تفسير سورة الكهف

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الكهف
ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار إلا أنه قال : إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الداني وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى ( واصبر نفسك ) الآية فمدني وروي ذلك عن قتادة وقال مقاتل : هي مكية إلا أولها إلى ( جرزا ) وقوله تعالى :( إن الذين آمنوا ) إلى آخرها فمدني وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو ( فسبح بحمد ربك ) فسبحان الله وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الإستحقاق الغير الذاتي وقال الجلال السيوطي في ذلك : إن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول وقيل : إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها : هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع ثم قال : ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سبب ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى فكانت هذه الصورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة + وقد ورد في الحديث أنه لما نزل ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قال اليهود : قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء نزل ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك وأيضا لما قال سبحانه هناك ( فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ) شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه ( فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ) إلى قوله تعالى ( ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ) اه وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل وأما فضلها فمشهور + وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت
قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة + وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله الشيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها + وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم الخ وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا إن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق

ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢ ﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ
قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف: ٩٩، ١٠٠] اه، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل، وأما فضلها فمشهور.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين.
وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق،
وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة.
وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها
ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال»
وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد. ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال».
وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا «أن من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم»
إلخ،
وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «أن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء»
وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق.
190
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر. وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا
191
وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه، وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين (١) فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط. والعود أورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: ١٠٧] فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى إعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح.
واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما قَيِّماً أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس، والمراد مما قيل إنه لا خلل في لفظه ولا في معناه، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد.
وقال الفراء: المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها. وقال أبو مسلم: المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره، ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وكان حفص يسكت على عِوَجاً سكتة خفيفة ثم يقول قَيِّماً.
واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في لَهُ أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط، وكذا على القولين الأخيرين، نعم قيل: إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك.
وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
(١) ما الأولى نافية وما الثانية موصولة اه منه.
192
[التوبة: ٢٥] وفيه بحث، وجوز أن يكون حالا من الكتاب، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة، وهو نظير قوله تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: ٢١٧] على قول. وأيضا يجوز أن يكون الواو في وَلَمْ يَجْعَلْ للحال والجملة بعده حال من الْكِتابَ كقيما واختاره الأصبهاني.
وقال أبو حيان: إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه، وقال آخر: إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملية أن يكون الحال كذلك.
وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر، نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما، ولما كان قَيِّماً يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ للاحتراس، وقدم للاهتمام كما في قوله:
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر، وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يدل على كونه مكملا في ذاته، وقوله سبحانه:
قَيِّماً يدل على كونه مكملا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى.
ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قيما بدلا من قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قال أبو حيان:
ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد، وفي جواز ذلك خلاف، هذا وزعم بعضهم أن ضمير لَهُ عائد على عَبْدِهِ وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة، وقرأ أبان بن ثعلب «قيما» بكسر القاف وفتح الياء المخففة، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكنه قيما» وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة لِيُنْذِرَ متعلق بانزل واللام للتعليل، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية، ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم، والفاعل ضمير الجلالة، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره صلّى الله عليه وسلّم، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى: نْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ: ٤٠] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني، وهو قوله تعالى: بَأْساً شَدِيداً إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى
193
ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد، والمراد الذين كفروا بالكتاب، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يوضع موضع عند.
وقال بعضهم: إن «لدن» أبلغ من عند وأخص وفيه لغات، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون. وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور، ولذا قيل: إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء. ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها، ولا يخفى ما فيه، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال، وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل وَيُبَشِّرَ بالنصب عطف على ينذر وقرىء شاذا بالرفع.
وقرأ حمزة والكسائي «ويبشر» بالتخفيف الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور أَجْراً حَسَناً هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين في الأجر أَبَداً من غير انتهاء لزمان مكثهم.
ونصب ماكِثِينَ على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ والظرفان متعلقان به، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية، وتكرير الإنذار بقوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبىء عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عز وجل، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ إلخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به. وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد.
وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ
194
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا
[يونس: ٢] وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل.
ما لَهُمْ بِهِ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا مِنْ عِلْمٍ مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لا ستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم، واستظهر كون ضمير بِهِ عائدا على الولد وعدم العلم وكذا خال الجملة على ما سمعت، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء، وجوز أن يعود على القول المفهوم من قالُوا أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع، وقال الطبري: هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز وجل، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدورة هؤلاء كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى: اتَّخَذَ إلخ بتأويل المقالة، وكَلِمَةً نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة كَلِمَةً تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر. وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بأل أو مضافا إلى معرف بها أو ضميرا مفسرا بالتمييز، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير كَلِمَةً وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين. وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب. والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة. وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله. وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها. وقرىء «كبرت» بسكون الباء وهي لغة تميم، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد. واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضمير أن لهم ولآبائهم فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك. والأول مروي عن مجاهد. والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة:
لعلك يوما إن فقدت مزارها على بعده يوما لنفسك باخع
وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق:
195
ألا أيهذا الباخع الوجد (١) نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الاطلاع، وقرىء «باخع نفسك» بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري، وأشار إليه سيبويه في الكتاب.
وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم. يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحارث. وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ إلخ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر.
إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الجليل الشأن، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين: بأن الألفاظ حادثة، وإن شرطية، والجملة بعدها فعل الشرط، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور، وقيل الجواب فلعلك إلخ المذكور، وهو مقدم لفظا مؤخر معنى، والفاء فيه فاء الجواب، وقرىء «أن لم يؤمنوا» بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن، وهو متعلق بباخع على أنه علة له. وزعم غير واحد أنه لا يجوز إعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال، ولا يعمل وهو للمضي، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لَمْ إلى الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة.
وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال. ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها، وتعقب بأنه غير مسلم، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلّى الله عليه وسلّم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية، وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر، وانتصاب قوله تعالى: أَسَفاً بباخع على أنه مفعول من أجله.
وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر
(١) قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اه فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اه منه.
196
فعل مقدر أي تأسف أسفا، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب.
وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف: ١٥٠] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب، وفي رواية أخرى بالحزن، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع، وأهل الحزن أكثر، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم.
وقال العسكري: هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك، وقيل موضع الاستفهام، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلّى الله عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف.
وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زِينَةً لَها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات، ومن قال بالعموم قال: لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.
وقالت فرقة: أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء
197
وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال: المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى:
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: ٤٦] ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة، ونصب زِينَةً على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق.
وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء، والابتلاء في الأصل الاختبار، وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز وجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك، ورده أهل السنة في محله وقالوا: إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل، وأولوا هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوي الزهد مثلا كان أحسن، وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأحسن عملا كما
أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام «أحسنكم عقلا (١) وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه».
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان الأحسن أحسن وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧] وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين، وأي أما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في لِنَبْلُوَهُمْ وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا. ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال، وأفعل التفضيل باق على الصحيح
(١) قوله في الحديث وأورع كذا بخط مؤلفه وما في الدر المنثور «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله» إلخ.
198
على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ما عَلَيْها مما جعلناه زينة، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك صَعِيداً أي ترابا جُرُزاً أي لا نبات فيه قاله قتادة، وقال الراغب: الصعيد وجه الأرض، وقال أبو عبيدة هو المستوي من الأرض وروي ذلك عن السدي وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر:
إن العجوز خبة جروزا... تأكل كل ليلة قفيزا
وفي القاموس أرض جرز (١) وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال، والمراد تصيير ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم ييق منه أثر إلا التراب. وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين إن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا إلخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ إلخ تكميل للتعليل، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية، وقيل: في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتألم أَمْ حَسِبْتَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد، وأَمْ منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض، وقيل: هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا في بقائهم
(١) قوله أرض جرز إلخ الأول على وزن كتب جمع كتاب، والثاني كقفل، والثالث كسهم، والرابع كسبب اه منه.
199
على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر مِنْ آياتِنا أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عَجَباً أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر لكانوا ومِنْ آياتِنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها، وجوز أبو البقاء أن يكون عَجَباً ومِنْ آياتِنا خبرين وإن يكون عَجَباً حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم، ومن هنا يعلم وجه الربط، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله أَمْ حَسِبْتَ إلخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول. كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى، وقال الطبري: المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء، وقيل: المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعله.
والمقصود بالخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا وليس بشيء، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس (١)
والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت:
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا
(١) رواه عنه ابن أبي حاتم اه منه.
200
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي.
وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق أخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما.
فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن بن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل إِذْ أَوَى معمول عَجَباً أو كانُوا أو اذكر مقدرا، ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ واتخذوه مأوى ومكانا لهم، والفتية جمع قلة لفتى، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان، وقال ابن السراج: إنه اسم جمع وقال غير واحد انه جمع فتى كصبي وصبية، ورجح بكثرة مثله، والمراد بهم أصحاب الكهف، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة،
فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب
، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه، والظاهر مع
201
الضمير اعتبارها، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك رَحْمَةً عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع، و «من» للابتداء متعلق بآتنا، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري «وهيي» بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم «وهيّ» بلا همز انتهى.
وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها، والأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسه أو معقوله ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا رَشَداً إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال: الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون.
وقال بعضهم: الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال: إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية.
ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه، نعم فيما قاله نظر، والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور.
وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم مِنْ لَدُنْكَ على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم: بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة.
واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين.
ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن
202
التصرف. وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا. وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم.
والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى:
فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء: ٧٦] بعد قوله سبحانه إِذْ نادى [الأنبياء: ٧٦] فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق فِي الْكَهْفِ ظرف لضربنا وكذا قوله عز وجل: سِنِينَ ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية عَدَداً أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند الله عز وجل.
وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب اه، وقد خفي على العز ابن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن هاهنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك. وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوي الحديثية لا أظنه شيئا.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي منهم وهم القائلون لبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الكهف: ١٩] وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحدا بعد واحد وعن مجاهد: الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون، وقال الفراء: الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم، واختلفوا في مدة لبثهم، وقال السدي: الحزبان كافران، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشا سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل الكهف وقال ابن حرب: الحزبان الله سبحانه وتعالى، والخلق كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: ١٤٠] والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت أَحْصى أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير أَيُّ واختار ذلك الفارسي والزمخشري، وابن عطية، وما في قوله تعالى: لِما لَبِثُوا مصدرية، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى: أَمَداً وهو مفعول أَحْصى والأمد على ما قال الراغب: مدة لها حد، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال: باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم:
المدى والأمد يتقاربان، وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية، عليها في قولهم:
ابتداء الغاية وانتهاؤها، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة.
ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد
203
ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلاثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد، واشتماله عليها انتهى.
وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو- هو- في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية. نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان. وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك. وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي أَحْصى الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه، وأَمَداً على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه.
وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع. والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول ك فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد. ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا.
وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك.
واختار الزجاج والتبريزي كون أَحْصى أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك، واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور، والهمزة في أَحْصى ليست للنقل، وثانيا بأن أَمَداً حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس:
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا لما التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد، ولا يقال: فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل
204
يعضل حينئذ تنكير أَمَداً والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال أما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: ١٠٦] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر:
٢] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا أَحْصى أفعل تفضيل وأَمَداً مفعولا له، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله، وثالثا بأن توهم الأشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور، ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك، وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون أَحْصى فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل، وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن أَحْصى أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى.
وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات، وأيّا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز، وقيل: المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى:
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: ١٤٣] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز وجل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا، ثم قال: إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة:
٢٥٨] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصرها هنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي
205
إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى.
وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختيار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر، ثم قال: وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره. وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهره ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا ينفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه.
وتصوير التمثيل بأن يقال: بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدا. وقرىء «ليعلم» مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين إلخ، وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع مفعولي نعلم الثاني فقط وهو ظاهر. وقرىء «ليعلم» بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس.
والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت، وقال بعضهم: إن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر بِالْحَقِّ أما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نَقُصُّ أو من نَبَأَهُمْ أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به، ولعل في التقييد بِالْحَقِّ إشارة إلى أن في عهده صلّى الله عليه وسلّم من يقص نبأهم لكن لا بالحق.
وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دفيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجلس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات أفسوس وفي بعضها طرسوس، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم
206
الشرط فاخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا: إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال: ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فيها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤوسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عز وجل.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- إلى- مِرفَقاً
ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطليونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه الله سبحانه وتعالى.
وكانوا على ما
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتى الملك فقيل له: قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه
207
وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل: ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة.
وفي البحر لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بسيدهم والناظر في مصالحهم، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكي عنهم.
وَزِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا.
وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الإيمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثه اه. ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى. وفي زِدْناهُمْ التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والأخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد. وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش.
وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل.
وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي إِذْ قامُوا متعلق بربطنا، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم: قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين.
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا: نحن كذلك فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال: إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك.
وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دغاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض
208
فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال عطاء: المراد قيامهم من النوم وليس بشيء، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا:
لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً وجاؤوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية.
وقد يقال: إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:
٢٥، الزمر: ٣٨] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] وصح أنهم يقولون أيضا: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاؤوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان، وابتدؤوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل، ولا تعجل بالاعتراض.
والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة، وجوز أبو البقاء كون «شططا» مفعولا به لقلنا، وفسره قتادة بالكذب، وابن زيد بالخطا، والسدي بالجور، والكل تفسير باللازم، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد، وأنشدوا:
شط المراد بحزوى وانتهى الأمل وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه، «وإذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود، والتضرع إليه، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك هؤُلاءِ هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم قَوْمُنَا عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ تعالى شأنه آلِهَةً أي عملوها ونحتوها لهم.
قال الخفاجي: فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود، وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان، والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما «آلهة» والثاني مقدر، وجوز أن يكون «آلهة» هو الأول و «من دونه» هو الثاني وهو كما ترى، وأيّا ما كان
209
فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عَلَيْهِمْ بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مِرفَقاً مقولة فيما بينهم، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
و «ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال: كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى.
وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فتأمل.
وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى: فَأْوُوا أي التجثوا إِلَى الْكَهْفِ ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون فَأْوُوا جواب إذ ذهب الفراء، وقيل: إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء: إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول: هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون الله» وقال
210
هارون: في بعض المصاحف «وما يعبدون من دوننا» وهذا يؤيد الاعتراض، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام. وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه يَنْشُرْ لَكُمْ يبسط لكم ويوسع عليكم رَبُّكُمْ مالك أمركم الذي هداكم للإيمان مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَيُهَيِّئْ يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى مِرفَقاً ما ترتفقون وتنتفعون به، وهو مفعول يُهَيِّئْ ومفعول يَنْشُرْ محذوف أي الخير ونحوه مِنْ أَمْرِكُمْ على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيىء ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض، وقال ابن الأنباري: للبدل والمعنى يهيىء لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: ٣٨] وقوله:
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
وجوز أن يكون حالا من مِرفَقاً فيتعلق بمحذوف، وتقديم لَكُمْ لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى.
فقد أخرج الطبراني وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال: ما بعث الله تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: ٦٠] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف:
٦٠] وإِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله، ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع.
وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هارون «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة، ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع، وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون: «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعا اه. وأجاز معاذ فتح الميم والفاء، هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق.
وَتَرَى الشَّمْسَ بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى:
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه، وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إِذا طَلَعَتْ تزاور أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وقرأ الحرميان وأبو عمرو «تزّاور» بفتح التاء وتشديد الزاي، وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري
211
«تزور» كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان، وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أبي أيوب «تزوار» كتحمار وهو في البناء كسابقه، وقرأ ابن مسعود. وأبو المتوكل «تزوئّر» بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن، ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل، وقيده بعضهم بالخلقي، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة:
وجنبي خيفة القرم أزور وقال عنتزه:
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلى بعبرة وتحمحم
وقال بشر بن أبي حازم:
تؤم بها الحداة مياه نخل وفيها عن أبانين ازورار
ومنه زاره إذا مال إليه، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله:
جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم وقال الراغب: إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه، والمشهور ما قدمناه، وحكي عن أبي الحسن أنه قال: لا معنى لتزور في الآية لأن الازورار الانقباض، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه، وهو نصب على الظرفية. قال المبرد: في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا.
وَإِذا غَرَبَتْ أي تراها عند غروبها تَقْرِضُهُمْ أي تعدل عنهم، قال الكسائي: يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به ذاتَ الشِّمالِ أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق، وقال غير واحد:
هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب: قرضت موضع كذا أي قطعته. قال ذو الرمة:
إلى طعن يقرضن أقواز (١) مشرف شمالا وعن إيمانهن الفوارس
والمراد تتجاوزهم وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في متسع من الكهف، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات. وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن، وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم وقال الزجاج: ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن
(١) القوز بالقاف والزاي المعجمة الكثيب الصغير، ويروى أجواز، والمشرف اسم رملة معروفة، والفوارس رمال معروفة بالدهناء اه منه.
212
أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير، واحتج عليه بقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ حيث جعل ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا، ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار. وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل، وقال أبو علي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه، وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك.
واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا: والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة.
وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أخبارهم. واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم.
وقرئ «يقرضهم» بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس.
وقال أبو حيان: أي يقرضهم الكهف مَنْ يَهْدِ اللَّهُ من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لما يحبه ويرضاه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والاخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى.
وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه وَزِدْناهُمْ هُدىً وربطنا وملاءمة قوله عز وجل وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء وَلِيًّا ناصرا مُرْشِداً يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لا كتفى بقوله تعالى «فهو المهتد» وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد، ولعل في الآية صنعة الاحتباك.
وَتَحْسَبُهُمْ بفتح السين.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم، والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا
213
إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم أَيْقاظاً جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في الكشاف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون.
وفي القاموس رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيئات يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان.
وقال الزجاج: مداره كثرة تقلبهم، واستدل عليه بذكر ذلك بعد، وفيه أنه لا يلائمه وَهُمْ رُقُودٌ جمع راقد أي نائم، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم وَنُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم كثيرا ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة تلي أيمانهم وَذاتَ الشِّمالِ أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير، واستبعد ذلك وقال الإمام: إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز وجل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب، وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه، وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم.
وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهارا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: ١١] والتقليب الكثير، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير، ولا يخفى بعده. واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة، وأخرج غير واحد عن أبي عياض نحوه، وقيل يقلبون في كل سنة مرة، وذلك يوم عاشوراء، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلاثمائة سنة، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع.
وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل، والظاهر أن وَنُقَلِّبُهُمْ إخبار مستأنف، وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى، وقرىء «ويقلبهم» بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى، وقيل للملك.
وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع «ويقلبهم» بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة، وقرأ فيما حكى ابن جني «وتقلبهم» على المصدر منصوبا، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه «وتحسبهم» أي وترى أو تشاهد تقلبهم، وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ «وتقلبهم» بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل تَحْسَبُهُمْ وفي إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث إنهم يحسبون إيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال
214
وَكَلْبُهُمْ الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة،
قال كعب الأحبار: هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا. فقال لهم: ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحياء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم
، وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب، وقال عبيد بن عمير: هو كلب صيد أحدهم، وقيل: كلب غنمه ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه، ففي البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان، وفي رواية قيراط، واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال: قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني، وأخرج عن كثير النواء قال: كان الكلب أصفر، وقيل كان أنمر (١) وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل غير ذلك، وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا، وقيل ريان، وقيل ثور، وقيل غير ذلك، وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينينا. قال الجلال السيوطي: يعني صينيا، وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك، وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه.
وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على كافر بقوله: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد
وهو خلاف الظاهر، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال: لعمر الله ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال: له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم، نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قرىء «وكالبهم» بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف،
وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه «وكالبهم» بباء موحدة وزنة اسم الفاعل
والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد ابن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها، وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم.
وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد:
فتية الكهف نجا كلبهم كيف لا ينجو غدا كلب علي
ولعمري إن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور باسِطٌ ذِراعَيْهِ مادهما، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب ذِراعَيْهِ على أنه مفعول باسِطٌ وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر
(١) أي فيه نمرة بيضاء ونمرة سوداء اه منه.
215
ابن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب بِالْوَصِيدِ بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا:
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية، وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غيرنا ومعهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال: إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، وقرأ ابن وثاب والأعمش «لو اطلعت» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر.
لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك، ونصب فِراراً إما على المصدر لوليت إذ التولية، والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملا الصدر، ونصب على أنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون.
وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية، وسبب ما ذكر أن الله عز وجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل: إظلام المكان وإيحاشه.
وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الإيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا اه.
وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعى استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها، وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ثم تنبهوا له فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة، وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضا، وذلك بتغيره بمرور الزمان اه، ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن
216
السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه، واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة، والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق، وعلى احتمال أن يكون له صلّى الله عليه وسلّم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم، قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا لعلمهم مهما أمكن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال:
لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له: لا تفعل أما تقرأ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة، وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف.
فحكى السهيلي عن قوم القول به، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة، والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الأخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت، وما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أصحاب الكهف أعوان المهدي»
على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلّى الله عليه وسلّم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض، ومن جعله صلّى الله عليه وسلّم معينا قال: المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرارا إلخ واطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عز وجل إياه وفرق بين الإطلاعين.
يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له: اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه: أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال: لا يا رب قال:
السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه
217
ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال: لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا.
وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه: كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.
لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.
قالَ استئناف لبيان تساؤلهم قائِلٌ مِنْهُمْ قيل هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم يوما أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك: قالُوا أي قال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن أو للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لَبِثْنا يَوْماً ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن قالُوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار
218
على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم بِوَرِقِكُمْ أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان «بورقكم» بإسكان الراء، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى، وبهذا اعترض عليها، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ، وقد قرىء «نعما» بسكون العين والإدغام، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو، وحكى الزجاج أنه قرىء بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام.
وقرأ على كرم الله تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل
جعله اسم جمع كباقر وحامل، ووصف الورق بقوله تعالى: هذِهِ يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما
في الحديث «اعقلها وتوكل»
نعم قال بعض الأجلة: إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه.
وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، واستدل عليه
بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا
، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا إِلَى الْمَدِينَةِ المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبىء عنه الفاء، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله:
أتت تشتكي عندي مزاولة القرى وقد رأت الضيفان ينحون منزلي
فقلت كأني ما سمعت كلامها هم الضيف جدي في قراهم وعجلي
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير، وقال الضحاك: إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة، وقال ابن السائب. ومقاتل: أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية، وقال عكرمة: أي أكثر.
وقال يمان بن ريان: أي أرخص، وقال قتادة: أي أجود وهو أجود، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب، وحسن الظن بالفتية يقتضي
219
أنهم تحروا الحلال، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين، وأي استفهام مبتدأ وأَزْكى خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام.
وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا، وفي الكلام استخدام ولا حذف، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا.
واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا، وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره، وقرأ الحسن «وليتلطّف» بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل إِنَّهُمْ تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان، وجوز أن يعود على (أحد) لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى:
فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: ٤٧].
إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الإطلاع، وتارة في الظفر والغلبة وعدي بعلى، وقرأ زيد بن علي «يظهروا» بضم الياء مبنيا للمفعول يَرْجُمُوكُمْ إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة. وقال الحجاج: المراد الرجم بالقول أي السب، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل وروي هذا عن ابن جبير، وقيل العود على ظاهره، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا، وإيثار كلمة في على كلمة إلى، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لا ستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، وبما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم
220
الفلاح أبدا، ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقا كان غير جائز عندهم، ولا إلى حمل يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ على يميلوكم إليها بالإكراه وغيره فتدبر، ثم إن الفتية بعثوا أحدهما وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والإفراد باعتبار ما ذكر ونحوه.
وقال العز بن عبد السلام في أماليه: الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة، وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه، وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر، وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه.
وقال الإمام المطرزي: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك، وجعله الغوري حقيقة في الاطلاع على أمر كان خفيا وأمر التجوز على حاله، ومفعول أَعْثَرْنا الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم.
وقال أبو حيان: أهل مدينتهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد بمعناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود، ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا حَقٌّ صادق لا خلف فيه أو ثابت متقحق سيقع ولا بد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث.
وَأَنَّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء.
لا رَيْبَ فِيها أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذ أن لا يرتابوا.
وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الاطلاع: إن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبور فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم اه.
وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الإطلاع على حال القوم نظرا. واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذلك؟ والقول بأنه متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتها بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم. وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر.
ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا، وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها
221
وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوان هم الأعوان ولم تنكر شيئا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعا عامرة ومنازل كأنها لم تكن دائرة قائلين قبل أن يكشر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحشر الجسماني، نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الإطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الاطلاع المذكور سببا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل بترتب العلم بذلك عليه، وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده الله تعالى حق على نفس الاطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل، ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بعد قوله سبحانه أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ على التفسير الذي سمعت مما لا غبار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليلغو كما زعمه من زعمه.
وقال بعضهم: إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تعالى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها تخصيصا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إلا أن في دعوى الظهور مقالا فلا تغفل إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها. وجوز أبو جيان وأبو البقاء وغيرهما كونه ظرفا لِيَعْلَمُوا وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الإعثار مع أنه ليس كذلك، وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، وللمناقشة في ذلك مجال.
وجوز أن يكون ظرفا لحق أو لوعد وهو كما ترى. وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم، وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء: ٥٩] وضمير يَتَنازَعُونَ لما عاد عليه ضمير لِيَعْلَمُوا أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق، وضمير أَمْرَهُمْ قيل عائد أيضا على مفعول أَعْثَرْنا والمراد بالأمر البعث، ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله.
وقد اختلفوا فيه فمن مقربه وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين.
روي أنه بعد أن ضرب الله تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلما فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسبما فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا الله عز وجل فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض الله تعالى راعي غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومهم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاما فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها إخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال: لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال: هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل: لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال: صدق ثم
222
قال الملك: أيها الناس هذه آية بعثها الله تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له: نستودعك الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله تعالى حفظك الله تعالى وحفظ ملكك ونعيذك بالله تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا: أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدا.
ويروى أن الفتى لما أتي به إلى الملك قال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وأن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى: وهؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض الله تعالى أرواحهم وعمي على الملك ومن معه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدا وكان وقوفهم على حالهم بأخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقه
وهذا هو المراد بالإعثار عليهم، وروي غير ذلك، وقيل: ضمير أَمْرَهُمْ للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الإعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال، ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء، والفاء في قوله تعالى: فَقالُوا ابْنُوا بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على دأب اختصارات القرآن كأنه قيل: وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك أعثرنا الناس على.
أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا عَلَيْهِمْ أي على باب كهفهم بُنْياناً نصب على أنه مفعول به، وهو كما قال الراغب واحد لا جمع له، وقال أبو البقاء: هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة، وقيل: هو نصب على المصدرية، وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربتهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم.
وجوزوا في قوله تعالى: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى الله تعالى علام الغيوب، وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين، وقيل: ضمير «أمرهم» للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الإعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم وبماذا يجلون قدرهم أو إذ يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خفي عليهم ذلك بعد الإعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة، وعلى هذا تكون إِذْ معمولا لاذكر مضمرا أو ظرفا لقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ
223
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً
ويكون قوله تعالى: فَقالُوا معطوفا على يَتَنازَعُونَ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع. وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل: اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا بإجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وذكر الزمخشري احتمال كون ضمير أَمْرَهُمْ للمعثرين وأن المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية، والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم، وجعل إذ في الأوجه ظرفا لأعثرنا. وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محالة وعلى الأخيرين للتعقيب، أما على الثاني منهما فظاهر، وأما على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم قالوا: دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانا أي خذوا فيما هو أهم إلى آخر ما قال، واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد، وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الأخيرين وكذا على ما نقلناه آنفا ليس بشيء لأن إعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله.
وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع. وحكي في البحر أن ضمير لِيَعْلَمُوا عائد على أصحاب الكهف، والمراد أعثرنا عليهم ليزدادوا علما بأن وعد الله حق إلى آخره، وجعل ذلك غاية للإعثار بواسطة وقوفهم بسببه على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون، وجعل إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم، وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد، ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر، ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلموا بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار، ولم يذهب أحد فيما أعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ عائدة على الفتية كضمير يعلموا، وإِذْ ظرف أَعْثَرْنا والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقول الآخر ردا عليه رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وحيث لم يتضح الحال ولم يحصل الإجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدا فصح أن يكون ظرفا للإعثار وضمير فَقالُوا للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علما بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا ابْنُوا إلى آخره.
وكأن ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه، ثم ما ذكر من احتمال كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد، وأما الاحتمال الأخير فبعيد جدا، والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة، والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين ابْنُوا إلى آخره والقائلين لَنَتَّخِذَنَّ إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم، والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة، ويلائمه لَنَتَّخِذَنَّ دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها، وضمير أَمْرَهُمْ هنا قيل للموصول المراد به الولاة، ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: ٢١].
وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف، والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم، وقيل أولياء
224
أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لا بد أن يكون أحد هؤلاء، والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا وجعل له في كل سنة عيدا عظيما. وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى.
ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع، والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر أن لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك. وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: ٧١] ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك، وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدا. وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة، وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة، ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلى المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أولا نصارى وإن كان في المسألة قول آخر ستسمعه إن شاء الله تعالى قريبا ومعبدهم يقال له بيعة، وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد الله تعالى فيه من شاء.
وأخرج أبو حاتم عن السدي أن الملك قال: لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدا فلأعبدن الله تعالى فيه حتى أموت، وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا، وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات. ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الإعثار متحققة في جميع المعثرين، ولا يتعين كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مساقا لتنظيم أمر أصحاب الكهف، ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي غلبوا بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول، ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبني عليهم شيء ولا يتعرض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت: إن كان بنيان ولا بد فلنتخذن عليهم مسجدا.
هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد،
فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج»
ومسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك»
وأحمد عن أسامة وهو والشيخان والنسائي عن عائشة، ومسلم عن أبي هريرة «لعن الله تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
وأحمد والشيخان والنسائي «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة»
وأحمد والطبراني «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد»
وعبد الرزاق «من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد» وأيضا «كانت بنو إسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم الله تعالى»
إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة.
وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عد اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها
225
والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر، وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأحاديث، ووجه اتخاذ القبر مسجدا واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا، واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه
رواية «إذا كان فيهم الرجل الصالح»
ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها، ومثل الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر.
وقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام نهي عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل وسراج على قبر ولا يصح وقفه ولا نذره اه.
وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة، وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره، نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر، وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لا سيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للإعلام المستحب. ولما روي الحاكم النهي قال: ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي، فإن قلت: هو إجماع فعلي فهو حجة كما صرحوا به قلت: ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه، وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة.
ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو نحو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كأرض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة، وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولا لأنه لا يسمى بناء عرفا؟ والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا، وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى.
وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي كرم الله تعالى وجهه أبعثك على ما بعثني عليه
226
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته،
قال ابن الهمام في فتح القدير: وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى، لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها
فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث ثم تلا قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
[طه: ١٤] وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال.
واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهيأة بقوله تعالى لَها شِرْبٌ [الشعراء: ١٥٥] الآية وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر: ٢٨] وأبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ [المائدة:
٤٥] والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول:
مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله صلّى الله عليه وسلّم كإنكاره عز وجل، وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة.
وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد، وكان الأولين إنما لم يشيروا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم، ومنعهم من تحقيقه أنهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلّى الله عليه وسلّم، ويكون قولهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ على هذا لمشاكلة قول الطائفة ابْنُوا عَلَيْهِمْ وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه، وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل، وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك
227
محادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل.
ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك.
ثم اعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال. وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف قال ابن عطية. دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى، وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا، ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الإخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من الله تعالى انتهى.
وما تقدم من خبر ابن عباس ومعاوية يضعف ما ادعي ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس، وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضا لا يجدي نفعا، وقد عول الكثير على أن ذلك في طرسوس والله تعالى أعلم.
سَيَقُولُونَ الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم الخائضين في قصة أصحاب الكهف، وأيد بذلك قول الحسن وغيره: إنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته أن لهم علما في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه.
والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم ثَلاثَةٌ أي ثلاثة أشخاص رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كَلْبُهُمْ فثلاثة خبر مبتدأ محذوف ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة مي موضع النعت لثلاثة والضميران لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد، وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية
حديث «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما»
فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه، ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك.
228
وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة. والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن «ثلاثة» بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ عطف على سَيَقُولُونَ والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة. وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك، وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا: قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا رميا به، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمي تأثير السهم في الرمية انتهى.
وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له وضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم: رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجما بالغيب أي ظنا به وعلى ذلك جاء قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
حيث أراد المظنون، وانتصاب رَجْماً هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد.
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما، وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى.
وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ المراد الاستقبال أيضا، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري، ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز وجل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: ٤] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه رَجْماً بِالْغَيْبِ واتبع هذا قوله عز وجل قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي أقوى وأقدم في العلم بها ما يَعْلَمُهُمْ أي ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إِلَّا قَلِيلٌ وعلى إيذان الواو بما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي
229
أنه قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.
وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر مطلقا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أنا من أولئك القليل، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل، هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله: وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه.
وقال أبو البقاء: الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان: كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف، هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها.
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه: وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة، وأما قوله تعالى إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه اه.
وقال صاحب الفرائد: دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيدا للصوق يقتضي الاثنينية مع أنا نقول: لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبىء عن الاثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبىء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه (١) وإنما هي واو الحال وذو الحال قَرْيَةٍ وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها إلخ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان، أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين، وأما الواو في مررت بزيد وفي مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه.
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أنه يدل على
(١) الحكم بأنه سهو سهو فقد تكرر من الزمخشري مع بسط وتفصيل فتدبر ما قلنا ولا تعجل اه منه.
230
صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة، ولا نسلم أيضا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم وأن مراده من قوله حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به، فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال: اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف.
وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم: بعت الشاة ودرهما بمعنى الباء، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله: فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه، وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك، ثم إن قولك: جاءني رجل ومعه آخر وقولك: مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم، وأما قول الفراهيدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط.
وأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر إنه جملتان فهو كما تراه، وأما قوله: إن جاء زيد راكبا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الافراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الأمارات وتكفي في هذه المقامات، وقال ابن الحاجب: لا يجوز أن يكون رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو، ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف والأخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر، ويقويه ذكر رَجْماً بِالْغَيْبِ قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فلو جعل وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء.
وقوله: وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر
231
إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام، وأيضا لا بد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مع قوله سبحانه: رَجْماً بِالْغَيْبِ لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا.
وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئنافا منه تعالى لأن اخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير، على أنه يمكن أن يقال: المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال:
الظاهر أن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لسبعة كما يشهد به أخواه، وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: ٤] حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية.
وأيد ذلك أيضا بما روي عن ابن عباس وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ.
وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل: ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه، أحدها: أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية، الثاني أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه، الثالث أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد، الرابع أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها، الخامس أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم.
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك.
وقال بعضهم: إن ضمائر الأفعال الثلاثة للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي
232
حاتم عن السدي، وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك، والقول الثاني على ما روي عن السدي أيضا النصارى ولم يقيدهم وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا (١) والقول الثالث لبعض المسلمين، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك أمارة على الحقية، والمراد بالقليل على هذا من وقفه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو.
وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به.
وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك.
وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين، ولا يلزم من إخباره صلّى الله عليه وسلّم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك، واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا فهو ليس نصا في عدم الوقوف.
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقي عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في الاستماع ومزيد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إسماعهم، ومتى فهم الزمخشري واضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الإعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الإيراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى.
وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة الثانية والنسطورية الجملة الثالثة، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم.
وقال الماوردي واستظهره أبو حيان: إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة
(١) نسبة إلى نسطور كان زمن الفترة كما في الكامل وليس هو الذي في زمن المأمون كما توهم ليحتاج إلى التكلف في الجواب كما فعل في الكشف اه منه.
233
الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمي على القوم أثرهم، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد، فلو قيل على هذا: إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر. ومن غريب ما قيل: إن الضمير في يَقُولُونَ سَبْعَةٌ لله عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير،
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أسماءهم يمليخا ومكشيلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير
، وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال، وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح.
والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس والله تعالى أعلم.
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف، وذكروا لها خواصا فقال النيسابوري عن ابن عباس: إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى، ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غيره من السلف الصالح، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرىء «وثامنهم كالبهم» أي صاحب كلبهم.
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى فَلا تُمارِ الفاء لتفريع النهي على ما قبله، والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم فِيهِمْ أي في شأن الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها.
وقال ابن زيد: المراد الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون.
وحكى الماوردي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة، وقال ابن الأنباري: هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر، وقال ابن بحر: هو ما يشهده الناس، وقال التبريزي: المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب، وأنشد: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. أي ذاهب وَلا تَسْتَفْتِ ولا تطلب الفتيا فِيهِمْ في شأنهم
234
مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أفتيناك غنى عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك، وقيل: المعنى لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي، وقيل: المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولا أوليا،
فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلّى الله عليه وسلّم الوحي خمسة عشر يوما على ما روي عن ابن إسحاق
، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل:
أربعين يوما فشق ذلك عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه.
وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص.
وتعقب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغترارا برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال.
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في الكشف: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى.
ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول. وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبدا، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأعراف: ٨٩] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله: فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته صلّى الله عليه وسلّم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى: إِنِّي فاعِلٌ بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت
235
مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.
وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقا بأني فاعل والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا فإن اقترنت فلا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل. وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال: الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله تعالى أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير له الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا.
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون. وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب.
وقال الراغب: الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: ١٤٥] إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى.
وفي الحديث «من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى»
فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على
236
التقييد بإن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئة تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت إِذا نَسِيتَ أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فإن الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاوس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم قال: يستثني ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب.
ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع إليك أنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه.
ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان إني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال:
رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل، لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.
وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره.
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى،
وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا
237
أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد
، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا.
وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، ونَسِيتَ على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.
وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول.
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر هذا القول نظير ما مر.
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي يوفقني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رَشَداً إرشادا للناس ودلالة على ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه «أم حسبت» إلخ، وهو متعلق بمجموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى: «إذ أوى الفتية إلى الكهف» كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية إلخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي.
وقال الجبائي: هو متعلق بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلى آخره والمعنى عنده ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة «فهذا» إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و (أقرب) على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل: إنه متعلق بالمتعاطفات قبله وهذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا وأطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة، وقد هدى صلّى الله عليه وسلّم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي، وقال ابن الأنباري: معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك. وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول: إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه وَلَبِثُوا فِي
238
كَهْفِهِمْ
أحياء مضروبا على آذانهم ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف: ١١] واختار ذلك غير واحد، قال في الكشف: فعلى هذا قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكيا للتذييل بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزا له، ولو قيل: فضربنا على آذانهم سنين عددا وأتى به مبينا أولا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلاثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية
فالتسع مقدار التفاوت، وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله تعالى وجهه.
واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمس وستون يوما وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوما وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلاثمائة سنة تسع سنين وثلاثا وسبعين يوما وتسع ساعات وثمانيا وأربعين دقيقة (١) ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت. وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، والعدول عن الظاهر يشعر به، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلا من فصولها فلم يعبأ به، وكون التفاوت تسعا تقريبا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعا فضلا عن نصف، وقال الطيبي في توجيه العدول: إنه يمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين. وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوما أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه.
وقال أيضا: يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى:
وَلَبِثُوا إلخ رافعا للاختلاف مبينا للحق ويكون وَازْدَادُوا تِسْعاً تقريرا ودفعا للاحتمال نظير الاستثناء في قوله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن.
وقيل إنهم انتبهوا قليلا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يقتضية ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى وَنُقَلِّبُهُمْ إلخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية.
وقال جمع: إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول سَيَقُولُونَ السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الرجل ليفسر الآية يرى
(١) وإذا اعتبر هذا سنين شمسية كان تسع سنين إلا أربعة وعشرين يوما وإحدى عشرة ساعة وإحدى وعشرين دقيقة اه منه.
239
أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا:
ثلاثمائة وتسع سنين فقال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إلى قوله تعالى رَجْماً بِالْغَيْبِ فأخبر أنهم لا يعلمون وقال: سيقولون لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ولا فرق بينه وبين قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك.
نعم قرأ ابن مسعود «قالوا لبثوا كهفهم» وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد.
والظاهر أن ضمير وَازْدَادُوا على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق، وقال الخفاجي: إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلاثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال: لبثوا ثلاثمائة وبعضهم قال: إنه أزيد بتسعة اه. ولا يخفى ما فيه، وعلى القولين الظاهر أن بِما لَبِثُوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو كما ترى، وقيل إنه تعالى لما قال وَازْدَادُوا تِسْعاً كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلّى الله عليه وسلّم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى.
هذا ونصب تِسْعاً على أنه مفعول ازْدَادُوا وهو مما يتعدى إلى واحد، وقال أبو البقاء: إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بني على افتعل تعدى إلى واحد، وظاهر كلام الراغب وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال: زدته كذا فزاد هو وازداد كذا، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل، والجمهور على أن سِنِينَ في القراءة بتنوين «مائة» منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء وابن الحاجب: هو منصوب على البدلية من ثَلاثَ مِائَةٍ.
وقال الزمخشري: على أنه عطف بيان لثلاثمائة، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين.
وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودا، ويؤيده ما
أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما نزلت هذه الآية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قيل: يا رسول الله أياما أم أشهرا أم سنين؟ فأنزل الله تعالى سنين.
وجوز ابن عطية الوجهين، وقيل: على التمييز، وتعقب بأنه يلزم عليه الشذوذ من وجهين، وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى، وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة، قال ابن الحاجب: ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزا لكان واحدا من ثلاثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلاثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة. ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردا وأما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعا استعمل على الأصل، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى.
240
وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع، وجوز الزجاج كون سِنِينَ مجرورا على أنه نعت مِائَةٍ وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سودا كخافية الغراب الأسحم
حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد، وقال أبو علي: لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي «ثلاثمائة سنين» بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر أيضا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا، وثانيهما كونه مفردا ولكون الإفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب: إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله:
إذا عاش الفتى مائتين عاما فقد ذهب اللذاذة والفتاء
وقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا: إن الجمع المذكور فيها قد أجري مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدا. وقرأ أبي «ثلاثمائة سنة» بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه «تسعا» بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى.
وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك،
ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده، ولابن هشام رسالة في ذلك، وأيّا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال: إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك
241
معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا، ولكونه صار فضلة صورة أعطي حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول، وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب، قال الرضي: وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما
في حديث اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه
، وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول.
وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر:
لقد وجدت مكان القول ذا سعة فإن وجدت لسانا قائلا فقل
وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س، وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل للتعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب، والباء زائدة في المفعول، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة. وأيضا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول: معنى خطاب الحسن قد انمحى، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه، هذا وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى «أبصر به وأسمع» بصيغة الماضي فيهما وخرج
242
ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم، وجوز أن يكون أَبْصِرْ أفعل تفضيل وكذا أَسْمِعْ وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير بِهِ عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ من يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه تعالى أَحَداً كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق.
وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد، وقيل: يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا، وقيل: يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى، ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك.
وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء آخر الحروف والجزم، قال يعقوب: لا أعرف وجه ذلك، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر «ولا تشرك» بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلّى الله عليه وسلّم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله: إياك أعني واسمعي يا جارة. فيكون مآله إلى ذلك، وجوز أن يكون الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم ويجعل معطوفا على لا تَقُولَنَّ والمعنى لا تسأل أحدا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلّى الله عليه وسلّم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه وَاتْلُ إلخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وجوز أن يكون اتْلُ أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل به، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي، والمراد بما أوحي إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل: متعلق بقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي إلخ ما تضمن هذا الإخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى.
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما
243
يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل: إن التبديل واقع لقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً [النحل: ١٠١]، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي: المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر، وقول الإمام: إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به.
ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه:
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في البيان والإرشاد: وأصله من الالتحاد بمعنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري:
يا لهف نفسي ولهف غير مجدية عني وما عن قضاء الله ملتحد
ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلّى الله عليه وسلّم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على الْكِتابَ وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عَبْدِهِ أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أمر تكوين لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الإسراء: ٩] وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله عليه وسلّم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات زِينَةً لَها أي لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد: حسن
244
العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة.
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال الجنيد قدس الله سره: أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فَقالُوا حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً بالوصول إليك والفناء فيك فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضا: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ الإيمان العلمي وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن أحضرناهم وكاشفناهم وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضا: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين.
إِذْ قامُوا بنا لنا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق.
وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجىء في شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فاخلوا بمحبوبكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مطوي معرفته وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة.
وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون
245
محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها.
وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره»
وقيل: في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى.
وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ننقلهم من عالم إلى عالم وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم.
وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه.
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ رددناهم إلى الصحو بعد السكر لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا
ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا
246
إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وَلْيَتَلَطَّفْ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه.
وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل:
أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ بأحجار الإنكار أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يحبر صلّى الله عليه وسلّم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى.
وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات لَهُ تعالى شأنه غَيْبُ السَّماواتِ
247
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ
عالم العلو وَالْأَرْضِ عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات.
وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ إذ لا فعل لأحد سواه تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
248
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع، ومنه الصبر بمعناه المعروف، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه مَعَ الَّذِينَ أي مصاحبة مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه دائما، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم، وقيل: قراءة القرآن، وروي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام.
وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان
249
وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية،
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ إلى قوله سبحانه أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً
يتهددهم بالنار،
وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات.
والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية، قال أبو حيان: وهو أصح لأن السورة مكية، وأقول: أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول: جاء زيد غدوة بالتنوين، على أن الرضي قال: إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان، ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله:
وقد كان منهم صاحب وابن عمه أبو جندل والزيد زيد المعارك
والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال: إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى، وللبحث فيه محالّ.
وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ بذلك الدعاء وَجْهَهُ أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازا لأن من رضي على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وقيل: المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف.
وقيل: هو بمعنى التوجه، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه، والأول أولى، والجملة في موضع الحال من فاعل «يدعون» أي يدعون مريدين ذلك.
وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن، قال في القاموس يقال: عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك قال في القاموس: يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك، وقيل: إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا
250
معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال: لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى، واعترض أيضا ما قيل: بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال: إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن، ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل.
وقرأ الحسن «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين، وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرؤوا «ولا تعد عينيك» بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا، وجعل الزمخشري، وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية.
وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما.
تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا، والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف عَيْناكَ وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء.
وقال في الكشف: العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: ١٣٥] ولك أن تقول: هاهنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم: يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر اه.
ولا يخفى أن فيه عدولا عن الظاهر من غير داع، وقول بعضهم: إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر تَعْدُ بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف.
وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره، مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد، وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير تُرِيدُ منهما الحقيقة لأن
251
التثنية تأبى ذلك، وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهما كه (١) في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد. ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن.
والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك، وقيل: المراد صادفناه غافلا كما في قولهم: سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم. وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم، وقيل: المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت:
وطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب
وهو كما ترى، وقال الرماني: (٢) المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم: أغفل فلان أبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة، واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه:
وَاتَّبَعَ هَواهُ في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه.
وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته، وخلق الله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الإخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه.
وقرأ عمر بن فائد وموسى الاسواري وعمرو بن عبيد «أغفلنا» بفتح الفاء واللام «قلبه» بالرفع على أنه فاعل أغفلنا، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل.
(١) قوله وانهما كه إلى قوله حتى خفي عليه كذا بإفراد الضمير في خط المؤلف وفي أبي السعود ضمير انهما كه راجع إلى قوله الباعث له فغير المصنف له بلهم فحصل ما حصل.
(٢) وقد كان معتزليا فليحفظ اه منه.
252
ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة.
وقد يقال: يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلّى الله عليه وسلّم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام. وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه وَكانَ أَمْرُهُ في اتباع الهوى وترك الإيمان فُرُطاً أي ضياعا وهلاكا، قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم: فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا، وبالإسراف فسره مقاتل، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة وَقُلِ لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحي إليّ الحق ومِنْ رَبِّكُمْ حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى، والظاهر أن قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى.
وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّكُمْ واختار الزمخشري هنا الأول، قال في الكشف: ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه وَقُلِ إلخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل، وقال الضحاك: هو التوحيد، وقال الكرماني: الإسلام والقرآن.
وقال مكي: المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى.
253
وجوز أن يكون قوله سبحانه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر.
وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا: لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: ٣٠، التكوير: ٢٩] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة، وفي الاحياء لحجة الإسلام فإن قلت: إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى. وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وستذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال السدي: هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل شاءَ في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر.
والحق أن الفاعل ضمير مِنْ والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: ٢٩] والله تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب وَقُلِ الْحَقُّ بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا الْحَقُّ بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق ومِنْ رَبِّكُمْ قيل حال أي كائنا من ربكم، وقيل: صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي، وجعلها من جعل فَمَنْ شاءَ إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من
254
عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، وأَعْتَدْنا من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم ناراً عظيمة عجيبة أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له
بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها
والسرادق قال الراغب: فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله: وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده، ثم إنه معرب سرايرده أي ستر الديوان، وقيل: سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك، وقال أبو حيان وغيره: معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق:
تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم تركت لهم قبل الضراب السرادقا
ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش بقرينة قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وقيل: مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصحصحه والبيهقي وآخرون
عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: كَالْمُهْلِ قال: كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه
، وقال غير واحد: هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل: ما أذيب من النحاس، وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود، وقيل: هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه:
يُغاثُوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم:
غضبت تميم (١) أن تقتل عامرا يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يَشْوِي الْوُجُوهَ ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى كَالْمُهْلِ أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.
(١) في نسخة حنيفة اه منه.
255
وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي.
وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي.
مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال: إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات.
وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل: يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء الذي يغاثون به وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد. قال في الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده، وقيل: نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز، قال الزمخشري:
وهذا لمشاكلة قوله تعالى: «وحسنت مرتفقا» وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله:
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن.
وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم.
وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة، وفي معناه قول ابن عطاء: المقر وقول العتبي: المجلس، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة.
وقال ابن الأنباري: المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ حسبما بين في تضاعيفه.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وقرأ عيسى الثقفي «لا نضّيّع» بالتضعيف، وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير عَمَلًا لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة.
256
ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وجملة إِنَّا إلخ معترضة، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله:
إن الخليفة إن الله ألبسه... سربال ملك به ترجى الخواتيم
وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه.
وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهم في الغرفات آمنون يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من الأولى للابتداء والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره.
وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى وَحُلُّوا أَساوِرَ [الإنسان: ٢١] وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور.
وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي، وقال الراغب: معرب دستواره، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار، وأنشد ابن الأنباري:
والله لولا صبية صغار... كأنما وجوههم أقمار
تضمهم من العتيك دار... أخاف أن يصيبهم إقتار
أو لاطم ليس له أسوار... لما رآني ملك جبار
ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء.
ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة،
وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم»
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا»
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور»
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء»
وأخرج أبو الشيخ، وغيره عن كعب الأحبار قال «إن لله تعالى ملكا- وفي رواية- في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس»
والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا
257
مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل، هذا وقرأ أبان عن عاصم «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل:
ثلاثة مذهبة للحزن الماء والخضرة والوجه الحسن، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم.
وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء مِنْ سُنْدُسٍ قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال شيد له: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة.
وزعم بعضهم: أن أصله سندي وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاؤوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وَإِسْتَبْرَقٍ أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج، وقال ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا، ووقع في شعر المرقش قال:
تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها
وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق، وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل
258
من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا.
وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال:
إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال أبو حيان: وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى.
وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك،
وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة.
وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة
، وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر:
غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بني الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة.
وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة.
وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية، وأيّا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون،
فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه»
وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ.
وقرأ ابن محيصن «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام عَلَى فيها فيحذف ألف عَلَى لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر: فما أصبحت عارض نفسي برية يريد على الأرض.
259
نِعْمَ الثَّوابُ ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وَحَسُنَتْ أي الأرائك أو الجنات مُرْتَفَقاً متكأ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه وَاضْرِبْ لَهُمْ للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ مفعولان لأضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه، فقيل هما إخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس.
وقال مقاتل: اسمه يمليخا، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال:
اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله، وقيل: هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة.
وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب مِنْ أَعْنابٍ من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل، وكِلْتَا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فأصله كلوي فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا ولا بعد ساكن صحيح وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله «كلا الجنتين آتي» بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ «آتت» فأنث لأنه
260
ضمير مؤنث، ولا فرق بين حقيقيه ومجازيه فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت وقال: إن عبد الله قرأ «كل الجنتين آتي أكله» فذكر وأعاد الضمير على كل.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من أكلها شَيْئاً من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض، وجوز أن يكون تَظْلِمْ متعديا وشَيْئاً مفعوله والمآل واحد وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بين كلتا الجنتين نَهَراً ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني: وهذا النهر هو النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير، وقال الفراء: لأن النهر ممتد فكأنه أنهار.
وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر «فجرنا» بالتخفيف على الأصل، وقرأ أبو السمال والعياض بن غزوان وطلحة بن سليمان «نهرا» بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: ٣٥] قاله شيخ الإسلام وَكانَ لَهُ أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين ثَمَرٌ أنواع المال كما في القاموس. وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة «ثمر» بضم الثاء والميم، وكذا في «بثمره» الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة، وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت، وقرأ أبو رجاء في رواية «ثمر» بالفتح والسكون.
وفي مصحف أبي وحمل على التفسير «وآتيناه ثمرا كثيرا» فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافا لمن وهم وَهُوَ أي القائل يُحاوِرُهُ أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى، وجوز أن تكون الجملة حالا من صاحبه فضمير هُوَ عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز وجل ذلك الكافر القائل له أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حشما وأعوانا، وقيل: أولادا ذكورا، وروي ذلك عن قتادة ومقاتل، وأيد بمقابلته- بأقل منك مالا وولدا- وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته، وقيل: عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الأخوة لا يفسر بذلك، ونصب مالًا ونَفَراً على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيرا محتاجا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناء على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب
261
الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة.
وكذا ما قيل إن الافراد لاتصال إحداهما بالأخرى، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى:
جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ إلخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكي عنه.
قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى يقال باد يبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك هذِهِ أي الجنة أَبَداً أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فني كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفلكية وليس بشيء، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل هذِهِ إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأيّا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها كما زعمت لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة.
وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر «منهما» بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين مُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: ٥٠] ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا رُدِدْتُ ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء رُجِعْتُ فليتأمل.
قالَ لَهُ صاحِبُهُ استئناف كما سبق وَهُوَ يُحاوِرُهُ جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة.
وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير «وهو يخاصمه» أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنيا على صحة قياس
262
المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر.
ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل بها يلقي فيها قليلا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى.
وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكملك إنسانا ذكرا وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء: ٤٢] ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: ٦] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط، ونصب رَجُلًا على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل.
وقال الحوفي: نصب على أنه مفعول ثان لسوى، والمراد ثم جعلك رجلا، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرا ولم يجعلك أنثى.
والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: ١١٥] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله أَكَفَرْتَ إلخ وقع ردا لقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه.
وقال بعضهم: الظاهر أنه كان مشركا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضا به لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وقوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وليس في قوله لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله أَكَفَرْتَ أأشركت اه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به.
وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي والحسن، وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم أدغمت النون في النون، وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس، وقد جاء الحذف والإدغام في قوله:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي
فإنه أراد لكن أنا لا أقليك، وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن، وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله:
فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي ولكن زنجيّ عظيم المشافر
أي لكنك مع نون الوقاية، وبإثبات الألف آخرا في الوقف وحذفها في الوصل كما هو الأصل في أنا وقفا ووصلا قرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون، وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال «لكنه» ذكره ابن خالويه، وقال ابن عطية: روى هارون عن أبي عمرو «لكنه هو الله ربي» بضمير لحق لكن.
وقرأ ابن عامر وزيد بن علي والحسن والزهري بإثبات الألف وقفا ووصلا وهو رواية عن نافع ويعقوب وأبي
263
عمرو وورش وأبي جعفر وأبي بحرية، وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختيارا وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطرارا، وقال بعضهم: إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضا عن الهمزة المحذوفة فيه. وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة، ومن إثباتها وصلا قول الشاعر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلا ووقفا، وروي ذلك أيضا عن أبي عبلة وأبي حيوة وأبي بحرية، وقرأ «لكننا» بحذف الهمزة وتخفيف النونين، و «لكن» في جميع هذه القراءات حرف استدراك لا عمل له وأنا مبتدأ أول وهُوَ ضمير الشأن مبتدأ ثان واللَّهُ رَبِّي مبتدأ وخبر، والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه، والتركيب نظير قولك: هند هو زيد ضاربها، وجوز أن يكون هُوَ مبتدأ ثانيا والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضا. وفي البحر أن هُوَ ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو الله ربي، ويجوز أن يعود على الذي خَلَقَكَ أي لكن أنا أقول الذي خلقك الله ربي فخبره الاسم الجليل ورَبِّي نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى، ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل هُوَ ضمير الشأن حينئذ حسبما سمعت، ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلا أقرب معنى من كونه خبرا وعود الضمير على الذي خلقك، وجوز أبو علي كون- نا- ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد رَبِّي على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد، وقال ابن عطية في الآية: يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذا دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي هو الله ربي، لكن ذلك إنما يتم لو قرىء بحذف الألف وقفا ووصلا وأنا لا أعرف أحدا قرأ بذلك انتهى، وأنت قد عرفت من قرأ به، وقد ذكر غيرهم قرؤوا أيضا أبو القاسم يوسف بن علي الهذلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك وقرأ عيسى الثقفي «لكن هو الله» بسكون نون لكن، وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود والأهوازي عن الحسن وإعرابه ظاهر جدا.
وقرىء «لكن أنا هو الله لا إله إلا هو ربي» ويعلم إعرابه مما مر، وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هارون على أن يكون «هو» تأكيدا لضمير النصب في «لكنه» وجعله عائدا على «الذي خلقك» ثم قال: ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفتين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد حينئذ على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا انتهى، ويا ليت شعري ما الذي منعه من تجويز أن يكون ضمير لكنه للشأن ويكون هُوَ مبتدأ عائدا على الذي خَلَقَكَ والاسم الجليل خبره ورَبِّي نعتا أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون هُوَ مبتدأ والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبرا والجملة خبر الضمير.
هذا وقوله وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على أَكَفَرْتَ وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر بالله تعالى لكني مؤمن موحد.
وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا: إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب، وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره، وذكر في الكشف أن فيه إشارة إلى أن الكفر بالله تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معا أي كما هنا فإن الإيمان مفاد أنا هو الله ربي
264
والتوحيد مفاد لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وأنت تعلم أيضا أن الشرك كثيرا ما يطلق على مطلق الكفر وجعلوا منه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨، ١١٦] وإنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد، ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد بهذا المعنى.
وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضا باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك، وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال: لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه والإنصاف أن كلا من القولين تكلف، وقيل في الكلام تعريض بشرك صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولا عليه بكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركا في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل، ثم اعلم أن ما تضمنته الآية ذكر جليل.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهن عند الكرب الله ربي لا أشرك به شيئا.
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ حض على القول وتوبيخ على تركه، وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر، وجاز تقديمه لذلك وجعله فاصلا بين لَوْلا وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عند ما دخلتها ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر.
ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله تعالى كان، وأيّا ما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها، ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولا أوليا على التقدير الأول لأن تعريف الأمر للاستغراق، والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل لأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط، وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء الله هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى.
وزعم القفال من المعتزلة أن التقدير هذا ما شاءه الله تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها، وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلا: هذا خط زيد، ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال، وكذلك فعل الكعبي والجبائي حيث قالا: الآية خاصة فيما تولى الله تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه، ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من مقول القول أيضا أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وإقرارا بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله، وقد تضمنت هذه الآية ذكرا جليلا أيضا،
فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: «قال لي نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت: نعم قال: أن تقول لا قوة إلا بالله
قال عمرو بن ميمون قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت»
الآية.
265
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: «إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء الله»
وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ ولولا إذ دخلت»
إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال: من رأى شيئا من ماله فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصب ذلك المال آفة أبدا وقرأ الآية، وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال: كان مالك إذا دخل بيته يقول: ما شاء الله قلت لمالك: لم تقول هذا؟
قال: ألا تسمع الله تعالى يقول وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ ونقل عن ابن العربي أن مالكا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويتأول قول الله تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ الآية، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً إلخ أَنَا توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في تَرَنِ وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب، والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول، ويجوز أن يكون أَنَا فصلا وحينئذ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل.
وقرأ عيسى بن عمر «أقلّ» بالرفع فيكون أَنَا مبتدأ وأَقَلَّ خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما ومالًا وَوَلَداً تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال، وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي إلخ، وقال كثير: هو جواب الشرط، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع الله تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك بكفرك نعمته ويخرب جنتك، وقيد بعضهم هذا الإيتاء بقوله:
في الآخرة، وقال آخر: في الدنيا أو في الآخرة، وظاهر ما ذكر أنه في الدنيا كالإرسال في قوله وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس.
وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: حُسْباناً فقال: نارا وأنشد له قول حسان:
بقية معشر صبت عليهم شآبيب من الحسبان شهب
وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وقال الزمخشري: هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدرا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها، والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضا إلا أنه قدر مضافا أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه، ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف.
وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روي أولا عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة، ويمكن على ما
266
قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر، ونقل الزمخشري أن حُسْباناً جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمى به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق، وقيل أعم من ذلك أي يرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء فَتُصْبِحَ لذلك صَعِيداً أي أرضا زَلَقاً ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلك فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كني عنه، وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة، وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضا ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد، وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر، والمعنى فتصبح أرضا لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم، وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلا لا تنبت ولا يثبت عليها قدم، وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، وقال مجاهد: أي فتصبح رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض، والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر.
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء الغائر طَلَباً تحركا وعملا في رده وإخراجه، والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله، وقيل ضمير لَهُ للماء مطلقا لا للماء المخصوص أي فلن تستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلبا، وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر.
والظاهر أن يُصْبِحَ عطف على (تصبح) وحينئذ لا بد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيدا زلقا يترتب عليها وا صباح مائها غورا، وجوز أن يكون العطف على يُرْسِلَ وحينئذ يجوز أن يراد بالحسبان أي معنى كان من المعاني السابقة، وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب، ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله فَلَنْ إلخ. وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظا ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال:
أو يجعل ماءها غورا أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل، ثم إن أكثر العلماء على أن قوله إِنْ تَرَنِ إلخ في مقابلة قول الكافر أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا إلخ وكأنهم عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر، وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية وأعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد، نعم قيل:
إن أقلية الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية. هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيرا من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك. وأجيب بأنه إنما لم يتعرض لذلك إشارة إلى استيلاء حب المال على قلب ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء صاحبه المؤمن خيرا منها.
وقيل: إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للكامل وأكمل للفاضل، والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل وحيث أراد ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعا له أو لكونه غير مهم له، وقيل: إنه ترجاه في قوله: خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لأن المراد
267
شيئا خيرا من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء.
وقيل: أراد ما هو الظاهر أي جنة خيرا من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجى جنة خير من تلك الجنة متضمن لترجي ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤهم بعد هلاك جنته حملا عليه، ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك، وفي قوله: ليكون إلخ منع ظاهر، وقيل: لم يترج الولد اكتفاء بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر، وقيل: إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجى في الآخرة وهي ليست محلا لإيتاء الولد لانقطاع التولد هناك، ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتى الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء، وقيل: يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله:
خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ بناء على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر.
وقرأت فرقة «غؤورا» بضم الغين وهمزة بعدها وواو بعدهما وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما، وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك، وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بما فيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية، وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى. وجعل ذلك من باب الكناية أظهر والعطف على مقدر كأنه قيل: فوقع بعض ما ترجى وأحيط إلخ وحذف لدلالة السباق والسياق عليه، واستظهر أن الإهلاك كان ليلا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح، ويجري هذان الأمران في تصبح ويصبح السابقين، ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مرارا، وقال غير واحد: هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك، وأيّا ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قولهم: قلبت الأمر ظهرا لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة:
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينا
فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض، ولكونه كناية عن الندم عدي بعلى في قوله تعالى:
عَلى ما أَنْفَقَ فِيها فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيقاب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق، ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية إن تعدى بصلة المعنى الحقيقي كما في قولهم: بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هنا فيجوز بنى بها ويكون القول بأنه غلط غلط.
ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا متعلقه خاص وهو حال من ضمير «يقلب» أي متحسرا على ما أنفق وهو نظرا إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى، وقال بعضهم: إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع، وأيّا ما كان فلا تضمين في الآية كما توهم. وقرىء «تقلب كفاه» أي تتقلب، ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا، وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها، وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال، ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار يُقَلِّبُ مرادا منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية، ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون
268
هلاك الجنة، وقيل: لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: ٣٥] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء، فقد قال الخفاجي: إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل وَهِيَ أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوِيَةٌ أي ساقطة، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا. وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى: عَلى عُرُوشِها بذلك، والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر، ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب، وحينئذ يجوز أن يراد من هِيَ الجنة بجميع ما اشتملت عليه وَيَقُولُ عطف على يُقَلِّبُ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا.
يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولا، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالاتفاق وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وقرأ الاخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «يكن» بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فِئَةٌ غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب، وقد روعي في قوله سبحانه يَنْصُرُونَهُ المعنى فأتى بضمير الجمع.
وقرأ ابن أبي عبلة «ولم تكن له فئة تنصره» مراعاة للفظ فقط، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده، وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل: لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر
269
له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت، وحاصله لا يقدرون على نصره إلا الله تعالى القدير وَما كانَ في نفسه مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه هُنالِكَ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ إلخ، أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بما فعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنون، ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة لأوليائه، ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك.
وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «الولاية» بكسر الواو وهي والولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالو كالة والوكالة والوصاية والوصاية، وقال الزمخشري: هي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: ٦٥] فتكون الجملة تنبيها على أن قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ إلخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه ولم يكن عن ندم وتوبة، وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أنهما قالا: إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك.
واستظهر أبو حيان كون هُنالِكَ إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله الحق ويناسب قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ويكون كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على مُنْتَصِراً وقوله تعالى: هُنالِكَ إلخ ابتداء كلام، وحينئذ فالولاية مبتدأ ولِلَّهِ الخبر والظرف معمول الاستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الاختصاص كما قرر في «الحمد لله رب العالمين» وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون «هنالك» خبر «الولاية» أو الولاية مرفوعة به و «لله» يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أو بالولاية، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منها.
وقال بعضهم: إن الظرف متعلق بمنتصرا والإشارة إلى الدار الآخرة، والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا. والزجاج جعله متعلقا بمنتصرا أيضا إلا أنه قال: وما كان منتصرا في تلك الحالة، والْحَقِّ نعت للاسم الجليل.
وقرأ الاخوان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني الحق بالرفع على أنه صفة الْوَلايَةُ وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره وقرأ أبي «هنالك الولاية الحق لله» بتقديم الْحَقِّ ورفعه وهو يرجح كون الْحَقِّ نعتا للولاية في القراءة السابقة.
وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو «الحق» بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك: هذا عبد الله حقا، ويحتمل أنه نعت مقطوع.
وقرأ الحسن والأعمش وحمزة وعاصم وخلف «عقبا» بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم «عقبى» بألف التأنيث المقصور على وزن رجعى، والجمهور بضم القاف والتنوين والمعنى في الكل ما تقدم.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم.
270
كَماءٍ استئناف لبيان المثل أي هي كماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وجوزوا أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثل. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربا كماء وليس بشيء.
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فاشتبك وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرة سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روي ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى فاختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارئ وإن صدق بحسب الوضع على كل من المتداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول فَأَصْبَحَ ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته هَشِيماً أي يابسا متفتتا، وهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل جمع هشيمة وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله:
أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا
وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيما لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: ٤، ٥] تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود «تذريه» من أذرى رباعيا وهو لغة في ذرى وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير «تذروه الريح» بالإفراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزا ثم يصير يابسا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيما وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً كامل القدرة.
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك.
وعمومه بالنسبة إلى الإفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبر به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعا الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها.
271
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ
أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله، قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله»
وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من. كنوز الجنة،
وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرج وابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرهما بما ذكر أيضا لكن بدون الذكر الأخير.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس
وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات
، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن وابن عطاء أنها النيات الصالحة واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها.
وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأيّا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنون خَيْرٌ من ذلك عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى:
ثَواباً جزاء وأجرا، وقيل: نفعا.
وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير خَيْرٌ للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ منصوب باذكر مضمرا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨]، وقيل: نسير أجزاءها بعد أن يجعلها هباء منبثا والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٥، ٦] واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون يَوْمَ ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا
إلخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ فهو معمول خَيْرٌ أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من عند
272
ربك في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب «تسير الجبال» برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو «تسير الجبال» بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض بارِزَةً بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل: إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر.
وقرأ عيسى «وترى الأرض» ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قيل يكون ذلك مذكورا، وإيثار الماضي بعد «نسير» و «ترى» للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا، وقال الزمخشري: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه. واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نُسَيِّرُ. وقال أبو حيان: الأولى جعلها حالا على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول، ثم قال: وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرىء «يغادر» بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات.
وقرأ قتادة «تغادر» بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى: وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: ٤] وجوز أبو حيان كونه للقدرة، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع «أحد» على النيابة عن الفاعل، وقرأ الضحاك «نغدر» بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم فًّا
مصطفين أو مصفوفين.
فقد أخرج ابن منده في التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي
273
أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»
وفي الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله،
وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا.
وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون، وقيل لا عرض بالمعنى المعروض ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء، ومعنى فًّا
سواء كان داخلا في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحا غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده.
ولا حاجة إلى أن يقال: إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدرا أي صفوفا أو يقال: إن الأصل صفاصفا، على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كبابا بابا وصفا صفا لا يجوز حذفه، هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الإخبار فيه، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه، وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وقيل في قوله تعالى: لى رَبِّكَ
إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل قَدْ جِئْتُمُونا
خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول، ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالا من فاعل (حشرنا) أو قائلا أو يقول إن كان من بِّكَ
أو مقولا لهم أو يقال لهم إن كان من ضعيررِضُوا.
وقد يقدر فعلا كقلنا أو نقول لا محل لجملته، وجوز تعلق «يوم» السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية.
قال الخفاجي: لأنه يصير كغلام زيد ضاربا على أن ضاربا حال من زيد ناصبا لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم، ثم قال: وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغنى عن الرد أنه لا محذور فيه اه، والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالا أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر، والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى «ملك يوم الدين» ما خَلَقْناكُمْ
نعت لمصدر محذوف أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم وَّلَ مَرَّةٍ
أو حال من الضمير المرفوع في ئْتُمُونا
أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: ٩٤].
وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى، والكلام عليه إعرابا كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع، والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ، والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني ووْعِداً
مفعوله الأول، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في
274
موضع الحال من مفعوله وهووْعِداً
أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتا ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه.
وَوُضِعَ الْكِتابُ عطف على رِضُوا
داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر، وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للاستغراق، ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان، وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتابا واحدا بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة ولكن لم أجد في ذلك أثرا، نعم قال اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد:
وواجب أخذ العباد الصحفا كما من القرآن نصا عرفا
جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى، والظاهر أن جزم الغزالي وأضرابه بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر، وقيل: وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذ أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه، ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَوُضِعَ الْكِتابُ ببناء وضع للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الالتفات ونصب الكتاب على المفعولية أي ووضع الله الكتاب فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا، والخطاب نظير ما مر مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ أي الكتاب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا يا وَيْلَتَنا نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم.
وقيل: المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة.
مالِ هذَا الْكِتابِ أي أي شيء له؟ والاستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب، ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة، وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك، وقال البقاعي: إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة، وفي لطائف الإشارات وقف على ما أبو عمرو والكسائي ويعقوب والباقون على اللام والأصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة، وأكثرهم لم يذكر فيها شيئا اه. وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على ما أو اللام توقف عندي. وقوله تعالى: لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً أي هنة صغيرة وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي إلا عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالية محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه؟ فقيل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً إلخ.
وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وعلى هذا يحمل إطلاق ابن
275
مردويه في الرواية عنه رضي الله تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب.
وعن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال: علام يضحك أحدكم مما يفعل؟
بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر، وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر، وتمام الكلام في ذلك في محله، وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون: هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني قليلا ولا كثيرا جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر، وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماما بها، وروي عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال:
ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد ظلما فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه.
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك حاضِراً مسطورا في كتاب كل منهم أو عتيدا بين أيديهم نقدا غير مؤجل، واختير المعنى الأخير وإن كان فيه ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم، والمراد أنه عز وجل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلا، وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة في ثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الإلهية فلا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهي عنه ولم يرتضه، وهذا مما أجمع عليه المسلمون وإن اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفي هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة، وهل تسمية تلك المجاوزة ظلما حقيقة أم لا؟ قال الخفاجي: الظاهر أنها حقيقة، وعليه لا حاجة إلى أن يقال: المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل بأحد ما يكون ظلما لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلما ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأن جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلا بوجه من الوجوه عند أهل السنة، وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل والله تعالى ولي التوفيق. واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا ولله تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار وَإِذْ قُلْنا أي اذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ كلهم كما هو الظاهر، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض.
اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم لله تعالى، وقد مر تمام الكلام في ذلك فَسَجَدُوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين، وقيل: حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبي البقاء، والأول ألصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد؟ فقيل كان أصله جنيا، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة نعم كان معهم ومعدودا في عدادهم،
فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم.
276
وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب
، وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: قاتل الله تعالى أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول: كانَ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس، وفي القلب من صحته ما فيه. وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور، وقيل: كان من الملائكة والجن قبيلة منهم، وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس،
وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى قلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة
، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول:
لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفا وبغيره مما لا يخفى، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقد روى عنه جماعة أنه قال: الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة، وفي رواية أخرى عنه أن معنى كانَ مِنَ الْجِنِّ كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو من الملائكة ومعنى كانَ مِنَ الْجِنِّ صار منهم بالمسخ، وقيل: معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث إنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني. وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك، ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة:
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل، وقال أبو عبيدة: لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكم به العرب بعد نزول القرآن، ووافقه المبرد على ذلك فقال: الأمر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به، وإما قوله تعالى: اسْجُدُوا وخروجه عنه مخالفته له، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر، وقيل: عَنْ للسببية كما في قولهم كسوته عن عري وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما
277
تحقق إباء. وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال: أي ففسق عن رده أمر ربه، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع. والأظهر ما ذكر أولا، والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى «كان من الجن» وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل: فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن إبائه وتركه السجود. وقيل: إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وإبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى. قول الرضي: والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى. وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: ١٥] كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله، والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى، ومنه يعلم وجه الربط، وجوز أن يكون وجهه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم سبحانه أولا بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه. وأيّا ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكرارا لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل. ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه.
ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهرا مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان.
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب، والمراد إما إنكار أن يعقب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه إعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا وبذلك قال جماعة،
وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به
، وعن قتادة أنه قال: إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضا الضحاك والأعمش والشعبي.
ونقل عن الشعبي أنه قال: لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلا بالزوجة، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة؟ فقال: إن ذلك لعرس ما سمعت به، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله.
وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون
278
لها أصلا وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال:
وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، وقال بعضهم: لا ولد له، والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازا تشبيها لهم بالأولاد، وقيل ولعله الحق إن له أولادا وأتباعا، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعها معا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز.
وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه.
واستدل ما في ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك. ولمدعيها أن يقول: بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد. إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك، وقوله تعالى: مِنْ دُونِي في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ أي والحال أن إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء كما في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٧٧] وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:
٤] وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو القبول والولوع، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بد
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه بَدَلًا أي من الله سبحانه، وهو نصب على التمييز وفاعل بِئْسَ ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى.
ما أَشْهَدْتُهُمْ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته.
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩] فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم، وفسر بالجمع والإفراد لرؤوس الآي، وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد أي وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية، وإرجاع ضمير أَنْفُسِهِمْ إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير
279
أَشْهَدْتُهُمْ إليهم، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال: ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولي وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور.
وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه.
وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته.
وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء، ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها من وجه، وقيل قد يراد من نفي الإشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال خلق كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر:
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملا، ولا يخفى ما فيه، وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المئونة فافهم. وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين: الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟، ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية- أولئك الكفار- لأنهم
280
المراد بالظالمين في قوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا انتهى.
وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة وَما كُنْتُ بفتح التاء خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلّى الله عليه وسلّم وهو إضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال، وقيل الضميران للملائكة، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون، ويرده وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً إلا أن يقال: هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين، وقال ابن عطية:
الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا.
واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها، ولعل أفرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا.
وقد حكى الشيعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة: يمنعني من ذلك قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً فلا أتخذ معاوية عضدا أبدا، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل.
وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم «ما أشهدناهم» بنون العظمة:
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «متخذا المضلين»
على اعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين.
وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد «عضدا» بضمتين، وروي ذلك عن الحسن أيضا، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. وقرأ الضحاك «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة وَيَوْمَ يَقُولُ أي الله تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم «نقول» بنون العظمة، والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول نادُوا للشفاعة لكم شُرَكائِيَ الَّذِينَ
281
زَعَمْتُمْ
أي زعمتموهم شفعاء، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء، والمراد بهم إبليس وذريته، وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى.
وقرأ ابن كثير «شركاي» مقصورا مضافا إلى الياء فَدَعَوْهُمْ أي نادوهم للإغاثة، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به.
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار، وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا.
وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن جَعَلْنا معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن إدخال عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني.
وقال بعضهم: معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين، وجعل ذلك بينهم حسما لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة. وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة.
وقال الثعالبي في فقه اللغة: الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده، وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة.
وبَيْنَهُمْ على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير ومَوْبِقاً مفعوله الأول، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا.
وقال الفراء والسيرافي: البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا ومَوْبِقاً بمعنى هلاكا مفعوله الثاني، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك. والرؤية بصرية،
وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة
فَظَنُّوا أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة، وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم.
وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم
282
الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد الله «ملاقوها» وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة، واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وعن علقمة أنه قرأ «ملافّوها» بالفاء مشددة من لف الشيء وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي مكانا ينصرفون إليها.
