ﰡ
قوله جل ذكره:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٦]
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية لئلا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم «١»، وهذه سنّة الله تعالى مع خواص عباده يلقاهم بخصائص عين الجمع ويحفظ عليهم حقائق عين الفرق لئلا يخلّوا بآداب العبودية فى أوان وجود الحقيقة «٢».
السورة التي تذكر فيها الأنفال
قال الله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله إخبار عن قدرته على الإبداع والاختراع، الرحمن الرحيم إخبار عن تصرفه بالإقناع وحسن الدّفاع فبقدرته أوجد ما أوجد من مراده، وبنصرته وحّد من وحّد قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)الأنفال هاهنا ما آل إلى المسلمين من أموال المشركين، وكان سؤالهم عن حكمها، فقال الله تعالى: قل لهم إنها لله ملكا، ولرسوله- عليه السّلام- الحكم فيها بما يقضى به أمرا وشرعا.
(٢) لاحظ هنا كيف يلح القشيري دائما على عدم الإخلال باى شرط من شروط الشريعة مهما أوغل العبد فى الفناء، بل يعتبر حفظ الله لعبده في هذه المرحلة الحاسمة علامة صدق العبد وآية خصوصيته.
أي أجيبوا لأمر الله، ولا تطيعوا دواعى مناكم والحكم بمقتضى أحوالكم، وابتغوا إيثار رضاء الحقّ على مراد النّفس، وأصلحوا ذات بينكم، وذلك بالانسلاخ عن شحّ النّفس، وإيثار حقّ الغير على ما لكم من النصيب والحظّ، وتنقية القلوب عن خفايا الحسد والحقد.
قوله جل ذكره: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ:
أي فى الإجابة إلى ما يأتيكم من الإرشاد.
قوله جل ذكره: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي سبيل المؤمن ألا يخالف هذه الجملة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
الوجل شدّة الخوف، ومعناه هاهنا أن يخرجهم الوجل عن أوطان الغفلة، ويزعجهم عن مساكن الغيبة. فإذا انفصلوا عن أودية التفرقة وفاءوا إلى مشاهد الذكر نالوا السكون إلى الله- عز وجل فيزيدهم ما يتلى عليهم من آياته تصديقا على تصديق، وتحقيقا على تحقيق.
فإذا طالعوا جلال قدره، وأيقنوا قصورهم عن إدراكه، توكلوا عليه فى إمدادهم بالرعاية فى نهايتهم، كما استخلصهم بالعناية فى بدايتهم.
ويقال سنّة الحقّ- سبحانه- مع أهل العرفان أن يردّدهم بين كشف جلال ولطف جمال، فإذا كاشفهم بجلاله وجلت قلوبهم، (وإذا لاطفهم بجماله سكنت قلوبهم، قال الله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بذكر الله». ويقال وجلت قلوبهم) «١» بخوف فراقه، ثم تطمئن وتسكن أسرارهم بروح وصاله. وذكر الفراق يفنيهم وذكر الوصال يصحيهم ويحييهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣ الى ٤]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
لا يرضون فى أعمالهم بإخلال، ولا يتصفون بجمع مال من غير حلال، ولا يعرّجون فى أوطان التقصير بحال، أولئك الذين صفتهم ألا يكون للشريعة عليهم نكير، ولا لهم عن أحكام الحقيقة مقيل.
ف «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي حققوا حقا وصدقوا صدقا. ويقال حق لهم ذلك حقا.
قوله: «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» على حسب ما أهّلهم له من الرّتب فبسابق قسمته لهم استوجبوها، ثم بصادق خدمتهم- حين وفّقهم لها- بلغوها.
ولهم مغفرة فى المآل، والسّتر فى الحال لأكابرهم فالمغفرة الستر، والحق سبحانه يستر مثالب العاصين ولا يفضحهم لئلا يحجبوا عن مأمول أفضالهم، ويستر مناقب العارفين عليهم لئلا يعجبوا بأعمالهم وأحوالهم، وفرق بين ستر وستر، وشتّان ما هما! وأمّا الرزق الكريم فيحتمل أنه الذي يعطيه من حيث لا يحتسب، ويحتمل أنه الذي لا ينقص بإجرامهم، ويحتمل أنه ما لا يشغلهم بوجوده عن شهود الرزاق، ويحتمل أنه رزق الأسرار بما يكون استقلالها به من المكاشفات.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥).
وما يكون من خصال العبد غير متكرر ويكون على وجه الندرة كان أقرب إلى الصفح عنه والتجاوز، فأمّا إذا صار ذلك عادة فهو أصعب.
ويقال ما لم تباشر خلاصة الإيمان القلب لا يوجد كمال التسليم وترك الاختيار، ومادام يتحرك من العبد عرق فى الاختيار فهو بعيد عن راحة الإيمان.
ولقد أجرى الله سنّته مع أوليائه، وكذلك كانت سنّته مع أنبيائه ألا يفتح لهم كمال النّعمى إلا بعد مفارقة مألوفات الأوطان، والتجرد عن مساكنة ما فيه «١» حظ ونصيب من كل معهود ويقال إن فى هجرة الأنبياء- عليهم السّلام- عن أوطانهم أمانا لهم من عادية الأعادى، وإحياء لقلوب قوم تقاصرت أقدامهم عن المسير «٢» إليهم.
وكذلك هجرة الأولياء من خواصه فيها لهم خلاص من البلايا، واستخلاص للكثيرين من البلايا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
جحود الحقّ بعد وضوح برهانه علم «٣» لاستكبار صاحبه، وهو- فى الحال- فى وحشة غيّه، معاقب بالصّد وتنغّص العيش، يملّ حياته ويتمنى وفاته «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
(٢) وردت (المصير) والصحيح (مسير) الذين لم تتح لهم فرصة الانتقال إلى أماكن الأنبياء.
(٣) ضبطنا (علم) هكذا لكى تؤدى معنى (علامة) على الاستكبار، فهكذا يتطلب السياق.
فهى بطبعها تؤثر فى كل حال نصيبها، وتتمجل لذّة حظّها. ولا يصل أحد إلى جلائل النّعم إلا بتجرّع كاسات الشدائد، والانسلاخ عن معهودات النصيب. «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إذا أراد الله- سبحانه- تخصيص عبد بولايته قضى على طوارق نفسه بالأفول، وحكم لبعض شهواته بالذبول، وإلى طوالع الحقائق بإشراقها، ولجوامع الموانع باستحقاقها.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٨]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
ليحق الحقّ بالتوفيق فيما يحصل ببذل المجهود، والتحقيق لما يظهر من عين الجود.
ويقال ليحقّ الحقّ بنشر أعلام الوصل، ويبطل الباطل بقهر أقسام الهزل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١٠]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
الاستغاثة على حسب شهود الفاقة وعدم المنة والطاقة، والتحقق بانفراد الحق بالقدرة على إزالة الشكاة تيسير للمسئول وتحقيق للمأمول. فإذا صدقت الاستغاثة بتعجّل الإجابة حصلت الآمال وقضيت الحاجة.. بذلك جرت سنّته الكريمة.
