ﰡ
نزولها: هى مكية.. إجماعا.
عدد آياتها: مائة وثمانى عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف ومائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة حرف، وحرف.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ١١) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١ الى ١١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١)
التفسير:
يلتقى بدء هذه السورة مع خاتمة سورة الحج قبلها.. فقد ختمت سورة الحجّ، بهذا الخطاب العام للمؤمنين، الذين اصطفاهم الله واجتباهم، وقد تضمن هذا الخطاب دعوة إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.. ثم ختم بقوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ».
ومن صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين، أنهم فى صلاتهم خاشعون.. أي يؤدّون صلاتهم فى خشوع، وخشية، وولاء.. إنها صلاة تفيض من قلب خاشع لجلال الله، راهب لعظمته، فكيان المؤمن كله، ووجدانه جميعه، وهو قائم فى محراب الصلاة- مشتمل عليه هذا الجلال، مستولية عليه تلك الرهبة.
ومن أجل هذا كان لتلك الصلاة الخاشعة الضارعة أثرها العظيم، فى إيقاظ مشاعر الخير فى المصلين، وفى تصفية أنفسهم من وساوس السوء.. فهم لهذا:
«عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» أي لا يقبلون اللّغو، ولا يتعاملون به.. فإذا نطقوا، نطقوا خيرا أو سكتوا، وإذا سمعوا، سمعوا حسنا أو انصرفوا.. إنهم- وقد صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم- ليعافون موارد اللّغو، من القول التافه، أو الحديث الباطل..
ثم هم «لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» أي يؤدون زكاة أموالهم، ويشاركون الفقراء والمحتاجين فيما رزقهم الله من فضله، فلا يضنّون بما فى أيديهم، ولا يؤثرون أنفسهم بما معهم..
وفى التعبير عن أدائهم للزكاة، بأنهم فاعلون لها- إشارة إلى أن الزكاة ليست من نافلة الأعمال، التي تصدر عن غير وعى أو شعور من الإنسان، بل إنها شىء عظيم، يحتاج إلى يقظة كاملة ممن يؤديها.. وذلك من وجوه:
فأولا: نظره إلى المجتمع الذي حوله، وإلى الجوانب الضعيفة منه، وإلى
وثانيا: نظره إلى هذا المال الذي فى يده، وحمل نفسه على السّماح والبذل فى كل وجه نافع طيب.. وذلك حتى لا تغلبه نفسه على الضنّ به، والوقوف عند حدّ الزكاة الواجبة.
ومن هنا كانت الزكاة «فعلا» أي عملا جادّا، يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه العمل الجادّ، من إمعان نظر، وبذل جهد.. وليست مجرد صدقة طارئة، تطرق المتصدق بين الحين والحين، أو تلقاه على رأس كل عام، وإنما هى «فعل» متصل، يشغل به الإنسان فى كل لحظة من لحظات حياته.. وبذلك يكون على صلة دائمة بالمجتمع الذي يعيش فيه.. يحسّ بإحساسه، ويتحرك معه فى الاتجاه الذي يتحرك فيه، ويحمل هموم ذوى الحاجات والهموم من جماعة المسلمين.. وفى الحديث: «من لم يحمل همّ المسلمين فليس منهم».
ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنّهم «لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» أي أنهم كما حفظوا ألسنتهم عن اللغو، وكفوا جوارحهم عن الشر والأذى- حفظوا فروجهم من الدّنس، ولزموا بها جانب العفّة والطهارة..
وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» هو استثناء من حفظ الفروج عن الاتصال بالنّساء، والتعفف عنهن..
فليس هذا على إطلاقه، وإنما لفروجهم ما أحلّ من أزواج، ومما ملكت اليمين من جوار.. فهذا لا لوم عليهم فيه.. تماما كالإمساك عن اللغو من الكلام، مع إباحة الحديث الطيب من القول..
- وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» ما يشعر برفع الحظر عن أمر كان محظورا، وبدفع اللوم عن أمر كان إتيانه موضع لوم.. فكيف هذا؟ والله
ولكن الإنسان، الذي يندسّ فى كيانه هذا الحيوان، قد أراد الله سبحانه له، أن يعلو بإنسانيته، ويرتفع إلى مستوى كريم، يكون فيه أقرب إلى العالم العلوي منه إلى العالم الأرضى.. وذلك لا يكون إلا بأن يخرج من مسلاخ الحيوان، أو يقتل هذا الحيوان المندسّ فى كيانه.. وذلك من مظاهره ألا تكون صلته بالأنثى شبيهة بصلة الحيوان، المطلقة من كل قيد..!
ولكن الإنسان مهما يكن، لا يمكن أن ينسلخ من الجانب الحيواني الذي فيه، وهو على هذا التركيب الجسدى، الذي تتحرك فيه شهوة داعية إلى اتصال الرجل بالمرأة..
فكان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن وقف بالإنسان موقفا وسطا، يأخذ فيه وضعا ملائما للإنسان والحيوان معا.. فقيد الإنسان بهذا القيد الذي ألزمه حدود إنسانيته، ثم نفّس عنه بعض الشيء، فجعل لهذا الجسد فى الإنسان حظّه من المرأة فى حدود مرسومة لا يتعداها، وهو أن يتخذ له امرأة، أو أكثر إلى أربعة، ممن أحلّ الله له.. أو ما يشاء من النساء، ممن ملكتهن يده! الأصل إذن، الحرمة المطلقة فى اتصال الرجل بالمرأة عموما.. ثم الإباحة فى هذا النطاق الضيق المحدود..! أو قل: الأصل هو الإباحة المطلقة من كل قيد، ثم هذا القيد الوارد على هذا الإطلاق.. وذلك حسب أي النظرتين بنظر بها
وانظر: إنه لو ترك للإنسان الحبل على الغارب، لكان له أن يتصل بأية امرأة يريدها ويشتهيها.. وهذا من شأنه أن يجعل جميع النساء مباحات له..
يتصل بهنّ، بوسيلة أو بأخرى..
وهذا القدر المحدود المباح له من النساء، هو استثناء من هذا الحظر العام، وهو بالقياس إلى الحظر العام، لا يكاد يعدّ شيئا، يحسب حسابه. حتى لكأن الحظر العام قائم..
فقوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» تذكير بهذه النعمة، التي أتاحت للإنسان أن يتصل بالمرأة فى هذه الحدود، وهى وإن وجدها ضيقة، لا تشبع جوعه الحيواني، فإن عليه أن يذكر أنه إنسان، وأنه كان من مطلب الجانب الروحي منه، ألا يكون هناك هذا المنفذ الذي ينفذ منه إلى المرأة.. ومع ذلك فإنه غير ملوم فى الاتصال بالمرأة فى هذه الحدود، وإن جار هذا على الجانب الروحي منه، وهذا كله يعنى القصد فى هذا الأمر، والاعتدال فيه، وألا يكون الإنسان على سواء مع الحيوان! وفى قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» - تحذير من مجاوزة هذه الحدود، والانطلاق إلى ماوراءها، فإن ذلك هو دخول فى عالم الحيوان باربعة أرجل، وهو عدوان على إنسانية الإنسان، واعتداء على حدود الله! قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» - هو من صفات هؤلاء المؤمنين
«وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» - هو من صفات المؤمنين المفلحين أيضا.. وهو محافظتهم على الصلوات، وأداؤها فى أوقاتها، بعد أن وصفوا من قبل بأنّهم فى صلاتهم خاشعون..
وقدمت الخشية فى الصلاة، على المحافظة عليها.. لأن الخشية هى المطلوب الأول من الصلاة، وأن صلاة بغير خشوع وخشية، لا محصّل لها، ولا ثمرة منها..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
هو بيان للجزاء الحسن، الذي يجزى الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين وصفوا بهذه الصفات، وهو ما يكشف عن فلاحتهم، وفوزهم، وإنه لا فلاح أعظم من هذا الفلاح! ولا فوز أكرم من هذا الفوز..!
وأي فلاح أعظم، وأي فوز أكرم، من أن تكون الجنة ميراثا خالدا أبدا، يعيش فيه أولئك المؤمنون المفلحون!
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)
وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة من متفتح السورة إلى هذه الآية، قد كانت عرضا، مسعدا للمؤمنين المفلحين، الذين آمنوا بالله، واستقاموا على طريقه المستقيم.. وفى مقابل هذا العرض كانت تتراءى صورة الضالين والغاوين، الذين كفروا به، وحادوا عن سواء السبيل.. وإلى هذه
ولكن كان من رحمة الله بهؤلاء الضالين الغاوين، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية.
وبدلا من أن يكشف الله لهم عن حالهم السيئة، وينزلهم منازل الهون والبلاء- دعاهم إليه، ومنحهم فرصة أخرى، يراجعون فيها أنفسهم، ويتدبرون حالهم، ويرجعون إلى الله من قريب، ليكونوا فى المؤمنين المفلحين، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته.. يجدونها- لو عقلوا- فى أقرب شىء إليهم.. فى أنفسهم، وفى عجائب قدرة الله، وبالغ حكمته..
إذ أخرج من التراب هذا الإنسان، السميع البصير، العاقل، الناطق، الذي عمر هذه الأرض، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها..
ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه، وإلى أصل نشأته، وتطوره فى الحياة، وتنقله فى الخلق- فى هذه النظرة، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة، هى التي أوجدته، وأخرجته على هذه الصورة، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه.. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة لله فيه؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء؟ ثم كيف يعطى يديه، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها، أو لحيوان يربيه، أو لإنسان هو مخلوق مثله؟ ذلك ضلال مبين.
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ».
السلالة: الأصل، وكأنها السلسلة التي يمتد عليها أصل الشيء، ويصل بين مبدئه وغايته، وهذا يشير إلى أن الإنسان قد مرّ فى أطوار كثيرة بين عالم التراب، وسار مسيرة طويلة فى سلسلة متصلة الحلقات.. من التراب إلى الطين، ثم من الطين إلى الحمأ المسنون، ثم من الحمأ المسنون إلى الصلصال، كما يقول تعالى على لسان إبليس- لعنه الله-: «قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (٣٣: الحجر).. ثم من هذا الصلصال إلى عالم النبات.. من الطحالب.. إلى النخلة، ثم من عالم النبات إلى الحيوان، من الجرثومة.. إلى الإنسان..!
وقد عرضنا لقضية خلق الإنسان فى الجزء الأول من هذا التفسير..
قوله تعالى:
«ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ».
هو إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي أخرجته القدرة الإلهية من بين هذا التراب بشرا سويّا، ما هو إلا هذه النطفة التي اختصرت وجوده كله، واشتملت على كل ما فى كيانه من قوى عاقلة، ناطقة، مبصرة، سميعة، مريدة، فما النطفة إلا الإنسان مضمرا فى كيانها، وما الإنسان إلا النطفة سابحا فى محيطها متحركا فى فلكها..
والقرار المكين، المودعة فيه النطفة، هو الحبل المنوىّ، الذي يمتد بين
وقد يكون القرار المكين، هو الرحم الذي تستقرّ فيه النطفة..
وبين خلق الإنسان من طين، وبين جعله نطفة فى قرار مكين، مقابلة، بين نشأة الإنسان الأول من الطين، وبين عملية التوالد، التي هى وظيفة عضوية من وظائف هذا الإنسان..
فالنشأة الأولى، من التراب.. وفى هذا التراب كانت تكمن جرثومة الإنسان الأول كما تكمن النطفة فى هذا القرار المكين من الإنسان..
ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ «الخلق» :
«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ..»
أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة فى مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. فى عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل. «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً»..
والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى:
«وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (٨- ١١ النبأ).
«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.. فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..» فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.»
تقصّ هذه الآية قصة «خلق» الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فى قرار مكين.. هو الرّحم.
وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين:
فأولا: جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ».
وثانيا: جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ «جعل»..
«ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ».
وهنا فى هذه الآية- وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز- هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل..
وهذه الأطوار، هى فى الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما فى كيانها..!
وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب «الجعل» لا «الخلق» لأن النطفة ذاتها «مجعولة» وكل ما تعطيه هو من «المجعول» أيضا..
فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً..»
والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً..»
وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..»
فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟
السرّ فى هذا- والله أعلم- أن كلّ عملية من هذه العمليات، هى خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته «الخالق» وأبى على خلقه أن يشاركوه فى هذه الصفة..
ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها- وإن اجتمعت- أن تنتقل بالإنسان فى هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس- ولو اجتمعت- لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا..
إنها جميعها- كما قرر القرآن- عمليات «خلق»، استأثر بها الخالق..
وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي فى كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء- مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء- بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان.
نقول هذا، لا لنحجر على العلم، ولا لنقف فى طريق العلماء، الذين يحاولون الوصول إلى «خلق» الكائن الحىّ.. بل نحن ندعو العلم، ونهيب بالعلماء أن يجروا فى هذا الميدان إلى غايته، وأن يتحدّوا هذه المعجزة المتحدية.. فتلك هى دعوة القرآن للكشف عن إعجازه، والدعوة إلى الإيمان بأنه تنزيل من ربّ العالمين..
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» إشارة إلى نفخة الروح فى الإنسان، بعد أن يتخلّق، ويتم تصويره على الصورة الإنسانية.. فهو قبل هذه النفخة كتلة من اللحم والعظم.. حتى إذا نفخ فيه الخالق من روحه، أصبح كائنا حيّا، ودخل فى عالم الإنسان! - وقوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» هو تمجيد لله، وتسبيح بجلاله وعظمته، يقولها الحق سبحانه وتعالى ممجدا ذاته، ويقولها الوجود كلّه، تسبيحا، وصلاة، وحمدا للخالق المبدع المصوّر..
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ».
وهذه حقيقة واقعة، يعلمها الناس ويقعون فى دائرة تجربتها.. فهى- والحال كذلك- فى غير حاجة إلى أن يخبر عنها، ثم إذا كان لا بد من الإخبار بها، فهى فى غير حاجة إلى توكيد..
ولكن جاء القرآن مخبرا عنها، ومؤكدا لها.. وذلك لأن الناس- وإن كانوا على علم واقع بهذه الحقيقة- ذاهلون عن الموت، غافلون عنه، حتى لكأنهم لن يموتوا أبدا.. فلقد غرّتهم الدنيا، وألهاهم متاعها، وشغلهم غرورها، فكانت هذه النخسة من القرآن الكريم، إيقاظا لهؤلاء النيام، الذين هم فى غمرة ساهون، والذين هم فى خوضهم يلعبون.
قوله تعالى:
«ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ».
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ».
الطرائق: جمع طريقة- وهى الطبقات.. بعضها فوق بعض.. والسبع الطرائق: السموات السبع.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» (١٥: نوح).
فالسّموات، ليست كما تبدو فى مرأى العين، سقفا جامدا، وإنما هى طبقات من الأثير، بعضها فوق بعض، كما أن الأرض طبقات من المادة الكثيفة.. بعضها فوق بعض كذلك.. طبقة قشرية من تراب.. ثمّ تحتها طبقات من أحجار، ومعادن.. وغيرها، مما لم يبلغه علم الإنسان..
- وفى قوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، إذ يخلق ما يخلق، فإنه- سبحانه- يقوم على أمر هذا الخلق وتدبيره، ويمسك نظامه، ويحفظ وجوده.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ».. فهو وحده- سبحانه- الذي يخلق، وهو وحده- جل شأنه- الذي يدبّر أمر ما خلق.
قوله تعالى:
«وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ».
هو بيان لقوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ»..
وذلك أن الله- سبحانه- الذي خلق الإنسان، لم يدعه وشأنه، بل
وأن هذا الماء لم ينزل إلا بحساب، وتقدير، فكان على قدر ما يصلح به الناس، وتصلح به حياتهم.. وأنه لو كان أقلّ مما هو، لهلك الناس، وفسدت حياتهم، ولو كان أكثر مما هو، لهلك الناس، وذهب العمران..
- وفى قوله تعالى: «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أمور.
أولها: استقرار الماء فى الأرض، ولزومه إياها، وجعلها سكنا له، يألفها، وتألفه، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر أبدا، حتى لكأنهما كائنان من عالم الأحياء، يتزاوجان تزاوج الذكر والأنثى.
وثانيهما: أن إسكان الماء فى الأرض، إنما هو لرسالة يؤدّيها فى الحياة، شأنه فى هذا شأن الإنسان، الذي أسكنه الله هذه الأرض، وجعله خليفة فيها..
وهذا هو بعض السرّ فى التعبير عن استقرار الماء فى الأرض، بالسكن فيها.
وثالثهما: أن تعدية الفعل «فَأَسْكَنَّاهُ» بحرف الجرّ «فى» الذي يفيد الظرفية- هذه التعدية تعنى جريان الماء فى الأرض، ونفوذه إلى أعماق بعيدة فيها، وأنه بهذا يأخذ وضعا متمكنا منها، بحيث لا يعرض له من العوارض، ما يجليه عنها، أو يقطع صلته بها.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» إلفات إلى تلك النعمة العظيمة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس إلا فى أحوال نادرة، حيث ينقطع الماء عنهم.. فهذه النعمة التي يجدها الإنسان بين يديه من غير أن يبذل لها جهدا، هى أثمن وأغلى شىء فى هذه الحياة، وأن الإنسان ليقدّم كلّ ما يملك فى هذه
روى أن أحد الزهاد دخل على الرشيد، فعتب عليه الرشيد أنه لم يطلب منه شيئا.. فقال الزاهد: وماذا فى يدك حتى أطلب منك؟
فقال الرشيد: هذه خزائن مالى، وهذه الأمصار.. فاطلب من المال ما تشاء، واختر أي مصر أقيمك واليا عليه! فقال الزاهد: وكم يساوى ما فى خزائنك من مال؟ وكم يقدّر لأمصارك وولاياتك من ثمن؟
فقال الرشيد: إنه كثير كثير.. كما ترى..
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. بكم تشترى شربة الماء إذا اشتدّ بك العطش. وأنت فى متاهة، ولا ماء معك؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه، ولو كان معى مثله لبذلته..
فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. وبكم من ملكك تدفع عن نفسك شربة الماء إذا احتبست فى داخلك، ولم تخرج من مخرجها؟
فقال الرشيد: بملكي كلّه.. ولو كان معى ضعفه لخرجت منه!! فقال الزاهد: هذا ملكك يا أمير المؤمنين.. كما رأيت.. فماذا أطلب مما ملكت؟
فلو أن الناس ذكروا أدنى نعم الله عندهم، لوجد أشدّهم فقرا أنه فى غنى عريض، وملك كبير، ولبات مع القليل الذي فى يده، على رضا وحمد لله ربّ العالمين..
«فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ».
هو بيان لبعض وجوه النفع التي ينتفع بها الإنسان من هذا الماء، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء، وأسكنه فى الأرض، وأبقاه ولم يذهب به.
فمن هذا الماء- فضلا عن حياة الإنسان به، وإرواء ظمئه- ينبت النبات والشجر، ويخرج الحب والفاكهة..
وفى اختصاص الجنّات بالذكر، لأنها الصورة الكاملة التي تجمع مختلف الزروع، من الفاكهة وحبّ الحصيد..
وفى اختصاص النخيل والأعناب من بين أشجار الفاكهة، لأنها أعلى درجات النبات صعودا إلى الكمال فى عالم النبات.. فهاتان الشجرتان على قمة العالم النباتي، حيث تلامسان عالم الحيوان.. وقد تحدثنا عن النخلة فى بحثنا عن خلق آدم، فى الجزء الأول من هذا التفسير، وأشرنا إلى معنى الحديث الشريف:
«أكرموا عماتكم النّخل.. فإنهن خلقن من طينة آدم»..
قوله تعالى:
«وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ».
المراد بالشجرة هنا شجرة الزيتون.. وقد جاءت منكرة للتنويه بها، وبأنها فى تنكيرها أعرف من كل معرّف.. وذلك لأن الله سبحانه وتعالى بارك عليها، فقال تعالى: «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» (٣٥: النور).
وهى منصوبة بالعطف على «جَنَّاتٍ».. على تقدير وأخرجنا لكم به جنات من نخيل وأعناب وشجرة..
- وقوله تعالى: «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» أي تنبت وفى كيانها الدهن، وهو الزيت الذي يخرج منها، ويعصر من ثمارها..
- وقوله تعالى: «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ».. معطوف على الدهن، والصبغ الإدام، الذي يصبغ اللقمة من الطعام حين تغمس فى الزيت، فتصطبغ به، وتتلوّن بلونه، وتصبح مشتهاة للآكلين..
قوله تعالى:
«وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ».
هو إلفات إلى هذه الأنعام المسخرة للإنسان، وما فيها من منافع كثيرة له.
وأعجب ما فى هذه الأنعام، هذا اللبن الذي يخرج من بطونها، من بين فرث ودم.. فلا يأخذ من لون الدم، أو ريح الفرث شيئا، على حين أنه يجرى بينهما، ويأخذ مسلكه الدقيق معهما.. ففى ذلك شاهد من شواهد قدرة الله وإحكام تدبيره وتفرّده سبحانه بالخلق والتدبير.
قوله تعالى:
َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ».
أي أن من هذه الأنعام ما يتخذ للركوب ولحمل الأثقال، كما تتخذ الفلك مراكب للانتقال وحمل الأثقال..
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ».
كان ذكر نعمة الفلك فى الآية السابقة فى قوله تعالى: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»
مناسبة قوية تذكّر بقصة نوح عليه السلام، وبالسفينة، التي جعلها الله مركب نجاة له، ولمن آمن معه.. وأن هذه السفينة لم تكن إلا
وقد جاء نوح إلى قومه يذكّرهم بالله، ويدعوهم إلى الإيمان به وحده، ويحضهم على تقواه: «أَفَلا تَتَّقُونَ؟».
وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكريمة، ما جاء فى قوله تعالى:
«فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ».
إنها فلسفة مريضة، وسفاهة عمياء..
«ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ».. هكذا رأى القوم- بجهلهم وغبائهم- فى هذا الداعي الذي يدعوهم إلى الله.. إنه طالب سلطان عليهم واستعلاء فيهم، بهذا الموقف الذي يقفه منهم.. إذ كيف يقودهم فينقادون؟ ويدعوهم فيستجيبون؟ وهو واحد منهم لا فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه هذا السلطان فيهم؟ ومن أين كانت له هذه الكلمة عليهم؟ إنّها لا أكثر من دعوى يدّعيها، وإنه لا أكثر من قول يقوله: أنا رسول الله إليكم!! وإذا كان لله رسل، فلم لم يكونوا من الملائكة، وهم أقرب إلى الله، وأكثر اتصالا به؟
وإذن فالقوم كانوا يعرفون الله، ويعرفون أن لله سبحانه وتعالى ملائكة.
نعم، ولكنهم كانوا أشبه بمشركى العرب.. يعرفون الله هذه المعرفة المطموسة بتلك التصورات الفاسدة، التي لا ترتفع بجلال الله إلى ما يليق به من
قوله تعالى:
«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ».
وهذا حكمهم على «نوح».. إنه رجل مخبول، يهذى بهذا الكلام الذي يقوله لهم، ويحدثهم به عن الله.. وإذن، فمن الحكمة- حكمة السفهاء- أن ينتظروا قليلا، حتى يروا ما وراء هذا الجنون.. أهو عارض فيشفى منه صاحبه، أم هو متمكن منه، ولا شفاء له.. وإذن فسيكون لهم معه شأن غير هذا الشأن! قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ».
وإنه ليس أمام نوح مع هذا العناد الأعمى، إلّا أن يستنصر بربه، وأن يطلب الانتقام له من هؤلاء الذين كذّبوه، وبهتوه، وتوعدوه بالبلاء والنكال.
وقوله «بِما كَذَّبُونِ» أي انصرني بما كذبون به، من سلطانك وبأسك وقوتك.. فالباء للاستعانة، وليست للسببية..
قوله تعالى:
«فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ».
هذا هو جواب الله لنوح فيما سأله إياه.. أن يصنع الفلك على حسب ما يتلقّى من توجيه ربه، ووحيه له، وأن «يسلك» أي يدخل وينظم فيها
- وقوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» - هو تثبيت لقلب نوح، وعزاء له فى أهله الذين سيخلّفهم وراءه للهلاك غرقا.. فهذا أمر الله فيهم، وحكمه عليهم.. وليس لأمر الله مردّ، ولا وراء حكمه معقب، وإنه ليس عند المؤمنين بالله إلا الاستسلام والرضا..
قوله تعالى:
«فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
هو وعد من الله سبحانه وتعالى لنوح بالنجاة من هذا الطوفان المخيف، وأن هذه الرحلة التي سيخوض فيها بسفينته غمرات هذا الطوفان، هى رحلة مأمونة، عاقبتها السلامة والنجاة، وحقّها الحمد والشكران لله ربّ العالمين.