قال أبو كبير الهذلي:
أزهير هل عن شيبة بن مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
فهو اسم مكان، وجوز أن يكون اسم زمان، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا، وفي الدر المصون أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكان مكسورها، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن على رضي الله تعالى عنهما «مصرفا» بفتح الراء وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا الْقُرْآنِ الجليل الشأن لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي كل مثل على أن- من- سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول صَرَّفْنا أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف، وقيل المفعول مضمون مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بعض كل جنس مثل، وأيّا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا.
وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه، وانتصابه على التمييز، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربه فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم.
والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا، وقيل المراد به النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى، وقال ابن السائب:
أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتي بعظم قد رم فقال: أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا
فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال: المختار في معناه أنه صلّى الله عليه وسلّم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل قال صلّى الله عليه وسلّم ذلك تسليما لعذرهما وإنه لا عتب اه فتأمل وَما مَنَعَ النَّاسَ قال ابن عطية وغيره: المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم، وما نافية.
وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل.
283
واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر.
وقال بعضهم: لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل مَنَعَ والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال:
إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا منتظر قطعا، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.
واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا.
وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه، ولا يخلو عن دغدغة.
وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل: هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، وربما يقال بناء على هذا إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة
284
الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله:
ولا عيب فيهم البيت. والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى.
ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز ابن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: ٩٤] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال: قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال: المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه.
والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة، ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قرئ «قبلا» بفتحتين أي مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال إِلَّا حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بالثواب وَمُنْذِرِينَ للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: ١٥] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: ٢٤] إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا ويبطلوا بِهِ أي بالجدال الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر:
وردت ونجى اليشكري حذاره وحاد كما حاد البعير عن الدحض
وقال آخر:
285
أبا منذر رمت الوفاء وهبته... وحدت كما حاد البعير المدحض
واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي:
أتانا بوحل لأفكاره... ليزلق أقدام هدى الحجج
وَاتَّخَذُوا آياتِي التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا وَما أُنْذِرُوا أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم هُزُواً أي استهزاء وسخرية.
وقرأ حمزة «هزأ» بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان أَنْ يَفْقَهُوهُ فالإضافة للعهد.
وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد مِمَّنْ عند الأكثرين مشركو مكة.
وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا، والضمير في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير أَنْ يَفْقَهُوهُ الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن.
وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا وَفِي آذانِهِمْ أي وجعلنا فيها وَقْراً نقلا أن يسمعوه سماعا كذلك وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي مدة التكليف كلها، وإِذاً جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلّى الله عليه وسلّم ما لي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له صلّى الله عليه وسلّم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل إِذاً يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما أنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل: إن تقدير ما لي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم: ٢٩] وقيل أخذ من قوله تعالى عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وقيل من قوله سبحانه «إن تدعهم» هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله
286
تعالى أعلم. والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام: وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذلك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى ذُو الرَّحْمَةِ أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام: وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال.
وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: ذُو الرَّحْمَةِ لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: ١٧٣ وغيرها] بالمبالغة في الجانبين كثيرا وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري إن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر.
وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى
287
من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان العليم من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم انتهى.
وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا أي فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء: أي منجى يقال وألت نفس فلان نحت وعليه قول الأعشى:
وقد أخالس رب الدار غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
وقال ابن قتيبة: هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس، وفسره مجاهد بالمحرز، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله أبو البقاء: يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل: على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة.
وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل: يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ الزهري «موّلا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس، وقدر المضاف في البحر قبل تِلْكَ وكلا الأمرين جائز، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا، وأيّا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والْقُرى صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة أَهْلَكْناهُمْ واختار أبو حيان كون «القرى» هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل:
٥٢] وجوز أن تكون «تلك» منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا أي
288
حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم، ولَمَّا عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره.
وقال أبو الحسن بن عصفور: هي حرف، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال: إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفا استعمل للتعليل.
وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ لهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه- أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام- من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ، وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت، وقيل: إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك:- ومهمه هالك من تعرجا- أي مهلكه، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة:
أسيلات أبدان دقاق خصورها وثيرات ما التفت عليها الملاحف
وقرأ حفص وهارون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر.
«ومن باب الإشارة في الآيات» وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلّى الله عليه وسلّم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلّى الله عليه وسلّم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا، ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس سره:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا هم السلاطين والسادات والأمرا
فاصحبهم وتأدب في مجالسهم وخل حظك مهما قدموك ورا
289
واستغنم الوقت واحضر دائما معهم واعلم بأن الرضا يختص من حضرا
ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل لا علم عندي وكن بالجهل مستترا
إلى أن قال:
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم وجه اعتذارك عما فيك منك جرا
وقل عبيدكم أولى بصفحكم فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا
هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلّى الله عليه وسلّم كان مع الحق فأمر صلّى الله عليه وسلّم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم،
وقد جاء في الحديث «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر»
ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء:
لنا صاحب ما زال يتبع بره بمن وبذل المن بالبر لا يسوى
تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ولكن لأجل المن يستعمل السلوى
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل:
290
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى فلا خير في اللذات من دونها ستر
ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولا ستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل:
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا يحدث عنهم عند الوشاة المدمع السحاح
وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤوا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:
ينكر المرء منه أمرا فينها هـ نهاه فينكر الانكارا
تنثني عنه ثم تثني عليه ألسن تشبه الصحاة سكارى
يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور مِنْ سُنْدُسٍ الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف وَإِسْتَبْرَقٍ الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قيل أي أرائك الأسماء الإلهية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري: الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو النفس جَنَّتَيْنِ هما الهوى والدنيا مِنْ أَعْنابٍ الشهوات وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ حب الرياسة وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً من التمتعات البهيمية وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً من
291
القوى البشرية والحواس وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ من أنواع الشهوات وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يجاذب النفس أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا أي ميلا وَأَعَزُّ نَفَراً من الأوصاف المذمومة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها من العمر وحسن الاستعداد انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة وَخَيْرٌ عُقْباً للمريدين وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه لْ زَعَمْتُمْ
إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه وَوُضِعَ الْكِتابُ أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم:
وأودعت الفؤاد كتاب شوق سينشر طيه يوم الحساب
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وَإِذْ قالَ مُوسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفا (١) البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدو الله ثم ذكر حديثا طويلا فيه الإخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب، وقيل: موسى بن إفرائيم بن يوسف وهو موسى الأول، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل
(١) هو ابن فضالة ابن امرأة كعب، وقيل: ابن أخيه والمشهور الأول وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وبكال قيل بضم الباء حي من اليمن. وعن المبرد البكالي بكسر الباء نسبة إلى بكالة من اليمن، وفي شرح مسلم للنووي البكالي ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي: وهذا ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل: من همدان اه منه. [.....]
292
ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام، وقال بعض المحققين: ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع، وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط، وقالوا: قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وقال بعضهم:
لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن بمصر، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال: إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم، وقد يقال: يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] وأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: ١٣٥] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا، ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة، ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع وبالجملة لا يبالى بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار الله تعالى به ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الآية ظاهرة في ذلك، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس.
وإِذْ نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه، والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام، وقيل: هو أخو يوشع عليه السلام، وأنكر اليهود أن يكون له أخ، وقيل: لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» وهو من آداب الشريعة، وليس إطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الأولى، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة لا أَبْرَحُ من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله حَتَّى أَبْلُغَ إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا
293
السير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي، ومنه قول الفرزدق:
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
وقال أبو حيان: نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله:
لهفي عليك كلهفة من خائف يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه (١) وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو أَبْلُغَ كأن أصله يبلغ ليحصل الربط والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور، وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري.
وجوز أيضا أن يكون أَبْرَحُ من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر، نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل.
والمجمع الملتقى وهو اسم مكان، وقيل مصدر وليس بذاك، والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما، وملتقاهما مما يلي المشرق، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه.
وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام، وقالت فرقة منهم محمد ابن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا، وعن أبي أنه بإفريقية، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروي ذلك عن السدي، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرا علم، والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى حَتَّى أَبْلُغَ إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا.
وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار مَجْمَعَ بكسر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم مَجْمَعَ بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً عطف على أَبْلُغَ وأو لأحد الشيئين، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضي حقبا أي سيري زمانا طويلا.
وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع، ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد، والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ
(١) قوله فحذف المضاف إليه كذا بخطه والأولى المضاف وهو سير إلخ اه.
294
الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف، وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة، وعن الحسن أنه سبعون، وقال الفراء: إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان: الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر:
فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها فإنك مما أحدثت بالمجرب
اه وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح، قال في القاموس: الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب، واقتصر الراغب والجوهري على الأول، وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما
رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك» الحديث،
وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: اي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال: اي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني قال:
فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال: وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال: يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال: نعم قال: فأين هو؟
قيل له: عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى.
ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى أن ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال كلم الله تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرءون التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل: فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه
، وأنكر ذلك ابن عطية فقال: ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر، ثم إن
295
الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك فَلَمَّا بَلَغا الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين، والأصل في بين النصب على الظرفية.
وأخرج عن ذلك بجره (١) بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما، وقيل: مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك، وقيل: بين اسم بمعنى الوصل، وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين.
وقال الخفاجي: يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى، وفيه ما لا يخفى، ومَجْمَعَ على سائر الاحتمالات اسم مكان، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب،
فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام: إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر
، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح،
ففي حديث رواه الشيخان، وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال: ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره.
وفي حديث رواه مسلم، وغيره أن الله تعالى قال له: آية ذلك أن تزود حوتا (٢) مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه: إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان،
وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي فأصاف شيء منه الحوت فحيي،
وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش
، وقيل: إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما
(١) والإضافة بيانية أو لامية.
(٢) في رواية مملحا وفي أخرى مليحا.
296
أصاب منه شيء إلا حيي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال: إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا كالسرب وهو النفق
فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق
، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى.
وقال أبو شجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة، وقال ابن عطية:
وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحيي وسقط في البحر فاتخذ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر، وانتصاب سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل، ويجوز أن يتعلق باتخذ، وفِي في جميع ذلك ظرفية.
وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال: إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر، وواقفه في كون اتخاذ السرب في البر قوم، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده، وجوز أن يكون مفعولا اتخذ سَبِيلَهُ وفِي الْبَحْرِ وسربا حال من السبيل وليس بذاك، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: ١٠] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا، ولا يخفى أنه نظير سابقه.
297
فَلَمَّا جاوَزا أي ما فيه المقصد من مجمع البحرين، صح أنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى عليه السلام بالجوع فعند ذلك قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو الطعام الذي يؤكل، أول النهار والمراد به الحوت على ما ينبئ عنه ظاهر الجواب وقيل سارا ليلتهما إلى الغد فقال ذلك.
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا وإعياء، وهذا إشارة إلى سفرهم الذي هم ملتبسون به ولكن باعتبار بعض أجزائه،
فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به»
وذكر أنه يفهم من الفحوى، والتخصيص بالذكر أنه لم ينصب في سائر أسفاره والحكمة في حصول الجوع والتعب له حين جاوز أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمراده، وعن أبي بكر غالب بن عطية والد أبي عبد الحق المفسر قال: سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم، والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نصبا» بضمتين، قال صاحب اللوامح: وهي إحدى اللغات الأربع في هذه الكلمة قالَ أي فتاه، والاستئناف بياني كأنه قيل فما صنع الفتى حين قال له موسى عليه السلام ما قال؟ فقيل قال أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي التجأنا إليها وأقمنا عندها،
وجاء في بعض الروايات الصحيحة أن موسى عليه السلام حين قال لفتاه:
لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قال: قد قطع الله عنك النصب
، وعلى هذا فيحتمل أنه بعد أن قال ذلك قال أَرَأَيْتَ إلخ، قال شيخ الإسلام: وذكر الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة انتهى.
وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة، وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون، وأَ رَأَيْتَ قيل بمعنى أخبرني وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت كذلك فلا
298
بد لها من أمرين كون الاسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها الاستفهام وهما مفقودان هنا، ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن أرأيت إذا لم ير بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة معنى أما أو تنبه فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازى إلا مقرونة بما بلا خلاف فالمعنى أما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وقال شيخ الإسلام: الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب: أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه ولا استخباره عن ذلك كما قيل، والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله فَإِنِّي إلخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي اه. وفيه من القصور ما فيه. والزمخشري جعله استخبارا فقال: إن يوشع عليه السلام لما طلب منه موسى عليه السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك اه، وفيه إشارة إلى أن مفعول أَرَأَيْتَ محذوف وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في ما دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة، وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في فَإِنِّي وهي سببية، ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: ١١] فإن التقدير وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون إلخ وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه، وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن فَإِنِّي نَسِيتُ من تتمتها، وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا. ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه، وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال أبو حيان: يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا والتقدير أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته، وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة وقيل للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى عليه السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره.
وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت، والأكثرون على الأول أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما شاهدت من عجيب أمره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى. وقال بعضهم: إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي. وقال الإمام: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب والخاطر، وأنت تعلم أنه لو جعل الله تعالى المشاهد الناسي هو موسى عليه السلام كان أتم في التنبيه، وقد يقال: إنه أنسي تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه السلام لما قال له: لا أكلفك إلخ قال له ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى الله
299
تعالى بأن يقول: أخبرك إن شاء الله تعالى، وفيه أيضا عتاب لموسى عليه السلام حيث اعتمد عليه في العلم بذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب، ثم إن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه السلام وإن قلنا إنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة.
وقال بعض المحققين: لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو الله تعالى والمجازي هو الاستغراق المذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه الله تعالى بمنزلة الوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل،
وفي الحديث «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة»
أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه، وضم حفص الهاء في «أنسانيه» وهو قليل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة، والجمهور على الكسر وأمال الكسائي فتحة السين.
وقوله تعالى: أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء أي ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان، قيل وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره.
وفي مصحف عبد الله وقراءته «أن أذكركه»، وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى.
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعه كلام يوشع وهو تتمة لقوله فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وفيه إنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا، فسبيله مفعول أول لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه وعَجَباً مفعول ثان، وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة، وفيه تشويق للمفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام، فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال واتخذ في البحر سبيلا عجبا، وجوز أن يكون فِي الْبَحْرِ حالا من عَجَباً وأن يكون متعلقا باتخذ، وأن يكون المفعول الثاني له وعَجَباً صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب، وجوز أيضا على احتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب عَجَباً بفعل منه مضمر أي أعجب عجبا، وهو من كلام يوشع عليه السلام أيضا تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه، وقيل إن كلام يوشع عليه السلام قد تم عند الْبَحْرِ وقول أعجب عجبا كلام موسى عليه السلام كأنه قيل: وقال موسى: أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها، وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء، بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر، وقيل: يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عز وجل وحينئذ يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس، وثانيهما أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه، وعَجَباً على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير قالَ الآتي عنه على هذا لأن استئناف لبيان ما صدر منه عليه السلام بعد، ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه السلام قراءة أبي حيوة «واتخاذ» بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في أَذْكُرَهُ قالَ أي موسى عليه السلام ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ أي الذي كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المطلوب بالذات، وقرىء «نبغ» بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع، وأما الوقف
300
فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير فَارْتَدَّا أي رجعا عَلى آثارِهِما الأولى، والمراد طريقهما الذي جاءا منه قَصَصاً أي يقصانه قصصا أي يتبعانها اتباعا فهو من قص أثره إذا اتبعه كما هو الظاهر، ونصبه على أنه مفعول لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالا مؤولا بالوصف أي مقتصين حتى أتيا الصخرة التي فقد الحوت عندها.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء وقد تكسر وكسر الضاد وقد تسكن، وقيل اليسع، وقيل اليأس، وقيل ملك من الملائكة وهو قول غريب باطل كما في شرح مسلم، والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول، والخضر لقبه ولقب به كما
أخرج البخاري وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه جلس على فروة (١) بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء.
وأخرج ابن عساكر وجماعة عن مجاهد أنه لقب بذلك لأنه إذا صلى اخضر ما حوله
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أن ذلك لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله وكانت ثيابه خضرا
وأخرج عن السدي أنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطي قدميه
، وقيل لإشراقه وحسنه، والصواب كما قال النووي الأول، وكنيته أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية، وفي آخره ألف قيل ممدودة، وقيل ابليا بزيادة همزة في أوله، وقيل عامر، وقيل أحمد ووهاه ابن دحية بأنه لم يسمع قبل نبينا صلّى الله عليه وسلّم أحد من الأمم السالفة بأحمد، وزعم بعضهم أن اسم الخضر اليسع وأنه إنما سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي، وأنت تعلم أنه باطل لا واه، ومثله القول بأن اسمه الياس، واختلفوا في أبيه فأخرج الدارقطني في الأفراد، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه ابن آدم لصلبه، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسي، ولم يذكر اسمه وذكر أن الياس أخوه من هذه الأم وهذا الأب، وأخرج أيضا عن أسباط عن السدي أنه ابن ملك من الملوك وكان منقطعا في عبادة الله تعالى وأحب أبوه أن يزوجه فأبى ثم أجاب فزوجه بامرأة بكر فلم يقربها سنة ثم بثيب فلم يقربها ثم فر فطلبه فلم يقدر عليه ثم تزوجت امرأته الأولى وكانت قد آمنت وهي ماشطة امرأة فرعون، ولم يذكر أيضا اسم أبيه، وقيل إنه ابن فرعون على ما قيل إنه أبوه وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي،
وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه ابن عاميل وأنه ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال: يا أصحابي دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقال: استقبلني ملك فقال لي: أيها الآدمي الخطاء إلى أين ومن أين؟ فقلت: أردت أن أنظر عمق هذا البحر فقال لي: كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه السلام، ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة
وذلك ثلاثمائة سنة، وأظنك لا تشك بكذب هذا الخبر وإن قيل حدث عن البحر ولا حرج وقيل هو ابن العيص. وقيل هو ابن كليان بكاف مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية بعدها ألف ونون. وقال ابن قتيبة في المعارف: قال وهب بن منبه إنه ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال بيد أن صنيع النووي عليه الرحمة في شرح مسلم يشعر باختيار أنه بليا بن ملكا وهو الذي عليه الجمهور والله تعالى أعلم.
وصح من حديث البخاري وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة وإذا رجل مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه
(١) هي وجه الأرض اه منه.
301
وطرفه الآخر تحت رأسه.
وفي صحيح مسلم فأتيا جزيرة فوجد الخضر قائما يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر
وقال الثعلبي: انتهيا إليه وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو مسجى بثوب أخضر
. وقيل إن سبيل الحوت عاد حجرا فلما جاءا إليه مشيا عليه حتى وصلا إلى جزيرة فيها الخضر،
وصح أنهما لما انتهيا إليه سلم موسى فقال الخضر: وإني بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل قال: نعم،
وروي أنه لما سلم عليه وهو مسجى عرفه أنه موسى فرفع رأسه فاستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى: وما أدراك بي ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي ودلك عليّ ثم قال: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك وأن الوحي يأتيك؟ قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك
، والتنوين في عَبْداً للتفخيم والإضافة في عِبادِنا للتشريف والاختصاص أي عبدا جليل الشأن ممن اختص بنا وشرف بالإضافة إلينا.
آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قيل المراد بها الرزق الحلال والعيش الرغد، وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم وقيل طول الحياة مع سلامة البنية، والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وهذا قول من يقول بنبوته عليه السلام وفيه أقوال ثلاثة، فالجمهور على أنه عليه السلام نبي وليس برسول، وقيل هو رسول، وقيل هو ولي وعليه القشيري وجماعة، والمنصور ما عليه الجمهور. وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة وبمجموعها يكاد يحصل اليقين، وكما وقع الخلاف في نبوته وقع الخلاف في حياته اليوم فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم،
وسئل البخاري عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أي قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد
، والذي
في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية
وهذا أبعد عن التأويل، وسئل عن ذلك غيره من الأئمة فقرأ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: ٣٤]. وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه.
وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض
فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ؟.
وسئل إبراهيم الحربي عن بقائه فقال: من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان.
ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي
القول بموته أيضا. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضا
. وكذا عن إبراهيم بن إسحاق الحربي، وقال أيضا: كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي.
وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة والجماعة ولا يشهد معه الجهاد مع
قوله عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني»
وقوله عز وجل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
[آل عمران: ٨١] وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم عليه في مبدأ الأمر، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر عليه السلام وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ثم قال:
وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته، أحدها أن الذي قال بحياته قال: إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه وهذا فاسد لوجهين، الأول أنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني
302
أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده كما زعموا أنه وزير ذي القرنين لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض،
ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خلق آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده»
وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس، والوجه الثاني أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد.
الثالث أن العلماء اتفقوا على أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧]. الرابع أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في مواضع لأنه من آيات الربوبية وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك، الخامس أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم وهو حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأولى فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه، وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته، السادس أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ السابع أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: ٧٨] فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول: قال لي الخضر جاءني الخضر أوصاني الخضر- فيا عجبا له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم.
الثامن أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول: إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه أو يقول: إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه، التاسع أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وإرشاد جهلة الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما له وما عليه. وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ولا نقطع به الخصام والجدال وذهب جمهور العلماء إلى أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية قدست أسرارهم قاله النووي، ونقل عن الثعلبي المفسر أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن أبصار أكثر الرجال، وقال ابن الصلاح: هو حي اليوم عند جماهير العلماء والعامة معهم في ذلك وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ومثله لا يقال من قبل الرأي، ومنها ما
أخرجه ابن عساكر عن ابن إسحاق قال: حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال: يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث الله تعالى نوحا ضم ذلك الجسد وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت
303
زمانا فجاء نوح حتى نزل بابل وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به فقالوا: الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا فقال لهم نوح: إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا
، وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته، ومنها ما
أخرجه الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قلت: يا عبد الله أعد الكلام قال: أسمعته؟ قلت: نعم قال: والذي نفس الخضر بيده- وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر.
ومنها ما
نقله الثعلبي عن ابن عباس قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر طهر فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت: ويلك من أنت فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا أمرنا وهذه سنته وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسلوا محمدا فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل قبره مغسولا فقلت: جزاك الله تعالى خيرا قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلّى الله عليه وسلّم
، ومنها ما
أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واجتمع الصحابة دخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال: إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله تعالى فأنيبوا وإليه تعالى فارغبوا ونظره سبحانه إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هذا الخضر عليه السلام
ومنها ما
أخرجه ابن عساكر أن الياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل
، ومنها ما
أخرجه ابن عساكر أيضا والعقيلي والدارقطني في الأفراد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يلتقي الخضر والياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات باسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنها ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن المنكدر قال: بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا بهاتف يهتف من خلفه لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله تعالى فانتظره حتى حق بالصف الأول فكبر عمر وكبر الناس معه فقال الهاتف: إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل فلما دفن الميت وسوي عليه التراب قال: طوبى لك يا صاحب القبر ان لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر:
خذوا لي الرجل نسأله عن صلاته وكلامه هذا عمن هو فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر: هذا والله الذي حدثنا عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم. والاستدلال بهذا مبني على أنه عنى بالمحدث عنه الخضر عليه السلام إلى غير ذلك.
وكثير مما ذكر وإن لم يدل على أنه حي اليوم بل يدل على أنه كان حيا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم إلا أنه يكفي في رد الخصم إذ هو ينفي حياته إذ ذاك كما ينفي حياته اليوم، نعم إذا كان عندنا من يثبتها إذ ذاك وينفيها الآن لم ينفع ما ذكر معه لكن ليس عندنا من هو كذلك، وحكايات الصالحين من التابعين والصوفية في الاجتماع به والأخذ عنه في سائر الأعصار أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. نعم أجمع المحدثون القائلون
304
بحياته عليه السلام على أنه ليس له رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به العراقي في تخريج أحاديث الأحياء. وهذا خلاف ما عند الصوفية فقد ادعى الشيخ علاء الدين استفادة الأحاديث النبوية عنه بلا واسطة.
وذكر السهروردي في السر المكتوم أن الخضر عليه السلام حدثنا بثلاثمائة حديث سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم شفاها، واستدل بعض الذاهبين إلى حياته الآن بالاستصحاب فإنه قد تحققت من قبل بالدليل فتبقى على ذلك إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولم يقم. وأجابوا عما استدل به الخصم مما تقدم. فأجابوا عما ذكره البخاري من الحديث الذي لا يوجب نفي حياته في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وإنما يوجب بظاهره نفيها بعد مائة سنة من زمان القول بأنه لم يكن حينئذ على ظهر الأرض بل كان على وجه الماء. وبأن الحديث عام فيما يشاهده الناس بدليل استثناء الملائكة عليهم السلام وإخراج الشيطان، وحاصله انخرام القرن الأول، نعم هو نص في الرد على مدعي التعمير كرتن بن عبد الله الهندي التبريزي الذي ظهر في القرن السابع وادعى الصحبة وروى الأحاديث.
وفيه أن الظاهر ممن على ظهر الأرض من هو من أهل الأرض ومتوطن فيها عرفا ولا شك أن هذا شامل لمن كان في البحر ولو لم يعد من في البحر ممن هو على ظهر الأرض لم يكن الحديث نصا في الرد على رتن وأضرابه لجواز أن يكونوا حين القول في البحر بل متى قبل هذا التأويل خرج كثير من الناس من عموم الحديث، وضعف العموم في قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥] ولينظر في قول من قال:
يحتمل أنه كان وقت القول في الهواء ففيه أيضا ما لا يخفى على الناظر. ويرد على الجواب الثاني أن الخضر لو كان موجودا لكان ممن يشاهده الناس كما هو الأمر المعتاد في البشر، وكونه عليه السلام خارجا عن ذلك لا يثبت إلا بدليل وأنى هو فتأمل، وأجابوا عما قاله الشيخ ابن تيمية بأن وجوب الإتيان ممنوع فكم من مؤمن به صلّى الله عليه وسلّم في زمانه لم يأته عليه الصلاة والسلام فهذا خير التابعين أويس القرني رضي الله تعالى عنه لم يتيسر له الإتيان والمرافقة في الجهاد ولا التعلم من غير واسطة وكذا النجاشي رضي الله تعالى عنه. على أنا نقول: إن الخضر عليه السلام كان يأتيه ويتعلم منه صلّى الله عليه وسلّم لكن على وجه الخفاء لعدم كونه مأمورا بإتيان العلانية لحكمة إلهية اقتضت ذلك. وأما الحضور في الجهاد
فقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين بالله تعالى عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن الله تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى فقلت: سألتك بالله تعالى من أنت؟
فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال: أنا الخضر
فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك، وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم في بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»
فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا، ولا يخفى أن نظم الخضر عليه السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه صلّى الله عليه وسلّم بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الإتيان عليه عليه السلام، وكيف يقول منصف بإمامته صلّى الله عليه وسلّم لجميع الأنبياء عليهم السلام واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الإتيان على الخضر عليه السلام والاجتماع معه صلّى الله عليه وسلّم مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر، ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا صلّى الله عليه وسلّم كنسبته إلى موسى عليه السلام فليجدد إسلامه، ودعوى أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية
305
لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل، على أنه لو كان كذلك لذكره صلّى الله عليه وسلّم ولو مرة وأين الدليل على الذكر؟ وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الإتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وإن قيل إن هذه الدعوى مجرد احتمال، قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا، وأما ما روي عن ابن المدرك فلا نسلم ثبوته عنه، وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها، ومن أنصف يعلم أن حضوره عليه السلام يوم
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد رضي الله تعالى عنه: ارم فداك أبي وأمي
كان أهم من حضوره مع ابن المبارك، واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة، وأما ما ذكروه في معنى الحديث فلقائل أن يقول: إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهملوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ، وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر حينئذ، وأيّا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه، فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهد من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم. وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: ٣٤] بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول: إنه يقاتل الدجال ويموت، ومنهم من يقول: إنه يموت زمان رفع القرآن، ومنهم من يقول: إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما.
وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [النساء: ٥٧ وغيرها] حقيقة في طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد، وقد قال الراغب: كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى.
وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه السلام. وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية، أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات، وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فيأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار، على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه الصلاة والسلام، وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة، وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه: إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم، وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين. وقال بعض الناس: لو أعطى أحد من البشر هذه القوة لأعطيها صلّى الله عليه وسلّم يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار، وللبحث في هذا مجال. وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما ترى. وقال بعض الناس: إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا: يحتمل أنه عليه السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في
306
عوج بن عوق، وأيضا هم يقولون: له قدرة الكون في الهواء فما منعهم من أن يقولوا بأنه يحتمل أنه لم يركب وتحفظ عن الماء بالهواء كما قالوا باحتمال أنه كان في الهواء في الجواب عن حديث البخاري، وأيضا ذكر بعضهم عن العلامي في تفسيره أن الخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها والياس يدور في الجبال يهدي من ضل فيها هذا دأبهما في النهار وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه فلم لم يقولوا: إنه عليه السلام بقي في البحر حين ركب غيره السفينة ولعلهم إنما لم يقولوا ذلك لأن ما ذكر
قد روى قريبا منه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس مرفوعا ولفظه «إن الخضر في البحر والياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين» الخبر
، وقد قالوا: إن سنده واه أو لأنهم لا يثبتون له هذه الخدمة الإلهية في ذلك الوقت، ويوشك أن يقولوا في إعطائه قوة التشكل والكون في الهواء كذلك. وعن الثالث بأنه لا نسلم الاتفاق على أنه مات كل أهل السفينة ولم يبق بعد الخروج منها غير نسل نوح عليه السلام والخصر في الآية إضافي بالنسبة إلى المكذبين بنوح عليه السلام. وأيضا المراد أنه مات كل من كان ظاهرا مشاهدا غير نسله عليه السلام بدليل أن الشيطان كان أيضا في السفينة. وأيضا المراد من الآية بقاء ذريته عليه السلام على وجه التناسل وهو لا ينفي بقاء من عداهم من غير تناسل ونحن ندعي ذلك في الخضر على أن القول بأنه كان قبل نوح عليهما السلام قول ضعيف والمعتمد كونه بعد ذلك ولا يخفى ما في بعض ما ذكر من الكلام.
وعن الرابع بأنه لا يلزم من كون تعميره من أعظم الآيات أن يذكر في القرآن العظيم كرات، وإنما ذكر سبحانه نوحا عليه السلام تسلية لنبينا صلّى الله عليه وسلّم بما لاقى من قومه في هذه المدة مع بقائهم مصرين على الكفر حتى أغرقوا ولا توجد هذه الفائدة في ذكر عمر الخضر عليه السلام لو ذكر، على أنه قد يقال: من ذكر طول عمر نوح عليه السلام تصريحا يفهم تجويز عمر أطول من ذلك تلويحا.
وتعقب بأن لنا أن نعود فنقول: لا أقل من أن يذكر هذا الأمر العظيم في القرآن العظيم مرة لأنه من آيات الربوبية في النوع الإنساني، وليس المراد أنه يلزم عقلا من كونه كذلك ذكره بل ندعي أن ذكر ذلك أمر استحساني لا سيما وقد ذكر تعمير عدو الله تعالى إبليس عليه اللعنة فإذا ذكر يكون القرآن مشتملا على ذكر معمر من الجن مبعد وذكر معمر من الإنس مقرب ولا يخفى حسنه، وربما يقال: إن فيه أيضا إدخال السرور على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبأن التجويز المذكور في حيز العلاوة مما لا كلام فيه إنما الكلام في الوقوع ودون إثباته الظفر بماء الحياة، وأجاب بعضهم بأن في قوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إشارة إلى طول عمره عليه السلام على ما سمعت عن بعض في تفسيره. ورد بأن تفسيره بذلك مبني على القول بالتعمير فإن قبل قبل وإلا فلا، وعن الخامس بأنا نختار أنه ثابت بالسنة وقد تقدم لك طرف منها.
وتعقب بما نقله عن القارئ عن ابن قيم الجوزية أنه قال: إن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد ومن ادعى الصحة فعليه البيان، وقيل: يكفي في ثبوته إجماع المشايخ العظام وجماهير العلماء الأعلام. وقد نقل هذا الإجماع ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الأجلة الفخام، وتعقب بأن إجماع المشايخ غير مسلم فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحاق القونوي في تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال.
وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط والياس عن القبض، وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمان موسى عليهما السلام، ومع وجود هذه الأقوال لا يتم الإجماع، وكونها غير مقبولة عند المحققين منهم لا يتممه أيضا، وإجماع جماهير العلماء على ما نقل ابن الصلاح
307
والنووي مسلم لكنه ليس الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية والخصم لا يقنع إلا به وهو الذي نفاه فأنى بإثباته، ولعل الخصم لا يعتبر أيضا إجماع المشايخ قدست أسرارهم إجماعا هو أحد الأدلة، وعن السادس بأن له علامات عند أهله ككون الأرض تخضر عند قدمه وأن طول قدمه ذراع وربما يظهر منه بعض خوارق العادات بما يشهد بصدقه، على أن المؤمن يصدق بقوله بناء على حسن الظن به، وقد شاع بين زاعمي رؤيته عليه السلام أن من علاماته أن إبهام يده اليمنى لا عظم فيه وأن بؤبؤ إحدى عينيه يتحرك كالزئبق، وتعقب بأنه بأي دليل ثبت أن هذه علاماته قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وأين فيه ثبوت ذلك له دائما، وكون طول قدمه ذراعا إنما جاء في خبر محمد بن المنكدر السابق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا نسلم صحته، على أن زاعمي رؤيته يزعمون أنهم يرونه في صور مختلفة ولا يكاد يستقر له عليه السلام قدم على صورة واحدة، وظهور الخوارق مشترك بينه وبين غيره من أولياء الأمة فيمكن أن يظهر ولي خارقا ويقول: أنا الخضر مجازا لأنه على قدمه أو لاعتبار آخر ويدعوه لذلك داع شرعي،
وقد صح في حديث الهجرة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له ممن القوم؟ قال: من ما فظن السائل أن ما اسم قبيلة
ولم يعن صلّى الله عليه وسلّم إلا أنهم خلقوا من ماء دافق، وقد يقال للصوفي: إن أنا الخضر مع ظهور الخوارق لا تيقن منه أن القائل هو الخضر بالمعنى المتبادر في نفس الأمر لجواز أن يكون ذلك القائل ممن هو فان فيه لاتحاد المشرب، وكثيرا ما يقول الفاني في شيخه أنا فلان ويذكر اسم شيخه، وأيضا متى وقع من بعضهم قول: أنا الحق وما في الجبة إلا الله لم يبعد أن يقع أنا الخضر، وقد ثبت عن كثير منهم نظما ونثرا قول: أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى أنا عيسى أنا محمد إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وذكروا له محملا صحيحا عندهم فليكن قول: أنا الخضر ممن ليس بالخضر على هذا الطرز، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين؟ وحسن الظن لا يحصل منه ذلك.
وعن السابع بأنا لا نسلم اجتماعه بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة ولا يلتفت إلى قولهم فالكذابون الدجالون يكذبون على الله تعالى وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يبعد أن يكذبوا على الخضر عليه السلام ويقولوا قال وجاء إنما القول باجتماعه بأكابر الصوفية والعباد المحافظين على الحدود الشرعية فإنه قد شاع اجتماعه بهم حتى أن منهم من طلب الخضر مرافقته فأبى، وروي ذلك عن علي الخواص رحمة الله تعالى عليه في سفر حجه، وسئل عن سبب إبائه فقال:
خفت من النقص في توكلي حيث اعتمد على وجوده معي.
وتعقب بأن اجتماعه بهم واجتماعهم به يحتمل أن يكون من قبيل ما يذكرونه من اجتماعهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واجتماعه عليه الصلاة والسلام بهم، وذلك أن الأرواح المقدسة قد تظهر متشكلة ويجتمع بها الكاملون من العباد، وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ورآه في السماء ورآه يطوف بالبيت. وادعى الشيخ الأكبر قدس سره الاجتماع مع أكثر الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع إدريس عليه السلام فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا وأخذ منه علما كثيرا بل قد يجتمع الكامل بمن لم يولد بعد كالمهدي، وقد ذكر الشيخ الأكبر أيضا اجتماعه معه، وهذا ظاهر عند من يقول: إن الأزل والأبد نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار عند المتجردين عن جلابيب أبدانهم، ولعل كثرة هذا الظهور والتشكل من خصوصيات الخضر عليه السلام، ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل يقين أيضا بأن الخضر المرئي موجود في الخارج كوجود سائر الناس فيه كما لا يخفى.
ومما يبنى على اجتماعه عليه السلام بالكاملين من أهل الله تعالى بعض طرق إجازتنا بالصلاة البشيشية فإني
308
أرويها من بعض الطرق عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي عن شيخه ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي عن شيخه خاتمة المرشدين السيد علي البندنيجي عن نبي الله تعالى الخضر عليه السلام عن الولي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش قدس سره. وعن الثامن بأنا لا نسلم أن القول بعدم إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليه عليه السلام كفر، وبفرض أنه ليس بكفر هو قول باطل إجماعا، ونختار أنه أتى وبايع لكن باطنا حيث لا يشعر به أحد وقد عده جماعة من أرباب الأصول في الصحابة، ولعل عدم قبول روايته لعدم القطع في وجوده وشهوده في حال رؤيته وهو كما ترى.
وعن التاسع بأنه مجازفة في الكلام فإنه من أين يعلم نفي ما ذكره من حضور الجهاد وغيره عن الخضر عليه السلام مع أن العالم بالعلم اللدني لا يكون مشتغلا إلا بما علمه الله تعالى في كل مكان وزمان بحسب ما يقتضي الأمر والشأن، وتعقب بأن النفي مستند إلى عدم الدليل فنحن نقول به إلى أن يقوم الدليل ولعله لا يقوم حتى يقوم الناس لرب العالمين، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في العلم اللدني والعالم به، وبالجملة قد ظهر لك حال معظم أدلة الفريقين وبقي ما استدل به البعض من الاستصحاب. وأنت تعلم أنه حجة عند الشافعي والمزني وأبي بكر الصيرفي في كل شيء نفيا وإثباتا ثبت تحققه بدليل ثم وقع الشك في بقائه إن لم يقع ظن بعدمه، وأما عندنا وكذا عند المتكلمين فهو من الحجج القاصرة التي لا تصلح للإثبات وإنما تصلح للدفع بمعنى أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود فالمفقود يرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به، ويتفرع على هذا الخلاف فروع أخر ليس هذا محل ذكرها، وإذا كان حكم الاستصحاب عندنا ما ذكر فاستدلال الحنفي به على إثبات حياة الخضر عليه السلام اليوم وأنها متيقنة لا يخلو عن شيء بل استدلال الشافعي به على ذلك أيضا كذلك بناء على أن صحة الاستدلال به مشروط بعدم وقوع ظن بالعدم فإن العادة قاضية بعدم بقاء الآدمي تلك المدة المديدة والأحقاب العديدة، وقد قيل: إن العادة دليل معتبر ولولا ذلك لم يؤثر خرق العادة بالمعجزة في وجوب الاعتقاد والاتباع فإن لم تفد يقينا بالعدم فيما نحن فيه أفادت الظن به فلا يتحقق شرط صحة الاستدلال، وعلى هذا فالمعول عليه الخالص من شوب الكدر الاستدلال بأحد الأدلة الأربعة وقد علمت حال استدلالهم بالكتاب والسنة وما سموه إجماعا، وأما الاستدلال بالقياس هنا فمما لا يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل «ثم اعلم» بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية والله تعالى أعلم بصحتها عن بعض الصالحين الأخيار وحسن الظن ببعض السادة الصوفية فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق، ففي الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية اعلم أن لله تعالى في كل نوع من المخلوقات خصائص وصفوة، وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام ولهم مقام الرسالة والنبوة والولاية والإيمان فهم أركان بيت هذا النوع، والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا بمعنى أن المقام الذي أرسل منه أعلى منزلة عند الله تعالى من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله تعالى بهم العالم ويصون بهم بيت الدين القائم بالأركان الأربعة الرسالة والنبوة والولاية والإيمان، والرسالة هي الركن الجامع وهي المقصودة من هذا النوع فلا يخلو من أن يكون فيه رسول كما لا يزال دين الله تعالى، وذلك الرسول هو القطب الذي هو موضع نظر الحق وبه يبقى النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع، ولا يصح هذا الاسم على إنسان إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى، وهو مجلي الحق من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، ولما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل، ودخل الرسل كلهم عليهم السلام في ذلك الدين وكانت الأرض لا تخلو من
309
رسول حسي بجسمه لأنه قطب العالم الإنساني وإن تعدد الرسل كان واحد منهم هو المقصود أبقى الله تعالى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار أربعة إدريس والياس وعيسى والخضر عليهم السلام، والثلاثة الأول متفق عليهم والأخير مختلف فيه عند غيرنا لا عندنا فأسكن سبحانه إدريس في السماء الرابعة، وهي وسائر السموات السبع من الدار الدنيا لأنها تتبدل في الدار الأخرى كما تتبدل هذه النشأة الترابية منا
بنشأة أخرى، وأبقى الآخرين في الأرض فهم كلهم باقون بأجسامهم في الدار الدنيا، وكلهم الأوتاد، واثنان منهم الإمامان، وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم، وهو ركن الحجر الأسود من أركان بيت الدين، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن كانوا على شرع نبينا صلّى الله عليه وسلّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان وبالثاني الولاية وبالثالث النبوة وبالرابع الرسالة وبالمجموع الدين الحنيفي، والقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق. وهذه المعرفة لا يعرفها من أهل طريقتنا إلا الأفراد الأمناء، ولكل واحد منهم من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه مع وجودهم ويقال لهم النواب، وأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون إلا أولئك النواب ولا يعرفون أولئك المرسلين، ولذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل مقام القطبية والإمامية والوتدية فإذا خصوا بها عرفوا أنهم نواب عن أولئك المرسلين عليهم السلام. ومن كرامة نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فيهم من أهل هذا المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا، فلهذا صلى صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء بالأنبياء عليهم السلام لتصح له الإمامة على الجميع حيا بجسمانيته وجسمه، فلما انتقل عليه الصلاة والسلام بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل عليهم السلام، فثبت الدين قائما بحمد الله تعالى وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا. ولولا ما ألقى عندي من إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه الله تعالى ما أعلمنا به. ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم دون غيرهم من الأولياء، فاحمدوا الله تعالى يا إخواننا حيث جعلكم الله تعالى ممن قرع سمعه أسرار الله تعالى المخبوءة في خلقه التي اختص بها من شاء من عباده، فكونوا لها قابلين وبها مؤمنين ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها انتهى.
وعلم منه القول برسالة الخضر عليه السلام وهو قول مرجوح عند جمهور العلماء والقول بحياته وبقائه إلى يوم القيامة وكذا بقاء عيسى عليه السلام، والمشهور أنه بعد نزوله إلى الأرض يتزوج ويولد له ويتوفى ويدفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولينظر ما وجه قوله قدس سره بإبقاء عيسى عليه السلام في الأرض وهو اليوم في السماء كإدريس عليه السلام، ثم إنك إن اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه السلام إلى يوم القيامة، وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لا تنظر إلى من قال وانظر ما قال
فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك. وأنا أرى كثيرا من الناس اليوم بل في كثير من الأعصار يسمون من يخالف الصوفية في أي أمر ذهبوا إليه منكرا ويعدونه سيىء العقيدة ويعتقدون بمن يوافقهم ويؤمن بقولهم الخير، وفي كلام الصوفية أيضا نحو هذا فقد نقل الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السابق عن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال لأبي موسى الدبيلي: يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة، وذكر أيضا أنه سمع أبا عمران موسى بن عمران الإشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى.
310
ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول، والتنوين في قوله تعالى: رَحْمَةً للتفخيم وكذا في قوله سبحانه: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، وذكر لَدُنَّا قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا: إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد.
وذكر أنه يفهم من فحوى مِنْ لَدُنَّا أو من تقديمه على عِلْماً اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار عَلَّمْناهُ على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما
في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها
فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام، ويكون للأنبياء عليهم السّلام ولغيرهم بالإجماع، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن.
والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني، وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.
والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح، ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به، وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وأنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السّلام.
وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو «لدنا» بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن قالَ لَهُ مُوسى استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام؟ فقيل: قال له موسى عليه السّلام هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ استئذان منه عليه السّلام في اتباعه له بشرط التعليم، ويفهم ذلك من عَلى فقد قال الأصوليون: إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ [الممتحنة: ١٢] أي بشرط عدم الإشراك، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام والجزاء لازم للشرط، ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة
311
في الشرط، وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها لكن النحاة لم يتعرضوا له، وقد تردد السبكي في وروده في كلام العرب، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب حقيقة كان أو مجازا ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل الذي قبله كما قالوا فيما ذكرنا من الآية كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف يقع حالا كما قيل به هنا فيكون المعنى هل اتبعك باذلا تعليمك إياي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأ أبو عمرو والحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي «رشدا» بفتحتين وأكثر السبعة بالضم والسكون وهما لغتان كالبخل والبخل، ونصبه في الأصل على أنه صفة للمفعول الثاني لتعلمني ووصف به للمبالغة لكن أقيم مقامه بعد حذفه والمفعول الثاني لعلمت الضمير العائد على ما الموصولة أي من الذي علمته، والفعلان مأخوذان من علم المتعدي إلى مفعول واحد، وجوز أن يكون مِمَّا عُلِّمْتَ هو المفعول الثاني لتعلمني و «رشدا» بدل منه وهو خلاف الظاهر، وأن يكون رُشْداً مفعولا له لأتبعك أي هل أتبعك لأجل إصابة الخير فيتعين أن يكون المفعول الثاني لتعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ لتأويله ببعض ما علمت أو علما مما علمت، وأن يكون مصدرا بإضمار فعله أي أرشد رشدا والجملة استئنافية والمفعول الثاني مِمَّا عُلِّمْتَ أيضا. واستشكل طلبه عليه السّلام التعليم بأنه رسول من أولي العزم فكيف يتعلم من غيره والرسول لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه، ومن هنا قال نوف وأضرابه: إن موسى هذا ليس هو ابن عمران وإن كان ظاهر إطلاقه يقتضي أن يكون إياه. وأجيب بأن اللازم في الرسول أن يكون أعلم في العقائد وما يتعلق بشريعته لا مطلقا ولذا
قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم «أنتم أعلم بأمور دنياكم»
فلا يضر في منصبه أن يتعلم علوما غيبية وأسرارا خفية لا تعلق لها بذلك من غيره لا سيما إذا كان ذلك الغير نبيا أو رسولا أيضا كما قيل في الخضر عليه السّلام، ونظير ما ذكر من وجه تعلم عالم مجتهد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما علم الجفر مثلا ممن دونه فإنه لا يخل بمقامه، وإنكار ذلك مكابرة.
ولا يرد على هذا أن علم الغيب ليس علما ذا رشد أي إصابة خير وموسى عليه السّلام كان بصدد تعلم علم يصيب به خيرا لقوله تعالى: قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: ١٨٨] وقال بعضهم: اللازم كون الرسول أعلم من أمته والخضر عليه السّلام نبي لم يرسل إليه ولا هو مأمور باتباع شريعته فلا ينكر تفرده بما لم يعلمه غيره، ولا يخفى أنه على هذا ليس الخضر عليه السّلام من بني إسرائيل لأن الظاهر إرسال موسى عليه السّلام إليهم جميعا كذا قيل. ثم إن الذي أميل إليه أن لموسى عليه السّلام علما بعلم الحقيقة المسمى بالعلم الباطن والعلم اللدني إلا أن الخضر أعلم به منه وللخضر عليه السّلام سواء كان نبيا أو رسولا علما بعلم الشريعة المسمى بالعلم الظاهر إلا أن موسى عليه السّلام أعلم به منه فكل منهما أعلم من صاحبه من وجه، ونعت الخضر عليه السّلام في الأحاديث السابقة بأنه أعلم من موسى عليه السّلام ليس على معنى أنه أعلم منه من كل وجه بل على معنى أنه أعلم من بعض الوجوه وفي بعض العلوم لكن لما كان الكلام خارجا مخرج العتب والتأديب أخرج على وجه ظاهره العموم، ونظير هذا آيات الوعيد على ما قيل من أنها مقيدة بالمشيئة لكنها لم تذكر لمزيد الإرهاب، وأفعل التفضيل وإن كان للزيادة في حقيقة الفعل إلا أن ذلك على وجه يعم الزيادة في فرد منه، ويدل على ذلك صحة التقييد بقسم خاص كما تقول زيد أعلم من عمرو في الطب وعمرو أعلم منه في الفلاحة، ولو كان معناه الزيادة في مطلق العلم كان قولك زيد أعلم من عمرو مستلزما لأن لا يكون عمرو أعلم منه في شيء من العلوم فلا يصح تفضيل عمرو عليه في علم الفلاحة، وإنكار صدق الأعلم المطلق مع صدق المقيد التزام لصدق المقيد بدون المطلق، وقد جاء إطلاق أفعل التفضيل والمراد منه التفضيل من وجه على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب في أمالي القرآن ضمن عداد الأوجه في حل الإشكال المشهور في قوله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الزخرف: ٤٨] من أن المراد إلا هي
312
أكبر من أختها من وجه ثم قال: وقد يكون الشيئان كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه، وقد أشبع الكلام في هذا المقام مولانا جلال الدين الدواني فيما كتبه على الشرح الجديد للتجريد وحققه بما لا مزيد عليه، ومما يدل على أن لموسى عليه السّلام علما ليس عند الخضر عليه السّلام ما
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا أن الخضر عليه السّلام قال: يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله تعالى علمك الله سبحانه لا أعلمه
، وأنت تعلم أنه لو لم يكن قوله تعالى لموسى عليه السّلام المذكور في الأحاديث السابقة إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك على معنى أعلم في بعض العلوم بل كان على معنى أعلم في كل العلوم أشكل الجمع بينه وبين ما ذكرنا من كلام الخضر عليه السّلام، ثم على ما ذكرنا ينبغي أن يراد من العلم الذي ذكر الخضر أنه يعلمه هو ولا يعلمه موسى عليهما السّلام بعض علم الحقيقة ومن العلم الذي ذكر أنه يعلمه موسى ولا يعلمه هو عليهما السّلام بعض علم الشريعة، فلكل من موسى والخضر عليهما السّلام علم بالشريعة والحقيقة إلا أن موسى عليه السّلام أزيد بعلم الشريعة والخضر عليه السّلام أزيد بعلم الحقيقة، ولكن نظرا للحالة الحاضرة كما ستعلم وجهه إن شاء الله تعالى وعدم علم كل ببعض ما عند صاحبه لا يضر بمقامه. وينبغي أن يحمل قول من قال كالجلال السيوطي ما جمعت الحقيقة والشريعة إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى أنها ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء عليهم السّلام على ذلك الوجه إلا أحدهما، والحمل على أنهما لم يجمعا على وجه الأمر بالتبليغ إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم فإنه عليه الصلاة والسّلام مأمور بتبليغ الحقيقة كما هو مأمور بتبليغ الشريعة لكن للمستعدين لذلك لا يخلو عن شيء ويفهم من كلام بعض الأكابر أن علم الحقيقة من علوم الولاية وحينئذ لا بد أن يكون لكل نبي حظ منه ولا يلزم التساوي في علومها.
ففي الجواهر والدرر قلت للخواص عليه الرحمة: هل يتفاضل الرسل في العلم؟ فقال: العلم تابع للرسالة فإنه ليس عند كل رسول من العلم إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته فقط فقلت له: هذا من حيث كونهم رسلا فهل حالهم من حيث كونهم أولياء كذلك؟ فقال: لا قد يكون لأحدهم من علوم الولاية ما هو أكثر من علوم ولاية أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى منهم انتهى، وأنا أرى أن ما يحصل لهم من علم الحقيقة بناء على القول بأنه من علوم الولاية أكثر مما يحصل للأولياء الذين ليسوا بأنبياء، ولا تراني أفضل وليا ليس بنبي في علم الحقيقة على ولي هو نبي ولا أقول بولاية الخضر عليه السّلام دون نبوته، وقائلو ذلك يلزمهم ظاهرا القول بأن ما عنده من علم الحقيقة مع كونه وليا أكثر مما عند موسى عليه السّلام منه إن أثبتوا له عليه السّلام شيئا من ذلك مع كونه نبيا ولكنهم لا يرون في ذلك حطا لقدر موسى عليه السالم، وظاهر كلام بعضهم أنه عليه السّلام لم يؤت شيئا من علم الحقيقة أصلا ومع هذا لا ينحط قدره عن قدر الخضر عليهما السّلام إذ له جهات فضل أخر، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يقوله الذاهبون إلى ولايته عليه السّلام.
ثم ما أراه أنا ولله تعالى الحمد أبعد عن القول بما نقل عن بعض الصوفية من أن الولاية مطلقا أفضل من نبوة وإن كان الولي لا يبلغ درجة النبي، وهو مردود عند المحققين بلا تردد، نعم قد يقع تردد في نبوة النبي وولايته أيهما أفضل؟ فمن قائل بأن نبوته أفضل من ولايته، ومن قائل بأن ولايته أفضل.
واختار هذا بعض العرفاء معللا له بأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت وهي في النبي على غاية الكمال. والمختار عندي الأول. وقد ضل الكرامية في هذا المقام فزعموا أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى. ورده ظاهر. والاستدلال له بما في هذه القصة بناء على القول بولاية الخضر عليه السّلام ليس بشيء كما لا يخفى.
