تفسير سورة الفرقان

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الفرقان
مكية. وهى سبع وسبعون آية. ومناسبتها لما قبلها: ما فى خاتمتها من تعظيم الرسول- عليه الصلاة والسلام- وما افتتحت به من تعظيمه أيضا لكونه نذيرا للعالمين. وناسب قوله فى هذه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قوله فيما قبلها: أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١».
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
يقول الحق جلّ جلاله: تَبارَكَ أي: تكاثر خيره وتزايد، أو: دام واتصل. وهي كلمة تعظيم لم تستعمل إلا لله، والمستعمل منها الماضي فقط، والتفاعل فيها للمبالغة. ومعناها راجع إلى ما يفيض سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات، التي من جملتها: تنزيل القرآن، المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية، أي:
تعاظم الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ أي: القرآن، مصدر فرق بين اثنين، إذا فصل بينهما. سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل، والحلال والحرام، أو: لأنه لم ينزل جملة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين أجزائه شيئاً فشيئاً، ألا ترى إلى قوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ «٢» ؟
أنزله عَلى عَبْدِهِ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده- عليه الصلاة والسلام- بذلك العنوان لتشريفه، والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبداً للمُرسل رداً على النصارى. أنزله لِيَكُونَ العبد المنزل عليه، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ من الثقلين، زاد بعضهم: والملائكة، أرسل إليهم ليتأدبوا بأدبه، حيث لم يقف مع مقام ولا حال، ويقتبسوا من أنواره، وهو حكمة الإسراء، وقيل: حتى إلى الحيوانات والجمادات، أُمرت بطاعته فيما يأمرها به، وبتعظيمه- عليه الصلاة والسلام-. وهذا كله داخل في العالمين لأن ما سوى الله كله عالم كما تقدم في الفاتحة. وعموم الرسالة من خصائصه- عليه الصلاة والسلام-. نَذِيراً أي: مخوِّفاً، وعدم التعرض للتبشير لأن الكلام مسوق لأحوال الكفرة، ولا بشارة لهم.
(١) الآية الأخيرة من سورة النور.
(٢) من الآية ١٠٦ من سورة الإسراء.
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: له، خاصةً، دون غيره، لا استقلالاً ولا اشتراكاً. فالقهرية لازمة لهما، المستلزمة للقدرة التامة والتصرف الكلي، إيجاداً وإعداماً، وإحياءً وإماتةً، وأمراً ونهياً، وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما زعم اليهود والنصارى في عزير والمسيح- عليهما السلام-، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كما زعمت الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، والرد في نحورهم.
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي: أحدث كل شيء وحده، لا كما تقول المجوس والثنوية من النور والظلمة. أي:
أظهر كل شيء فَقَدَّرَهُ أي: فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به، تَقْدِيراً بديعاً، لا يُقادر قدره، ولا يُبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك، والنظر والتدبير في أمور المعاش والمعاد، واستنباط الصنائع المتنوعة، والدلائل المختلفة، على وجود الصانع. أو: فقدَّره للبقاء إلى أبد معلوم. وأيّاً ما كان، فالجملة تعليل لما قبلها، فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك الشكل البديع والنظام الرائق، وكل ما سواه تحت قهره وسلطانه، كيف يتوهم أنه ولد لله سبحانه، أو شريكٌ له في ملكه. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الإشارة: عبّر بالعبودية في التنزيل والإسراء إشارة إلى أنَّ كل مَن تحقق بالعبودية الكاملة له حظ من تنزيل الفرقان على قلبه، حتى يفرق بين الحق والباطل، وحظ من الإسراء بروحه إلى عالم الملكوت والجبروت، حتى يعاين عجائب أسرار ربه. وما منع الناس من تنزل العلوم اللدنية على قلوبهم، ومن العروج بروحهم، إلا عدم التحقق بالعبودية الكاملة لربهم، حتى يكونوا مع مراده، لا مع مرادهم، لا يريدون إلا ما أراد، ولا يشتهون إلا ما يقضي، قد تحرروا من رقِّ الأشياء، واتحدت عبوديتهم للواحد الأعلى. فإذا كانوا كذلك صاروا خلفاء الأنبياء، يُعرج بأرواحهم، ويُوحى إلى قلوبهم مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الحق والباطل، ليكونوا نُذراً لعالمي زمانه قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «١». وبالله التوفيق.
ثم ردَّ على أهل الشرك، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٣]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
(١) الآية ٢٤ من سورة فاطر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتَّخَذُوا أي: الكفار المدرجون تحت العالمين المنذَرين، اتخذوا لأنفسهم مِنْ دُونِهِ تعالى آلِهَةً أصناماً، يعبدونها ويستعينون بها، وهم لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي: لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء، وَهُمْ يُخْلَقُونَ كسائر المخلوقات. والمعنى: أنهم آثروا على عبادة من هو منفرد بالألوهية والخلق، والملك والتقدير، عباداً عجزة، لا يقدرون على خلق شيء، وهم مخلوقون ومصورون. وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي: لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها، ولا جلب نفع لها. وهذا بيان لغاية عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين ربما يملك دفع ضر وجلب نفع في الجملة، وهؤلاء لا يقدرون على شيءٍ البتة، فكيف يملكون نفع مَنْ عبدَهم، أو ضرر من لم يعبدهم؟! وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً أي: إماتة وَلا حَياةً أي: إحياء وَلا نُشُوراً بعثاً بعد الموت، أي: لا يقدرون على إماتة حي، ولا نفخ الروح في ميت، ولا بعث للحساب والعقاب. والإله يجب أن يكون قادراً على جميع ذلك.
وفيه إيذان بغاية جهلهم، وسخافة عقولهم، كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نُفي عن آلهتهم مما ذكر، مفتقرون إلى التصريح لهم بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل مَن ركن إلى غير الله، أو مال بمحبته إلى شيء سواه، فقد اتخذ من دونه إلهاً يعبده من دون الله. وكل من رفع حاجته إلى غير مولاه، فقد خاب مطلبه ومسعاه لأنه تعلق بعاجز ضعيف، لا يقدر على نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ وفي الحِكَمِ: «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك، فكيف ترفع إلى غيره ما كان هو له واضعا؟! من لا يستطيع أن يرفع حاجته عن نفسه، فكيف يكون لها عن غيره رافعاً؟».
قال بعض الحكماء: من اعتمد على غير الله فهو في غرور لأن الغرور ما لا يدوم، ولا يدوم شيء سواه، وهو الدائم القديم، لم يزل ولا يزال، وعطاؤه وفضله دائمان، فلا تعتمد إلا على من يدوم عليك منه الفضل والعطاء، في كل نفس وحين وأوان وزمان. هـ. وقال وَهْبُ بن منبه: أوحى الله تعالى إلى داود: يا داود أما وعزتي وجلالي وعظمتي لا ينتصر بي عبد من عبادي دون خلقي، أعلم ذلك من نيته، فتكيده السموات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له منهن فرجاً ومخرجاً. أما وعزتي وجلالي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعلم ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السموات من يده، وأسخت الأرض من تحته، ولا أبالي في أي وادٍ هلك. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا ذكر شأن الفرقان، ذكر من طعن فيه وفيمن نزل عليه، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
77
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: تمردوا في الكفر والطغيان. قيل: هم النضر ابن الحارث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خويلد، ومن ضاهاهم. وقيل: النضر فقط، والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك. قالوا: إِنْ هَذا ما هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ اختلقه واخترعه محمد من عند نفسه، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أي: على اختلاقه قَوْمٌ آخَرُونَ، يعنون: اليهود، بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارسة، وهو يعبر عنها بعبارته. وقيل: هم عدَّاس، ويسار «١»، وأبو فكيهة الرومي، كان لهم علم بالتوراة والإنجيل. ويحتمل: وأعانه على إظهاره وإشاعته قوم آخرون، ممن أسلم معه صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: فَقَدْ جاؤُ، وأتوا ظُلْماً أو: بظلم، فقد تستعمل (جاء) بمعنى فعل، فتتعدى تعديته، أو بحرف الجر، والتنوين للتفخيم، أي: جاءوا ظلماً هائلاً عظيماً حيث جعلوا الحق البيِّن، الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، إفكاً مفترى من قول البشر، وجعلوا العربي الفصيح يتلقى من العجمي الرومي، وهو من جهة نظمه الفائق وطرازه الرائق لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن مثل آية من آياته. ومن جهة اشتماله على الحكم العجيبة، المستتْبعة للسعادات الدينية والدنيوية، والأمور الغيبية، بحيث لا يناله عقول البشر، ولا تفي بفهمه الفهوم، ولو استعملوا غاية القوى والقدر. وَأتوا أيضاً زُوراً أي: كذباً كثيراً، لا يُبْلَغُ غايتُه حيث نسبوا إليه ﷺ ما هو بريء منه.
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: هو أحاديث المتقدمين، وما سطروه من خرافاتهم كرُستم وغيره. جمع أسطار، أو: أسطورة، اكْتَتَبَها كتبها لنفسه، أو: استكتبتها فكُتبت له، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي: تُلقى عليه من كتابه بُكْرَةً: أول النهار وَأَصِيلًا آخره، فيحفظ ما يتلى عليه ثم يتلوه علينا. انظر هذه الجرأة العظيمة، قاتلهم الله، أنَّى يؤفكون؟
(١) فى الأصول: سيار.
78
قُلْ يا محمد: أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: يعلم كل سر خفي في السماوات والأرض، يعني: أن القرآن: لما اشتمل على علم الغيوب، التي يستحيل عادة أن يعلمها محمد ﷺ من غير تعلم إلهي، دلَّ على أنه من عند علام الغيوب، أي: ليس ذلك مما يُفْتَرَى ويختلق، بإعانة قوم، وكتابة آخرين من الاحاديث والأساطير المتقدمة، بل هو أمر سماوي، أنزله الذي لا يعزب عن علمه شيء، أودع فيه فنون الحِكَم والأحكام، على وجه بديع، لا تحوم حوله الأفهام، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته، وأخبركم بأمور مغيبات، وأسرار مكنونات، لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوقيف العليم الخبير، ثم جعلتموه إفكاً مفترى، واستوجبتم بذلك أن يصبَّ عليكم العذاب صباً، لولا حِلمه ورحمته، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فأمهلكم، ولم يعاجلكم بالعقوبة. وهو تعليل لما هو المشاهد من تأخير العقوبة عنهم، أي: كان أزلاً وأبداً مستمراً على المغفرة والرحمة، فلذلك لم يعاجلكم بالعقوبة على ما تقولون في حقه وفي حق رسوله، مع كمال اقتداره.
ثم ذكر طعنهم فيمن نُزل عليه، فقال: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ وقعت اللام في المصحف مفصولة عن الهاء، وخط المصحف سُنّة لا يغير. وتسميتهم إياه بالرسول سخرية منهم، كأنهم قالوا: أي شيء لهذا الزاعم أنه رسول يأكل الطعام كما تأكلون، ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما تمشون، أي: إن صح ما يدعيه فما له لم يخالف حالنا؟! لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ على صورته فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، وهذا منهم تنزل عن اقتراح كونه ﷺ ملكاً مستغنياً عن المادة الحسية، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يُصدقه، ويكون ردءاً له في الإنذار، ويُعبر عنه، ويفسر ما يقوله للعامة.
أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء، يستغني به عن طلب المعاش معنا، أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها كالأغنياء المياسير. والحاصل: أنهم أول مرة ادعوا أن الرسول لا يكون إلا كالملائكة، مستغنياً عن الطعام والشراب، وتعجبوا من كون الرسول بشراً، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون إنساناً معه ملك يُصدقه ويعينه على الإنذار، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون معه كنز، يستظهر به على نوائبه، ثم تنزلوا إلى اقتراح أن يكون رجلاً له يستان يأكل منه، كالمياسير، أو نأكل نحن منه، على قراءة حمزة والكسائي.
قال تعالى: وَقالَ الظَّالِمُونَ وهم الكفرة القائلون ما تقدم، غير أنه وضع الظاهر موضع المضمر، تسجيلاً عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيه. وهم كفار قريش، أي: قالوا للمؤمنين: إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سُحر فغلب على عقله، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي: انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة، الخارجة عن العقول، الجارية لغرابتها، مجرى الأمثال، واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة، البعيدة عن الوقوع؟! فَضَلُّوا عن طريق الجادة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فلا يجدون طريقاً إليه، أو:
فلا يجدون سبيلاً إلى القدح في نبوتك، بأن يجدوا قولاً يستقرون عليه، أو: فضلّوا عن الحق ضلالاً مبيناً، فلا
79
يجدون طريقاً موصلاً إليه، فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الموصلة إلى الرشد والصواب. وبالله التوفيق.
الإشارة: تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، فإن سمع أهل الإنكار منهم علوماً وأسراراً قالوا: ليست من فيضه، إنما نقلها عن غيره، وأعانه على إظهارها قومٌ آخرون، قل: أنزلها على قلوبهم الذي يعلم السر في السماوات والأرض، أنه كان غفوراً رحيماً، حيث ستر وصفهم بوصفه ونعتهم بنعته، فوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه. وقوله تعالى: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ، أنكروا وجود الخصوصية مع وصف البشرية، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية، كما تقدم مراراً. والله تعالى أعلم.
ثم رد الله تعالى عليهم، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٠ الى ١٦]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
قلت: (جنات) : بدل من خيراً، و (يجعل)، من جزمه عطفه على محل جواب الشرط، ومَن رفعه فعلى الاستئناف، أي: وهو يجعل لك قصوراً، ويجوز عطفه على الجواب لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في الجواب الرفع والجزم، كما هو مقرر في مَحِلَّهُ.
يقول الحق جلّ جلاله: تَبارَكَ أي: تكاثر وتزايد خيره الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ في الدنيا خَيْراً لك مِنْ ذلِكَ الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يجعل لك مثل ما وعدك في الجنة، جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، فإنه خير من جنة واحدة من غير أنهار، كما اقترحوا، وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً
80
وغرفاً في الدنيا، كقصور الآخرة، لكن لم يشأ ذلك لأن الدنيا لا تسع ما يعطيه تعالى لخواص أحبابه في الآخرة لأنها ضيقة الزمان والمكان.
وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين، وهو إنزال الملك وإلقاء الكنز لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية، وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية، فإن بعض الأنبياء- عليهم السلام- قد أوتوا مع النبوة مُلكاً عظيماً، لكنه نادر.
