عليه، ويؤيد رواية الكلبي : عن ابن عباس ما روى الحاكم عن صعصعة بن صوحان عن علي عليه السلام لما استشهد وضربه ابن ملجم قال : الناس يا أمير المؤمنين استخلف علينا، فقال علي إن يعلم الله فيكم خيرا يول عليكم خياركم قال : علي فعلم الله فينا خيرا فولى أبا بكر رضي الله عنه، وروي ( الظالم ينتقم به من الناس ثم ينتقم منه ) ١ ﴿ بما كانوا يكسبون ﴾من الكفر والمعاصي
١ روى بمعناه الطبراني في الأوسط، وقال الزركشي: لم أجده، وزاد النجم: لم أقف عليه.
انظر كشف الخاء (١٦٨٧)..

﴿ يا معشر الجن والإنس ألم يأتيكم رسل منكم ﴾اختلفوا في الجن هل أرسل إليهم منهم ؟ فسئل الضحاك عنه فقال بلى تسمع الله يقول﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ يعني رسلا من الإنس ورسلا من الجن، قال : الكلبي : كانت الرسل قبل أن يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الجن وإلى الإنس جميعا يعني إلى بعض ب من كل من الفريقين فإنه لم يبعث إلى كافتهم إلا خاتم الرسل عليه السلام، وقال : مجاهد الرسل من الإنس والنذر من الجن ثم قرأ﴿ ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ ١ والمراد بالنذر رسل الرسل وهم قوم من الجن يستمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وليس للجن رسل فعلى هذا قوله تعالى رسل منكم ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس كما قال : الله تعالى﴿ يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان( ٢٢ ) ﴾٢وإنما يخرج من الملح دون العذب وقال :﴿ وجعل القمر فيهن ﴾٣ وإنما هو في سماء واحدة، قلت : الآية تدل على كون الفريقين مرسلين إليهم سواء كان الرسل من صنف أو من الإنس فقط لكن لا مانع من كون بعض الرسل إلى الجن منهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كيف وقوله تعالى﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ﴾٤ يقتضي كون الرسل إلى الجن منهم لكمال المناسبة بين الرسول ومن أرسل إليه كيف وخلقة الجن كان أسبق من آدم عليه السلام وكانوا مكلفين لكونهم من ذوي العقول ولقوله تعالى ﴿ لأملأن جهنم من الجنة والناس ﴾ ٥ فلو لم يرسل إليهم حينئذ أحد لم يعذبوا لقوله تعال ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ ٦ فهذه الآية تدل على أنه كان قبل آدم عليه السلام من الجن رسلا إليهم، ومن هاهنا يظهر أن ما يدعوا أهل الهند من البرازخ ويسمونهم أوتادا يذكرون في تواريخهم ألوف ومائة السنين لعلهم كانوا من الجن برازخ مبعوثين إلى الجن، ولعل لأهل الهند دين منزل من الله تعالى على الجن استفاد منهم الإنس قيل : لأجل كونهم مولودين من بطن الجنية منسوخ بشرائع منزلة بعد ذلك فإن أصول دينهم يوافق الكتاب والسنة غالبا وما يخالف منه فهو من عمل الشيطان مردود والله أعلم ﴿ يقصون عليكم آياتي ﴾ يقرؤن كتبي﴿ وينذرونكم لقاء يومكم هذا ﴾ يعني يوم القيامة قالوا جوابا ﴿ شهدنا على أنفسنا ﴾ بتبليغ الرسل إلينا وبالكفر، قال : مقاتل وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر﴿ وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ حتى لم يؤمنوا ﴿ وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ﴾ ذم لهم على سواء اختيارهم في الدنيا حتى اضطروا إلى الاعتراف باستيجاب العذاب
١ سورة الأحقاف، الآية: ٢٩..
٢ سورة الرحمان، الآية: ٢٢..
٣ سورة نوح، الآية: ١٦..
٤ سورة الإسراء، الآية: ٩٥..
٥ سورة هود، الآية: ١١٩..
٦ سورة الإسراء، الآية: ١٥..
﴿ ذلك ﴾ يعني إرسال الرسل خبر مبتدأ محذوف أي الأمر وما بعده تعليل للحكم أو بدل من ذلك الأظهر أنه مبتدأ وخبره ما بعده ﴿ أن لم يكن ربك ﴾ أن مصدرية أو مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن يعني إرسال الرسل كان لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن، لم يكن ربك﴿ مهلك القرى ﴾ أي أهله ﴿ بظلم ﴾ إما حال من فاعل مهلك يعني ما كان ربك مهلكهم ظالما ﴿ وأهلها غافلون ﴾ لم ينبهوا برسول وإما حال من مفعوله وإما ظرف لغو متعلق بمهلك يعني ما كان ربك مهلكهم بسبب ظلم فعلوا أو ملتبسين بظلم في حال غفلتهم من قبل أن يأتيهم الرسل، وذلك على جري العادة من الله تعالى
﴿ ولكل ﴾ من المكلفين ﴿ درجات ﴾ مراتب من الله تعالى في القرب والبعد﴿ مما عملوا ﴾ أي من أجل أعمالهم التي اكتسبوها في الدنيا فمنهم من هو أقرب منزلة وأجزل ثوابا ومنهم من هو أشد عذابا﴿ وما ربك بغافل عما يعملون ﴾ فيجزي كلا منهم على حسب عمله قرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة
﴿ وربك الغني ﴾ عن العباد وعن عبادتهم ليس إرسال الرسل وتكليف العباد بالأوامر والنواهي هي لغرض يعود إليه تعالى بل لأنه تعالى ﴿ ذو الرحمة ﴾ على خلقه أرسل إليهم الرسل وأمرهم ونهاهم تكميلا لهم من رحمته تعالى أنه يمهلهم على المعاصي ويتجاوز عنهم ﴿ وهذا لشركائنا ﴾أي يهلككم يا أهل مكة بذنوبكم ما به تعالى إليكم حاجة يفوت بذهابكم ﴿ ويستخلف ﴾ أي يخلف وينشأ ﴿ من بعدكم ما يشاء ﴾ من الخلق غيركم أطوع منكم إنشاء ﴿ كما أنشأكم من ذرية ﴾ من أولاد ﴿ قوم آخرين ﴾ قرنا بعد قرن لكنه أمهلكم ترحما عليهم
﴿ إن ما تدعون ﴾ من البعث والحساب والإثابة والتعذيب ﴿ لآت ﴾ كائن لا شبهة فيه﴿ وما أنتم بمعجزين ﴾ فائتين طالبكم به بل يدرككم حيث ما كنتم
﴿ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم على مكاناتكم حيث وقع على الجمع والباقون على الإفراد، والمكانة إما مصدر من مكن مكانة أذا تمكن وتسلط على شيء يعني اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم أو هو اسم ظرف بمعنى المكان استعير هاهنا الحال يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله على مكانتك يا فلان أي أثبت ما أنت عليه من الحال، وعلى التقديرين أمر للنهديد والوعيد والمعنى اثبتوا على كفركم وعدواتكم ﴿ إني عامل ﴾ على مكانتي التي أنا عليها من المصابرة والثبات على الإسلام وعلى ما أمرني به ربي ﴿ فسوف تعملون من تكون له عاقبة الدار ﴾ قرأ حمزة والكسائي ويكون بالياء ها هنا وفي القصص لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي والباقون بالتاء لتأنيث الفاعل، ومن إما موصولة في محل النصب على أنه مفعول يعلمون يعني فسوف يعرفون الذين يكون له عاقبة الحسنى في الدار الأخرى أو استفهامية في محل الرفع على الابتداء وفعل العلم معلق عنه يعني يعملون أينا يكون له العاقبة الحسنى في الدار الأخرى إنذار مع الإنصاف في المقال وحسن الأدب، وفيه تعريض على أني على علم ويقين بأن العاقبة للمتقين﴿ إنه لا يفلح الظالمون ﴾ الواضعون العبادة والطاعة في غير محلها،
قال : البغوي : كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم وسائر أموالهم نصيبا وللأوثان نصيبا فما جعلوه لله صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوا للأوثان أنفقوا على خدمها فإن سقط شيء من نصيب الأصنام فيما جعلوه لله ردوه إلى الأوثان وقالوا إنها محتاجة، وكان إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه لله لم إذا هلك أو انتقص شيء مما جعلوه للأصنام جبروه بما جعلوه لله وذلك قوله تعالى.
﴿ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله زوما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشأ بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهو فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾.
﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ﴾ أي خلقه الله﴿ من الحرث والأنعام نصيبا ﴾ ولشركائهم نصيبا حذف هذه الجملة لظهورها بالمقابلة﴿ فقالوا هذا لله بزعمهم ﴾يعني زعموا كذلك ولم يأمرهم به الله ولا شرع لهم تلك القسمة قرأ بضم الزاء والباقون بالفتح وهما لغتان﴿ وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ﴾حيث كانوا يتمون ما جعلوا للأوثان مما جعلوه لله تعالى دون العكس، قال : قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوا لله وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوا للأوثان﴿ ساء ما يحكمون ﴾ حكمهم هذا وإشراكهم خالق الحرث والأنعام وسائر الخلائق جمادات لا يقدر على شيء ما ترجيحهم الجمادات على خالق السماوات
﴿ وكذلك ﴾يعني تزئينا مثل ما زين لهم قسمة الحرث ونحوها﴿ زين لكثير من المشركين قتل أولادهم ﴾ بوأد البنات ونحرهم لآلهتهم ﴿ شركاؤهم ﴾ فاعل زين، قال : مجاهد يعني شياطينهم زينوا وحسنوا لهم وأد البنات خفية الفقر، سميت الشياطين شركاء لأنهم أطاعوها في معصية الله وأضيف الشركاء إليهم لاتخاذهم إياها آلهة بلا سبب موجب، وقال : الكلبي : شركاؤهم سدنة الأوثان كانوا يزينون الكفار قتل الأولاد فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم، وقرأ ابن عامر زين بضم الزاء وكسر الياء على البناء للمفعول الذي هو القتل مرفوعا ونصب الأولاد على المفعولية للقتل وجر الشركاء على المصدر مضاف إلى الفاعل أعني الشركاء وترك المفعول أعني أولادهم منصوبا، ويظهر بتواتر هذا القراءة أن إضافة المصدر إلى فاعله مفصولا بينهما بمفعوله صحيح فصيح وأن ضعفه بعض أهل العربية، كذا قال : التفتازاني أو يقال نزل المضاف إليه منزلة الفاعل المرفوع، وجاز تقديم المفعول على الفاعل وإنما أسند القتل إلى الشركاء وإن لم يتولوا ذلك لأنهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه﴿ ليردوهم ﴾ أي ليهلكوهم بالأغواء﴿ وليلبسوا عليهم دينهم ﴾ أي ليخلطوا عليهم دينهم الذي كانوا عليه يعني دين إسماعيل عليه السلام قبل التلبيس، كذا قال : ابن عباس أو المراد دينهم الذي وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين وللعاقبة إن كان من السدنة ﴿ ولو شاء الله ﴾ أن لا يفعلوا ذلك التخليط واللبس والتزيين أو أن لا يقتلوا الأولاد وأن يجعلوا للأصنام نصيبا من أموالهم ﴿ ما فعلوه ﴾ أي المشركين ما زين لهم أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك ﴿ فذرهم وما يفترون ﴾أي افترائهم أو ما يفترونه من الإفك
﴿ وقالوا ﴾ يعني المشركين ﴿ هذه ﴾ يعني ما جعلوه لله ولآلهتهم من الحرث والأنعام على ما مر ﴿ أنعام وحرث حجر ﴾ أي حرام مصدر بمعنى المفعول يستوى فيه الواحد والجمع والذكر والأنثى، وقال : مجاهد يعني بالأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ﴿ لا يطعمها إلا من نشاء ﴾ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء ﴿ بزعمهم ﴾من غير حجة ﴿ وأنعام حرمت ظهورها ﴾يعني البحائر والسوائب والحومي﴿ أنعام لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام، قال : أبو وائل معناه لا يحجون عليها ولا يركبون لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر اسم الله على فعل الخير عبر عن فعل الخير بذكر الله﴿ افتراء عليه ﴾ نصب على المصدر من قالوا لأن ما قالوه تقولوا على الله، والجار والمجرور متعلق بقالوا أو بمحذوف هو صفة له يعني افتراء واقعا عليه أو منصوب على الحال يعني قالوا ذلك مفترين أو على العلية يعني للافتراء والجار والمجرور متعلق به أو بالمحذوف ﴿ سيجزيهم بما كانوا يفترون ﴾أي بسبب افترائهم أو بمقابلة
﴿ وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ﴾ يعني أجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا ﴿ خالصة ﴾ الخالص ما شوب فيه والهاء فيه للتأكيد والمبالغة، وقال : الكسائي خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة، وقال : الفراء أدخلت الهاء لتأنيث الأنعام لأن ما في بطونها مثلها وقيل : نظرا إلى المعنى فإن معنى ما في بطونها الأجنة والمراد به حلال خاصة﴿ لذكورنا ومحرم على أزواجنا ﴾ أي نسائنا﴿ وإن يكن ميتة ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر وابن كثير ميتة على الفاعلية على أن يكون تامة لكن المكي قرأ يكن بالياء التحتانية والآخران بالتاء الفوقانية، لأن الفاعل مؤنث غير حقيقي أو لأن الميتة لفظه مؤنث ومعناه يعم الذكر والأنثى فجاز التذكير على التغليب والتأنيث على اللفظ، والباقون ميتة بالنصب على الخبرية غير أن أبا بكر عن عاصم قرأ تكن بالتاء للفوقانية مع أن الضمير راجع إلى الموصول نظرا إلى تأنيث الخبر أو المعنى فإن ما بطونها هي الأجنة والباقون بالتحتانية نظرا إلى لفظ الموصول ﴿ فهم ﴾ أي الذكر والأنثى ﴿ فيه ﴾ أي في الميتة، وذكر الضمير لأنه يعم الذكر والأنثى ﴿ شركاء سيجزيهم وصفهم ﴾ منصوب بنزع الخافض أي يوصفهم الله كذبا في التحليل والتحريم أو على المصدرية بحذف المضاف أي جزاء وصفهم ﴿ إنه حكيم ﴾ في جزائهم ﴿ عليم ﴾ بما يفعلون
﴿ قد خسر الذين قتلوا ﴾ قرأ ابن عامر وابن كثير بتشديد التاء على التكثير والباقون بالتخفيف ﴿ أولادهم سفها ﴾ جهلا﴿ بغير علم ﴾ بأن الله رازق أولادهم ويجوز نصبه على المصدرية أو الحال أي قتلا بغير علم أو كائنين بغير علم، قال : البغوي : نزلت الآية في ربيعة ومضر وبعض من العرب كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة الفقر والسبي وبنو كنانة لا يفعلون ذلك ﴿ وحرموا ما رزقهم الله ﴾ يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام﴿ افتراء على الله ﴾منصوب على العلية أو الحالية أو المصدرية يعني يفترون على الله افتراء أو حرموا مفترين أو للافتراء ﴿ قد ضلوا وما كانوا مهتدين ﴾ إلى الحق والصواب.
﴿ مهتدين الذي أنشأ جنات ﴾ بساتين ﴿ معروشات ﴾ قال : ابن عباس ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرش أي يرفع مثل الكرم والقرع والبطيخ ﴿ وغير معروشات ﴾ما قام على الساق ونسق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار، وقال : الضحاك كلاهما من الكرم منها ما عرش غرسه الناس فعرشوه ومنها ما نبت في البراري والجبال فلم يعرشه أحد ﴿ والنخل والزرع مختلفا أكله ﴾يعني ثمره في اللون والطعم والريح الضمير راجع إلى الزرع والباقي مقيس عليه أو إلى النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا أو للجميع على تقدير كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لأن وقت الإنشاء لا أكل له ﴿ والزيتون والرمان متشابها ﴾بعض أفرادها ببعض﴿ وغير متشابه ﴾بقيتها﴿ كلوا من ثمره ﴾أي من ثمرة كل واحد منها﴿ إذا أثمر ﴾وإن لم يدرك يعني أول وقت الإباحة طلوع الثمر ولا يتوقف على الإدراك أو يقال فائدة هذا القيد رخصة المالك في الأكل منه، قيل : أداء حق الله تعالى﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم حصاده بفتح الحاء والباقون بكسرها ومعناهما واحد كالصرام والصرام والجزار والجزار بالكسر والفتح فيهما. اختلفوا في هذا الحق، فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب أنه الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر لأن الأمر للوجوب ولفظ الحق غالب استعماله في الواجب والإجماع على أنه لا واجب في المال إلا الزكاة، وفي الصحيحين عن طلحة بن عبد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الإسلام فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكاة فقال هل علي غيرها ؟ قال( لا إلا أن تطوع )١ فعلى هذا القول هذه الآية مدنية وفيها حجة لأبي حنيفة حيث يقول يجب الزكاة في الثمار مثل الرمان خلافا لمالك والشافعي فإنه لا يجب الزكاة عندهما إلا فيما يقتات به وقد مر مسائل زكاة الزرع في سورة البقرة في التفسير قوله تعالى ﴿ أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ﴾ ٢وقال : علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم : هو حق في المال سوى الزكاة أمر بإتيانه لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة، قال : إبراهيم هو الضغث، وقال : الربيع لقاط السنبل. أخرج ابن مردويه والنحاس في ناسخه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال :( ما سقط من السنبل ) وقال : مجاهد كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مر، وقال : يزيد بن الأصم كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذ، ويؤيد هذا القول حديث فاطمة بنت قيس قالت قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن في المال لحقا سوى الزكاة ثم تلا﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ﴾ ٣ رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي، وقد مر في تفسير ا تلك الآية في البقرة فالمراد بالحق أعم من أن يكون واجبا أو مندوبا، وقال : سعيد بن جبير كان هذا حقا يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخا بإيجاب العشر قال : مقسم عن ابن عباس نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن ﴿ ولا تسرفوا ﴾ الإسراف ضد القصد كذا في القاموس، وفي الصحاح أنه التجاوز عن الحد في كل فعل، قيل : أراد هاهنا بالإسراف إعطاء الكل، قال : البيضاوي هذه الآية كقوله تعالى :﴿ ولا تبسطها كل البسط ﴾ ٤ قال : البغوي : قال : ابن عباس في رواية الكلبي : عمد ثابت بن قيس بن شماس فصرم خمسمائة نخلة فقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وكذا أخرج ابن جرير عن ابن جريج. قال : البغوي : قال : السدي لا تسرفوا أي لا تعطوا سائر أموالكم فتقعدوا فقراء، قلت : إعطاء الكل إنما يكون إسرافا منهيا عنه إذا لم يوصل إلى عياله ومن له عليه حق حقوقهم كذا قال : الزجاج وأما بعد أداء حقوق أهل الحقوق فإعطاء الكل في سبيل الله أفضل وليس بإسراف، قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو كان مثل أحد ذهبا يسرني أن لا يمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين )٥ رواه البخاري، وعن أبي ذر أنه استأذن على عثمان فأذن له وبيده عصاه فقال عثمان يا كعب إن عبد الرحمان بن عون توفي وترك مالا فما ترى فيه ؟ فقال إن كان يصل فيه حق الله فلا بأس به فرفع أبوة ذر عصاه فضرب كعبا وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( ما أحب لو أن لي هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل مني أذر خلفي منه ست أواق أنشدك بالله يا عثمان أسمعته ثلاث مرات، قال : نعم )٦ رواه أحمد، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال ما هذا يا بلال ؟ قال : شيء ادخرته لغد، فقال( أما تخشى أن ترى له غدا بخارا في نار جهنم يوم القيامة أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وعن أبي هريرة قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة أفضل ؟ قال :( جهد المقل وادأ بمن تعول )٧ رواه أبو داود. وقال : سعيد بن المسيب معنى لا تسرفوا لا تمنعوا الصدقة يعني لا تجاوزا الحد في الإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة، قال : مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام، قال : الزهري معناه لا تنفقوا في المعصية وقال : مجاهد الإسراف ما قصرت بها في حق الله عز وجل وقال : لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مد في معصية الله تعالى كان مسرفا، وقال : إياس بن معاوية ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف، وروى ابن وهب عن أبي زيد أنه قال : الخطاب في هذه الآية للسلاطين يقول الله تعالى لا تأخذوا فوق حقكم فهذه الآية نظير قوله صلى الله عليه وسلم ( إياكم وكرائم أموال الناس ) ٨ ﴿ إنه لا يحب المسرفين ﴾ لا يرتضي فعلهم
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: الزكاة من الإسلام (٤٦) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام(١١)..