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ».
هو تلقين لنوح بتلك الدعوة المباركة، التي يدعو بها ربّه، وهو فى طريق العودة إلى اليابسة، بعد أن تنهى السفينة دورتها على ظهر هذا الطوفان، حتى يهيئ الله له مكانا خيرا من هذا المكان الذي شهد فيه عناد قومه، ورأى مصارعهم، وقد اشتمل عليهم الطوفان..
وهذا يعنى أن بعض الأمكنة أفضل من بعض.. بعضها ينبت الشوك والحسك، وبعضها يخرج زروعا ناضرة، وجنات مثمرة.. كذلك بعضها يلد الكرام من
«وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً».
وليس ينكر أثر البيئة فى تكوين شخصية الإنسان، وفى تلوين صبغته الظاهرة والباطنة.. فأهل البادية غير أهل الحضر، وسكان البلاد الحارة غير سكان البلاد المعتدلة.
ولحكمة عالية، وسرّ عظيم، كان اختيار الجزيرة العربية مطلعا لرسالة الإسلام الخالدة، واختيار رسولها من نبت هذه البادية، ومن زهرها الطيب الكريم.. وقد عرضنا لهذا الموضوع فى كتابنا: «النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم».. تحت عنوان: «مكان الدعوة وزمانها».
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ».
الإشارة هنا إلى هذا الحدث، وما كان فيه من هلاك القوم الظالمين، ونجاة الرسول ومن آمن معه.. ففى هذا الحدث آيات، وشواهد على قدرة الله، وإحاطة علمه بما يقع من عباده من طاعة أو عصيان..
وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ».. (إن) هنا مخففة من «إنّ» الثقيلة..
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء والاختيار أمرا لازما يؤخذ به عباده، حتى ينكشف حالهم، ويأخذ كل منهم مكانه فى هذا الابتلاء.. فإرسال الرسل إلى الناس، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وإتيان ما يفرضه عليهم الإيمان من واجبات، هو ابتلاء، يتكشف آخر الأمر عن مؤمنين وكافرين، وناجين وهلكى.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (٣١: محمد)
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١)
التفسير:
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ».
أي وبعد نوح أرسل الله سبحانه وتعالى رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فكان الموقف واحدا «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ».
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْنا».. إشارة إلى أن عملية الخلق ليست عملية آلية، كما تبدو من التوالد بين الأحياء، وإنما تتجلّى قدرة الله سبحانه وتعالى فى خلق كل مخلوق، صغر أم كبر- فميلاد المولود هو خلق، وإنشاء
وهذا هو السر فى التعبير القرآنى بلفظ «أنشأنا» بدلا من لفظ أقمنا، أو خلقنا.. ونحوهما.
والقرن الآخرون، الذين جاءوا بعد قوم نوح، هم قوم عاد وقوم ثمود..
وقد جمعهما القرآن الكريم فى قرن واحد، لأنهم كانوا على شاكلة واحدة، وقد جاء قوم ثمود، خلفا لقوم عاد، فى ديارهم ومساكنهم..
قوله تعالى:
«فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ».
تلك هى دعوة الرسول فى القوم، سواء أكان الرسول هودا، المرسل إلى عاد، أم صالحا المرسل إلى ثمود.. إن رسول كل من القومين هو واحد منهم، وإن كلمة كلا الرسولين إلى قومه هى: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.. أَفَلا تَتَّقُونَ».. دعوة إلى عبادة الله، وإفراده بالعبودية وحده.. والاستقامة على ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه..
قوله تعالى:
«وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» - تلك
والملأ: الجماعة من أشراف القوم وساداتهم..
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا».. وفى عطف «أَتْرَفْناهُمْ» على التكذيب والكفر- فى هذا إشارة إلى أن نعم الله التي نعمهم بها وأترفهم بالتنعم فيها- كانت عندهم عدلا للكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. أي كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وجحدوا بنعمنا التي أترفناهم بها، وكذبوا بالرسول الذي جاءهم، وأبوا أن يؤمنوا لبشر مثلهم، وعدوا هذا خسرانا وبلاء عليهم.
قوله تعالى:
«أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ».
هو بعض من مقولات القوم، التي ينكرون بها على النبي دعوته إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر.. فهم يستبعدون- إلى حد الاستحالة- أن يبعثوا بعد أن يموتوا، ويصبحوا ترابا ورفاتا.. كما يقول الله تعالى بعد هذا، على لسانهم:
«هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ».
إنهم بهذا يؤكدون استبعاد البعث بعد الموت، ويؤكدون أنه لا حياة إلا هذه الحياة التي هم فيها، وأنهم إنما يدورون فى هذين المدارين، حياة وموت، وموت وحياة.. حيث يموت ناس، ويولد ناس.. وهكذا دواليك.. أما أن يبعث الموتى من قبورهم، ويعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فذلك ما لا تقبله عقولهم ولا يتصوره خيالهم..
فإذا لم يكن إيمان بالله، أو دخل على هذا الإيمان خلل وفساد- لم يكن أمر البعث ممكن التصور.. كما يقول الشاعر الجاهلى.
حياة ثم موت ثم بعث؟ | حديث خرافة يا أمّ عمرو |
«إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» هى قوله القومين- عاد وثمود- قالها كل قوم لرسولهم، فرموه بالافتراء والكذب على الله.
«قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» وتلك هى صرخة كل من الرسولين إلى ربه، وفزعته إليه.. وقد كانت تلك هى صرخة نوح وفزعته إلى ربه من قبل: «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ».
«قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ».
وقد استجاب الله للرسولين الكريمين، بهذا الوعيد الذي توعّد به القوم الظالمين..
«فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الصيحة: هى الزلزلة، التي رجّت ديار القوم، وأتت على كل شىء وإذا كان عاد قد أهلكوا بريح صرصر عاتية، كما يقول الله تعالى:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ».. وإذا كانت ثمود قد أهلكت بالصيحة. وقد سماها القرآن «الطاغية»
وفى قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» إشارة إلى أن ما خلّفه البلاء الواقع بهم، من ذواتهم، وديارهم، وأموالهم- لم يكن إلا ترابا وحطاما أشبه بالغثاء الذي يحمله السيل فى اندفاعه، مما يجده فى طريقه من مخلفات الأشياء، التي لا يلتفت إليها أحد.
الآيات: (٤٢- ٥٠) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٤٢ الى ٥٠]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦)
فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠)
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ».
القرون: الأمم.. والقرن من عمر الزمن مائة عام، ومن عمر الإنسانية، جيل من أجيالهم ويقدّر بثلاث وثلاثين سنة.
والإنشاء: الخلق، والإيجاد من عدم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
«ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» : أي ما تسبق أمة أجلها.. وحرف الجرّ من» زائد، و «أمة» فاعل.
والمعنى.. أنه بعد أن أهلك الله قوم عاد، وقوم ثمود، خلق من بعدهم أمما أخرى كثيرة، جاء بعضها إثر بعض.. فكان لكل أمة ميقات لميلادها ومهلكها، تماما كميقات مولد الإنسان ومهلكه.. لا تجىء أمة قبل الوقت المقدر لميلادها، ولا تستأخر عنه..
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ»..
تترى: أي تتتابع، ويجىء بعضها وراء بعض.
أي ثم أرسل الله سبحانه وتعالى إلى كل أمة رسولا منها.. يلقاها فى الوقت المعلوم.. وكما تتابعت الأمم، وجاء بعضها إثر بعض، كذلك تتابعت الرسل وجاء بعضهم وراء بعض..
وكما خلفت كل أمة الأمة التي قبلها، فى ديارها وأموالها، خلفتها كذلك
- وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» إشارة إلى هلاك هذه الأمم المتتابعة، وزوال آثارها، فلم يبق منها إلا أحاديث يرويها الناس عنها، وعما كان منها، وما نزل بها..
- وقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ».. هو تهديد لمن لا يؤمن بالله من الأقوام الحاضرة أو المقبلة، وعبرة بهذه الأمم التي هلكت بعذاب الله.
وفى التعبير هنا بقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ».. وبقوله تعالى: «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» عند التعقيب على هلاك قوم عاد وثمود- فى هذا مراعاة لمقتضى الحال هنا وهناك..
فهنا تهديد لقوم يدعون إلى الإيمان، ويقفون موقفا مباعدا له، ولكنهم لم يقعوا بعد تحت عذاب الله الراصد للكافرين.. فحسن لهذا أن تعرض عليهم صورة الكافرين، وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا لم يخرجوا منه، كان مصيرهم البلاء والنكال.. وهناك- مع قوم عاد وثمود- قد هلك القوم فعلا، بعد أن قطعوا طريقهم مع الكفر إلى آخره.. فكانوا بهذا كافرين وظالمين غير مظلومين، إذ أخذوا بهذا العذاب البئيس، فكان وصفهم بالظلم أنسب وصف لهم.
قوله تعالى:
«ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ».
عطفت قصة موسى على ما قبلها بحرف العطف «ثمّ» الذي يفيد التراخي.
والسلطان المبين الذي كان مع موسى- هو ما ضمّت عليه هذه الآيات من إعجاز قاهر غالب، يفحم الخصم، ويقهره.. وبهذا يكون له السلطان القوى المبين عليه.
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ». هو حال من الضمير فى قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرُوا» أي فاستكبروا مصاحبين استعلاءهم الذي كان يملأ شعورهم بالترفع عن مستوى البشر..
فهذا الاستكبار الذي لقى به فرعون والملأ الذين معه، دعوة موسى وهرون لهم إلى الإيمان بالله، - هذا الاستكبار، هو أثر من آثار هذا الغرور الذي استبد بعقولهم، فرأوا منه فى فرعون إلها، وأنهم حاشية إله!! قوله تعالى:
«فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» ؟ وهذا القول، هو من قوم فرعون، ومن الملأ الذين معه.. وليس من فرعون.. إذ أن فرعون ما كان يرى أنه من البشر، وإنما هو إله من نسل آلهة.. ولهذا قال لموسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» ! وهذه القولة من قوم فرعون شاهد يشهد بأن الناس جميعا على سواء فى إنكارهم على رسل الله أن يكونوا بشرا مثلهم.. وأكثر ما يكون هذا عن الحسد الذي ينفس فيه بعض الناس على بعضهم، أن ينالوا شيئا من نعمة،
ومن هنا صحت العبرة القائلة: «لا كرامة لنبى فى وطنه» وذلك للنظرة الحاسدة له من قومه.
وقوله تعالى: «وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» - هو من بعض تعلّات القوم على موسى وهرون، ومن الحجج التي أقاموها فى دفع دعوته لهم إلى متابعته.. إذ كيف يتابعون بشرا مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يتابعون بشرا هو دونهم منزلة؟ أليس موسى وهرون من قوم هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟
قوله تعالى:
«فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ».
وتلك هى عاقبة من يدعى إلى الهدى فيأبى، ويلقى إليه بحبل النجاة فيأنف أن يمسك به من يد لا يراها كفئا له حسبا ونسبا، ويؤثر أن يموت غرقا على أن تكتب له النجاة، ويأخذ الحياة من تلك اليد المحقّرة عنده!.
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».
هو إشارة إلى قصة أخرى.. هى قصة موسى مع قومه بنى إسرائيل، بعد أن انتهت قصته مع فرعون وقومه..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ».. أي آتينا موسى الكتاب، وجعلنا ابن مريم وأمّه آية.. لبنى إسرائيل لعلهم يهتدون، وذلك أن عيسى عليه السلام هو رسول إلى بنى إسرائيل، وآية من آيات الله فيهم.. وتلك الآيات القاهرة المتتابعة، هى مظاهرة لحجة الله على هؤلاء القوم، حتى إذا لم يستجيبوا لها، كان العذاب الواقع بهم أضعافا مضاعفة، لما يحلّ بغيرهم من عباد الله.
وفى الإشارة إلى عيسى عليه السلام بقوله تعالى: «ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى النسب الصحيح له.. وهو أنه ابن أمّه مريم.. وليس ابن إله كما يدّعى النّصارى، ولا ابن زنا كما يفترى اليهود.. «إنه ابن مريم» ! وقد اختلف فى الربوة- وهى المكان المرتفع من الأرض- التي آوى الله سبحانه وتعالى، إليها ابن مريم وأمّه.. والراجح عندنا أنها مصر.. التي جاء إليها المسيح طفلا محمولا على صدر أمه، مع زوجها يوسف النّجار.. وذلك حين أوحى الله إلى مريم أن تهرب بوليدها إلى مصر، خوفا عليه من الحاكم الرومانى، الذي طلبه ليقتله، حين سمع بمولده.. كما يحدّث بذلك إنجيل متّى.