ويقال بشّرهم بالإمداد بالملك، ثم رقّاهم عن هذه الحالة بإشهادهم أن الإنجاز من الملك، ولم يذرهم فى المساكنة إلى الإمداد بالملك فقال: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ثم قال:
«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» فالنجاة من البلاء حاصلة، وفنون الإنجاز والإمداد بالطاقة متواصلة، والدعوات مسموعة، والإجابة غير ممنوعة، وزوائد الإحسان متاحة، ولكن الله عزير
وقلن لنا نحن الأهلّة إنما | نضىء لمن يسرى بليل ولا نقرى |
فلا بذل إلا ما تزوّد ناظر | ولا وصل إلا بالجمال الذي يسرى |
[سورة الأنفال (٨) : آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
غشيهم النّعاس تلك الليلة فأزال عن ظواهرهم «١» ونفوسهم كدّ الأغيار والكلال، وأنزل على قلوبهم روح الأمن، وأمطرت السماء فاغتسلوا بعد ما لزمتهم الطهارة الكبرى بسبب الاحتلام، واشتدت الأرض بالمطر فلم ترسب الأقدام فى رملها، وانتفى عن قلوبهم ما كانت الشياطين توسوس به إليهم أنه سيصيبهم العناء بسلوك رملها وبالانتفاء عن الغسل، فلمّا (....) «٢» الإحساس، واستمكن منهم النّعاس، وتداركتهم الكفاية والنصرة استيقنوا بأن الإعانة من قبل الله لا بسكونهم وحركتهم، وأشهدهم صرف التأييد وإتمام الكفاية وكما طهّر ظواهرهم بماء السماء طهّر سرائرهم بماء التحقيق عن شهود كلّ غير وكلّ غير وكلّ علّة، وصان أسرارهم عن الإصغاء إلى الوساوس، وربط على قلوبهم بشهودهم جريان التقدير على حسب ما يجرى الحقّ من فنون التصريف.
قوله جل ذكره: وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ.
(٢) مشتبهة وربما كانت (زايلهم)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
«١» عرّفنا أنّ الملائكة محتاجون إلى تعريف الحق إياهم قضايا التوحيد وتثبيت الملائكة للمؤمنين: قيل كانوا يظهرون للمسلمين فى صور الرجال يخاطبونهم بالإخبار عن قلة عدد المشركين واستيلاء المسلمين عليهم، وهم لا يعرفون أنهم ملائكة.
وقيل تثبيتهم إياهم بأن كانوا يلقون فى قلوبهم ذلك من جهة الخواطر، ثم إن الله يخلق لهم فيها ذلك، فكما يوصّل الحق سبحانه- وساوس الشيطان إلى القلوب يوصل خواطر الملك، وأيّدهم بإلقاء الخوف والرعب فى قلوب الكفار.
قوله جل ذكره: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وذلك بأمر الله وتعريفه من جهة الوحى والكتاب، ويكون معناه إباحة ضربهم ونيلهم على أي وجه كان كيفما أصابوا أسافلهم وأعاليهم. ويحتمل فاضربوا فوق الأعناق ضربا يوجب قتلهم لأنه لا حياة بعد ضرب العنق، ولفظ فوق يكون صلة.
«وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» أي ضربا يعجزهم عن الضرب ومقاتلة المسلمين لأنه لا مقاتلة تحصل بعد فوات الأطراف.
ِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
بيّن أنهم فى مغاليط حسبانهم وأكاذيب ظنونهم.
والمنشئ- بكلّ وجه- الله لانفراده بقدرة الإيجاد
يمهل المجرم «١» أياما ثم لا يهمله، بل يذيقه بأس فعله، ويزيل عنه شبهة ظنّه قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
«٢» ذلكم العذاب فذوقوه- أيها المشركون- معجّلا، واعلموا أن للكافرين عذابا مؤجّلا، فللعاصين عقوبتان محصّل بنقد ومؤخّر بوعد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
«٣» يقول إذا لقيتم الكفار فى المعركة زحفا مجتمعين فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا فالشجاعة ثبات القلوب، وكما قيل الشجاعة صبر على الطاعة وفى الجهاد مع العدو، فالواجب الثبات عند الصولة- هذا فى الظاهر، وفى الباطن جهاد مع الشيطان، والواجب فيه الوقوف عن دواعيه إلى الزّلة فمن وقف على حدّ الإمساك عن إجابته، بلا إنجاز لما يدعوه بوساوسه فقد وفّى الجهاد حقّه.
وكذلك فى مجاهدة النّفس، فإذا وقف العبد عن إجابة النّفس فيما تدعوه بهواجسها،
(٢) أخطأ الناسخ إذ جعلها (عذابا أليما).
(٣) سقطت (آمنوا) من الناسخ فأثبتناها [.....]
والإشارة فى قوله: «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بإيثار بعض الرّخص ليتقوّى على ما هو أشد كأكله مثلا ما يقيم صلبه ليقوى على السّهر، وكترفقه بنفسه بإيثار بعض الراحة من إزالة عطش، أو نفى مقاساة جوع أو برد أو غيره لئلا يبقى عن مراعاة قلبه، ولاستدامة اتصال قلبه به، فإن ترك بعض أوراد الظاهر لئلا يبقى به عن الاستقامة فى أحكام واردات السرائر أخذ فى حقّ الجهاد بحزم.
والإشارة فى قوله: «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» إلى اعتضاد المريد بصحبة أقرانه فيما يساعدونه فى المجاهدة، ويبقى شهود ما هم فيه من المكابدة من إقامته على مجاهدته. ثم باستمداده من همم الشيوخ فإن المريد ربيب همّة شيخه، فالأقوياء من الأغنياء ينفقون على خدمهم من نعمهم، والأصفياء من الأولياء ينفقون على مريديهم من هممهم يجبرون «٢» كسرهم، ويتوبون منهم، ويساعدونهم بحسن إرشادهم. ومن أهمل مريدا وهو يعرف صدقه، أو خالف شيخا وهو يعرف فضله وحقّه فقد باء من الله بسخط، والله تعالى حسيبه فى مكافأته على ما حصل من قبيح وصفه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
الذي نفى عنهم من القتل هو إماتة الروح وإثبات الموت، وهو من خصائص قدرته- سبحانه، والذي يوصف به الخلق من القتل هو ما يفعلونه فى أنفسهم، ويحصل ذهاب الروح عقيبه.
وفائدة الآية قطع دعاواهم فى قول كل واحد على جهة التفاخر قتلت فلانا، فقال:
«فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ» أي لم تكن أفعالكم مما انفردتم بإيجادها بل المنشئ والمبدئ «٣» هو الله عزّ وجل. وصانهم بهذه الآية وصان نبيّه- عليه السّلام- عن ملاحظة أفعالهم وأحوالهم.
(٢) وردت (يخبرون) والمناسب للكسر (يجبرون).
(٣) وردت (المهدى) بالهاء وقد جعلناها (المبدى) لأن الكلام متجه إلى الإنشاء والإيجاد والإبداع والخلق.
أي ما رميت بنفسك ولكنك رميت بنا، فكان منه (صلوات الله عليه) «١» قبض التراب وإرساله من يده ولكن من حيث الكسب، وكسبه موجد من الله بقدرته، وكان التبليغ والإصابة من قبل الله خلقا وإبداعا، وليس الذي أثبت ما نفى ولا نفى ما أثبت إلا هو، والفعل فعل واحد ولكن التغاير فى جهة الفعل لا فى عينه.
فقوله: «إِذْ رَمَيْتَ» فرق، وقوله: «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» جمع. والفرق صفة العبودية، والجمع نعت الربوبية، وكلّ فرق لم يكن مضمّنا بجمع وكلّ جمع لم يكن- فى صفة العبد- مؤيّدا بفرق فصاحبه غير سديد الوتيرة.
وإن الحقّ- سبحانه- يكل الأغيار إلى ظنونهم، فيتيهون فى أودية الحسبان، ويتوهمون أنهم منفردون بإجراء ما منهم، وذلك منه مكر بهم.