313
هذا ولا يخفى على من له أدنى ذوق بأساليب الكلام ما راعاه موسى عليه السّلام في سوق كلامه على علو مقامه من غاية التواضع مع الخضر عليه السّلام ونهاية الأدب واللطف، وقد عد الإمام من ذلك أنواعا كثيرة أوصلها إلى اثني عشر نوعا إن أردتها فارجع إلى تفسيره. وسيأتي إن شاء الله عز وجل ما تدل عليه هذه الآية في سرد ما تدل عليه آيات القصة بأسرها مما ذكر في كتب الحديث وغيرها.
قالَ أي الخضر لموسى عليهما السّلام إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفي لأن يصبر معه على أبلغ وجه حيث جيء بإن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها، وعدل عن لن تصبر إلى لَنْ تَسْتَطِيعَ المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم من نفيه نفيه، ونكر صَبْراً في سياق النفي وذلك يفيد العموم أي لا تصبر معي أصلا شيئا من الصبر، وعلل ذلك بقوله:
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إيذانا بأنه عليه السّلام يتولى أمورا خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السّلام ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره، ونصب خُبْراً على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك، وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف، وجوز أن يكون مصدرا وناصبه تُحِطْ لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق إطلاقا شائعا على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا وقرأ الحسن وابن هرمز «خبرا» بضم الباء. واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا: لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذبا وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل. وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك. وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد، والإنصاف أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس إلا نفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة، ثم إن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصا بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ إبراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضا وتحقيق ذلك في محله قالَ موسى عليه السّلام سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك غير معترض عليك وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً عطف على صابِراً والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك: ١٩] بتأويل أحدهما بالآخر، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابرا وغير عاص، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على سَتَجِدُنِي والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف. واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضا لتقدم القول. وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل، وقيل: مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السّلام، وقيل: مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول، وقيل: إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له، والظاهر الجواب الأول، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه. وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا إشكال في عدم تحقق ما وعد به.
ولا يقال: إنه عليه السّلام أخلف وعده وإن كان للتيمن، فإن قلنا: إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو أنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كأن أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال، وإن قلنا:
إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الإشكال ظاهرا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق مقام النبوة لمنافاته
314
العصمة، وأجيب بأن ما صدر منه عليه السّلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر. وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا، وفي رواية والثانية عمدا والثالثة فراقا، وقال بعضهم: لك أن تقول: لم يقع منه عليه السّلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل، وقال القشيري: إن موسى عليه السّلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السّلام من الفعل وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال: فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى، وهو مبني على أن العطف على سَتَجِدُنِي وقد علمت أنه خلاف الأولى، وأيضا المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبىء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السّلام، وأيضا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السّلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السّلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق.
والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر، وقال بعض المحققين: إن الاستدلال جار أيضا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضا فافهم، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفى أن يعصيه في كل ما يطلبه قالَ الخضر عليه السّلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أذن له عليه السّلام في الاتباع بعد اللتيا والتي، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السّلام بالصبر والطاعة.
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي فضلا عن المناقشة والاعتراض حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أبتدئك ببيانه، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وقيل: حتى للتعليل وليس بشيء.
وقرأ نافع وابن عامر «فلا تسألنّي» بالنون المثقلة مع الهمز، وعن أبي جعفر «فلا تسلني» بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حذف الياء خلاف غريب فَانْطَلَقا أي موسى والخضر عليهما السّلام ولم يضم يوشع عليه السّلام لأنه في حكم التبع، وقيل رده موسى عليه السّلام إلى بني إسرائيل،
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول
وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم:
إني أرى رجالا على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم
حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق، وكانت أيضا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة،
وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا
315
مثل ما نقص هذا العصفور من البحر
، وهو جار مجرى التمثيل واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة فِي مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: ٨] على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: ٤١] وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة خَرَقَها
صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السّلام: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها
وصح أيضا أنه عليه السّلام خرقها ووتد فيها وتدا
. وقيل قلع لوحين مما يلي الماء.
وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا أنهما لما ركبا واطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها
. وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها، ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السّلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى قالَ موسى أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السّلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار، وبعضهم لم يجوز هذا توهما منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال: فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى: تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى.
وهذا ظاهر في أنه عزم على الحرق فاعترض عليه موسى عليه السّلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية. فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السّلام بالمضارع استحضارا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السّلام أولا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السّلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل في هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضا على ما قيل من حيث إن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ، وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه أنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السّلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليها وحصولهم فيها، وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب، وقال بعضهم في ذلك: إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازما على الخرق ومعه موسى عليه السّلام فأحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السّلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السّلام حتى تم وقد شارفت على الأرض، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط. وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول: إذا خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الإعطاء وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال: إذا جئتني اليوم أكرمك غدا، وعلى ذلك قوله تعالى: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: ٦٦] ومن التزم ذلك كالرضي جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدا وقدر في الآية المذكورة «أئذا ما مت وصرت رميما» وعليه أيضا لا يلزم التعقيب، نعم قال بعضهم: إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر
316
قد قلع لوحا من ألواحها يدل على تعقيب الخرق للركوب، وأيضا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيا عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به. وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيام ونحوه، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمرا ممتدا ويكون انتهاء المغيا بابتدائه كقولك: ملك فلان حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل.
ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئا والله تعالى أعلم بصحتها، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك علي القاري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد ابن زيد عن شعيب بن الحبحاب أنه قال: كان الخضر عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السّلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام، وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته، نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الربيع أيضا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل، والظاهر أيضا أن موسى عليه السّلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله لِتُغْرِقَ أَهْلَها وإن كان صالحا لأن يدرج فيه بناء على أن المراد من أهلها الراكبين فيها.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «لتغّرق» بالتشديد لتكثير المفعول، وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني «ليغرق أهلها» على إسناد الفعل إلى الأهل، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدا لَقَدْ جِئْتَ أتيت وفعلت شَيْئاً إِمْراً أي داهيا منكرا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فأصله كثير، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرا إمرا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل:
يقرب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
ردا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي وشيك الفصول بعيد القفول حيث أمكن له أن يقول بطيء القفول ولم يقل، وربما يقال هنا: إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السّلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السّلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن، وأن يوشع بن نون قال له: ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك، وأن الخضر عليه السّلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السّلام فأدركه عند ذلك الحلم قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السّلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالا وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرا، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور، وقيل: الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل، والنسيان وإن لم يكن سببا قريبا للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: ٢] إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سببا للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية، وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة
317
أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهرا إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية.
وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاها لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: ٥٠] ثم كون ما ذكر اعتذارا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانا.
وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السّلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهما أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السّلام: هذه أختي وإني سقيم، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وجوز أن يكون النسيان مجازا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي لا تغشني ولا تحملني مِنْ أَمْرِي وهو اتباعه إياه عُسْراً أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني، والمراد لا تعسر علي متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، وقرأ أبو جعفر «عسرا» بضمتين فَانْطَلَقا الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح، وفي رواية أنهما مرا بقرية حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء، وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه فَقَتَلَهُ
أخرج البخاري في رواية أنه عليه السّلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده
وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين
، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل رضه بحجر، وقيل ضربه برجله فقتله، وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل كان بالغا شابا، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج:
شفاها من الداء الذي قد أصابها غلام إذا هز القناة سقاها
وقوله:
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هو جيت لست بشاعر
وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى قالَ أي موسى عليه السّلام أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب.
وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة
وهو تفسير باللازم، ومن قال كان بالغا قال: وصفه عليه السّلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن، واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق قصاص لك عليها وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة.
وقال السبكي: قبل أحد ثم نسخ، والجار والمجرور- قال أبو البقاء- متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفسا بلا
318
حق، وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلا بغير نفس، وأن يكون في موضع الحال أي قتلها ظالما لها أو مظلومة وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو «زاكية» بتخفيف الياء وألف بعد الزاي، و «زكية» بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل- كما قال أبو حيان- يدل على المبالغة، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت.
وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩] فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكي اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه امام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواترا عنه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا على ما قيل لا ينافي كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم، وأيّا ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه السّلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السّلام ذعرة منكرة قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً منكرا جدا، قال الإمام: المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر، وقيل بالعكس، وقال الراغب: المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، ولهذه الأبلغية قال بعضهم المراد شيئا أنكر من الأول، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال: إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة، وقال في الكشف: الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله:
لقد لقي الأقران (١) مني نكرا داهية دهياء إذا امرا
النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا، وقول من قال: إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكي على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقي وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى، وروي القول بالأبلغية عن قتادة، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السّلام حين قال للخضر عليه السّلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبدا، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل: إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وأحق فكان الاعتراض جدير بأن يجعل عمدة الكلام، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه.
وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى
(١) قوله مني نكرا في نسخة منكم بدل مني اه منه.
319
زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للأمور العادية اطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السّلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفا وجعل الخرق جزاء.
وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السّلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقديرا لا يصلح للجزائية.
واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق.
وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى: خَرَقَها وكذلك قوله سبحانه: فَقَتَلَهُ لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء.
وقال مير بادشاه في الرد على ذلك: إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السّلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السّلام ثانيا بعد ما سلف منه من الكلام وكونه عليه السّلام مرسلا منه تعالى للتعلم، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد، ولعل الحق أن يقال: إن التقدير وإن جاز خلاف الظاهر جدا، وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول: كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السّلام ظاهرا، ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا، وإذا سلم له أن يقول: إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى.
وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير: إن صدور الخوارق عن الخضر عليه السّلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السّلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السّلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السّلام ولله تعالى در شأن التنزيل، وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس
320
من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى، وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصودا إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه.
وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك، وقد رجح بذلك على ما تقدم، واستأنس له أيضا بأن مساق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السّلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السّلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سبق الكلام من أوله لشرح حاله، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: ١٧٣] وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم والله تعالى أعلم. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم نُكْراً بضمتين حيث كان منصوبا. (١)
(١) تم الجزء الخامس عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر وأوله قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.
321
الجزء السادس عشر
323

بسم الله الرحمن الرحيم

قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زيادة لَكَ لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية.
قالَ أي موسى عليه السّلام إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ تفعله من الأعاجيب بَعْدَها أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة فَلا تُصاحِبْنِي وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني» بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك، وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك.
وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي وجدت عذرا من قبلي، وقال النووي:
معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرة بعد مرة.
وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك
، وقرأ نافع وعاصم «من لدني» بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل: إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو- لد- بلا نون لغة في
325
لدن فلا حذف أصلا وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبني على السكون لتقيه الكسر ولد- بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال: إنها وقته من زوال الضم وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد: سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى «عذرا» بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي «عذري» بالإضافة إلى ياء المتكلم.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ الجمهور على أنها أنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع، وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولام مشددة، وقيل:
قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه
، وقيل: قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس، قال ابن حجر: والخلاف هنا كالخلاف في مجمع البحرين ولا يوثق بشيء منه،
وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما
اسْتَطْعَما أَهْلَها في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا قالَ الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وهاهنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال:
أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا بدا وجهه استحى له القمران
ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان
ومن إن دجت في المشكلات مسائل جلاها بفكر دائم اللمعان
رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الفكر في طول الزمان عناني
وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان
فأرشد على عادات فضلك حيرتي فما لي إلى هذا الكلام يدان
فأجاب السبكي بأن جملة اسْتَطْعَما محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وإن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السّلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه اسْتَطْعَما أَهْلَها ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف.
وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السّلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم
326
سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السّلام بفعل أهلها اللئام، وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكى ليرد فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت:
لأسرار آيات الكتاب معاني تدق فلا تبدو لكل معاني
وفيها لمرتاض لبيب عجائب سنا برقها يعنو له القمران
إذا بارق منها لقلبي قد بدا هممت قرير العين بالطيران
سرورا وإبهاجا وصولا على العلا كأني علا فوق السماك مكاني
فما الملك والأقران ما البيض ما القنا وعندي وجوه أسفرت بتهاني
وهاتيك منها قد أبحتك سرها فشكرا لمن أولاك حسن بياني
أرى استطعما وصفا على قرية جرى وليس لها (١) والنحو كالميزان
صناعته تقضي بأن استتار ما يعود عليه ليس في الإمكان
وليس جوابا لا ولا صف أهلها فلا وجه للإضمار والكتمان
وهذي ثلاث ما سواها بممكن تعين منها واحد فسباني
ورضت بها فكري إلى أن تمخضت به زبدة الأحقاب منذ زمان
وإن حياتي في تموج أبحر من العلم في قلبي يمد لساني
إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال: فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السّلام غريبا جدا، لا يقال:
ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] لأنا نقول: إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا
(١) أي صفة جرت على غير من هي له اه منه.
327
للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة، واختار الشيخ عز الدين علي الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى اسْتَطْعَما أَهْلَها للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثرا وقال نظما:
سألت لماذا استطعما أهلها أتى عن استطعماهم إن ذاك لشان
وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف على سبب الرجحان منذ زمان
فهاك جوابا رافعا لنقابه يصير به المعنى كرأي عيان
إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح الضمير وأما حين يختلفان
بأن كان في التصريح إظهار حكمة كرفعة شأن أو حقارة جاني
كمثل أمير المؤمنين يقول ذا وما نحن فيه صرحوا بأمان
وهذا على الإيجاز والبسط جاء في جوابي منثورا بحسن بيان
وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده، وقد ذكره أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين: إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه، ومن ذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة: ٥٩] الآية ومثله كثير في الفصيح، وقال بعضهم: إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معا، وقولهم: إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض، وعكس بعضهم الأمر فقال: المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال: أطعمتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة. وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى.
واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول: إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وأبو محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت، ونظيره زاره من الازورار، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع، ولهذا لم يقل: فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما
328
في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا: إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر اسْتَطْعَما أَهْلَها إياه، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه.
وقال زين الدين الموصلي: إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسئول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل من ذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من (أبوا) تاء فأبى عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل فَوَجَدا عطف كما قال السبكي على أَتَيا فِيها جِداراً روي أنهما التجئا إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير، قال صاحب اللوامح: هو من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان في حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى.
وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه أفعل من النقض كأحمر، وقال السهيلي في الروض هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله:
يريد الرمح صدر أبي براء... ويعدل عن دماء بني عقيل
وقول حسان رضي الله تعالى عنه:
إن دهرا يلف شملي بحمل... لزمان يهم بالإحسان
وقول الآخر:
أبت الروادف والثدي لقمصها... مس البطون وأن تمس ظهورا
وقول أبي نواس:
فاستنطق العود قد طال السكوت به... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود
إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل: إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب.
329
ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام.
وقال أبو حيان: لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر، وقرأ أبي «ينقض» بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش «يريد لينقض» كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعكرمة وخليد بن سعد ويحيى ابن يعمر «ينقاص» بالصاد المهملة مع الألف
ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر، وقال ابن خالويه:
تقول العرب: انقاصت السن إذا انشقت طولا، قال ذو الرمة يصف ثور وحش:
يغشى الكناس بروقيه ويهدمه من هائل الرمل منقاص ومنكثب
وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب:
فراق كقيص السن فالصبر إنه لكل أناس عثرة وحبور
وقال الأموي: انقاصت البر انهارت، وقال الأصمعي: المنقاص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولا، وقال أبو عمرو: هما بمعنى واحد. وقرأ الزهري «ينقاض» بألف وضاد معجمة، والمشهور تفسيره بينهدم.
وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة فَأَقامَهُ مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس وابن جبير، وقال القرطبي إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل، وقيل: أقامه بعمود عمده به، وقال مقاتل: سواه بالشيد، وقيل هدمه وقعد يبنيه.
وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه»
وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه قالَ موسى عليه السلام لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً تحريضا للخضر عليه السّلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على ما فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله، وقيل: لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه، وكان الكليم عليه السّلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام، وأيضا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين، وقال غيرهم: إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم، ويقول: المدة العارضة تبدل تاء أيضا، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا: تقى من اتقى.
وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وأبو بحرية وابن محيصن وحميد واليزيدي ويعقوب وأبو حاتم وابن كثير وأبو
330
عمرو «لتخذت» بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت، وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة قالَ الخضر عليه السّلام هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر.
وقرأ ابن أبي عبلة «فراق بيني» بالتنوين ونصب بين على الظرفية، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلى لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، قال أبو حيان: والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل فَلا تُصاحِبْنِي والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر.
وقال العلامة الأول: إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسيء بل يحمد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السّلام في السفينة والغلام كان لله تعالى، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم. ورد ذلك في الكشف بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح، ونقل في البحر عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السّلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه؟ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السّلام بدون أجرة؟ ورأيت أنا
في بعض الكتب أن الخضر عليه السّلام قال: يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضي عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي
، والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السّلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى.
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال: لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له: أوصني قال: كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير أمرا بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران
وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال: بلغني أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه: يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به، وبلغني أن موسى قال للخضر: ادع لي فقال الخضر: يسر الله تعالى عليك طاعته
والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا.
سَأُنَبِّئُكَ وقرأ ابن أبي وثاب «سانبيك» بإخلاص الياء من غير همز، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السّلام، وقيل: إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال سَأُنَبِّئُكَ والتأويل رد الشيء إلى مآله، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السّلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل
331
الموصول عدم استطاعة موسى عليه السّلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السّلام وعتاب، ويجوز أن يقال: إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه، وصَبْراً مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة.
أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقها فَكانَتْ لِمَساكِينَ لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول: إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه.
وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور، وادعى من يقول: إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها، وقيل: كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل، وقيل: إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لِمَساكِينَ بتشديد السين
جمع تصحيح لمساك فقيل: المعنى لملاحين، وقيل: المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك، وقيل: المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج، وعلى ذلك جاء قول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقول سوار بن المضرب السعدي:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقول الآخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
وفي القرآن كثير أيضا، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا: هي من الأضداد، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري: إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، وقال البيضاوي ما حاصله: إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ [الحديد: ١٣] فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف.
وقال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل
332
واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وقيل: أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء.
واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه، وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومارّ بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا، وقيل: جلندي بن كركر ملك غسان، وقيل: مفواد بن الجلند ابن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب، ولو أبقي العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة غَصْباً من أصحابها، وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم، وقيل: كان يسخرها ثم يردها، والفاء في فَأَرَدْتُ للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن، ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث إن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم، وظاهر الآية أن موسى عليه السّلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل.
ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السّلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال: إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السّلام أوقفهم على حقيقة الأمر، والظاهر أن موسى عليه السّلام كان حاضرا يسمع ذلك، وقد يقال: إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السّلام مما لا يلتفت إليه وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتله فَكانَ أَبَواهُ أي أبوه وأمه ففيه تغليب واسم الأب على ما في الإتقان كأزير والأم سهوا، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه» مُؤْمِنَيْنِ والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره واستدل بتلك القراءة من قال: إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين. وأجاب النووي عن ذلك بوجهين، الأول أن القراءة شاذة لا حجة فيها، الثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش وفي صحيح مسلم أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السّلام بتأويل القتل قبل الفراق، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر، وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري «فكان أبواه مؤمنان» وخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع الخبر لها، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب فيكون منصوبا، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الْغُلامُ والجملة في موضع الخبر.
فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا طُغْياناً مجاوزة للحدود الإلهية وَكُفْراً بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روي عن ابن جبير، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى
333
فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا، ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال: أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه، واستدل بذلك من قال: إنه كان بالغا، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السّلام أجاب به موسى عليه السّلام من جهته، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل، قال في الكشف: وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السّلام منه تعالى والخضر عليه السّلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى، وقيل: هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله: خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت.
وقال ابن عطية: إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً قال ابن عباس: أي دينا وهو تفسير باللازم والكثير قالوا: أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة، قال رؤبة ابن العجاج:
يا منزل الرحم على إدريسا ومنزل اللعن على إبليسا
وهما مصدران كالكثر والكثرة، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا، وقال الثعلبي: إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين،
وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا
، واستبعد هذا ابن عطية وقال: لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السّلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل: أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل، ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل: فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق.
وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا
334
من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه السّلام «نفسا زكية» وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله: ولا رحمة قول بلا دليل انتهى.
وقال الخفاجي: إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السّلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله: إنه لا دليل عليه لا وجه له، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السّلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير «يبدّلهما» بالتشديد.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم «رحما» بضم الحاء، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «رحما» بفتح الراء وكسر الحاء.
وَأَمَّا الْجِدارُ المعهود فَكانَ لِغُلامَيْنِ قيل: إنهما أصرم وصريم يَتِيمَيْنِ صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب،
وفي الحديث «لا يتم بعد بلوغ»
وقال ابن عطية: يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا فِي الْمَدِينَةِ هي القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح. ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما
مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء
وبذلك قال عكرمة وقتادة، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول.
قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء، واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء لَهُما له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح، ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز. وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم
حديث كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز
فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه، والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم، ومن قال: إن
335
الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا، واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول: ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم وروي ذلك أيضا عن ابن جبير،
وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك، والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت إلخ، في الشق الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه
وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا، وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل من الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما، وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا، وقيل: كان الأب العاشر،
وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان الأب السابع.
وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء،
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قال عيسى عليه السّلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال: إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس،
وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله تعالى مال الغلامين؟
قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا الله تعالى: أنكم قوم خصمون، وذكر من صلاح هذا الرجل أن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها
، ويروى أنه كان سباحا فَأَرادَ رَبُّكَ مالكك ومدبر أمورك، ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السّلام دون ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما قيل أي الحلم وكمال الرأي، وفي الصحاح القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما، ويقال: هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير، وكان سيبويه يقول: واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم، وأما قول من قال: واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب.
وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على
336
حفظه والانتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير، وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وهو من ضمير يَسْتَخْرِجا بتأويل مرحومين، والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى.
واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى مِنْ رَبِّكَ وكذا إذا كان مفعولا له وقيل: في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أي تستطع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الافتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل. وزعم بعضهم أن السين عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستتيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الافتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت، وما ألطف حذف أحد المتقاربين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما السّلام.
وقال بعض المحققين: إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير، وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به، وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك، وقيل: إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السّلام ما لقيه ببيان سببه، وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع عَلَيْهِ صَبْراً من الأمور التي رأيت فيكون إنجازا للتنبئة الموعودة، وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور، وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب، قيل: ولعل إسناد الإرادة أولا إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب، وثانيا إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل الله تعالى وقدرته فضمير- نا- مشترك بين الله تعالى والخضر عليه السّلام، وثالثا إلى الله تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه السّلام في بلوغ الغلامين. واعترض توجيه ضمير الجمع بأن اجتماع المخلوق مع الله تعالى في ضمير واحد لا سيما ضمير المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه. ويدل على ذلك ما
جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه صلّى الله عليه وسلّم إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: بئس خطيب القوم أنت
، وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة والسّلام كره منه ما فيه من التسوية، وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: ٥٦] فإن الظاهر أن ضمير يُصَلُّونَ عَلَى راجع إلى الله تعالى وإلى الملائكة.
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الإيمان: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما»
ولعل ما كرهه صلّى الله عليه وسلّم من ثابت أنه وقف على قوله يعصهما: لا التسوية في الضمير، وظاهر هذا أنه لا
337
كراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في المسألة. وثانيها ما ذهب إليه الخطابي أنها تكره تنزيها، وثالثها ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما، وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام. وبني الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال: لما كان المقام الذي قام فيه ثابت مقام خطابة وإطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره صلّى الله عليه وسلّم التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه. وخص بعض الكراهة بغير النبي صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في كلام الله تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى.
وخلاصة ما قرر في المسألة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أشير إليه في شروح البخاري، وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام، هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه السّلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير (خشينا) والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير فَخَشِينا لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر، وقيل في وجه تغاير الأسلوب: إن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا، والثالث خير فأفرد إسناده إلى الله عز وجل. والثاني ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظرا لهما. وفيه أن هذا الإسناد في فَخَشِينا أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه، وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب، وأسند فعل الإبدال إلى الله تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى، وأنت تعلم أن الإبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعد ما فيه. وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه السّلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى- نا- فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا كذا وإنما يعنون أمر الملك العظيم. ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وهو كما ترى، وقيل: اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف بالله سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الإرادة أولا إلى نفسه ثم يتنبه إلى أنه لا يستقل بالفعل بدون الله تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو الله تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان، وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه السّلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي قد أوتي من قبل العلم اللدني. وإن أريد أنه عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه السّلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه السّلام فموسى عليه السّلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه السّلام مسألة خلق الأعمال، وإن كان تعليما لغيره عليه السّلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته
338
تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه السّلام كذلك فالله تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه. والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء (١) على أن لام لِتُغْرِقَ للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السّلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن نُكْراً أبلغ من إِمْراً ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السّلام إليها
وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السّلام وأنكره.
ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا:
إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ في العظم إلى أن يشارك موسى عليه السّلام في الخشية منه، وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار ما هو من مبادئ ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد، ولما كان الاعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه ليستعان بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السّلام، ولا ينافي ذلك تكرير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما من أولا من ذلك الجناب، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب، واستدل بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي القائلون بنبوته عليه السّلام وهو ظاهر في ذلك، واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً على هذا كثير فائدة بل قد يقال: أي فائدة في هذا العلم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه السّلام إلى توسيط نبي مثله، وقال بعضهم: كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه السّلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح، ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع الله تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه السّلام من حال الغلام لم يحل له قتله، وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي الله تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا
(١) ويوشك أن يكون هذا من قبيل. وكلت للخل كما كال لي. على وفاء الكيل أو بخسه اه منه.
339
يقال لصاحبها لعا لأن مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط، وحصوله بخبر عيسى عليه السّلام إذا نزل متعذر لأنه عليه السّلام ينزل بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال إلا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه، وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال: قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا، ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى، وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر: قد رأيت من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه إن أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وإن أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال: لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا: لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس، فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السّلام فلا قائل به، ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقي إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا ولا يأمره أصلا انتهى.
وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك، ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول إن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة: مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا.
وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا: للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال، وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير: فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار مأمورا بها في آية
340
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: ١٠٨] وآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: ٣١] تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وشاهد ذلك آية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام: ١٥٣] وآية فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: ٣٢] وآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: ٨٥]
وحديث «خط لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم» الخبر
وحديث «كل بدعة ضلالة»
وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال، وقال قدس سره في معارف الصوفية: اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة، نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها، ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق بينهم وبين العلماء أن تلك العلوم بالنسبة إلى العلماء نظرية واستدلالية وبالنسبة إليهم تصير كشفية وضرورية.