والقرار: المكان الذي يستقرّ فيه، حيث تتوفر أسباب الحياة والاستقرار والمعين: الماء الذي يفيض من العيون.. وهذا الوصف جدير أن يكون لمصر.
الآيات: (٥١- ٦٢) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥١ الى ٦٢]
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠)
أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ».
الخطاب الموجه من الله سبحانه وتعالى إلى الرسل.. عليهم الصلاة والسلام- هو خطاب عام يشمل أتباع الرسل جميعا.. وقد خصّ الرسل بالنداء لأنهم القدوة والمثل للأنسانية كلها عامة، ولأقوامهم خاصة.
وقدّم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، لأنه ثمرة الأعمال الصالحة، فلا يتحرّى الأكل من الطيب إلا من أقام نفسه على الأعمال الصالحة وأخذها بها.
ولأن الأكل، وما يتصل به، هو مدار حياة الإنسان، وكل سعيه وعمله يكاد يكون دائرا فى مجاله- كان الإلفات إليه ألزم وأولى، لأنه هو الذي يجسّم العمل، ويصوّره، وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته، إن كان صالحا أو غير صالح.
- وفى قوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير من مراقبة الله، وعلمه بما يقع من الناس من أعمال، وبما تتصف به هذه الأعمال من صلاح أو فساد.
- وقوله تعالى: «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» - هو دعوة إلى الإخاء الإنسانىّ، وإلى إزالة هذه السدود التي تعزل المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض.. فما هذه الأصباغ والألوان التي تصبغ الناس، من معتقدات دينية، لا ينبغى أن تقوم حجازا بين الناس، وخاصة إذا كانوا جميعا يتجهون.
قوله تعالى:
«فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».
هو إنكار على الناس هذا التقاطع والتدابر الذي بينهم، وقد كان الأولى بهم، وهم إخوة أبناء ذكر وأنثى، وهم مربوبون لربّ واحد أن يكون أمرهم واحدا.. ولكنهم تنكبوا هذا الطريق، فتنازعوا أمرهم بينهم، وتقطعوه قطعا، وذهب كل فريق منهم بجزء منه، فرحا بما ذهب به، ظانّا أنه أخذ الخير كلّه، على حين أنه أخذ القليل وفاته الكثير.
- وفى قوله تعالى: «فَتَقَطَّعُوا» بدلا من قوله «فقطعوا» الذي يقتضيه ظاهر النظم إشارة إلى أنهم هم الذين تقطعوا، لا أن الأمر هو الذي تقطع..
وذلك أنهم بهذا الخلاف الذي وقع بينهم، قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، فكان بينهم الصراع والقتال..
والزّبر: القطع، جمع «زبرة» وهى القطعة من الشيء.. كما فى قوله تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» (٩٦: الكهف) قوله تعالى:
«فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ».
الأمر هنا، هو أمر مطلق، لكل ناصح ومرشد، لهؤلاء الضالّين، المختلفين على الحق.
وذلك إلى أن تقرعهم القارعة، التي تذهب بهذا الخمار الذي لذّلهم النوم فى ظله المعتم الكثيف! قوله تعالى:
«أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ».
المفعول الثاني للفعل يحسبون محذوف، دلّ عليه المقام..
والتقدير أيحسبون هذا الذي نمدّهم به من مال وبنين، إكراما، وإحسانا منّا إليهم؟ كلا، وإنما «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لنفتنهم فيما نمدهم به، كما يقول تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» (١٣١: طه).
- وقوله تعالى: «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» - إشارة إلى أنهم لا يشعرون بهذا الابتلاء، وأنهم يحسبون ذلك خيرا لهم، كما يقول تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (١٨٠: آل عمران).
هذا، ويمكن أن يكون قوله تعالى: «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» هو المفعول الثاني للفعل يحسبون.. ويكون المعنى: «أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين مسارعة لهم منا بالخيرات؟ كلا.. إنه فتنة لهم.. ولكن لا يشعرون» لما استولى عليهم من سكرة بهذا الذي هم فيه من نعيم..
«إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ»..
فى هذه الآيات عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون فى الخيرات حقا، ويملئون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب فى الدنيا والآخرة..
وهؤلاء هم على صفات تؤهلهم لهذا المقام الكريم:
فهم (أولا) من خشية ربهم، وخوفهم من بأسه- على إشفاق دائم، من أن يعصوه، وأن يفعلوا منكرا.. «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ»..
وهم (ثانيا) بآيات ربهم يؤمنون، ويعملون بهذه الآيات، ويهتدون بهديها.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» ثم هم (ثالثا) قد خلت نفوسهم من كلّ أثر من الشرك بالله.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» ثم هم (رابعا) على خشية ومراقبة دائمة لله.. حتى أنهم وهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات، لا تزايلهم الخشية ولا يبارحهم الخوف من الله، ومن أنهم على تقصير فى حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء..
«وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» ويستعمل الإيتاء غالبا فى فعل الخير مثل قوله تعالى: «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» وقوله تعالى: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» وقوله سبحانه: «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا»..
وقد جاءت الآية هنا بلفظ «الإيتاء».. «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ»..
وفى قراءة مشهورة: «والذين يأتون ما أتوا».. ويقال لها قراءة النبىّ..
وعلى هذه القراءة يكون المعنى: والذين يفعلون المنكر، وهم على خوف وخشية من ربهم. فإنهم بهذا الخوف وتلك الخشية أهل لأن يكونوا فى هذه الأصناف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى من أصناف المؤمنين.. إذ أن ما فى قلوبهم من وجل من لقاء ربّهم وهم على المنكر- سينتهى بهم يوما إلى النزوع عن المنكر، والوقوف عند حدود الله..
وقد يبدو فى ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا..
فمثلا.. الإيمان بآيات الله.. ينبغى أن يسبق الخشية من الله، وكذلك عدم الشرك بالله، وهو سابق للخشية من الله، حيث لا تكون الخشية لله إلا من قلب مؤمن بالله، وبآيات الله.. وإنه لا بد لهذا من سر.. فما هو؟
الجواب- والله أعلم- أن هذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها فى قلب المؤمن بالله، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من الله، وبعضهم يؤمن بآيات الله، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من الله فى قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود الله، ويقرّ بوحدانيته إقرارا عقليّا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا يتلقون عن الرّسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات الله.. وبعضهم يؤمن بالله، وبآيات الله، وبرسل
فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم فى كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح فى حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور الله، وإذا هو- شيئا فشيئا- على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» (٢٠١: الأعراف) وهذه الأصناف من المؤمنين- على قربها أو بعدها من الإحسان- يشدّها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان بالله.. وحيث يكون الإيمان بالله، فإنه يكون الأمل والرجاء فى السلامة والنجاة، وحيث يتعرّى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء فى سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين..
قوله تعالى:
«أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ»..
أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، أو تحقق فيهم بعضها دون بعض- هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا فى صحبة الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي يقيم فى كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء..
وحين عرض على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إسلامهم هذا، قبله منهم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: «سيتصدقون ويجاهدون فى سبيل الله إذا أسلموا»..
قوله تعالى:
«وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ..»
هو تطمين لقلوب هؤلاء المؤمنين، الذين ملأت الخشية قلوبهم، واستولى الخوف من الله عليهم، حتى لقد كاد ذلك يكون وسواسا دائما يعيش معهم.. فجاء قوله تعالى:
«وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» ليخفف عن المؤمنين بالله هذا الشعور الضاغط عليهم، وليريهم من رحمة الله ما تقرّ به عيونهم، وتطمئن به قلوبهم، وذلك لأن الله سبحانه: «لا يكلف نفسا إلا وسعها» وحسب المؤمن بالله أن يأتى من الطاعات ما تتسع له نفسه، ويحتمله جهده.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (١٦: التغابن).
وقوله تعالى: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ».. المراد بالكتاب هنا، هو الكتاب الذي تسجّل فيه الأعمال، لكل عامل فى هذه الدنيا، من حسن أو سىء.. كما يقول سبحانه: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ
(٢٩: الجاثية) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (١٣:
الإسراء).
فكل ما يعمله الإنسان، مسطور فى هذا الكتاب، ناطق بكل صغيرة وكبيرة.. دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
فليكتب الإنسان فى كتابه هذا ما يحبّ أن يراه، ويسعد به.
ولا تكتب فى كتابك غير شىء يسرّك فى القيامة أن تراه
الآيات: (٦٣- ٧٤) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٣ الى ٧٤]
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤)
قوله تعالى:
«بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ»..
الضمير فى قلوبهم، يراد به المشركون من أهل مكة، ومن حولها.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر فيما سبق من آيات، فإنهم- فى الواقع- مذكورون فى كل آية، إذ كان هذا القرآن كلّه هو كتابهم، وهو رسالة رسول الله فيهم.
- فقوله تعالى: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» هو نخسة موجعة لهؤلاء المشركين الذين يستمعون إلى هذه الآيات، وكأنها لا تعنيهم، ولا تتحدّث إليهم.. على حين أنها إنما هى مسوقة لهم، أولا، ثم هى للناس جميعا، بعد هذا..
والإشارة «هذا» مشاربها إلى هذا الحديث الذي تحدثت به الآيات السابقة، عن الذين يؤمنون بالله، ويخشونه، ويشفقون من لقائه..
فالمشركون قلوبهم «فى غمرة»، أي فى شغل، وغفلة وضلال، عن هذا الحديث وما يحمل إليهم من عظات.
وخصت القلوب، لأنها موطن المشاعر فى الإنسان، ومستقرّ المعتقدات الصالحة أو الفاسدة.
وقوله تعالى: «وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ.. هُمْ لَها عامِلُونَ» أي أن لهؤلاء المشركين الغافلين عن هذا الحديث، مشغلا بأمور أخرى، فى مستوى غير هذا
- وفى قوله تعالى: «هُمْ لَها عامِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين، الذين يؤدون هذه الأعمال ويحتشدون لها، ويضيعون أوقاتهم وأعمارهم فيها.. على حين أنّها عبث ولغو، ولعب أشبه بلعب الأطفال! فهم وهذه الأعمال على سواء.. هى أعمال تافهة، يأتيها أناس تافهون! قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ».
الجأر، والجؤار: الصراخ.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين الغافلين عن آيات الله، المشغولين بهذا العبث الذي هم فيه مع معبوداتهم- سيظلون على ما هم فيه من غفلة، حتى إذا جاء وقت الحساب والجزاء، وسيقوا إلى جهنم- فزعوا، وعلا صياحهم، وارتفع صراخهم، من هذا الهول الذي هم فيه..
وفى اختصاص المترفين من المشركين بالذكر، عرض لأبرز مثل فيهم، وهم المنعمون من المشركين، أصحاب المال، والجاه.. فهؤلاء إذا أخذوا، وفعل بهم هذا البلاء، ولم يغن عنهم ما لهم ولم يشفع لهم جاههم- كان غيرهم ممن لا مال له ولا جاه، أشدّ خوفا من لقاء هذا العذاب، الذي ينتظره، وقد سبقه
قوله تعالى:
«لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ».
هذا هو الردّ على هذا الصراخ، الذي يتعاوى به المترفون من المشركين، وهم فى العذاب المهين.. «لا تَجْأَرُوا» فإنه لا فائدة ترجى من وراء هذا الصّراخ.. إنه لا يسمع أحد لكم، ولا يخفّ أحد لنجدتكم.. «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ».. فليس لأحد قدرة على أن يدفع عنكم هذا العذاب الذي حكم الله به عليكم..
قوله تعالى:
«قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ».
أي لا تلوموا إلا أنفسكم، فقد كانت النجاة من هذا البلاء بين أيديكم، لو أنكم استمعتم إلى آياتي وآمنتم بها. ولكنكم كنتم إذا وقع إلى آذانكم شىء منها نفرتم كما ينفر الحيوان الوحشىّ حين يرى وجه إنسان.. فرجعتم على أعقابكم، فى حركة منكوسة، وعيونكم إلى مصدر هذا الصوت الذي يسمعكم ما سمعتم من آيات الله، تنظرون إليه فى حذر وخوف، كما ينظر العدو إلى عدوه..!
