تفسير سورة النحل

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة النحل من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (٧)
شرح الكلمات:
أتى أمر الله: أي دنا وقرب أمر لله بعذابكم أيها المشركون فلا تستعجلون.
ينزل الملائكة بالروح: أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة جبريل.
خلق الإنسان من نطفة: أي قطرة من المني.
دفء ومنافع: أي ما تستدفئون به، ومنافع من العسل واللبن واللحم والركوب.
حين تريحون: أي حين تردونها من مراحها.
وحين تسرحون.: أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي تسرح فيها.
إلا بشق الأنفس: أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات:
لقد استعجل المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله: ﴿أتى أمر١ الله﴾ أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر بن الحارث القائل: ﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو أئتنا بعذاب أليم﴾، جاءه بعد سُنيات قلائل فهلك ببدر صَبْراً، إلى جهنم، وعَذَابُ يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى: ﴿فلا تستعجلوه﴾ وقوله ﴿سبحانه وتعالى عما يشركون﴾.
١ من الجائز أن يراد بـ ﴿أتى أمر الله﴾ القيامة لقول الله تعالى: ﴿اقترب للناس حسابهم﴾ وقوله: ﴿اقتربت الساعة﴾ وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه".
98
أي تنزه وتقدس عما يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو. وقوله ﴿ينزل الملائكة بالروح١ من أمره﴾ أي بإرادته وإذنه ﴿على من يشاء من عباده﴾. أي ينزل جبريل عليه السلام بالوحي على من يشاء من عباده٢ وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله ﴿أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون﴾ أي بأن انذروا٣ أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم عذاباً لا طاقة لهم به، لأنه لا إله إلا الله، وكل الآلهة دونه باطلة. إذاً فاتقوا الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير للوحي والنبوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقرير التوحيد أيضاً وقوله تعالى في الآيات التالية: ﴿خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون﴾ استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشر ك فالذي خلق السموات والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما مُعِين له ولا مساعد حُقَّ أن يعبد، لا تلك الآلهة الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق ﴿تعالى عما يشركون﴾ أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله: ﴿خلق الإنسان من نطفة﴾ أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً حتى إذا رباه وأصبح رجلاً إذا هو خصم لله يجادل ويعاند٤، ويقول من يحيي العظام وهي رميم. وقوله تعالى ﴿والأنعام خلقها لكم فيها دفء٥ ومنافع ومنها تأكلون﴾ فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه. فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فينتفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر
١ بالروح، أي بالوحي بالنبوة نظيره قوله تعالى: ﴿يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده﴾.
٢ أي: من الأنبياء ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمامهم وخاتمهم وقوله: ﴿أن أنذروا﴾ : تفسير لقوله: ﴿ينزل الملائكة بالروح﴾.
٣ أمر الله الأنبياء الذين أوحي إليهم بشرعه أن ينذروا المشركين عاقبة الشرك ويدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح بعد نبذ الشرك والعمل الفاسد.
٤ هذا الإنسان الخصيم هو أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظم رميم فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفيه نزل: ﴿أو لم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة..﴾ الخ من سورة يس.
٥ الدفء: الشيء الذي يدفىء الإنسان، والجمع: ادفاء، ويقال: دفىء دفاءة ككره كراهة.
99
مخلوقاته وقوله: ﴿ولكم فيها جمال﴾ ١ أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح ﴿وحين تسرحون﴾ أي تخرجونها صباحاً من مراحها إلى مراعيها، فهذه لذة روحية ببهجة المنظر. وقوله ﴿وتحمل أثقالكم إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق٢ الأنفس﴾ أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلدٍ إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها الإنسان إلا بشق الأنفس وبذل الجهد والطاقة، لولا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل الخيل والبغال والحمير في حمل٣ الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وقوله تعالى: ﴿إن ربكم﴾ أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره لرؤوف رحيم، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلولا لطف الله بالإنسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قرب يوم القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آتٍ لا محالة، وكل آتٍ قريب.
٢- تسمية الوحي بالروح من أجل أنه يحيى القلوب، كما تحيي الأجسام الأرواح.
٣- تقرير التوحيد والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآء لَّكُم مِّنْهُ
١ الجمال يكون في الصورة، وهو تناسب أجزائها، ويكون في الأخلاق بأن يكون المرء على صفات محمودة كالعدل والعلم والحكمة وكظم الغيظ وإرادة الخير لكل أحد وجمال الأفعال يكون بملاءمتها لمصالح الخلق نافعة لهم غير ضارة بهم.
٢ شق النفس: مشقتها، وغاية جهدها وعليه فالشق المشقة، والشق: الجانب من كل شيء.
٣ في الآية دليل على جواز ركوب الإبل، والحمل عليها لكن لا تحمل أكثر مما تطيق فقد ضرب عمر حمالاً وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق. وكان لأبي الدرداء جمل يقال له دمون يقول له: يا دمون لا تخاصمني عند ربك.
100
شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)
شرح الكلمات:
ويخلق ما لا تعلمون: من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
وعلى الله قصد السبيل: أي تفضلاً منه وامتناناً ببيان السبيل القاصدة وهي الإسلام.
ومنها جائر: أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
ومنه شجر: أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
فيه تسيمون: ترعون مواشيكم.
مسخراتٍ بأمره: أي بإذنه وقدرته.
وما ذرأ لكم في الأرض: أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى: ﴿والخيل١ والبغال والحمير﴾ أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم
١ قيل: واحد الخيل: خائل، وقيل: هو اسم جنس لا واحد له، وهذه الثلاثة: الخيل والبغال والحمير لم تدخل في لفظ الأنعام، ونصب: (والخيل) على تقدير: (وخلق الخيل).
101
إياها إذ قال: ﴿لتركبوها وزينة١﴾ أي ولأجل أن تكون زينةً لكم في حياتكم وقوله ﴿ويخلق مالا تعلمون﴾ أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في عبادته سواه. وقوله ﴿وعلى الله قصد السبيل٢﴾ ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام، في حين إن ما عدا الإسلام من سائر الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾ وقوله ﴿ولو شاء لهداكم أجمعين﴾ أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين وذلك لكمال قدرته وعلمه، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما جاء في الآيات التالية (١٠، ١١، ١٢، ١٣، ١٤، ١٥) إذ قال تعالى: ﴿هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب٣﴾ تشربون منه وتتطهرون، ﴿ومنه﴾ أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر٤ لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على الماء وقوله ﴿فيه تسيمون٥﴾ أي في ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية أي ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى: ﴿ينبت لكم به﴾ أي بما أنزل من السماء من ماء ﴿الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات﴾ كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء. وقوله ﴿إن في ذلك﴾ أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به
١ أخذ مالك من قوله تعالى: ﴿لتركبوها وزينة﴾ : حرمة أكل لحوم الخيل ووافقه أبو حنيفة، وأجاز الجمهور أكلها لأنّ الآية لم تحرّم شيئاً وإنّما ذكرت فائدة من فوائدها وهي الركوب، ومن أدلة الجمهور: الحديث الصحيح من ذلك قول الصحابي نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن لنا في لحوم الخيل". وقال جابر رضي الله عنه: "كنا نأكل لحوم الخيل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وحديث مسلم عن أسماء رضي الله عنها قالت: "فجزرنا فرسا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن بالمدينة وأكلناه".
٢ أي: على الله بيان قصد السبيل، والسبيل هو الإسلام، أي: بيان شرائعه وأحكامه وحِكمه ومواعظه بواسطة كتبه ورسله. وقصد السبيل: استقامته كما أن جائر السبيل: هو الحائد عن الاستقامة.
٣ الشراب: اسم لما يشرب وذكر للماء النازل من السماء فائدتين. الأولى: الشراب والثانية: إنبات النبات وهما نعمتان.
٤ لفظ الشجر: يطلق على النبات ذي الساق الصلبة ويطلق على مطلق العشب والكلأ تغليباً.
٥ الإسامة: إطلاق الإبل للسوم وهو الرعي يقال: سامت الماشية إذا رعت وأسامها: إذا رعاها.
102
﴿لآية﴾ أي علامةً واضحةً على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره. ولكن ﴿لقوم يتفكرون﴾ فيتعظون. أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا يجدون آية ولا شبة آية في الكون كله وهم يعيشون فيه. وقوله تعالى: ﴿وسخر لكم الليل والنهار﴾ الليل للسكون الراحة، والنهار للعمل ابتغاء الرزق وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبداً إلى أن يأذن الله بانتهائهما وقوله: ﴿والشمس والقمر﴾ أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها، وضوء القمر لمعرفة عدد السنين والحساب، وقوله: ﴿والنجوم مسخرات١ بأمره﴾ كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر وكونها زينة وجمالاً للسماء التي هي سقف دارنا هذه.. وقوله ﴿إن في ذلك﴾ المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ﴿لآيات﴾ عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده فيها، ولكن ﴿لقومٍ يعقلون﴾ أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا يعقلون، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب شكره عليهم وقوله تعالى: ﴿وما٢ ذرأ لكم في الأرض﴾ أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات ﴿مختلفاً ألوانه﴾ ٣ وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره ﴿إن في ذلك﴾ الخلق العجيب ﴿لآية﴾ أي في دلالة واضحة على وجود الخالق عز وجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن ﴿لقوم يذكرون﴾ فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كون الخيل٤ والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى فيها وهي أكل
١ ﴿مسخرات﴾ : أي: مذللاّت لمعرفة الأوقات ونضج الثمار، والاهتداء بالنجوم في الظلمات.
٢ الذرء: الخلق بالتناسل والتولّد بالحمل والتفريخ فليس الإنبات فقط.
٣ المخلوقات قسمان: قسم منها مسخر مذلل كالدواب والأنعام والأشجار، وقسم غير مذلل ولا مسخر، وشاهد هذا: قول كعب الأحبار: لولا كلمات أقولهن لجعلتني يهود حماراً فقيل له وما هن؟ قال: أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، وبأسماء الله الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم من شرّ ما خلق وذرأ وبرأ.
٤ ما في الآية: ﴿والخيل والبغال والحمير﴾ ما يدلى على وجوب الزكاة فيها، وفي الحديث الصحيح: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" رواه مالك.
103
لحوم الخيل لثبوت السنة بإباحة لحوم الخيل، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.
٢- الإسلام هو السبيل التي بينها الله تعالى فضلاً منه ورحمة وما عداه فهي سبل جائرة عن العدل والحق.
٣- فضيلة التفكر والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر والشكر وحده دون سواه.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ١ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (١٩)
شرح الكلمات.
حلية تلبسونها: هي اللؤلؤ والمرجان.
مواخر فيه: أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار اليوم.
١ تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه، وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره وهي نعمة إذ لو شاء الله لسلّط البحر على العباد لأغرقهم.
104
من فضله: أي من فضل الله تعالى بالتجارة.
أن تميد بكم: أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
لا تحصوها: أي عداً فتضبطوها فضلاً عن شكرها للمنعم بها عز وجل.
ما تسرون وما تعلنون: من المكر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة، إذ الخطاب يتناولهم أولاً ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سرٍ وعلانية في أي أحد.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده وعبادته وشكره وذكره قال تعالى: ﴿وهو الذي سخر لكم البحر﴾ وهو كل ماء غمر كثير عذباً كان أو ملحاً وتسخيره تيسير الغوص فيه وجرى السفن عليه. وقوله ﴿لتأكلوا منه لحماً١ طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها﴾ بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم٢. وقوله: ﴿وترى الفلك مواخر فيه﴾ أي وترى أيها الناظر إلى البحر ترى السفن تمخر الماء أي تشقه ذاهبة وجائية. وقوله: ﴿ولتبتغوا﴾ أي سخَّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وقوله ﴿لعلكم تشكرون﴾ أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف بنعمته وصرفها في مرضاته وقوله: ﴿وألقى في الأرض رواسي٣﴾ أي ألقى في الأرض جبالاً ثوابت ﴿أن تميد بكم﴾ كي لا تميد بكم، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله: ﴿وأنهاراً﴾ أي وأجرى لكم أنهاراً في الأرض كالنيل والفرات
١ قسّم مالك اللحم ثلاثة أقسام وهي: لحم ذوات الأربع، ولحم ذوات الريش، ولحم ذوات الماء، ومنع بيع الجنس الواحد بجنسه متفاضلا أو نسيئة.
٢ الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة للأحاديث الثابتة وذلك منها حديث البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتما من فضة ونقش فيه محمد رسول الله" ولذا جاز للقضاة وغيرهم أن ينقشوا أسماءهم على خواتمهم.
٣ في هذه الآية دليل على استعمال الأسباب إذ كان الله قادراً على سكونها دون الجبال، ومع هذا أرساها، وسكنها بالجبال تعليما لعباده للأخذ بالأسباب، و ﴿رواسي﴾ جمع راس، على غير قياس، كفوارس، وعواذل جمع فارس وعاذل.
105
وغيرهما ﴿وسبلا﴾ أي وشَّق لكم طرقاً ﴿لعلكم تهتدون﴾ إلى منازلكم في بلادكم وقوله ﴿وعلامات﴾ أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية، وقوله ﴿وبالنجم﴾ أي وبالنجوم١ ﴿هم يهتدون﴾ فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية (١٧) ﴿أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون﴾ هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدير؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله ﴿أفلا تذكرون﴾ فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب. وقوله تعالى: ﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ بعدما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها، ولذا قال: ﴿إن الله لغفور رحيم﴾ ولولا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم في شكر نعمه عليهم ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عز وجل وقوله تعالى: ﴿والله يعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذاً حاجاتهم وما تتطلبه حياتهم، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالآية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان العلة في الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق لِيُشكر.
١ وقد يراد بالنجم: الجدي خاصة لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس وقد سأله عن النجم فقال له: "هو الجدي عليه قبلتكم وبه تهتدون في برّكم وبحركم" وكون المراد بالنجم النجوم لقوله تعالى: ﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر﴾.
106
٢- إباحة أكل الحوت وكل دواب البحر.
٣- لا زكاة في اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
٤- المقارنة بين الحي الخلاق العليم، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله تعالى لأن من يَخلُق ليس كمن لا يَخلَق.
٥- عجز الإنسان عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم الله تعالى بها.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (٢٥)
شرح الكلمات:
وهم يخلقون: أي يصورون من الحجارة وغيرها.
وما يشعرون أيان يبعثون: أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.
