تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الفرقان مكية
وهي سبع وسبعون آية وست ركوعات
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ تَبَارَكَ ﴾ تكاثر خيره، أو تزايد عن كل شيء وتعاظم، أو ثبت ودام،
﴿ الَّذِي نَزَّلَ ﴾، منجما لا جملة واحدة،
﴿ الْفُرْقَانَ ﴾، سمي القرآن به لأنه فارق بين الحق والباطل،
﴿ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ ﴾، العبد أو الفرقان،
﴿ لِلْعَالَمِينَ ﴾، : الإنس والجن،
﴿ نَذِيرًا ﴾، : منذرا مخوفا، أو بمعنى الإنذار كالنكير،
﴿ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، بدل من الذي أو رفع أو نصب على المدح، ﴿ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾، : في ملكه وسلطانه، ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾، أي : أحدث كل شيء له، الكون مراعى فيه التسوية، فهيأه لما أراد منه كما سوى الإنسان من مواد وصور مخصوصة، ثم هيأه للإدراك، ومزاولة الأعمال الغريبة، أو فقدره للبقاء إلى أمد معلوم،
﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا ﴾ : عاجزين، ﴿ وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ : فإن عبدتهم ينحتونهم، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا ﴾ أي : دفعه، ﴿ وَلَا نَفْعًا ﴾ أي : جلبه، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا ﴾، إماتة أحد ﴿ وَلَا حَيَاةً ﴾ : إحياءه ﴿ وَلَا نُشُورًا ﴾ : بعثه ثانيا فكيف يستحقون الألوهية، وهم متصفون بصفات تنافيها،
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا ﴾ : ما القرآن، ﴿ إِلَّا إِفْكٌ ﴾ كذب ﴿ افْتَرَاهُ ﴾، يعنون رسول الله ﴿ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ﴾، : اليهود ﴿ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا ﴾ : يجعل كلام الله إفكا، ﴿ وَزُورًا ﴾، بنسبة رسوله إلى ما هو برئ منه، وجاءوا بمعنى فعلوا أو نصب ظلما بحذف الجار،
﴿ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ : ما سطره المتقدمون ﴿ اكْتَتَبَهَا ﴾ استكتبها ﴿ فَهِيَ ﴾، الأساطير، ﴿ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾، ليحفظها فإنه أمي لا يقدر أن يقرأ من الكتاب،
﴿ قُلْ أَنزَلَهُالَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، ولذلك ترى القرآن مملوءا من المغيبات، ﴿ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾، ولولا رحمته لاستأصلهم، وما أمهلهم،
﴿ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ ﴾، أي : من يدعي الرسالة، ﴿ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ ﴾ : لا مَلَك ولا مَلِك، ﴿ لَوْلَا ﴾ هلا، ﴿ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ ﴾ : الملك، ﴿ مَعَهُ نَذِيرًا ﴾ : منذرا هو خبر كان، ومعه حال أو بالعكس، أو مع متعلق بنذيرا، أي : يشاركه في النبوة،
﴿ أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ﴾ : حاصله إن لم يكن مَلَكا، ولا مَلِكا، فلا أقل من أن يكون معه ملك أو يكون صاحب كنز وثروة، وأقلها أن يكون رجلا له بستان كما للدهاقين، ﴿ وَقَالَ الظَّالِمُونَ ﴾ أي : قالوا لظلمهم ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا ﴾ : سحر فغلب على عقله،
﴿ انظُرْ ﴾ يا محمد، ﴿ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ﴾ : من مسحور، ومحتاج، وغير ذلك، ﴿ فَضَلُّوا ﴾ : عن الحق، ﴿ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ : إليه.