ثم أضرب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة، وانتقل إلى توبيخهم بحكاية جناية أخرى، فقال:
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كله، وهو تكذيبهم بالساعة. ويحتمل أن يكون متصلاً بما قبله، كأنه قال: بل كذبوا بالساعة، وكيف يلتفتون إلى هذا الجواب، وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وهم لا يؤمنون بها؟ ثم تخلص إلى وبال مَن كذَّب بها، فقال: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً أي: وهيأنا للمكذبين بها ناراً شديدة الإسعار، أي: الاشتعال. وضع الموصول موضع ضمير «هم»، أو: لكل من كذب بها كائناً من كان، ويدخلون هم في زمرتهم دخولاً أولياً. ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع.
إِذا رَأَتْهُمْ أي: النار، أي: قابلتهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بأن كانت منهم بمرأى للناظرين في البعد، كقوله ﷺ في شأن المؤمن والكافر: «لا تترآءى نارهما» «١»، أي: لا يتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى. سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً أي: سمعوا صوت غليانها. شُبه ذلك بصوت المتغيظ والزفير، وهو صوت من جوفه. ولا يبعدُ أن يخلق الله فيها الإدراك فتتغيظ وتزفر. وقيل: إن ذلك من زبانيتها، نُسب إليها، وهو بعيد.
وَإِذا أُلْقُوا مِنْها من النار مَكاناً ضَيِّقاً أي: في مكان ضيق لأن الكرب يعظم مع الضيق، كما أن الروح يعظم مع السعة، وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض. وعن ابن عباس وابن عمر- رضى الله عنهما: (تضيق جهنم عليهم، كما يضيق الزجُّ «٢» على الرمح). وسئل النبي ﷺ عن ذلك فقال:
«والذي نفسي بيده إنهم ليُستكرهون في النار كما يُستكره الوتد في الحائط». حال كونهم مُقَرَّنِينَ أي:
مسلسلين، أي: مقرونين في السلاسل، قُرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال. أو: يقرن مع كل كافر شيطانه فى سلسلة، وفي أرجلهم الأصفاد. فإذا أُلقوا في الضيق، على هذا الوصف، دَعَوْا هُنالِكَ أي: في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة، ثُبُوراً أي: هلاكاً، بأن يقولوا: وا ثبوراه هذا حينُك فتعال، فيتمنون الهلاك ليستريحوا، فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً أي: لا تدعوا بالهلاك على أنفسكم مرة واحدة،
(١) سبق تخريجه عند تفسير الآية ٥٢ من سورة المائدة.
(٢) الزّجّ:
81
ودعاءً واحداً، بل ادعوا دعاء متعدداً بأدعية كثيرة، فإن ما أنتم عليه من العذاب، لغاية شدته وطول مدته، مستوجب لتكرر الدعاء في كل أوان. وهو يدل على فظاعة العذاب وهو له.
وأما ما قيل من أنَّ المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً، وإنما هو ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان، كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو: لأنهم كلما نضجت جلودهم بُدلوا غيرها، فلا غاية لها، فلا يلائم المقام. انظر أبا السعود. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أولُ من يُكْسَى حُلَّةً من النار إبليسُ، فيضعُها على حاجبيه، ويسحبُها من خلفه، وذُريتُهُ من بعده، وهو يقول: يا ثُبُوراه، وهم يجاوبونه: يا ثُبُورهم، حتى يَقِفُوا على النار، فيقال لهم: لا تدعوا ثبوراً واحداً..» «١».
قُلْ لهم يا محمد تقريعاً لهم وتهكماً بهم، وتحسراً على ما فاتهم: أَذلِكَ خَيْرٌ، والإشارة إلى السعير، باعتبار اتصافها بما فُصِّل من الأحوال الهائلة، وما فيه من معنى البُعد لكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة. أي: قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير، التي أعدت لمن كذب بالساعة، وشأنها كيت وكيت خير أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: وعدها الله المتقين؟ وإنما قال: «أذلك خير»، ولا خير في النار تهكماً بهم، كما تقدم، وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح، وقيل: للتمييز عن جنات الدنيا. والمراد بالمتقين: المتصفون بمطلق التقوى، لا بغايتها. كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ في علم الله تعالى، أو في اللوح، جَزاءً على أعمالهم، وَمَصِيراً يصيرون إليه بعد الموت.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من فنون الملاذ والمشتهيات، وأنواع النعيم والخيرات، كقوله تعالى:
وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ «٢»، ولعل كل فريق منهم يقنع بما أتيح له من درجات النعيم، ولا تمتد أعناق همهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية. فلا يلزم الحرمان، ولا تساوى أهل الجنان. حال كونهم خالِدِينَ لا يفنون، ولا يفنى ما هم فيه، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا أي: موعودا حقيقا بأن يُسْأَلَ ويُطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون، أو: مسئولا لا يسأله الناس في دعائهم، بقولهم: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «٣» أو: تسأله الملائكة بقولهم: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «٤»، وما في «على» من معنى الوجوب، لامتناع الخُلْفِ فى وعده تعالى، فكأنه أوجبه على نفسه تفضلا وإحساناً. وفي التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ من تشريفه والإشعار بأنه ﷺ هو أول الفائزين بمغانم هذا الوعد الكريم ما لا يخفى. قاله أبو السعود.
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٣/ ١٥٢)، والطبري (١٨/ ١٨٨)، والحديث صححه الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٣٩٢). [.....]
(٢) من الآية ٧١ من سورة الزخرف.
(٣) من الآية ١٩٤ من سورة آل عمران.
(٤) من الآية ٨ من سورة غافر.
82
الإشارة: تبارك الذي إن شاء جعل ذلك خيراً من ذلك، وهي جنة المعارف المعجلة، تجري من تحتها أنهار العلوم وفيض المواهب، ويجعل لك قصوراً تنزل فيها، ثم ترحل عنها، وهي منازل السائرين ومقامات المقربين، إلى أن تسكن في محل الشهود والعيان، وهو العكوف في حضرة الإحسان. بل كذَّبوا بالساعة، أي: من تنكب عن هذا الخير الجسيم، إنما سببه أنه فعل فِعْل من يُكذب بالساعة من الانهماك في الدنيا، والاشتغال بها عن زاد الآخرة. وأَعتدنا لمن فعل ذلك سعيراً، أي: إحراقاً للقلب بالتعب، والحرص، والجزع، والهلع، والإقبال على الدنيا، إذا قابلتهم من مكان بعيد سمعوا لها تَغَيُّظاً وزفيراً غيظاً على طلابها، حيث آثروها على ما فيه رضا مولاها، وإذا ألقوا في أشغالها، وضاق عليهم الزمان فى إدراكها، دعَوا بالويل والثبور، وذلك عند معاينة أعلام الموت، والرحيل إلى القبور، ولا ينفعهم ذلك. قل: أذلك خير أم جنة الخلد؟، وهي جنة المعارف، التي وُعد المتقون لكل ما سوى الله، كانت لهم جزاء على مجاهدتهم وصَبْرهم، ومصيراً يصيرون إليها بأرواحهم وأسرارهم. لهم فيها ما يشاؤون لكونهم حينئذٍ أمرهم بأمر الله، كان على ربك وعدا مسئولا، أي: مطلوباً للعارفين والسائرين. وبالله التوفيق.
ثم شرح ما يلقى أهل التكذيب من الهول والفظاعة، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
قلت: «اتخذ» قد يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً «١»، وقد يتعدى إلى مفعولين، كقوله:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «٢»، فقرأ الجمهور: (أن نَتَّخِذَ) بالبناء لفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر بالبناء للمفعول «٣». فالقراءة الأولى على تعديته لواحد، والثانية على تعديته لاثنين. فالأول: الضمير في (نتخذ)، والثاني: (من أولياء). و (من) : للتبعيض، أي: ما ينبغي لنا أن نتخذ بعضَ أولياءٍ من دونك لأن «من» لا تزاد في المفعول الثاني، بل في الأول، تقول: ما اتخذت من أحد وليّاً، ولا تقول: ما اتخذت أحداً من ولي. وأنكر القراءة أبو عمرُو بن العلاء وغيره، وهو محجوج لأن قراءة أبي جعفر من المتواتر.
(١) من الآية ٨ من سورة الأنبياء
(٢) من الآية ١٢٥ من سورة النساء.
(٣) أي: (نتّخذ) بضم النون وفتح الخاء.
83
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ «١»، أو: يوم يحشرهم الله جميعاً للبعث والحساب، يكون ما لا تفي به العبارة من الأهوال الفظيعة والأحوال الغريبة، فيحشرهم وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الملائكة والمسيح وعزير. وعن الكلبي: الأصنام يُنطقها الله، وقيل: عام في الجميع. و (ما) : يتناول العقلاء وغيرهم لأنه أريد به الوصف، كأنه قيل: ومعبودهم. فَيَقُولُ الحق جلّ جلاله للمعبودين، إثر حشر الكل تقريعاً للعَبَدة وتبكيتاً: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ، بأن دعوتموهم إلى عبادتكم، أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي: عن السبيل بأنفسهم بإخلالهم بالنظر الصحيح، وإعراضهم عن الرشد.
وتقديم الضميريْن على الفعلين بحيث لم يقل: أضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل لأن السؤال ليس عن نفس الفعل، وإنما هو عن متوليه والمتصدي له، فلابد من ذكره، وإيلائه حرف الاستفهام. ليعلم أنه المسئول عنه. وفائدة سؤالهم، مع علمه تعالى بالمسئول عنه لأن يجيبوا بما أجابوا به حتى يُبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فتزيد حسرتهم.
قالُوا في الجواب: سُبْحانَكَ تعجيباً مما قيل، لأنهم إما ملائكة معصومون، أو جمادات لا تنطق ولا قدرة لها على شيء، أو: قصدوا به تنزيه عن الأنداد، ثم قالوا: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أي: ما صح وما استقام لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ أي: متجاوزين إياك، مِنْ أَوْلِياءَ نعبدهم لِمَا قام بنا من الحالة المنافية له، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ أن نحمل غيرنا على أن يتخذوا غيرك، فضلاً أن يتخذونا أولياء، أو: ما كان يصح لنا أن نتولى أحداً دونك، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا أن يتولونا دونك حتى يتخذونا أرباباً من دونك، وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ بالأموال والأولاد وطول العمر، فاستغرقوا في الشهوات، وانهمكوا فيها حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي:
غفلوا عن ذكرك، وعن الإيمان بك، واتباع شرائعك، فجعلوا أسباب الهداية من النعم والعوافي، ذريعة إلى الغواية. وَكانُوا، في قضائك وعلمك الأزلي، قَوْماً بُوراً هالكين، جمع: بائر، كعائذ وعُوذ.
ثم يقال للكفار بطريق الالتفات: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ، وهو احتجاج منَّ الله تعالى على العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب، أي: فقال الله جل جلاله عند ذلك للعبدة: فقد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، بِما تَقُولُونَ أي: في قولكم: هؤلاء أضلونا. والباء بمعنى «في»، وعن قنبل:
بالياء، والمعنى: فقد كذبوكم بقولهم: (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ ينبغي لنآ أن نتخذ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ)، والباء حينئذٍ كقولك: كتبت بالقلم.
(١) قرأ ابن كثير وأبو جعفر ويعقوب وحفص: «يحشرهم» بالياء، وقرأ الباقون بالنون.. انظر الإتحاف (٢/ ٣٠٦).
84
فما يستطيعون «١» فما يملكون صَرْفاً دفعاً للعذاب عنكم وَلا نَصْراً أي: فرداً من أفراد النصر. والمعنى: فما تستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو ينصروكم. وعن حفص بالتاء، أي: فما تستطيعون أنتم أيها الكفرة صرفاً للعذاب عنكم، ولا نصر أنفسكم.
ثم خاطب المكلَّفين على العموم فقال: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يشرك بدليل قوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «٢» لأن الظلم: وضع الشيء في غير محله، ومن جعل المخلوق شريكاً لخالقه فقد ظلم ظلماً عظيماً.
أي: ومن يظلم منكم أيها المكلفون، كدأب هؤلاء الكفرة، حيث ركبوا متن المكابرة والعناد، واستمروا على الملاججة والفساد، نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً لا يقادر قدره، وهو الخلود في النار، والعياذ بالله.
الإشارة: كل من عشق شيئاً وأحبه من دون الله فهو عابد له، فرداً أو متعدداً، فيُحشر معه يوم القيامة، فيقال لهم: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، أم هم ضلوا السبيل؟ فيتبرؤون منهم، ويقولون: بل متعتهم بالدنيا، وألهيتهم عن الذكر والتفكر والاعتبار، أو عن الشهود والاستبصار، حتى نسوا ذكر الله، وكانوا قوماً بوراً. وقد ورد: (أن الدنيا تُبعث يوم القيامة على هيئة عجوز شمطاء زرقاء، فتنادي: أين أولادي؟ فيجمعون لها كرهاً، فتقدمهم، فتوردهم النار). وقوله تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أي: يخرج عن حد الاستقامة في العبودية، وشهود عظمة الربوبية، نُذقه عذاباً كبيراً، وهو ضرب الحجاب على سبيل الدوام، إلا وقتاً مخصوصاً مع العوام. وبالله التوفيق.
ثم أجاب الحق تعالى عن قول الكفرة: (مال هذا الرسول يأكل الطعام... ) إلخ، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
قلت: كُسرت (إنَّ) لأجل اللام في الخبر. والجملة بعد (إلا) : صفة لمحذوف، أي: وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور، يعني من المرسلين، وهو كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «٣»، أي: وما منا أحد. وقيل: هي حال، والتقدير: إلا وأنهم ليأكلون.
يقول الحق جلّ جلاله، في جواب المشركين عن قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ «٤» تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا وَصِفَتُهُمْ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ بشر
(١) قرأ حفص (فما تستطيعون) بالتاء من فوق، على خطاب العابدين. وقرأ الباقون بالياء على الغيب، على إسناده إلى المعبودين.
انظر الإتحاف (٢/ ٣٠٧).
(٢) من الآية ١٣ من سورة لقمان.
(٣) من الآية ١٦٤ من سورة الصافات.
(٤) من الآية ٧ من سورة الفرقان.
85
يأكلون الطَّعامَ، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم، وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ في طلب حوائجهم، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك، وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أي: محنة، وهو كالتعليل لِمَا قبله، أي: إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة، وفقراء من المال، يمشون في الاسواق لطلب المعاش ابتلاء، وفتنة، واختباراً لمن تبعهم، من غير طمع، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي، فلا يخالَفون، لفعلت، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم «١». هـ.
فالحكمة في فقر الرسل من المال: تحقيق الإخلاص لمن تبعهم، وإظهار المزية لهم حيث تبعوهم بلا حرف.
قال النسفي: أو جعلناك فتنة لهم لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا، أو ممزوجة بالدنيا، فإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا. هـ.
قال في الحاشية: وقد قيل: إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض، على العموم في جميع الناس: مؤمن وكافر، بمعنى: أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه، وتوجه إليه من ذلك لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، واختباراً لهم. ولمّا صبروا نزل فيهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا «٢».