قال الله تعالى: «وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» «٢» وأما أرباب التوحيد فيشهدهم مطالع التقدير، ويعرّفهم جريان الحكم، ويريهم أنفسهم فى أسر التصريف، وقهر الحكم.
وأمّا الخواص من الأولياء وأصحاب العرفان فيجرى عليهم ما يجرى و (ما) «٣» لهم إحساس بذلك، مأخوذون يثبتهم بشواهد النظر والتقدير، ويتولّى حفظهم عن مخالفة الشرع.
قوله جل ذكره: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً.
البلاء الاختبار «٤»، فيختبرهم مرة «٥» بالنعم ليظهر شكرهم أو كفرانهم، ويختبرهم أخرى بالمحن ليظهر صبرهم، أو ذكرهم أو نسيانهم.
(٢) آية ١٠٤ سورة الكهف.
(٣) سقطت (ما) من الناسخ والمعنى يتطلبها إذ هم لا إحساس لهم بما يجرى عليهم من حكم وتصريف.
(٤) وردت (الاختيار) بالياء وهى خطأ فى النسخ.
(٥) وردت (مر) بدون تاء مربوطة والصواب أن تكون بها.
ويقال البلاء الحسن أن تشهد المبلى فى عين البلاء.
ويقال البلاء الحسن ما لا دعوى لصاحبه إن كان نعمة، ولا شكوى إن كان محنة.
ويقال البلاء الحسن ما ليس فيه ضجر إن كان عسرا، ولا بطر إن كان يسرا.
ويقال بلاء كلّ أحد على حسب حاله ومقامه فأصفاهم ولاء أوفاهم بلاء، قال عليه السّلام:
«أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «٣» قوله جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
تنفيس لقوم وتهديد لقوم أصحاب الرّفق يقول لهم إن الله «سَمِيعٌ» لأنينكم فيروّح عليهم بهذا وقتهم، ويحمل عنهم ولاءهم «٤»، وأنشدوا:
إذا ما تمنّى الناس روحا وراحة... تمنيت أن أشكو إليك فتسمعا
وقالوا:
قل لى بألسنة التّنفس... كيف أنت وكيف حالك؟
وأمّا الأكابر فلا يؤذن لهم فى التّنفّس، وتكون المطالبة متوجّهة عليهم بالصبر، والوقوف تحت جريان التقدير من غير إظهار ولا شكوى، فيقول: لو ترشح منك ما كلّفت بشربه توجّهت عليك الملامة، فإن لم يكن منك بيان فإنّى سميع لقالتك، عليم بحالتك.
(٢) مشتبهة.
(٣) رواه الترمذي، وقال حسن صحيح، وابن ماجه، والحاكم عن سعد بن أبى وقاص. والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه والدارمي من حديث عاصم. والطبراني من حديث فاطمة.
(٤) ربما كانت فى الأصل (بلاءهم) فذلك يناسب التنفيس والترويح والرفق.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
موهن كيدهم: بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين، والثبات على انتظار الفضل من قبل الله، وموهن كيدهم: بأن يأخذ الكافرين من حيث لا يشعرون، ويظفر جند المسلمين عليهم.
قوله جلّ ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
قال المشركون- يوم بدر- اللهم انصر أحبّ الفئتين إليك، فاستجاب دعاءهم ونصر أحبّ الفئتين إليه. وهم المسلمون، فسألوا بألسنتهم هلاك أنفسهم، وذلك لانجرارهم فى مغاليط ما يعلّقون من ظنونهم، فهم توهّموا استحقاق القربة، وكانوا فى عين الفرقة وحكم الشّقوة، موسومين باستيجاب اللعنة بدعائهم، والوقوع فى شقائهم فباختيارهم منوا ببوارهم.
ويقال ظنوا أنهم من أهل الرحمة فزلّوا، فلما كشف الستر خابوا وذلّوا، فعند ذلك علموا أنهم زاغوا فى ظنهم وضلوا.
قوله جل ذكره: وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «٢».
فيغفر لكم ما قد سلف من خلاف محمد صلّى الله عليه وسلّم.
«فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» ليس المراد منه المبالغة لأنه يقال هذا خير لك من هذا إذا كان الثاني ليس فيه شر، وترك موافقتهم للرسول صلّى الله عليه وسلّم- بكل وجه- هو شرّ لهم، ولكنه أراد به فى الأحوال الدنيوية، وعلى موجب ظنّهم.
(٢) أخطا الناسخ فى كتابة الآية إذ جاءت هكذا و «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ». [.....]
يعنى إن عدتم إلى الجميل من السيرة عدنا عليكم بجميل المنّة، وإن عاودتم الإقدام على الشّرّ أعدنا عليكم ما أذقناكم من الضّرّ.
قوله جل ذكره: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
من غلبته قدرة الأحد لم تغن عنه كثرة العدد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠)
الناس فى طاعة الله على أقسام: فمطيع لخوف عقوبته، ومطيع طمعا فى مثوبته، وآخر تحققا بعبوديته، وآخر تشرفا بربوبيته.
وكم بين مطيع ومطيع! وأنشدوا:
أحبك يا شمس النهار وبدره | وإن لامنى فيك السّها والفراقد |
وذاك لأنّ الفضل عندك زاخر | وذاك لأنّ العيش عندك بارد |
أي تسمعون دعاءه إياكم، وتسمعون ما أنزل عليه من دعائى إياكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢١]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١)
لا تكونوا ممن يشهد جهرا، ويجحد سرّا.
(٢) أخطأ الناسخ فكتبها (ولو تولوا).
ويقال من نطق بتلبيسه تشهد الخبرة بتكذيبه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٢]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)
دواعى الحق بحسن البيان ناطقة، وألسنة البرهان فيما ورد به التكليف صادقة، وخواطر الغيب بكشف ظلم الريب مفصحة، وزواجر التحقيق عن متابعة التموية للقلوب ملازمة.
فمن صمّ عن إدراك ما خوطب به سرّه، وعمى عن شهود ما كوشف به قلبه، وخرس- عن إجابة ما أرشد إليه من حجة- فهمه وعقله فدون رتبة البهائم قدره، وفوق كل (....) «١» من حكم الله ذلّه وصغره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٣]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
من أقصته سوابق القسمة لم تدنه لواحق الخدمة، ومن علمه الله بنعت الشّقوة حرمه ما يوجب عفوه.
ويقال لو كانوا فى متناولات الرحمة لألبسهم صدار العصمة، ولكن سبق بالحرمان حكمهم، فختم بالضلالة أمرهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
أجاب واستجاب بمعنىّ مثل أوقد واستوقد، وقيل للاستجابة مزية وخصوصية «٢» بأنها تكون طوعا لا كرها، وفرق بين من يجيب لخوف أو طمع وبين من يستجيب لا بعوض ولا على ملاحظة غرض. وحقّ الاستجابة أن تجيب بالكلية من غير أن تذر من المستطاع بقية.
(٢) لاحظ كيف يتفق مذهب القشيري فى المصطلح مع القاعدة اللغوية: زيادة المبنى فيها زيادة المعنى.
قوله جل ذكره: لِما يُحْيِيكُمْ.
إذ لمّا أفناهم عنهم أحياهم به.
ويقال العابدون أحياهم بطاعته بعد ما أفناهم عن مخالفته، وأما العالمون فأحياهم بدلائل ربوبيته، بعد ما أفناهم عن الجهل وظلمته. وأمّا المؤمنون فأحياهم بنور موافقته بعد ما أفناهم بسيوف مجاهدتهم. وأمّا الموحّدون فأحياهم بنور توحيده بعد ما أفناهم عن الإحساس بكل غير، والملاحظة لكل حدثان.