﴿ تَبَارَكَ ﴾، تكاثر خير، ﴿ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا ﴾ أي : إن أراد وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوه، وهو أن يعجل لك مثل ما وعدك من الجنات، والقصور، ونصب جنات على البدلية من خير، أو الجزم والرفع في يجعل لأن الشرط إذا كان ماضيا ففي جزائه الجزم والرفع،
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ ﴾ وهو أعجب وأغرب من تكذيبهم إياك، أو لهذا كذبوك يعني : تكذيب القيامة حملهم على هذه الأقوال، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ﴾ : نارا شديدة الاشتعال،
﴿ إِذَا رَأَتْهُم ﴾ أي : السعير، ﴿ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ : أقصى ما يمكن أن يرى منه، ﴿ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ﴾ : صوت تغيظ وتغضب، والزفير صوت يسمع من جوف المغتاظ في حين شدته وعدم تجويز الرؤية على النار من قلة البصارة، وقد ورد ( من يقل على ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا، قيل : وهل لها عينان ؟ ! قال : أما سمعتم الله يقول :﴿ إذا رأتهم من مكان بعيد ﴾ الآية،
﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ﴾ : منها بيان تقدم فصار حالا، ﴿ ضَيِّقًا ﴾ : لمزيد العذاب، وفي الحديث ( والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط )، ﴿ مُقَرَّنِينَ ﴾ : قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل، ﴿ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ﴾ : هلاكا يقولون : يا ثبوراه تعال فهذا حينك،
﴿ لَا تَدْعُوا ﴾ أي : يقال لهم لا تدعوا، ﴿ الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ﴾، فإن الخطب أعظم مما حسبتموه،
﴿ قُلْ أَذَلِكَ ﴾ : ما وصفنا من أنواع العذاب، ﴿ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ ﴾، أي : وعدها، ﴿ الْمُتَّقُونَ ﴾، ﴿ وفي ذلك تقريع مع تهكم، { كَانَتْ ﴾ : الجنة في علم الله، ﴿ لَهُمْ ﴾، أو لأن ما وعد الله كالواقع، ﴿ جَزَاء ﴾، : على أعمالهم بالوعد، ﴿ وَمَصِيرًا ﴾، : مرجعا ينقلبون إليه أما غير المتقين من المؤمنين كالتبع لهم أو المراد من المتقين من يتقي الكفر، والتكذيب، ولهم إما حال أو متعلق بجزاء،
﴿ لَهُمْ فِيهَا مَا يشاءون خَالِدِينَ كَانَ ﴾ : ما يشاءونه، ﴿ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا ﴾ : موعودا، ﴿ مسئولا ﴾ : عن بعض السلف يقول المؤمنون، يا رب عملنا بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا، وذلك قوله وعدا مسئولا، وعن بعض الملائكة تسأل لهم ذلك قال تعالى :﴿ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ﴾ [ غافر : ٨ ]،
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ : المراد ذوو العقول كالملائكة، وعيسى واستعمال ما لأنه في الأصل أعم، أو لأنه أريد بالوصف، أي : معبوديهم أو لإجرائهم مجرى غير ذوى العقول، تحقيرا لشأنهم لقصورهم عن معنى الربوبية أو المراد أعم، وينطق الله الأصنام، ﴿ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ﴾ : من غير دعوة منكم، وحذف الجار للمبالغة، أي : عن السبيل، وهذا السؤال لتقريع العبدة وتبكيتهم،
﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ ﴾ : تعجب منهم مما قيل لهم، أو سبحانك من أن يكون لك ند، ﴿ مَا كَانَ يَنبَغِي ﴾ : ما يصح ويستقيم، ﴿ لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء ﴾ أي : نحن لا نعبد إلا أنت، فيكف ندعو أحدا أن يتولى غيرك ؟ قيل : أرادوا من ضمير المتكلم جميع الخلائق، ﴿ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ ﴾ : في الدنيا بالنعم، ﴿ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ﴾ أي : نسوا ما أنزلته إليهم أو غفلوا عن ذكرك، ﴿ وَكَانُوا ﴾ : في علمك، ﴿ قَوْمًا بُورًا ﴾، : هالكين أشقياء راعوا الأدب، وما قالوا : أنت أضللتهم صريحا، لأن المقام غير مقام البسط( * ) كما قال موسى في مقام الانبساط :﴿ إن هي إلا فتنتك ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ]،