والحاصل: أن الله تعالى دبَّر خلقه، وخص كلاَّ بما شاء، من غِنى أو فقر، أو علم أو جهل، أو نبوة أو غيرها. وكذا سائر الخصوصيات ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته، ومن ينازعه في ذلك، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك فيكون شاكراً صابراً، ومن لا، وهو أعلم بحكمته في ذلك، ولذلك قال: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً. هـ.
وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل، والوليد بن عتبة، والعاص، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً، وغيرهم من فقراء المسلمين، قالوا: أنسلم فنكون مِثل هؤلاء؟ فنزلت الآية، تخاطب هؤلاء المؤمنين: أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر؟ هـ.
قال النسفي: أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه، فخرج ضجِراً، فرأى [خصياً في] «٣» مواكب ومراكب، فخطر بباله شيء، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية، فقال: بل نصبر، ربّنا. هـ.
(١) انظر تفسير البغوي ٦/ ٧٧.
(٢) من الآية ١١١ من سورة المؤمنون.
(٣) في الأصول المخطوطة [فى حصباء]، والمثبت هو الذي فى تفسير النسفي. [.....]
86
قال القشيري: هو استفهام بمعنى الأمر، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر. هـ.
وقيل: هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة، كما قال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ «١»، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض، إلا لمن دونه، كما ورد في الخبر «٢». هـ.
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به، أو: بمن يصبر ويجزع. وقال أبو السعود: هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأجر الجزيل لصبره الجميل، مع مزيد تشريف له- عليه الصلاة والسلام- بالالتفات إلى إسم الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم. هـ.
الإشارة: الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا، إلا قدر الحاجة، بعد التوقف والاضطرار، ابتداءً وانتهاء، حتى تحققوا بالله. ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره. والحالة الشريفة: ما سلكها نبينا ﷺ وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي، في وسق من شعير. وعادته تعالى، فيمن سلك هذا المسلك، أن يُديل الغنى في عقبه، فيكونون أغنياء في الغالب. والله تعالى أعلم.
وما وَصَف به الحق تعالى رسله من كونهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، هو وصف للأولياء أيضا- رضى الله عنهم- فيمشون في الأسواق للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه: عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا.
وكان شيخ أشياخنا- سيدي علي العمراني- يقول لأصحابه: مَن أراد أن يذوق فليمش إلى السوق. هـ.
فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة، ولا يتقصر على تربيتها في العزلة فقط لئلا يتغير حاله في حال الخلطة فيبقى ضعيفاً. فالعزلة تكون ابتداء، قبل دخول بلاد المعاني، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء. فالمشي في الأسواق والأكل فيها من سنة الفقراء، أهل الأحوال مجاهدةً لنفوسهم، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق، والخوف منهم. وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه ﷺ تشريفاً لأهل الأحوال، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ...
(١) من الآية ١٣١ من سورة طه.
(٢) قال صلى الله عليه وسلم: «إذا نظر أحدكم إلى من فضّل عليه فى المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضّل عليه». أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ح ٤٦٩٠)، ومسلم فى (الزهد والرقائق، ٤/ ٢٢٧٥، ح ٢٩٦٣) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
87
ومن آداب الداخل في السوق: أن يكون ماشياً على رجليه، لا راكباً، كما وصف الله تعالى الرسل- عليهم السلام. وفي قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ: تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان، وإذاية الإخوان، وجفوة الناس. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى من أقاويل الكفرة ليبطلها كما أبطل ما قبلها، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
قلت: (وقال) : عطف على: (وقالوا مال هذا الرسول... ) إلخ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكى عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله- عزَّ وجَلَّ-.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة. والحاصل: أنهم يُنكرون البعث بالكلية، فأطلق الرجاء على التوقع. وقيل: لا يخافون لقاءنا لأن الرجاء في لغة تهامة: الخوف، قالوا: لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ رسلاً دون البشر، أو: يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته، أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة، فيخبرنا برسالته، ويأمرنا باتباعه، وإنما قالوا ذلك عناداً وعتواً.
قال تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أضمروا الاستكبار، وهو الكفر والعناد في قلوبهم، أو: عظموا فى أنفسهم حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء، وَعَتَوْا أي: تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان عُتُوًّا كَبِيراً بالغاً أقصى غاياته، أي: إنهم لم يجترءوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار، وأقصى العتو، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح. وهذا كقولهم: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ... إلى قوله: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «١». ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة فذهبوا في الاقتراح كل مذهب، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية. واللام: جواب قسم محذوف، أي: والله لقد استكبروا..
الآية. وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم، ما لا يخفى.
(١) الآيات: ٩٠- ٩٢ من سورة الإسراء.
88
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ عند الموت أو البعث. ويَوْمَ: منصوب باذكر، أو بما دلّ عليه: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه بمعنى: يُمنعون البشرى، أو: لا يبشر المجرمون. انظر البيضاوي. والجملة: استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون، دون أن يقال: يوم تنزل إيذاناً، من أول الأمر، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه، بل على وجه آخر غير معهود. وتكرير (يومئذٍ) لتأكيد التهويل، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مُخل بتفيظع حالهم. و (للمجرمين) :
تعيين على أنه مظهر، وُضِعَ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالإجرام، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان.
وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً على ما ذكر من الفعل المنفي، أي: لا يبشرون، ويقولون. وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر، وغاية هول مطلعه، أي: يقولون، عند مشاهدة ملائكة العذاب: حِجْراً محجوراً، أي: منعاً ممنوعاً منكم، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل، أو هجوم نازلة هائلة، يضعونها موضع الاستعاذة، فكأن المعنى: نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً، ويحجره عنا حجراً. والمعنى: أنهم يطلبون نزول الملائكة- عليهم السلام- ويقترحونه، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة، وفزعوا منهم فزعاً شديداً. وقالوا، عند رؤيتهم، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع.
وقيل: هو قول الملائكة، أي: تقول الملائكة للمجرمين، حين يرونهم: حِجْراً محجوراً، أي: حراماً محرماً عليكم البشرى، أي: جعل الله ذلك حراماً عليكم، إنما البشرى للمؤمنين. و (الحجر) : مصدر، يُفتح ويكسر، وقرئ بهما. من حَجَرَهُ إذا منعه. وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها. ومحجوراً: لتأكيد معنى الحجر، كما قالوا: موت مائت. وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على «حِجْراً» فلعله الأوجه له.
ثم ذكر مآل أعمالهم، فقال: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً الهباء: شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس، يطلع من كُوَّة. والقدوم هنا: مجاز. مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم، وإغاثة ملهوف، وقِرى ضيف، وعِتقٍ، ونحو ذلك، بحال من خالف سلطانه، فقدم إلى أشيائه، وقصد إلى ما تحت يديه، فأفسدها، ومزقها كل ممزق، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً، أي: عمدنا إليها وأبطلناها، أي: أظهرنا بطلانها بالكلية، من غير أن يكون هناك قدوم. والمنثور: المفرّق، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع.
89
ثم ذكر ضدهم، فقال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا أي: مكاناً يستقرون فيه، والمستقر: المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات، للتجالس والتحادث، وَأَحْسَنُ مَقِيلًا: مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم. ولا نوم في الجنة، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقيلا على طريق التشبيه. ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم، فيقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.
وقال سعيد الصواف: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس. وقرأ هذه الآية. هـ. وأما الكافر فيطول عليه، كما قال تعالى: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «١».
قال أبو السعود: وفي وصفه بزيادة الحسن، مع حصول الخيرية، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف.
والتفضيل المعتبر فيهما: إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي: هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا، أو إلى ما لهم في الآخرة، بطريق التهكم بهم، كما مرّ في قوله: أَذلِكَ خَيْرٌ.. الآية. هـ.
الإشارة: هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها، وهي الإيمان بالله، والإخلاص، والخضوع لمن يدل على الله، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله. ولذلك قال تعالى في وصفهم- الذي منعهم من شهوده تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أي: ولو صغروا في أنفسهم، وخضعوا خضوعاً كبيراً لحصل لهم ما طلبوا، ولبُشروا بما أملوا، وفي ذلك يقول الشاعر:
الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح اللسان (رجج، ٣/ ١٨١١).
تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ
تذلَّلْ لَهُ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ
وقيل لأبى يزيد رضي الله عنه، حين قام يصلي بالليل: يا أبا يزيد، خزائننا معمورة بالخدمة، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار. وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً، فدخلت وقلت: هلموا إلى ربكم. أو كما قال.
وفي قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ.. الخ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال، والترهيب من الرياء والعجب، الموجبان لإحباط الأعمال. وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء، فتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الأولى، فيقول المَلَكُ: ردوه، واضربوا به وجهه إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى
(١) من الآية ٤ من سورة المعارج.
90
السماء الثانية، فيقول الملك: ردوه إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة، فيقول الملك: ردوه إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة، فيقول الملك: ردوه إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة، فيقول الملك: ردوه إنه كان لا يرحم إنساناً قط، بل كان يشمت بمن وقع في بلاء، أنا ملك الرحمة، أمرني ألا يجاوزني عمله. ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة، فيقول الملك: ردوه إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة، وذكر، وتفكر، وحسن خلق، فيقفون بين يدي الله، ويشهدون له بالصلاح، فيقول الرب جل جلاله: أنتم الحفظة على عمل عبدي، وأنا الرقيب على قلبه، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل، أراد به غيري، فعليه لعنتي، ثم تلعنه الملائكة والسموات. انتهى باختصار «١»، وخرجه المنذري. وتكلم في وضعه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر موطنا آخر لرؤية الملائكة، على نمط ما تقدم، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٩]
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩)
قلت: (المُلْكُ) : مبتدأ، و (الحق) : صفته. و (للرحمن) : خبر، و (يومئذٍ) : ظرف للاستقرار.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر يَوْمَ تَشَقَّقُ أي: تنفتح، فمن قرأ بالتخفيف: حذف إحدى التاءين، وأصله: تتشقق. ومن شد: أدغم التاء في الشين، أي: تنشق السَّماءُ بِالْغَمامِ أي: عن الغمام، فتنزل ملائكة السموات في تلك الغمام ليقع الفصل بين الخلائق، وهو المراد بقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ، وَالْمَلائِكَةُ «٢». قيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني إسرائيل فى تيههم.
(١) ذكره مطولا المنذرى فى الترغيب والترهيب (١/ ٧١- ٩٣) وقال: (رواه ابن المبارك فى الزهد عن رجل، لم يسمه، عن معاذ، ورواه ابن حبان فى غير الصحيح، والحاكم، وغيرهما، وروى عن على وغيره. وبالجملة فآثار الوضع ظاهرة عليه فى جميع طرقه وبجميع ألفاظه. والله أعلم) قلت: والحديث ذكره ابن الجوزي فى الموضوعات (٣/ ١٥٤) بمعناه مطولا، وعزاه للحاكم فى التاريخ.
(٢) من الآية ٦٥ من سورة البقرة.
91
وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا عجيباً غير معهود. رُوي أن السموات تنشق سماءً سماءً، وتنزل ملائكة كل سماء في ذلك الغمام، وفي أيديها صحائف أعمال العباد، فيفصل الله بين خلقه، ولذلك قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي: السلطنة القاهرة، والاستيلاء العام، الثابت الذي لا زوال له أصلاً، هو للرحمن وحده لأن كل ملْك يزول يومئذٍ، ولا يبقى إلا ملكه.
وفائدة التقييد، مع أن المُلك لله في الدنيا والآخرة لأن في الدنيا قد تظهر صورة الملك للمخلوق مجازاً، ويكون له تصرف صوري، بخلاف يوم القيامة، ينقطع فيه الدعاوي، ويظهر الملك لله الواحد القهار، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي: وكان ذلك اليوم، مع كون الملك للمبالغ في الرحمة، عَسِيراً أي: صعباً، شديداً على النفوس بالنسبة للكافرين، وأما على المؤمنين فيكون يسيراً، بفضل الله تعالى. وقد جاء في الحديث: أنه يهون يوم القيامة على المؤمنين، حتى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة، صلَّوْهَا في الدنيا. ففي حديث أبي سعيد الخِدري حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قلت: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إِنَّهُ ليُخَفَّفُ على المؤمِنِ حتى يكونَ أخفَّ عليه من صلاةٍ مكتوبة يُصلّيها في الدنيا» «١».
وَاذكر أيضاً يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندماً وتحسراً، فعض اليد والأنامل: كناية عن شدة الغيظ والحسرة لأنها من روادفها، فتذكر المرادفة ويراد بها المردوف، فيرتفع الكلام بذلك في طبقة الفصاحة، ويجد السامع في نفسه من الروعة ما لا يجده عند اللفظ المكنى عنه.
والمراد بالظالم: إما عُقبةَ بْن أَبِي مُعيط، وكان خليلاً لأُبَيّ بن خلف، وكان عقبة يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم من سفر وصنع طعاما، فدعا إليه أشراف قومه، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قُرِّب الطعام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بآكل من طعام، حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله». فقال عقُبة: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله. فأكل النبي ﷺ طَعَامه، وكان أُبي بن خلف غائباً، فلما أُخبر، قال له: صَبأتَ يا عُقبة؟ فقال: لاَ، والله ما صبأتُ، ولكن دخل عليّ رجل فأَبَى أن يأكُلَ من طَعَامِي إلا أن أشهد له، فاسْتَحْيَيْتُ أَنْ يخرج من بيتي ولم يطعم، فَشَهِدْتُ لَهُ، فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً، حتى تأتيه فَتبْزُق في وَجْهِهِ، وتَطَأَ عُنقه، فَوَجَدَهُ ﷺ سَاجِداً، فَفعَل ذَلِكَ، وأخذ رَحِم دابته فألقاها بين كتفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ألْقَاكَ خَارجاً من مكّة إلا علوت
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٣/ ٧٥)، وابن حبان (الإحسان، تحقيق الأرنؤوط ١٦/ ٣٢٩ ح ٧٣٣٤)، وأبو يعلى (٢/ ٥٢٧ ح ١٣٩٠)، وحسّنه الهيثمي فى المجمع (١٠/ ٣٣٩).
92
رأسَكَ بالسيفِ». فقُتِلَ عُقبةُ يَوْمَ بَدْرٍ صبراً. وأما أبىّ فقتله النبي ﷺ بيده، يوم أُحُد، في المبارزة، طعنه في عنقه، فمات بمكة «١».
وعن الضحاك: لما بَصَقَ عقبة- بأمر أبي- في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، رجع بُصَاقُهُ في وجهه، وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل في وجهه حتى قتل، وقتله علىّ ببدر بأمره ﷺ بقتله. هـ.