قوله جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
يصون القلوب عن تقليب أربابها فيقلّبها كما يشاء هو، من بيان هداية وضلال، وغيبة ووصال، وحجبة وقربة، ويقين ومرية، وأنس ووحشة.
ويقال صان قلوب العبّاد عن الجنوح إلى الكسل، فجدّوا فى معاملاتهم، وصان قلوب المريدين عن التعريج فى أوطان الفشل فصدقوا فى منازلاتهم، وصان قلوب العارفين- على حدّ الاستقامة- عن الميل فتحققوا بدوام مواصلاتهم.
ويقال حال بينهم وبين قلوبهم لئلا يكون لهم رجوع إلا إلى الله، فإذا سنح لهم أمر فليس لهم إلى الأغيار سبيل، ولا على قلوبهم تعويل. وكم بين من يرجع عند سوانحه إلى قلبه وبين من لا يهتدى إلى شىء إلا إلى ربّه! كما قيل:
لا يهتدى قلبى إلى غيركم | لأنه سدّ عليه الطريق |
والعارفون هم الذين فقدوا قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٥]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥)
احذروا أن ترتكبوا زلّة توجب لكم عقوبة لا تخص مرتكبها، بل يعمّ شؤمها من تعاطاها ومن لم يتعاطها.
وغير المجرم لا يؤخذ بجرم من أذنب، ولكن قد ينفرد أحد بجرم فيحمل أقوام من المختصين بفاعل هذا الجرم، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم فبعد أن لم يكونوا ظالمين يصيرون ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم لهذا الظالم فتكون فتنة لا تختص بمن كان ظالما فى الحال بل إنها تصيب أيضا ظالما فى المستقبل بسبب تعصبه لهذا الظالم ومطابقته معه، ورضاه به، وهذا معنى التفسير من حيث الظاهر. فأمّا من جهة الإشارة: فإن العبد إذا باشر رلّة بنفسه عادت إلى القلب منها الفتنة وهى العقوبة المعجلة، وتصيب النّفس منها العقوبة المؤجلة، والقلب إذا حصلت منه فتنة الزلة- عند ما يهم بما لا يجوز- تعدّت فتنته إلى السّر وهى الحجبة.
والمقدّم فى شأنه إذا فعل ما لا يجوز انقطعت البركات التي كانت تتعدى منه إلى متّبعيه وتلامذته، وكان لهم نصيبهم من الفتنة وهم لم يعلموا ذنبا. ويقال إن الأكابر إذا سكتوا عن التنكير على الأصاغر عند تركهم الأذكار أصابتهم فتنة ما فعلوه فلقد قيل إنّ السفيه «١» إذا لم ينه مأمور. فعلى هذا تصيب فتنة الزّلة مرتكبها ومن ترك النّهى عن المنكر- مثل من ترك الأمر بالمعروف- يؤخذ بجرمه. «٢»
(٢) وردت هذه العبارة حافلة بالكثير من الأخطاء التي سببت فى غموض المعنى فقومناها حسبما يقتضى السياق- دون أن يكون اقتحامنا خطيرا على النص.
والعابد إذا جنح عن الأشقّ وترك الأولى «١» تعدّى ذلك إلى من كان ينشط فى المجاهدة فيستوطنون الكسل، ثم يحملهم الفراغ وترك المجاهدة على متابعة الشهوات فيصيرون كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة... مفسدة للمرء أي مفسدة
وهكذا يكون نصيبهم من الفتنة.
والعارف إذا رجع إلى ما فيه حظ له، نظر إليه المريد، فتتداخله فترة فيما هو به من صدق المنازلة، ويكون ذلك نصيبه من فتنة العارف.
وفى الجملة إذا غفل الملك، وتشاغل عن سياسة رعيته تعطّل الجند والرعية، وعظم فيهم الخلل والبليّة، وفى معناه أنشدوا:
رعاتك ضيّعوا- بالجهل منهم-... غنيمات فساستها ذئاب
و «اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» بتعجيله ذلك، ومن شدة عقوبته أنه إذا أخذ عبدا ليعاقبه لا يمكّنه من تلافى موجب تلك العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٦]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
يذكرهم ما كانوا فيه من القلّة والذّلة وصنوف (... ) «٢» ثم ما نقلهم إليه من الإمكان والبسطة، ووجوه الأمان والحيطة، وقرّبهم إلى إقامة الشكر على جزيل تلك القسم،
(٢) مشتبهة وربما كانت (الحطّة) أي نقصان المنزلة، فإنها قريبة للسياق، ومنسجمة مع الموسيقى اللفظية.
قوله جل ذكره: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
رزق الأشباح والظواهر من طيبات الغذاء، ورزق الأرواح والسرائر من صنوف الضياء. وحقيقة الشكر على هذه النعم الغيبة عنها بالاستغراق فى شهود المنعم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
الخيانة الاستبطان بخلاف ما يؤمّل منك بحق التعويل، فخيانة الله بتضييع ما ائتمنك عليه، وذلك بمخالفة النّصح فى دينه، وخيانة الرسول بالاتصاف بمخالفة ما تبدى من مشايعته.
والخيانة فى الأمانات بترك الإنصاف، والاتصاف بغير الصدق.
وخيانة كل أحد على حسب ما وضع عنده من الأمانة، فمن اؤتمن فى مال فتصرّف فيه بغير إذن صاحبه- خيانة، ومن اؤتمن على الحرم فملاحظته إياهن- خيانة. فعلى هذا:
الخيانة فى الأعمال الدعوى فيها بأنها من قبلك دون التحقيق بأنّ منشئها الله.
والخيانة فى الأحوال ملاحظتك لها دون غيبتك عن شهودها باستغراقك فى شهود الحق، إن لم يكن استهلاكك فى وجود الحق. وإذا أخللت بسنّة من السّنن أو أدب من آداب الشّرع فتلك خيانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
والخيانة فى الأمانات- بينك وبين الخلق- تكون بإيثار نصيب نفسك على نصيب المسلمين، بإرادة القلب فضلا عن المعاملة بالفعل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
ويقال الفتنة الاختبار فيختبرك بالأموال.. هل تؤثرها على حقّ الله؟
وبالأولاد.. هل تترك لأجلهم ما فيه رضاء الله؟
فإن آثرتم حقّه على حقّكم ظهرت به فضيلتكم، وإن اتصفتم بضدّه عوملتم بما يوجبه العكس من محبوبكم.
ويقال المال فتنة إذا كان عن الله يشغلكم، والأولاد فتنة إذا لأجلهم قصّرتم فى حقّ الله أو فرّطتم.
ويقال المال- ما للكفاف والعفاف «١» - نعمة، وما للتقاصر والتفاخر فتنة، وفى الجملة ما يشغلك عن الله فهو فتنة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
«٢» الفرقان ما به يفرق بين الحق والباطل من علم وافر وإلهام قاهر، فالعلماء فرقانهم مجلوب برهانهم، والعارفون فرقانهم موهوب «٣» عرفانهم فأولئك مع مجهود أنفسهم، وهؤلاء بمقتضى جود ربّهم.
العرفان تعريف من الله، والتكفير «٤» تخفيف من الله، والغفران تشريف للعبد من الله.
(٢) أخطأ الناسخ إذ جعل خاتمة الآية (والله سميع عليم).
(٣) وردت (موهوم) وهى خطأ من الناسخ، والصواب أن تكون (موهوب) فهكذا يتطلب السياق.