بل وأكثر من هذا.. فإنكم كنتم تتخذون مما تسمعون من آيات الله، مادة للسّمر فى أنديتكم، ومجالا للسخرية والاستهزاء بها فيما بينكم.. «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.. سامِراً تَهْجُرُونَ»..
أي أنكم لاستكباركم تلقون ما تسمعون من آيات الله، باستهزاء وسخرية..
فهى سخرية المستكبر، واستهزاء المتعالي..
«والسامر» مجتمع القوم للسمر.
ونصب «سامِراً» على أنه مفعول له.. أي لأجل السامر تهجرون مجلس الاستماع إلى القرآن.. «سامِراً تَهْجُرُونَ».. لأن السامر يحمل معنى السّمر، وسمر القوم هو عبث ولهو، فكأن المعنى: لهوا ولعبا تهجرون الاستماع إلى كلام الله.. والجملة حال أخرى- من فاعل «تَنْكِصُونَ».. ويجوز أن يكون «تَهْجُرُونَ» من الهجر، وهو الفحش فى القول.. ويكون «سامِراً» منصوبا على الحال من الضمير المستكن فى «مُسْتَكْبِرِينَ» ويكون السامر بمعنى الاجتماع..
وجملة «تهجرون» حال من الضمير فى السامر بمعنى الاجتماع..
بمعنى أنكم كنتم تنكصون على أعقابكم عند الاستماع إلى آيات الله، وقد اشتملت عليكم أكثر من حال.. إذ تنكصون.. مستهزئين، سامرين، متفحشين..
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ».
لقد ترك القوم المشركون يصرخون ويتعاوون فى جهنم، بعد أن أجيب على صراخهم وجؤارهم بهذا التقريع العنيف.. «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ».
ثم كان لمن يرون هذا المشهد الذي تنخلع له القلوب، وما يعانى المشركون
وكان من تساؤلات السائلين، ما ذكره القرآن الكريم هنا:
- «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؟».
أن ألأنهم لم يحسنوا الاستماع، والنظر، والتدبر فيما جاءهم به الرسول- لم يعرفوا وجه الحق، ولم يروا الطريق إلى الله على ضوء هذا النور الذي بين يدى الرسول- ومن أجل هذا ظلوا فى ضلالهم وشركهم، فكانت جهنم مأواهم. والعذاب جزاؤهم.. أهذا لهذا؟ قد يكون! - «أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟».
أي ألأنهم لم يدّبروا القول فضلّوا؟ أم لأن هذا الذي جاءهم به رسول الله، هو شىء غريب لم يكن لآبائهم شىء منه؟.. فهم لهذا ينكرونه، وينكرون ما معه، لأنهم مأسورون فى قيد ما ورثوا عن آبائهم من عادات وتقاليد.. ؟
أهذا لهذا؟ قد يكون!.
- «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ.. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟».
أي أهذا، أم أن الرسول الذي جاءهم غير معروف عندهم بنسبه، وباسمه، وبصفته- فهم لهذا ينكرونه، وينكرون مقامه فيهم، ويرمونه بما لم يعرفوا منه من سحر أو شعر أو جنون؟.
- «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؟» أي أهذا الذي حجزهم عن اتباع الرسول.. أم هو هذا الرأى الذي رأوه فيه، وأنه مجنون، يخاطب عقلاء، وما كان للعقلاء أن يستجيبوا لدعوة مجنون؟
قد يكون!
والثاني، يتهمهم بأنهم أسرى التقليد الأعمى، وأنهم لا يخرجون من هذا الأسر ولو ماتوا فيه اختناقا بهذا الهواء الفاسد الذي يتنفسون فيه، دون أن يفتحوا نافذة تملأ عيونهم نورا، وصدورهم هواء نقيا، منعشا! إن من تهم الرسول عندهم أنه جاءهم بما لم يعرفه آباؤهم الأولون، حيث لم يأتهم من قبل رسول من عند الله، كما أتى الأمم الأخرى..
وفى هذا يقول الله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (٤٦: القصص).
ويقول سبحانه: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (٦: يس).
والقوم فى هذا الموقف مهددون بالفناء، إذ قيدوا أنفسهم بهذا القيد الثقيل ووقفوا حيث يقف آباؤهم منذ زمن بعيد.. فهم، والأمر كذلك، يأخذون من الحياة موقفا واحدا لا يتحولون عنه.. والحياة متحركة متحولة.. ومن شأن كل حىّ أن يأخذ مكانه فى دورة الفلك، وأن يعيش الليل ليلا والنهار نهارا، والصيف صيفا، والشتاء شتاء.. وإلا هلك..
فكيف ينكر القوم على الحياة أن تأتيهم بجديد لم يأت آباءهم الأولين؟
إن الحياة ولود لكل جديد فى كل زمان ومكان.. وأنه إذا كان للإنسان أن يتوقف أمام كل جديد، فإن من السفاهة والحمق أن يرفضه ابتداء بحكم أنه جديد، دون أن يعرضه على عقله، وينظر فيما يمكن أن يكون فيه من خير ونفع.
والتساؤل الثالث، ينكر على القوم هذه التهم التي يرمون بها الرّسول،
فهم يقولون فى الرسول.. إنه مجنون.. وإنه شاعر.. وإنه ساحر.. وإنه كذاب مفتر- يقولون هذا، وهم على معرفة كاملة بالرسول، من مولده، ومن قبل مولده، إلى أن جاءهم برسالة ربه.. فما عرفوا فيه شيئا مما يتهمونه به زورا وبهتانا.. بل لقد عرفوه العاقل الرشيد، والصادق الأمين، والطاهر العفّ.. وأنه كان فى صباه يتحلّى بأحسن ما يتحلّى به الرجال، من حكمة ورويّة، ورشاد.. وأنه ما كذب قط، ولا قال هجرا قط، ولا نطق بشعر أبدا، ولا طاف بصنم أبدا..
أما قولهم عن الرسول: «بِهِ جِنَّةٌ» فهو أشنع تهمة يتهم بها القوم فى تفكيرهم، وتقديرهم..
وقد يكون سائغا منهم أنهم لم يتدبروا القول، فكثير من الناس لا يتدبرون القول، ولا يحسنون الفهم..!
وقد يكون مقبولا أيضا أن يحمدوا على ما هم عليه من عادات موروثة..
فإن كثيرا من الناس يعيشون فى عادات وتقاليد، كما تعيش الحيوانات الرّخوة فى أصدافها وقواقعها..!
وقد يمكن أن يساغ- ولو بمرارة ووقاحة- إنكار الحقائق الثابتة، والتعامي عن الواقع المحسوس..!
فكثير من الناس يكابرون فى الحق، ويمارون فى الواقع، ولا تعلو وجوههم صفرة الخجل، ولا تندى جباههم بقطرة حياء! أما الذي لا تتسع له المكابرة، ولا يحتمله التبجّح، فهو الكذب الصّراح،
فإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه شاعر.. فأين هو الوجه الذي يقبل به هذا القول عند من يريدون قبوله منه؟ وقد يكون لهذا الكذب مدخل إلى بعض العقول لو أنهم اصطنعوا شعرا ثم نسبوه إلى النبىّ. فيكون أمرا محتملا للنظر والجدل.. وقد يأخذ به البعض من غير بحث أو نظر..! ولكنهم لم يفعلوا ولم ينتحلوا للنبىّ شعرا، بل قالوا عنه إنه شاعر، دون أن يأتوا على هذا القول بشاهد من مفترياتهم وأكاذيبهم.. وهذا معجزة من معجزات الرسول الكريم..
وإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه مجنون.. أو به جنّة.. فقد كان عليهم لكى يغطّوا وجه هذا الكذب بشىء من التمويه- أن يقيموا شهودا من الزور يشهدون بأنهم رأوا من النبىّ كذا، وكذا، من هذيان المجانين..
ولكنهم لم يفعلوا..
نعم، إنهم لم يفعلوا هذا، أو ذاك، وما كان فى استطاعتهم أن يفعلوا..
إذ كان أمر النبىّ فيما اتهموه به، أبعد من أن يدخل عليه زيف، أو تعلق به شائبة من تمويه..
وهذا من معجزات الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والتي هى بعض ما عصمه الله سبحانه وتعالى به من الناس، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ».. وإنها لعصمة تحفظ- فيما تحفظ- ذاته ومشخصاته، وصفاته، من أن يعلق بسمائها الصافية المشرقة شىء من هذا الغبار الذي تثيره أفواه النافحين فى الجبال الراسيات.
«بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» هو الردّ السماوىّ، على كل ما اتهم به المشركون النبىّ فى شخصه، وفى الكتاب الذي معه..
فالرسول صادق أمين، والذي جاء به هو الحقّ من ربّ العالمين..
وإنهم ليعرفون أنه الحقّ من ربّ العالمين.. وإنهم ليعرفون أنه الحقّ، ولكن أكثرهم كارهون لهذا الحقّ، ومن ثمّ كان منهم هذا العمى عنه، وهذا الإنكار له، وهذا الرمي الأحمق الطائش، الذي لا يصيب إلا الرماة فى مقاتلهم! قوله تعالى:
«وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ».
أي هؤلاء المشركون، إذ يكرهون الحق، ويكرهون التعامل به، فإنهم يتعاملون بما تمليه عليهم أهواؤهم من سفاهات وضلالات..
والحقّ، هو مركز الدائرة الذي يدور عليه هذا الوجود، وهو النظام الممسك بكل ذرة من ذراته..
وإن الحقّ هو هذه السنن الكونية التي قام عليها نظام كل موجود.
إنه الأسباب والمسببات.. وإن أي خروج على الأسباب يفضى إلى فساد المسببات واضطرابها..
وإن ما يمسك به العلم والعلماء من أسرار الكون، هو الحقّ الذي إن
فالحق، هو هذا المحيط العام الذي تصب فيه روافد الحقائق التي يقوم عليها نظام الوجود، والموجودات جميعا..
- وفى قوله تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ».
إشارة إلى أن أىّ اختلال يدخل على الحق، فى أي موقع من مواقعه، وفى أي ذرة من ذرات الوجود كله، من شأنه أن يفسد نظام هذا الوجود فى أرضه وسمائه، وفيما فى أرضه وسمائه..
ذلك أن الحق- كما قلنا- كيان واحد.. إنه أسباب ومسببات يأخذ بعضها برقاب بعض.. من الذرة إلى النجوم والكواكب.. فكل سبب يقوم على سبب، ويقوم عليه سبب، وهكذا فى سلسلة متصلة الحلقات، وقطع أي حلقة، هو قطع لهذا الشريان، الذي يغذى كيان الحق، ويحكم نسجه..
فلو أنه دخل على الحق، بعض ما فى نفوس هؤلاء المشركين من هوى وضلال، ثم صار هذا الهوى قوة عاملة فى الوجود، لأدخل الخلل على نظام الوجود كله، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن!! قوله تعالى:
- «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ».
أي أن الحق لم يتبع أهواء هؤلاء المشركين، ولم يجئهم الرسول بما تشتهى أنفسهم، بل جاءهم بالحق، الذي فيه ذكرهم.. أي رفع قدرهم، وعلوّ إنسانيتهم، لو أنهم اتبعوه، واستقاموا عليه..
قوله تعالى:
«أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».
الخرج: الأجر، وهو فى الأصل ما يخرج من الأرض من ثمرات، ومنه الخراج..
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبما ركبهم من سفه وجهل.. إن الخير الذي يبذل لهم، وثوب المجد الذي ينسج ليتحلّوا به- إنما يقدم لهم من غير ثمن، ومع هذا فهم يرفضونه، ويأبون إلا أن يمشوا فى الناس عراة مهازيل! قوله تعالى:
«وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو تأكيد لهذا الخير الذي يحمل إلى هؤلاء المشركين، على يد الرسول الكريم.. إنهم إنما يدعون بهذا الكتاب الذي يحمله الرسول إليهم- إلى صراط مستقيم، إذا هم ساروا عليه أمنوا الزّلل والعثار، وانتهوا به إلى غايات العزة، والسيادة، والفلاح.. فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بأنهم إذا هم لم يسيروا على هذا الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن أمامهم إلا طرق الضلال، يركبونها إلى حيث تهوى بهم فى قرار الجحيم.
والصراط هنا، هو الصراط الأخروى، الذي يصل بالمؤمنين إلى الجنة،
وهو صراط الله المستقيم على الهدى، والقائم على الحق! والناكب: هو المتنكب، الذي يعدل عن الطريق المستقيم، إلى المتاهات المضلّة، التي لا يرجى للسائر عليها نجاة..