﴿ فَقَدْ كَذَّبُوكُم ﴾ التفات، أي : قال الله لهم فقد كذبكم المعبودون، ﴿ بِمَا تَقُولُونَ ﴾ : في قولكم، إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، فالباء بمعنى في أو بما تقولون بدل اشتمال من مفعول كذبوا ككذبوا بالحق، وفي قراءة ( يقولون ) بالياء فمعناه كذبوكم بقولهم :﴿ سبحانك ما كان ينبغي ﴾ إلخ، ﴿ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا ﴾ : للعذاب عنكم، ﴿ وَلَا نَصْرًا ﴾ وقراءة التاء فمعناه، فما تستطيعون أيها العابدون صرف العذاب عن أنفسكم ولا نصر أنفسكم، ﴿ وَمَن يَظْلِم ﴾، يشرك، ﴿ مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ﴾
﴿ وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا ﴾ : رسلا، ﴿ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾، ما بعد إلا صفة أقيمت مقام موصوفها، وهذا جواب قولهم :﴿ ما لهذا الرسول ﴾ الآية، ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ ﴾ : أيها الناس، ﴿ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ : ابتلاء، وامتحانا كابتلاء المرسلين بالمرسل إليهم، والفقراء بالأغنياء، ﴿ أَتَصْبِرُونَ ﴾، علة للجعل أي : لنعلم أيكم يصبر كقوله تعالى :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ هود : ٧، الملك : ٢ ]، وقيل : حث على الصبر على ما افتتنوا به ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ﴾، عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقن صدرك، أو بمن يصبر.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾، لا يخافون البعث، أو لا يأملون لقاءنا بالخير، ﴿ لَوْلَا ﴾، : هلا، ﴿ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ﴾، : فتختبرنا بصدق محمد، ﴿ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ﴾، فيختبرنا بذلك، ﴿ لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ ﴾ : حتى تمنوا ما لم يحصل للرسل، اللام توطئة القسم، ﴿ وَعَتَوْا ﴾، : تجاوزوا الحد في الظلم، ﴿ عُتُوًّا كَبِيرًا ﴾
﴿ يَوْمَ ﴾، أي : اذكر يوم، ﴿ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ ﴾، عند الموت، أو في القيامة، ﴿ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾، أي : لهم، لأنهم مجرمون لتحلي الملائكة للمؤمنين فتبشرهم حين الموت وفي القيامة بالرحمة والرضوان، وللكافرين فتبشرهم بالخيبة والخسران، ﴿ وَيَقُولُونَ ﴾ أي : الملائكة لهم ﴿ حِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ : حراما محرما عليكم الجنة والرحمة، أو البشرى، فالجملة حال من الملائكة، أي : وهم يقولون، أو يقول المجرمون عند لقاء الملائكة هذه الكلمة، وهي من المصادر المتروك فعلها، ومن الكلمات التي تتكلم بها العرب عند لقاء العدو، وهجوم النازلة في موضع الاستعاذة يعني أنهم يطلبون نزول الملائكة، وهم إذا رأوهم كرهوا واستعاذوا، وقوله : محجورا كموت مائت للتأكيد.
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ﴾، أي : قصدنا وعمدنا إلى أعمال الكفار من المكارم كقرى ضيف، وإغاثة ملهوف، ﴿ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾ : أحبطناه، لأنها لم تكن خالصا موافقا للشريعة، والهباء غبار يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة شبه عملهم بالغبار في الحقارة وعدم النفع، ثم بالمنثور منه في انتشاره وتفرقه، ومنثورا إما صفة هباء أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر،
﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا ﴾ : موضع قرار، ﴿ وَأَحْسَنُمَقِيلًا ﴾ : مكان استراحة، وعن بعض السلف يفرغ الله من الحساب نصف النهار، فيقيل أهل الجنة في مناظر حسان، وروح وريحان. .
﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ﴾، أي : تتشقق، ﴿ السَّمَاء بِالْغَمَامِ ﴾، أي : بسبب طلوع الغمام، وقيل بالباء بمعنى عن، ﴿ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ ﴾، : في ذلك الغمام، ﴿ تَنزِيلًا ﴾، يعني : تتفتح السماء بغمام يخرج منها، وفي الغمام ملائكة ينزلون، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر.