107
قلوبهم منكرة: أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.
وهم مستكبرون: لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
لا جرم: أي حقاً.
أساطير الأولين: أي أكاذيب الأولين.
ليحملوا أوزارهم: أي ذنوبهم يوم القيامة.
ألا ساء ما يزرون: أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات:
في هذا السياق مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى: ﴿والذين يدعون من١ دون الله﴾ أي تعبدونهم أيها المشركون ﴿أموات غير أحياء﴾ أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا ينطقون، وقوله ﴿وما يشعرون أيان يبعثون٢﴾ أي لا يعلمون٣ متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب والجزاء على الكسب في هذه الحياة، وقوله ﴿إلهكم إله واحد﴾ هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن المعبود واحد لا شريك له، وهو الله جل جلاله، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يُدبِّر ولا يحيى ولا يميت فتأليهه سفه وضلال، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها بالمنطق السليم قال تعالى: ﴿فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون﴾ ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتنبيه آيات القرآن الكريم، وهم مع إنكار قلوبهم لما يسمعون من الحق مستكبرون عن
١ قرأ عامة القراء ﴿يدعون﴾ بالتاء لأن ما قبله خطاب، وقرىء عن عاصم وحفص بالياء، وهي قراءة يعقوب أيضاً.
٢ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تبعث الأصنام وتركب فيها الأرواح ومعها شياطينها فيتبرؤون من عبدتها، ثم يؤمر بالشياطين والمشركين إلى النار.
٣ عبّر عنهم بصيغة من يعقل لأن المشركين يزعمون أنها تعقل عنهم وتشفع لهم عند الله تعالى، وتقرّبهم إلى الله زلفى.
108
قبول الحق والإذعان له. وقوله تعالى: ﴿لا جرم١ أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين٢﴾ أي حقاً ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون.. ويا للحسرة ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه لهم، وقوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين٣﴾ يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا: ﴿أساطير الأولين٤﴾ أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول بها، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله، قال تعالى: ﴿ليحملوا أوزارهم﴾ أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة غير منقوصة يوم القيامة، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي: ان من دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء، وكذا من دعا إلى٥ هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء. وقوله تعالى: ﴿ألا ساء ما يزرون﴾ أي قُبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في نار جهنم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بطلان الشرك وتقرير التوحيد.
٢- التكذيب باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
١ ﴿لا جرم﴾ : كلمة تحقيق ولا تكون إلا جواباً، يقال: فعلوا كذا وكذا فيجاب بكلمة لا جرم أنهم سيندمون.
٢ أي: فهو لا يثيبهم ولا يثني عليهم خيراً، وفي الحديث الصحيح: "إن المستكبرين يحشرون أمثال الذر يوم القيامة يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبّرهم". قالت العلماء: كل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه إلا الكبر، وهو أصل العصيان كله.
٣ قيل: إن الآية نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل: أساطير الأولين. والآية تشمله وغيره ممن قال ويقول هذه الكلمات الكاذبة الباطلة.
٤ الأساطير: الأباطيل، والترهات، و ﴿أساطير الأولين﴾ : خبر والمبتدأ الذي أنزله أي: الذي أنزله أساطير الأوّلين.
٥ وفي الصحيح شاهد هذا فقد روى مسلم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً".
109
٣- التنديد بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.
٤- بيان إثم وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
٥- بيان تبعة من يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
110
أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (٣٤)
شرح الكلمات:
من قبلهم: أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
فأتى الله بنيانهم: أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من أسسه.
وخر عليهم السقف: أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
كنتم تشاقون فيهم: أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه، وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.
وقال الذين أوتوا العلم: أي الأنبياء والمؤمنون.
ظالمي أنفسهم: بالشرك والمعاصي.
فألقوا السلم: أي استسلموا وانقادوا.
فلبئس مثوى المتكبرين: مثوى المتكبرين: أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلاً.
وقيل للذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
للذين أحسنوا: أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوْا بها وفق مراد الله تعالى.
حسنة: أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
ولنعم دار المتقين: أي الجنة دار السلام.
طيبيين: أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
يقولون سلام عليكم: أي يقول لهم ملك الموت "عزرائيل " وأعوانه.
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة: أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
أو يأتي أمر ربك: أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عز وجل.
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون: أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.
111
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول تعالى: ﴿قد مكر الذين من قبلهم﴾ أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من الجبابرة الذين تطاولوا على الله عز وجل ومكروا برسلهم، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار، وفرعون قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه.. وقوله: ﴿فأتى الله بنيانهم من القواعد﴾ أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة ﴿فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون١﴾. وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم يمكرون بنبيهم ويبيَّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى: ﴿ثم يوم القيامة يخزيهم﴾ أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله: ﴿أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم٢﴾ أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم دوني كما تشاقون أوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين: ﴿إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين﴾ أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم٣ الملائكة ظالمي أنفسهم﴾ بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله ﴿فألقوا السلم﴾ أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا وحاولوا الاعتذار بالكذب وقالوا ﴿ما كنا نعمل من سوء﴾ فترد عليهم الملائكة قائيلين: ﴿بلى﴾ أي كنتم تعملون السوء ﴿إن الله عليم بما كنتم تعملون﴾ ويقال لهم أيضاً ﴿فادخلوا أبواب جهنم﴾ أي أبواب طبقاتها ﴿خالدين فيها فلبئس﴾ جهنم ﴿مثوى﴾ أي مقاماً ومنزلاً ﴿للمتكبرين﴾ عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى: ﴿وقيل للذين اتقوا﴾ أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا رسوله كذلك: ﴿ماذا أنزل ربكم﴾ أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من
١ أي: من حيث ظنوا أنهم في أمان، وقال ابن عباس يعني البعوضة التي أهلك الله تعالى بها النمرود الكنعاني.
٢ قرىء ﴿تشاقون﴾ بفتح النون وبكسرها على الإضافة، كما قرأ شركائي ابن كشر: شركاي بفتح الياء وبدون همزة.
٣ قيل: الآية نزلت في الذين تركوا الهجرة إلى المدينة وبقوا في مكة يزاولون أعمال الشرك خوفاً من المشركين، ومن بينهم الذين لمّا رأوا قلّة المؤمنين رجعوا إلى الشرك.
112
دعوة الإسلام فيقولون له: ﴿خيراً﴾ أي أنزل خيراً لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.
كما ذكر تعالى جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين، ذكر جزاء المحسنين. فقال: ﴿للذين أحسنوا﴾ أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس إلى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا ﴿حسنة﴾ وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة١، ولدار الآخرة خيرٌ لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة وقوله تعالى: ﴿ولنعم دار المتقين﴾ ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى: ﴿جنات٢ عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون﴾ هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمراكب وقوله تعالى: ﴿لهم فيها ما يشاءون﴾ هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى: ﴿كذلك يجزي الله المتقين﴾ أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين٣﴾ أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله: ﴿يقولون﴾ أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه ﴿سلام عليكم﴾ ٤ تحييهم وفي ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. ﴿ادخلوا الجنة﴾ بأرواحهم اليوم
١ مع الفتح والنصر والغنائم أيضاً إذ الكل حسنة عظيمة.
٢ ﴿جنات عدن﴾ : بدل من قوله: (دار المتقين).
٣ طيّبين بإيمانهم وعملهم الصالح وبعدهم عن الشرك والمعاصي ووفاتهم أيضاً طيبة سهلة لا صعوبة فيها ولا ألم بخلاف ما تقبض به أرواح أهل الكفر والشرك والفساد.
٤ قال ابن المبارك: إذا استقنعت نفس العبد المؤمن "أي: اجتمعت في فيه تريد الخروج" جاءه ملك الموت فقال له: السلام عليك وليَّ الله الله يقرأ عليك السلام، ثم قرأ هذه الآية: ﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ الخ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربّك يقرئك السلام.
113
وبأجسامهم غداً يوم القيامة. وقوله ﴿بما كنتم تعملون﴾ أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات بعد عمل قلوبكم بالإيمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عز وجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات (٣١، ٣٢) وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئاً إيمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم الآخر. ﴿هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة﴾ أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ﴿أو يأتي أمر ربك﴾ بإبادتهم واستئصالهم، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه فأهلكهم. ﴿وما ظلمهم الله﴾ تعالى في ذلك أبداً ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة ﴿فأصابهم سيئات﴾ أي جزاء سيئات ﴿ما عملوا﴾ من الكفر والظلم ﴿وحاق بهم﴾ أي نزل بهم وأحاط بهم ﴿ما كانوا به يستهزئون﴾ إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.
من هداية الآيات:
١- سوء عاقبه المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
٢- بيان خزي الله تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
٣- فضل أهل العلم إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
٤- بان استسلام الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
٥- تقرير معتقد البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
آ- إطلاق لفظ خير على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله، فلا ينبغي أن يرى أحداً من أهل الدنيا خيراً منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
٧- سعادة الدارين لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم بموافقه الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.
114
٨- بشرى أهل الإيمان والتقوى عند الموت، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب العالمين.
٩- إعمال القلوب والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمناً لها لغلائها، وإنما الأعمال تزكي النفس وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
١٠- ما ينتظر المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب، عاجلاً أو آجلاً فهو نازل بهم حتما مقضياً إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٠)
115
شرح الكلمات:
وقال الذين أشركوا: هم كفار قريش ومشركوها.
ولا حرمنا من دونه من شيء: كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
فهل على الرُّسل إلا البلاغ: أي ما على الرُّسل إلا البلاغ فالاستفهام للنفي.
واجتنبوا الطاغوت: أي عبادة الأصنام والأوثان.
حقت عليه الضلالة: أي وجبت في علم الله أزلا.
جهد أيمانهم: أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
بلى وعداً عليه حقاً: أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعداً وأحقه حقاً. فهو كائن لا محالة.
يختلفون فيه: أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
انهم كانوا كاذبين: أي في قولهم "لا نبعث بعد الموت".
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مُخْبراً عنهم ﴿وقال الذين أشركوا﴾ أي مع الله آلهةً أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعُزَّى وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دون تحريمه شيئاً فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى، أو قالوه استهزاء وسخرية دفاعاً عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى، والأمران محتملان. والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلاً على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله، فدل ذلك قطعاً على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام رداً على هذه الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى: {كذلك فعل الذين١
١ الإشارة بذلك إلى الإشراك وتحريمهم أشياء من تلقاء أنفسهم أي: كفعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم ممن مكروا برسلهم وأهلكم الله جل جلاله.
116
من قبلهم} من الأمم السابقة قالوا قول هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى أخذهم الله بالعذاب. وقوله ﴿فهل١ على الرسل٢ إلا البلاغ المبين﴾ أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا إلزامهم بالشرع وإنما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير.. فلذا كان في الجملة تسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (٣٥) وقوله في الآية الثانية (٣٦) ﴿ولقد بعثنا٣ في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت﴾ فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسره بعبادة الله تعالى وحده، واجتناب الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان إلى عبادته بالتزيين والتحسين عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق أوليائه من٤ الناس من جهة أخرى.
وقوله تعالى: ﴿فمنهم﴾ أي من الأمم المرسل إليهم ﴿من هدى الله﴾ فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد، ﴿ومنهم من حقت عليه الضلالة٥﴾ أزلاً في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلَّ ضلالاً لا أمل في هدايته. وقوله تعالى: ﴿فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين﴾ أمرٌ لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم وشرعهم الباطل أمرٌ لهم أن يسيروا في الأرض جنوباً أو شمالاً فينظروا كيف كانت عاقبة المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال، ومدين ولوط وفرعون في الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمَّ عنه: ﴿إن تحرص﴾ يا رسولنا
١ الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، ولذا جاء الإسلام بعده أي: ما على الرسل إلا البلاغ، أي: ليس عليهم هداية الخلق إذ لا يملكون ذلك ولم يكلفوا به وإنما كلفوا بالبلاغ والبيان.
٢ في الآية: ﴿فهل على الرسل... ﴾ تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعليم وفيها أيضاً التحريض بإبلاغ المشركين.
٣ هذا الكلام معطوف على قوله: ﴿كذلك فعل الذين من قبلهم﴾ متضمن بياناً لسنة الله تعالى في إرسال الرسل لإحقاق الحق وإبطال الباطل ونصر المؤمنين، وهلاك الكافرين المكذبين.
٤ أولياء الشيطان: هم الكهان ودعاة الضلال الذين يصدّون عن سبيل الله بتزيين الباطل وتحسين الشرك والخرافة.
٥ في هذا ردّ على القدرية نفاة القدر إذ معنى: ﴿حقت﴾ : وجبت له أزلا في كتاب المقادير.
117
﴿على هداهم﴾ أي هدايتهم إلى الحق ﴿فإن الله لا يهدي من يضل١﴾ فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع إلى ربك في غير حرص يضر بك وقوله ﴿لا يهدي من يضل﴾ أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله، لأن اضلال الله تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله. وقوله ﴿وما لهم من ناصرين﴾ أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسرانٍ وحرمان. وقوله تعالى في الآية (٣٨) ﴿وأقسموا بالله جهد٢ أيمانهم لا يبعث الله من يموت﴾ اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب القلوب المنكرة، ومعنى ﴿أقسموا بالله جهد أيمانهم٣﴾ أي حلفوا أشد الإيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله ﴿بلى﴾ أي تبعثون وعد الله حقاً فلا بد ناجز ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون٤﴾ فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله: ﴿ليبين لهم الذي يختلفون فيه﴾ فلولا البعث الآخر ما عرف المُحق من المبطل في هذه الحياة والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولاً. وثانياً: ﴿وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين٥﴾ في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون: إنه مجرد ما تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون، نقول له كن
١ قرىء في السبع ﴿يهدي﴾ بضم الياء مبنياً للمجهول وقرىء: ﴿يهدي﴾ بفتح الياء مبنياً للمعلوم وقراءة لا يهدي هي التي فسر بها في التفسير. وقراءة يهدي، أي: أن الله إذا كتب على عبد شقاء لا يهديه للخلاص منه.
٢ روي أن رجلاً من المسلمين كان له دَين على مشرك فقاضاه منه وقال في بعض كلامه: والذي أرجوه بعد الموت، أنه لكذا وكذا فأقسم المشرك بالله: لا يبعث الله من يموت، فنزلت الآية.