الآيات: (٧٥- ٩٢) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٧٥ الى ٩٢]
وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢)
قوله تعالى:
«وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».
المتحدّث عنهم هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن موقفهم من الهدى، ومقولاتهم فى النبي الذي يخاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
فهؤلاء المشركون، لا يزيدهم الهدى، إلا ضلالا، ولا النور، إلا عمى، ولا الإنعام والإحسان، إلا طغيانا، وكفرا..
فلو أن الله سبحانه وتعالى رحمهم، وكشف ما بهم من ضر، فأحال هذا الجدب الذي هم فيه خصبا، وجعل الصحارى التي تشتمل عليهم، جنات، وفجّر فيها أنهارا- لما شكروا لله، ولما استجابوا لداعى الحق الذي يدعوهم.. بل زادهم ذلك ضلالا وبعدا عن الحق.. وعدوانا على الرسول الذي يدعوهم إلى الله..
واللجّ، واللجاج: التخبط على غير هدى.
والعمه: عمى البصيرة، وضلال العقل..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ»
وهذا مثل قوله تعالى فى فرعون: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (١٣٠: الأعراف) وقد جاء الإخبار عن هذا الذي نزل بالقوم من بلاء، بصيغة الماضي. على حين أنه لم يكن قد وقع بعد، وذلك لتحقق وقوعه مستقبلا، فهو من أنباء الغيب التي جاء القرآن الكريم بكثير منها..
ويجوز أن يكون هذا إخبارا عما كان ينزل بهم من حوائج ومجاعات، قبل البعثة النبوية، ويكون هذا الخبر عنهم، مرادا به الكشف عن جفاء طباعهم، وغلظ مشاعرهم، وأنهم أشبه بالجماد، لا يتأثرون بالخير أو الشر..
قوله تعالى:
«حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ».
وهكذا يظل القوم على ما هم فيه من ضلال، وكفر، وعناد، لا يصلح من فسادهم تأديب بالخير أو الشر، ولا يقوّم معوجّهم إحسان أو إساءة.. حتى يموتوا بدائهم هذا، الذي لا شفاء له إلّا عذاب السعير..
والإبلاس: الوجوم، والجمود، وسكون الحركات، وخمود المشاعر..
من الهول وشدة البلاء..
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ».
وأعظم هذه النعم وأكرمها، السمع والبصر، والفؤاد، وهو القلب..
إذ أن هذه الجوارح هى التي تجعل الإنسان إنسانا، إذا هو انتفع بها، ووجهها الوجهة الصالحة، حين يرد بها موارد الخير، ويلقى بها فى محيط الوجود، فتجىء إليه بكل صيد ثمين طيب! وفى هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم الآية: «أَنْشَأَكُمْ.. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ.. وَالْأَبْصارَ.. وَالْأَفْئِدَةَ» - ما يحدّث عن كثير من الأسرار..
فأولا: قدّم الإنشاء، وهو الخلق العام للإنسان، على إيجاد السمع والبصر، الفؤاد.. إذ أن الوجود الإنسانى مقدم على ظهور هذه الحواس فيه..
وثانيا: قدم السمع على البصر.. لأن حاسة السمع تسبق حاسة الإبصار عند مولد الطفل، كما ثبت ذلك بالملاحظة.
وثالثا: قدم السمع والبصر على الفؤاد، وهو العقل، لأنه لا يكون للإنسان إدراك أو تمييز إلا بعد أن تعمل حواس الإنسان كلها، وتؤدى وظائفها، وتتوثق الصلات بينها وبين خلايا المخ.. ومن هنا يبدأ الإدراك والتمييز ويتخلّق فى الإنسان العقل أو الفؤاد، الذي ينمو شيئا فشيئا، حتى ينضج ويكتمل..
- وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» هو خطاب للناس عامة، وأن قليلا منهم هم الذين يعرفون نعمة الله عليهم ثم يشكرونها.. أما كثرتهم الغالبة فهم فى غفلة عن هذه النعم، وفى شرود عن المنعم بها، وعن القيام بواجب الحمد والشكر.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (١٣: سبأ).
«وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».
الذرء: الخلق، والإيجاد والحشر: الجمع، والحشد.
وهذه نعمة أخرى.. الخلق والإيجاد من عدم، ثم الموت، ثم البعث والنشور، والرجعة إلى الله سبحانه وتعالى، للحساب وللجزاء..
فالوجود نعمة، لأنه خير من العدم.. والحشر بعد الموت، نعمة أخرى، لأنه حياة جديدة، لا موت بعدها، ووضع لكل نفس فى مكانها الذي أعدّ لها، فى الجنة أو فى النّار..
وإذا كانت النار شقاء على أهلها، وبلاء- نعوذ بالله منها- فإنها مطهرة للنفوس الدنسة، وصفل لمعدنها الصّدئ، وشفاء لأمراضها الخبيثة! قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» هو دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب إلى بعض الناس من وجود الموت، والشك فى عدّه نعمة من بين النعم المذكورة فى هذه الآيات..
فالموت دورة من دورات الوجود الإنسانى، ووجه مقابل للحياة، مقابلة الليل للنهار.. فالحياة يقابلها الموت، والنهار يعقبه الليل.. تلك هى سنة الله فى الحياة الدنيا، كل شىء فيها يقابله ضدّه، كى يثبت وجوده، ويحقق ذاته..
وهذا أمر لا يدرك سرّه، ولا يعرف حقيقته، إلا أصحاب العقول، الذين يستعملون عقولهم..
قوله تعالى:
«بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ»..
فهذا الإنسان الذي كان يملأ الدنيا حركة وسعيا، ثم تضمّه الأرض فى بطنها، ويدسّه التراب فى كيانه.. ليس بالشيء البعيد المستغرب- والشواهد ماثلة- أن يخرج من بين أحشاء هذا التراب إنسانا، كهذا الإنسان الذي كان! قوله تعالى:
«لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
هو تأكيد لقولهم الباطل الذي قالوه عن إمكان البعث.. وأن هذا البعث قد وعد به آباؤهم من قبل.. وها هم أولاء ما زالوا ترابا هامدا.. ثم إن هؤلاء يوعدون به.. وسيكونون بعضا من هذا التراب الهامد، مع آبائهم..
فما هذا الوعد عندهم، وحسب تطورهم، إلا من الخرافات والأساطير التي تعيش فى الناس من زمن بعيد ولا محصّل لها أبدا.
«قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ».
هذا سؤال، لا يجيب عليه الإجابة الصحيحة إلا من عقل وعلم..
لمن هذه الأرض ومن فيها، من عوالم ومخلوقات؟
جواب واحد عند أهل الدراية والعلم.. إنها لله..
وقد ألزمهم الله سبحانه وتعالى حجّة أهل العلم.. فإن لم يكونوا عالمين، كان عليهم أن يأخذوا بقول العالمين.. وإلا فإى الناس هم؟ إنهم ليسوا علماء، وليسوا بالمنتفعين بعلم العلماء.. والأعمى إذا لم يسلم يده للمبصر..
تخبط، وضلّ وهلك.. وإذن فهم فى الهالكين، إذا لم ينزلوا على هذا الحكم الملزم، ولم يأخذوا به..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ! قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟» وسؤال آخر.. يحتاج إلى نظر أوسع، وعلم أكثر! من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم؟.
إنهم لمحجوجون بقول أهل الدراية والمعرفة.. إنها جميعا لله.. هكذا يقرر أهل الدراية والعلم.
فليقولوا هذا.. وإنهم إن لم يقولوه اختيارا قالوه اضطرارا.
وإنهم إذا سلموا بهذا- ولا بد من التسليم به- فلم لا يتقون الله؟ ولم لا يخشون بأسه، وهو المالك المتصرف فى هذا الوجود كله.. لا شريك له؟
«قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟» وسؤال ثالث.. لا بدّ أن يسلم به من سلم بالسؤالين السابقين.. وإن كان أشمل منهما، وأوسع مدى.
«مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» ؟ أي من بيده ملك كل شىء وتصرفه فيه.. ؟ «وَهُوَ يُجِيرُ» أي يحمى، ويحفظ «وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» : ولا سلطان لأحد يدفع بأسه، ويكشف ضرّه.. من هذا، ولمن هذا؟
جواب واحد.. هو الله ربّ العالمين.. وهو لله ربّ العالمين.
ونتيجة واحدة: الاستسلام لله، والولاء لله.
«فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي فكيف تذهلون عن هذا، وتستسلمون لغير الله، وتعطون ولاءكم لما تشركون به من دونه؟ أسحركم ساحر فأخذ على عقولكم، وأضلّكم عن الله، وأعماكم عن الحق؟ وهذا الخطاب جار على ما هو فى أوهام القوم من أن هناك قوى تسحر الناس، وتفسد عقولهم، كما كانوا يقولون عن النبىّ، إنه ساحر! قوله تعالى:
«بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ».
هو تعقيب عام، على هذه الأسئلة، وأجوبتها.
إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم الجواب الحقّ عليها، ولكنهم يجيبون عليها كذبا وبهتانا.. وإنهم إذ ينطقهم الحقّ بتلك الأجوبة، ويقهرهم سلطانه قهرا عليها، فإنهم لا يأخذون بما نطقت به ألسنتهم، ولا ينزلونه منزلة الاعتقاد من قلوبهم.
«مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».
هذا هو ملاك الأمر كلّه، ومدار القضية، وأصل البحث، وهذا ما كان ينبغى أن يقرّ به أولئك المشركون، بعد أن ألقيت إليهم تلك الأسئلة، محملة بالأجوبة الصحيحة عليها..
إنه لا شريك لله.. من صاحبة أو ولد، وإنه لا إله معه.. وأنه لو كان معه إله آخر لشاركه هذا الملك، ونازعه هذا السلطان، واستبدّ بالتصريف فيما يملك منه.. ولكان لكلّ منهما أن يفعل ما يشاء.. وهذا من شأنه أن يذهب بنظام الوجود، ويفسد الوضع القائم عليه، حيث لا تلتقى إرادتهما، ولا تتفق مشيئتهما..
إن الجسد الإنسانى، لا يقوم عليه إلا سلطان واحد، هو القلب، ولو أنه كان هناك قلبان فى جسد واحد، لا ختل نظام الجسد، وانحلت روابطه، ولما تنفّس هذا الجسد نفسا واحدا.
والكون.. هو جسد كبير.. يحكمه نظام، ويقوم عليه سلطان..
وهيهات أن يحكم بنظامين، أو ينتظم أمره بسلطانين! «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ»..
وتنزهت ذاته عن أن يكون كما يصفه الضالون، بنسبة الولد، أو الشريك إليه، فتعالى، سبحانه، عما يشرك به المشركون: من آلهة وأشباه آلهة.
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧)
قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١)
قوله تعالى:
«قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
هو التفات إلى النبىّ الكريم، بعد هذا العرض المبسوط لوجوه المشركين، وما يدور فى أفكارهم من سخافات، وما تنطق به ألسنتهم من سفاهات، وما تنعقد عليه قلوبهم من شرك وضلال.
وفى هذا الالتفات يدعو الله سبحانه نبيّه، أن يطلب إلى ربه ألا يكون بمشهد من هؤلاء المشركين حين يحلّ بهم بأس الله، ويقع عليهم عذابه.
وفى هذا إشارة إلى شدّة هذا البلاء وقسوته، وأنه مما لا تحتمل النفس رؤيته بالعين، فكيف حال المبتلى به، الذي يتجرع كئوس عذابه؟
ثم إن هذا- من جهة أخرى- تهديد للمشركين بالعذاب الأليم، والبلاء العظيم، الذي يدعو الله أولياءه إلى أن يتضرعوا إليه، طالبين الفرار منه، قبل أن يقع، حتى لا يشهدوه بأعينهم.
ولا شك أن هذا دعاء مجاب مقدّما من قبل أن يدعو به النبي، لأن الله سبحانه هو الذي أمره بهذا الدعاء، وهو سبحانه الذي بيده إجابته.. وهذا يكشف لنا عن الارتباط بين الأسباب والمسببات.. وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب لكل أمر يريده.. وقد دل الله عباده على الأسباب، وأمرهم بالأخذ بها، وأن يدعوا المسببات لله وحده، والله يفعل ما يريد.