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾، الحق خبر وللرحمن متعلق به، أي : الملك ثابت له لا يبقى لغيره، أو صفة للملك، وللرحمن خبره، ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾، شديدا ومع طوله وشدته يخفف على بعض من المؤمنين، حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا،
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ﴾، عض اليدين والأنامل وأمثاله كنايات عن كمال الحسرة والغيظ، وهذا عام، وإن كان مورده في عقبة بن أبي معيط لما ارتد لأجل خاطر أبي بن خلف، ﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا ﴾ : إلى الهدى، والنجاة،
﴿ يَا وَيْلَتَى ﴾، تعال فهذا أوانك، ﴿ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا ﴾، أي : من أضله، والفلان كناية عن الأعلام، ﴿ خَلِيلًا ﴾.
﴿ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ﴾ : عن القرآن أو عن ذكر الله، ﴿ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ ﴾، كل من صدك عن الحق فهو شيطانك، ﴿ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا ﴾، تاركه لا نافعه عند البلاء، وقوله :﴿ كان الشيطان ﴾، إما من تتمة كلام الكافر، وإما من كلام الله سبحانه من غير حكاية،
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ ﴾ : محمد عليه السلام يومئذ، أو في الدنيا، ﴿ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي ﴾ : قريشا، ﴿ اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ : متروكا، أعرضوا عنه ولم يؤمنوا بهز أو بمنزلة الهجر والهذيان، فالمهجور بمعنى الهجر كالمجلود، وفيه تخويف لقومه، وتسلية لرسول الله بقوله :
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا ﴾ : يحتمل الواحد والجمع، ﴿ منَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ : الذين يهجرون شرائعهم، فاصبر كما صبروا، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ﴾ : إلى اتباعك وإن كان قومك يصدون الناس عنك، ﴿ وَنَصِيرًا ﴾ لك عليهم فلا تبال بمن يعاديك.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا ﴾، هلا، ﴿ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ كالتوراة والإنجيل، و " نزّل " بمعنى " أنزل " كخبّر وإلا يكون متدافعا، وهذا من مماراتهم التي لا طائل تحتها، ﴿ كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾، : هذا من الله تعالى جواب لهم، أي أنزلناه كذلك مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك لتعيه، وتحفظه شيئا بعد شيء، ولا يعسر عليك حفظه، لأنك أمي بخلاف سائر الأنبياء، فإنهم ممكنون من القراءة والكتابة، ولأنه كما أنزل عليك وحي من ربك يزداد لك قوة إلى قوة، وللأعداء كسرا على كسر، ﴿ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ : وبيناه تبينا على مهل بحسب الوقائع، عطف على فعل مقدر ناصب ل " كذلك ".
﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ﴾ : بشيء عجيب في القدح في القرآن وفيك، ﴿ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ : الذي يرد ما جاءوا به من المثل، ﴿ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ : بيانا وكشفا في جواب اعتراضهم، وهذا أيضا من علل جهة إنزاله مفرقا.
﴿ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ : مرفوع بالذم أو بدل من ضمير يأتونك، أو مبتدأ خبره أولئك وعلى أي وجه ففيه بيان أنهم يضربون لك الأمثال، ويحقرونك، ولا يدرون أنهم على تلك الفضيحة، وفي الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ فقال :( إن من أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة )،
﴿ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا ﴾ : منزلا أو منزلة، ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾، نسب الضلال إلى السبيل، وهو لهم فيها للمبالغة مجازا.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾، : الألواح أو معنى آتينا أردنا إيتاءه، أو المراد من الكتاب ما يستلزمه وهو الرسالة، لأن التوراة ما كان إلا بعد هلاك فرعون كما مر في سورة الأعراف لما سلى رسوله بقوله :" كذلك جعلنا لكل نبي عدوا " شرع يبين أعداءهم مجملا ومفصلا، ﴿ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا ﴾، : معينا يعاونه في أمر النبوة،
﴿ فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾، فإن قوم فرعون لما أشركوا بالله كذبوا بما جاء به الأنبياء من قبلهم، ﴿ فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا ﴾، : أي : فذهبا فكذبوهما فاستأصلناهم، اختصر القصة فذكر مجملها، لأن المقصود إلزام الحجة ببعثة الرسل أو استحقاق الهلاكة بالتكذيب.