٣ ذكر القرطبي عن قتادة أن رجلاً قال لابن عباس: إنّ ناسا يزعمون أنّ علياً مبعوث بعد الموت قبل الساعة يتأوّلون هذه الآية فقال ابن عباس: كذب أولئك إنما هذه الآية عامة للناس فلو كان عليَّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
٤ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "قال الله تعالى كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك".
٥ أي: في نفيهم البعث وإقسامهم على عدم وقوعه، وفي إنكارهم التوحيد والنبوّة أيضاً.
118
فيكون فوراً، والبعث الآخر من ذلك. هذا ما دل عليه قوله في الآية (٤٠) ﴿إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون١﴾ ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن الله تعالى إذا أراد شيئاً علمه أولاً ثم قال له كن فهو يكون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الرد على شبهة المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
٢- تفسير لا إله إلا الله.
٣- التحذير من تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
٤- بيان بعض الحكم في البعث الآخر.
٥- لا يستعظم على الله خلق شيء وإيجاده، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.
وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا في الله: أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرةً لدينه وإقامته بين الناس.
١ قال أهل العلم في الآية دليل على عدم خلق القرآن إذ لو كان مخلوقاً لكان قوله: ﴿كن﴾ مخلوقاً، ولا يحتاج إلى قول ثانٍ، والثاني يحتاج إلى ثالث وتسلسل وهذا محال وفيها دليل على أن الله مريد لجميع الحوادث خيرها وشرها نافعها وضارها، والدليل أن من رأى في سلطانه ما يكرهه ولا يريده فلأحد شيئين إما لكونه جاهلاً لا يدري وإما لكونه مغلوياً لا يطيق وهذا محال في حقه سبحانه وتعالى وبذلك تأكد أن الله مريد لكل ما يجري من أحداث في الملكوت وحكمته لا يخلو منها شيء.
119
لنبوئنهم في الدنيا حسنة: أي لننزلنهم داراً حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة لمن نزلت فيهم الآية.
الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون: أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار هجرتهم.
فاسألوا أهل الذكر: أي أيها الشاكوّن فيما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشراً مثله.
بالبينات والزبر: أي أرسلناهم بشراً بالبينات والزبر١ لهداية الناس.
وأنزلنا إليك الذكر: أي القرآن.
لتبين للناس ما نزل إليهم: علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل، البيان.
معنى الآيات:
إنه بعد اشتداد الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم، أذن الله تعالى على لسان رسوله للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى ثناء عليهم وتشجيعاً على الهجرة من دار الكفر فقال عز وجل ﴿والذين هاجروا٢ في الله﴾ أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه ﴿من بعد ما ظلموا﴾ أي من قبل المشركين ﴿لنبوئنهم﴾ أي لننزلهم ولنسكننهم ﴿في الدنيا حسنة﴾ وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقاً حسناً هذا بالنسبة لمن نزلت٣ فيهم الآية، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا الوعد كما قال تعالى: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيرا وسعة﴾ أي في العيش والرزق ﴿ولأجر الآخرة﴾ المعد لمن هاجر في سيبل
١ ﴿الزّبر﴾ : الكتب.
٢ أي: تركوا الوطن، والأهل، والقرابة كما تركوا السيئات. ومعنى: في الله أي: لأجل الله إذ بدار الكفر لا يتمكنون من عباده الله تعالى فإذا هاجروا تمكنوا فكانت هجرتهم إذا لله أي لعبادته التي خلقهم من أجلها.
٣ قيل: نزلت الآية في صهيب وبلال وعمار، وخبّاب إذ عذّبهم المشركون أشد العذاب حتى هاجروا، ويدخل في هذا أيضاً أبو جندل وغيره.
120
الله ﴿أكبر لو كانوا يعلمون١﴾. هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله: ﴿الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون﴾ ٢ بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولاً على الأذى في مكة ثم لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين أمورهم إليه، واثقين في وعده. هذا ما دلت عليه الآيتان (٤١)، (٤٢). وأما الآية الثالثة (٤٣) والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين كيف يرسل الله محمداً رسولاً وهو بشر مثلنا لم لا يرسل ملكاً.. وهو ما أخبر الله تعالى في قوله ﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ أي من الرسل ﴿إلا رجالاً﴾ لا ملائكة ﴿نوحي إليهم﴾ بأمرنا وقوله: ﴿فاسألوا﴾ أيها المشركون المنكرون أن يكون الرسول بشراً، اسألوا أهل الذكر وهو الكتاب٣ الأول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر ﴿إن كنتم لا تعمون﴾ فإنهم يخبرونكم وما موسى ولا عيسى إلا بشر، وقوله: ﴿بالبينات والزبر﴾ أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا. والزبر أي الكتب. ثم يقول تعالى لرسوله: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ وفي هذا تقريرٌ لنبوته وقوله: ﴿ولعلهم يتفكرون﴾ فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا. ويتوبوا إلى ربهم فينجوا ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١-فضل الهجرة ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
٢- وجوب سؤال أهل العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
٣- السنة لا غنى عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
١ هذا صالح لكلّ من المؤمنين ومعذبيهم، غير أنه في المؤمنين أظهر إذ كان عمر رضي الله عنه إذا أعطى المهاجرين العطاء قال: هذا ما وعدكم الله في الدنيا وما ادخر لكم في الآخرة أكثر ثم يتلو هذه الآية: ﴿ولأجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون﴾.
٢ قال العلماء: خيارُ المؤمنين من إذا نابه أمر صبر وإذا عجز عن أمر توكل وهو المراد من قوله تعالى: ﴿الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكلون﴾.
٣ يدخل في أهل الذكر أهل القرآن، وهم علماء هذه الأمّة، وبهذا أمر الله تعالى غير العالمين أن يسألوا أهل العلم، وأمر العالمين أن يعلموا ويبيّنوا ومن كتم منهم عُذِّب.
121
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (٤٧) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)
شرح الكلمات:
مكروا السيئات: أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التي مكروها.
في تقلبهم: أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
على تخوف: أي تنقص.
يتفيئوا ظلاله:. أي تتميل من جهةٍ إلى جهة.
سجداً لله: أي خضعاً لله كما أراد منهم.
داخرون: أي صاغرون ذليلون.
من فوقهم: من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتاً وسلطاناً وقهراً.
ها يؤمرون: أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تخويف المشركين وتُذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث والجزاء. قال تعالى: ﴿أفأمن الذين مكروا١﴾ المكرات
١ هذا وعيد للمشركين الذين احتالوا في إبطال الإسلام.
122
﴿السيئات﴾ من محاولة قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب بعضهم، أفأمنوا ﴿أن يخسف الله بهم الأرض﴾ من تحتهم فيقرون في أعمالها، ﴿أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون١﴾ ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط يذهب بما لهم. وقوله تعالى: ﴿أو يأخذهم في تقلبهم﴾ أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلدٍ إلى بلد. ﴿فما هم بمعجزين﴾ ٢ له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم. وقوله تعالى: ﴿أو يأخذهم على تخوف﴾ أي٣ تنقص٤ بأن يهلكهم واحداً بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى منهم أحداً، وقد أخذ منهم ببدرٍ من أخذ وفي أحد. وقوله تعالى: ﴿فإن ربكم لرؤوف رحيم﴾ تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لولا هما لأنزل بهم نقمته وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبةٍ أو إمهال لرجوع إلى الحق، وقوله تعالى: ﴿أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء٥﴾ من شجرٍ وجبل وإنسانٍ وحيوان ﴿يتفيؤا ظلاله﴾ بالصباح والمساء ﴿عن اليمين والشمائل﴾ " جمع شمال" ﴿سجداً لله﴾ خضعاً بظلالهم ﴿وهم داخرون٦﴾ أي صاغرون ذليلون. أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله وذلتهم بين يديه، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته. وقوله تعالى: ﴿ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة﴾ أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابةٍ أي من كل ما يدب من كائن على هذه الأرض ﴿والملائكة﴾ ٧
١ وقد تمّ لهم وذاقوا مُرَّاً يوم بدر بقتل صناديدهم وأسرهم.
٢ أي: بسابقين الله ولا فائتيه.
٣ التخوف: مصدر لفعل تخوّف إذا حاف، ومصدر لتخوّف المتعدي الذي بمعنى تنقص، وهو لغة هذيل، فللآية معنيان. الأول: أن يكون المعنى: يأخذهم العذاب وهم في حالة توقع بنزول العذاب لوجود أماراته كالرعد والبرق مثلا. والثاني: أن يكون المعنى بأن يأخذهم وهم في حالة تنقص بأن يأخذ القرية فتخاف القرية الأخرى وهو واضح المعنى في التفسير.
٤ ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما تفسير التخوّف: بأن يعاقب أو يتجاوز، ويشهد له الجملة التعليلية وهي ﴿فإنّ ربكم لرؤوف رحيم﴾ فهو لا يعاجل بالعقوبة.
٥ أي: من أي جسم قائم له ظل كشجرة أو جبل ومعنى تفيء الظلال: ميلانه من جانب إلى جانب ومنه سمي الظل بالعشي فيء: لأنه فاء من المشرق إلى المغرب أي. رجع، والفيء: الغنائم التي ترجع إلى المسلمين من الكافرين لأنّهم أحق بها فرجعت إليهم.
٦ أي: خاضعون، والدخور: الصغار والذل يقال: دخر الرجل فهو داخر وأدخره الله. قال ذو الرمّة:
فلم يبق إلا داخر في مخيس
ومنجحر في غير أرضك في حجر
والشاهد في قوله داخر أي خاضع ذليل والمخيس بناء من مدر يسجن فيه
٧ قيل: المراد بالملائكة: ملائكة الأرض، وخضهم بالذكر وهم داخلون في عموم ما في السموات وما في الأرض لشرف منزلتهم عند ربّهم جلّ جلاله، والملائكة يطيرون ولا يَدِبّون، فلذا أخرجوا أيضاً بالذكر.
123
على شرفهم يسجدون ﴿وهم لا يستكبرون﴾ عن عبادة ربهم ﴿ويخافون ربهم من فوقهم﴾ إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته. ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ فلا يعصون ربهم ما أمرهم. إذا كان هذا حال الملائكة فما بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر المخلوقات، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة الأمن من مكر الله.
٢- كل شيء ساجد لله، أي خاضع لما يريده منهم، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه العبد، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
٣- فضل السجود الطوعي الاختياري.
٤- مشروعية السجود عند هذه الآية: إذا قرأ القارىء أو المستمع: ﴿ويخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون﴾، عليه أن يسجد إن كان متطهراً إلى القبلة إن أمكن ويسبح في السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ١ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ
١ جائز أن يكون سكّان شرق الجزيرة من العرب قد انتقلت إليهم عقيدة المجوس المبنية على إله الخير وهو يزدان وإله الشر الذي هو أهرمُنْ وذلك لمجاورتهم لحكومة المجوس الممتدة إلى العراق، ويكون النهي في الآية موجهاً إليهم.
124
لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦)
شرح الكلمات:
لا تتخذوا إلهين: أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
وله ما في السموات والأرض: أي خلقاً وملكاً، إذاً فما تعبدونه مع الله هو لله ولم يأذن بعبادته.
وله الدين واصباً: أي خالصاً دائماً واجباً.
فإليه تجأرون: أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
فتمتعوا فسوف تعلمون: تهديدٌ على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً: أي يجعلون لآلهتهم نصيباً من الحرث والأنعام.
عما كنتم تفترون: أي تختلقون بالكذب وتفترون على الله عز وجل.
معنى الآيات:
بعد إقامة الحجج على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم: أيها الناس ﴿لا تتخذوا إلهين اثنين﴾ فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا إلهاً واحداً وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه ﴿إله واحد﴾ لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك، ومن عداه من مخلوقاته كيف تُسوَّى به وتُعبَد معه؟ وقوله تعالى: ﴿فإياي فارهبون١﴾ أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء، وليس لغيري شيء فأنا المحيي المميت، الضار النافع، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه وتعالى من لا يستحق أن يُرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى: ﴿وله ما في السموات والأرض﴾ ٢ برهان على بطلان رهبة غيره أو
١ الرهبة: الخوف، فمعنى ﴿فارهبون﴾ : خافوني ولا تخافوا سواي، وتقديم المفعول: ﴿فإيايّ﴾ مؤذن بحصر الرهبة في الله تعالى ونفيها عمَّن سواه.
٢ في الآية تقرير وحدانية الله تعالى إذ ما في السموات له، وما في الأرض له فهو إذاً إله واحد وبطل التعدد الذي يراه المجوس.
125
الرغبة في سواه ما دام له ما في السموات والأرض خلقاً وملكاً. وقوله ﴿وله الدين واصباً﴾ ١ أي العبادة والطاعة دائماً ثابتاً واجباً، ألا لله الدين الخالص. وقوله تعالى: ﴿أفغير الله تتقون﴾ يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لأنه الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسلبها، فكيف يُتقى من لا يملك ضراً ولا نفعاً ويُعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وقوله: ﴿وما بكم من نعمةٍ فمن الله﴾ ٢ يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم من نعمة جلت أو صغرت من صحةٍ أو مالٍ أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وواهبهم حياتهم، وليست من أحدٍ غيره، ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر من فقرٍ أو مرض أو تغير حال كخوف غرقٍ في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عز وجل: ﴿ثم إذا مسكم الضر فإليه﴾ دون غيره ﴿تجأرون﴾ برفع أصواتكم بالدعاء والاستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله. ﴿ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريقٌ﴾ كبير ﴿منكم بربهم يشركون﴾ فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذي كشف ضرهم وأنجاهم من هلكتهم.
وقوله: ﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ ٣ أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعمٍ وما أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم ينسى له ذلك كله، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذاً ﴿فتمتعوا٤﴾ أيها الكافرون ﴿فسوف تعلمون﴾ عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله تعالى: ﴿ويجعلون لما لا يعلمون نصنيباً مما رزقناهم﴾ وهذا ذكرٌ لعيب آخر من عيوبهم وباطلٍ من باطلهم أنهم يجعلون لأوثانهم التي لا يعلمون عنها شيئاً من نفعٍ أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو إحياء يجعلونها لها طاعةً للشيطان نصيباً وحظاً من أموالهم
١ لفظ الدّين هنا: صالح لأن يكون الطاعة يقال: دان فلان للملك: أطاعه وصالح لأن يكون الجزاء كقوله: ﴿مالك يوم الدين﴾ وصالح لأن يكون الديانة والكل لله. لا شريك له، فالطاعة واجبة له والجزاء هو الذي يملكه والديانة هو شارعها فهي له دون سواه.