٢ سورة البقرة، الآية: ٢٦٧..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الزكاة، باب: ما جاء في المال حقا سوى الزكاة(٦٥٢)..
٤ سورة الإسراء، الآية: ٢٩..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الاستقراض، باب: أداء الديون(٢٣٨٩)..
٦ رواه أحمد وفيه ابن لهيعة وقد ضعفه غير واحد. انظر مجمع الزوائد في كتاب: الزهد، باب: في الإنفاق والإمساك (١٧٧٥٨)..
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: الزكاة، باب: الرخصة في ذلك(١٦٧٦)..
٨ أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ: (فإياك وكرائم أموالهم) في كتاب: الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا (١٤٩٦)..
﴿ و ﴾ أنشأ﴿ ومن الأنعام حمولة ﴾ وهي كل ما حمل عليه كمن الإبل والبقر ﴿ وفرشا ﴾ وهي ما لا يحمل عليه من صغار الدانية إلى الأرض كالفصال والعجاجيل والغنم﴿ كلوا مما رزقكم الله ﴾ أمر إباحة وأدخل من التبعيضية لأن الرزق ليس كله مأكولا ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ أي طرقه في تحليل الحرام وتحريم الحلال﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾ ظاهر العداوة
﴿ ثمانية أزواج ﴾ بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا، ولا تتبعوا معترض بينهما أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة، والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول ﴿ من الضأن ﴾ اسم جنس وهي ذات الصوف من الغنم وجمعه ضئين أو الضان جمع ضائن والأنثى ضائنة وجمعها ضوائن ﴿ اثنين ﴾ زوجين الذكر والأنثى، أعني الكبش والنعجة بدل من حمولة إن جوز تعدد البدل ومن ثمانية أن جوز البدل من البدل﴿ ومن المعز ﴾ وهي ذات الشعر من الغنم، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالإسكان وهي جمع ماعز كصحب وصاحب، وقال : البغوي : وهو جمع لا واحد له من لفظه وجمع الماعز معزى وجمع الماعزة مواعز﴿ اثنين ﴾ الذكر والأنثى التيس والعنز﴿ قل ﴾ يا محمد﴿ الذكرين ﴾ أجمع القراء على إبدال الهمزة الثانية أو تسهيلها وكذا كلما دخل همزة الاستفهام على همزة الوصل نحو الله الآن يعني الذكر من الضأن والمعز﴿ حرم ﴾ أي حرمه الله تعالى﴿ أم الأنثيين ﴾ منهما ونصب الذكرين والأنثيين بحرم﴿ أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ﴾ يعني أعم من الذكر والأنثى من الجنين﴿ نبئوني بعلم ﴾ يعني أخبروني بأمر معلوم من عند الله تعالى يدل على تحريم ما تحرمونه﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في دعوى التحريم
﴿ ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل الذكرين حرم أم الأنثيين ﴾ كما سبق يعني شيء منهما لم يحرم وذلك أنهم كانوا يقولون هذه أنعام وحرث حجر قالوا في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام بعضها على النساء فقط وبعضها على الرجال والنساء جميعا، فلما جاء الإسلام قام مالك بن عوف أبو الأحوص الجشمي، فقال يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان أباءنا يفعلون ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد حرمتم أصنافا من النعم على غير أصل وإنما خلق الله تعالى هذه الأصناف الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى ) فسكت مالك بن عوف وتحير فلو قال : جاء هذا التحريم بسبب الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور ولو قال : بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الأنثى ولو قال : باشتمال الرحم وجب أن يحرم الكل فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض دون البعض فمن أين هو، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لمالك يا مالك لا تتكلم قال : له مالك بل نتكلم وأسمع منك﴿ أم ﴾ بل ﴿ كنتم ﴾ يا أهل مكة﴿ شهداء ﴾ حضورا ﴿ إذا وصاكم الله بهذا ﴾التحريم فإنكم لا تؤمنون بنبي ولا كتاب لكم فلا طريق لكم إلى المعرفة إلا المشاهدة والسماع ﴿ فمن أظلم ﴾ يعني لا أحد أظلم﴿ ممن افترى على الله كذبا ﴾ في التحريم والتحليل وغيرهما والمراد عمرو بن لحي الخزاعي ومن جاء بعده على طريقة ﴿ ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾
روي أنهم قالوا فما المحرم إذا فنزل.
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي ﴾ وهم يعم القرآن وغيره ولا وجه لتخصصه بالقرآن كيف والكلام في رد ما يزعمون من تحريم البحائر ونحوها بغير علم وذا لا يتم إلا بإرادة العموم فإن المقصود من هذا الكلام التنبيه أن التحريم وغيرها من الأحكام إنما يعلم بالوحي دون الهوى، ولا أجد ها هنا من أفعال القلوب ومفعوله الأول محذوف ومفعوله الثاني قوله تعالى﴿ محرم ﴾ واختار أكثر المفسرين تقدير طعاما محرما ليصبح استثناء الخنزير منه متصلا ﴿ على طاعم يطعمه ﴾ متعلق بمحرما﴿ إلا أن يكون ميتة ﴾ قرأ ابن عامر تكون بالتاء لتأنيث الفاعل وميتة بالرفع على الفاعلية ويكون حينئذ تامة، وقرأ ابن كثير وحمزة أيضا بالتاء نظرا إلى تأنيث الخبر وميتة بالنصب على الخبرية كجمهور القراء والباقون بالتاء التحتانية على أن الضمير المستتر فيه راجع إلى المحذوف المقدر أعني طعاما، والمستثنى في محل النصب على الحالية يعني لا أجد طعاما محرما في حال من الأحوال إلا حال كونه ميتة ما فارقه الروح حتف أنفه من غير فعل أحد فلا يدخل فيه الموقودة والمتردية والنطحية وما أكل السبع كما يدل عليه العطف في قوله تعالى ﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾١ الآية في سورة المائدة، ويدل عليه أيضا قوله الكفار تزعم يا محمد إن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام، وإنما تثبيت حرمة الموقوذة وأخواتها بغير هذه الآيات﴿ أو دما مسفوحا ﴾ أي مهراقا سائلا، قال : ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان وهو حي وما خرج من الأوداج عند الذبح ولا يخل فيه الكبد والطحال لأنهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما نصا وإجماعا، ولا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل ﴿ أو لحم خنزير فإنه ﴾ أي الخنزير لقربه﴿ رجس ﴾ أي قذر، ومن هذه الآية ثبت كون الخنزير نجسا عينه، ومن ثم لا يجوز بيع شيء من أجزائه ولا الانتفاع به ﴿ أو فسقا أهل لغير الله به ﴾ الجملة صفة لفسقا وهو معطوف على لحم خنزير وقوله فإنه رجس معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، سمى الله سبحانه ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق، وجاز أن يكون فسقا مفعولا له لأهل والجملة معطوفة على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون ﴿ فمن اضطر ﴾ أي دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك، ﴿ غير باغ ﴾ أي حال كونه غير باغ للذة وشهوة ولا باغ على مضطر مثله ﴿ ولا عاد ﴾ أي متجاوز قدر الضرورة ﴿ فإن ربك غفور رحيم ﴾ لا يؤاخذ وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة وذكرنا ما يتعلق به هناك.
مسألة : ذهب بعض العلماء إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء لانحصار التحريم بنص الكتاب فيها ول يجوز نسخ الكتاب بخبر الآحاد، يروي ذلك عن عائشة وابن عباس وبه قال : مالك فإنه يطلق الكراهة على ما سوى ذلك مما ورد النهي عنها في الحديث قالوا ويدخل في الميتة والمنخنقة والموقودة وما ذكر في أوائل سورة المائدة، قلت : دخول الموقودة وأخواتها في الميتة ممنوع كما ذكرنا، وقال : أكثر الأئمة أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لا يختص التحريم بهذه الأشياء، قال : البيضاوي الآية محكمة يعني غير منسوخة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهذا القول غير صحيح عندي فإن كل آية أو سنة نطقت بحكم غير مقيد بالتأبيد أو التوقيت فإنها مؤيدة ظاهرا نظرا إلى الاستصحاب وهو في علم الله مؤقت ولا يكون قابلا للنسخ إلا هذا القسم من النصوص فالناسخ يكون بيانا لمدة الحكم، ولذا سمي النسخ بيان تبديل كيلا يلزم على الله البدأ المستحيل، ولا شك أن هذه الآية تدل على حل ما عدا المذكورات في الوقت من غير دلالة على تأبيد الحل أو كونه منتهيا إلى وقت من أجل ذلك كانت الآية رد التحريم البحاير وأخواتها، واحتمال ورود التحريم بعد ذلك لا ينافي كون حلها حكما شرعيا ثابتا بنص الكتاب فالحكم الوارد بالنسبة، بعد ذلك بالتحريم يكون ناسخا للحل البتة فلا يصح ما قيل : إنه لا يلزم نسخ الكتاب بخير الواحد، فالأولى أن يقال قد لحقه التخصيص بالقطع الوارد في المنخنقة وأخواتها والوارد في تحريم الخمر فإنه أيضا من جنس الطعام فإن قوله تعالى ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾٢ الآية وارد في الخمر، والعام المخصوص بالبعض يجوز تخصيص بخبر الآحاد بل بالقياس أيضا، والقول باشتراط المقارنة، في التخصيص ممنوع بل كان ما يخرج بعض الأفراد عن الحكم من كلام مستقل فهو مخصص سواء كان متراخيا أو مقارنا وإنما الناسخ ما سلب الحكم عن جميع الأفراد، ولو سلمنا هذا الاشتراط فنقول حل جميع الحيوانات الثابت بهذا النص منسوخ بتحريم الخبائث الثابت بقوله تعالى :﴿ يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ﴾٣ لكن الطيبات والخبائث مجمل التحق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في تحريم السباع والحمر الأهلية وأمثالها بيانا للآية فالناسخ إنما هو الكتاب للكتاب والأحاديث بيان للكتاب أو نقول الأحاديث الواردة في تحريم السباع وغيرها وإن كانت من رواية الآحاد لكن تلقتها جميع الأمة بالقبول، ومالك رحمه الله وإن لم يقل بتحريم السباع وأمثالها لكنه يقول بالكراهية التحريمية عملا بتلك الأحاديث فلا شبهة في قبوله الأحاديث المذكورة فصارت الأحاديث المذكورة مجمعا عليها فجاز نسخ الكتاب بها لكونها قطعية بإجماع الأمة على قبولها، والاختلاف الواقع في الضبع والثعلب واليربوع والضب ولا يضر أبا حنيفة فإنه يقول الضبع والثعلب من السباع والضب واليربوع من الحشرات ولا خلاف في عدم جواز أكل السباع والحشرات وإنما الخلاف في كونها من السباع والحشرات وقد ذكرنا مسائل ما يحل من الحيوانات وما يحرم في سورة المائدة في تفسير قوله تعالى ﴿ اليوم أحل لكم الطيبات ﴾٤ الآية
١ سورة المائدة، الآية: ٣..