﴿ وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ ﴾، : نوحا ومن قبله أو لأن من كذب رسولا فقد كذب الرسل، لأن بعضهم يصدق بعضا، ﴿ أَغْرَقْنَاهُمْ ﴾، : بالطوفان، ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ ﴾، إغراقهم أو قصتهم، ﴿ لِلنَّاسِ آيَةً ﴾، عبرة، ﴿ وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ ﴾ : سوى عذاب الدنيا، ﴿ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾
﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ ﴾ : عطف على قوم نوح، وناصبه محذوف، أي : لما فعلوا مثل ما فعل المذكورون عذبناهم كما فعلنا بهم، أو عطف على هم في جعلناهم على أن يكون وجعلناهم عطفا على مجموع الشرط والجزاء، ﴿ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ ﴾، اختلف فيهم فمن قائل عباد الأصنام كانوا حول بئر فخسف بهم، والرس البئر الغير المطوية، أو قوم دفنوا ودسوا نبيهم في بئر أو أصحاب يسن، أو أصحاب الأخدود، أو قرى من اليمامة، ﴿ وَقُرُونًا ﴾، أهل أعصار، ﴿ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ : الذين ذكرناهم، ﴿ كَثِيرًا ﴾
﴿ وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ﴾، : في إقامة الحجة عليهم وأنذرناهم من وقائع أسلافهم فلم يعتبروا، نصب كلا بما دل عليه ضربنا إلخ مثل أنذرنا، ﴿ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا ﴾، أي : كسرناهم وفتتناهم،
﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ﴾، أي : مر قريش في طريق الشام بقرى قوم لوط التي أمطرت عليها الحجارة، ﴿ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ﴾، فيتعظوا بما يرون من آثار العذاب مع أنهم مروا عليها مرارا، ﴿ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا ﴾ : لا يخافونه أو لا يأملونه فلهذا لم يعتبروا،
﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ﴾ : مهزوءا به أو موضع هزء، ﴿ أَهَذَا الَّذِي ﴾، أي : يقولون أهذا الذي، والإشارة للاستحقار، ﴿ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾، : قالوه تهكما،
﴿ إِن كَادَ ﴾، مخففة من المثقلة، ﴿ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ : شارفنا أن نترك ديننا لفرط اجتهاده في تقوية دينه وإبطال دين غيره، ويصرفنا عن عبادتها، ﴿ لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ : استمسكنا بعبادتها وثبتنا عليها، وجوابه ما دل عليه قبله، ﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ : جواب عن قولهم إن كاد ليضلنا : لأنهم نسبوه إلى الضلال، وفيه وعيد بأنه لا يهملهم وإن أمهلهم،
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُهَوَاهُ ﴾، الاستفهام للتعجيب، فإن دينهم ما تهوى أنفسهم، وهم كانوا يعبدون حجرا وإذا رأوا حجرا أحسن منه ترك الأول، ﴿ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ : حفيظا فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أو ما أنت عليهم بوكيل فتمنعهم عن اتباع الهوى فالآية منسوخة،
﴿ أَمْ تَحْسَبُ ﴾، : بل أتحسب، ﴿ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾، فيسمعوا أو يعقلوا الحق خص الأكثر ؛ لأن فيهم من عقل وآمن، أو ما آمن استكبارا، ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾، فإنها تنقاد لمن يتعهدها وتعرف المحسن إليه ممن يسيء، وتجتنب المضار وما لها إضلال، وإن كان لها ضلال.