٢ فيه إشارة إلى بطلان إله الخير الذي يدين له المجوس الذين يقولون الخير من إله الخير، والشر من إله الشر.
٣ وجائز أن تكون اللام: لام كي التعليلية.
٤ الأمر للتهديد.
126
يتقربون به إليها فسيبوا لها السوائب، وبحروا لها البحائر من الأنعام، وجعلوا لها من الحرث والغرس كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها: وقوله تعالى: ﴿تالله لتسئلن١ عما كنتم تفترون﴾ أقسم الجبار لهم تهديداً لهم وتوعداً أنهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير التوحيد بعبادة الله تعالى وحده. ٢- وجوب الرهبة من الله دون سواه.
٣- وجوب الدين لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
٤- كل نعمة بالعبد صغرت أو كبرت فهي من الله سبحانه وتعالى.
٥- تهديد المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
٦- التنديد بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ
١ هذا سؤال توبيخ ويتم في عرصات القيامة أو في النار.
127
وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (٦٢)
شرح الكلمات:
ويجعلون لله البنات: إذ قالوا الملائكة بنات الله.
ولهم ما يشتهون: أي الذكور من الأولاد.
ظل وجهه مسوداً: أي متغيراً بالسواد لما عليه من كرب.
وهو كظيم: أي ممتلىء بالغم.
أم يدسه في التراب: أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأُد.
مثل السوء: أي الصفة القبيحة.
ولله المثل الأعلى: أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
أن لهم الحسنى: أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى.
وأنهم مفرطون: أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى: ﴿ويجعلون١ لله البنات- سبحانه- ولهم ما يشتهون٢﴾ وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله تعالى البنات، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات إليهم، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أُخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملاً في غم وكرب ﴿وجهه مسوداً وهو كظيم﴾ ٣ ممتلىء بالغم والهم. ﴿يتوارى﴾ أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفاً من المعرة، وذلك ﴿من سوء ما بشر به﴾ وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبَشرَّ به: إما أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين
١ هذه الآية نزلت في خزاعة وكنانة إذ زعموا أنّ الملائكة بنات الله، وكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات.
(ما) موصولة، وهو وصلته مبتدأ في محل رفع، والخبر متعلّق الجار والمجرور أي: ثابت لهم.
٣ الكظيم: مشتق من الكظامة وهو شدّ فم القربة، إذا الكظيم هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلّم من الغمّ.
128
أولاده ﴿على هون﴾ أي مذلة وهوان، وإما أن ﴿يدسه في التراب﴾ ١ أي يدفنه حياً وهو الوأد المعروف عندهم. قال تعالى مندداً بهذا الإجرام: ﴿ألا ساء ما يحكمون﴾ في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرّئهم منها، ومن جهة وأْد البنات٢ أو إذلالهن، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٥٧) وهي قوله: ﴿ويجعلون لله البنات﴾ حيث قالوا الملائكة بنات الله ﴿سبحانه﴾ أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فلا ينبغي أن يكون له ولد ذكراً كان أو أنثى لأنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذاً؟ والآية الثانية (٥٨) وهي قوله تعالى: ﴿وإذا بشر أحدهم بالأنثى٣ ظل وجهه مسوداً﴾ أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم ﴿وهو كظيم﴾ أي ممتلىء بالغم والهم، ﴿يتوارى من القوم من سوء ما بشر به﴾ أي من البنت ﴿أيمسكه على هونٍ أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون﴾ وقوله تعالى: ﴿للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء﴾ يخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم منكروا البعث الآخر لهم المثل السوء٤ أي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعملون خيراً ولا يتركون شراً، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في كل شيء، ﴿ولله المثل٥ الأعلى﴾ أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله إلا الله منزه عن النقائص رب كل شيء ومالكه، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، لا شريك له ولا ند له ولا ولد وقوله: ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده، وحكمه وقضائه لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله تعالى في الآية (٦١) ﴿ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليهما٦﴾ أي على الأرض
١ دسّها: إخفاؤها في التراب عن الناس حتى لا تعرف، وفي الحديث: "من ابتلي من البنات بشيء فأحسن إليهن كنّ له سترا من االنار يوم القيامة".
٢ كانت مضر وخزاعة يدفنون البنات أحياء، وأشدهم في هذا تميم زعموا خوف القهر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن وكان صعصع بن ناجية عمّ الفرزدق إذا أحسّ بشيء من ذلك وجّه إلى والد البنت إبلا يستحييها بذلك، قال الفرزدق يفتخر:
وعمّىٍ الذي منع الوائدات
فأحيى الوئيد فلم يوأد
٣ تكرّر شرح هذه الآية في التفسير سهواً وهو غير ضار.
٤ أي: صفة السوء من الجهل والكفر.
٥ إن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه عزّ وجلّ وقد قال ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ فالجواب: إنّ قوله: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ معناه الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص أي: لا تضربوا له مثلا يقتضي نقصاً وتشبيها بالخلق والمثل الأعلى هو وصفه تعالى بما لا شبيه له ولا نظير.
٦ قال ابن مسعود رضي الله عنه وقرأ هذه الآية: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين لأصاب العذاب جميع الخلق حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء والنبات من الأرض فماتت الدّواب ولكن الله يأخذ بالعفو والفضل كما قال ﴿ويعفو من كثير﴾.
129
﴿من دابةٍ﴾ أي نسمة تدب على الأرض من إنسانٍ أو حيوان فهذه علة عدم مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية أشار إلى ذلك بقوله: ﴿ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى﴾ أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد، وقد يكون نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عز وجل بظلام للعبيد.
وآخر آية في هذا السياق (٦٢) تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهُراء السخيف بقوله: ﴿لا جرم﴾ أي حقاً وصدقاً ولا محالة ﴿أن لهم النار﴾ بدل الجنة ﴿وأنهم مفرطون١﴾ إليها مقدمون متروكون فيها أبداً. هذا ما تضمنته الآية في قوله تعالى: ﴿ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرَطون﴾ ٢ وإن قرئ مفرطون باسم الفاعل فهم حقاً مفرِطون في الشر والفساد والكفر والضلال والانحطاط إلى أبعد حد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان الحال الاجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
٢- بيان جهلهم بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا إليه الولد والشريك.
٣- بيان العلة في ترك الظلمة يتمادون زمناً في الظلم والشر والفساد.
٤- بيان سوء اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
١ أفرط يفرط: إذا تقدّم لطلب الماء فهو مفرط وهم مفرطون، وعليه فقوله تعالى: ﴿مُفرِطون﴾ معناه يتقدّمون غيرهم إلى النار وهي قراءة ورش عن نافع وقرأ حفص مُفرَطون باسم المفعول ومعناه متروكون في النار منسيون فيها.
٢ مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.
130
تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (٦٦)
شرح الكلمات:
تالله: أي والله.
أرسلنا إلى أمم من قبلك: أي رسلاً.
فزين لهم الشيطان أعمالهم: فكذبوا لذلك الرسل.
فهو وليهم اليوم: أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا.
إن في ذلك لآية: أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
لآية لقومٍ يسمعون: أي سماع تدبر وتفهم.
لعبرةً: أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة من العبور.
من بين فرثٍ: أي ثَفَل الكِرْش، أي الرَّوْث الموجود في الكرش.
لبناً خالصاً: أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم، لا لونه ولا رائحته ولا طعمه.
معنى الآيات:
يقسم الله تعالى بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا ﴿لقد أرسلنا﴾ رسلاً ﴿إلى أمم من قبلك﴾ كانوا مشركين كافرين كأمتك ﴿فزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ فقاوموا رسلنا
131
وحاربوهم وأصروا على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان، لذلك ﴿فهو وليهم اليوم١﴾ ! أي في الدنيا ﴿ولهم﴾ في الآخرة ﴿عذابٌ أليم﴾، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولذا قال تعالى في الآية الثانية: ﴿وما أنزلنا علمك الكتاب﴾ أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال. كما أنزلنا الكتاب هدىً يهتدى به المؤمنون إلى سبل سعادتهم ونجاحهم، ورحمةٌ تحصل لهم بالعمل به عقيدةً وعبادةً وخلقاً وأدباً وحكماً، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسلام.
بعد هذه التسلية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاد السياق إلى الدعوة إلى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى: ﴿تالله لقد أرسلنا﴾ الآية فقال تعالى: ﴿والله أنزل من٢ السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها﴾ الماء هو ماء المطر وحياة الأرض بالنبات والزرع بعدما كانت ميتة لا نبات فيها وقوله ﴿إن في ذلك﴾ المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها ﴿لآية﴾ واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته، وعلمه ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى: ﴿وإن لكم في الأنعام٣ لعبرةً﴾ ٤ أي حالاً تعبرون بها عن الجهل إلى العلم.. من الجهل بقدرة الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا وتطيعوا. وبين وجه العبرة العظيمة فقال: ﴿نسقيكم مما في بطونه٥﴾ أي بطون المذكور من الأنعام ﴿من٦ بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين﴾ فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا يقادر قدرها.. اللبن يقع بين الفرث والدم
١ الشيطان الذي ريّن للذين كفروا أعمالهم حتى ضلوا وهلكوا هو وليّ الذين كفروا اليوم يزيّن لهم أعمالهم ليضلّهم فيهلكوا كما هلك من قبلهم، وفي الآية تسلية للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ كون المسند فعلاً وهو: أنزل من السماء ماء أفاد التخصيص أي: الله وحده الذي أنزل من السماء ماء والمراد من السماء: السحاب.
٣ هناك مناسبة ظاهرة بين الآيتين وهي: كما أنّ الأرض تحيى بماء السماء كذلك الإنسان يحيى بالألبان.
٤ اسم جمع لكل جماعة من أحد أصناف الإبل والبقر والضأن والمعز والعبر: ما يتعظ به ويعتبر.
٥ البطون: جمع بطن وهو اسم للجوف الحاوية للجهاز الهضمي كلَّه من معدة وكبد وأمعاء.
٦ ﴿من﴾ زائدة لتوكيد التوسط أي: يفرز في حالة بين حالتي الفرث والدم وموقع: ﴿من بين فرث ودم﴾ موقع الصفة والموصوف: لبناً وقدّمت للاهتمام بها.
٦ مفرِّطون: اسم فاعل من فرّط المضاعف إذا ضيّع الحقوق الواجبة عليه.
132
فينتقل الدم إلى الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان، واللبن يساق إلى الضرع، والفرث يبقى أسفل الكرش، ويخرج اللبن خالصاً من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين، فلا يغص به شارب ولا يشرق به، حقاً! انها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم والمعرفة بالله في جلاله وكماله، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان ان الله يقسم بنفسه وبما شاء من١ خلقه.
٢- بيان أن الله أرسل رسلاً إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
٣- تقرير النبوة وتسلية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جراء ما يلقاه من المشركين.
٤- بيان مهمة رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
٥- بيان كون القرآن الكريم هدىً ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
٦- دليل البعث والحياة الثانية إحياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠)
١ نحو: ﴿والفجر﴾، ﴿والتين﴾ وما إلى ذلك إلاّ أنّ بعض أهل العلم كمالك يرون أنّ المقسم به محذوف تقديره: وربّ الفجر، وربّ التين وهكذا.
133
شرح الكلمات:
ومن ثمرات النخيل والأعناب: أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون١ منه سكراً أي خمرا ورزقاً حسناً أي والتمر والزبيب والخل والدبس الرزق الحسن.
وأوحى ربك إلى النحل: أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
ومما يعرشون: أي يبنون لها.
سبل ربك ذللاً: أي طرق ربك مذللةً فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين عنها.
شراب: أي عسل.
فيه شفاء للناس: أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء، أش بضميمته إلى عقار آخر.
إلى أرذل العمر: أي أخَسَّه من الهرم والخرف، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات:
مازال السياق في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر ﴿ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً﴾ ورزقاً حسناً أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمرٌ تتخذون منه سكراً أي شراباً مسكراً. وهذا كان قبل تحريم٢ الخمر ﴿ورزقاً حسناً﴾ وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل وقوله ﴿ان في ذلك لآية لقوم يعقلون﴾ أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا وعلمنا ورحمتنا لقومٍ يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات، فذو القدرة والعلم والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة.. وقوله: ﴿وأوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون﴾ هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن، ما أحل من ثمرتيهما، وليست الخمر مقصورة على العنب والتمر فقد خطب عمر وقال: "أيّها الناس إن الله قد حرّم الخمر وهي من خمسة، من العنب والعسل والتمر والحنطة والشعير". والإجماع على أنّ كل مسِكر حرام.
٢ إن قيل: هذا خبر، والنسخ لا يكون في الأخبار؟ فالجواب: إن تضمّن الخبر حكماً شرعياً جاز نسخه، ومن أدلة ذلك هذا الخبر ونسخه.
134
النحل كيف تلد العسل وتقدمه للإنسان فيه دواء من كل داء. فقوله ﴿وأوحى ربك﴾ أيها الرسول ﴿إلى النحل١﴾ بأن ألهمها ﴿أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر﴾ أيضاً بيوتاً، ﴿ومما يعرشون٢﴾ أي ومما يعرش الناس لَكِ أي يبنون لك، اتخذي من ذلك بيوتاً لَكِ إذ النحلة تتخذ لها بيتاً داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله تعالى: ﴿ثم كلي من كل الثمرات﴾ أي ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من الأشجار والنباتات أي من أزهارها ونوارها وقوله لها ﴿فاسلكي سبل ربك ذللاً﴾ ٣ بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود إلى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها. وقوله تعالى ﴿يخرج من٤ بطونها﴾ أي بطون النحل ﴿شراب﴾ أي عسل يشرب ﴿مختلف٥ ألوانه﴾ ما بين أبيض وأحمر وأسود، أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى صفرة. وقوله تعالى: ﴿فيه شفاء للناس﴾ أي من الأدواء، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض الأدوية أو العقاير الأخرى، أمّا مع النية أي أن يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة أي شيء آخر له. وفي حديث الصحيح وخلاصته أن رجلاً شكا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استطلاق بطن أخيه أي مشْي بطنه عليه فقال له اسقه العسل، فسقاه فعاد فقال ما أراه زاده إلا استطلاقا فعاد فقالت مثل ما قال أولاً ثلاث مرات وفي الرابعة أو الثالثة قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط من عقال. وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك﴾ أي المذكور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على
١ قيل: سمي النحل نحلا: لأن الله تعالى نحله العسل الذي خرج منه.