وقال الشعبي: كان عُقْبَةُ بن أبي معيط خليلاً لأُبَي بن خلف، فأسلم عقبة، فقال أُبيّ: وجهي من وجهك حرام، أنْ تابعت محمداً، فارتدَّ لرضا صاحبه، فنزلت الآية «٢». هـ.
وإمَّا جنس الظالم، ويدخل عقبة فيه دخولاً أولياً.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي، الياء لمجرد التنبيه، من غير تعيين المنبّه، أو: المنبه محذوف، أي: يا هؤلاء لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ في الدنيا مَعَ الرَّسُولِ محمد ﷺ سَبِيلًا أي: طريقاً مُنجياً من هذه الورطات، وهو طريق الإسلام، ولم أكن ضالاً، أو: طريقاً إلى الجنة، يا وَيْلَتى، بقلب ياء المتكلم ألفاً، كما في صَحَارَى وعذارَى.
وقرئ بالياء على الأصل، أي: يا هَلَكَتِي، تَعَاليّ هذا أَوَانَكِ، لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، فلان: كناية عن الإعلام، فإن أريد بالظالم عقبة، فالمعنى: لم أتخذ أبيّاً خليلاً، فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس، فهو كناية عن علم كل من يضله، كائناً من كان، من شياطين الإنس والجن. وقيل: هو كناية عن الشيطان.
ثم قال: لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر الله، أو: القرآن، أو: الإيمان، أو: موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو:
كلمة الشهادة. وتصديره بلام القسم للمبالغة في بيان خطأه، وإظهار ندمه وحسرته، أي: والله لقد أضلني عن الذكر بَعْدَ إِذْ جاءَنِي من الله، وتمكنت منه. وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا أي: مبالغاً في الخذلان، حيث يواليه من يؤديه إلى الهلاك، ثم يتركه ولا ينفعه، وهو الحامل له على مخاللة المضل ومخالفة الرسول.
وقيل: المراد به خليله أُبيّ، وسماه شيطاناً لأنه أضله كما يضله الشيطان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض على محبة الرسول ﷺ وشد اليد على التمسك بسنته، والاهتداء بهديه، واتباع ما جاء به، قبل أن تقول: يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً. وفيها أيضاً: الترغيب في صحبة الأبرار، والترهيب من صحبة الفجار، وأنشد بعض الحكماء:
تَجَنَّبْ قَرِينَ السوء وَاصْرمْ حِبَالَهُ فَإِن لَّمْ تَجِدْ عَنْهُ مَحيصاً فَدَارِهِ
وَأَحْبِبْ حَبِيبَ الصِّدْقِ وَاْحذَرْ مِرَاءَهُ تَنَلْ مِنْهُ صَفْوَ الْوُدِّ مَا لمْ تُمارهِ
وَفِي الشَّيْبِ مَا يَنهى الحَلِيمَ عَن الصِّبَا إِذا اشْتَعَلَتْ نِيَرانُه فِي عَذَارِهِ.
(١) انظر أسباب النزول للواحدى (٣٤٣- ٣٤٤)، وتفسير البغوي (٦/ ٨). وانظر الفتح السماوي (٢/ ٨٨٠).
(٢) ذكر قول الضحاك والشعبي: البغوي فى تفسيره (٦/ ٨١) والواحدي فى أسباب النزول (ص/ ٣٤٤).
93
وقال آخر:
اصْحَبْ خِيَارَ الناسِ حَيْثُ لَقِيتَهُمْ خَيْرُ الصَّحَابَةِ مَنْ يَكُونُ عَفِيفا
والنّاس مثل دَرَاهِمٍ مَيَّزْتُها فَوَجَدْتُ فيهَا فِضَّةً وُزُيُوفا
وفي حديث أبى موسى رضي الله عنه ﷺ قال: «مثل الجليس الصَّالح مَثَلُ العَطَّارِ، إنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْره يَعْلق بك مِنْ رِيحِه. ومَثَل الجَلِيس السُّوء مَثَلُ الكِيِر، إن لم يَحْرِق ثِيابَكَ يعلق بك من ريحه» «١». وقال في الحِكَم:
«لا تصحب من لا يُنْهِضُكَ حاله، ولا يَدُلُّكَ على الله مَقَالُهُ». فإنهاض الحال هو ذكر الله عند رؤيته، والانحياش إليه بالقلب عند صحبته. ودلالة المقال على الله هو زجه في الحضرة بلا تعب، بان يرفع بينه وبين ربه الحُجُبَ، ويقول له: ها أنت وربك. وهذه حال الصوفية العارفين بالله، وقد وصفهم بعض العلماء، فقال: الصوفي من لا يعرف في الدارين أحداً غير الله، ولا يشهد مع الله سوى الله، قد سخر له كل شيء، ولم يُسخر هو لشيء، يسلط على كل شيء، ولم يسلط عليه شيء، يأخذ النصيب من كل شيىء، ولم يأخذ النصيبَ منه شيء، يصفو به كدر كل شيء، ولا يكدر صَفْوَه شيء، قد أشغله واحد عن كل شيء، وكفاه واحد من كل شيء. هـ.
قال في التنبيه: وبصحبة أمثال هؤلاء يحصل للمريد من المزيد ما لا يحصل له بغيرها من فنون المجاهدات، وأنواع المكابدات، حتى يبلغ بذلك إلى أمر لا يسعه عقل عاقل، ولا يحيط به عالم ناقل. هـ. وفي شانهم أيضاً قال صاحب العينية رضي الله عنه:
فَشَمِّرْ ولُذْ بالأَوْليَاءِ فَإنَّهُمْ لهُمْ مِنْ كِتَابِ الحَقِّ تلْكَ الوقَائعُ
هُمُ الذُّخْرُ لِلمَلهُوفِ، والكَنْزُ لِلرَّجَا، وَمِنْهُمْ يَنَالُ الصَّبُّ مَا هُوَ طامعُ
بهِم يَهْتَدي للعينِ مَن ضَلَّ فِي العَمَى بهِم يُجذَبُ العُشَّاقُ، والرَّبْعُ شاسعُ
هُمُ القَصْدُ، والمطلوبُ، والسؤلُ، والمنَى واسْمُهُم لِلصَّبِّ، فِي الحُبِّ شَافِعُ
هُم الناسُ، فالزمْ إنْ عَرفْتَ جَنَابَهُمْ فَفِيهِم لِضُرِّ العَالَمِينَ منافع
وقال الجنيد رضي الله عنه: إذا أراد الله بالمريد خيراً ألقاه إلى الصوفية، ومنعه صحبة القراء. وقال سهل رضي الله عنه: احذر صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. هـ. وقال حمدون
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٤/ ٤٠٤)، وأخرجه، بلفظ مقارب، البخاري فى (الذبائح، باب المسك، ح ٥٥٣٤)، ومسلم فى (البر والصلة، باب استحباب مجالسة الصالحين، ٤/ ٢٠٢٦، ح ٢٦٢٨).
94
القصار رضي الله عنه: (اصحب الصوفية فإن للقبح عندهم وجوهاً من المعاذير، وليس للحُسْنِ عندهم كبير موقع يعظمونك به) إشارة إلى أن العجب بالعمل منفي في صحبتهم. وقال سيدنا على رضي الله عنه: شر الأصدقاء: من أحوجك إلى المداراة، وألجأك إلى الاعتذار. وقال أيضاً: شر الأصدقاء من تُكُلِّف له. هـ. وليوسف بن الحسين الداراني رضي الله عنه:
أُحِبُّ مِنَ الإِخْوَانِ كلَّ مُواتي فِيًّا غَضِيض الطَّرف عَن عَثراتِي
يوافقني في كل أمر أحبه ويحفظُني حَياً وبَعد مماتي
فمن لِي بهذا، ليتني قد وَجَدْتُه فَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ
والحاصل من هذا: أن صحبة الصوفية هي التي يحصل بها كمال الانتفاع للصاحب، دون مَن عداهم من المنسوبين إلى الدين والعلم لأنهم خُصوا من حقائق التوحيد والمعرفة بخصائص، لم يساهمهم فيها أحد سواهم.
وسريان ذلك من الصاحب إلى المصحوب هو غاية الأمل والمطلوب، فقد قيل: مَنْ تَحَقَّقَ بِحَالَةٍ لَمْ يَخْلُ حَاضِرُوهُ مِنْهَا. انتهى من التنبيه. وبالله التوفيق.
ولما رأى ﷺ إعراض قومه عنه، شكى إلى ربه، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
قلت: (وقال الرسول) : عطف على: (وقال الذين لا يرجون..)، وما بينهما: اعتراض لبيان قبح ما قالوا، وما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الرَّسُولُ محمد صلى الله عليه وسلم، وإيراده بعنوان الرسالة للرد في نحورهم، حيث كان ما حكي عنهم قدحاً فى رسالته صلى الله عليه وسلم، أي: قال، إثر ما شاهد منهم من غاية العتو ونهاية الطغيان، شاكياً إلى ربه- عز وجل-: يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي، يعني: قريشاً الذي حكى عنهم ما تقدم من الشنائع، اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ، الذي من جملته الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب، مَهْجُوراً أي: متروكاً بالكلية، فلم يؤمنوا به ويرفعوا إليه رأساً، ولم يتأثروا بوعظه ووعيده، وهو من الهجران، وفيه تلويح بأن حق المؤمن أن يكون كثيرَ التعاهد للقرآن لئلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّم القُرْآن
فعلَّقَ مُصحفاً لَمْ يتعَاهَدْهُ، وَلَمْ يَنْظُرْ فيه، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتعَلِّقاً بِهِ، يَقُولُ: يَا رَبَّ العَالمينَ عَبْدُكَ هذَا اتَّخَذَنِي مَهْجُوراً، اقْضِ بَيْنِي وبَيْنَهُ» «١».
وقيل: هو من هجر إذا هذى، أي: قالوا فيه أقاويل باطلة، كالسحر، ونحوه، أو: بأن هجروا فيه إذا سمعوه، كقولهم: لاَ تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٢» أي: مهجوراً فيه.
وفيه من التحذير والتخويف ما لا يخفى، فإن الأنبياء- عليهم السلام- إذا شكو إلى الله تعالى قومهم عجَّل لهم العذاب، ولم يُنظروا.
ثم أقبل عليه مسلياً، وواعداً لنصره عليهم، فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ فتسلّ بهم، واقْتَدِ بمن قبلك من الأنبياء، فَمِنْ هنا سَاروا. أي: كما جعلنا لك أعداء من المشركين، يقولون ما يقولون، ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل، جعلنا لكل نبي من الأنبياء، الذين هم أصحاب الشرائع والدعوة إليها، عدواً من مجرمي قومِهم، فاصبر كما صبروا فإن الله ناصرك كما نصرهم. وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً، وهو وعد كريم بالهداية له إلى مطالبه، والنصر على أعدائه، أي: كفاك مالِكُ أمرِك ومُبَلغك إلى غاية الكمال، هادياً إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات، التي من جملتها: تبليغ الكتاب، وإجراء أحكامه إلى يوم القيامة. أو: وكفى بربك هادياً لك إلى طريق قهرهم والانتصار منهم، وناصراً لك عليهم. والعدو: يجوز أن يكون واحداً وجمعاً، والباء:
زائدة، وهادِياً وَنَصِيراً: تمييزان. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من السنة التي أجراها الله تعالى في خواصه: أن يكون جيرانهم وأقاربهم أزهد الناس فيهم، وأقواهم عليهم، وأعدى الناس إليهم. وفي الأثر: «أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جِيرانُهُ». فلا ينتفع بالولي، في الغالب، إلا أبعدُ الناس منه، وقلَّ أن تجد ولياً عُمِّرَ سُوقُهُ في بلده، فالهجرة سُنَّة ماضية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وكما جعل لكل نبي عدواً جعل لكل ولى عدوا، فلابد للولي أن يبقى له من يحركه إلى ربه بالإذاية والتحريش، إما من جيرانه، أو من نسائه وأولاده ليكون سيره بين جلاله وجماله، وكفى بربك هاديا ونصيرا.
ثم ذكر اقتراحهم الخاص بالقرآن، بعد ذكر اقتراحهم الخاص به- عليه الصلاة والسلام- فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
(١) عزاة المناوى فى الفتح السماوي (٢/ ٨٨١) للثعلبى، من طريق أبى هدبة إبراهيم بن هدبة، عن أنس، قال المناوى: وأبو هدبة كذاب.
(٢) من الآية ٢٦ من سورة فصلت.
96
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: قريشاً، وهم القائلون: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «١»، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم، قالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ، وإلا كان متدافعاً لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة، أي:
هلاَّ أنزل القرآن، حال كونه جُمْلَةً واحِدَةً أي: دفعة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل مفرقاً في سنين؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها، ودليل كونها من عند الله، إعجازُها، وأما القرآن الكريم، فبينة صحته، ودليل كونه من عند الله، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور، ولا ريب في أنَّ ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً، على أن له فوائد أخرى، قد أشير إلى بعض منها بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود.
أي: أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين لنثبت به فؤادك، ونقوي به يقينك، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب، وازداد اليقين، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري: لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل- عليه السلام- بالرسالة في كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجبَ لسكون قلبه، وكمال رَوْحه، ودوام أُنْسه، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً. هـ.
وقال القرطبي بعد كلام: وأيضا: لو أنزل جملة، بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وأيضاً: في تفريقه تنبيه لهم، مرة بعد مرة، وهو أنفع لهم، وأيضاً: فيه ناسخ ومنسوخ، ولو نزل ذلك جملة لنزل فيه الأمر بالشيء وبتركه، وهو لا يصح. هـ. وقال النسفي: لنقوي، بتفريقه، فؤادك حتى تعيه وتحفظه لأن المتلقي إنما يقوى قلبه على حفظ العلم شيئاً بعد شيء، وجزءاً عقب جزء، ولو ألقي عليه جملة واحدة لعجز عن حفظه. أو: لنُثبت به فؤادك عن الضجر وذلك بتواتر الوصول وتتابع الرسول لأن قلب المحب يسكن بتواصل كتب المحبوب. هـ.
(١) الآية ٢١ من سورة الفرقان.
97
وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي: كذلك فرقناه ورتلناه ترتيلاً بديعاً عجيباً، أي: قدرناه آية بعد آية، ووقفة عقب وقفة، وأمرنا بترتيل قراءته، بقولنا: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا «١» أو: فصلناه تفصيلاً، أو: بيّناه تبييناً فيه ترتيل وتثبت.