(٤) (التكفير) هنا تشير الى ما ورد فى الآية: «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ».
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
ذكره عظيم منّته عليه حيث خلّصه من أعدائه حين خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وهمّوا بقتله، وحاولوا أن يمكروا به فى السّر، فأعلمه الله ذلك.
والمكر إظهار الإحسان مع قصد الإساءة فى السّر، والمكر من الله الجزاء على المكر، ويكون المكر بهم أن يلقى فى قلوبهم أنه محسن إليهم ثم- فى التحقيق- يعذّبهم، وإذا شغل قوما بالدنيا صرف همومهم إليها حتى ينسوا أمر الآخرة، وذلك مكر بهم، إذ يوطّنون نفوسهم عليها، فيتيح لهم من مأمنهم سوءا، ويأخذهم بغتة.
ومن جملة مكره اغترار قوم بما يرزقهم من الصيت الجميل بين الناس، وإجراء كثير من الطاعات عليهم، فأسرارهم تكون بالأغيار منوطة، وهم عن الله غافلون، وعند الناس أنهم مكرمون، وفى معناه قيل:
وقد حسدونى فى قرب دارى منكم | وكم من قريب الدار وهو بعيد |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
فرط جهلهم، وشؤم جحدهم ستر على عقولهم قبح دعاويهم فى القدرة على معارضة القرآن فافتضحوا عند الامتحان بعدم البرهان، والعجز عما وصفوا به أنفسهم من الفصاحة والبيان، وقديما قيل:
من تحلّى بغير ما هو فيه | فضح الامتحان «١» ما يدّعيه |
«رمتني بدائها وانسلّت».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٢]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
دلّ سؤالهم العذاب على تصميم عقدهم على تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واستيقنوا عند أنفسهم بأنه لا يستجاب فيهم ما يدعونه على أنفسهم.
وفى هذا أظهر دليل على أن سكون النّفس إلى الشيء ليس بعلم لأنه كما يوجد مع العلم يوجد مع الجهل.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٣]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
ما كان الله معذبهم وأنت فيهم، وما كان الله ليعذّب أسلافهم وأنت فى أصلابهم، وليس يعذبهم اليوم وأنت فيما بينهم إجلالا لقدرك، وإكراما لمحلّك، وإذا خرجت من بينهم فلا يعذبهم وفيهم خدمك الذين يستغفرون، فالآية تدل على تشريف قدر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم.
ويقال للجوار حرمة، فجار الكرام فى ظل إنعامهم فالكفار إن لم ينعموا «١» بقرب الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- منهم فقد اندفع العذاب- بمجاورته- عنهم:
وأحبها وأحبّ منزلها الذي | نزلت به وأحبّ أهل المنزل |
ويقال إن العذاب- وإن تأخّر عنهم مدة مقامهم فى الدنيا مادام هو عليه السّلام فيهم- فلا محالة يصيبهم العذاب فى الآخرة، إذ الاعتبار بالعواقب لا بالأوقات والطوارق.
قوله جل ذكره: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
علم أنه- عليه السّلام- لا يتأبّد مكثه فى أمته إذ قال له: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» «١»، فقال إنى لا أضيع أمّته وإن قضى فيهم مدّته، فما دامت ألسنتهم بالاستغفار متطلّعة فصنوف العذاب عنهم مرتفعة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٤]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)
نفى العذاب عنهم فى آية، وأثبته فى آية، فالمنفىّ فى الدنيا والمثبت فى الآخرة.
ثم بيّن إيصال العذاب إليهم فى الآخرة بقوله تعالى: «وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» دليل الخطاب أن إعانة المسلمين على ما فيه قيام بحق الدين يوجب استحقاق القربة والثواب وفى الآية دليل على أنه لا يعذّب أولياءه بقوله: «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» فاذا عذّب من لم يكونوا أولياءه دلّ على أنه لا يعذّب من كان من جملة أوليائه. والمؤمنون كلّهم أولياء الله لأنه قال: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا» «٢». والمؤمن- وإن عذّب بمقدار جرمه زمانا فإنه لا يخلّد فى دار العقوبة، فما يقاسون بالإضافة إلى تأبيد الخلاص جلل، وقيل:
إذا سلم العهد الذي كان بيننا | فودّى وإن شطّ المزار سليم |
(٢) آية ٢٥٧ سورة البقرة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
تجردت أعمالهم بظواهرهم عن خلوص عقائدهم، فلم يوجد- سبحانه وتعالى- لها احتسابا فزكاء القالة لا يكون إلا مع صفاء الحالة، وعناء الظاهر لا يقبل إلا مع ضياء السرائر.
قوله جل ذكره: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
كان العذاب معجّلا وهو حسبانهم أنهم على شىء، قال الله تعالى:
«وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»، ومؤجّلا وهو كما قال الله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
«١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
يرومون بإنفاقهم صنوف أموالهم صلاحا ونظاما لأحوالهم، ثم لا يحظون إلا بخسران، ولا يحصلون إلا على نقصان. خسروا وهم لا يشعرون، وخابوا وسوف يعلمون:
سوف ترى إذا انجلى الغبار... أفرس تحتك أم حمار؟
قوله: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» إنّهم وإن ألهتهم أموالهم فإلى الهوان والذلّة مآلهم، لم تغن عنهم أموالهم، ولم تنفعهم أعمالهم، بل ختمت بالشقاوة أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٧]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧).
الخبيث ما حكم الشرع بقبحه وفساده، والطيب ما شهد العلم بحسنه وصلاحه.
ويقال الخبيث الكافر، والطيّب المؤمن.
الخبيث ما شغل صاحبه عن الله، والطيّب ما أوصل صاحبه إلى الله.
الخبيث ما يأخذه المرء وينفقه لحظّ نفسه، والطيب ما ينفقه بأمر ربه.
الخبيث عمل الكافر يصوّر له ويعذّب بإلقائه عليه، والطيّب عمل المؤمن يصور له فى صورة جميلة فيحمل المؤمن عليه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٨]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
إن كبحوا لجام التمرد، وأقلعوا عن الركض فى ميدان العناد والتّجبّر أزلنا عنهم صغار الهوان، وأوجبنا لهم روح الأمان.
ويقال إن حلّوا نطاق العناد أطلقنا عنهم عقال البعاد.
ويقال إن أبصروا قبح فعالهم جدنا عليهم بإصلاح أحوالهم.
ويقال إن جنحوا للاعتذار ألقينا عليهم حالة الاغتفار.
ويقال إن عادوا إلى التّنصّل «١» أبحنا لهم حسن التّفضّل:
أناس أعرضوا عنّا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنّهم فينا... فهلّا أحسنوا الظنّا
فإن كانوا لنا- كنّا،... وإن عادوا لنا عدنا
وإن كانوا قد استغنوا... فإنّا عنهم أغنى
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٩]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
فإن أبوا إلّا عتوّا، وعن الإيمان إلا نبوّأ، فلا على قلوبكم ظلّ مخافة منهم فإن الله- سبحانه- ولىّ نصرتكم، ومتولّى كفايتكم إن لم تكونوا بحيث نعم العبيد فهو نعم المولى لكم ونعم الناصر لكم.
ويقال نعم المولى لكم يوم قسمة العرفان، ونعم الناصر لكم يوم نعمة الغفران.
ويقال نعم المولى لك حين لم تكن، ونعم الناصر لك حين كنت.