٢ بيوت النحل في ثلاثة، في الجبال وكواها، ومتجوّف الأشجار، وما يعرش لها من الأجباح والخلايا والحيطان، وعرش يعرش: إذا بنى عريشا من الأغصان والخشب، ومن عجيب ما ألهم الله النحل أنه يجعل بيوته مسدسة الشكل.
٣ اللّفظ صالح لأن يكون لفظ ذللا المراد به النحلة نفسها وذلل جمع ذلول وهي المنقادة المطيعة المسخرة، وصالح أن يكون المراد به الطرق التي تسلكها النحلة كما في التفسير.
٤ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة.
٥ بحسب تنويع الغذاء كما أن الطعم يختلف باختلاف المراعي ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله عنها جرست نحله العرفط حين شبهت رائحته برائحة المغافير والعرفط شجر الطلح له صمغ كريه الرائحة.
135
علم الله وقدرته ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا فيتعظوا فيتوبوا إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في الآية الأخرى (٧٠) ﴿والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علمٍ شيئاً﴾ هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالإيمان بالبعت الآخر فخلق الله تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد، ثم إماتته لنا موتاً حقيقياً بقبض أرواحنا ولا يستطيع أحد أن لا يموت ولا يتوفى أبداً ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا من أجال مختلفة اقتضتها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها. فمن الناس من يموت طفلاً ومنهم من يموت شاباً، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية الإلهية، وآية أخرى أن منا من يرد إلى أرذل عمره، أي أردأه وأخسَّه فيهرم ويخرف فيفقد ما كان له من قوة بدنٍ وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك إلا الله، مظهر قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم إلى أرذل العمر ولو في قرنٍ أو قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يومئذ؟ وقوله: ﴿إن الله عليم قدير﴾ تقرير لعلمه وقدرته، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا ووفاتنا ورد بعضنا إلى أرذل العمر إلا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم القدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان منة الله تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
٢- بيان آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
٣- فضيلة العقل والتعقل والفكر والتفكر.
٤- تقرير عقيدة الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين، إذ من خلق وأماتَ لا يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي
136
رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٧٤)
شرح الكلمات
فضل بعضكم على بعض في الرزق: أي فمنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم المالك ومنكم المملوك.
برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم: أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من العبيد.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا: إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
وحفدة: أي خدماً من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
أفبالبالطل يؤمنون: أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
رزقاً من السموات والأرض: أي بإنزال المطر من السماء، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات:
مازال السياق العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى: {والله فضل
137
بعضكم على١ بعضٍ في الرزق} فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس، ٢ وقد يكون لأحدكم أيها الأغنياء عبيد مملوكين له، لم لا يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر؟ والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أُسوِّي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟ هذا لا يعقل أبداً! إذاً كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة له تعالى إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟ وقوله تعالى ﴿أفبنعمة الله يجحدون﴾ ؟ حقاً إنهم جحدوا نعمة العقل أولاً فلم يعترفوا بها فلذا لم يفكروا بعقولهم، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧١) أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقرراً إنعامه تعالى على المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول: ﴿والله﴾ أي وحده ﴿جعل لكم من٣ أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات﴾ أي جعل لكم من أنفسكم٤ أزواجاً أي بشريَّات من جنسكم تسكنون إليهن وتتفاهمون معهن وتتعاونون بحكم الجنسية الآدمية وهي نعمة عظمى، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضاً والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك، وخادمك إذ الكل يحفدون لك أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك، وثالثاً ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه ولذته. هذا هو الله الذي تُدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون بالباطل وهي الأصنام
١ هذا استدلال على قدرة الله وتدبيره وقهره لعباده إذ فضل بعضهم على بعض في الرزق تفضيلا عجيباً هذا غني، وهذا فقير، هذا موسر، وهذا معسر فقد يفتقر الذكي القوي ويستغني البليد الضعيف كما قيل:
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللّبيب وطيب عيش الأحمق
والآية متضمنة مثلا ضربه لعبادة الأصنام، ونظير هذه المُثل في سورة الروم في قوله تعالى: ﴿ضرب لكم مثلا من أنفسكم..﴾ الخ.
٢ يريد أن أغنياءهم لا يشاطرون عبيدهم رزقهم فيستووا فيه فكيف يرضون لله مالا يرضونه لأنفسهم كما في قوله: ﴿ويجعلون لله البنات ولهم ما يشتهون﴾ أي: البنون.
٣ أي: من نوعكم، ومِنْ للابتداء ومِنْ في قوله تعالى: ﴿وجعل لكم من أزواجكم﴾ للتبعيض.
٤ الأزواج: جمع زوج وهو ما يُكوّن مع آخر اثنين.
138
وعبادتها، وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى: ﴿أفبالباطل١ يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون﴾ ؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عز وجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى. وقوله ﴿ويعبدون من دون الله﴾ أي أصناماً لا تملك لهم ﴿رزقاً من السماء﴾ بإنزال المطر، ﴿والأرض﴾ بإنبات الزروع والثمار شيئاً ولو قَلَّ ولا يستطيعون شيئاً من ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم على خطأهم مالا يقادر قدره. وقوله تعالى: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال إن٢ الله٣ يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة بإطلاق لفظ إله عليها، والله لا مثل له، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وأنها تقربهم إليه تعالى، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير إلى غير ذلك، فنهاهم عن ضرب هذه الأمثال لله تعالى لأنه عز وجل يعلم أنه لا مثل له ولا مثال، بل هو الله الذي لا إله إلا هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير، وهم لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في ظلمات الشرك وأودية الضلال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قطع دابر الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى: ﴿والله فضل بعضكم على بعضٍ في الرزق﴾.
٢- وجوب شكر الله تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
٣- قبح كفر النعم وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
٤- التنديد بمن يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيهاً لله تعالى بعباده فهم يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى يستجيب لهم، ولا يستجيب لغيرهم.
١ الباطل: ضد الحق لأنّ مالا يخلق لا يعبد، فإن عُبد فقد عبد بالباطل، والجملة تحمل توبيخاً كبيراً للمشركين.
٢ الأمثال: جمع مثل بفتحتين بمعنى المماثل كشبه بمعنى مشابه، ومعنى. ضربهم الأمثال لله تعالى: هو أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبّهوها بالخالق عز وجل حيث عبدوها بالنذر لها وبالذبح والدعاء والإقسام بها والعكوف حولها.
٣ جملة: ﴿إنّ الله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾ تعليلية لنهيهم عن ضرب الأمثال لله تعالى. فنهيه تعالى لهم عن ضرب الأمثال لعلمه عزّ وجلّ أنه لا مثل له، وأن ما يضربونه له باطل، وهو تعالى منزّه عنه.
139
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)
شرح الكلمات:
ضرب الله مثلاً: أي هو عبداً مملوكاً الخ..
عبداً مملوكاً: أي ليس بحُرٍ بل هو عبد مملوك لغيره.
هل يستوون: أي العبيد العجزة والحُر المتصرف، والجواب: لا يستوون قطعاً.
وضرب الله مثلاً: أي هو رجلين الخ..
أبكم: أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
لا يقدر على شيء: أي لا يَفهَمْ ولا يُفهِمْ غيره.
ولله غيب السموات والأرض: أي ما غاب فيهما.
وما أمر الساعة: أي أمر قيامها، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات قبل وتبديل صور الأكوان كلها.
140
الأفئدة: أي القلوب.
معنى الآيات:
مازال السياق في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير، وفي هذا السياق ضرب تعالى مثلين وهو العليم الخبير.. فالأول قال فيه: ﴿ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً﴾ أي غير حر من أحرار الناس، ﴿لا يقدر على شيء﴾ إذ هو مملوك لاحق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه١، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء، هذا طرف المثل، والثاني ﴿ومن رزقناه منا رزقاً حسناً﴾ صالحاً واسعاً ﴿فهو ينفق منه سراً وجهراً﴾ ليلاً ونهاراً لأنه حر التصرف بوصفه مالكاًَ ﴿هل يستوون٢﴾ ؟ الجواب لا يستويان.. إذاً ﴿الحمد لله بل أكثرهم٣ لا يعلمون﴾ والمثل مضروب للمؤمن والكافر، فالكافر أسير للأصنام عبدٌ لها لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن بالدار الآخرة، والجزاء فيها، وأما المؤمن فهو حر يعمل بطاعة الله فينفق في سبيل الله سراً وجهراً يبتغي الآخرة والمثوبة من الله، ذا علمٍ وإرادة، لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا هو سبحانه وتعالى. وقوله: ﴿وضرب الله مثلاً رجلين﴾ هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (٧٦) فقال تعالى فيه ﴿وضرب الله مثلاً﴾ هو ﴿رجلين أحدهما٤ أبكم﴾ ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع ﴿لا يقدر على شيء﴾ فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يُفهم غيره لأنه أبكم، ﴿وهو كلٌّ على٥ مولاه﴾ أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله: ﴿أينما يوجهه لا يأت بخير﴾ أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء
١ هذه الآية منزع الفقهاء في ملكية العبد وعدمها، فذهب مالك إلى أنّ العبد يملك بإذن سيده، وهو ناقص الملك، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: العبد لا يملك شيئاً، وقالوا: الرّق ينافي الملك، وقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من أعتق عبداً وله مال" شاهد لمن قال يملك ملكاً ناقصا.
٢ لم يقل يستويان لأنّ مَنْ صالحة للواحد والجماعة.
٣ لا يعلمون أن الله هو المستحق للحمد دون آلهتهم لأن الله تعالى هو المنعم بالخلق والرزق، والأصنام لا تخلق ولا ترزق فلذا الحمد له وحده.
٤ هذا مثل آخر ضربه تعالى لنفسه وللمؤمن. قاله قتادة وغيره.
٥ أي: ثقل على وليّه وقرابته ووبال على صاحبه وابن عمّه.
141
لا يأتي بخير، وقد يأتي بشر، أمَّا النفع والخير فلا يحصل منه شيء.
وهذا مثل الأصنام التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها، ولا تُفهم عابديها شيئاً وهي محتاجة إليهم في صُنْعِها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى ﴿هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراطٍ مستقيم﴾ وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل شيء، وهو قائم على كلى شيء، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا ويسعدوا في الدارين، فالجواب، لا يستويان بحال، فكيف يرضى المشركون بعبادة وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير، القوي، القدير، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم، أمر يحمل على العجب، ولكن لا عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم. وقوله تعالى في الآية (٧٧) ﴿ولله غيب السموات١ والأرض﴾ وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة ومن حُكم عليه بالشقاوة، ومن يهتدي ومن لا يهتدي، والجزاء آت بإتيان الساعة ﴿وما أمر الساعة٢﴾ أي إتيانها ﴿إلا كلمح٣ البصر أو هو أقرب﴾ ٤ إذ لا يتوقف أمرها إلا على كلمة ﴿كن﴾ فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها، وتأتي الحياة الأخرى وقد تبدلت صور الأشياء كلها ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ ومن ذلك قيام القيامة، ومجيء الساعة. وقوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا٥ تعلمون٦ شيئاً﴾ حقيقة لا تُنكر، الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشراً ثم أذن بإخراجنا، فأخرجنا، وخرجنا لا نعلم شيئاً قط، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي، فهل للأصنام شيء من ذلك، والجواب لا، لا وثانياً جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار والأفئدة نعمة أخرى، إذ لولا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا يومئذٍ، إذْ العدم خيرٌ منها. وقوله:
١ ﴿ولله غيب السموات والأرض﴾ : اللام لام الملك، والغيب مصدر بمعنى اسم الفاعل أي: الأشياء الغائبة، والغيب ما غاب عن أعين الناس.
٢ الساعة: هي الوفت الذي تقوم فيه القيامة، سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة فيموت الخلق بصيحة.
٣ اللّمح: النظر بسرعة يقال لمحه لمحاً ولمحاناً.
٤ ليس (أو) للشك وإنما هي بمعنى بل الانتقالية من شيء إلى آخر كقوله ﴿فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون﴾ أي: بل يزيدون.
٥ البطون: جمع بطن وهو ما بين ضلوع الصدر إلى العانة، وفيه الأمعاء والمعدة والكبد والرحم.
٦ الشكر: الاعتراف بالنعمة لله وحمده عليها وصرفها فيما يرضيه تعالى.
142
﴿لعلكم تشكرون﴾ كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وذلك شكره منا مع ما في ذلك الشكر من خير.. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد الله؟!
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالماً.
٢- بيان مثل المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
أ- بيان مثل الأصنام في جمودها وتعب عَبَدتِها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها. ومثل الرب تبارك وتعالى في عدله، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه، ورعايتهم، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ
143
الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (٨٣)
شرح الكلمات:
مسخراتٍ في جو السماء: أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
ما يمسكهن: أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه في خلقه.
من بيوتكم سكنا: أي مكاناً تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
من جلود الأنعام بيوتاً: أي خياماً وقباباً.
يوم ظعنكم: أي ارتحالكم في أسفاركم.
أثاثاً ومتاعاً إلي حين: كبُسط وأكسية تبلى وتتمزق وتُرمى.
ظلالاً ومن الجبال أكناناً: أي ما تستظلون به من حر الشمس، وما تسكنون به في غيران الجبال.
وسرابيل: أي قمصاناً تقيكم الحر والبرد.
وسرابيل تقيكم بأسكم: أي دروعاً تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
لعلكم تسلمون: أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى: ﴿ألم١ يروا إلى الطير مسخرات٢ في جو السماء ما يمسكهن٣ إلا الله﴾ فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده، وفي طيرانه في جو٤ السماء، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك المذكور لآياتٍ عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته
١ قرىء بالتاء: ﴿ألم تروا﴾ وقرىء بالياء وهي قراءة الأكثر.
٢ ﴿مسخرات﴾ : أي: مذللات لأمر الله تعالى، ومذللات لمنافعكم أيضاً.
٣ ﴿ما يمسكهن﴾ أي: في جال القبض والبسط والاصطفاف إلا الله عزّ وجلّ.
٤ ﴿جو السماء﴾ هو الفضاء الذي بين السماء والأرض، وإضافته إلى السماء لأنه يبدو متصلا بالقبة الزرقاء فيما يخال الناظر.