٢ سورة المائدة: الآية، ٩٣..
٣ سورة الأعراف، الآية: ١٥٧..
٤ سورة المائدة، الآية: ٥..
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾ وهي كل ماله أصبع كالإبل والسباع والطيور، قال : القتيبي هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين، سمى الحافر ظفره على الاستعارة، ولعل مسبب الظلم تعميم التحريم وإلا فبعضها محرم في ملة الإسلام أيضا ﴿ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورها ﴾ أي ما اشتمل على الظهور والجنوب ﴿ أو الحوايا ﴾ عطف على ظهورهما يعني ما اشتمل على الحوايا وهي الأمعاء جمع حاوية أو حاوياء﴿ أو ما اختلط بعظم ﴾ يعني شحوم الإلية لاتصالها بعجب الذنب والمخ فبقي بعد الاستثناء شحوم الجوف وهي الثروب وشحوم الكلي ﴿ ذلك ﴾ التحريم مفعول ثان لقوله تعالى ﴿ جزيناهم ﴾ عقوبة لهم﴿ ببغيهم ﴾ بسبب ظلمهم من قتل الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا وأكلهم أموال الناس بالباطل فإن قيل : من كان هذا شأنه لا يبالي بأكل ما حرم عليه فأي عقوبة وضيق عليهم بالتحريم ؟ قلت : لعل هذا التحريم لزيادة تعذيبهم في الآخرة. عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عام الفتح وهو بمكة :( إن الله رسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، قيل : أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح ؟ فقال :( لا حرام شحومها ) ثم قال : رسول الله :( لعن الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوه فأكلوا ثمنه )١ رواه البخاري وغيره والله أعلم ﴿ وإنا لصادقون ﴾ في الأخبار والوعد والوعيد
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما﴾ (٤٦٣٣)..
﴿ فإن كذبوك ﴾ يعني اليهود فيما أوحيت إليك هذا﴿ فقل ربكم ذو رحمة واسعة ﴾ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل ﴿ ولا يرد بأسه ﴾ عذابه﴿ عن القوم المجرمين ﴾ إذا جاء وقته أو المعنى ذو رحمة واسعة للمؤمنين وذو بأس شديد للمكذبين المجرمين فأقام مقامه ولا يرد بأسه للدلالة على أنه لازم بهم لا يمكن رده عنهم
﴿ سيقول الذين أشركوا ﴾ أخبار عن مستقبل ففيه إعجاز فإنه أخبار عن غيب وقع بعد ذلك وأنهم لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن جوابها استدلوا على كون ما هم عليهم مشروعا مرضيا لله تعالى بأنه ﴿ لو شاء الله ﴾ خلاف ما نحن عليه﴿ ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ﴾مما حرمناه يعني أن الله قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراد منا وأمرنا به الحال بيننا وبين ذلك، وهذا الاستدلال مبني على جهلهم وعدم تفرقهم بين المشيئة بمعنى الإرادة وبين الرضا فإن إرادته تعالى متعلق بالخير والشر ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون وأنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر ﴿ كذلك ﴾ أي مثل ما كذبوك في أن الله منع من الشرك ولم يرض به ولم يحرم ما حرموه﴿ كذب الذين من قبلهم ﴾ رسلهم﴿ حتى ذاقوا بأسنا ﴾ عذابنا الذين أنزلنا عليهم بتكذيبهم﴿ قل هل عندكم من علم ﴾مستنبط من كتاب أو حجة يفيد العلم بأنه تعالى راض عن الشرك وحرم ما حرموه أو المراد بالعلم أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعموا ﴿ فتخرجوه لنا ﴾ ولتظهروا ما أفادكم ذلك العلم وليس الأمر كذلك ولا يقولون إنهم يقولون عن علم﴿ إن تتبعون إلا الظن ﴾ الحاصل بتقليد الآباء ﴿ وإن أنتم إلا تخرصون ﴾ تكذبون والله أعلم
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ فلله الحجة البالغة ﴾التامة عليكم بأوامره ونواهيه ولا حجة لكم بمشيئته، فإن مشيئته لا يلازم رضاه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى حكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. احتج المعتزلة بهذه الآية على أن الكفر ليس بمشيئة الله تعالى وإرادته وإلا لما عابهم الله تعالى على قولهم لو شاء الله ما أشركنا ولما كذبهم الله في هذا القول، وبما ذكرنا لك من التفسير ظهر بطلان احتجاجهم بها وأن الله تعالى لم يكذبهم في هذا القول بل قولهم هذا يوافق قوله تعالى :﴿ فلو شاء لهداكم أجمعين ﴾ ولم يقل الله تعالى إنكم كاذبون في هذا القول بل عابهم على تكذيبهم الرسل في أن الله تعالى ليس براض بالكفر ناه عنه ولم يحرم ما يقولونه حراما،
وعابهم على زعمهم أن تحريمنا البحائر وأشباهها لما كان بمشيئة الله فهو راض عن ذلك التحريم وأن الله حرم هذه الأشياء حيث قال : الله تعالى ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ هلم ﴾ اسم فعل غير منصرف يقال للواحد والتثنية والجمع عند الحجاز ومعناه أحضروا ﴿ شهداءكم ﴾ أي قدوتكم في هذا القول استحضرهم ليلزم هم الحجة بأجمعهم ويظهر ضلالتهم، وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهادة بالإضافة إليهم ووصفهم بقوله﴿ الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾ الذي زعموه محرما﴿ فإن شهدوا ﴾ بالباطل ﴿ فلا تشهد معهم ﴾أي لا تصدقهم وبين لهم فسادها ﴿ ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا ﴾ كان الأصل لا تتبع أهوائهم وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير ﴿ والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون ﴾ غيره من الأصنام ونحوها،
ولما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وسلم عما حرمه الله تعالى بعد ظهور بطلان قولهم في التحريم، قال : الله تعالى.
﴿ *قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالولدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون( ١٥١ ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون( ١٥٢ ) وأن هذا صراط مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( ١٥٣ ) ﴾.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ تعالوا ﴾ أمر من التعالي وأصله فيمن كان في علو يقول لمن كان في سفل ثم اتسع فيه بالتعميم ﴿ أتل ما حرم ربكم ﴾ ما موصولة أو مصدرية منصوبة بأتل أو استفهامية منصوبة بحرم، والجملة مفعول أتل يعني أتل أي شيء حرم ربكم ﴿ عليكم ﴾ متعلق بحرم أو أتل، اسم فعل للإغراء بمعنى الزموا﴿ ألا تشركوا به ﴾ أن مصدرية على تقدير كون عليكم بمعنى ألزموا وإلا فمفسرة بفعل التلاوة يعني أتل عليكم لا تشركوا، وجاز أن يكون مصدرية في محل الرفع تقديره المتلو أن لا تشركوا أو في محل النصب تقديره أوصيكم أن لا تشركوا ويؤيد هذا التقدير قوله تعالى﴿ ذلكم وصاكم ﴾ وأن يكون أن مصدرية ولا زائدة ومحلها النصب على أنه بدل من الموصول أو من عائده المحذوف وتقديره حرم عليكم أن تشركوا أو محلها الرفع تقديره المحرم أن تشركوا به﴿ شيئا ﴾من الإشراك جليا ولا خفيا أو شيئا من الآلهة الباطلة ﴿ و ﴾ أحسنوا﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ معطوف على لا تشركوا، وضع الأمر موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة وفي شأنهما غير كاف وترك الإحسان بهما إساءة، وإن كان لا في لا تشركوا زائدة فالتقدير حرم عليكم أن تشركوا أو تسيئوا بالوالدين بل أحسنوا إحسانا ﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾ يعني لا تئدوا البنات ﴿ من ﴾ خشية ﴿ إملاق ﴾ فقر ﴿ نحن نرزقكم وإياهم ﴾في حديث معاذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات، قال :( لا تشرك بالله وإن قتلت وحرقت ولا تعقن والدك وإن أمرك أن تخرج من أهلك ومالك )١ الحديث، رواه أحمد، وفي حديث ابن مسعود قال : قال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أي الذنب أكبر عند الله ؟ قال :( أن تدعوا لله ندا وهو خلقك ) قال : ثم أي، قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك )٢ الحديث متفق عليه﴿ ولا تقربوا الفواحش ﴾ كبائر الذنوب والزنا﴿ ما ظهر منها ﴾ من أفعال الجوارح علانية﴿ وما بطن ﴾ يعني أفعال الجوارح سر وأفعال القلوب من النفاق وغيره ورذائل النفس، قوله ما ظهر وما بطن بدل من الفواحش ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ﴾ قتله من مؤمن أو معاهد﴿ إلا ﴾ قتلا متلبسا﴿ بالحق ﴾ أي بحق يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان أو نقض عهد أو بغي أو قطع طريق، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة )٣ رواه البغوي، وقال : الله تعالى﴿ وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ﴾٤ الآية، وقال : الله تعالى :﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ﴾٥ وقال : الله تعالى﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ﴾٦الآية. ﴿ ذلكم ﴾ من الأوامر والنواهي ﴿ وصاكم به ﴾ أمركم بحفظه﴿ ولعلكم تعقلون ﴾ ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد وضده السفه
١ رواه الطبراني في الكبير، ورجال أحمد ثقات إلا أن عبد الرحمان بن جبير بن نفير لم يسمع من معاذ، وإسناد الطبراني متصل وفيه عمرو بن واقد القرشي وهو كذاب.