وأصل النظم هكذا: «ربّ إن ترينى ما يوعدون فلا تجعلنى فى القوم الظالمين».. وقد جاء النظم القرآنى على ما ترى من فخامة ودوىّ ينبعثان من الحرف «ما» باتصاله بأن الشرطية.. «إما»، وفى هذا تهويل للعذاب
قوله تعالى:
«وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ».
هو تطمين للنبىّ بأن الله قد أعدّ للقوم الهزيمة والخزي على يديه، وأن ذلك موقوت بوقته، وأنه حاضر فى علم الله، ولو شاء سبحانه أن يطلع النبي لرأى بعينه مسيرة هذا الصراع، بينه وبين قومه، خطوة خطوة.. حتى يجىء نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا.
قوله تعالى:
«ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ».
وإذا كانت خاتمة النبي هى النصر على هؤلاء المتطاولين عليه، المعاندين له، فإن ذلك يهوّن كثيرا من الأذى الذي يلقاه منهم، حيث يكون بصره متعلقا بيوم النصر الموعود، غير ملتفت إلى ما يصادفه على يومه من مشقّة وعناء.
ومن هنا، كانت دعوة النبي إلى لقاء إساءات قومه بالإحسان دعوة تلتقى مع مشاعره، التي استروحت أنسام الرضاء فى ظل هذا الموعد الكريم بالنصر المبين لدعوته، وطلوع شمسها على كل أفق.. فإن كل صعب يهون، وكل بلاء محتمل، إذا كانت العاقبة نجاحا، ونصرا محققا.
وفى قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» تهديد للمشركين، الذين
فليفعلوا ما يحلو لهم، والله سبحانه عالم بما يفعلون، ومحاسبهم عليه..
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ».
همزات الشياطين: وساوسها، ونخسلتها التي تنخس بها فى صدور الناس..
وكما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، أن يدعو ربه، بأن يقيه شر الناس، ويباعد بينه وبين القوم الظالمين- أمره سبحانه أن يستعيذ به من وساوس الشياطين، وما يزينون به للناس من منكرات، وأن يباعد بينه وبينهم، فلا يلمّون به، ولا يحضرونه فى أي حال من أحواله، خاليا، أو مع الناس..
وهذه الاستعاذة من الشيطان، هى إلفات للمسلمين إلى هذا العدو المتربص بهم، والذي هو شر خالص، لا يجىء منه إلا الشر لكل من يأنس إليه، ويطمئن له.. وإنه إذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه.. وهو فى حراسة من ربه، وفى قوة من خلقه، ودينه- إذا كان النبي يطلب الغوث والعياذ بالله من هذا العدو الراصد، فأولى بالناس- وهم على ما فيهم من ضعف- أن يستكثروا من طلب الغوث والعياذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يكونوا على ذكر دائم بأنهم مع عدو متربص بهم، ينتظر غفلتهم، لينفذ إلى ما يريد فيهم، من إغراء وإضلال..
«حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.. كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».
«حَتَّى» غاية لمحذوف دل عليه السياق، والتقدير، ولكن كثيرا من الناس، لا يأخذون حذرهم من الشيطان، ولا يستعيذون بالله منه، فيفسد عليهم دينهم، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام، ثم يظلون هكذا فى غفلتهم «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وانكشف عن عينيه الغطاء، ورأى ما قدم من منكرات «قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى دنياى، «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» ولأصلح من أمرى ما فسد، وأقيم من دينى ما اعوجّ.. ولكن هيهات.. لقد فات وقت الزرع، وهذا أوان الحصاد.. «كَلَّا.. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» أي إنها مجرد كلام يقال، لا وزن له، ولا ثمرة منه.. «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي أن هناك سدا قائما، فاصلا بين الأموات، وعالم الأحياء.. فلا سبيل لمن أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى، وذلك «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ».. حيث يزول البرزخ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر، ويصبحون جميعا فى عالم الحق..
قوله تعالى:
«فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ».
أي فإذا صار الناس إلى هذا اليوم، يوم النفخ فى الصور، للبعث، جاءوا وقد شغل كل منهم بشأنه وتقطعت بينهم الأنساب، فلا يجتمع قريب إلى قريب، ولا يلتفت صاحب إلى صاحبه..
قوله تعالى:
«فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ».
وفى هذا اليوم توضع الموازين لحساب الناس، ويرى كل ميزانه وما يوزن فيه.
- «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ». حيث لا تثقل الموازين، إلا بالأعمال الصالحة.
فتلك الأعمال الصالحة، هى التي يقام لها وزن، ويكون لها فى الميزان ثقل..
أما الأعمال السيئة فلا وزن لها، لأن هذا الميزان ميزان حق وعدل، لا يوضع فيه إلا ما كان حقا وعدلا وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (١٠٥: الكهف) وقوله سبحانه، عن أعمال الكافرين والضالين: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (٢٣: الفرقان) وفى قوله تعالى:
«تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» عرض لحال من أحوال أهل النار، وما يلقون فيها من بلاء، حيث تداعبهم النار بلهيبها، وتصفع وجوههم بلظاها، وحيث يغشاهم من ذلك همّ وكرب، وتعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ».
هو رد على جؤار المعذبين فى جهنم، وما يصطرخون به من ويل وثبور.
إنه لا مصير لكم إلا هذا.. فقد جاءكم رسولنا بآيات الله، وتلاها عليكم، ودعاكم إلى الهدى والإيمان.. فأبيتم وكذبتم. فهذا جزاؤكم، فذوقوا عذاب الخزي بما كنتم بآيات الله تكذبون..
قوله تعالى:
«قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ».
وماذا ينفع الندم، والإقرار بالذنب فى دار الحساب والجزاء؟ «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (٥٧: الروم).
قوله تعالى:
«رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ».
وفى ذلة واستخزاء، وفى لهفة وجنون، يقولون ربنا أخرجنا من هذا البلاء، وردّنا إلى الدنيا مرة أخرى، فنؤمن بك ونتبع الرسل.. فإن عدنا إلى ما كنا فيه من كفر وضلال، كنا ظالمين، فنستحق ما نلقى من عذاب وهوان! وكأنهم لم يكونوا ظالمين، وكأن عذرهم الذي اعتذروا به حين قالوا: «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» - كأن عذرهم هذا قد قبل منهم! لقد منّتهم أنفسهم تلك الأمانىّ الكاذبة.. وإنهم لأهل شر وسوء، لا يرجى
الأنعام) ولهذا جاء الردّ القاطع الزاجر: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ»..
أي انزجروا فيها، وأقيموا حيث أنتم، ولا تكلموا الله.. فإنه سبحانه لا يقبل منكم قولا، ولا يجيب لكم سؤلا.
قوله تعالى:
«إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ».
هو تعليل لما أخذهم الله به، من كبت وزجر، ولما رماهم به من عذاب اليم.
إنهم لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لرسول الله، بل كذّبوه، وبهتوه، وآذوه.. ولم يقفوا عند هذا، بل إنهم تسلطوا على المؤمنين بالله، واتخذوهم سخريّا، وجعلوا منهم مادة للضحك والعبث.. «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» (٢٩، ٣٠ المطففين).
وفى قوله تعالى: «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» إشارة إلى أن اشتغال هؤلاء المشركين الضالين بالسخرية من المؤمنين، والضحك منهم، قد ألهاهم عن ذكر الله، وصرفهم عن النظر فى آياته، والاستماع إلى كلماته.. إنهم شغلوا بغيرهم عن أنفسهم، وعن العمل لما فيه خيرهم ورشادهم.. وهذا شأن كل من يشغل بأمور الناس، ويجعلها همّه.. إنه ينسى نفسه، ويحرمها ما كان يمكن أن يسوقه إليها من سعيه وجهده.
وفى نسبة نسيانهم لذكر الله، إلى المؤمنين، مع أن المؤمنين لم يكن منهم دعوة لهم إلى نسيان ذكر الله، بل إنهم كانوا يدعونهم إلى الله، ويذكّرونهم
الآيات: (١١٢- ١١٨) [سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١١٢ الى ١١٨]
قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟.. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».
«كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ».
وفى تمييز العدد بأنه سنون، وليس أياما ولا شهورا، مع أنه فى تقديرهم يوما أو بعض يوم، كما سيكون جوابهم بعد هذا- فى هذا كشف عن تلك المفارقة البعيدة بين حسابهم فى الدنيا لحياتهم، وما لبثوا فيها من سنين، وبين حساب هذه السنين فى الآخرة..
إنها ليست شيئا بعد أن طويت صفحتها، وذهب ريحها.. «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» (٣٨: التوبة).. ولهذا كان جوابهم- حسب تقديرهم-: «يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ».! وهكذا ما يمضى من عمر الإنسان.. إنه مهما طال وامتدّ، إذا نظر إليه فى يومه، كان شيئا قليلا.. يوما أو بعض يوم.. فكيف إذا نظر الناس إلى حياتهم الدنيا، وهم بين يدى هذا الهول العظيم يوم القيامة؟ «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (٣٥: الأحقاف).
وفى قولهم: «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» ما يكشف عن سوء حالتهم، وأنهم فى ذهول لا يدرون معه من أمرهم شيئا.. فلقد ذهب الهول بعقولهم، فلا يدرون ماذا يقولون.. إنهم ليسوا أهلا لأن يسألوا، وأن يجيبوا على ما يسألون عنه..
ويجيئهم الجواب الذي تاه من عقولهم، وضلّ عن إدراكهم.. «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» أي ما لبثتم إلا قليلا.. «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي لو كان عندكم عقل ونظر لعلمتم هذا وأنتم فى دنياكم، ولما شغلكم هذا القليل الزائل، عن آخرتكم الباقية الخالدة..
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ».
[الحياة.. والموت وحتمية البعث]
هناك قضيتان.. قضية «الخلق» وقضية «البعث»..
وإذا كان الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا ينكرون «الخلق» لأنه أمر واقع فعلا، وأنهم هم أنفسهم بعض هذا الخلق- فهلّا سألوا أنفسهم هذا السؤال: لم كان هذا الخلق؟ أو لماذا خلقنا؟.
وجواب واحد لا غير، هو الذي يجاب به على هذا السؤال، وهو أن هذا الخلق لم يكن لهوا وعبثا، وأنهم إنما خلقوا عن علم، وحكمة وتقدير، لأن هذا الخلق ينطق عن حكمة بالغة، وقدرة قادرة على كل شىء، وعلم محيط بكل شىء.. ومن كانت تلك صفاته لا يكون منه لهو أو عبث.. ثم إن هذا النظام الدقيق المحكم، الممسك بكل ذرة من ذرات الوجود، أيدخل عليه شىء من اللهو والعبث؟ إنّ اللاهي العابث، لا يتقيد بنظام، ولا يجرى أعماله على توافق وترابط، وانسجام، بل يفعل ما تمليه عليه نزواته، وما تصوره له أهواؤه! وإذن فالناس لم يخلقوا عبثا، ولم تجىء بهم الصّدفة، كما يقول بذلك الماديّون والملحدون، وإنما هم غراس غارس حكيم، عليم، قادر، مدبر..
هذه قضية.. لا بد من التسليم بها، وفى إنكارها مكابرة فى الحق، ومجادلة بالباطل.. ومن مقتضى التسليم بهذا أن يسلّم أيضا ببعث الإنسان بعد موته، أو بمعنى آخر، امتداد حياة الإنسان، وانتقاله من دار إلى دار، ومن عالم إلى
ذلك أن الإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض.. وهو سيد هذا الكوكب من غير جدال.. فهو الكائن الذي ملك من القوى ما استطاع بها أن يغيّر وجه الأرض، وأن يستخرج خبأها، ويسخّر موجوداتها..
وإذا كان هذا شأن الإنسان فإن مما يجانب الحكمة، ويدخل فى باب اللهو والعبث، أن تنطفىء جذوة هذا الكائن، بعد سنوات قليلة يقضيها على هذه الأرض.. ثم يصير رمادا، يختلط بتراب هذه الأرض، مع الدواب، والحشرات والهوام! إن فى هذا لجورا على الإنسان، وظلما له، إذ كان الحيوان- على هذا الحساب- خيرا منه، لأنه تنفّس أنفاس الحياة، وليس معه هذا العقل الذي لم يدع للإنسان لحظة يخلد فيها إلى الراحة والاطمئنان.. بل إنه أبدا فى صراع داخلى لا يهدأ أبدا، بين رجاء ويأس، وسعادة وشقاء، وطمأنينة وخوف.. فى يقظته ونومه.. على السّواء..