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾، : تنظر، ﴿ إِلَى رَبِّكَ ﴾، : إلى صنعه، ﴿ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس جعله ممدودا ؛ لأنه ظل لا شمس معه، قال تعالى :﴿ وظل ممدود ﴾ [ الواقعة : ٣٠ ] ؛ ﴿ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾، : ثابتا دائما لا يزيله الشمس، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ﴾، فإنه لو لم تكن لما عرف الظل، فإن الأشياء تعرف بأضدادها، أو جعلنا مستتبعة عليه تتلوه، وتتبعه كما يستتبع الدليل المدلول وثم لبيان أن هذا أعظم من الأول،
﴿ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا ﴾، أنزلنا الظل قبضا على مهل أو سهلا أو سريعا بأن أوقعنا موقعه الشمس، وفيه من المنافع ما لا تحصى والقبض في مقابلة المد، وثم هنا أيضا لبيان أن الثالث أعظم من الأولين،
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَلِبَاسًا ﴾، : شبه الظلام في ستره باللباس، ﴿ وَالنَّوْمَ سُبَاتًا ﴾، راحة، ﴿ وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا ﴾، بعثنا من أخ الموت، أو ذا نشور ينتشر فيه الخلق لمعايشهم وأسبابهم،
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا ﴾ : مبشرات وقرئ نشرا، أي : ناشرات للحساب، ﴿ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ﴾ : قدام المطر، قد مر تفصيل معناه، وقراءته في سورة الأعراف، ﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ﴾، هو اسم لما يتطهر به كالسحور، عن بعض أن المطر منه ما ينزل من السماء، وكل قطرة منه في البر بر وفي البحر در يعني : لا يمكن أن لا يكون له فوائد، ومنه ما يسقيه الغيم من البحر، فيعذبه الرعد والبرق،
﴿ لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا ﴾، وصفها بمذكر لمعنى الموضع والبلد، ﴿ وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ ﴾، : جمع إنسي أو إنسان، ﴿ كَثِيرًا ﴾ : فإن بعضهم أهل مدن لا يحتاجون غاية الاحتياج إلى المطر، وخص الأنعام من الحيوانات لأنه في معرض تعداد النعم، والأنعام ذخيرة الإنسان متعلقة بهم،
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾، المطر، ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾، مرة ببلد، ومرة بأخرى، وعن ابن مسعود مرفوعا أن ليس من سنة بأمطر من أخرى، ولكن الله قسم هذه الأرزاق، فإذا عمل قوم بالمعاصي حول الله إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا فإلى البحار والفيافي( * )، ﴿ لِيَذَّكَّرُوا ﴾، ليعتبروا بالصرف عنهم وإليهم، ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴾ : كفران النعمة أو جحودا فإنهم قالوا مطرنا بنوء وكذا،
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا ﴾ : نبينا ينذرهم ليسهل عليك أعباء النبوة، ولكن ما فعلنا تعظيما لأجرك،
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ ﴾ : فيما يريدونك عليه، وهذا يهيج له ولأمته، ﴿ وَجَاهِدْهُم بِهِ ﴾ بالقرآن، ﴿ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ : لا يخالطه فتور بأن تلزمهم بالحجج والآيات أو بما يأمرك القرآن وما عملت منه،
﴿ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ : أرسلهما في مجاريهما وخلاهما، ﴿ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ﴾ : بليغ عذوبته، ﴿ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ﴾ : هو نقيض الفرات، ﴿ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا ﴾ : حاجزا حتى لا يخلط أحدهما بالآخر، ﴿ وَحِجْرًا مَّحْجُورًا ﴾ : وهو كلمة يقولها المتعوذ كما مر في هذه السورة، كأن كلا منهما يقول لصاحبه ما يقوله المتعوذ عنه وهو كدجلة تدخل المالح فتشقه، فتجري في خلاله فراسخ ولا تختلط، وقد ذكر أن في سواحل بحر الهند مثل الدجلة، وأغرب فالحاجز محض القدرة فقط، أو المراد بالعذب الأنهار، والعيون والآبار، وبالملح البحار المعروفة، وبالبرزخ الأرض الحائل بينهما،
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء ﴾ : النطفة، ﴿ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا ﴾ : ذوي نسب، أي : ذكورا ينسب إليهم، فيقال : فلان ابن فلان، وفلانة بنت فلان، ﴿ وَصِهْرًا ﴾ : ذوات صهر أناثا يصاهر بهن، أو النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل، وقيل في ابتداء أمره ولدا نسبيا ثم يتزوج، فيصير صهرا، ﴿ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا ﴾ : على ما يشاء،