أنظر مجمع الزوائد في كتاب: الوصايا، باب: وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم (٧١١٠)..

٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى:﴿فلا تجعلوا الله أندادا وأنتم تعلمون﴾(٤٤٧٧).
وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الشرك أعظم الذنوب وبيان أعظمها بعده (٨٦)..

٣ أخرجه مسلم في كتاب: القسامة، باب: ما يباح به دم المسلم (١٦٧٦)..
٤ سورة التوبة، الآية: ١٢..
٥ سورة الحجرات، الآية: ٩..
٦ سورة المائدة، الآية: ٣٣.
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم ﴾ فضلا من أن تأكلوا أو تضيعوه بفعله ﴿ إلا بالتي ﴾ أي بالفعلة التي﴿ هي أحسن ﴾ ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وصلاحه، قال : مجاهد : هي التجارة فيه﴿ حتى يبلغ ﴾ اليتيم﴿ أشده ﴾ جمع شد كفلس وأفلس يعني صفات كماله من البلوغ والرشد بعد البلوغ المنافي للسفه، وقيل : هي مفرد بمعنى كماله هذا القيد خرج مخرج العادة تأكيد إلا مفهوم له عند أحد فإنه كان معتاد أهل الجاهلية التصرف في ماله من أيام حتى يبلغ أشده فإذا بلغ أشده منع غيره من ماله، فقال الله تعالى : لا تقربوا مال اليتيم في شيء من زمان صباه وأما بعد ذلك فلا يمكن لكم التصرف فيه لأجل ممانعته، وقال : البغوي : تقدير الآية لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن أبدا حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا، قلت : وجاز أن يكون غاية للمستثنى يعني افعلوا بماله الفعلة التي هي أحسن حتى يبلغ أشده﴿ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ﴾ بالعدل والتسوية وضع الأمر موضع النهي يعني لا تنقصوا المكيال والميزان لكمال الاهتمام في الإيفاء فإن النهي يقتضي الأمر بضده التزاما والاهتمام في المطابقة والله أعلم ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ أي إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، ذكر هذه الجملة بعد الأمر بالإيفاء بالقسط إشارة إلى أن الأفضل أن يعطي من عليه الحق أكثر وأفضل مما وجب عليه تجوزا، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف من مرسل سعيد بن المسيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أوفى على يده والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ ) وذلك تأويل وسعها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء ثمن فرس وجب عليه( زن وأرجح )١ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن سويد بن قيس، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه فأغلظ له فهم به بعض أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ) ثم قال : أعطوه سنا مثل سنه، قالوا : يا رسول الله لا نجد إلا أمثل من سنه ؟ قال :( أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) ٢ وهو عند مسلم من حديث أبي رافع بمعناه، وعن أبي هريرة قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فأعطاه وسقا فقال : نصف وسق لك ونصف وسق من عندي ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فأعطاه وسقين، فقال( وسق لك ووسق من عندي )٣ رواه الترمذي وسنده لا بأس به. وكذا الأفضل أن يرضى صاحب الحق من حقه سماحة، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى )٤ رواه البخاري، لكن الله سبحانه لم يوجب إعطاء أكثر مما وجب عليه ولا الرضا بأقل مما له تفضيلا فإنما ذلك شاق على النفوس وذلك قوله تعالى﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ وهذه الأحاديث يؤيد مذهب الشافعي حيث، قال : إن أهدى المستقرض إلى المقرض شيئا أو حمله على دابة أو أسكنه في داره ولم يكن ذلك عادة بينهما أو أعطى أكثر مما أخذ منه أو أجود، يجوز ذلك إن كان بغير شرط سبق خلافا للأئمة الثلاثة فإن ذلك يكره عندهم ولا يحل له أخذ ذلك وقد مر المسألة في سورة البقرة في تفسير آية المداينة ﴿ وإذا قلتم ﴾ في الحكم أو الشهادة ﴿ فاعدلوا ﴾ فيه ﴿ ولو كان ﴾ المقول له أو عليه﴿ ذا قربى ﴾ لكم هذا أيضا أمر وضع موضع النهي عن الجور والكذب تأكيدا في العدالة حتى لا يجوز الشهادة على الظن والتخمين بل على كمال العلم كما يدل عليه لفظة الشهادة، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثلاث مرات ثم قرأ ﴿ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور( ٣٠ ) حنفاء لله مشركين به ﴾ ٥ رواه أبو داود وابن ماجة عن خريم بن فاتك، وأحمد والترمذي عن أيمن بن خريم إلا أن ابن ماجة لم يذكر القراءة. وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( القضاة اثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ) ٦ رواه أبو داود ﴿ وبعهد الله ﴾ يعني بما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع من الأوامر والنواهي أو بالنذر واليمين ﴿ أوفوا ﴾ هذا أيضا أمر في موضع النهي تأكيدا يعني لا تنقضوا عهد الله بعد ميثاقه ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ومقتضى التأكيد والمبالغة في إتيان الأوامر والنواهي أن يجتنب الشبهات، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه )٧ الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير، وروى الطبراني في الصغير لسند صحيح عن عمر مرفوعا ( الحلال بين والحرام بين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )﴿ ذلكم ﴾ ما ذكر ﴿ وصاكم ﴾ أمركم به ﴿ لعلكم تذكرون ﴾ قرأ حمزة الكسائي وحفص بتخفيف الذال حيث وقع في القرآن إذا كان بالتاء الفوقانية بحذف إحدى التائين من التفعل، والباقون بتشديد الذال وأصله تتذكرون
١ أخرجه الترمذي في كتاب: البيوع، باب: ما جاء في الرحجان في الوزن (١٣٠٥) وأخرجه أبو داود في كتاب البيوع: باب: غفي الرحجان في الوزن بالأجر (٣٣٣٤) وأخرجه النسائي في كتاب: البيوع، باب: الرحجان في الوزن(٤٥٨٩) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: التجارات، باب: الرحجان في الوزن(٢٢٢٠)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الوكالة، باب: وكالة الشاهد جائزة (٢٣٠٥) وأخرجه مسلم في كتاب: المساقاة، باب: من استلف شيئا فقضى خيرا منه(١٩٠١)..
٣ رواه البزار وفيه أبو صالح الفراء لم أعرفه وبقية رجاله الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: البيوع، باب: حسن القضاء وقرض الخمير وغيره(٦٦٩١)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: البيوع، باب: السهولة والسماحة في شراء والبيع ومن طلب فلطلبه في عفاف (٢٠٧٦)..
٥ أخرجه أبو داود في كتاب: القضاء، باب: في شهادة الزور (٣٥٩٥) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الأحكام، باب: شهادة ازور (٢٣٧٢)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب الأحكام، باب: ماجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي '١٣٢٢°وأخرجه أبو داود في كتاب القضاء، باب: القاضي يخطا (٣٥٧٠).
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (٥٢) وأخرجه مسلم في كتاب: المسقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات (١٥٩٩)..
﴿ وأن هذا ﴾ قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف، والباقون بفتح الهمزة لكن قرأ ابن عامر ويعقوب بإسكان النون على أنها مخففة من المثقلة واسمه ضمير الشأن محذوف والباقون بالتشديد، قال : الفراء تقديره وأتل عليكم أن هذا ﴿ صراطي ﴾ قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ مستقيما ﴾ حال من الصراط والعامل معنى الإشارة يعني أن هذا الذي ذكر في جمع السورة والتوحيد والنبوة والشرائع طريقي وديني، قلت : وجاز أن يكون أن في محل الجر عطفا على الضمير المجرور في وصاكم به يعني ووصاكم بأن، وقال : البيضاوي بتقدير اللام على أنه علة لقوله تعالى ﴿ فاتبعوه ﴾ وقيل : المشار إليه بهذا ما في هذه الآيات، قال : البغوي : هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء وهن محرمات في جميع الشرائع على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار﴿ ولا تتبعوا السبل ﴾ أي الطرق المختلفة على حسب الأهواء فإن مقتضى الشرع إتباع الكتاب والسنة فيما أدركه العقل وفيما لم يدركه ومقتضى إتباع الآراء الفاسدة أنه إن وافقها الكتاب والسنة قبلوهما وإن خالفها أولوا الكتاب واتبعوا الأهواء وهذا منشأ اختلاف الشيع فصارت روافض وخوارج ومجسمة وجبرية وقدرية وغيرهم، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ﴾ ١﴿ فتفرق ﴾ تلك السبل﴿ بكم ﴾ ويزيلكم﴿ عن سبيله ﴾ الذي هو إتباع الوحي ﴿ ذلكم ﴾ الإتباع ﴿ وصاكم به لعلكم تتقون ﴾ الضلال والتفرق عن الحق عن عبد الله بن مسعود 'قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال :'هذا سبيل الله ) ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماه وقال :( هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ) وقرأ﴿ وأن هذا صراط مستقيما فاتبعوه ﴾ ٢ الآية رواه أحمد والنسائي والدارمي، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ) ٣ رواه البغوي : في شرح السنة، وقال : النووي في أربعينه هذا حديث صحيح.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٠..
٢ رواه أحمد والبزار وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعف.
أنظر مجمع الزوائد في كتاب: التفسير، باب: سورة الأنعام (١١٠٠٥)..

٣ أخرجه الترمذي الحكيم وأبو نصر السجزي في الإبانة وقال حسن غريب والخهطيب عن ابن عمرو انظر كنز العمال (١٠٨٤)..