إن الإنصاف للإنسان يقضى بألا تنتهى حياته بالموت، بل لا بد أن تكون له رجعة أخرى، إلى حياة أكمل، وأفضل..
إن الحياة- كما قلنا فى مواضع كثيرة- نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وامتنّ عليه بها.. كما يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ».. ومن تمام هذه النعمة، دوامها، وإلا فما كان لوجودها أصلا حكمة، ولكان خيرا منها العدم! وقد يسأل سائل: كيف تكون الحياة الآخرة بالنسبة للكافرين والمشركين
(٤٠: النبأ) أيتفق هذا وذاك الذي نقول به.. ؟
ونقول: إن الحياة بعد الموت نعمة لأهل الجنة وأهل النار جميعا، وهى خير من العدم! أيّا كانت صورة تلك الحياة، وأيّا كان مصير الأحياء فيها.. نقول هذا، وبين أيدينا كثير من الشواهد، من كتاب الله..
فأولا: من أمنيّات أهل النار فى النّار أن يردّوا إلى الحياة الدّنيا.. وذلك فى كثير من الآيات القرآنية، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٢٧: الأنعام) وكما يقول سبحانه فى هذه السورة على لسان أهل النار: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» (الآية: ١٠٧) وكما يقول جل شأنه على لسانهم أيضا: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» (٤٤: إبراهيم).
وهذا يعنى أنهم، وهم فى النار، متمسكون بالحياة، راغبون فيها، على أية صورة كانوا عليها..
وثانيا: أن ما يقوله الكافر فى الآخرة، حين يرى العذاب، وهو قوله:
الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً»
هو بسبب ما يلاقى الكافرون من بلاء، تضيق به نفوسهم، شأنهم فى هذا شأن كثير من الناس فى هذه الحياة الدنيا حين تحتويهم حياة قاسية، يتمنون معها الموت.. ولكنهم فى الواقع متمسكون بالحياة حريصون عليها.. ولو طلع عليهم الموت فى تلك الحال، لفزعوا منه وكربوا، ولطلبوا المهرب، إن كان ثمة مهرب! وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن تنازعهم
الناس جميعا متعلقون بالحياة، راغبون فى المزيد منها، ولو أخذت منهم الأيام، وألحت عليهم العلل، وحطمتهم السنون..
إن حبّ الحياة طبيعة فى كل حىّ، وهو فى الإنسان طبيعة وإرادة معا..
طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه، والإبقاء على ذاته أطول زمن ممكن.. وحبّ البقاء- فوق ذلك- إرادة تخلّقت فى الإنسان عن اتصاله بالحياة، واختلاطه بالأحياء، واشتباك مصالحه بهم، وانفساح آفاق آماله بينهم، وامتداد آثاره فى الحياة وفيهم..
إن الإنسان- مهما طال عمره، وامتد أجله، فإن يده تقصر عن أن تنال كل ما أراد، وإن الحياة لتضمن بأن تحقق له كل رغبة، وأن تدنيه من كل أمل..
يقول الشاعر:
تموت مع المرء حاجاته | وحاجة من عاش لا تنقضى |
إنه ليس شىء أبغض إلى الناس من الموت، وليس شىء أكثر طروقا
ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت، وتعلقوا بالحياة، مهما تكن هذه الحياة، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام.. يقول أبو العلاء:
نحبّ العيش بغضا للمنايا | ونحن بما هوينا الأشقياء |
ودنيانا التي عشقت وأشقت | كذاك العشق- معروفا- شقاء |
سألناها البقاء على شقاها | فقالت عنكم حظر البقاء |
إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة «أبى العلاء» فعمقت جذورها، وسمقت فروعها، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة، ملحدة..
متفائلة، متشائمة.. شأن الخائف المفزّع، تتغاير فى عينيه صور الأشياء، وتغيم حقائقها..
إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها، مما شغل به العقل، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية، منذ الخطوات الأولى للإنسان فى هذه الحياة..
وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا، يستمد منها الحياة، ويدفع بها الموت.. وإذا لم يتحقق له ذلك فى الحياة الدنيا، طمع فى حياة أخرى بعد الموت، يصل بها ما انقطع بالموت..
ويكاد التفكير الإنسانى كله- عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح- يكاد يرى الموت خاتمة حياة، ومبدأ حياة جديدة أخرى.
لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره- رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم.. فأقام لهم المقابر، وسعى إليهم فى أوقات مختلفة، يناجيهم، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان..
وحول المقابر، وعليها، أقيمت تماثيل الموتى، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية، حتى يجد الميت فى ذلك ما يهنأ به فى عالمه الجديد..
إن شبح الحياة تدبّ فى الأموات، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات.. بمواراتهم فى القبور، أبدا، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى- عن طريق التخيل والتوهم- الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون..
إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات، قد خلقت فى الناس عقيدة الحياة بعد الموت.. وذلك قبل أن تجىء الأديان السماوية، فتقرر هذه الحقيقة، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه، واستشعره بوجدانه، وطرقه بخياله.
فالمصريون القدماء، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته، فيفيض ثم يفيض، وأن يحيا النبات بعد موته، فيزدهى وينضر، فإنه- من باب أولى- أن يحيا الإنسان بعد أن يموت..
واقرأ قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» (٨٠: المؤمنون).
لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها فى هذه الدنيا، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ، بعد الموت.. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي لا موت معها.
يقول «سقراط» «عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت.. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة، ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت، ونموت لنحيا..»
وفى كتاب الهند المقدس «كاثا» :«يفنى الفاني كما تفنى الغلال، ثم يعود إلى الحياة فى ولادة جديدة كما تعود الغلال «١» ».
ويقول الفيلسوف الألمانى «جوته» :
والديانات السماوية، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل، من خير أو شرّ.
ويؤدى الموت فى الديانات السماوية، دورا عظيما فى إقامة العقيدة الدينية، وفى تعميق جذورها فى قلوب المؤمنين، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها، وتقبّلها فى رضا وغبطة، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا لله بالجهاد فى سبيله، طمعا فى حياة أفضل! وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها فى تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها.. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة فى الإيمان بالبعث واليوم الآخر، بعد الإيمان بالله.
ومع أن الكتب السماوية، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا «فسيولوجيا» ولم تدخل فى جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة فى الحياة، وما بعد الحياة- مع هذا، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا، بل كان فى المتدينين- من فلاسفة وعلماء وفقهاء- من أجال تفكيره فى هذه القضية، مستصحبا الدين، أو مستقلّا بنظره ورأيه.
وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات.. نكتفى هنا بأثارة منها..
فمثلا يقول «الراغب الأصفهانى» :«إن الموت المتعارف، الذي هو
فهو وإن كان فى الظاهر فناء واضمحلالا، فهو فى الحقيقة ولادة ثانية.. إن الإنسان فى دنياه جار مجرى الفرخ فى البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله..
ولولا الموت لم يكمل الإنسان!».
ثم يقول: «فالموت إذن ضرورى فى كمال الإنسان، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف، سمّاه الله «توفّيا» وإمساكا عنده: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (٤٢: الزمر).
ثم يقول الراغب: «فالموت هو باب من أبواب الجنة، منه يتوصّل إليها، ولو لم يكن الموت، لم تكن الجنة، ولذلك منّ الله به على الإنسان.. فقال تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (٢: الملك)..
فقدّم الموت على الحياة، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة..
وقال سبحانه أيضا: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» فجعل الموت إنعاما، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت، فالموت نعمة، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة، نعمة.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ.. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (١٤- ١٦ المؤمنون) - فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن..
ويقول الفيلسوف المسلم «محمد إقبال» :
(١- ٢: الملك) - فالحياة تهيىء مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب».
وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت..
وإنه قبل أن تجىء الديانات السماوية، وقبل أن تقول كلمتها فى الحياة الآخرة، قالت الإنسانية كلمتها.. قالتها شعرا ونثرا.. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل..
ففى الديانات المصرية القديمة مثلا، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم.. وهذا، مثل من صور هذا الدفاع:
«سلام عليك.. أيها الإله العظيم.. ربّ الصدق والعدالة.. لقد وقفت أمامك يا ربّ..
«وجىء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!! «أحمل إليك الصدق.. إنى لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض
«لم أمت إنسانا من الجوع.. ولم أبك أحدا.. ولم أقتل إنسانا.
ولم أخن أحدا..
«لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس..
«لم أكفر بالآلهة.. ولم أغشّ فى الميزان..
«لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع.. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة..
«أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..!!»
فالحياة بعد الموت، والحساب والجزاء، هى مما يطلبه الإنسان، ويعيش فيه، ويعمل له.. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها، أو شريعة تكشف عنها..
فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها، مقررة لها، كاشفة عنها، ضاربة الأمثال لها، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟
وخير ما نختم به هذا البحث، ما قرّره الراغب الأصفهانى، فى كتابه:
«تفصيل النشأتين» حيث يقول: «لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى، إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات..
«وأما من كان سويّا، ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم، علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار،
قوله تعالى:
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».
هو تنزيه لله سبحانه وتعالى، أن يكون خلق الخلق عبثا، وأنه سبحانه يميتهم، ثم لا يبعثهم.. إن هذا لا يليق بالملك العظيم، الحقّ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم..
وفى وصف الله سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين: الخلق، والبعث، وأنهما من شأن «الملك» الذي قام ملكه على الحقّ، والذي لا إله معه، يشاركه الخلق والأمر، فيعطل مشيئته، أو ينقض حكمته..
ثم إن فى وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم، إشارة أخرى، إلى أن
قوله تعالى:
«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ».
وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها.. فقد بدئت بهذا الإعلان العام: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ».. ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين، وما أعدّ الله لهم فى الآخرة من نعيم، حيث يورّثهم الجنّة، ويطلق أيديهم فيها، ينعمون بما يشاءون منها.. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة الله، وفضله على الإنسان، الذي أخرجه من تراب، فكان هذا البشر السّوىّ.. وتمضى الآيات فتعرض، صورا للمعاندين المكذبين برسل الله، وما أخذهم الله به فى الدنيا من نكال، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب..
ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث، وأنه أمر واقع لا شك فيه.. ثم تجىء خاتمتها داعية إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتحذير من الشرك به، فإن من يشرك بالله فهو من الكافرين.. وإن الكافرين هم الخاسرون..
- وفى قوله تعالى: «لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» - دعوة صريحة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام، ومن الانقياد للآخرين، من غير أن يكون له نظر واقتناع، عن برهان قاطع، وحجة واضحة..
فالإيمان بالله سبحانه وتعالى: «قضية» أولى من قضايا العقل، يرتبط بها مسيره ومصيره، فى الدنيا والآخرة.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية فى جدّ واهتمام بالغين، وأن يوجّه إليها كل مدركاته،
وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان بالله وحدها، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة، صغيرها وكبيرها..
إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة، ويميز بها الخبيث من الطيب، والشرّ من الخير، والنافع من الضار.. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا، فيفسد طبيعته.
قوله تعالى:
«وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ».
بهذه الآية الكريمة، تختم السورة.. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم، يغاث الناس، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب، التي شوهت معالم فطرتهم، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ، الذي خلقهم الله عليه..
لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال، وكادت تضيع إنسانيتهم فى هذا التّيه، ولكن رحمة الله تداركتهم، فلقيتهم هناك فى هذا الضّياع، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم..
ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على الله، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس، ويحتجزونها لأنفسهم، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم، وقلّ حظهم منها.. فهذا من سوء الظنّ بالله، ومن ضلال فى الفهم لما لذاته من كمال مطلق.. «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».. (٣٢: الزخرف) ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة- الرحمة الواسعة، والمغفرة الشاملة- وبين يديها هذه الأحكام، وتلك الحدود، التي جاءت بها سورة «النور» التي تلى هذه الآية مباشرة، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة، أولئك الذين تغلبهم أنفسهم، وتستعلى عليهم أهواؤهم، فيخرجون عن حدود الله، ويواقعون الإثم والمنكر!! فسبحانك سبحانك من رب كريم، غفور، رحيم.. تعنو لجلاله الوجوه، وتستخزى فى مواجهة كرمه، ومغفرته ورحمته، النفوس، ويستحى من عصيانه، والتمرد على طاعته، أهل الحياء! وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران..
وألا خسىء وخسر، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف، وإحسان المحسن بالتطاول عليه، والعدوان على حرماته..!