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ﴾ : ما له كل العجز، ويتركون القادر المختار، ﴿ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا ﴾ : يظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقيل من ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك غير ملتفت إليه، أي : هينا مهينا لا وقع له عند الله،
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾، على ما أرسلت به من البشارة، والإنذار، ﴿ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ أي : لكن ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاق ماله في سبيله فليفعل، أو لا أطلب أجرا إلا فعل من شاء التقرب إليه كأن فعله الطاعات جعله من جنس أجره إظهارا لغاية الشفقة، ودفعا لشبهة الطمع كما تقول : ما أطلب في تعليمك منك أجرا إلا عزتك،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ ﴾، على ما أرسلت به من البشارة، والإنذار، ﴿ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ أي : لكن ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بإنفاق ماله في سبيله فليفعل، أو لا أطلب أجرا إلا فعل من شاء التقرب إليه كأن فعله الطاعات جعله من جنس أجره إظهارا لغاية الشفقة، ودفعا لشبهة الطمع كما تقول : ما أطلب في تعليمك منك أجرا إلا عزتك،
﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ : في الاستغناء عن أجورهم واستكفاء شرورهم فإنه باق حقيق بالتوكل عليه، ﴿ وَسَبِّحْ ﴾ : نزهه عن كل نقص، ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾، ملتبسا مثنيا بنعوت كماله، ﴿ وَكَفَى بِهِ ﴾ : كفى الله، ﴿ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ : مطلعا فلا عليك إن آمنوا أو كفروا،
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، قد مر في سورة الأعراف تفصيل معناه، ﴿ الرَّحْمَنُ ﴾، خبر الذي أو خبر محذوف، ويكون الذي صفة للحي، ﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾ أي : سل ما ذكر من الخلق والاستواء عالما يخبرك ومن أعلم من الله ؟ أو المراد سل جبريل، وقيل : أهل الكتاب ليصدقك فيه، والسؤال يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء، أو به متعلق بخبير،
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ﴾، فإنهم ما يطلقون هذا الاسم على الله، ﴿ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا ﴾ : للذي تأمرنا بسجوده، أو لأمرك لنا، وما نعرفه وقرئ يأمرنا بالياء، فيكون هذا كلام بعضهم لبعض، ﴿ وَزَادَهُمْ ﴾، الأمر بالسجود، ﴿ نُفُورًا ﴾ : عن الإيمان.
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا ﴾، : قصورا عالية هي الكواكب السبعة السيارة كالمنازل لسكانها أو البروج الكواكب العظام، ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا ﴾ : الشمس ومن قرأ سرجا فمراده الكواكب الكبار، ﴿ وَقَمَرًا مُّنِيرًا ﴾ : مضيئا بالليل،
﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً ﴾ أي : ذوى خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويخلف كل واحد منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر والفعلة بالكسر كالجلسة للحالة، وبالفتحة للمرة، ﴿ لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ ﴾ : لينظر في اختلافهما فيعلم أن له صانعا قادرا حكيما، ﴿ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ : أن يشكر الله أو ليكونا وقتين للمتذكرين، والشاكرين من فاته ورده في أحدهما قام به في الآخر،
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾، هينين أو مشيا هينا بسكينة ووقار من غير جبرية، واستكبار لا مشي المرضى، فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون، أو أولئك يجزون الغرفة، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾، أي : إذا خاطبوهم بما يكرهون قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليما منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى :﴿ وإذا سمعوا اللغو ﴾ الآية [ القصص : ٥٥ ]، وعن الحسن البصري قالوا : السلام، وفي الحديث ما يؤيده،
﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾، تخصيص البيتوتة، لأن الصلاة بالليل أفضل،