﴿ ثم أتينا موسى الكتاب ﴾ عطف على وصاكم وثم للتراخي في الإخبار يعني ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل : ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك إنا أتينا موسى الكتاب، أو عطف على قل بتقدير قل يعني ثم قل آتينا موسى الكتاب أو يقال ثم مع الجملة يأتي بمعنى الواو كما في قوله تعالى :﴿ ثم الله شهيد ﴾١ قلت : ويمكن أن يقال : إن قوله تعالى وصاكم خطاب للناس أجمعين من لدن آدم عليه السلام إلى الآن تغليبا للحاضرين على الغائبين، وثم للتراخي في الحكم والمعنى وصيناكم أيها الناس من بدو خلقكم بما ذكرنا من الشرائع فإنها لم تزل في جميع الشرائع ثم آتينا موسى الكتاب وشرعنا فيه أحكاما أخر﴿ تماما ﴾ للنعمة والكرامة﴿ على الذي أحسن ﴾ القيام بالشرائع المتقدمة وأما من لم يؤمن بالله وحده ولم يأتي بالشرائع المذكورة فلا انتفاع له بالتوراة ولا بالقرآن ولم يتم النعمة والمراد بالذي أحسن موسى عليه السلام يعني تماما عليه النعمة، وقيل : الذي أحسن بمعنى من أحسن يعم الواحد والمجتمع يعني تماما على من أحسن من قوم موسى يدل عليه قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا، وقال : أبو عبيدة : معناه على كل من أحسن يعني أتممنا فضل موسى بالكتاب على المحسنين يعني أظهرنا فضله عليهم ومحسنون الأنبياء﴿ وتفصيلا ﴾ بيانا مفصلا ﴿ لكل شيء ﴾ يحتاج إليه في الدين وهو عطف على تماما ونصبهما مع ما عطف لا عليهما للعلية أو الحالية أو المصدرية ﴿ وهدى ورحمة لعلهم ﴾ أي الناس في زمن موسى يعني بن إسرائيل﴿ بلقاء ربهم ﴾ أي بالعبث والثواب والعقاب ﴿ يؤمنون ﴾
١ سورة يونس، الآية: ٣٦،.
﴿ وهذا ﴾ القرآن﴿ كتاب أنزلناه ﴾ عليك بعد موسى﴿ مبارك ﴾ أكثر خيرا وبركة من التوراة ولو جاز نظمه وكثير علومه وكونه بمنزلة المركز من المحيط للدائرة ﴿ فاتبعوه ﴾في نسخ أحكام التوراة ﴿ واتقوا ﴾عذاب الله في مخالفته ﴿ لعلكم ترحمون ﴾باتباعه
﴿ أن تقولوا ﴾ خطاب لأهل مكة يعني لئلا تقولوا أو كراهة أن تقولوا علة لأنزلنا، وقال : الكسائي : معناه واتقوا أن تقولوا﴿ إنما أنزلنا الكتاب على طائفتين من قبلنا ﴾يعني اليهود والنصارى والاختصاص بإنما لأن الباقي المشهور من الكتب السماوية حينئذ لم يكن غير التوراة والإنجيل ﴿ وإن ﴾ مخففة من الثقيلة ولذا دخلت اللام الفارقة في خبرها ﴿ كنا ﴾ يعني وأنه كنا﴿ عن دراستهم ﴾قراءتهم ﴿ لغافلين ﴾ لم تعرف شرائع لكوننا أمة أميين فبعث الله محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل القرآن ليكون حجة على الكافرين من أهل مكة ويزيل اعتذارهم ويكون رحمة للعالمين
﴿ أو تقولوا ﴾ عطف على الأول يعني أو كراهة أن تقولوا﴿ لو ﴾ تبت ﴿ أنا أنزل علينا الكتاب ﴾ كما أنزل على من قبلنا﴿ لكنا أهدى منهم ﴾ قال : البغوي : وقد، قال : جماعة من الكفار لو أنا أنزل علينا كما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم قال : الله تعالى :﴿ فقد جاءكم بينة من ربكم ﴾ حجة واضحة بلغة تعرفونها وتعجزون عن إتيان أقصر سورة مثلها﴿ وهدى ﴾ بيانا لمن تأمل فيها﴿ ورحمة ﴾ نعمة لمن عمل بها جزاء شرط محذوف يعني أن صدقتم فيما قلتم فقد جاءكم ما تمنيتم مع وضوح كونه حجة ساطعة وبرهانا قاطعا﴿ فمن ﴾ يعني لا أحد ﴿ أظلم ممن كذب بآيات الله ﴾ بعد وضوح كونها من الله وبعد تمني مجيئها ﴿ وصدف ﴾يعني أعرض أو صد ﴿ عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا ﴾وضع الظاهر موضع المضمر للمبالغة في ذمهم﴿ سوء العذاب ﴾ أي شدته﴿ بما كانوا يصدفون ﴾أي بإعراضهم أو صدهم
﴿ هل ينظرون ﴾ استفهام للإنكار أي ما ينتظرون أهل مكة لإيمانهم بالقرآن ﴿ إلا أن تأتيهم ﴾ قراءة حمزة والكسائي بالياء التحتانية هاهنا وفي النحل على التذكير والباقون بالفوقانية لكون الفاعل مؤنث غير حقيقي﴿ الملائكة ﴾ يعني ملائكة الموت أو ملائكة العذاب أو ملائكة يشهدون عيانا بصدق الرسول وحقية القرآن، والحاصل أنهم لما لم يؤمنوا بعد مجئ ما كانوا يتمنون مجيئه وبعد وضوح أمره وسطوع برهانه فلعلهم ينتظرون إتيان الملائكة حتى يؤمنوا حينئذ مع أن الإيمان في تلك الحالة غير مفيد، وقال : البيضاوي : معناه ما ينتظرون إلا إتيان الملائكة شبهوا بالمنتظرين لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، وجاز أن يكون المراد بإتيان الملائكة نزولهم يوم القيامة في المواقف كما يدل عليه قوله تعالى﴿ أو يأتي ربك ﴾ بل كيف لفصل القضاء بين خلقه في موقف
القيامة وقد مر نظير هذه الآية في سورة البقرة ﴿ هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام الملائكة وقضى الأمر ﴾ ١ وقد مر تفسيره وما فيه خلاف السلف و الخلف يعني أشراط الساعة قال : البغوي : يعني طلوع الشمس من مغاربها وعليه أكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا.
فصل في أشراط الساعة : عن حذيفة ابن أسيد الغفاري قال : أطلع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر في الساعة فقال :( إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغاربها، ونزول عيسى بن مريم، وياجوج ومأجوج، وثلث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك النار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) وفي رواية ( نار يخرج من قعر عدن يسوق الناس إلى المحشر ) وفي رواية ( العاشر الريح تلقي الناس في البحر )٢ رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمر وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وإياهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريبا ) ٣ رواه مسلم، وعن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال فقال :( إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرء حجيج نفسه والله خليفة على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فأثبتوا، قلنا : يا رسول الله وما لبثه في الأرض ؟ ) قال : أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وساير كأيامكيامكم م، قلنا : فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا أقدروا له قدره، قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح فيتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر الأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراعا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليهم قوله فينصرف منهم فيصبحون محلين ليس فبأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول بها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعوا رجلا ممتلئا شبابا فيضر به بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند منارة البيضاء شرق دمشق بين مهروذيتن واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثال جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث لا ينتهي طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله، ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجههم ويحدثهم بدرجات في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي يدان لأحد لقتالهم فحرز عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها فيمر آخرهم فيقولنا لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من في الأرض هلم فلنقتل من في السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دما ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثورة لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب النبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة ثم يهبط النبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب النبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فيحملهم فيطرحهم حيث شاء الله ) وفي رواية ( فيطرحهم في النهبل ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبار فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقول للأرض أنبتي ثمرتك وديري بركتك فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي القيام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فيقبض روح كل مِؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون يختلطون منها تهارج الحمر فعليهم يقوم الساعة )٤ رواه مسلم إلا الرواية الثانية وهي قوله ( يطرحهم بالنهبل ) إلى قوله ( سبع سنين ) رواه الترمذي، وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونار فأما الذي يراه الناس ماء فنار خرق وأما الذي يراه الناس نار فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نار فإنه ماء عذب طيب ) متفق عليه، وزاد مسلم ( وإن الدجل ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب )، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ( أنه يجيء ومعه مثل الجنة والنار فالتي يقول أنها الجنة هي النار )وكذا عند مسلم من حديث حذيفة، وفي حديث أبي سعيد عند مسلم ( إذا رآه يعني الدجال المؤمن، قال : يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر الدجال فيؤشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشي الدجال بين القطعتين ثم يقول قم فيستوي قائما ثم يقول أتؤمن بي فيقول ما إزددت منك إلا بصيرة ) الحديث، وفي الحديث أسماء بنت يزيد رواه أحمد ( إن من أشد فتنة الدجال أنه يأتي الأعرابي فيقول أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى فيتمثل له الشياطين نحو إبله كأحسن ما يكون ضروعا وأعظمه أسنمة، يأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه ) الحديث :
فصل : ويكون قبل تلك الآيات ظهور المهدي. عن أبي مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسل ( لو لم يبق من الدنيا إلا يوم ليطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلا مني أو من أهل بيت يواطيء أسمه اسمي واسم أبيه واسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا )٥ وروى الترمذي بلفظ ( لا يذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيت أسمه اسمي ) وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أجل أهل المدينة هاربا إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشم وعصائب أهل العراق فيبايعونه، ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ذلك بعث كلب ويعمل في الناس بسنة نبيهم ويلقى الإسلام بجرانه في الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى عليه المسلمون ) رواه أبو داود، وروى أبو داود عن علي أنه نظر إلى ابنه الحسن وقال : إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض
عدلا، وعن أبي سعيد في قصة المهدي قال :( فيجيء الرجل فيقول يا مهدي أعطني أعطيني قال : فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله )٦ رواه الترمذي، وعند الحاكم في المستدرك ( يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا يدعوا السماء من قطرها شيئا إلا صبته مدرارا ولا يدع الأرض من نباتها شيء إلا أخرجته حتى يتمنى الإحياء الأموات يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان أو تسع ) ﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانه ﴾ حينئذ كالمحتضر إذا صار الأمر عينا والإيمان واجب بالغيب ﴿ لم تكن أمنت من قبل ﴾الجملة صفة لنفس ﴿ أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾عطف على أمنت احتج بهذه الآيات ما لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل لأن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يؤمن قبل ذلك اليوم ولا نفسا لم تكسب قبل ذلك اليوم خيرا في إيمانها، قلنا : هذه الآيات لا تدل على عدم نفع إيمان من لم يكسب فيه خيرا مطلقا بل على عدم نفع إيمانه في ذلك اليوم خاصة، وأيضا أحد الأمرين على تنكير إذا جاءت في حيز النفي يعم الأمرين كما في قوله تعالى :﴿ ولا تطع منه أثما أو كفورا ﴾٧ يعني لا تطع أثما ولا كفورا فمعنى الآيات لا ينفع الإيمان نفسا لم تؤمن ولم تكسب فيه خيرا، وقال : البغوي : معنى الآية لا يقبل حينئذ إيمان كافر ولا توبة، فاسق فالمراد بالإيمان في إيمانها توبة بعموم المجاز فإنه يشتمل التوبة عن الكفر والتوبة عن المعاصي، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق من لم يطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى :﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن أمنت من قبل ﴾٨ رواه الترمذي وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال، وروى مسلم من حديث أبي موسى الأشعري : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار لتوبة مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها )٩ وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلممن تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه ) وروى أحمد وأبو داود والدارمي عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا ينقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من التوبة )١٠. وقد ورد الأحاديث بلفظ الإيمان من غير لفظ التوبة منها ما روى البغوي : بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس أمنوا أجمعون وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها )١١ وتأويل هذه الأحاديث لا يكون إلا أن يقال معناه لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيرا إيمانها أي تحصيل الإيمان في ذلك اليوم بعد ما لم يكن.