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة، واقتراحاتهم الفاسدة الخارجة عن دائرة العقول، الجارية لذلك مجرى الأمثال، إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ إلا أتيناك بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، الذي ينحى عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال، كما مر من الأجوبة الحقية، القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة، الدامغة لها بالكلية. وجئناك بأحسن تَفْسِيراً أي: بيانأ وتفصيلاً، بمعنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته، لا أن ما يأتون به حَسَنٌ، وهذا أحسن منه، وإنما المعنى: لا يسألونك عن شيء غريب إلا جئناك بما يبطله وما يكشف معناه، ويفسره غاية التفسير.
ثم ذكر مآل الكفرة المقترحين لهذه الشُّبَهِ، فقال: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي:
يُحشرون كائنين على وجوههم، يسحبون عليها، ويجرون إلى جهنم. وقيل: مقلوبين وجوههم إلى قفاهم، وأرجلهم فوق، أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: مكانة ومنزلة، أو: مسكناً ومنزلاً، وَأَضَلُّ سَبِيلًا وأخطأ طريقاً.
ونزلت الآية لَمَّا قالوا: إن أصحاب محمد شر خلق الله وأضل الناس طريقاً. وقيل: المعنى: إن حاملكم على هذه السؤالات اعتقادُكُمَ أن محمداً ضال، ومكانه حقير، ولو نظرتم إلى ما يؤول إليه أمركم، لعلمتم أنكم شر منه مكاناً، وأضل سبيلاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تثبيت القلوب على الإيمان، وتربية اليقين، يكون بصحبة الأبرار ورؤية العارفين الكبار، والترقي في معاريج التوحيد، إلى أن يفضي إلى مقام العيان، يكون بعقد الصحبة مع أهل التربية، وخدمتهم وتعظيمهم، حتى يوصلوه إلى ربه. ومن شأنهم إن الله يدافع عنهم، ويجيب من سألهم تشغيباً، فيلهمهم الجواب، فضلاً منه، فلا يُسألون عن شيء إلا جاءهم بالحق وأحسن تفسيراً، ثم هدد من صغَّرهم وحقَّر شأنهم بقوله:
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ الآية. والله تعالى أعلم.
ثم ردّ على مَن طلب إنزال القرآن جملة، بكون كتاب التوراة نزل جملة، ومع ذلك كفروا به، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
(١) من الآية ٤ من سورة المزمل. [.....]
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أُنزل عليه جملة، ومع ذلك كفروا وكذبوا به، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ «١»، فكذلك هؤلاء، لو نزل جملة، كما اقترحوا، لكفروا وكذبوا كما كذَّب أولئك. وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً، فأخاه: مفعول أول لجعل، و (وزيراً) : مفعول ثان، أي: جعلنا معه أخاه مقوياً ومعيناً. والوزير: من يُرجع إليه ويُتَحَصَّنُ برأيه، من الوزَر، وهو الملجأ. والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يُبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويُؤمرون أن يوازر بعضهم بعضاً. ، أو: يكون وزيراً أول مرة ورسولاً ثانياً.
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: فرعون وقومه. والمراد بالآيات: التسع الظاهرة على يد موس عليه السلام، ولم يتصف القوم بالتكذيب عند إرسالها إليهم ضرورة لتأخير تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن إرسالها، بل إنما وُصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بياناً لعلة استحقاقهم، لما حكي بعده من التدمير.
أي: فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها، فكذبوهما تكذيباً مستمراً، فَدَمَّرْناهُمْ إثر ذلك تَدْمِيراً عجيباً هائلاً، لا يُقادر قدره، ولا يدرك كنهه. فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود. انظر أبا السعود.
الإشارة: أعباء الرسالة والولاية لا تحمل ولا تظهر إلا بمُعين. قال تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى «٢»، ولا بد لصاحب الخصوصية من إخوان يستعين بهم على ذكر الله، ويستظهر بهم على إظهار طريقة الله. فإن وُجد وَليّ لا إخوان له، ولا أولاد، فلا يكون إلا غالباً عليه القبض، مائلاً لجهة الجذب، فيقل الانتفاع به، ولا تحصل التوسعة للوَلي إلا بكثرة الأصحاب والإخوان، يعالجهم ويصبر على جفاهم، حتى يتسع صدره وتتسع معرفته. وبالله التوفيق.
ثم سلّى نبيه بما جرى على الأمم قبله، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠)
(١) من الآية ٤٨ من سورة القصص.
(٢) من الآية ٢ من سورة المائدة.
99
قلت: (وقوم) : منصوب بمضمر يدل عليه (دمرناهم)، أي: ودمرنا قوم نوح، و (عاداً وثموداً) : عطف على (قوم نوح).
يقول الحق جلّ جلاله: وَدمرنا أيضاً قَوْمَ نُوحٍ، وذلك أنهم لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ نوحاً، ومن قبله شَيْثاً وإدريس، أو: لأن تكذيبهم لواحد تكذيب للجميع لاتِّفَاقِهمْ على التوحيد والإسلام، أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان، وَجَعَلْناهُمْ أي: وجعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً: عبرة يعتبر بها كل من يشاهدها أو يسمعها. وَأَعْتَدْنا هيأنا لِلظَّالِمِينَ أي: لهم. وأظهر في موضع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد في الظلم، أو لكل ظالم ظلم شرك، فيدخل كل من شاركهم، كقريش وغيرهم، أي: هيأنا عَذاباً أَلِيماً، أي: النار المؤبدة عليهم.
وَدمرنا أيضا عاداً وَثَمُودَ، وقد تقدم في الأعراف «١»، وهو كيفية تدميرهم. وَأَصْحابَ الرَّسِّ، هم قوم شعيب قال ابن عباس: أصحاب الرسّ: أصحاب البئر. قال وهب: كانوا أهل بئر، قعوداً عليها، وأصحابَ مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيباً، فآذوه، وتمادوا في طغيانهم، فبينما هم حول البئر- والبئر في وسط منازلهم- انهارت بهم وبديارهم، فهلكوا جميعاً. وقال قتادة: الرسُّ: قرية بفَلْح اليمامة، قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله. وقيل: هم بقية قوم هود وقوم صالح، وهم أصحاب البئر، التي قال: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ «٢».
وقال سعيد بن جبير وغيره: قوم كان لهم نبي، يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل، يقال له:
فتخ، مَصْعَدُه في السماء ميل، وكانت العنقاء تنتابه، وهي كأعظم ما يكون من الطير، وفيها من كل لون- وسموها العنقاء لطول عنقها- وكانت تنقض على الطير فتأكلها، فجاعت ذات يوم، فانقضت على صبي فذهبت به، - وسميت عنقاء مغرب لأنها تُغّرِّبُ ما تأكله عن أهله، فتأكله- ثم انقضت على جارية قد ترعرعت، فأخذتها فطارت بها، فشكوا إلى نبيهم، فقال: اللهم خذها واقطع نسلها، فأصابتها صاعقة، فاحترقت، فلم يُر لها أثر، فصارت مثلاً عند العرب. ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله. وقال مقاتل والسدي: هم أصحاب بئر إنطاكية، وتسمى الرس، قتلوا فيها حبيباً النجار، فنُسبوا إليها، وهم الذين ذُكروا في (يس). وقيل: هم أصحاب الأخدود الذين حفروه، والرسُّ في كلام العرب: كل محفور مثل البئر، والقبر، والمعدن، وغير ذلك، وجمعها: رساس. وقال عكرمة: هم قوم رسّوا نبيهم في بئر.
(١) راجع تفسير الآيات: ٦٥- ٧٨ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ٤٥ من سورة الحج.
100
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس مِمَّنْ يدخل الجنة عبد أسود، وذلك إن الله تعالى بَعَثَ نَبِياً إلى قَرْيَةٍ، فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ إلا ذلِكَ الأَسْوَد، فحَفَرَ أَهْلُ القَرْيَةِ بِئْراً وأَلْقوا فِيها نبيهم، وأطْبقُوا عَلَيْهَا بحَجر ضخْم، فكَانَ العَبْدُ يَحْتَطِب على ظهره، ويبيعه، ويأتيه بطعامه، فيعينه الله تعالى على رفع تلك الصخرة حتى يُدليه إليْهِ. فبينما هو يحْتَطِبُ ذَات يَوْمٍ إذ نام، فَضَرَبَ على أذنهِ سَبْعَ سِنينَ، ثم جاء بطَعَامه إلى البئر فلم يَجِده. وكان قومُه قد بدا لهم فاسْتَخْرجُوه وآمَنُوا بِهِ، ومات ذلك النبي، فقال- عليه الصلاة والسلام: «إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لأوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الجَنَّة» «١»، يعني: من قومه. هـ. وهؤلاء آمنوا فلا يصح حمل الآية عليها، إلا أن يكونوا أحدثوا شيئاً بعد نبيهم، فدمرهم الله.
وقال جعفر بن محمد عن أبيه: أن أصحاب الرسّ: السحّاقات، قال أنس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعَةِ أن يستكفي الرجالُ بالرجالِ، والنساءُ بالنساءِ» «٢»، وذلك السحاق، ويقال له أيضاً: المساحقة، وهو حرام بالإجماع. وسبب ظهوره: أن قوماً أحدثوا فاحشة اللواط، حتى استغنوا عن النساء، فبقيت النساء معطلة، فجاءتهن شيطانة في صورة إمرأة، وهي الوَلِهات بنت إبليس، فشهَّت إلى النساء ركوب بعضهن بعضاً، وعلمتهن كيف يصنعن ذلك، فسلط عليهم صاعقة من أول الليل، وخسفاً من آخر الليل، وصيحة مع الشمس، فلم يبق منهم بقية. هـ.
وَقُرُوناً أي: دمرنا أهل قرون. والقرن: سبعون سنة، وقيل: أقل، وقيل: أكثر، بَيْنَ ذلِكَ أي: بين ذلك المذكور من الأمم والطوائف، كَثِيراً، لا يعلم عددها إلا العليمُ الخبير، وَكُلًّا من الأمم المذكورين قد ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي: بيَّنا له القصص العجيبة، الزاجرة عماهم عليه من الكفر والمعاصي، بواسطة الرسل. وقيل: المراد: تبيين ما وقع لهم، ووصف ما أدى إليه تكذيبهم لأنبيائِهِمْ، من عذاب الله وتدميره إياهم، ليكون عبرة لمن بعدهم، وَكُلًّا أي: وكل واحد منهم تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي: أهلكنا إهلاكاً عجيباً. والتتبير:
التفتيت. قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته.
ثم بيّن بعض آثار الأمم المُتَبَّرَةِ، فقال: وَلَقَدْ أَتَوْا يعني: أهل مكة عَلَى الْقَرْيَةِ، وهي سدوم، وهي أعظم قرى قوم لوط، وكانت خمساً، أهلك الله أربعاً، وبقيت واحدة، كان أهلها لا يعملون الخبيث، وأما البواقي فأهلكها بالحجارة، وإليه أشار بقوله: الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أي: أمطر الله عليها الحجارة. والمعنى: والله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أهلكها الله، وبقي آثارها خاربة، أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها
(١) أخرجه الطبري فى التفسير (١٩١/ ١٤) عن محمد بن كعب القرطبي، وانظر تفسير ابن كثير (٣/ ٣١٨).
(٢) أخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (١٠/ ٢٨٢ ح ١٠٥٥٦) مطولا من حديث ابن مسعود رضى الله عنه وفيه: «يا ابن مسعود إن أعلام الساعة وأشراطها..» الحديث. قال فى مجمع الزوائد ٧/ ٣٢٣. رواه الطبراني فى الأوسط. وفيه: سيف بن مسكين، وهو ضعيف.
101
في مرورهم ورجوعهم، فيتفكرون ويؤمنون، بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً أي: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، لا يخافون ولا يأملون بعثاً، كما يأمله المؤمنون لطمعهم في الوصول إلى ثواب أعمالهم. أو: بل كانوا قوماً كفرة بالبعث، منهمكين في الغفلة، يرون ما نزل بالأمم أمرا اتفاقياً، لا بقدرة الباقي، فطابع الكفر منعهم من التفكر والاعتبار. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للمؤمن العاقل، المشفق على نفسه، أن ينظر فيمن هلك من الأمم السالفة، ويتأمل فى سبب هلاكهم، فيشديده على الاحتراز مما استوجبوا به الهلاك، وهو مخالفة الرسل وترك الإيمان فيشديده على متابعة ما جاء به الرسول ﷺ من الأوامر والنواهي، ويرغب فيما رَغَّب فيه، ويهتدي بهديه، ويقتدي بسنته، ويربي إيمانه، ويجعل البعث والنشر والحشر بين عينيه، فهذه طريق النجاة. وينبغي للمريد، إذا رأى فقيراً سقط من درجة الإرادة ويبست أشجاره، أن يحترز من تلك الزلاقة التي زلق فيها، فيبحث عن سبب رجوعه، ويجتنبه جهد استطاعته. ومرجعها إلى ثلاث: خروجه من يد شيخه إلى غيره، وسقوط تعظيم شيخه من قلبه بسبب اعتراض أو غيره، واستعمال كثرة الأحوال، حتى يلحقه الملل. نسأل الله الحفظ من الجميع بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر وبال مَن لم يعظم الواسطة، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا رَأَوْكَ أي: مشركو مكة إِنْ ما يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي:
مهزوءاً بك، أو محل هزؤ، حال كونهم قائلين: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا، ورسولاً: حال من العائد المحذوف، أي: هذا الذي بعثه الله رسولاً، والإشارة للاستحقار في اعتقادهم وتسليمهم البعث والرسالة، مع كونهم في غاية الإنكار لهما على طريق الاستهزاء، وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولاً.
102
إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي: ليصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالتهم بادعاء أن عبادتها طريق سَوي. لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها لصرفنا عنها، وهو دليل على مجاهدة الرسول ﷺ في دعوتهم، وإظهار المعجزات لهم، حتى شارفوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم وتقليدهم.
قال تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم، مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا، وأخطأ طريقاً. وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى يُمهل ولا يهمل.
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي: أطاع هواه فيما يذر ويفعل، فصار معبوده هواه، يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: هذا الذي لا يرى معبوده إلا هواه، كيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى وتهديه إليها؟ يُروى أن الواحد من أهل الجاهلية كان يعبد الحجر، فإذا مر بحجر أحسن منه تركه وَعَبَد الثاني. وقال الحسن: هو في كل متبع هواه. أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظاً تحفظه عن متابعة هواه وعبادة ما يهواه. والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله، كأنه قيل: أبعد ما شاهدت من غلوه في طاعة الهوى، وعتوه عن اتباع الهدى، تقهره على الإيمان، شاء أو أبى، وإنما عليك التبليغ فقط.