ويقال نعم المولى بالتعريف قبل التكليف، ونعم الناصر لكم بالتخفيف والتضعيف يخفّف عنكم السيئات ويضاعف الحسنات:
وهواك أول ما عرفت من الهوى | والقلب لا ينسى الحبيب الأوّلا |
فإذا لم يكن قتال- أو ما فى معناه- فهو فىء.
والجهاد قسمان: جهاد الظاهر مع الكفار، وجهاد الباطن مع النّفس والشيطان وهو الجهاد الأكبر- كما فى الخبر «١» وكما أن فى الجهاد الأصغر غنيمة عند الظّفر، ففى الجهاد الأكبر غنيمة، وهو أن يملك العبد نفسه التي كانت فى يد العدو: الهوى والشيطان. فبعد ما كانت ظواهره مقرّا للأعمال الذميمة، وباطنه مستقرا للأحوال الدّنيّة يصير محلّ الهوى مسكن الرّضا، ومقرّ الشهوات والمني مسلّما لما يرد عليه من مطالبات المولى وتصير النّفس مستلبة من أسر «٢» الشهوات، والقلب مختطفا من وصف الغفلات، والرّوح منتزعة من أيدى العلاقات، والسّرّ مصونا عن الملاحظات. وتصبح غاغة النّفس منهزمة، ورياسة الحقوق بالاستجابة لله خافقة.
وكما أن من جملة الغنيمة سهما لله وللرسول، وهو الخمس فمما هو غنيمة- على لسان الإشارة- سهم خالص لله وهو ما لا يكون للعبد فيه نصيب، لا من كرائم العقبى، ولا من ثمرات التقريب، ولا من خصائص الإقبال، فيكون العبد عند ذلك محرّرا عن رقّ كل نصيب، خالصا لله بالله، يمحو ما سوى الله، كما قيل:
من لم يكن بك فانيا عن حظّه | وعن الهوى والإنس والأحباب |
فكأنه- بين المراتب- واقف | لمنال حظّ أو لحسن ثواب |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
(٢) وردت (أسرار) وهى خطأ في النسخ.
قوله جل ذكره: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي ليضلّ من زاغ عن الحقّ بعد لزومه الحجبة، ويهتدى من أقام على الحقّ بعد وضوح الحجّة.
ويقال الحقّ أوضح السبيل ونصب الدليل، ولكن سدّ بصائر قوم عن شهود الرشد، وفتح بصائر آخرين لإدراك طرق الحق.
الهالك من وقع فى أودية التفرقة، والحىّ من حيى بنور التعريف.
ويقال الهالك من كان بحظّه مربوطا، والحىّ من كان من أسر كلّ نصيب مستلبا مجذوبا «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
وقيل أراه فى منامه أي فى محل نومه أي فى عينيه، فمعناه قلّلهم فى عينيه لأنهم لو استكثروهم لفشلوا فى قتالهم، ولانكسرت بذلك قلوب المسلمين.
وفى الجملة أراد الله جريان ما حصل بينهم من القتال يوم بدر، وإنّ الله إذا أراد أمرا هيّأ أسبابه فقلّل الكفار فى أعين المسلمين فزادوا جسارة، وقلّل المسلمين فى أعين الكفار فازدادوا- عند نشاطهم إلى القتال- صغرا فى حكم الله وخسارة.
والله «عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» : وكيف لا؟ ومنه تصدر المقادير، وإليه ترجع الأمور.
ويقال إذا أراد الله نصرة عبد فلو كاد له جميع البشر، وأراده الكافة بكل ضرر، لا ينفع من شاء مضرّته كدّ، ويحصل بينه «١» وبين متاح لطفه به سدّ.
وإذا أراد بعبد سوءا فليس له ردّ، ولا ينفعه كدّ، ولا ينعشه بعد ما سقط فى حكمه جهد.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)
أراد إذا لقيتم فئة من المشركين فاثبتوا. والثبات إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها منه، فعند ذلك يستسلم لله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حسن الإعانة، ولهذا أحالهم على الذكر فقال:
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً».
ويقال إنّ جميع الخيرات فى ثبات القلب، وبه تبين أقدار الرجال، فإذا ورد على الإنسان خاطر يزعجه أو هاجس فى نفسه يهيجه.. فمن كان صاحب بصيرة توقف ريثما
وهذا نعت الأكابر.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٦]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
الموافقة بين المسلمين أصل الدّين. وأول الفساد ورأس الزّلل الاختلاف. وكما تجب الموافقة فى الدين والعقيدة تجب الموافقة فى الرأى والعزيمة «١».
قال تعالى فى صفة الكفّار: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى»، وإنما تتحد عزائم المسلمين لأنهم كلّهم يجمعهم التبرّى من حولهم وقوّتّهم، ويتمحضون فى رجوعهم إلى الله، وشهودهم التقدير، فيتحدون فى هذه الحالة الواحدة.
وأمّا الذين توهّموا الحادثات من أنفسهم فضلّوا فى ساحات حسبانهم، وأجروا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلّ يبنى على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تشعّبت بهم الآراء، وافترقت بهم الطرق، فيضعفون، وتختلف طرقهم. وكما تجب فى الدين طاعة رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- تجب طاعة أولى الأمر، ولهذا يجب فى كل وقت نصب إمام للمسلمين، ثم لا تجوز مخالفته، قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: «أطيعوه ولو كان عبدا مجدعا» «٢» وكان الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- إذا بعث سريّة أمّر «٣» عليهم أميرا وقال: «عليكم بالسواد الأعظم».
وإجماع المسلمين حجة، وصلاة الجماعة سنّة مؤكّدة، والاتّباع محمود والابتداع ضلالة.
قوله «وَاصْبِرُوا» الصبر حبس النّفس على الشيء، والمأمور به من الصبر ما يكون على خلاف هواك.
(٢) فى رواية مسلم وابن ماجه عن أم الحصين: «إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا» ص ١٤٦ ح ٢ من منتخب كنز العمال.
(٣) وردت (اثر) والصواب (أمرّ) أميرا، وربما اشتبهت علامة التضعيف على الناسخ فحسبها نقطا لثاء.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
يريد أنّ أهل مكة لما خرجوا من مكة عام بدر لنصرة العير ملكتهم العزّة، واستمكن منهم البطر، وداخلهم رياء الناس، فارتكبوا فى شباك غلطهم، وحصلوا على ما لم يحتسبوه.
وأمّا المؤمنون فنصرهم نصرا عزيزا، وأزال عن نبيّه- عليه السّلام- ما أظلّه من الخوف وبصدق تبريه عن حوله ومنّته- حين قال: (لا تكلنى إلى نفسى) «١» - كفاه بحسن التولّى فقال (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
الشيطان إذا زيّن للانسان بوساوسه أمرا، والنّفس إذا سوّلت له شيئا عميت بصائر أرباب الغفلة عن شهود صواب الرّشد، فيبقى الغافل «٢» فى قياد وساوسه، ثم تلحقه هواجم
(٢) وردت (العاقل) وهى خطأ في النسخ فالكلام عن أرباب الغفلة.
أحسنت ظنّك بالأيام إذ حسنت | ولم تخف سوء ما يأتى به القدر |
وسالمتك الليالى فاغتررت بها | وعند صفو الليالى يحدث الكدر |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٩]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
إن أصحاب الغفلة وأرباب الغرّة إذا هبّت رياح صولتهم فى زمان غفلتهم يلاحظون أهل الحقيقة بعين الاستحقار، ويحكمون عليهم بضعف الحال، وينسبونهم إلى الضلال، ويعدونهم من جملة الجهّال، وذلك فى زمان الفترة ومدة مهلة أهل الغيبة.