وقال أيضا: اعلم أن الشريعة والحقيقة متحدان في الحقيقة ولا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل وبالاستدلال والكشف بالغيب والشهادة وبالتعمل وعدم التعمل وللشريعة من ذلك الأول وللحقيقة الثاني وعلامة الوصول إلى حقيقة حق اليقين مطابقة علومه ومعارفه لعلوم الشريعة ومعارفها وما دامت المخالفة موجودة ولو أدنى شعرة فذلك دليل على عدم الوصول، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أن الشريعة قشر والحقيقة لب فهو وإن كان مشعرا بعدم استقامة قائله ولكن يمكن أن يكون مراده أن المجمل بالنسبة إلى المفصل حكمه حكم القشر بالنسبة إلى اللب وان الاستدلال بالنسبة إلى الكشف كذلك، والأكابر المستقيمة أحوالهم لا يجوزون الإتيان بمثل هذه العبارات الموهمة إلى غير ذلك من عباراته الشريفة التي لا تكاد تحصى.
وقال سيدي القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا يعملون إلا بظاهرهما، وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسّلام. وقال أيضا: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة، وقال السري السقطي: التصوف اسم لثلاثة معان وهو لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله، وقال أيضا قدس سره: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط.
وقال أبو الحسين النوري: من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن جد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه، وقال أبو سعيد الخراز: كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
وقال أبو العباس أحمد الدينوري: لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن، وفي التحفة لابن حجر قال الغزالي: من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر انتهى، ولا نظر في خلوده لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما، ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده انتهى.
وقال في الإحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان إلى غير ذلك.
وفي رسالة القشيري طرف منه، والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين وإن دل على أنه لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة في الحقيقة لكنه يدل أيضا على أن في الحقيقة كشوفا وعلوما غيبية ولذا تراهم يقولون: علم الحقيقة هو العلم اللدني، وعلم المكاشفة، وعلم الموهبة، وعلم الأسرار، والعلم المكنون وعلم الوراثة
341
إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الاحياء السابقة آنفا: يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال: إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتقاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرّمه على عادة على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف له قليل جدا مثاله انكشاف محل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السّلام فحل له بذلك الانكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا لم يعلم هناك غاصب مثلا والثاني بما إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت، ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها، وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربي بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه إلا واحد من ألوف، ثم قال: إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: ١٣] انتهى، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا، وعلى هذا يخرج بيت المثنوي حيث يقول:
زان طرف كه عشق من افزود درد بو حنيفة شافعي درسي نكرد
وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس، ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السّلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السّلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السّلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع، ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة، وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإفاضة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد، ولهذا قالوا فيما يحكى: إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له: ما تنتظر؟ فقال: سفينة فقال: أي حاجة إلى السفينة أما لك يقين؟ فقال الحسن: أما لك علم؟ ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها، ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الرباني: إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشي قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أويس مع غير وحشي، وأنا أقول: إن الكامل وإن كان من علمت إلا أن فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في نزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي، وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة والسّلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد لله تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته، ولا يعكر على ما ذكرنا
342
ما قاله الإمام الغزالي في الاحياء وهو أن علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وهو غاية العلوم وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة وينكشف بذلك ما كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة بذات الله تعالى وبصفاته التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة انتهى.
لأن المراد أن ذلك من علم الباطن الذي هو علم الحقيقة وهذا البعض لا يمكن أن يخلو منه نبي كيف ورتبة الصديقين دون رتبة الأنبياء عليهم السّلام كما قرروه في آية فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: ٦٩] ومما ذكرنا من عدم المخالفة بين الشريعة والحقيقة يعلم ما في كلام البلقيني في دفع ما استشكله من
قول الخضر لموسى عليهما السّلام: «إني على علم» الحديث
السابق حيث زعم أنه يدل بظاهره على امتناع تعليم العلمين معا مع أنه لا يمتنع، وأجاب بأن علم الكشوف والحقائق ينافي علم الظاهر فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي وكذا لا ينبغي للعالم بالحقيقة أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفا به وينافي ما عنده عن الحقيقة، ولعمري لقد أخطأ فيما قال وبالحق تعرف الرجال وكأنه لم يعتمد عليه فأردفه بجواب آخر هو خلاف الظاهر.
وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك والاستشكال من ضعف النظر، ثم إن قصة الخضر عليه السّلام لا تصلح حجة لمن يزعم المخالفة بين العلمين فإن أعظم ما يشكل فيها قتل الغلام لكونه طبع كافرا وخشي من بقائه حيا ارتداد أبويه وذلك أيضا شريعة لكنها مخصوصة به عليه السّلام لأنه كما قال العلامة السبكي: أوحي إليه أن يعمل بالباطن وخلاف الظاهر الموافق للحكمة فلا إشكال فيه وإن علم من شريعتنا أنه لا يجوز لأحد كائنا من كان قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين وكيف يجوز قتله بسبب لم يحصل والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي واتفاق الشرائع في الأحكام مما لم يذهب إليه أحد من الأنام فضلا عن العلماء الأعلام وهذا ظاهر على القول بنبوته، وأما على القول بولايته فيقال: إن عمل الولي بالإلهام كان إذ ذاك شرعا أو كما قيل إنه أمر بذلك على يد نبي غير موسى عليه السّلام، وأما إقامة الجدار بلا أجر فلا إشكال فيها لأنها إحسان وغاية ما يتخيل أنه للمسيء فليكن كذلك ولا ضير فإنه من مكارم الأخلاق، وأما خرق السفينة لتسلم من غصب الظالم فقد قالوا: إنه مما لا بأس به حتى قال العز بن عبد السّلام: إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم يجب عليه تعييبه لأجل حفظه وكان القول قول من عيب مال اليتيم ونحوه إذ نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة.
ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به ويكون القول قوله أيضا، وقال بعضهم: قصارى ما تدل عليه القصة ثبوت العلم الباطن وهو مسلم لكن إطلاق الباطن عليه إضافي كما تقدم، وكان في
قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله تعالى فإذا قالوه لا ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى»
إشارة إلى ذلك، والمراد بأهل الغرة علماء الظاهر الذين لم يؤتوا ذلك، وبعض مثبتيه يستدلون بقول أبي هريرة: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم، واستدل به أيضا على المخالفة بين العلمين.
وأنت تعلم أنه يحتمل أن يكون أراد بالآخر الذي لو بثه لقتل علم الفتن وما وقع من بني أمية وذم النبي صلّى الله عليه وسلّم
343
لأناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل، وعلى تسليم أنه أراد به العلم الباطن المسمى بعلم الحقيقة لا نسلم أن قطع البلعوم منه على بثه لمخالفته للعلم الظاهر في نفس الأمر بل لتوهم من بيده الحل والعقد والأمر والنهي من أمراء ذلك الزمان المخالفة فافهم، واستدل العلماء بما في القصة حسبما ذكره شراح الحديث وغيرهم على استحباب الرحلة للعلم وفضل طلبه واستحباب استعمال الأدب مع العالم واحترام المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفتهم وعلى جواز اتخاذ الخادم في السفر وحمل الزاد فيه وأنه لا ينافي التوكل ونسبة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازا وتأدبا عن نسبتها إلى الله تعالى واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمر واشتراط المتبوع على التابع وعلى أن النسيان غير مؤاخذ به وأن للثلاث اعتبارا في التكرار ونحوه على جواز ركوب السفينة وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السّلام وعلى جواز أن يطلب الإنسان الطعام عند احتياجه إليه وعلى أن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام وجواز أخذ الأجر على الأعمال وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بملك آلة يكتسب بها أو بشيء لا يكفيه وأن الغصب حرام وأنه يجوز دفن المال في الأرض وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول: الخضر ولي إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع أو للمتأمل، وبالجملة قد تضمنت هذه القصة فوائد كثيرة ومطالب عالية خطيرة فأمعن النظر في ذاك والله سبحانه يتولى هداك.
«ومن باب الإشارة في الآيات» على ما ذكره بعض أهل الإشارة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فيه إشارة إلى أن لله تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره وأخص خواصه عز وجل من أضافه إلى الاسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم صلّى الله عليه وسلّم آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وهي مرتبة القرب منه عز وجل وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى، وقال ذو النون: العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان.
وقال الجنيد قدس سره: هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد، وقيل: هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم: هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات.
وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي، واستدل له
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ثم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السّلام يذكرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي»
انتهى، ولله تعالى علم استأثر به عز وجل لم يطلع عليه أحدا من خلقه قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا، وقال فارس كما في أسرار القرآن: إن موسى عليه السّلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله تعالى والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السّلام، وقال أيضا: إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً
344
قيل: علم الخضر أن موسى عليه السّلام أكرم الخلق على الله تعالى في زمانه وأنه ذو حدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه.
وقال بعضهم: آيسه من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال بعضهم: لو قال كما قال الذبيح عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ لوفق للصبر كما وفق الذبيح، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجدانه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السّلام فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً كأنه عليه السّلام أراد دفع ما أحوجهما إلى السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب، ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السّلام قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي حسبما أردت، وقال النصرابادي: لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح.
وقيل: خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً قيل: كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشي فتنتهما به، والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر الله تعالى عليهما الكفر فلا ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه، وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك.
وقيل إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفته تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز وجل، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: ٣٩].
واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل، وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السّلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي بل فعلته بأمر الله عز وجل ولا يسأل سبحانه عما أمر وفعل ولعل قوله لموسى عليه السّلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر الله تعالى شأنه، ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر الله سبحانه به وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: ٢٥٥] وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد والصخرة بالنفس والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها والسفينة بالشريعة وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال والغلام بالنفس الأمارة وقتله بذبحه بسيف الرياضة والقرية بالجسد وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإفاضة الأنوار والمساكين بالعوام والبحر الذي يعملون فيه ببحر الدنيا والملك بالشيطان والسفن التي يغصبها العبادات الخالية عن الانكسار والذل والخشوع والأبوين المؤمنين بالقلب والروح والبدل الخير بالنفس المطمئنة والملهمة والكنز بالكمالات النظرية والعلمية والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل وبلوغ الأشد بوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة وهذا ما اختاره النيسابوري، واختار غيره تأويلا آخر هو أدهي منه، هذا والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود، وقيل: اليهود أنفسهم وروي
345
ذلك عن السدي، وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتعبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره صلّى الله عليه وسلّم ما شاهدوا نوع غرابة، وقيل: للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب، وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل،
فعن عقبة بن عامر قال: إن نفرا من أهل الكتاب جاؤوا بالصحف أو الكتب فقالوا لي: استأذن لنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة والسّلام فأخبرته بمكانهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال: ائتني بوضوء أتوضأ به فأتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال: اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فأدخلتهم فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن شئتم أخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا
، والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر.
واختلف في ذي القرنين فقيل: هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا وروي ذلك عن جبير بن نفير، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال له عمر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح، والخبر على فرض صحته ليس نصا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السّلام فلا تسموا به أنتم وإن تسمى به بعض من قبلكم من الناس.
وقيل: هو عبد صالح ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه: الأول
أنه دعا إلى طاعة الله تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم الله تعالى وجهه
، والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه، الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عبيد بن يعلى، الخامس أنه كان لتاجه قرنان، السادس أنه طاف قرني الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعا، السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة ويونس بن عبيد، الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه، التاسع أنه دخل النور والظلمة، العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها.
الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، ولا يخفى أنه يبعد عدم معرفة رجل مكن له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض، وأما الوجوه المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك وقيل: هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى. وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج وسلم وتور فأعطى ايرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك. ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقا ولا غربا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات، ويلزم على هذا
346
القول أيضا أن يكون الخضر عليه السّلام على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه عليه السّلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين. وأجيب بأن من يقول: إنه الإسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى، وقيل: هو إسكندر اليوناني ابن فيلقوس، وقيل: قلفيص، وقيل: قليص.
وقال ابن كثير: هو ابن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نون بن شرخون بن تونط بن يوفيل بن رومي بن الأصغر بن العزيز بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السّلام وكان سرير ملكه مقدونيا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يوما أو نحو ذلك عند مدينة شيروز، وقول ابن زيدون: إنها مصر وهم، وهو الذي غلب دارا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته بقي في كفالة أبيها فنسب إليه، وقيل: إن دارا الأكبر تزوج ابنة ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل بماء السندروس فأذهب كثيرا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس. ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له: يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل. وقوله: يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال. وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمور من الأرض وسئل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدا والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر، وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبني الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها، وقيل: مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. وقيل: عاش ستا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة، وقيل: غير ذلك، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال: وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم بمدينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم الله تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لا سبيل إليه. وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذه على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفا له فيما يوجب الكفر، وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء، ولا يخفى أنه احتمال بعيد، والمشهور أنه كان قائلا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف، وقيل: إن قوله بذلك وتمذهبه بمذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرا بالصانع تعالى شأنه معظما له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما فقال: لا يجوز السجود
347
لغير بادئ الكل ولم يكن مبعوثا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السّلام بنحو ثلاثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السّلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكمه حكم أهل الفترة. وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن الله تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات
والأخبار، وأيضا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السّلام فضلا عن اتخاذه إياه وزيرا كما هو المشهور في ذي القرنين.
واعترض أيضا بأن إسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة، وقيل: هو الإسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له: ذو القرنين الأكبر، واسمه قيل: مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وكان أسود، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان، وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس، وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل سابقا عن ابن كثير.
وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله (١) شروق يوم الاثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادئ والغايات، وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء أنطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر، وتوقف بعضهم كالغ بك عن نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة، ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك إسكندران.
وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال: إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره، والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرا طويلا فقيل: عمر ألفا وستمائة سنة، وقيل: ألفي سنة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء، وذكر أبو الريحان البيروني المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي ابن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال:
قد كان ذو القرنين جدي مسلما ملكا علا في الأرض غير مفند
بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
ثم قال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن، واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السّلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر
(١) قوله وأوله إلخ وقع استطرادا اه منه.
348
الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه، وربما يقال: إن عدم شهرة من ذكر تقوي كونه المسئول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السّلام ذهب غير واحد، وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السّلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السّلام، وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه السّلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، وقيل: أتي بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السّلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي أنه هو.
وذكر أنه يمكن أن يكون إسكندر لقبا لمن ذكر معربا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد، وربما يقال: إن من قال: اسم الإسكندر مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهي إلى قحطان عنى هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان، نعم ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أن يونان أخو قحطان ورد عليه أبو العباس الناشئ في قصيدته حيث قال:
أبا يوسف إني نظرت فلم أجد... على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا
وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا
أتقرن إلحادا بدين محمد... لقد جئت شيئا يا أخا كندة إدّا
وتخلط يونانا بقحطان ضلة... لعمري لقد باعدت بينهما جدا
والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان. وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي بن عمير بن أفريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن أفريقيس ولم يذكروا بينه وبين أفريقيس عميرا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا: إنه يقال له شمر يرعش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش، وقد ذكروا في أبيه أفريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى إفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعا وستين سنة، وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا: إنها معرب شمركند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر بملوك اليمن:
هم كتبوا الكتاب بباب مرو... وباب الشاس كانوا الكاتبينا
وهم سموا بشمر سمرقندا... وهم غرسوا هناك النابتينا
وأنه إنما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعا وثلاثين سنة وعلى ما قال المسعودي ثلاثا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعا وثمانين سنة، ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما المكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه وفي ذلك يقول:
شهدت على أحمد أنه... رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره... لكنت وزيرا له وابن عم
349
وذكروا أنه كان شديد الوطأة كثير الغزو فمله قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله، ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السّلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم بن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السّلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السّلام. وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منوجهر بن ايرج بن أفريدون بعث موسى عليه السّلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى، وعليه أيضا لا يمكن أن يكون شمر هذا هو ذا القرنين السابق وهو ظاهر وإذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الاعتبار بناء على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام ملك منهم هو ذو القرنين بناء على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السّلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسبما تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذا القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضا، ويجيء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا، والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضا، واستشكل كون ذي القرنين أيا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السّلام بأن نمرود كان في زمانه أيضا، وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السّلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السّلام ممتدا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبا وهو كما ترى.
ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك نمرود وينحل به الإشكال. وقال بعضهم: الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السّلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة. واستشكل أيضا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودا، وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال: ومن هو؟ قالوا: ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر في الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعا قويا، هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال، وكأني بك بعد الاطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعي أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنا بالله تعالى لم يرتكب مكفرا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن، وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه، والقول بأن أرسطو كان بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الاعتقادية على أن الملا صدر الدين
350
الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيما عابدا موحدا قائلا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشىء من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين، وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرا عنده في كونه ذا القرنين وقيل: إنه كان وزيرا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضا لكنه غير هذا ووقع الاشتباه في ذلك، وقيل: يمكن أن يكون عليه السّلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة، وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيما ولعله كان مشتهرا أيضا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم، وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين ولا يمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيا والإسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو إسكندر آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السّلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون.
والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الإسكندر بن فليفوس غالب دارا:
وما علي إذا ما قلت معتقدي دع الجهول يظن الجهل عدوانا
واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أكرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم، ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين قُلْ لهم في الجواب سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية، والمراد من أنبائه وقصصه، والجار والمجرور صفة ذكرا قدم عليه فصار حالا، والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة الله عز وجل أي سأذكر لكم نبأ مذكورا من أنبائه، ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن ابتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهرها أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرا أي قرآنا، والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي أيادي لم تمنن وإن هي جلت
لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسّلام، وقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود، والتمكين هاهنا الأقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادرا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية، والمعنى أنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، وقيل: تمكينه في الأرض من حيث إنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار
351
عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح، وقيل: تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات، وروى
القول بنبوته أبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه
وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك ويعارضه ما
أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله تعالى فأحبه ونصح الله تعالى فنصحه
، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيرا ولم أسمع بحق أنه كان نبيا، وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما
أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أدري أتبع كان لعينا أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟»
وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيمكن أن يكون درى عليه الصلاة والسّلام فيما بعد أنه لم يكن نبيا كما يدل عليه ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع، ويشهد لذلك ما
أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو؟ فقال: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول هو عبد ناصح الله تعالى فنصحه
وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه سَبَباً أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار، ومن بيانية والمبين سببا وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء، والمراد بذلك الأسباب العادية، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى فَأَتْبَعَ بالقطع والفاء فصيحة والتقدير فأراد بلوغ المغرب فاتبع سَبَباً يوصله إليه، ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لأنه أقرب إليه وقيل: لمراعاة الحركة الشمسية وليس ذلك لكون جهة المغرب أفضل من جهة المشرق كما زعمه بعض المغاربة فإنه كما قال الجلال السيوطي لا قطع بتفضيل إحدى الجهتين على الأخرى لتعارض الأدلة.
وقرأ نافع وابن كثير «فاتبع» بهمزة الوصل وتشديد التاء وكذا فيما يأتي واستظهر بعضهم أنهما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: إن اتبع بالقطع يتعدى لاثنين والتقدير هنا فاتبع سببا سببا آخر أو فاتبع أمره سببا كقوله تعالى:
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [القصص: ٤٢]، وقال أبو عبيد اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: ١٠] وقال يونس: «اتبع» بالقطع للمجد المسرع الحثيث الطلب واتبع بالوصل إنما يتضمن مجرد الانتقال والاقتفاء
352
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس وفيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد الأقوال وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر تحمأ حمأ إذا كثرت حمأتها.
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي «حامية» بالياء أي حارة، وأنكر هذه القراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أول ما سمعها، فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية قرأ «في عين حامية» فقال له: ما نقرؤها إلا حَمِئَةٍ فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرأها؟
فقال: كما قرأتها فقلت: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب: سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن أبي حاضر: لو أني عند كما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في حَمِئَةٍ، قال ابن عباس: وما هو؟ قلت:
قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة ومحل الشاهد قوله:
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قال: ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال: فما الثأط؟ قال: الحمأة فقال: فما
353
الحرمد؟ قال: الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لانكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل: وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس ومعاوية.
وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين، وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن رجوع معاوية لقراءة ابن عباس على ما ذكره القرطبي كان لذلك. نعم ما
أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي ذر قال: كنت ردف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حمار فرأى الشمس حين غربت فقال: أتدري حيث تغرب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين
حامية غير مهموزة يوافق قراءة معاوية ويدل على أن فِي عَيْنٍ متعلق بتغرب كما هو الظاهر، وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل وَجَدَها مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض، وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها، ولا يرد على هذا أنه عبر يوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فليكن هنا بهذا المعنى، ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة الله تعالى كقطرة وإن عظم عندنا.
وزعم بعض البغدادين أن فِي بمعنى عند أي تغرب عند عين، ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز الله تعالى شيء، ونحن نقر بعظم قدرة الله عز وجل ولا نلتفت إلى هذا القول، ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب في مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغاريا في بعض أيام السنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال إمام الحرمين: لا خلاف في ذلك، ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر، وكذا ما
أخرجه ابن عساكر عن الزهري أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال: إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل فثبت الماء على حاله باردا،
ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن قال: إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح. ويشكل على ما ذكر ما
أخرجه البخاري عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت
354
العرش
فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨].
وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا مانع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه، وهذا مبني على أنه جسم كريّ محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك، وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المحل ثم تشرع في الارتفاع، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس، وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فلكها الممثل بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج.
نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة الله تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطلوعها عند آخرين وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح.
وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية البخاري ورواية ابن أبي شيبة ومن معه أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسّلام والله تعالى أعلم.
وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين على ساحل البحر قَوْماً لباسهم على ما قيل: جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر، قال وهب بن منبه: هم قوم يقال لهم: ناسك لا يحصيهم كثرة إلا الله تعالى.
وقال أبو زيد السهيلي: هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، وروي نحو ذلك عن ابن جريج، وزعم ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون، والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل من أول الأمر وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر وإما النصب على المفعولية إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك أو إما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ، وقدم التعذيب لأنه الذي يستحقونه في الحال لكفرهم، وفي التعبير- بإما أن تتخذ فيهم حسنا- دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني، واستدل بالآية من قال بنبوته، والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال: كان الخطاب بواسطة نبي
355
في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي. وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام، وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السّلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر.
وقال علي بن عيسى: المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه الله تعالى إليه مجازا، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي على نبوة الخضر عليه السّلام، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها، ولعل الأولى في تأويلها أن يقال: كان القول بواسطة نبي.
قالَ ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل، والظاهر أنه كان بالسيف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة، وأتى بنون العظمة على عادة الملوك، وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر، ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد، وقيل: أراد من الضمير الله تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك الله تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم، ونصب عَذاباً على أنه مصدر يعذبه، وقيل: تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روي عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وفي قوله إِلى رَبِّهِ دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وإن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوتي وَعَمِلَ عملا صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزى بها جزاء، والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها، وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر، وقال الفراء: هو نصب على التمييز.
وقرأ ابن عباس ومسروق «جزاء» منصوبا غير منون، وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى.
وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق بالرفع والتنوين على أنه المبتدأ والْحُسْنى بدله والخبر الجار والمجرور.
وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين، وخرج على أنه مبتدأ مضاف، قال أبو علي: والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة.
وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به يُسْراً أي سهلا ميسرا غير شاق، وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة، وقرأ أبو جعفر «يسرا» بضمتين حيث وقع هذا، وقال الطبري: المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، وما حكي من الجواب
356
على هذا الوجه قيل من الأسلوب الحكيم لأن الظاهر أنه تعالى خيره في قتلهم وأسرهم وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى فيه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب.
وفي الكشف أنه روعي فيه على الوجهين نكتة بتقديم ما منّ الله تعالى في جانب الرحمة دلالة على أن ما منّه تابع وتتميم وما منّه في جانب العذاب رعاية لترتيب الوجود مع الترقي ليكون أغيظ، وكأنه حمل فَلَهُ إلخ على معنى فله من الله تعالى إلخ وهو الظاهر، وجوز حمل إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ على التوزيع دون التخيير، والمعنى على ما قيل: ليكن شأنك معهم أما التعذيب. وأما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب فتأمل. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض أي غاية الأرض المعمورة من جهة المشرق.
وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن «مطلع» بفتح اللام ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو عند المحققين مصدر ميمي والكلام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس والمراد مكانا تطلع عليه، وقال الجوهري: إنه اسم مكان كمكسور اللام فالقراءتان متفقتان من غير تقدير مضاف، وقد صرح بعض أئمة التصريف أن المطلع جاء في المكان والزمان فتحا وكسرا، وما آثره المحققون مبني على أنه لم يرد في كلام الفصحاء بالفتح إلا مصدرا ولا حاجة إلى تخريج القرآن على الشاذ لأنه قد يخل بالفصاحة، وقال أبو حيان: إن الكسر سماع في أحرف معدودة وهو مخالف للقياس فإنه يقتضي أن يكون مضارعه تطلع بكسر اللام، وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي مطلع بكسرها في اسم الزمان والمكان على ذلك القياس انتهى فافهم، ثم إن الظاهر من حال ذي القرنين وكونه قد أوتي من كل شيء سببا أنه بلغ مطلع الشمس في مدة قليلة، وقيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون أقام في أثناء سيره فإن طول المعمورة يقطعه بأقل من هذه المدة بكثير السائر على الاستقامة كما لا يخفى على العارف بالمساحة وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً
أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن جريج قال: حدثت عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية لم نجعل لهم من دونها سترا بناء لم يبن فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس
وأخرج جماعة عن الحسن وذكر أنه حديث سمرة أن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غابت خرجوا يتراعون كما تراعى البهائم
، وقيل: المراد لا شيء لهم يسترهم من اللباس والبناء، وهم على ما قيل قوم من الزنج، وقيل: من الهنود، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من أهل الأرض، وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا:
بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم انتهى.
وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغي أن يلتفت إليها ويعول عليها وما هي إلا أخبار عن هيان بن بيان يحكيها العجائز وأمثالهن لصغار الصبيان، وعن وهب بن منبه أنه يقال لهؤلاء القوم منسك، وظاهر الآية لوقوع النكرة فيها في سياق النفي يقتضي أنهم ليس لهم ما يسترهم أصلا وذلك ينافي أن يكون لهم سرب ونحوه، وأجيب بأن ألفاظ العموم لا تتناول الصور النادرة فالمراد نفي الساتر المتعارف والسرب ونحوه ليس منه، وأنت تعلم أن عدم التناول
357
أحد قولين في المسألة، وقال ابن عطية: الظاهر أن نفي جعل ساتر لهم من الشمس عبارة عن قربها إليهم وتأثيرها بقدرة الله تعالى فيهم ونيلها منهم ولو كانت لهم أسراب لكان لهم ستر كثيف انتهى، وحينئذ فالنكرة على عمومها، وأنا أختار ذلك إلى أن تثبت صحة أحد الأخبار السابقة. كَذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي أمر ذي القرنين ذلك، والمشار إليه ما وصف به قبل من بلوغ المغرب والمشرق وما فعله، وفائدة ذلك تعظيمه وتعظيم أمره أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة أو صفة مصدر محذوف لنجعل أي لم نجعل لهم سترا جعلا كائنا كالجعل الذي لكم فيما تفضلنا به عليكم من الألبسة الفاخرة والأبنية العالية، وفيه أنه لا يتبادر إلى الفهم أو صفة «سترا» والمعنى عليه كسابقه، وفيه ما فيه أو صفة قَوْمٍ أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشمس في الكفر والحكم أو معمول بلغ أي بَلَغَ مغربها كما بلغ مطلعها.
وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً علما تعلق بظواهره وخفاياه ويفيد هذا على الأول زيادة تعظيم الأمر وأنه وراء ما وصف بكثير مما لا يحيط به الأعلم اللطيف الخبير، وهو على الأخير تأويل لما قاسى في السير إلى أن بلغ فيكون المعنى وقد أحطنا بما لاقاه وحصل له في أثناء سيره خبرا أو تعظيم للسبب الموصل إليه في قوله تعالى فأتبع سببا حتى إذا بلغ أي أحطنا بما لديه من الأسباب الموصلة إلى هذا الموضع الشاسع مما لم نؤت غيره وهذا كما في الكشف أظهر من التهويل، وعلى الثاني تتميم يفيد حسن اختياره أي أحطنا بما لديه من حسن التلقي وجودة العمل خبرا، وعلى الثالث لبيان أنه كذلك في رأي العين وحقيقته لا يحيط بعلمها غير الله تعالى، وعلى الرابع والخامس تذييل للقصة أو بالقصتين فلا يأباهما كما توهم، وعلى السادس تتميم يؤكد أنه سن بهم سنته فيمن وجدهم في مغرب الشمس ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الجبلين، قال في القاموس: السد الجبل والحاجز وإطلاق السد عليه لأنه سد فجا من الأرض، وقيل: إطلاق ذلك عليه هنا لعلاقة المجاورة وليس بذاك، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بضم السين، والمعنى على ما قال الكسائي واحد، وقال الخليل، وس: السد بالضم الاسم وبالفتح المصدر، وقال ابن أبي إسحاق: الأول ما رأته عيناك والثاني ما لا تريانه، وقال عكرمة وأبو عمرو ابن العلاء وأبو عبيدة: الأول ما كان من خلق الله تعالى لا دخل لصنع البشر فيه والثاني ما كان لصنع البشر دخل فيه، ووجه دلالة المضموم على ذلك أنه بمعنى مفعول ولكونه لم يذكر فاعله فيه دلالة على تعينه وعدم ذهاب الوهم إلى غيره فيقتضي أنه هو الله تعالى، وأما دلالة المفتوح على أنه من عمل العباد فللاعتبار بدلالة الحدوث وتصوير أنه ها هو ذا يفعله فليشاهد، وهذا يناسب ما فيه مدخل العباد على أنه يكفي فيه فوات ذلك التفخيم، وأنت تعلم أن القراءة بهما ظاهرة في توافقهما وعدم ذكر الفاعل والحدوث أمران مشتركان، وعكس بعضهم فقال: المفتوح ما كان من خلقه تعالى إذ المصدر لم يذكر فاعله والمضموم ما كان بعمل العباد لأنه بمعنى مفعول والمتبادر منه ما فعله العباد وضعفه ظاهر، وانتصاب بَيْنَ على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف المتصرفة ما لم يركب مع آخر مثله، وقيل: إنه ظرف والمفعول به محذوف وهو ما أراده أو نحوه، وهذان السدان فيما يقرب من عرض تسعين من جهة الشمال وهو المراد بآخر الجر بياء في كتاب حزقيال عليه السّلام، وقد ذكر بعض أحبار اليهود أن يأجوج ومأجوج في منتهى الشمال حيث لا يستطيع أحد غيرهم السكنى فيه وهم في زاوية من ذلك لكنهم لم يتحقق عندهم أنهم فيما يلي المشرق من الشمال أو فيما يلي المغرب منه، وهذا موافق لما ذكرناه في موضع السدين وهو الذي مال إليه كاتب
358
جلبي، وقيل: هما جبلا أرمينية وأذربيجان ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه يميل صنيع البيضاوي.
وتعقب بأنه توهم ولعل النسبة إلى الحبر غير صحيحة، وكان من يزعم ذلك يزعم أن سد ذي القرنين هو السد المشهور في باب الأبواب وهو مع استلزامه أن يكون يأجوج ومأجوج الخزر والترك خلاف ما عليه المؤرخون فإن باني ذلك السد عندهم كسرى أنوشروان، وقيل: أسفنديار وهو أيضا لم يبق إلى الآن بل خرب من قبل هذا بكثير، وزعم أن السد ويأجوج ومأجوج هناك وأن الكل قد تلطف بحيث لا يرى كما يراه عصرينا رئيس الطائفة المسماة بالكشفية السيد كاظم الرشتي ضرب من الهذيان وإحدى علامات الخذلان.
وقال ابن سعيد: إن ذلك الموضع حيث الطول مائة وثلاثة وستون درجة والعرض أربعون درجة، وفيه أن في هذا الطول والعرض بلاد الخنا والجين وليس هناك يأجوج ومأجوج، نعم هناك سد عظيم يقرب من مائتين وخمسين ساعة طولا لكنه ليس بين السدين ولا بانيه ذو القرنين ولا يكاد يصدق عليه ما جاء في وصف سده، ويمنع من القول بذلك أيضا ما لا يخفى، وقيل: هما بموضع من الأرض لا نعلمه وكم فيها من أرض مجهولة ولعله قد حال بيننا وبين ذلك الموضع مياه عظيمة، ودعوى استقراء سائر البراري والبحار غير مسلمة، ويجوز العقل أن يكون في البحر أرض نحو أمريقا لم يظفر بها إلى الآن وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود وبعد إخبار الصادق بوجود هذين السدين وما يتبعهما يلزمنا الإيمان بذلك كسائر ما أخبر به من الممكنات والالتفات إلى كلام المنكرين ناشىء من قلة الدين وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي السدين قَوْماً أمة من الناس قيل هم الترك، وزعم بعضهم أن القوم كانوا من الجان وهو زعم باطل لا بعيد كما قال أبو حيان.
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا من أقوال أتباع ذي القرنين أو من أقوال من عداهم لغرابة لغتهم وبعدها عن لغات غيرهم وعدم مناسبتها لها مع قلة فطنتهم إذ لو تقاربت فهموها ولو كثرت فطنتهم فهموا ما يراد من القول بالقرائن فتعلموه، والظاهر إبقاء القول على معناه المتبادر.
وزعم بعضهم أن الزمخشري جعله مجازا عن الفهم مطلقا أو عما من شأنه أن يقال ليشمل الإشارة ونحوها حيث قال: أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها، وفيه نظر، والظاهر أنه فهم من نفي يكاد إثبات الفهم لهم لكن يعسر وهو بناء على قول بعضهم: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي وليس بالمختار.
وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي «يفقهون» من الأفعال أي لا يكادون يفهمون الناس لتلعثمهم وعدم تبيينهم الحروف قالُوا أي بواسطة مترجمهم مترجمهم فإسناد القول إليهم مجاز، ولعل هذا المترجم كان من قوم بقرب بلادهم، ويؤيد ذلك ما وقع في مصحف ابن مسعود قال: الذين من دونهم أو بالذات على أن يكون فهم ذي القرنين كلامهم وإفهامهم إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب، وقال بعضهم: لا يبعد أن يقال القائلون قوم غير الذين لا يفهمون قولا ولم يقولوا ذلك على طريق الترجمة لهم وأيد بما في مصحف ابن مسعود. وأيّا ما كان فلا منافاة بين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.
وقالوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وبه جزم وهب بن منبه وغيره واعتمده كثير من المتأخرين. وقال الكسائي في العرائس: إن يافث سار إلى المشرق فولد له هناك خمسة أولاد جومر وبنرش وأشار واسقويل ومياشح فمن جومر جميع الصقالبة والروم وأجناسهم ومن مياشح جميع أصناف العجم
359
ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم ومن اسقويل جميع الترك ومن بنرش الفقجق واليونان. وقيل: كلاهما من الترك وروي ذلك عن الضحاك، وفي كلام بعضهم أن الترك منهم لما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق السدي من أثر قوي الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجين عنه،
وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة أن يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت واحدة منهم خارجة للغزو فبقيت خارجة وسميت الترك لذلك»
وقيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم، وقيل من الجيل، وعن كعب الأحبار أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم عليه السّلام من غير حواء وذلك أنه عليه السّلام نام فاحتلم فامتزجت نطفته في التراب فخلق منها يأجوج ومأجوج، ونقل النووي في فتاواه القول بأنهم أولاد آدم عليه السّلام من غير حواء عن جماهير العلماء.
وتعقب دعوى الاحتلام بأن الأنبياء عليهم السّلام لا يحتلمون، وأجيب بأن المنفي الاحتلام بمن لا تحل لهم فيجوز أن يحتلموا بنسائهم فلعل احتلام آدم عليه السّلام من القسم الجائز، ويحتمل أيضا أن يكون منه عليه السّلام إنزال من غير أن يرى نفسه أنه يجامع كما يقع كثيرا لأبنائه، واعترض أيضا بأنه يلزم على هذا أنهم كانوا قبل الطوفان ولم يهلكوا به، وأجيب بأن عموم الطوفان غير مجمع عليه فلعل القائل بذلك ممن لا يقول بعمومه وأنا أرى هذا القول حديث خرافة، وقال الحافظ ابن حجر: لم يرد ذلك عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح عليه السّلام ونوح من ذرية حواء قطعا. وكأنه عنى بالحديث غير ما
روي عن أبي هريرة مرفوعا ولد لنوح. سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة
فإنه صرح أنه ضعيف، وفي التوراة في السفر الأول في الفصل العاشر التصريح بأن يأجوج من أبناء يافث. وزعم بعض اليهود أن مأجوج اسم للأرض التي كان يسكنها يأجوج وليس اسما لقبيلة وهو باطل بالنص، والظاهر أنهما اسمان أعجميان فمنع صرفهما للعلمية والعجمة وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية وهي لغة بني أسد ووزنهما مفعول، وبناء مفعول من ذلك مع أنه لازم لتعديه بحرف الجر.
وقيل إن كان ما ذكر منقولا فللتعدي وإن كان مرتجلا فظاهر، وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهم أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار، ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فياجوج من يججت وماجوج من مججت، وقال قطرب: في غير الهمز ماجوج فاعول من المج ويأجوج فاعول من اليج، وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز وتركه على التخفيف. وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى:
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: ٩٩] أو من الأج وهو سرعة العدو قال تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: ٩٦] أو من الأجة وهي شدة الحر أو من أج الماء ياج أجوجا إذا كان ملحا مرا انتهى. وعلة منع الصرف على القول بعربيتهما العلمية والتأنيث باعتبار القبيلة.
وقرأ العجاج ورؤية ابنه «آجوج» بهزة بدل الياء. وربما يقال جوج بلا همزة ولا ياء في غير القرآن وجاء بهذا اللفظ في كتاب حزقيال عليه السّلام مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وقيل بأخذ الأقوات وأكلها. روي أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب الأوصافي أنه قال: كان فسادهم أنهم يأكلون الناس، واستدل بإسناد مفسدون إلى يأجوج ومأجوج على أن أقل الجمع اثنان وليس بشيء أصلا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا
360
من أموالنا. والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وحمزة والكسائي «خراجا» بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال.
وقيل الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس بقال: أد خراج أرضك وقال ثعلب: الخرج أخص من الخراج. وقيل: الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك إداؤه عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر سدا بضم السين.
قالَ ما مَكَّنِّي بالإدغام، وقرأ بن كثير وحميد بالفك أي الذي مكنني فِيهِ رَبِّي وجعلني فيه سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب خَيْرٌ أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما، والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم أَجْعَلْ جواب الأمر بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال: ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع، ويقال: سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض، وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها، وقيل: سد الخلل مطلقا، ومنه قول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم ثم أطلق على ما ذكر، وقيل: هو والسد بمعنى، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هو كأشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن زُبَرَ الْحَدِيدِ فقال: قطعة وأنشد قول كعب بن مالك:
تلظى عليهم حين شد حميها بزبر الحديد والحجارة شاجر
وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الإيتاء المأمور به الإيتاء بالثمن أو مجرد المناولة والإيصال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة، وعلى تسليم كون الإيتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال: إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا، وينبىء عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم «ردما ائتوني» بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب زُبُراً بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز.
وقرأ الحسن «زبر» بضم الباء كالزاي حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين، وقيل: الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فأتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل: الميل، ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال: فهو من الأسماء المتضايفة
361
كالزوج وأمثاله، وقال أبو عبيدة: وهو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا.
وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور. وقرأ قتادة سوى من التسوية.
وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم «سووي» بالبناء للمجهول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن «الصدفين» بضم الصاد والدال وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة الأكثرين لغة تميم، وقرأ أبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن «الصدفين» بضم فسكون.
وقرأ ابن جندب بفتح فسكون، وروي ذلك عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم، وقرأ الماجشون بفتح فضم.
قالَ للعملة انْفُخُوا أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي جعل المنفوخ فيه ناراً أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة قالَ الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا آتُونِي من الذين يتولون أمر النحاس أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان قِطْراً مفعول آتُونِي لأضمر مفعول أُفْرِغْ وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس.
والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين، وقيل: الرصاص المذاب، وقيل: الحديد المذاب وليس بذاك، وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه «ائتوني» بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا، وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله ساوى على أحد القولين فَمَا اسْطاعُوا بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء.
وقرأ حمزة وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حده ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة، وقرأ الأعشى عن أبي بكر «فما اصطاعوا» بقلب السين صادا لمجاورة الطاء، وقرأ الأعمش «فما استطاعوا» بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا أَنْ يَظْهَرُوهُ (١) أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته، قيل: كان ارتفاعه مائتي ذراع، وقيل: ألف وثمانمائة ذراع وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته وثخانته. قيل: وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض، ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من أن امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين للأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا، ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم، وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون إليها بآلات
(١) قيل أي يظهروا عليه فحذف الجار وأوصل الفعل اه منه.
362
غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لا شبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل، وقيل: كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا.
وأخرج ابن جرير، وابن مردوية عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته
، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا.
ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا قالَ أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم هذا إشارة إلى السد، وقيل: إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال رَحْمَةٌ أي إثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة مِنْ رَبِّي على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم أنه سبب لذلك، وربما يرجح المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا، وفي الأخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة» بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة، وقيل: وقت خروج يأجوج ومأجوج. وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السّلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما جَعَلَهُ أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته دَكَّاءَ بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية، وقال بعضهم: الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث، وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء.
وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجيء الساعة إذ من مبادئها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السّلام، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع.
وفي كتاب حزقيال عليه السّلام الاخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجر بياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السّلام قبل إسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر والله تعالى
363
أعلم، ثم إن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وَكانَ وَعْدُ رَبِّي أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا حَقًّا ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكي من قصته، وقوله عز وجل وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق، والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد، والعطف على قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا وفيه تحقيق لمضمونه، ولا يضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مبادئه يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخر منهم، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى، وقيل: الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد وقيل: الضمير للناس أيضا، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه.
وقال أبو حيان: الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السّلام،
ففي صحيح مسلم من حديث النواس ابن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السّلام ثم يأتي عيسى عليه السّلام قوما قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام أني قد أخرجت عبادا لي لإيذان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى إن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان هاهنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار
وفي رواية مسلم وغيره فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى
وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملاءه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر، وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، وفي رواية فترميهم في البحر- وفي أخرى في النار
ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل- ثم يرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين، ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور
364
المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله تعالى شيء، والحديث يدل على كثرتهم جدا، ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية
. وحمله بعضهم على طول العمر.
وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوج ستة وللباقي إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم. نعم أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخيار والأشرار. ولعمري إن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان أبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد. ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار، وقيل:
لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.
والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول.
وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ».
وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن «الصّور» بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السّلام فَجَمَعْناهُمْ أي الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء جَمْعاً أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة لِلْكافِرِينَ منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عَرْضاً أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ وهم في الدنيا فِي غِطاءٍ كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب عَنْ ذِكْرِي عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز.
وقيل: الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكرى وليس بذاك، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية، والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكرى الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السّلام، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم وَكانُوا مع ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً نفي لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الأخصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكرى المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا
365
بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في المغني: إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا لتحقق الآيات في ضمن الكلام المعجز لا يخفى حاله وحال إرادة الآيات ثم إرادة الكلام المعجز منها مجازا بعد المجاز أظهر، وقال بعض المحققين: إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والمصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى عِبادِي والحسبان بمعنى الظن، وقد قرأ عبد الله «أفظن» والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه، والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا على ما اختاره شيخ الإسلام. والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم السّلام من المقربين كما تشعر به الإضافة فإن الأكثر أن تكون في مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف.
واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة، والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان وغيره، وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح. وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى، وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا، ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذين هم تحت ملكي وسلطاني مِنْ دُونِي أي مجاوزين لي أَوْلِياءَ أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي، وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء. وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة، وقيل: المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم، وقيل: إن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك. وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض النحاة، وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك.
هذا وفي الكشف أن التحقيق أن قوله تعالى: فَحَسِبَ معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشىء عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما. وقوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل إلخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما. وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عز وجل. وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى، ولا يخلو عن بحث فتأمل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم والشافعي عليه الرحمة ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة ومسعود بن صالح
366
وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما أَفَحَسِبَ بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي وأَنْ يَتَّخِذُوا خبره أي أفكافيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء. وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم. وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل، واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح. ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة، وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم لِلْكافِرِينَ المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل نُزُلًا أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين. وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعدادا لزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة، وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له، ولا يأبى ذلك قوله تعالى جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم، وقال الزجاج: النزل موضع النزول، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: هو جمع نازل ونصبه على الحال.
وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه «نزلا» بسكون الزاي قُلْ يا محمد هَلْ نُنَبِّئُكُمْ خطاب للكفرة، وإذا حمل الاستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه، والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز، وجمع مع أن الأصل في التمييز الإفراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها، وقيل:
جمع لأن ما ذكره النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا باسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو لله تعالى دره فارسا، وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل، وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كأشهاد جمع شاهد، وقيل: جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في القاموس وهو كما ترى، وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى إن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع أن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا، وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي، ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر، والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا، نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بأنه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء، ثم إن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم
367
باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم الَّذِينَ ضَلَّ أي ضاع وبطل بالكلية عند الله عز وجل سَعْيُهُمْ في إقامة تلك الأعمال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا.
قيل: المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات، وقيل: الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة، وقيل الصابئة،
وسأل ابن الكواء عليا كرم الله تعالى وجهه عنهم فقال: منهم أهل حروراء يعني الخوارج
، واستشكل بأن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة، وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم الله تعالى وجهه معتقدا لكفرهم، واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية، والمذكور
في مجمع البيان أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد
، وهذا يؤيد الجواب الأول، وأخبر أن المراد ما يعم سائر الكفرة، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم؟ فقيل الذين إلخ، وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على (الأخسرين) وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه أُولئِكَ الَّذِينَ إلخ.
وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن أنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملة حال من فاعل ضَلَّ أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في سَعْيُهُمْ لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم إلخ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم، وفي الثاني نفس سعيهم قيل، والأول أدخل في بيان خطئهم، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري:
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه
أُولئِكَ كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية، وقيل: بالقرآن والأول أولى، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور وَلِقائِهِ هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذاك
368
فَحَبِطَتْ بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها، والفاء للتفريع أي فحبطت لذلك أَعْمالُهُمْ المعهودة حبوطا كليا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيء إن شاء الله تعالى بعد ذلك، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشىء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا. ونفي هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء، وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله تعالى: بِآياتِ رَبِّهِمْ وعن عبيد أيضا فلا يقيم بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا، وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن على أن يقوم مضارع قام اللازم و «وزن» فاعله.
ذلِكَ بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك. وقوله عز وجل جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وجوز أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن وجَهَنَّمُ خبره. والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المشار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل. وأن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ خبره وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر والإشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن، وأن يكون مبتدأ وجَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر خبر له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم، وتعقب بأن العائد المجرور إنما يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله: فالذي تدعي به أنت مفلح. أي به. وجوز أبو البقاء أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل أو عطف بيان وجَهَنَّمُ بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى: بِما كَفَرُوا خبر ذلِكَ وقال بعد أن ذكر من وجوه الإعراب ما ذكر: إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم، وقيل: الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك. وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي مهزوا بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم السّلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السّلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم الصلاة والسّلام إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة أثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر. وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم، وقيل: يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان إشارة إلى ذلك. ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية أمره وكماله، وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة
369
في الجنة، وقيل: التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم.
جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أخرج ابن المنذر وإن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال: جنة الأعناب بالسريانية، وقال عكرمة: هي الجنة بالحبشية، وقال القفال: هي الجنة الملتفة بالأشجار، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وقال المبرد: هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب، ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكرّ ويؤنث، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان:
وإن ثواب الله كل موحد جنان من الفردوس فيها يخلد
وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت:
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس ثم الفوم والبصل
وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسري حيث قال:
وإنا لنرجو أن نرافق رفقة يكونون في الفردوس أول وارد
ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف:
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف
والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل،
وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة»
وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس
وروي عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
. وصح أن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن
وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل. واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم، وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء.
وقال أبو حيان: الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس. وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس. وقيل: الأمر كما ذكر أبو حيان إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفى.
وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار اشتمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما
370
تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر. واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة
بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا «إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو»
وأجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا المكان بخلافها فيما تقدم فلا إشكال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى نُزُلًا أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين نُزُلًا أو على أنه الخبر ونُزُلًا من حال من جَنَّاتُ فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من
قوله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»
بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر خالِدِينَ فِيها نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا هو- كما قال ابن عيسى وغيره- مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله:
عادني حبها عودا أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وإن تفاوتت درجاتهم، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها، وقال ابن عطية: كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده، وقال الزجاج عن قوم: هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا يتحولون عنها فيبغوه، وقيل في وجه التأكيد: إنهم إذا لم يريدوا الانتقال لا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكون حالا متداخلة، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي جنس البحر مِداداً هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر لِكَلِماتِ رَبِّي أي معدا لكتابة كلماته تعالى، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز وجل لَنَفِدَ الْبَحْرُ مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لعدم تناهيها وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجىء بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا، والكلام في جواب لَوْ مشهور وليس قوله تعالى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل
371
منها مددا، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: ٢٧].
وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير، ونصب مَدَداً على التمييز كما في قوله: فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] وفيه تكلف.
وقرأ حمزة، والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى «قبل أن ينفد» بالياء آخر الحروف، وقرأ السلمي «أن تنفّد» بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر.
وقرأ الأعرج «بمثله مددا» بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به، وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن ميحصن وحميد والحسن في رواية وأبو عمرو كذلك. وحفص كذلك أيضا «مدادا» بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] ومراده الاعتراض بأنه وقع في كتابكم تناقض بناء على أن لا حكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز وجل، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها وإنك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف قُلْ بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإنما تميزت عنكم بذلك، وأن المفتوحة وأن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل يُوحى والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول أَنَا والمقصور البشرية مثل المخاطبين، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلّى الله عليه وسلّم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلّم على معنى أنه صلّى الله عليه وسلّم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون، والمقصور الثاني إِلهُكُمْ أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها بإله واحد أي لا
372
يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون.
وزعم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وأن المقصور الألوهية مصدر إلهكم والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه بإله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق.
ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية لا تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر إفراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقر لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عوامل
ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشري فَلْيَعْمَلْ لتحصيل ذلك والفوز به عَمَلًا صالِحاً وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل إلخ، وقيل لا حذف، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي إن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه، وقيل: اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل إلخ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل إلخ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل إلخ، وتفسير الرجاء بالطمع أولى، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى، وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحق العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا في نفسه ولا يراه بعمله أحدا فيفسده. وكذا ما
روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي: إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له صلّى الله عليه وسلّم
، نعم لا يأبى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل لغرض دنيوي لا يقبل،
فقد أخرج
373
أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه تعالى أنه قال: «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك»
وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي»
وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن عبادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى»
وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا شيء له فأعادها ثلاث مرار يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا شيء له ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه»
إلى غير ذلك من الأخبار.
واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الإتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى.
وأجيب بما أشار إليه في الأحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله.
وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط.
وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله،
فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية»
وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثا له على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدي به أن يظهر أعماله الحسنة، والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الأيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي، وأنه تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي.
ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارئ أصلا وقد عمت البلوى
374
بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فإنا لله تعالى وإنا إليه راجعون وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه
فقد قال الراغب في المحاضرات: إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضي الله تعالى عنه: لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً
ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى، ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل، وقيل الأمر بالعمل الصالح متفرع على كونه تعالى إلها والنهي عن الشرك متفرع على كون الإله واحدا، وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى، وقيل: التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا.
وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي «ولا تشرك» بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى: «بربه» التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة، هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية «فمن كان يرجو» إلخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب، وقيل: إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية، وقيل: إشارة إلى القوى والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر، ولعل الأولى أن يقال: الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال: فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب.
وقال الأشاعرة: الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله، وقوله تعالى:
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إشارة إلى جهة مشاركته صلّى الله عليه وسلّم للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله:
كفت بيغمبر كه أصحابي نجوم ره روانرا شمع وشيطان رارجوم
هر كسى را كر نظر بوادي زدور كو كرفتي ز آفتاب جرخ نور
كي ستاره حاجتي بوادي ذليل كي بدي بر نور خورشيدا ودليل
375
جون شما تاريك بودم در نهاد... وحي خورشيد دم جنين نوري
بداد ظلمتي دارم به نسبت با شموس... نور دارم بهر ظلمات
نفوس زان ضعيفم تا تو بابي أوري... كه ني مردي آفتاب انوري
هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلّى الله عليه وسلّم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه.
376
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ماه ميكو يد بابر وخاك في من بشر من مثلكم يوحى إلى