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ، «أم» : منقطعة، بمعنى بل، أي: بل أتظن أن أكثرهم يسمعون ما تتلو عليهم من الآيات حق السماع، أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ والأنكال؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي: ما هم، في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات، وانتفاء التأثير بما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات، إلاّ كالبهائم، التي هي غاية في الغفلة، ومَثل في الضلالة، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا لأن البهائم تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعاهدها، وتعرف من يُحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وتأوي إلى معاطنها، وهؤلاء لا ينقادون لخالقهم ورازقهم، ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، الذي هو أعدى عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العقاب الذي هو أقبح المضار والمعاطب، ولا يهتدون إلى الحق، الذي هو الشرع الهني، والمورد العذب الروي، ولأنها، إن تعتقد حقاً مستتبعاً لاكتساب الخير، لم تعتقد باطلاً مستوجباً لاقتراب الشر، بخلاف هؤلاء حيث مهَّدوا قواعد الباطل، وفرعوا أحكام الشرور، ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة عليها، لا تتعدى إلى أحد، وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفساد، وصد الناس عن سنَن السداد، وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال، لعدم القوى العقلية، فلا تقصير من قبلها، ولا ذم، وهؤلاء متمكنون من القوى العقلية مضيعون الفطرة الأصلية، مستحقون بذلك أعظم العقاب، وأشد النكال. هـ. وأصله للبيضاوي.
103
الإشارة: تعظيم الرسول ﷺ وإجلاله وتوقيره من أعظم ما يُقرب إلى الله، ويوصل إلى رضوان الله، ويدخل العبد على مولاه لأنه باب الله الأعظم، والواسطة الكبرى بين الله وبين عباده، فمن عظَّمه ﷺ وبجّله وخدمه أتم الخدمة، أدخله الحضرة، على التوقير والتعظيم والهيبة والإجلال. ومن حاد عن متابعتة فقد أتى البيت من غير بابه كمن دخل حضرة الملك بالتسور، فيستحق القتل والطرد والبُعد. وإدخاله على الله: دلالته على من يعرفه بالله، وقد يوصله بلا واسطة، لكنه نادر. ومن أهمل هذا الجانب واستصغره طرده الله وأبعده، وانسحب عليه قوله: وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، وكان ممن اتخذ إلهه هواه، وكان كالبهائم، أو أضل لأن من اتبع الواسطة كان هواه تابعاً لما جاء من عند الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبعاً لِمَا جئتُ به».
وبالله التوفيق.
ثم ذكر دلائل توحيده، بعد بيان من غفل عنها وضل، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلى رَبِّكَ أي: ألم تنظر إلى بديع صنع ربك ودلائل قدرته وتوحيده. والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-، لتشريفه وتبجيله، وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار قدرته ورحمته، كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي: بسطه حتى عمَّ الأرض، وذلك من حين طلوع الفجر إلى وقت طلوع الشمس، في قول الجمهور لأنه ظل ممدود، لا شمس معه ولا ظلمة، فهو شبيه بظل الجنة. وقيل: مد ظل الأشياء الشاخصة أول النهار من شجر، أو مدر، أو إنسان، ثم قبضها وردها إلى المشرق.
وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: دائماً لا يزول ولا تُذهبه الشمس، أو: لا ينتقص بسيرها. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ
104
عَلَيْهِ
أي: على الظل دَلِيلًا، لأنه بالشمس يُعرف الظل، فلولا طلوعها وظهورها ما عرف الظل، ولا ظهر له أثر، فالأشياء تُعرف بأضدادها.
ثُمَّ قَبَضْناهُ أي: أخذنا ذلك الظل الممدود إِلَيْنا إلى حيث إرادتنا قَبْضاً يَسِيراً أي: على مهل قليلاً قليلاً، حسب ارتفاع دليله، على حسب مصالح المخلوقات ومرافقها.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً أي: جعل الظلام الساتر كاللباس وَالنَّوْمَ سُباتاً أي: راحة لأبدانكم، وقطعاً لأعمالكم. والسبت: القطع، والنائم مسبوت لأنه انقطع عمله وحركته، وقيل السبات: الموت، والميت مسبوت لأنه مقطوع الحياة، كقوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «١». ويعضده ذكر النشور في مقابلته بقوله: وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي: ذا نشور، أي: انبعاث من النوم، كنشور الميت، أو: ينشر فيه الخلق للمعاش.
وهذه الآية، مع دلالتها على قدرته تعالى، فيها إظهار لنعمته تعالى لأن في الاحتجاب بستر الليل فوائد دينية ودنيوية، وفي النوم واليقظة- المشبهين بالموت والبعث- عبرة للمعتبرين. قال لقمان لابنه: كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر.
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، وعن المكي بالإفراد، نَشْراً «٢» : جمع نشور، أي: أرسلها للسحاب حتى تسوقها إلى حيث أراد تعالى أن تمطر، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: أرسلها قدام المطر، لأنه ريح، ثم سحاب، ثم مطر. وقرأ عاصم بالباء، أي: مبشرات بالمطر. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء طَهُوراً أي: مطهراً بالغاً في التطهير، كقوله: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «٣» وهو اسم لما يتطهر به، كالوضوء والوقود، لِمَا يتوضأ به ويوقد به. وقيل: طهور في نفسه، مبالغة في الطاهرية، فالطهور في العربية يكون صفة، كما تقول: ماء طهور، واسماً، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:
«التراب طهور، والمؤمن طهور»، وقد يكون مَصْدَراً بمعنى الطهارة، كقولك: تطهرت طهوراً حسنا، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بطهور» «٤». ووصْفُهُ تعالى الماءَ بذلك ليكون أبلغ في النعمة، فإن الماء الطهور أنفع وأهنأ مما خالطه ما يزيل طهوريته، أي: أنزلناه كذلك.
لِنُحْيِيَ بِهِ أي: بالمطر الطهور بَلْدَةً مَيْتاً بالجدب والقحط، فحييت بالنبات والعشب. والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد، والمراد به: القطعة من الأرض عامرة أو غامرة. وَنُسْقِيَهُ أي: ذلك الماء الطهور، عند
(١) من الآية ٦٠ من سورة الأنعام.
(٢) قرأ عاصم: «بشرا» بالباء، وقرأ الباقون «بالنون».. انظر الإتحاف (٢/ ٣٠٩).
(٣) من الآية ١١ من سورة الأنفال.
(٤) أخرجه بطوله مسلم فى (الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، ١/ ٢٠٤، ح ٢٢٤) من حديث ابن عمر. رضي الله عنه: (لا تقبل صلاة بغير طهور.) الحديث.
105
جريانه في الأودية، أو اجتماعه في الآبار والحياض، مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي: نسقي ذلك بهائم وناساً كثيراً. والأناسي: جمع أُنْسِيّ، ككرسي وكراسي. وقيل: جمع إنسان، وأصله: أناسين، وأبدلت النون ياءً، وأدغمت التي قبلها فيها. وقدَّم إحياء الأرض على سقي الأنعام والأناسي لأن حياتها سبب لحياتهما. وتخصيص الأنعام من بين سائر الحيوان لأن عامة منافع الإنسان متعلقة بها.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي: هذا القول، الذي هو إنشاء السحاب وإنزال المطر، على الوجه الذي مرّ من الغايات الجميلة، في القرآن وغيره من الكتب السماوية، أو: صرفنا المطر عاماً بعد عام وفي بلدة دون أخرى. أو: صرفناه بينهم وابلاً، وطَلاًّ، ورذاذاً وديمة. وقيل: التصريف راجع إلى الريح. وقيل: إلى القرآن المتقدم في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ.. «١» ويعضده: وَجاهِدْهُمْ بِهِ «٢». وقوله: بَيْنَهُمْ أي: بين الناس جميعاً متقدمين ومتأخرين، لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا ويعرفوا قدر النعمة فيه، أو: ليعرفوا بذلك كمال قدرته وسعة رحمته، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ ممن سلف وخلف إِلَّا كُفُوراً أي: جحودا لهذه النعمة وقلة اكْتِرَاثٍ بها، وربما نسبوها إلى غير خالقها، فيقولون: مُطرنا بنَوْء كذا.
وفي البخاري عنه ﷺ يقول الله تعالى: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ، فَأَما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْل الله ورَحْمَتهِ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بالكَواكِب. وأما مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، فهو كافِرُ بِي، مُؤْمِنٌ بالكَواكِبِ» «٣». فمن نسب الأمطار إلى الأنواء، وجَحَد أن تكون هي والأنواء من خلق الله، فقد كفر، ومن اعتقد أن الله خالقها، وقد نصب الأنواء أمارات ودلالات عليها، لم يكفر.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «ليس سَنَةٌ بأمطر من الأخرى، ولكن الله تعالى قسم هذه الأرزاق، فجعلها في سماء الدنيا، في هذا القطر، ينزل منه كل سنة بكيل معلوم ووزن معلوم. ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوَّل الله ذلك إلى غيرهم، فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار» «٤». والله تعالى أعلم.
الإشارة: الكون كله، من جهة حسه الظاهر، ظل آفل، وضباب حائل، لا وجود له من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار، فظلال
(١) الآية ٣٢ من هذه السورة.
(٢) الآية ٥٢.
(٣) أخرجه البخاري فى (الاستسقاء، باب قول الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ح ١٠٣٨) ومسلم فى (الإيمان، باب كفر من قال: مطرنا بالنوء، ١/ ٨٣، ح ١٢٥)، عن زيد بن خالد الجهني.
(٤) ذكره بلفظه البغوي فى تفسيره (٦/ ٨٩) وعزاه لابن إسحاق، وابن جريج، ومقاتل، وبلغوا به ابن مسعود يرفعه. وأخرج الحاكم في المستدرك (التفسير ٢/ ٤٠٣)، عن ابن عباس: «ما من عام، أمطر من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء، وتلا هذه الآية. يعنى: قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي على شرط الشيخين. [.....]
106
الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار، فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية، بل تخرقها، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية، الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعلوية والسفلية، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات، وإليه الإشارة بقوله: ألم تر، أيها العارف، إلى ربك كيف مد الظل، أي: مد ظل الكائنات ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة، التي أراد فتحها، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب، وتصير عارفة بالله. ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي: على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي: ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله «١» قياماً برسم الحكمة، وأداء لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي: ستراً ورداء من الهفوات لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم- أي: الزوال- سُباتاً، أي: راحد من كدّ التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحِكَم:
«ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً».
وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي: معرفته إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي: روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا.
ولذلك قال تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار، لكن خُولف ذلك في حق نبينا ﷺ تشريفاً لقدره، وتعظيماً لأمره، كما أشار إلى ذلك بقوله:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
(١) إذن فهو فناء شهود، وليس فناء وجود. فتنبه، أعزك الله.
107
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً أي: رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً «١» لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول ﷺ عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري: فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي: كُنْ قائماً بحقِّنا، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا، أو مبالاةٌ بسوانا، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. هـ.
وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي: بالقرآن بأن تقرأ عليهم ما فيه من الزواجر والقوارع والمواعظ، وذكر أحوال الأمم الهالكة، جِهاداً كَبِيراً عظيماً موقعه عند الله لما يتحمل فيه من المشاق، فإن دعوة كُلِّ العالمين، على الوجه المذكور، جهاد كبير، أو: (جاهدهم به) بالشدة والعنف من غير مداداة ولا ملاينة، فَكِبَرُ الجهادِ هو ملابسته بالشدة والعنف، كقوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: الإنذار والوعظ بالمقال مع الهمة والحال عزيز الوجود، فقلَّ أن يجتمع منهم، في العصر الواحد، ثلاثة أو أربعة في الإقليم الكبير لأن الله تعالى لم يشأ ذلك بحكمته، قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً، وكلما قَلَّ عددهم، وعظُم الانتفاع بهم، عظُم قدرهم، فينبغي للمذكِّر أن يُذكِّر كُلاًّ بما يليق به، فأهل العصيان ينبغي له أن يشدد في الإنذار، ولا يداريهم ولا يداهنهم. وأهل الطاعة ينبغي له أن يُبشِّرهم ويسهل الأمر عليهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يسّروا ولا تعسّروا، ويشّروا ولا تُنَفِّرُوا» «٣»، فيحتاج المذكِّر إلى فطنة وفراسة، حتى يعطي كل واحد ما يليق به، ويخاطب كل واحد بما يطيقه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته، فقال:
(١) من الآية الأولى من سورة الفرقان.
(٢) من الآية ٧٣ من سورة التوبة، والآية ٩ من سورة التحريم.
(٣) أخرجه البخاري فى (كتاب العلم، باب: ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة، ح ٦٩) ومسلم فى (الجهاد والسير. باب الأمر بالتيسير وترك التنفير، ٣/ ١٣٠٩، ح ١٧٣٤) من حديث أنس بن مالك- رضى الله عنه.
108

[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٥٣]

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)
قلت: أصل المرج: الخلط والإرسال، ومنه قوله تعالى: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «١»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كيف بك يا عبدَ اللهِ إذا كنت في حُثَالةٍ من الناس، قد مرجتْ عهودهُمْ وأماناتهمْ، وصاروا هكذا، وشَبَّكَ بين أصابعه» «٢».
يقال: مرجت دابته وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى. ومنه قيل للروضة: مرج.
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسلهما، وخَلاَّهُمَا متجاورَيْن متلاصقَيْن غير متمازجَيْن. هذا عَذْبٌ فُراتٌ أي: شديد العذوبة، قامع للعطش لعذوبته، أي: برودته، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ: بليغ الملوحة، أو: هذا عذب لا ملوحة فيه، وهذا ملح لا عذوبة فيه، مع اتحاد جنسهما، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حائلاً بقدرته، يفصل بينهما ويمنعهما التمازج لئلا يختلطا، وَحِجْراً مَحْجُوراً أي: وستراً ممنوعاً عن الأعين، كقوله: حِجاباً مَسْتُوراً «٣»، أي: جعل بينهما حاجزاً خفياً لئلا يغلب أحدهما الآخر، أو: سداً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان، ولا يفسد الملحُ العذبَ، ولو خَلاَّ الله تعالى البحر الملح، ولم يلجمه بقدرته، لفاض على الدنيا، واختلط مع العذب وأفسده.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)
ثم ذكر دليلاً آخر، فقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ أي: النطفة بَشَراً إنساناً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً.
قسم البشر قسمين: ذوي نسب، أي: ذكوراً، ينسب إليهم، فيقال: فلان ابن فلان. وذوات صهر، أي: إناثاً يصاهر بهن، فهو كقوله: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «٤». قال ابن جزي: والنسب: أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ، قَرُبَ ذلك أو بَعُدَ. والصهر: هو الاختلاط بالتناكح. هـ. وعن علي رضي الله عنه: النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل نكاحه.
وعن الضحاك ومقاتل: النسب سبعة، والصهر خمسة، ثم قرأ هذه الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ «٥». فالسبعة الأولى:
نسب، والباقي: صهر. هـ. والأصح أن التسعة نسب، والباقي صهر.