والذين لهم قوة اليقين ونور البصيرة ساكنون تحت جريان الحكم، يرون الغائبات عن الحواس بعيون البصيرة من وراء ستر رقيق فلا الطوارق تهزمهم، ولا هواجم «٣» الوقت تستفزهم «٤»، وعن قريب يلوح علم اليسر، وتنجلى سحائب العسر، ويمحق الله كيد الكائدين.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠)
يسلّيهم «٥» عند ما يقاسون من اختبارات التقدير بما يذكّرهم زوال المحنة، ووشك روح
(٢) وردت (يفنى) والملائم لما (يعده) كلمة (يفى).
(٣) وردت (هواهم).
(٤) وردت (تستقرهم) ويكون معنى الجملة بعد هذين التصويبين هو ما جاء فى الرسالة (ص ٤٤) [الهجوم ما يرد على القلب بقوة الوقت، وسادات الوقت لا تصرفهم الهواجم]
(٥) وردت (يسلبهم) والمقصود (تسليته) المؤمنين فى أوقات الاختبار.
قوم إذا ظفروا بنا... جادوا بعتق رقابنا
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥١]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
يعرّفهم أنّ ما أصابهم من شدّة الوطأة جزاء لهم على ما أسلفوه من قبيح الزّلّة، كما قيل:
سننت فينا سننا... قذف البلايا عقبه
يصبر على أهوالها... من برّ يوما ربّه «١»
«وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي كيفما يعاملهم فى السّرّاء والضرّاء فذلك منه حسن وعدل، إذ الملك ملكه، والخلق خلقه، والحكم حكمه.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٢]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
لمّا سلكوا مسلك أهل فرعون فى الضلال، سلكنا بهم مسلكهم فيما أذقناهم من العذاب وسوء الحال، وسنّة الله ألا تغيير فى الإنعام، وعادته ألا تبديل فى الانتقام، ومن لم يعتبر بما يشهد «٢» اعتبر بما يصنعه به.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٣]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣).
(٢) أي بما يشهده يحدث لغيره.
وإذا أراد- سبحانه- إزالة نعمة عن عبد أذلّة بخذلان الكفر، فإذا حال «١» عن طريق الشكر عرّض النّعمة للزوال. فما دام العبد يشكر النعمة مقيما كان الحقّ فى إنعامه عليه مديما، فإذا قابل النعمة بالكفران انتثر سلك نظامه، فبقدر ما يزيد فى إصراره يزول الأمر عن قراره.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
تنوّعت من آل فرعون الذنوب فنوّع لهم العقوبة، وكذلك هؤلاء: عوقبوا بأنواع من العقوبة لمّا ارتكبوا أنواعا من الزّلة.
وفائدة تكرار ذكرهم تأكيد فى التعريف أنه لا يهمل المكلّف أصلا، وإن أهمله حينا ودهرا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٥]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥)
«عِنْدَ اللَّهِ» : فى سابق علمه وصادق حكمه فإذا كانوا فى علمه شرّ الخلائق فكيف يسعدون باختلاف السعايات وصنوف الطوارق؟
هيهات أن تتبدل الحقائق! وإذا قال: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» - وكلامه صدق وقوله حقّ- فلم يبق للرجاء فيهم مساغ، ولا ينجع فيهم نصح وإبلاغ.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٦]
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦).
وإن من الكبائر التي لا غفران لها فى هذه الطريق أن ينقض العبد عهدا، أو يترك عقدا التزمه بقلبه مع الله. أولئك الذين سقطوا عن (....) «١» الله، فرفع عنهم ظلّ العناية والعصمة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٧]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
يريد إن صادفت واحدا من هؤلاء الذين دأبهم نقض العهد فاجعلهم عبرة لمن يأتى بعدهم لئلا يسلكوا طريقهم فيستوجبوا عقوبتهم.
كذلك من فسخ عقده مع «٢» الله بقلبه برجوعه إلى رخص التأويلات، ونزوله إلى السكون مع العادات «٣» يجعله الله نكالا لمن بعده، بحرمانه ما كان خوّله، وتنغيصه عليه ما من حظوظه أمّله، فيفوته حق الله، ولا يكون له امتناع عما آثره على حق الله:
تبدّلت وتبدّلنا وا حسرتا لمن | ابتغى عوضا لليلى فلم يجد |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)
يريد إذا تحقّقت بخيانة قوم منهم فصرّح بأنه لا عهد بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سمت الأمانة، وخيانة كلّ أحد على ما يليق بحاله، ومن ضنّ «٤» بميسور له فقد خان فى عهده، وزاغ عن جده، وعقوبته معجّلة، فهو لا يحبّه الله، وتكون عقوبته بإذلاله وإهانته.
(٢) وردت (من) والصواب عقده (مع) الله.
(٣) وردت (العدالات) والصواب (العادات)
. (٤) وردت (ظن) وهى خطأ فى النسخ.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
كيف يعارض الحقّ أو ينازعه من فى قبضته تقلّبه، وبقدرته تصرّفه، وبتصريفه إياه عدمه وثبوته.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
أعدوا لقتال الأعداء ما يبلغ وسعكم ذلك من قوة، وأتمّها قوة القلب بالله، والناس فيها مختلفون: فواحد يقوى قلبه بموعود نصره، وآخر يقوى قلبه بأنّ الحقّ عالم بحاله، وآخر يقوى قلبه لتحققه بأن يشهد من ربه، قال تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» «١»، وآخر يقوى قلبه بإيثار رضاء الله تعالى على مراد نفسه، وآخر يقوى قلبه برضاه بما يفعله مولاه به.
ويقال أقوى محبة للعبد فى مجاهدة العبد وتبرّيه عن حوله وقوّته.
قوله جل ذكره: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ.
الإشارة فيه أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها، أو لاشتفاء صدره من قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هى العليا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦١]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١).
ويقال العبودية الوقوف حيثما وقفت إن أمرت بالقتال فلا تقصّر، وإن أمرت بالمواعدة فمرحبا بالمسالمة، «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فى الحالين فإنه يختار لك ما فيه الخيرة، فيوفّقك لما فيه الأولى، ويختار لك ما فيه من قسمى الأمر- فى الحرب وفى الصّلح- ما هو الأعلى.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
أي إن لبّسوا عليك، وراموا خداعك بطلب الصّلح منك- وهم يستبطنون لك بخلاف ما يظهرونه- فإنّ الله كافيك، فلا تشغل قلبك بغفلتك عن شرّ ما يكيدونك فإنى أعلم ما لا تعلم، وأقدر على ما لا تقدر.
هو الذي بنصره أفردك، وبلطفه أيّدك، وعن كل سوء ونصيب طهّرك، وعن رقّ الأشياء جرّدك «٢»، وفى جميع الأحوال كان لك.
هو الذي أيّدك بمن آمن بك من المؤمنين، وهو الذي ألّف بين قلوبهم المختلفة فجمعها على الدّين، وإيثار رضاء الحق. ولو كان ذلك بحيل «٣» الخلق ما انتظمت هذه الجملة، ولو أبلغت بكلّ ميسور من الأفعال، وبذلت كلّ مستطاع من المال- لما وصلت إليه.
(٢) وردت (حررك) بالحاء وهى خطأ فى النسخ والصواب أن تكون بالجيم.
(٣) وردت (يحيل) بياءين وهى خطأ فى النسخ فهى (حيل) جمع حيلة.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
أحسن التأويلات فى هذه الآية أن تكون «من» فى محل النّصب أي ومن اتبعك من المؤمنين يكفيهم الله.