﴿ وَالَّذِينَيَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ﴾، هلاكا ملحالازما،
﴿ إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾، مستقرا مفسر لضمير مبهم في ساءت، والمخصوص بالذم المقدر هو سبب الربط بين اسم إن وخبرها، أي : بئست مستقرا هي، قيل : التعليلان من كلام الله أو حكاية لكلامهم،
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ : ليسوا مبذرين، ولا بخلاء، بل يكون إنفاقهم عدلا وسطا، وقواما إما خبر ثان أو حال مؤكدة، وقد فسر بعض المفسرين الإسراف بالنفقة في معصية الله وإن قلّت، والإقتار بمنع حق الله، وليت شعري كيف يصح مع قوله، وكان إنفاقهم بين الإسراف، والتقتير قواما فتأمل،
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ﴾، قتلها، ﴿ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾، : متعلق بلا يقتلون، أو بالقتال المقدر، ﴿ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾، جزاء إثمه، أو الآثام واد، أو بئر في جهنم،
﴿ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾، يدل من يلق أثاما، ﴿ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾، وتضعيف العذاب والخلود فيه لانضمام الكبيرة إلى الكفر،
﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾، أي : تنقلب بنفس التوبة النصوح فإنه كلما تذكر ما مضى تحسر وندم واستغفر، فيقلب الله ذنبه طاعة، فالعبد يتمنى أن تكون سيئاته أكثر من ذلك، والأحاديث الصحاح تدل على هذا المعنى، أو أنه يمحوها ويثبت مكانها الإيمان، وما عمل من الطاعة في إسلامه، ﴿ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾، فلذلك يعفو عن السيئات، ويبدلها،
﴿ وَمَن تَابَ ﴾، عن المعاصي، ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ ﴾، يرجع إليه بذلك، ﴿ مَتَابًا ﴾ : مرضيا عنده، أو يرجع إلى ثوابه مرجعا حسنا،
﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ﴾ : لا يحضرون محاضر الباطل، أو لا يقيمون الشهادة الباطلة، ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ ﴾ : المعاصي كلها لغو، ﴿ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ : مكرمين أنفسهم عما يشينهم مسرعين معرضين يعني لم يحضروا مجالسه، وإذا اتفق مرورهم به لم يتدنسوا بشيء،
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ : وعظوا بالقرآن، ﴿ لَمْ يَخِرُّوا ﴾، : لم يسقطوا ولم يقيموا، ﴿ عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا ﴾، يعني لم يقيموا عليها غير واعين ولا غير متبصرين بما فيها، بل سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالنفي متوجه إلى القيد،
﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ : يسألون أن تكون أزواجهم وأولادهم مطيعين لله أبرارا تقر بهم عيونهم ويسرون برؤيتهم، ومن بيانية كرأيت منك أسدا أو ابتدائية، ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ : أئمة يقتدي بنا في الخبر، ولنا نفع متعد إلى غيرنا، وحّد إماما لأن المراد كل واحد، أو لأن مجموع لاتحاد طريقتهم كنفس واحدة، أو لدلالته على الجنس، ولا لبس قيل : جمع أم أي : اجعلنا قاصدين تابعين للمتقين،
﴿ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ ﴾ : الدرجة الرفيعة في الجنة، وهي اسم جنس أريد به الجمع، ﴿ بِمَا صَبَرُوا ﴾ : على طاعة الله وبلائه وعن محارمه، ﴿ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ : تحييهم الملائكة، وتسلم عليهم، وبعضهم بعضا لقاهم كذا أي : استقبالهم به،
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾، مقابل ساءت مستقرا ومقاما في المعنى والإعراب،
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ ﴾ : ما يصنع بكم، ﴿ رَبِّي ﴾ : لا وزن ولا مقدار لكم عنده، ﴿ لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾ إيمانكم وعبادتكم، أو ما يعبأ بخلقكم لولا عبادتكم يعني أن خلقكم لعبادته، أو ما يبالي مغفرتكم لولا دعاءكم معه آلهة أخرى، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم، وما إن كانت استفهامية نصبت على المصدر، أي : أي : عبأ يعبأ بكم، ﴿ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ ﴾ : بما أخبرتكم به، حيث خالفتموه، ﴿ فَسَوْفَ يَكُونُ ﴾ : التكذيب أي : جزاؤه، ﴿ لِزَامًا ﴾ : لازما لا ينفك عنكم.
اللهم اجعلنا ممن أحسنت مستقرهم ومقامهم.