ولعل قوله تعالى :﴿ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خير ﴾ تدل على أن من كان كافرا قبل ذلك لا
١ سورة البقرة، الآية: ٢١٠..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن واشراط الساعة، باب: في الآية التي تكون قبل الساعة(٢٩٠١).
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن واشراط الساعة، باب: خروج الرجال ومكثه في الأرض (٢٩٣١)..
٤ أخرجه مسلم فيكتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الرجل وصفته وما بعده(٢٩٣٧)..
٥ أخرجه أبو داود في كتاب: المهدي (٤٢٧٥).
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في المهدي(٢٢٣٢)...
٧ سورة الإنسان، الآية: ٢٤..
٨ -أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار ما ذكر من رحمة الله لعباده(٣٥٣٦)..
٩ أخرجه مسلم في كتاب: التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب وتكررت الذنوب والتوبة.(٢٧٥٩)..
١٠ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في الهجرة هل انقطعت (٢٤٧٧)..
١١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان(١٥٨)..
﴿ إن الذين فرقوا دينهم ﴾ قرأ حمزة والكسائي فارقوا من المفاعلة يعني خرجوا من دينهم وتركوه والباقون فرقوا من التفعيل يعني أمنوا ببعض وكفرو ببعض أو المعنى أنه صاروا فرقا مختلفة، قال : مجاهد وقتادة السدي هم اليهود والنصارى تهود قوم وتنصر قوم وكان دين واحد وهذا ليس بسديد لأن تهودهم ابتنى على بعوث موسى ومجيئه بشرع جديد وتنصر آخرين على بعثة عيسى، وكان أصول دين اليهود والنصارى واحدا هي أصول دين إبراهيم وإنما كفر يهود بإنكارهم نبوة عيسى ومحمد صلى الله عليهما وكفر النصارى بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذا ليس بمراد من هذه الآية، بل المراد هاهنا تخليطهم في دينهم ما ليس منه بأهوائهم وإغواء الشياطين فالذين افترقوا في دينهم يعم الذين اتبعوا أهوائهم من الأمم السابقة ومن أصحاب البديع والأهواء من هذه الأمة. عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليأتين على أمتي كما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن من كان منهم أتى أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلاثة وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي رسول الله ؟ قال :( ما أنا عليه وأصحابي )١ رواه الترمذي وفي رواية أحمد وأبي داود عن معاوية ( اثنتان وسبعون في النار وواحد في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج في أمتي أقوام يتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه زق ولا مفصل إلا دخله ) ٢ وفي رواية من حديث أبي هريرة( افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على اثنان وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاثة وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة ) رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه، قال : البغوي : روي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :( يا عائشة إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء من هذه الأمة ) أخرجه الطبراني وغيره بسند جيد، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم نحوه، وعن العرباض بن سري قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل بوجوهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال : رجل يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع فأوصنا، فقال :-أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإن من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )٣ رواه أحمد وأبو داود والترمذي ابن ماجة إلا أنهما لم يذكر الصلاة، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أتباع السواد الأعظم ومن شذ شذ في النار ) ذكر صاحب المصابيح ورواه ابن ماجة عن أنس، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة )٤ وعن أبي ذر رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويدا الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار )٥ رواه الترمذي، وعمن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلممن فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه )٦ رواه أحمد وأبو داود، الجماعة جماعة الصحابة ومن تبعهم. أعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وأعطاه كتابه ومثله معه من العلم بالوحي الغير المتلو ومن الكتاب نصوص محكمات لا شبهة في مرادها وأخر خفيات ومشكلات ومجملات ومتشابهات التزم الله سبحانه على نفسه بيانها للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال :﴿ ثم إنا علينا بيانه( ١٩ ) ﴾٧ ثم علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمه الله أصحابه وعلموه حتى انتهى إلينا، فسعادة ابن آدم أن يتبع كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين ويتبع في تأويل ما خفي مراده من الكتاب والسنة ما اختاره الصحابة من التأويل، وأما أهل الأهواء اتبعوا عقولهم وأهوائهم كما وافق من الكتاب آراءهم أخذوه وآمنوا به وما لم يصاعده عقولهم أنكروه وكفروا به فأنكروا روية الله سبحانه في الآخرة وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط والحساب، وكون كلام الله غير مخلوق وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة وأجمع عليه الصحابة ففارقوا دينهم وفرقوا كتاب الله أمنوا ببعضه وكفروا ببعضه هذا طريق المعتزلة وكثير منهم، وقالوا بوجوب الأصلح على الله سبحانه وإمتناع المغفرة وأنكروا القدر وقالوا إنا العبد خالق لأفعاله دون الله تعالى ولذلك سموا بموجس هذه الأمة قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القدرية مجوس هذه الامة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم )٨ رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر، وقال عليه السلام ( صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ) رواه الترمذي، وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبي يجاب : الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذله الله ويذل من أعزه الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عثرة ما حرم الله والتارك لسنتي ) رواه البهيقي في المدخل ورزين في كتابه. قلت : الزائد في كتاب الله الروافض يزعمون غير ما بين في المصحف قرآنا ويحكمون أن الصحابة أخرجوه من القرآن ولا يؤمنون بقوله تعالى :﴿ وإنا له لحافظون ﴾٩ و المكذب بقدر الله القدرية، والمستحل من عثرته صلى الله عليه وسلم الخوارج، والتارك لسنته سائر المبتدعة ومن أهل الهواء ومن اتبع المتشابهات الكتاب بناء على زيغ في قلوبهم ولم يقتفوا السلف في تأويلها والإيمان بها وذلك دأب المجسمة والمشبهة وأمثالهم وأما الروافض ففارقوا دينهم بالكلية فإن الدين مستفاد من الكتاب والسنة والإجماع فهم تركوا كتاب الله وأنكروا الوثوق حيث قالوا إن عثمان حذف من القرآن قريبا من الربع وزاد فيه ما زاد ما تركوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ادعوا كفر جميع الصحابة وارتدادهم ولا سبيل إلى معرفة الأحاديث إلا بالسمع ولا يتصور السمع إلا بتوسط الصحابة، وأنكروا إجماع الصحابة وبنوا دينهم على مفتريات مزخرفات نسبوه إلى الأئمة جعفر الصادق ومحمد الباقر وآبائه الكرام، ولما ثبت بالتواتر إثر الأئمة مطابقا لأثار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ادعوا افتراص التقية، وقالوا : كان ظاهر كلام الأئمة مبنيا عل التقية وما وصل إلينا علموا أسلافنا سرا مختفين قائلين لا تفشوا هذه الأسرار فإن للجدران آذان وأنت تعلم أن ما كان مرويا على سبيل الإخفاء والإسرار لا يحتمل الشهرة والتواتر وأن أخبار الآحاد إن كان من الثقات لا يفيد العلم إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، كيف إذا كان رواة الأخبار آحادا من الكذابين إلا بالسنة مثل عبد الله بن سبأ يهودي المنافق وهشام بن سالم وهشام بن حكم وزيد بن جهيم والهلالي وشيطان الطاق وديك الجن الشاعر وغيرهما ذكرنا أحوالهم وأحوال غيرهم من رجال الروافض في السيف المسلول فلعل من إعجاز القرآن الإشارة إلى فرق الروافض الذين يسمون أنفسهم شيعة بقوله تعالى :﴿ وكانوا شيعا ﴾ أي فرقا تشبع على فرقة منهم إماما على زعمهم، عن علي عليه السلام قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فيك مثل من عيسى أبغضه اليهود حتى بهتوا أمه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له ) ثم قال : علي : يهلك في رجلان محب مفرط يفرطنني بما ليس في ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني ) رواه أحمد، وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يكون في أتي قوم يسمعون الرافضة يرفضون الإسلام ) رواه البيهقي، وعنه عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال :( سيأتي بعدي قوم لهم يقال لهم الرافضة فإن أدركتهم فاقتلهم فإنهم مشركون، قال : قلت يا رسول تالله ما العلاقة فيهم ؟ قال : يفرظونك بما ليس فيك ويطعنون على السلف ) رواه الدارقطني، وأخرج الدارقطني من طريق آخر نحوه وزاد فيه( ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك، وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر ) في الباب أحاديث أخر ذكرناها في السيف المسلول ﴿ لست ﴾ يا محمد ﴿ منهم في شيء ﴾ يعني أنت بريء منهم وهم براء منك يقول العرب إن فعلت كذا فليست مني ولا أنا منك﴿ إنما أمرهم ﴾ في الجزاء والمكافأة﴿ إلى الله ﴾ يعني يجزيهم على قدر تباعدهم عن الحق ﴿ ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ إذا وردوا يوم القيامة يعني يجزون أولا على تفرقهم في دينهم وسوء اعتقادهم ثم يجزون على أفعالهم ومعاصيهم
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في الإفتراق هذه الأمة (٢٦٤١)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: شرح السنة(٤٥٨٥).