144
والتقرب إليه وطاعته بعبادته وحده، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة سواه، وكون الآيات لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم، فلم يكن لهم في ذلك آية.. وقوله: ﴿والله جعل١ لكم من بيوتكم سكناً﴾ أي موضع سكونٍ وراحة، ﴿وجعل لكم٢ من جلود الأنعام﴾ الإبل والبقر والغنم ﴿بيوتاً﴾ أي خياماً وقباباً ﴿تستخفونها﴾ أي تجدونها خفيفة المحمل ﴿يوم ظعنكم﴾ أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم ﴿ويوم إقامتكم﴾ في مكان واحد كذلك. وقوله: ﴿ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها﴾ أي جعل لكم منه ﴿أثاثاً﴾ كالبسط الفرش والأكسية (متاعاً) أي تتمتعون بها إلى حين بلاها وتمزقها٣ وقوله: ﴿والله جعل لكم مما خلق﴾ من أشياء كثيرة ﴿ظلالاً﴾ تستظلون بها من حر الشمس ﴿وجعل لكم من الجبال أكناناً﴾ ٤ تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران وكهوف في الجبال ﴿وجعل لكم سرابيل﴾ قمصان ﴿تقيكم الحر﴾ والبرد ﴿وسرابيل﴾ هي الدروع ﴿تقيكم بأسكم﴾ في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم، وهكذا ﴿يتم نعتمه عليكم﴾ فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه لِيُعِدّكم للإسلام فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله ﴿فإن تولوا﴾ أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف إذ ليس عليك هداهم ﴿فإنما عليك البلاغ المبين﴾ وقد بلغت وبينت. فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله: ﴿يعرفون نعمت الله﴾ أي نعمة الله عليهم كما ذكرناهم بها ﴿ثم ينكرونها﴾ فيعبدون غير المُنعم بها ﴿وأكثرهم الكافرون﴾ أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت به.
١ ﴿جعل﴾ : بمعنى أوجد وهذا شروع في تعداد النعم التي أنعم بها الخالق عزّ وجلّ على العباد، والسكن: مصدر والمنة في كونه تعالى جعل الإنسان يسكن ويتحرك ولو شاء لجعله متحركاً دائماً كالأفلاك في السماء أو جعله كالأرض ساكناً أبداً.
٢ بعد أن ذكر تعالى السكن في الدور ذكر السكن في البيوت المتنقلة وهي الخيام والقباب.
٣ في الآية دليل على حليذة جلود الميتة ولكن بعد دبغها لحديث: "أيّما إهاب دبغ فقد طهر".
٤ الأكنان: جمع كن وهو: ما يكن عن الحرّ والريح والبرد وهو الغار في الجبل.
145
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا ينتفع بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئاً من الآيات ولا يبصرون.
٢- مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين كالكافرين عمي لا يبصرون شيئاً منها وأكثرهم الكافرون.
٣- مهمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست هداية القلوب وإنما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (٨٥) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
146
شرح الكلمات:
ويوم نبعث: أي اذكر يوم نبعث.
شهيداً: هو نبيها.
لا يؤذن للذين كفروا: أي بالاعتذار فيعتذرون.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل ما يرضي الله عنهم.
وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم: أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام والشياطين.
فألقوا إليهم القول: أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم: أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
وضل عنهم ما كانوا يفترون: من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ومعنى ضل غاب.
عذاباً فوق العذاب: أنه عقارب وحيات كالنِّخل الطوال والبغال الموكفة.
ونزلنا عليك الكتاب: أي القرآن.
تبياناً لكل شيء: أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات:
انحصر السياق! لكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى: ﴿يوم نبعث١﴾ أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث ﴿من كل أمة﴾ من الأمم ﴿شهيداً﴾ هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها ﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا﴾ أي بالاعتذار فيعتذرون ﴿ولا هم يستعتبون٢﴾ أي لا يطلب منهم العتبى٣ أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر هذا لقومك، علهم يذكرون فيتعظون، فيتوبون، فينجون
١ نظير هذه الآية آية النساء: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد..﴾ الآية.
٢ أي: لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأنّ الآخرة ليست دار تكليف ولا يمكنون من الرجوع إلى الدنيا فيتوبون.
٣ العتبى: الرضا، والفعل: عتب يعتب عليه إذا وجد عليه في نفسه وأعتبه: إذا أزال الموجدة ورجع إلى مسرّته وفي الحديث: " لك العتبى حتى ترضى" والعتبى: رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب وهو المراد في الحديث.
147
ويسعدون. وقوله في الآية الثانية (٨٥) ﴿وإذا رأى الذين ظلموا العذاب﴾ أي يوم١ القيامة ﴿فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون﴾ أي يمهلون. اذكر هذا أيضاً تذكيراً وتعليماً، واذكر لهم ﴿إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم﴾ في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين ﴿ربنا﴾ أي يا ربنا ﴿هؤلاء٢ شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك﴾ أي نعبدهم بدعائهم والاستغاثة بهم، ﴿فألقوا إليهم القول﴾ فوراً ﴿إنكم لكاذبون﴾. ﴿وألقوا إلى الله يومئذٍ السلم﴾ أي الاستسلام فذلوا لحكمه ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى: ﴿الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله﴾ غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحياناً بالترهيب والترغيب ﴿زدناهم عذاباً فوق العذاب﴾ الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها عقارب كالبغال الدهم، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما فيها من أنواع العذاب، وقوله تعالى: ﴿ويوم نبعث﴾ أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث ﴿في كل أمةٍ شهيداً﴾ أي يوم القيامة ﴿عليهم من أنفسهم٣ وجئنا بك شهيداً على هؤلاء﴾ أي على من أرسلت إليهم من أمتك. فكيف يكون الموقف إذ تشهد على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد، وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة.. وقوله تعالى في خطاب رسوله مقرراً نبوته والوحي إليه ﴿ونزلنا عليك الكتاب﴾ أي القرآن ﴿تبياناً٤ لكل شيء﴾ الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام والأدلة ﴿وهدى﴾ من كل ضلال ﴿ورحمة﴾ خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون
١ أي: عذاب جهنم بالدخول فيها.
٢ أي: أصنامهم وأوثانهم التي عبدوها، وذلك لأنّ الله تعالى يبعث معبوديهم فيتبعونهم حتى يوردوهم النار، روى مسلم: "من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت.." الحديث، وفي الترمذي: " فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب التصاوير تصاويره ولصاحب النار ناره فيتبعون ما كانوا يعبدون".
٣ الشهداء: هم الأنبياء والعلماء، فالنبي يشهد على أمته والعالم يشهد على من أمره ونهاه ودلّ هذا على أنه لم تخل فترة من وجود داع إلى الله تقوم به الحجة لله تعالى فقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل "يبعث امة وحده". ومثل زيد قس وورقة وسطيح.
٤ التبيان: مصدر دال على المبالغة في المصدرية وأريد به هنا اسم الفاعل أي: المبيِّن لكل شيء.
148
رحمة عامة بينهم ﴿وبشرى للمسلمين١﴾ أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل يوم القيامة، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك على أمتك أعظم شهادة وأكثرها أثراً على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على الله إلا هالك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
٢- براءة الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم وتكذيبهم.
٣- زيادة العذاب لمن دعا إلى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
٤- لا عذر لأحد بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (٩١) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
١ خُصّ المسلمون دون غيرهم لأنّ غيرهم أعرضوا عنه فحرموا الهدى والرحمة والبشرى في الدارين.
149
بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣)
شرح الكلمات:
العدل: الإنصاف ومنه التوحيد.
الإحسان: أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
وإيتاء ذوي القربى: أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
عن الفحشاء: الزنا.
يعظكم: أي يأمركم وينهاكم.
تذكرون: أي تتعظون.
توكيدها: أي تغليظها.
نقضت غزلها: أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
من بعد قوة: أي أحكام له وبرم.
أنكاثاً: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
كالتي نقضت غزلها: هي حمقاء مكة وتدعى رَيْطَة بنت سعد بن تيم القرشية.
دخلاً بينكم: الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
أربى من أمة: أي أكثر منها عددا ًوقوة.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل١﴾ أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم
١ ورد في فضل هذه الآية أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: ما أسلمت ابتداء إلاّ حياءٌ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أخاه من الرضاعة حتى نزلت هذه الآية وأنا عنده فاستقر الإيمان في قلبي فقرأتها على الوليد بن المغيرة فقال: يا ابن أخي أعِد فأعدت فقال: والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإن أصله لمورق وأعلاه لمثمر وما هو بقول بشر.
150
وتترك عبادة غيره لأن غيره لم يخلّق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، ﴿والإحسان١﴾ وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة والاجتناب خوفاً من الله حياء منه، وقوله ﴿وإيتاء ذي القربى﴾ أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه وفحش حتى البخل ﴿والمنكر﴾ وهو كل ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي٢ وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية: ﴿أن الله يأمر بالعدل٣ والإحسان٤﴾ إلى ﴿تذكرون﴾ هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من خيرٍ إلا وأمرت به ولا من شرٍ إلا ونهت عنه. وقوله تعالى ﴿وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم﴾ أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى كل مؤمن بايع إماماً أو عاهد أحداً على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقض. "إذ لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى ﴿ولا تنقضوا٥ الإيمان بعد توكيدها﴾ الإيمان جمع يمين وهو الحلف بالله وتوكيدها تغليظها بالألفاظ الزائدة ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلا﴾ أي وكيلا، أي أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلا، فهذه الآية حرمت نقض الإيمان وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية٦. وقوله
١ الإحسان مصدر أحسن إحساناً وهو متعدّ بنفسه نحو: أحسنت كذا إذا أتقنته وحسّنته وجوّدته، ومتعدّ بحرف الجرّ نحو: أحسنت إلى فلان أي أوصلت إليه ما ينفعه أو دفعت عنه ما يضرّه، وكلا المعنيين مراد في الآية وما في حديث جبريل يتناول الأول لأن من راقب الله تعالى أتقن عمله وحسنه.
٢ ورد في البغي: لا ذنب أسرع عقوبة من البغي، واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب، والباغي مصروع وقد وعد الله من بُغي عليه بالنصر في قوله: ﴿ومن عاقب بمثل ما عوقب ثمّ بغى عليه لينصرنه الله﴾.
٣ قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية: أجمع آية في القرآن لخير يمتثل ولشرّ يجتنب.
٤ روي أن جماعة رفعت شكوى بعاملها إلى أبي جعفر المنصور فحاجّها العامل فغلبها حيث لم يثبتوا عليه كبير ظلم ولا جور في شيء، فقام فتى منهم وقال يا أمير المؤمنين: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ وإنّه عدل ولم يحسن فعجب أبو جعفر المنصور من إصابته، وعزل العامل.
٥ هذا في الإيمان المؤكد بها الحلف في الجاهلية لقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث مسلم "لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة وأبطل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلف في الإسلام، لأن الإسلام جاء بنصرة المظلوم وأخذ الحق له من الظالم كما هو مبين في شريعته.
٦ أمّا إذا حلف العبد يميناً فرأى غيرها خيراً منها فإنه ينقض يمينه ويكفر كفّارة يمين لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلاّ أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني".
151
تعالى ﴿إن الله يعلم١ ما تفعلون﴾ فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. وقول تعالى ﴿ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها﴾، وهى امرأة بمكة حمقاء٢ تغزل ثم تنكث٣ غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: ﴿تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم﴾ أي إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى ﴿أن تكون أمة هي أربى من أمة﴾ أي جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. وقوله تعالى: ﴿إنما يبلوكم الله به﴾ أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الإيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، ﴿وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾ ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.. وقوله تعالى ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى: ﴿لتسألن﴾ أي٤ سؤال توبيخ وتأنيب ﴿عما كنتم تعملون﴾ من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن وهي آية ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان..﴾ الآية (٩٠).
٢- وجوب العدل والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
١ هذه الجملة ذكرت علّة لتحريم نقض العهد فهي تحمل وعيداً شديداً وتهديداً كبيراً لمن ينقض العهد.
٢ يقال لها ريطة بنت عمر وكانت تغزل طول النهار، وفي المساء إذا غضبت لحمقها تحلّ ما أبرمته من غزلها، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا كهذه الحمقاء فيحلون ما يبرمون من عقود وعهود.
٣ النكث والجمع أنكاث: وهو النقض والحل بعد الإبرام.
٤ اللام دالة على قسم محذوف نحو: ﴿والله لتسألن﴾.
152
شرح الكلمات :
﴿ العدل ﴾ : الإنصاف ومنه التوحيد.
﴿ الإحسان ﴾ : أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾ : أي : إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
﴿ عن الفحشاء ﴾ : الزنا.
﴿ يعظكم ﴾ : أي : يأمركم وينهاكم.
﴿ تذكرون ﴾ : أي : تعظون.
المعنى :
قوله تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل ﴾، أي : أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبياناً لكل شيء، يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره ؛ لأنه الخالق المنعم، وتترك عبادة غيره ؛ لأنهم غيره، لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله، ﴿ والإحسان ﴾ : وهو أداء الفرائض، واجتناب المحرمات، مع مراقبة الله تعالى في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجودة، والاجتناب خوفاً من الله حياء منه، وقوله :﴿ وإيتاء ذي القربى ﴾، أي : ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله تعالى به في كتابه، ومما ينهى عنه الفحشاء، وهو الزنا واللواط، وكل قبيح اشتد قبحه وفحش، حتى البخل. ﴿ والمنكر ﴾ : وهو كل ما أنكر الشرع، وأنكرته الفطر السليمة، والعقول الراجحة السديدة، وينهى عن البغي، وهو الظلم والاعتداء، ومجاوزة الحد في الأمور كلها، وقوله :﴿ لعلكم تذكرون ﴾، أي : أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا، فتتعظوا فتمتثلوا الأمر وتجتنبوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية :﴿ أن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾، إلى :﴿ تذكرون ﴾، هي أجمع أية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك، فما من خير إلا وأمرت به، ولا من شر إلا ونهت عنه.
الهداية :
١- بيان أجمع آية للخير والشر في القرآن، وهي أية :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. ﴾ الآية ( ٩٠ ).