(١) من الآية ٥ من سورة ق.
(٢) أخرجه ابن حبان (الإحسان ٧/ ٥٧٥ ح ٥٩٢٠) عن أبى هريرة، وأخرجه أحمد فى المسند (٢/ ١٦٢)، وأبو داود فى (الملاحم، باب الأمر والنهى، ٤/ ٥١٣، ح ٤٣٤٢) وابن ماجه فى (الفتن، باب التثبت فى الفتنة، ٢/ ١٣٠٧ ح ٣٩٥٧)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(٣) من الآية ٤٥ من سورة الإسراء.
(٤) من الآية ٣٩ من سورة القيامة.
(٥) من الآية ٢٣ من سورة النساء.
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً ذا نوعين، ذكراً وأنثى، أو: حيث خلق من مادة واحدة بشراً ذا أعضاء مختلفةٍ وطباعٍ متباعدة، وجعله قسمين متقابلين ذكراً وأنثى.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، بعد هذا البرهان الواضح على توحيده، ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه، وَلا يَضُرُّهُمْ إن تركوه، وهم الأصنام، أو كل من عُبد من دون الله إذ المخلوق كله عاجز، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ، الذي ذكر آثار قدرته ودلائل ربوبيته، ظَهِيراً مُعِيناً، يظاهر الشيطان ويعينه على الكفر والعصيان. والمعنى: أن الكافر بعبادة الصنم، يتابع الشيطان ويُعاونه على معصية الرحمن. وقال ابن عرفة: أي:
مظاهراً لأعداء الله على أولياء الله، فتلك إعانته. هـ.
الإشارة: مَرج البحرين بحر الشريعة وبحر الحقيقة، فبحر الشريعة عذب فرات لأنه سهل المدارك، يناله الخاص والعام، وبحر الحقيقة مِلح أُجاج لأنه لا يناله إلا من ذاق مرارة فطام النفس من هواها، ومجاهدتها في ترك مُنَاها، حتى تموت ثم تحيا، فحينئذٍ تتلذذ بمشاهدة مولاها، وتطيب حياتها في أخراها ودنياها. فبحر الحقيقة صعب المرام، لا يركبه إلا الشجعان، وفي ذلك يقول صاحب العينية رضي الله عنه:
وإيَّاك جَزعًا «١» لا يَهُولُكَ أمرُهَا فَمَا نَالَهَا إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ
والبرزخ الذي جعل بينهما: نور العقل، يميز بين محل الشرائع ومحل الحقائق، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه.
ثم ذكر شأن الواسطة، التي هى سبب لركوب البحرين، فقال:
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً...
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين وَنَذِيراً للكافرين، قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة مِنْ أَجْرٍ من جهتكم، فتقولون: إنما يطلب محمد جمع أموالنا، إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه طريقاً تُوصله إليه، بإنفاقِهِ مَالَهُ في سبيل الله، فليفعل وليعطه لغيره. وقيل: الاستثناء متصل، أي: لا أسألكم عليه أجرا، إلا فعل من يريد أن يتقرب إليه
(١) فى العينية: حزما. انظر الديوان (ص ٧٨).
تعالى، ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة، حسبما أدعوكم إليهما. فَصوّر ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الإتيان به، واستثناه منه قطعاً لشائبة الطمع، وإظهاراً لغاية الشفقة عليهم، حيث جعل ذلك، مع كون نفعه عائداً إليهم، عائدا إليه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: العلماء بالله خلفاء الرسل، فما أظهرهم الله في كل زمان إلا ليذكروا الناس ويعظوهم، ويبشروهم ويُنذروهم، من غير عوض ولا طمع، فإن تعلقت همتهم بشيء من عرض الدنيا من أيدي الناس، كسَف ذلك نورهم، وانتقص نفعهم، وقَلَّ الاهتداء على أيديهم، وقد تقدّم هذا مراراً. وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه بالتوكل، ليغيب عن خيرهم وشرهم، وعن طلب الأجر منهم، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ في الاستكفاء عن شرورهم، والاغتناء عن أجورهم، أي: ثق به فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً، فإن الله كافيك. قرأها بعض الصالحين فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق. وَسَبِّحْ أي: ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه، بِحَمْدِهِ أي: بتوفيقه الذي يوجب الحمد، أو: قل سبحان الله وبحمده، أو: نزهه عن صفات النقصان، مثنياً عليه بنعوت الكمال، طالباً لمزيد الإنعام، وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً أي: كفى الله خبيراً بذنوب عباده، ما ظهر منها وما بطن، يعني: أنه خبير بأحوالهم، كافٍ في جزاء أعمالهم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في مدة مقدارها [ستة أيام] «١» إذْ لم يكن ليل ولا نهار. وعن مجاهد: أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، وإنما خلقها في هذه المدة، وهو قادر على خلقها في لحظة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، الرَّحْمنُ أي: هو الرحمن، أو:
فاعل استوى، أي: استوى الرحمن برحمانيته على العرش وما احتوى عليه. وراجع ما تقدم في الأعراف. «٢» فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
(١) زيادة ليست فى الأصول.
(٢) راجع: تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف (٢/ ٢٢٣- ٢٢٥).
111
أي: سل عنه رجلاً عارفاً خبيراً به، يُخبرك برحمانيته. وكانوا ينكرون اسم الرحمن، ويقولون: لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة، يعنون: مسليمة الكذاب، وكان يقال له: رحمن اليمامة، غُلُوًّا فيه، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن، فإنه مذكور في الكتب المتقدمة.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف: والظاهر: أن الخبير هو الله، أي: أسأل الله الخبير بالأشياء، الأعلم بخفاياها، والتقدير: فسل بسؤالك إياه خبيراً. وإنما استظهرنا هذا القول لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه. والمراد: فسل الله الخبير بالرحمن ووصفه. انظر تمام كلامه.
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي: إذا قال محمد للمشركين: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ صَلّوا له، أو: اخضعوا، قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أي: لا نعرف الرحمن فنسجد له، قالوا ذلك: إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي: للذي تأمرنا بالسجود له، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به. وهو منهم عناد لأن معناه في اللغة: ذو الرحمة التي لا غاية لها لأن فَعْلاَنَ يدل على المبالغة، وهم من أهل اللغة. وَزادَهُمْ نُفُوراً أي: زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعداً عن الإيمان ونفوراً عنه. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد تقدم الكلام على التوكل في مواضع. وللقشيري هنا كلام، وملخصه باختصار: أن التوكل:
تفويضُ الأمر إلى الله سبحانه، وأصله: عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله، ولا يقدر أحدٌ على إيجاد شيء أو دفعه، فإذا عَرَفَ العبدُ هذا، وعلم أن المراد الله لا يرتفع ولا يدفع، حصل له التوكل. وهذا القدر فرض، وهو من شرائط الإيمان، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «١»، وما زاد على هذا القَدْرِ من سكون القلب، وطمأنيته، وزوال الانزعاج والاضطراب، فهو من أحوال التوكل ومقاماته.
فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات، فأول رتبة فيه: أن يكتفي بما في يده، ولا يطلب الزيادة عليه، ويستريح قلبه من طلب الزيادة. وتسمى هذه الحالة: القناعة، فيقنع بالحاصل، ولا يستزيد ما ليس بحاصل- يعني: مع وجود الأسباب- ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب، وهو مقام التجريد، وهم متباينون في الرتبة: واحد يكتفي بوعده لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقةً منه بوعد ربه، وقد قيل: إن التوكل: سكون القلب بضمان الربِّ، ويقال: سكون الجأش في طلب المعاش، ويقال: الاكتفاء بوعده عند عدم نقده.
(١) من الآية ٢٣ من سورة المائدة.
112
وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله، فيشتغل بمولاه، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان، فيكِلُ أمره إلى الله، وهذه حالة التسليم. وفوق هذه: التفويض، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه، ولا يختار حالاً على حال، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه. فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ، فهي رتبة الرضا، ويحصل له في هذه الحالة، من فوائد الرضا ومطالعته، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود.
وبعد هذا: الموافقة وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ. فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا- ويعدُّون ذلك حجاباً- كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً. ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود، والاستهلاك، والوجود، والاصطلام، والفناء، - وهذا هو عين التوحيد الخاص- فعند ذلك لا أنس، ولا هيبة، ولا لذة، ولا راحة، ولا وحشة، ولا آفة. يعنى: تغيب المقامات بلذاتها وراحتها، عند تحقق الفناء، ثم قال: هذا بيان ترتيبهم، فأمّا ما دون ذلك فالإخبار عن أحوال المتوكلين، على تباين شرفهم، يختلف على حسب اختلاف حالهم. انتهى بالمعنى.
وقال أيضاً: ويقال: التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته: فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء، فالواجب، في الأسباب الدنيوية، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً، والحركةُ تكون ضرورةً، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ، والخروجُ عن أوطان الكسل، وترك الجنوح إلى الفشل. والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم، والقيام بحقِّ الواجبات، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله، فهو متمن معلول الحال، ممكورٌ مُسْتَدْرَج، بل يجب أن يبذل جهدَه، ويستفرغ وسعَه، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته، ولا يستند إلى سكونه وحركته، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه، ثم يُحسن الظنّ بربِّه. ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب فإن ذلك- إذا حَصَلَ- فالوقت غالبٌ، وهو أحد ما قيل في قولهم: الوقت سيف. هـ.
ثم ذكر من أوصاف الرحمن، الذي نفر المشركون عن الخضوع له، ما يبين عظمته وكبرياءه، ونفوذ قدرته المستوجبة للخضوع والانقياد له ردا على امتناع الكفرة منه، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)
113
يقول الحق جلّ جلاله: تَبارَكَ أي: تعاظم الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وهي البروج الاثنا عشر:
الحَمَل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت.
وهي منازل الكواكب السبعة السيارة، لكل كوكب بيتان، يقوي حاله فيهما، وللشمس بيت، وللقمر بيت، فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زُحل. وهذه البروج مقسومة على الطبائع الأربع ليصيب كل واحدة منها ثلاثة بروج، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية. سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها، لهذه الكواكب، كالمنازل الرفيعة لسكانها. واعتبر بزيادة البحر عند زيادة القمر ونقصه عند نقصه، فإن بيت القمر- وهو السرطان- مائي، وذلك من إمداد الأسماء لا بالطبع. وتذكر: «وبالاسم الذي وضعته على الليل فَأَظْلَمَ..» إلخ. قاله في الحاشية.
واشتقاق البروج من التبرج، الذي هو الظهور لظهورها، ولذلك قال الحسن وقتادة ومجاهد: البروج: النجوم الكبار لظُهورها.
وَجَعَلَ فِيها سِراجاً أي: الشمس، لقوله تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «١». وقرأ الأَخَوَان: «سُرُجاً».
ويراد: النجوم الكبار والشمس، وَقَمَراً مُنِيراً أي: مضيئاً بالليل.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي: ذو خلفة يخلف كل واحد منهما الآخر، بأن يقوم مقامه، فيما ينبغي أن يعمل فيه، فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر. قال قتادة: فأروا الله تعالى من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار، فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم، تقربان كل بعيد، وتبليان كل جديد، وتجيئان بكل موعود. وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: فاتتني الصلاةُ الليلةَ، فقال: أدرِكْ ما فاتك من ليلتك في نهارك، فَإنّ الله تعالى جَعَل الليل والنهار خلفة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ. هـ «٢». أي: يتذكر آلاء الله- عز وجل-، ويتفكر في بدائع صنعه، [فيعلم] «٣» أنه لا بد له من صانع حكيم. وقرأ حمزة وخلف: «يَذْكُرَ» أي: يذكر الله في قضاء ما فاته في أحدهما، أَوْ أَرادَ شُكُوراً أي: شكر نعمة ربه عليه فيهما، فيجتهد في عمارتها بالطاعة شكراً. وبالله التوفيق.
الإشارة: تبارك الذي جعل في سماء القلوب أو الأرواح بروجاً منازل ينزلها السائر، ثم يرحل عنها، وهي مقامات اليقين كالخوف، والرجاء، والورع، والزهد، والصبر، والشكر، والرضا، والتسليم، والمحبة، والمراقبة،
(١) الآية ١٦ من سورة نوح. [.....]
(٢) أخرج الطبري (١٩/ ٣٠) عن شقيق.
(٣) فى الأصول: [فيهم]. والمثبت: من تفسير البيضاوي وأبي السعود.
114
والمشاهدة، والمعاينة. وجعل فيها سراجاً، أي: شمس العرفان لأهل الإحسان، وقمراً منيراً، وهو توحيد البرهان لأهل الإيمان. وهو الذي جعل ليل القبض ونهار البسط خِلْفةً، يخلف أحدهما الآخر، لمن أراد أن يذكر في ليل القبض، ويشكر في نهار البسط. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أهل الذّكر والشكر، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٣ الى ٦٧]
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
قلت: و (عباد) : مبتدأ، و (الذين) وما بعده: خبر. وقيل: (أولئك يُجزون). و (هوناً) : حال، أو: صفة، أي:
يمشون هينين، أو: مشياً هونا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ أي: خواصه الذين يسجدون ويخضعون للرحمن، الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً أي: بسكينة وتواضع ووقار، قال الحسن: يمشون حُلَمَاء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر، في سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور المَرِح، الذي يختال في مشيه. وقال ابن الحنفية: أصحاب وقار وعفة، لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلَموا. و «الهَوْن» في اللغة: الرفق واللين. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْناً مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْماً مَا. وأبْغِض بَغِيضَكَ هونا ما، عسى أن يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْماً مَا» «١».
وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي: السفهاء بما يكرهون، قالُوا سَلاماً سداداً من القول، يَسلمون فيه من الإيذاء والإثم والخَنا. أو: سلمنا منكم سلاماً، أو: سلموا عليهم سلاماً، دليله قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ «٢»، ثم
(١) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة، باب ما جاء فى الاقتصاد فى الحب والبغض ٤/ ٣١٦، ح ١٩٩٧)، من حديث أبى هريرة، وأخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب الاقتصاد فى النفقة، ٥/ ٢٦٠، ح/ ٦٥٩٣) عن سيدنا علىّ، موقوفا.
(٢) من الآية ٥٥ من سورة القصص.
قالوا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ. قيل: نسختها آية القتال، وفيه نظر فإن الإغضاء عن السفهاء مستحسن شرعاً ومروءة، فلا ينسخ.