ومن التأويلات فى العربية أن تكون «من» فى محل الرفع أي حسبك من اتبعك من المؤمنين.
وقد علم أن استقلال الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- كان بالله لا بمن سوى الله، وكلّ من هو سوى الله فمحتاج إلى نصرة الله، كما أن رسول الله محتاج إلى نصرة الله «١».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
المؤمن لا يزداد بنفسه ضعفا إلّا ازداد بقلبه قوة، لأن الاستقلال بقوة النّفس نتيجة الغفلة، وقوة القلب بالله- سبحانه- على الحقيقة.
قوله جل ذكره: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
هذا لهم، فأمّا النبي- صلّى الله عليه وسلّم- فهو بتوحيده كان مؤمّلا بأن يثبت لجميع الكفار لكمال قوّته بالله تعالى، قال عليه السّلام: «بك أصول» «٢»، وفى تحريضه للمؤمنين
(٢) «اللهم بك أصول وبك أجول وبك أسير».
كان هذا من دعائه صلوات الله عليه- إذا أراد سفرا (الإمام أحمد والبزاز عن على كرم الله وجهه، وقال الحافظ البيهقي: رجاله ثقات).
والعوام يحملون المشاقّ بنفوسهم وجسومهم، والخواص بقلوبهم وهممهم، وقالوا:
«والقلب يحمل ما لا يحمل البدن» وقال آخر.
وإن ترونى أعاديها فلا عجب | على النفوس جنايات من الهمم |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٧]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)
أي لا ينبغى لنبى من الأنبياء- عليهم السّلام- أن يأخذ أسارى من أعدائه ثم يرضى بأن يأخذ منهم الفداء، بل الواجب عليه أن يثخن فى الأرض أي يبالغ فى قتل أعدائه- إذ يقال أثخنه المرض إذا اشتدّ عليه. وقد أخذ النبي- صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزا لوجوب القول بعصمته، ولكن لو قاتلتم كان أولى. وأراد ب «عَرَضَ الدُّنْيا» أخذ الفداء، والله جعل الفداء، والله جعل رضاه فى أن يقاتلوهم، وحرمة «١» الشرع خلاف رحمة الطبع فشرط العبودية أن يؤثر العبد الله، وإذا كان الأمر بالغلظة فكما قال تعالى: «وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ» «٢».
(٢) آية ٢ سورة النور.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٨]
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
لولا أن الله حكم فى آزاله بإحلال الغنيمة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته لمسّكم- لأجل ما أخذتم من الفداء منهم يوم بدر- عذاب عظيم، ولكن الله أباح لكم الغنيمة فأزال عنكم العقوبة.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٩]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
الحلال ما كان مأذونا فيه، والحلال الطيّب أن تعلم أن ذلك من قبل الله فضلا، وليس لك من قبلك استحقاقا.
ويقال الحلال الصافي ما لم ينس صاحبه فيه معبوده.
ويقال هو الذي لا يكون صاحبه عن شهود ربّه- عند أخذه- غافلا.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
الذي يعطونه خير مما أخذ منهم. ويحتمل أن يكون ما فى الآخرة من حسن الثواب، ويحتمل أن يكون ما فى الدنيا من جميل العوض. ويقال هو ما بوصلهم إليه من توفيق الطاعات، وحلاوة الإيمان، وهو خير مما أخذ منهم.
ويقال ما أعطاهم من الرضاء بما هم فيه من الفقر، بعد ما كانوا أغنياء فى حال الشّرك.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧١]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
إن عادت العقرب عدنا لها | وكانت النّعل لها حاضرة |
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
ذكر صفة المهاجرين مع الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- وصفتهم أنهم آمنوا ثم هاجروا مع الرسول صلوات الله عليه وسلامه، ثم «جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» هؤلاء هم المهاجرون.
أما الذين آووا فهم الأنصار آووا الرسول- عليه السّلام- والمؤمنين.
فهذان الفريقان بعضهم أولياء بعض فى النصرة والدين.
وأما الذين آمنوا ولكن لم يهاجروا فليست لهم هذه الموالاة إلى أن يهاجروا، وإن استعانوا بكم فعليكم نصرهم.
«إِلَّا عَلى قَوْمٍ» وهم المعاهدون معكم.
وكمال الهجرة مفارقة الأخلاق الذميمة، وهجران النّفس فى ترك إجابتها إلى ما تدعو
وأما قوله «وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا» فهم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عوامّ هؤلاء فى الأمور الدنيوية، وخواصّهم فى الكرائم فى الآخرة، وخاصّ الخاصّ فى كل ما يصحّ به الإثبات من سنّى الأحوال إلى ما لا يدرك الوهم.
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)
قطع العصمة بينهم وبين المؤمنين، فالمؤمن للأجانب مجانب، وللأقارب مقارب.
والكفّار بعضهم لبعضهم، كما قيل: «طير السماء على ألّافها تقع».
قوله جل ذكره:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٥]
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
يريد من سلك مسلكهم فى الحال، ومن سيلحق بهم فى الاستقبال وآتى الأحوال فالالفة تجمعهم، والولاية تشملهم، فلهم من الله فى العقبى جزيل الثواب، والنجاة من العذاب.
ولهم فى الدنيا الولاية والتناصر، والمودة والتقارب، والله أعلم.
ذكر السيد المحقق فى الصحيفة ٢٠ موقفه من أخطاء الناسخ بأنه اتخذ منها ثلاثة مواقف (ا) موقفا نجد فيه الخطأ مؤكدا» ويتجلى ذلك عند كتابة بعض الآيات الكريمة حيث تسقط كلمة أو حرف أو تزيد كلمة أو حرف، فنصلح هذا الخطأ.
ولما كانت الطبعة الأولى كثيرة الأخطاء خاصة فى الآيات القرآنية، فقد قمت بتصويبها وتصحيحها قبل هذه الطبعة الثانية (أفست)..
أما ما ورد فى ب. ج، فقد تركته كما هو حسب منهج السيد المحقق وسأقوم بمشيئة الله تعالى بتصويب المجلدين: الثاني، الثالث، على هذا النحو، وأرجوا الله التوفيق والعون.
متولى خليل عوض الله الباحث الأول- مركز تحقيق التراث
الصفحة مدخل/ ٣ صورة لورقة من المخطوطة السوفيتية/ ٣٩ سورة فاتحة الكتاب/ ٤٢ سورة البقرة/ ٥٢ سورة آل عمران/ ٢١٧ سورة النساء/ ٣١٠ سورة المائدة/ ٣٩٦ سورة الأنعام/ ٤٥٩ سورة الأعراف/ ٥١٦ سورة الأنفال/ ٦٠١
[الجزء الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم «... أهل الجنة طابت لهم حدائقها، وأهل النار أحاط بهم سرادقها، والحقّ- سبحانه- منّزه عن أن تعود إليه من تعذيب هؤلاء عائدة، ولا من تنعيم هؤلاء فائدة..جلّت الأحدية، وتقدّست الصمدية.
ومن وقعت عليه غبرة فى طريقنا لم تقع عليه قترة فراقنا، ومن خطا خطوة إلينا وجد حظوة لدنيا، ومن نقل قدمه نحونا غفرنا له ما قدّمه، ومن رفع إلينا يدا أجز لنا له رغدا، ومن التجأ إلى سدّة كرمنا آويناه فى ظلّ نعمنا، ومن شكافينا غليلا، مهّدنا له فى دار فضلنا مقيلا» عبد الكريم القشيري عند سورة الكهف
عبد الكريم القشيري عند سورة اليونس