٢- وجوب العدل والإحسان، وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
٣- تحريم الزنا واللواط، وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
٤- تحريم البغي، وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
شرح الكلمات :
﴿ توكيدها ﴾، أي : تغليظها.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ﴾، أمر من الله تعالى لعبادة المؤمنين بالوفاء بالعهود، فعلى كل مؤمن بايع إماماً، أو عاهد أحدا على شيء، أن يفي له بالعهد ولا ينقضه. ﴿ إذ لا أيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ﴾، كما في الحديث الشريف.. وقوله تعالى :﴿ ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ﴾، الأيمان : جمع يمين : وهو الحلف بالله، وتوكيدها : تغليظها بالألفاظ الزائدة. ﴿ وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ﴾، أي : وكيلاً، أي : أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلاً، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان : وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية. وقوله تعالى :﴿ إن الله يعلم ما تفعلون ﴾، فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها.
الهداية :
- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
- حرمة نقض الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
شرح الكلمات :
﴿ نقضت غزلها ﴾، أي : أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
﴿ من بعد قوة ﴾، أي، أحكام له وبرم.
﴿ أنكاثاً ﴾ : جمع نكث، وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
﴿ كالتي نقضت غزلها ﴾ : هي حمقاء مكة، وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية.
﴿ دخلاً بينكم ﴾ : الدخل : ما يدخل في الشيء وهو ليس منه ؛ للإفساد والخديعة.
﴿ أربى من أمة ﴾، أي : أكثر منها عدداً وقوة.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ﴾، وهي امرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه، فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها، فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء.
وقوله تعالى :﴿ تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ﴾، أي : إفساداً وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرتم من عهد وميثاق، وتعاهدون جماعة أخرى ؛ لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى :﴿ أن تكون أمة هي أربى من أمة ﴾، أي : جماعة أكثر من جماعة رجالاً وسلاحاً أو مالاً ومنافع. وقوله تعالى :﴿ إنما يبلوكم الله به ﴾، أي : يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم، أولا تفعلوا إيثاراً للدنيا عن الآخرة، ﴿ وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ﴾، ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته..
الهداية :
- من بايع أميرا أو عاهد أحدا، يجب عليه الوفاء، ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
المعنى :
وقوله تعالى :﴿ ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ﴾، على التوحيد والهداية لفعل.. ولكن اقتضت حكمته العالية أن يهدي من يشاء هدايته ؛ لأنه رغب فيها وطلبها، ويضل من يشاء إضلاله ؛ لأنه رغب في الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى :﴿ لتسألن ﴾، أي : سؤال توبيخ وتأنيب، ﴿ عما كنتم تعملون ﴾، من سوء وباطل، ولازم ذلك الجزاء العادل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهو لا يظلمون.
٣- تحريم الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
٤- لحريم البغي وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
٥- وجوب الوفاء بالعهود وحرمة نقضها.
٦- حرمة نقض الإيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
٧- من بايع أميراً أو عاهد أحداً يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبداً.
وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٩٧)
شرح الكلمات:
دخلاً بينكم: أي لأجل الإفساد والخديعة.
وتذوقوا السوء: أي العذاب.
ما عندكم ينفد: يفنى وينتهي.
وهو مؤمن: أي والحال أنه عندما عمل صالحاً كان مؤمناً، إذ بدون إيمان لا عمل يقبل.
حياة طيبة: في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة الجنة.
بأحسن ما كانوا يعملون: أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن فيها.
153
معنى الآيات:
ما زال السياق في تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال تعالى لهم ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً﴾ أي خديعة ﴿بينكم﴾ لتتوصلوا بالإيمان إلى غرضٍ دنيوي سافل، ﴿فتزل قدم١ بعد ثبوتها﴾ بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع، يحلف بالله بقصد الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث، وتتحملون وزر ذلك، ويكون لكم العذاب العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله: ﴿ولا تشتروا٢ بعهد الله ثمناً قليلاً﴾ وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير لكم قطعاً، لأن ما عندكُمْ من مالٍ أو متاعٍ ينفد أي يفنى، ﴿وما عند الله باق﴾ لا نفاذ له، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، وقوله تعالى: ﴿ولنجزين الذين صبروا﴾ على عهودهم ﴿أجرهم﴾ على صبرهم ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى لمن يصبر على إيمانه وإسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ووعدٌ ثان في قوله: ﴿من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه٣ حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح، الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك والمعاصي، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة وطيب طعام٤ وشراب ورضا، هذا في
١ هذه الجملة دلت على المبالغة في النهي اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة، إذ مَنْ وقع في ورطة يقال: زلت قدمه لأن القدم إذا زلت نقلت الإنسان من حال خير إلى حال شرٌ.
٢ نهى تعالى المؤمنين عن الرُّشا وأخذ الأموال على نقض العهد أي: لا تنقضوا عهودكم لعرض قليل من الدنيا. روي أن امرؤ القيس بن عابس الكندي اختصم مع ابن أسوع في أرض فأراد امرؤ القيس أن يحلف فلمّا سمع هذه الآية نكل وقرأ لخصمه بالأرض.
٣ اختلف في معنى الحياة الطيبة فقال بعضهم: هي الرزق الحلال، وقيل: هي القناعة وقيل: التوفيق إلى الطاعة الموجبة لرضوان الله تعالى، وقيل: هي حلاوة الطاعة، وقيل هي المعرفة بالله وصدق المقام بين يدي الله.
٤ روى مسلم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه".
154
الدنيا وفي الآخرة الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع، من الصلاة كأفضل صلاة وفي الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. ﴿ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك برٌ رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- حرمة اتخاذ الإيمان طريقاً إلى الغش والخديعة والإفساد.
٢- ما عند الله خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
٣- عظم أجر الصبر على طاعة الله تعالى فعلاً وتركاً.
٤- وعد الصدق لمن آمن وعمل صالحاً من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢)
شرح الكلمات:
فإذا قرأت القرآن: أي أردت أن تقرأ القرآن.
فاستعذ بالله من الشيطان: أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك منه وسواسه.
إنه ليس له سلطان: أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم، ما داموا
155
متوكلين على الله.
وإذا بدلنا آية مكان آية: أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
قل نزله روح القدس: أي جبريل عليه السلام.
ليثبت الذين آمنوا: أي على إيمانهم.
معنى الآيات:
مازال السياق الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم، فقوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن﴾ يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك ﴿فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم﴾ أي إذا كنت قارئاً عازماً على القراءة فقل أعوذ بالله١ من الشيطان الرجيم، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد عليك تلاوتك٢، وقوله: ﴿إنه ليس له﴾ أي للشيطان ﴿سلطان﴾ يعني تسلط وغلبة وقهر ﴿على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ وهذه بشرى خير للمؤمنين ﴿إنما سلطانه على الذين يتولونه﴾ ٣ بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل٤، ﴿والذين هم به٥ مشركون﴾. هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى يهلكهم. وقوله تعالى: ﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ أي نسخنا حكماً بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون بالوحي الإلهي ﴿إنما أنت﴾ يا محمد ﴿مفترٍ﴾ تقول بالكذب والخرص، أي يقول اليوم شيئاً ويقول غداً خلافه. وقوله تعالى: ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين. وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له ﴿قل نزله روح القُدس٦ من ربك بالحق﴾ فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل به جبريل عليه السلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا بتغير، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.
١ هذه كآية الوضوء: ﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا..﴾ أي: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم على غير وضوء فاغسلوا وجوهكم أي: توضؤوا.
٢ لقد صحت الأحاديث الكثيرة في أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتعوّذ في صلاته قبل القراءة روي أن بعض السلف كان يتعوّذ بعد القراءة أخذاً بهذه الآية.
٣ فائدة الاستعاذة قبل القراءة أن يحفظ المرء من أن يلبس عليه إبليس قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبرّ.
٤ قيل في قوله تعالى: ﴿إنه ليس له سلطان﴾ : أي أنه لا يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه.
٥ الضمير في ﴿به﴾ عائد إلى الشيطان ويصح عوده على الله تعالى.
٦ روح القدس: جبريل عليه السلام: "فقد نزل بالقرآن كله ناسخه ومنسوخه ما عدا الفاتحة فقد نزل بها ملك لم ينزل إلى الأرض قط" رواه مسلم.
156
فكلما نزل قرآن ازداد المؤمنون إيماناً فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين، وهو أي القرآن هدىً من كل ضلالة. وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحباب الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
٢- بيان أنه لا تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
٣- بيان أن سلطان الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
٤- بيان أن القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
٥- بيان فائدة نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٠٥) مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ
157
وَأَنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (١٠٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٠٨) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (١٠٩)
شرح الكلمات:
بشر: يعنون قيناً (حداداً) نصرانياً في مكة.
لسان الذي يلحدون إليه: أي يميلون إليه.
وهذا لسان عربي: أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
إلا من أكره: أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
ولكن من شرح بالكفر صدرا: أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
وأولئك هم الغافلون: أي عما يراد بهم.
لا جرم: أي حقاً.
هم الخاسرون: أي لمصيرهم١ إلى النار خالدين فيها أبداً.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالافتراء فقال تعالى: ﴿ولقد نعلم٢ أنهم يقولون إنما يعلمه بشر﴾ أي يعلم محمداً بشر أي إنسان من الناس، لا أنه وحي يتلقاه من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها ﴿لسان الذي يلحدون إليه﴾ أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه ﴿أعجمي٣﴾ لأنه عبد رومي، ﴿وهذا﴾ أي القرآن ﴿لسان عربي مبين﴾ ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف
١ أي: لكون مصيرهم إلى النار وأيّ خسران أعظم من خسران من دخل النار فخسر نفسه وأهله قال تعالى فيه: ﴿ألا ذلك هو الخسران المبين﴾.
٢ اختلف في تعيين هذا الرجل فقيل: اسمه جبر ويكنى بأبي فكيهة، وقيل: اسمه عايش، وقيل: اسمه يعيش وكان روميًّا وكان صيقليا يشحذ السيوف ويحليها وكان يجلس إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياناً فقالوا قولتهم هذه.
٣ العجمة: الإخفاء وضد البيان ورجل أعجم وامرأة عجماء أي لا يفصح ولا يبين ومنه عجب الذنب لاستتاره والعجماء البهيمة والأعجمى من لا يتكلم العربية.
158
يتفق هذا مع ما يقولون انهم يكذبون لا غير، وقوله تعالى ﴿إن الذين لا يؤمنون بآيات الله﴾ وهي نورٌ وهدى وحججٌ قواطع، وبرهان ساطع ﴿لا يهديهم الله﴾ إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية وصدوا عن سبيل العرفان وقوله ﴿ولهم عذاب أليم﴾ أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله ﴿إنما يفتري١ الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون﴾ أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلاً الكافر بآيات الله لأنه لا يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه، فلذا لا يمنعه شيء عن الكذب، أما المؤمن فإنه يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبداً، وبذا تعين أن النبي لم يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات لله وهم حقاً الكاذبون. وقوله تعالى: ﴿من كفر٢ بالله من بعد إيمانه إلا من أكره﴾ ٣ على التلفظ بالكفر ﴿وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ لا يخامره شك ولا يجد اضطراباً ولا قلقاً فقال كلمة الكفر لفظاً فقط، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه علي كلمة الكفر فأذن له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي ﴿من شرح بالكفر صدراً﴾ أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله ﴿فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم﴾ أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم، وعلل تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله ﴿ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من العبادات، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام. وقوله تعالى: ﴿وإن الله لا يهدي القوم الكافرين﴾ هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. وقوله تعالى: ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم﴾ وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون ﴿وسمعهم﴾ فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى
١ هذا جواب وصفهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكذب فأعلم تعالى أنّ الذي يفتري الكذب هو الكافر بآيات الله الكاذب الذي لا يعرف الصدق أبداً.
٢ قوله: ﴿من كفر بالله بعد إيمانه﴾ : عائد إلى قوله: ﴿إنما يفتري الكذب الذي لا يؤمنون بآيات الله﴾. وقوله: ﴿إلاّ من أكره﴾ : نزلت في عمّار بن ياسر في قول أهل التفسير لأنه قارب أن يقول بعض ما طلبوه منه فرفع تعالى عنه الحرج وقال له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أعطهم يا عمار" وهو تحت العذاب وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" واستثنى أهل العلم من أكره على قتل مؤمن أنه لا يقتله، وليكن المقتول ولا يقتل فلا يفد نفسه بأخيه حتى مجرد الضرب لا يضربه.
٣ أهل العلم على أن المكره على الطلاق وعلى الحلف وعلى الحنث أنه لا شيء فيه.
159
الله تعالى ﴿وأبصارهم﴾ فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون، وما حصل لهم من هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا، والعناد، والمكابرة، والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله ﴿وأولئك هم الغافلون﴾ أي عمَّا خلقوا له، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذابٍ أليم. وقوله تعالى ﴿لا جرم﴾ أي حقاً ﴿أنهم في الآخرة هم الخاسرون﴾ المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- دفاع الله تعالى عن رسوله ودرء كل تهمةٍ توجه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- المكذبون بآيات الله يحرمون هداية الله، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا به فعلى أي شيء يهتدون.
٣- المؤمنون لا يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً.
٤- الرخصة١ في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
٥- إيثار الدنيا على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ
١ وكذلك الرخصة في العتاق والطلاق والنكاح والحلف والحنث ما دام مكرهاً فلا يلزمه شيء لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" الحديث، وكذا من أكره على تسليم زوجته فلا شيء عليه إذ أكره إبراهيم على ذلك وعصمه الله تعالى ومن صبر على ما أكره به من الضرب والتعذيب فله ذلك فقد صبر عبد الله بن حذافة السهمي على ألوان من التعذيب والتهديد على يد ملك الروم حيث أسر مع جمع من المسلمين فعذب ما شاء الله أن يعذّب ثم أطلق الأسرى، وقبّل عمر رضي الله عنه رأسه إكراماً له واعترافاً بفضله لأنّ ملك الروم أخذ ما أكرهه عليه تقبيل رأسه فقبّله.
160
نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١١٣)
شرح الكلمات،:
هاجروا: أي إلى المدينة.
من بعدما فتنوا: أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر مكرهين.
إن ربك من بعدها: أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
لغفور رحيم: أي غفورٌ لهم رحيم بهم.
يوم تأتي: أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها.
مثلاً قرية: هي مكة.
رزقها رغداً: أي واسعاً.
فكفرت بأنعم الله: أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
فأذاقها الله لباس الجوع: أي بسبب قحطٍ أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
والخوف: حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات:
بعدما ذكر الله تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبراً عن بعض المؤمنين، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة الكفر، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا
161
وصبروا فأخبر الله تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ووحمته، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى ﴿ثم إن ١ربك﴾ أيها الرسول ﴿للذين هاجروا٢ من بعدما فتنوا﴾ أي عُذِّبوا ﴿ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من٣ بعدها لغفورٌ رحيم﴾ أي غفورٌ لهم رحيمٌ بهم.