وكان الحسن إذا تلى الآيتين قال: هذا وصف نهارهم، ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً: هذا وصف ليلهم. قال ابن عباس: مَن صلى لله تعالى ركعتين، أو أكثر، بعد العشاء، فقد بات لله تعالى ساجدا وقائما. وقيل:
هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، والظاهر: أنه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً هلاكاً لازماً. ومنه: الغريم لملازمته غريمه، وصفهم بإحياء الليل ساجدين وقائمين، وعقّبه بذكر دعوتهم هُنا إيذاناً بأنهم، مع اجتهادهم، خائفين مبتهلين إلى الله في صرف العذاب عنهم إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً، أي: إن جهنم قَبُحَت مستقراً ومقاماً لهم. و «ساءت» : في حكم «بئست»، وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا. والمخصوص بالذم: محذوف، أي: ساءت مستقراً ومقاماً هي. وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم «إن».
وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا لم يجاوزوا الحد في النفقة. وعن ابن عباس: لم ينفقوا في المعاصي.
فالإسراف: مجاوزة حد الأمر، لا مجاوزة القدر. وسمع رجل جلا يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف فى الخير. وقال صلى الله عليه وسلم: «من منع حقاً فقد قتر، ومن أعطى في غير حق فقد أسرف». وَلَمْ يَقْتُرُوا، القتر والإقتار والتقتير: التضييق. وقرئ بالجميع «١»، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً أي: وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواماً عدلاً بينهما. فالقوام: العدل بين الشيئين. قال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يخلوا به، لقوله:
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ... «٢» الآية. وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية: أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة. ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع، ويقويهم على عبادة ربهم، ومن الثياب ما يستر عوراتهم، ويُكِنُّهم من الحرّ والبرد.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كفى بالمرء سَرَفاً إلا يشتهي شيئاً إلا اشتراه فأكله. ومثله في سنن ابن ماجه مرفوعاً «٣». قال القشيري: الإسراف: أن ينفق في الهوى ونصيب النفْس، ولو فلساً، وأما ما كان لله فليس فيه إسراف، ولو ألفاً. والإقتارُ: ما كان ادخاراً عن الله، فأمَّا التضييقُ على النَّفْس منعاً لها عن اتباع الشهوات، ولتتعود الاجتزاء باليسير، فليس بالإقتار المذموم. هـ.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧١]
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: لا يشركون بالله شيئاً، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ بقَوَدٍ، أو رَجْمٍ، أو شِرْكٍ، أو سعي في الأرض بالفساد، وَلا يَزْنُونَ أي: لا يفعلون من
(١) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: (يقتروا) بضم الياء وكسر التاء من أقتر. وقرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوب: بفتح الياء وكسر التاء، كيحمل، وقرأ الباقون بفتح الياء، وضم التاء، كيقتل... انظر الإتحاف (٢/ ٣١١).
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الإسراء.
(٣) أخرجه ابن ماجة فى (الأطعمة، باب من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت، ٢/ ١١١٢ ح ٣٣٥٢) من حديث أنس بن مالك، بلفظ: «إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت».
116
هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة شيئاً، حيث كانوا مع إشراكهم به- سبحانه- مداومين على قتل النفوس المحرمة، التي من جملتها الموؤدة، مُنْكَبِّينَ على الزنا، لا يرعوون عنه أصلاً، فنفَى هذه الكبائر عن عباده الصالحين تعريضاً بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيره، كأنه قيل: والذين طهرهم الله مما أنتم عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «قلت: يا رسول الله أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ؟ قال: أنْ تَجْعَلَ لله نداً وَهُوَ خَلَقَكَ، قلت: ثُمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تَقْتلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أنْ يُطْعَمَ مَعَكَ، قُلْتُ: ثمَّ أيُّ؟ قال: أنْ تُزَانِي بحَلِيلَة جَارِكَ». فنزلت الآية تصديقاً لذلك «١».
الإشارة: قد تضمنت الآية أربعة أصناف من الناس على سبيل التدلي الأول: الأولياء العارفون بالله، أهل التربية النبوية، ومَنْ تعلق بهم من أهل التهذيب والتأديب، وإليهم أشار بقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ... إلخ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت أقواماً من أمتي، ما خُلقوا بعد، وسيكونون فيما بعد اليوم، أُحبهم ويحبوننى، ويتناصحون ويتباذلون، يمشون بنور الله في الناس رويداً، في خفية وتقى، يَسلمون من الناس، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحملهم، قلوبهم بذلك إليه يَرْجِعُون، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون، يرحمون ضعيفهم، ويجلون كبيرهم، ويتواسَوْن بينهم، يعود غنيهُم على فقيرهم، وقويُهم على ضعيفهم، يعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، فقال رجل من القوم: يرفقون برقيقهم؟ فالتفت إليه النبي ﷺ فقال: كلا لا رقيق لهم، وهم خدام أنفسهم، هم أكرم على الله تعالى من أن يوسع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم. ثم تلى النبي صلى الله عليه وسلم:
وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً الآية. رواه أبو برزة الأسلمي، عنه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: العباد والزهاد، أهل الجد والاجتهاد، أهل الصيام والقيام، الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، أقامهم الحق تعالى لخدمته، كما أقام الأولين لمحبته ومعرفته. الثالث: الصالحون والأبرار، الذين يعبدون الله طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، ومن كان منهم له مال أنفقه في سبيل الله، من غير سرف ولا إقتار. الرابع: عامة الموحدّين من أهل اليمين، المجتنبون لكبائر الذنوب، المسارعون بالتوبة إلى علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم أشار إلى وبال من فعل شيئاً من ذلك ولم يتب، فقال:
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ...
(١) أخرجه البخاري فى (التفسير- سورة الفرقان، باب «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر» ح ٤٧٦١)، ومسلم فى (الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب، ١/ ٩٠ ح ١٤١).
117
قلت: (يُضاعفْ) و (يخلُدْ) : بدل من (يَلْقَ) بدل كل من كل، عند الأزهري لأن لُقِيّ الآثام هي مضاعفة العذاب، وبدل اشتمال، عند المرادي. ومن رفعهما: فعلى الاستئناف.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: ما ذكر، كما هو دأب الكفرة المذكورين، يَلْقَ في الآخرة أَثاماً وهو جزاء الآثام، كالوبال والنكال وزْناً ومعنى، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أضعافاً كثيرة، كما يضاعف للمومنين جزاء أعمالهم كذلك، وَيَخْلُدْ فِيهِ أي: في ذلك العذاب المضاعف، مُهاناً ذليلاً حقيراً، جامعاً للعذاب الجسماني والروحاني.
إِلَّا مَنْ تابَ من الشرك، وَآمَنَ بمحمد صلى الله عليه وسلم، وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً بعد توبته فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ أي: يوفقهم للمحاسن بعد القبائح، فيوفقهم للإيمان بعد الشرك، ولقتل الكافر بعد قتل المؤمن، وللعفة بعد الزنا، أو: يمحوها بالتوبة، ويثبت مكانها الحسنات. ولم يُرد أن السيئة بعينها تصير حسنة، ولكن يمحوها ويعوض منها حسنة. وعنه ﷺ أنه قال: «لَيَتَمَنَّيَنَّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» «١». وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للسيئات، رَحِيماً يُبَدِّلُها حسنات.
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أي: ومن تاب، وحقق التوبة بالعمل الصالح، فإنه بذلك تائب إلى الله متاباً مُرْضِياً مكفراً للخطايا. وسبب نزول الآية: أن ناساً من المشركين قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا النبي ﷺ فقالوا: إن الذي تدعو إليه لَحَسنٌ لو تخبرنا أنَّ لِمَا عَمِلْنَاهُ كَفَّارَةً. فنزلت: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ... إلى قوله: إِلَّا مَنْ تابَ.. إلخ «٢». والظاهر أن توبة قاتل النفس بغير حق مقبولة لعموم قوله: إِلَّا مَنْ تابَ، وهو قول الجمهور. وقيل: إن هذه منسوخة بآية النساء، وهو ضعيف. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من قنع من نفسه بمجرد الإسلام والإيمان، ولم تنهضه نفسه إلى التشوف لمقام الإحسان، لا بد أن يلحقه الندم وضرب من الهوان، ولو دخل فسيح الجنان لتخلفه عن أهل القرب والوصال، وفي ذلك يقول الشاعر:
مَنْ فَاتَه منكَ وصلٌ حَظُّه الندمُ ومَنْ تَكُنْ هَمِّه تَسْمُو به الهممُ
ثم ذكر نوعا من الأبرار، فقال:
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧٢ الى ٧٧]
وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦)
قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤/ ٢٥٢) عن أبى هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(٢) أخرجه بلفظه مسلم فى (الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبه، ١/ ١١٣ ح ١٩٣)، وبنحوه أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الفرقان) من حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
118
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا يقيمون شهادة الكذب، أو: لا يحضرون محاضر الكذب فإنَّ مشاهدة الباطل مشاركة فيه، أي: يبعدون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطَّائين، فلا يقربونها، تَنَزُّها عن مخالطة الشر وأهله. وفي مواعظ عيسى- عليه السلام-: إياكم ومجالسَ الخطَّائين. وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي: بالفحش وكل ما ينبغي أن يلغى ويُطرح، والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو المشتغلين به مَرُّوا كِراماً معرضين عنه، مكرمين أنفسهم عن التلوث به، كقوله: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ
«١»، وعن الباقر: إذا ذَكروا الفروج كفوا عنها، وقال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه وصفحوا.
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: قرئ عليهم القرآن، أو: وعظوا بالقرآن، لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً، بل أكبوا عليها سامعين بآذان واعية، مجلتين لها بعيون راعية. وإنما عبّر عنها بنفي الضد تعريضاً بما يفعله الكفرة والمنافقون.
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا، «من» : للبيان، كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بُينت القرة وفُسرت بقوله: مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا والمعنى: أن يجعلهم الله لهم قرة أعين بأن يروا منهم من الطاعة والإحسان ما تَقَرُّ بِهِ العين. أو: للابتداء، أي: هب لنا من جهتهم ما تَقَرُّ بِهِ العينُ، من طاعة أو صلاح. وَهب لنا أيضاً من ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بتوفيقهم للطاعة، ومبادرتهم للفضائل والكمالات، فإن المؤمن إذا ساعده أهله في طاعة الله تعالى وشاركوه فيها يسر قلبه، وتقر عينه بما شاهده من مقاربتهم له في الدين، ويكون ذلك سبباً في لحوقهم به في الجنة، حسبما وعد به قوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «٢».
وإنما قال: «أعين» بلفظ القلة، دون عيون لأن المراد أعين المتقين، وهي قليلة بالإضافة إلى أعين غيرهم.
والمعنى: أنهم سألوا ربهم أن يرزقهم أزواجاً وأعقاباً، عُمَّالاً لله، يسرون بمكانهم، وتقر بهم عيونهم، قيل: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: (هو الولد إذا رآه يكتب الفقه).
(١) من الآية ٥٥ من سورة القصص.
(٢) من الآية ٢١ من سورة الطور.
119
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: أئمة يقتدى بنا في الدين، فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس، أو: واجعل كل واحد منا إماماً أي: من أولادنا إماماً. والظاهر: أن صدور هذا الدعاء منهم كان بطريق الانفراد إذ يتعذر اجتماعهم في دعاء واحد. وإنما كانت عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماماً، غير أنه حكيت عبارة الكل بصيغة المتكلم مع الغير قصداً إلى الإيجاز، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ «١».
وأبقى إماماً على حاله من الانفراد. قيل: وفي الآية دليل على أن الرئاسة في الدين ينبغي أن تُطلب ويُرغب فيها، إذا كان القصد نفع عباد الله دون حظ نفساني.
أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ، جنس، أي: الغرفات، وهي العلالي في الجنة. ووحده بقصد الجنس. بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات، وترك الشهوات، وتحمل المجاهدات، وعلى إذاية أهل الإنكار، وارتكاب الذل والافتقار. وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي: تحييهم الملائكة، ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات. أو: يُحيي بعضُهم بعضاً، ويسلمون عليهم، خالِدِينَ فِيها لا يموتون ولا يخرجون، حَسُنَتْ أي: الغرفة مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً موضعَ قرارٍ وإقامة، وهى فى مقابلة: ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً.
قُلْ يا محمد: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي: ما يصنع بكم ربِّي، وأي فائدة في خلقكم، لولا دعاؤكم إلى الإسلام والتوحيد، أو: لولا عبادتكم له، أي: إنما خلقكم لعبادته كقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «٢» فإنما خلق الإنسان لمعرفته وطاعته، وإلا فهو وسائر البهائم سواء. قال المحشي: والظاهر: أنه خطاب لقريش القائلين: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي: لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم واستغاثتكم إياه في الشدائد. هـ.
وقيل: ما يعبأ: بمغفرة ذنوبكم، ولا هو عنده عظيم، لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء، كقوله: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ «٣»، قاله الضحاك. ثم قال: فظاهره: أن «ما» : استفهامية، ويحتمل كَوْنُهَا نَافِيَةً.
انظر بقية كلامه.
وفسّر البخاري الدعاء هنا بالإيمان «٤»، أي: ما يبالي بكم ربي لولا إيمانكم المتوقع من بعضكم، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما جاء به الرسول فتستحقون العقاب، فَسَوْفَ يَكُونُ العذاب الذي أنْتَجَهُ تكذيبكم لِزاماً لازماً لكم لا تنفكون عنه، حتى يكبكُم في النار. فالفاء في قوله: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ استئناف وتعليل لكونهم لا يُعبأ بهم، وإنما أضمر العذاب من غير تقدُّم ذكرٍ للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، وأنه مما لا تفي العبارة به.
(١) من الآية ٥١ من سورة المؤمنون.
(٢) من الآية ٥٦ من سورة الذاريات. [.....]
(٣) من الآية ١٤٧ من سورة النساء.
(٤) انظر فتح الباري (كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم ١/ ٦٤).
120
وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر، وأنه لُوزِمَ بين القتلى. وفي المشارق: اللزام: الفيصل، وقد كان يوم بدر. هـ.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: وَإِذا مَرُّوا بأهل اللغو، وهم المتكلمون في حس الأكوان، مروا كراماً مكرمين أنفسهم عن الالتفات إلى خوضهم. والذين إذا سمعوا الوعظ والتذكير أنصتوا بقلوبهم وأرواحهم، خلاف ما عليه العامة من التصامم والعمى عنه. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا.. إلخ، قال القشيري: قرة الروح: حياتها، وإنما تكون كذلك إذا كان بحق الله قائماً. ويقال: قرة العين من كان لطاعة الله معانقاً، ولمخالفة أمره مفارقاً. هـ. قلت: قرة العين تكون في الولد الروحاني، كما تكون في الولد البشري فإن الشيخ إذا رأى تلميذه مُجِدّاً صادقاً في الطلب، حصل له بذلك غاية السرور والطرب، كما هو معلوم عند أرباب الفن. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد ﷺ وآله وصحبه وسلّم تسليماً.
121
Icon