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في اللوازم السنة (٥٥٩٥) وأخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة والإجتناب البدع (٢٦٧٦) وأخرجه ابن ماجة في المقدمة، باب: اجتناب البدع والجدل(٤٦)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في لوزم الجماعة(٢١٩٢)..
٥ رواه أحمد و الطبراني و رجال أحمد ثقات إلا إأن العلاء إبن زيد قيل لم يسمع من معاذ. أنظر مجمع الزوائد في الكتاب الخلافة، باب: لوزم الجماعة وطاعة الأئمة والنهي عن قتالهم(٩١٠٨)..
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في خروج (٤٨٤٥)..
٧ سورة القيامة، الآية١٩..
٨ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر(٤٦٧٩)..
٩ سورة الحجر، الآية: ٩....
{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أي فله جزاء عشر حسنات أمثال ما فعل من الحسنة حذف المضاف إلى عشر وأقيم صفة الجنس المميز مقام الموصوف ولي في هذا المقام إشكال، وذلك أن جزاء الحسنات والسيئات ومقدر بتقدير الله تعالى لا مدخل للرأي فيه إذ لا مماثلة بين عمل وجزائه يعرف بالحس أو العقل أو غير ذلك فالجزاء للحسنة ما قدر الله تعالى له جزاء الأ ترى إلى أن أجرة أجير يستأجر في الدنيا بعمل إنما يتقدر بالعقد إذ لا مماثلة بين العمل والدراهم مثلا، فعل هذا لا يتصور أن يقال من عمل حسنة يعطى له جزاء عشر أمثالها إلا إذا كانت هذه الحسنة تجزى جرة أجير يستأجر في الدنيا بعمبعمل ببب/ننننتتتاااااااتفنتفخثفثبببممتتاتتلللبلببتتفي بعض الأفراد بعشر هذا الجزاء فإنه إن أعطى عمل درهما وأعطى آخر على تلك العمل عشرة دراهم يقال حينئذ أعطى هذا جزاء عشرة أمثال عمله وأما إذا كان كل أحد مثلا يعطى على مثل تلك العمل عشرة دراهم فيكون حينئذ جزاء هذا العمل عشرة دراهم ليس إلا عشرة فكيف يقال أنه أعطى جزاء عشرة أمثال عمله، فالظاهر عندي في تأويل الآية أنها ليست على عمومه وأن جزاء كل حسنة أدناه مقدر في علم الله تعالى بتقدير الله تعالى يعطي بعض المكلفين ذلك الأدنى ثم يضاعف الله تعالى ذلك الجزاء على حسب إخلاص العبد، ومراتب قربه من الله تعالى أو تفضلا منه تعالى لمن يشاء من عباده فيضاعف من يشاء عشر أمثالها إلى سبعين أو إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله بغير حساب. ويدل على ما قلت حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل )١ متفق عليه وجه الدلالة أنه عليه السلام علق التضعيف بحسن إسلامه وحسن الإسلام بتصفية القلب وتزكية النفس المستوجبات للإخلاص في العمل، ويمكن أن يقال ثواب رجل من رجال أمة محمد صلى الله عليه وسلم عشرة أمثال ثواب رجل من الأمم السالفة يدل عليه حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما أجلكم من أجل من خلا من الأمم ما بين العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال : من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر قيراط قيراط، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قراطين ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين، فغضب اليهود والنصارى فقالوا : نحن أكثر عملا وأقل إعطاء، قال الله تعالى فهل ظلمتم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا، قال الله تعالى : فإنه فضلي أعطيه من شئت )٢ رواه البخاري، قلت : والتأويل الأول أوجه لأن الحديث يدل على تضعيف عمل هذه الأمة على الذين من قبلهم مرة لا عشر مرار فلعل أدنى رجل من رجال هذه الأمة يعطي ضعف أجر من كان في الأمم السابقة يضاعف إلى عشرة أمثاله أو سبعين أو سبعمائة أو إلى ما شاء الله تعالى على حسب الإخلاص وتفضيلا منه تعالى والله أعلم.
﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ﴾يضاعف السيئة في حق أحد من الناس كما يدل عليه قوله تعالى﴿ هم لا يظلمون ﴾ عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلمقال الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد من جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها وأغفر، من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذرعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي لقيته بمثلها مغفرة )٣ رواه البغوي، قلت : معنى قوله لقيته بمثلها مغفرة يعني إن شئت بدليل قوله فجزاء سيئة بمثلها، قال البغوي : ابن عمر الآية في غير الصدقات من الحسنات فأما الصدقات تضاعف إلى سبعمائة ضعف، قلت : إنما قال : ابن عمر هذا نظرا منه إلى قوله تعالى :﴿ مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ﴾٤ وزعما منه بتخصيص هذا الحكم بالصدقات وليس كذلك وقد، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة )٥ رواه مسلم وأبو داود وابن ماجة وغيرهما من حديث أبي ذر، بل ذكر الله تعالى أكثر ثوابا من الصدقات، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عمد مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا بلى، قال : ذكر الله )٦ رواه ابن ماجة والترمذي والحاكم وأحمد عن أبي الدرداء، وقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما صدقة أفضل من ذكر الله ) رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس والله أعلم،
١ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان، باب: حسن إسلام المرء(٣١) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: إذا هم العبد بالحسنة تكتب له وإذا هم العبد بسيئة لم تكتب (١٢٩)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل(٣٤٥٩)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى(٢٦٧٨)..
٤ سورة البقرة، الآية: ٢٦١..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (١٠٠٦)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات (٣٢٩٩).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الأدب، باب: فضل الذكر(٣٧٩٠)..

﴿ قل ﴾ يا محمد﴿ إنني هداني ربي ﴾ قرأ أبو عمرو ونافع بفتح الياء والباقون بالإسكان﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ بالعصمة في أصل الخلقة والوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج ﴿ دينا ﴾ بدل من محل إلى صراط فإن معناه هداني صراطا أو مفعول فعل محذوف دل عليه الملفوظ يعني هداني دينا﴿ قيما ﴾قرأ الكوفيون وابن عامر بكسر القاف وفتح الياء مخففة على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لا علال فعله كالقيام، وقرأ الباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة على أنه فيعل من قام كسيد من ساد وهو القويم المستقيم باعتبار النية والمستقيم باعتبار الصيغة، وقال البغوي : معناهما واحد وهو القويم المستقيم﴿ ملة إبراهيم ﴾ عطف بيان لدينا﴿ حنيفا ﴾ حال إبراهيم ﴿ وما كان من المشركين ﴾ بالله يا أهل مكة فلم تشركون أنتم على خلاف أبيكم مع أنكم تدعون إتباعه عطف على حنيفا
﴿ قل ﴾ يا محمد﴿ إن صلاتي ونسكى ﴾ قيل : المراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة، وقال مقاتل : نسكي حجي، وقيل : عبادتي كذا في القاموس والصحاح ﴿ ومحياي ﴾ قرأ نافع بخلاف عن ورش بسكون الياء والباقون بفتح الياء تحرزا عن اجتماع الساكنين﴿ ومماتي ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان يعني حياتي وموتي ﴿ لله رب العالمين ﴾ هو يحيي ويميت، وقيل : ما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعات، أو يقال طاعات الحياة من الصلاة والصوم وغيرهما والطاعات المضافة إلى الموت من الوصية والتدبير، وقيل : معناه طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد موتي على الله، وقيل : محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله،
﴿ لا شريك له ﴾ يعني لا أشرك به أحدا غيره﴿ وبذلك ﴾ القول والإخلاص﴿ أمرت وأنا أول المسلمين ﴾ من هذه الأمة ولست أدعوكم إلا إلى ما سبقتكم به فلست إلا ناصحا لكم،
قال البغوي : كان كفار قريش يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : إرجع إلى ديننا فقال الله سبحانه﴿ قل أغير الله أبغي ربا ﴾ أشركه في عبادتي إنكار على بقية الغير ربا ولذا قدم المفعول ﴿ وهو رب كل شيء ﴾ حال في موقع العلة للإنكار يعني كل ما سواه مربوب له مثلي لا يصلح للمعبودية، وفي تعقيب هذا الكلام بعد ما سبق أن ديني إبراهيم دفع توهم أخذ دينه تقليدا كما أخذ المشركون دين أبائهم، قال البغوي قال ابن عباس : كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلي أحمل أوزاركم فقال الله تعالى﴿ ولا تكسب كل نفس ﴾خطيئة﴿ إلا ﴾ كائنة إثمها ﴿ عليها ﴾ فلا ينفع أحد كفالة أحد في ابتغاء رب غيره تعالى﴿ ولا تزر ﴾ أي لا تحمل نفس﴿ وازرة ﴾ حاملة ﴿ وزر ﴾ ثقل معاصي نفس﴿ أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم ﴾ يوم القيامة ﴿ فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ﴾ من الأديان المختلفة فيميز المحق من المبطل ويجزي كلا على حسب عمله واعتقاده.
﴿ وهو الذي جعلكم خلائف ﴾ في ﴿ الأرض ﴾ يعني أهلك أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد ﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ﴾ منصوب على التميز من النسبة يعني رفع درجات بعضكم فوق درجات بعض آخر في الشرف والغناء وغير ذلك ﴿ ليبلوكم في ما أتاكم ﴾ من الجاه والمال وغير ذلك ليظهر منكم هل تشركون أو لا ﴿ إن ربك سريع العقاب ﴾ لأعدائه أي يسرع العذاب إذا أراده تأخير العذاب إلى ما بعد الموت أو ما بعد القيامة لا ينافي ذلك لأن ما هو آت قريب ﴿ إنه لغفور ﴾ للمؤمنين﴿ رحيم ﴾ بهم وصف العقاب بالسرعة ولم يضفه إلى نفسه ووصف نفسه بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة واتى ببناء المبالغ واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض رعاية للنظام الجملي الذي هو مقتضى صفة الربوبية كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مصافح فيها.
Icon