وقوله تعالى: ﴿يوم٤ تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ أي اذكر ذلك واعظاً به المؤمنين أي تخاصم طالبةً النجاة لنفسها ﴿وتوفى كل نفسٍ ما عملت﴾ أي من خير أو شر ﴿وهم لا يظلمون﴾ لأن الله عدلٌ لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى: ﴿وضرب الله مثلاً قرية٥﴾ أي مكة ﴿كانت آمنة﴾ من غارات الأعداء ﴿مطمئنة﴾ لا ينتابها فزعٌ ولا خوف، لما جعل الله تعالى في قلوب العرب من تعظيم الحرم وسكانه، ﴿يأتيها رزقها رغداً﴾ أي واسعاً ﴿من كل٦ مكان﴾ حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء ﴿فكفرت بأنعم الله﴾ وهي تكذيبها برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكارها للتوحيد، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام ﴿ (فأذاقها الله لباس الجوع﴾ فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف السبع الشداد، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجِيفْ والعهن، وأذاقها لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها، وقوله تعالى ﴿بما كانوا يصنعون٧﴾ أي جزاهم لله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى: ﴿ولقد جاءهم رسولٌ منهم﴾ هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿فكذبوه﴾ أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته ﴿فأخذهم العذاب﴾ عذاب الجوع والخوف والحال أنهم ﴿ظالمون﴾ أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها
١ لمّا كانت الهجرة لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرن الله تعالى اسمه مع اسم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿ (ثم إن ربك﴾ أي بمغفرته ورحمته للذين هاجروا.
٢ هاجروا أولا إلى الحبشة ثم إلى المدينة النبوية.
٣ أي: من بعد الحال التي كانت أيام تعذيبهم وفتنتهم على يد المشركين.
٤ جائز أن يكون الظرف متعلقاً بقوله: ﴿لغفور رحيم﴾ وجائز أن يكون معمولاً لفعل محذوف تقديره: اذكر ومعنى تجادل: تخاصم وتحاج عن نفسها وفي الحديث: "أن كل نفس يوم القيامة تقول: نفسي نفسي" لشدة الهول.
٥ هي مكة وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا على أهلها فقال: "اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام.
٦ من البرّ والبحر، هذا كقوله تعالى: ﴿يجبى إليه ثمرات كل شيء﴾.
٧ وقيل: إنّ القرية هذه هي المدينة قالت هذا حفصة وعائشة زوجتا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك لما قتل عثمان واشتد البلاء بأهل المدينة وعموم الآية ظاهر، وكونها مكة أظهر.
162
بكفرهم إلى عذاب الجوع والخوف.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- فضل الهجرة والجهاد والصبر، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا. ،
٢- وجوب التذكير باليوم الآخر وما يتم فيه من ثوابٍ وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
٣- استحسان ضرب الأمثال من أهل العلم.
٤- كفر النعم بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
٥- تكذيب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ما جاء به، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء والعذاب.
فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٥) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨)
163
شرح الكلمات:
فكلوا: أي أيها الناس.
حلالاً طيباً: أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا نعمة الله عليكم: أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
إن كنتم إياه تعبدون: أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره، فكلوا مما أحل لكم وذروا ما حرم عليكم.
الميتة: أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
والدم: أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
وما أهل لغير الله به: أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
غير باغٍ ولا عاد: أي غير باغ على أحد، ولا عادٍ أي متجاوز حد الضرورة.
ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب: أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذباً على الله فتقولوا هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
وعلى الذين هادوا: أي اليهود.
حرمنا ما قصصنا عليك من قبل: أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات:
امتن الله عز وجل على عباده، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده، فإنه يشكره على ما أنعم به عليه، وقوله تعالى: ﴿إنما حرم١ عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به﴾ فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذباً. وقوله ﴿فمن اضطر﴾ منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان ﴿غير باغ﴾ على أحد ولا معتدٍ ما أحل له إلى ما حرم عليه
١ هذه الجملة بيان لمضمون جملة: ﴿فكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً﴾ لتمييز الطيبّ من الخبيث وذكر تعالى هنا أربع محرمات وهي عشر جاءت في سورة المائدة إلا أنّ هذه الأربعة هي الأصول وما دونها تابع لها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب فالخمسة الأولى تابعة للميتة والسادسة تابعة لما أهل به لغير الله.
164
فليأكل ما يدفع به غائلة الجوع ولا إثم عليه ﴿فإن الله غفور رحيم﴾ فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في الأكل دفعاً للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.
وقوله: ﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب١ هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب﴾ أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يسموا الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب: هذا حلال وهذا حرام كما يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم ذلك إلى الافتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبداً لقوله ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل﴾ ٢ وإن تمتعوا قليلاً في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن ذلك متاع قليل جداً ولا يعتبر صاحبه مفلحاً ولا فائزاً. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل﴾ يخاطب الله تعالى رسوله فيقول: كما حرمنا على هذه الأمة المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، حرمنا على اليهود ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى ﴿وعلى الذين٣ هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط بعظم﴾. وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- يجب مقابلة النعيم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
١ ﴿الكذب﴾ منصوب على المفعولية المطلقة أي: مطلق الكذب.
٢ جملة: ﴿متاع قليل﴾ جملة بيانية في جواب قول من قال: كيف لا يفلحون وهم يمتعون بالطعام والشراب والنساء والأموال؟ فأجيب بأن هذا متاع قليل جداً بالنظر إلى ما في الآخرة.
٣ تقديم الجار والمجرور: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا﴾ للاهتمام وللإشارة إلى أنّ ذلك التحريم كان انتقاماً منهم ولم يكن شرعاً لإكمالهم وإسعادهم.
165
٢- بيان المحرمات من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
٣- بيان الرخصة في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
٤- حرمة التحريم والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
٥- حرمة الكذب على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزيء قليل لا قيمة له.. هذا إن أفلح.
٦- قد يحرم العبد النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (١١٩) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤)
شرح الكلمات:
ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة: أي ثم إن ربك غفورٌ رحيمٌ للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا.
من بعدها: أي من بعد الجهالة والتوبة.
166
إن إبراهيم كان أمة: أي إماماً جامعاً لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.
لله حنيفاً: أي مطيعاً لله حنيفاً: مائلاً إلى الدين القيم الذي هو الإسلام.
اجتباه: أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
وآتيناه في الدنيا حسنة: هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه: أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات:
بعدما نددت الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين المعاندين، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم وقال: ﴿ثم إن ربك﴾ أي بالمغفرة والرحمة ﴿للذين عملوا السوء بجهالةٍ١﴾ فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه ﴿ثم تابوا من بعد ذلك﴾ فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه واستعدوا له بالصالحات ﴿وأصلحوا﴾ ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم ﴿إن ربك من بعدها﴾ من بعد هذه التوبة٢ والأوبة الصحيحة ﴿لغفور رحيم﴾ بهم فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى: ﴿إن إبراهيم٣ كان أمة٤ قانتاً لله حنيفاً، ولم يك من المشركين. شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين. ثم أوحينا إليك أن اتبع٥ ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين﴾ إنه لما كان من شبه المشركين أنهم على دين أبيهم إبراهيم باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه
١ الجهالة: انتفاء العلم بما يجب أن يعلم، والمراد بجهالتهم: جهالتهم بأدلة الشرع المحرّمة للشرك والكفر والفساد، والموجبة للتوحيد وطاعة الله ورسوله. والباء: في ﴿بجهالة﴾ : للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير عملوا.
٢ وجائز أن يعود الضمير على الجهالة أيضاً كما جائز أن يعود على التوبة.
٣ ﴿إنّ إبراهيم﴾ ؛ هذه الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لغرض التنويه بدين الإسلام الذي هو دين إبراهيم من قبل.
٤ الأمّة: الجامع للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، والحنيف: المائل إلى الحق المجانب للباطل.
٥ في الآية الدليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول ولا تبعة على الفاضل أي: لا غضاضة عليه ولا مساس بمقامه.
167
السلام، ومن باب إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحي والدين الحق ذكر تعالى جملةً من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى ﴿إن إبراهيم كان١ أمة﴾ أي إماماً صالحاً جامعاً لخصال الخير، يقتدي به كل راغب في الخير. هذا أولاً وثانياً أنه كان قانتاً أي مطيعاً لربه فلا يعصي له أمراً ولا نهياً ثالثاً لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو بريء من الشرك وأهله، ورابعاً كان شاكراً لأنعم الله تعالى عليه أي صارفاً نعم الله عليه فيما يرضي الله، خامساً اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنة أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان. فخالّه الله أي بادله خلة بخلّة فكان خليل الرحمن. سادساً وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام، سابعاً وآتاه في الدنيا حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامناً وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهي منزلة من أشرف المنازل وأسماها. تاسعاً مع جلالة قدر النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفاً.
هذا هو إبراهيم فمن أحق بالنسبة إليه، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا، النصارى؟ لا! المسلمون الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقوله تعالى: ﴿إنما جعل السبت٢ على الذين اختلفوا فيه﴾ فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم ودينه العظيم، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم،
١ قال مالك: بلغني أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: يرحم الله معاذً كان امّة قانتاً فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنّما ذكر الله عزّ وجلّ بهذا إبراهيم عليه السلام فقال عبد الله: "إن الأمة الذي يعلم الناس الخير وإن القانت: هو المطيع".
٢ أي: لم يكن في شرع إبراهيم ولا من دينه، إذ كان. دين إبراهيم سمحاً لا تغليظ فيه والسبت تغليظ على اليهود في ترك الأعمال وترك التبسّط في المعاش بسبب اختلافهم فيه أي: اختلفوا في يوم الجمعة بعدما أمروا بتعظيمه فأبت اليهود إلا السبت بدعوى أن الله فرغ من الخلق فيه. واختار النصارى الأحد: لأن الله ابتدأ الخلق فيه، وهدى الله أمّة الإسلام ليوم الجمعة الذي اختلفوا فيه ففي البخاري يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فيه فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له (يوم الجمعة".
168
وإنما سببه أن الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في ذلك وآثروا السبت عناداً ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله ﴿وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءاً على تمردهم على أنبيائهم واختلافهم عليهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- باب التوبة مفتوح لكل ذي ذنب عَظُم أو صغُر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم والاستغفار الدائم وإصلاح المفاسد.
٢- تقرير التوحيد والإعلان عن شان إبراهيم عليه السلام وييان كمالاته وإنعام الله عليه.
٣- بيان أن سبت اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.
ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (١٢٨)
شرح الكلمات:
إلى سبيل ربك: أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي سبيل الله.
بالحكمة: أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح للحق.
والموعظة الحسنة: هي مواعظ القرآن، والقول الرقيق الحسن.
169
وجادلهم بالتي هي أحسن: أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.
لهو خيرٌ للصابرين: أي خيرٌ من الانتقام عاقبةً.
ولا تك في ضيق مما يمكرون: أي لا تهتم بمكرهم، ولا يضيق صدرك به.
مع الذين اتقوا: أي اتقوا الشرك والمعاصي.
والذين هم محسنون: أي في طاعة الله، ومعصيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في الدنيا.
معنى الآيات:
يخاطب الرب تعالى رسوله تشريفاً وتكليفاً: ﴿ادع إلى سبيل ربك١﴾ أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس، وليكن دعاؤك ﴿بالحكمة﴾ التي هي القرآن الكريم الحكيم ﴿والموعظة الحسنة﴾ وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله، وترغيبه وترهيبه، ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب والشتم والتعريض بالسوء، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه، وقوله تعالى: ﴿إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ من الناس ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ وسيجزيهم المهتدي بهداه، والضال بضلاله، كما هو أعلم بمن ضل واهتدى أزلاً. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك، والأمر ليس إليك. بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وقوله تعالى ﴿وإن عاقبتم٢ فعاتبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ لا أكثر، ﴿ولئن صبرتم﴾ وتركتم المعاقبة ﴿لهو﴾ أي صبركم ﴿خيرٌ﴾ لكم من المعاقبة على الذنب والجناية، وقوله تعالى: ﴿واصبر﴾ على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين جزاء تمثيلهم بعمك حمزه، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معاً، وقوله: ﴿وما صبرك إلا بالله﴾ أي إلا بتوفيقه وعونه، فكن مع ربك
١ قال القرطبي: هذه الآية نزلت بمكة في وقت مهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين لله وشرعه بتلّطف ولين دون مخاشنة وعنف، وهكذا ينبغي أن يدعو المسلمون إلى يوم القيامة.
٢ جمهور المفسرين على أن هذه الآية: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا... ﴾ الخ نزلت بالمدينة في شأن قتل حمزة والتمثيل به رضي الله عنه وأرضاه يوم أحد ذكر ذلك البخاري وغيره وفي الآية دليل على وجوب المماثلة في القصاص ويحرم عدمها. وفي الآية دليل لمن قال بجواز أخذ مال من أخذ مال غيره إذا لم يتمكن منه بعلمه ورضاه على شرط أن لا يأخذ أكثر مما أخذ.
170
تستمد منه الصبر كما تستمد منه العون والنصر. وقوله تعالى: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه الذي هو الإسلام ﴿ولا تك في ضيق١﴾ نفسي يؤلمك ﴿مما يمكرون﴾ بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنت منهم. وقوله: ﴿إن الله مع الذين٢ اتقوا والذين هم محسنون﴾ يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عز وجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون في طاعة ربهم إخلاصاً في النية والقصد، وأداءً على نحوه، شرع الله وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الدعوة إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
٢- بيان أسلوب الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خالياً من العنف والغلظة والشدة، وأن تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
٣- جواز المعاقبة بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء، وتركها صبراً واحتساباً أفضل.
! - معية الله تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان، وهي معية نصرٍ وتأييد وتسديد.
١ الضيق والضَيق: بالكسر والفتح، يقال: في صدره ضيق وضِيق بالكسر والفتح، وقيل: الضيق بالفتح في الصدر، والضيق بالكسر في الدار والثوب ونحوهما.
٢ قيل: لهرم بن حبان عند موته: أوصنا فقال: أوصيكم بآيات الله وآخر سورة النحل: ﴿ادع إلى سبيل ربك..﴾ إلى ﴿محسنون﴾.
171
Icon